نظر الرجل الغريب في أرجاء المكان، فلم يجد مائدة خالية، اختفى عن الأنظار في الممشى حتى ظنوا أنه ذهب إلى الأبد، ولكنه رجع حاملا كرسيا من القش المجدول - كرسي الخواجا الرومي نفسه - ثم وضعه لصق الباب الضيق، وجلس.
جاء متجهما وعاد متجهما ثم جلس متجهما، لم ينظر نحو أحد، تجلت في عينيه نظرة حادة صارمة ولكنها غائبة، لائذة بعالم بعيد مجهول، لا ترى أحدا ممن يملئون المكان الصغير. منظره في جملته قاتم وقوي ومخيف؛ كأنه مصارع أو ملاكم أو رافع أثقال، وملابسه متوافقة تماما مع قتامته، ومؤكدة لها بالبلوفر الأسود والبنطلون الرمادي الغامق والحذاء المطاط البني. لم يشرق في ذاك البناء المظلم إلا صلعة مربعة توجت رأسا كبيرا صلبا.
أطلق حضوره غير المنتظر شحنة كهربائية نفذت إلى أعماق الجالسين؛ سكت الغناء، انقبضت الأسارير، خمد الضحك، ترددت الأبصار بين التحديق فيه وبين استراق النظر إليه، ولكن ذلك لم يدم طويلا، أفاقوا من صدمة المفاجأة وهول المنظر، أبوا أن يسمحوا للغريب بإفساد سهرتهم، وتداعوا بإشارات فيما بينهم للإعراض عنه واستئناف لهوهم، عادوا من جديد إلى السمر والمزاح والشراب، ولكنه في الحقيقة لم يغب عن وعيهم؛ لم ينجحوا في تجاهله تماما، وظل يثقل على أرواحهم كالضرس الملتهب. وصفق الرجل بقوة مزعجة، فجاءه الجرسون العجوز وحمل إليه النبيذ الجهنمي، وسرعان ما أفرغه في جوفه، وألحق به آخر، ثم أمر بأربعة أكواب دفعة واحدة، وراح يشرب كوبا في إثر كوب حتى أتى عليها، ثم جدد الطلب. عاودهم الإحساس بالرهبة والخوف، ماتت الضحكات على شفاههم، تراجعوا إلى الصمت والوجوم. أي رجل هذا؟! إن ما شربه من النبيذ الجهنمي يكفي لقتل فيل، وها هو يجلس كالحجر الصلد، لا يتأثر ولا ينفعل، ولا تنبسط له أسارير، أي رجل هذا؟!
واقترب القط الأسود منه مستطلعا، انتظر أن يرمي له بشيء، ولما لم يشعر له بوجود مضى يتمسح بساقه، ولكنه ضرب الأرض بقدمه فتقهقر القط، متعجبا ولا شك لهذه المعاملة التي لم يعامل بها من قبل، وحول الرومي رأسه نحو الحجرة بوجهه الميت، رمق الغريب مليا، ثم عاد ينظر إلى لا شيء، وخرج الغريب عن جموده؛ حرك رأسه بعنف يمنة ويسرة، عض على أسنانه، جعل يتحدث بصوت غير مسموع، مع نفسه أو مع شخص في مخيلته. تهدد وتوعد وهو يحرك قبضته، استقرت في صفحة وجهه أقبح صورة للغضب، استفحل الصمت والخوف.
وسمع صوته لأول مرة، صوت غليظ كالخوار، تردد بقوة وهو يقول: اللعنة .. الويل.
وكور قبضته وتابع: ليأت الجبل .. وما وراء الجبل.
وصمت مليا، ثم عاد يقول بصوت انخفض درجة: هذه هي المسألة بكل بساطة وصراحة.
اقتنعوا بأنه لم يعد للبقاء من معنى، قضي على السهرة بالفشل ولما تكد تبدأ، فليذهبوا في سلام. تم التفاهم فيما بينهم بالنظرات، ثم تفشت فيهم حركة تأهب وقيام؛ عند ذاك تنبه إليهم لأول مرة، خرج من غيبوبته، نقل عينيه بينهم في تساؤل، أوقفهم بإشارة وهو يسأل : من أنتم؟
يا له من سؤال جدير بالتجاهل والاحتقار، ولكن أحدا لم يفكر في تجاهله أو احتقاره، وأجاب أحدهم متشجعا بكهولته: نحن زبائن المحل من قديم. - متى جئتم؟ - جئنا مع المساء. - إذن، كنتم هنا قبل حضوري؟ - نعم.
أشار إليهم أن يعودوا إلى مجالسهم، ثم قال بحزم صارم: لن يغادر المكان أحد.
Bilinmeyen sayfa