خان الخليلي
خان الخليلي
خان الخليلي
خان الخليلي
تأليف
نجيب محفوظ
خان الخليلي
1
انتصفت الساعة الثانية من مساء يوم من سبتمبر سنة 1941 موعد انصراف الدواوين، حين تنطلق جماعات الموظفين من أبواب الوزارات كالفيضان العارم، وقد نهكها الجوع والملل ثم تنتشر في الأرض تطاردها أشعة الشمس الموقدة. انطلق أحمد عاكف - الموظف بالأشغال - مع المنطلقين، وكان من عادته أن يتخذ سبيله في مثل تلك الساعة كل يوم إلى السكاكيني، أما اليوم فوجهته تتغير فتصير الأزهر لأول مرة، حدث هذا التغير بعد إقامة في السكاكيني طويلة، امتدت أعواما مديدة، واستغرقت عقودا من العمر كاملة، وادخرت ما شاءت من ذكريات الصبا والشباب والكهولة، وأعجب شيء أنه لم يفصل بين التفكير في الانتقال وحدوثه إلا أيام معدودات؛ كانوا مطمئنين إلى مسكنهم القديم، يخال إليهم أنهم لن يفارقوه مد العمر، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى صرخت الحناجر: «تبا لهذا الحي المخيف» وغلب الخوف والجزع، ولم تعد ثمة فائدة ترجى من مراجعة الأنفس المذعورة، وإذا بالبيت القديم يضحى ذكرى الأمس الدابر، وإذا بالبيت الجديد في خان الخليلي حقيقة اليوم والغد، فحق لأحمد عاكف أن يقول متعجبا: «سبحان الذي يغير ولا يتغير!» كان الرجل من أمر هذا الانتقال المفاجئ في حيرة، كان قلبه ينازعه إلى المقام القديم الحبيب؛ ويمتلئ حسرة كلما ذكر أنه قذف به إلى حي بلدي عتيق، إلا أنه لم ينس ما خامره من شعور الارتياح حين علم أنه ابتعد عن جحيم ينذر بالهلاك المبين، ولعله أن ينعم الليلة بأول رقاد آمن بعد تلك الليلة الشيطانية التي زلزلت أفئدة القاهرة زلزالا شديدا، وبين الحزن والتعزي، والأسى والتأسي، مضى يذرع الطوار في انتظار ترام يوصله إلى ميدان الملكة فريدة، وقد ابتل جبينه عرقا، وكانت الحال لا تخلو من لذة طريفة، ذلك أنه مقبل على استجلاء جديد، واستقبال تغيير: مرقد جديد ومنظر جديد وجو جديد وجيران جدد، فلعل الطالع أن يتبدل، ولعل الحظ أن يتجدد، ولعل مشاعر خامدة أن تنفض عن صفحتها غبار الجمود وتبعث فيها الحياة واليقظة من جديد، هذه لذة الاستطلاع ولذة المقامرة ولذة الجري وراء الأمل، بل هذه لذة استعلاء خفية ناشئة من انتقاله إلى حي دون حيه القديم منزلة وعلما، ولم يكن رأى المسكن الجديد بعد، إذ بوشر نقل الأثاث منذ الصباح الباكر وهو في وزارته، وها هو ذا يقصد إليه كما وصف له، وجعل يقول لنفسه: إنه مسكن مؤقت وأنه ينبغي أن يحتملوه مدة الحرب وبعدها يأتي الفرج، وهل كان في الإمكان خير مما كان؟ وهل كان من الحكمة أن يلبثوا في الحي القديم على مرأى ومسمع من الموت المخيف؟ مضى يذرع الطوار لأنه لم يكن يحتمل الجمود طويلا، وكأنما سويت أعصابه من قلق، وكان يدخن سيجارة بعجلة دلت على انشغاله، فبدا في اضطراب حركته وقلق مظهره وشذوذ هندامه كهلا متعبا ضيق الصدر تلوح في عينيه نظرة شاردة تغيب بصاحبها عما حوله، كان يدنو من ختام الأربعين، عسيا أن يسترعي الانتباه بنحافة قامته وطولها واضطراب ملابسه اضطرابا يستدر الرثاء، والواقع أن تكسر بنطلونه وانحسار ذراعي الجاكتة عن رسغيه، وتلبد العرق والغبار على حرف طربوشه، وتقبض القميص ورثاثة رباط الرقبة، وصلعته البيضاوية، وسعي المشيب إلى قذاله وفوديه، كل أولئك أوهم بتكبير سنه، وفيما عدا ذلك فوجهه نحيل مستطيل، شاحب اللون، ذو رأس صغير مستطيل ينحدر خفيفا إلى جبهة تميل إلى الضيق، يحدها حاجبان مستقيمان خفيفان متباعدان، يظلان عينين بالغتين في امتدادهما وضيقهما، فهما تكادان أن تملآ صفحة الوجه الضيقة، فإذا ضيقهما ليحد بصره أو ليتقي شعاع الشمس بدتا مغمضتين واختفى لونهما العسلي العميق، وقد تساقطت أهدابهما واحمرت أشفارهما احمرارا خفيفا؛ يتوسطهما أنف دقيق وفم رقيق الشفتين وذقن صغير مدبب، ومن عجب أنه عد يوما ممن يعنون بحسن هندامهم وأناقتهم، وبدا إذ ذاك في صورة مقبولة، ولكن اليأس والحرص وما اعتراه بعد ذلك داء التشبه بالمفكرين نزع به عن أية عناية بنفسه أو بلباسه.
استقل الترام رقم «15» وقد افترت شفتاه عن ابتسامة ساخرة كشفت عن أسنان مصفرة من فعل التدخين، ومن ميدان الملكة فريدة أخذ الترام رقم «19»، وقد ارتكب خطأ سهوا، فرمى بحكم العادة بالتذكرة التي قطعها في الترام الأول وكانت توصله إلى الأزهر، واضطر أن يقطع تذكرة جديدة ضاحكا من نفسه في غيظ، وآلمه حرصه على تفاهة الغرم، والحق أنه تعود منذ زمن بعيد أن يكون رب أسرة، وإن بقي لحد الآن أعزب، بيد أنه لا ينفق مليما بغير تململ، فحرصه ليس من العنف بحيث يغله عن الإنفاق، ولكنه لا يعفيه أبدا من التألم كلما وجب الإنفاق.
Bilinmeyen sayfa