والفنون تراث المدينة ولم تكن قط تراث الريف أو البداوة، وتراثنا الثقافي من الفنون صغير بل ضئيل؛ فإن العرب كانوا بدوا جهلوا البناء والنحت والرسم وصناعات المدن، ولم نرث منهم سوى الشعر، وهو مع ذلك شعر البداوة الذي تؤثر فيه الشطرة أو البيت على القصيدة، وتؤثر القصيدة على العلياءة.
وما عندنا في مصر من اتجاهات فنية إنما يعزى كله إلى العصر الحديث، وإلى تجديد الفنيين المصريين سواء في الرسم أو العمارة أو النحت، وليس عندنا أي تجديد في الغناء الذي لا يزال تنهدات منقحة، وقد نجحنا في الرسم والعمارة والنحت بعض الشيء لأننا عمدنا إلى الأوروبيين فتعلمنا هذه الفنون منهم ولم ندع في سخف وتنطع أن لنا تراثا فيها، ولكننا لم ننجح في الغناء والموسيقا لأن دعوانا فيهما دعوى متورمة منتفخة، ولو تواضعنا وتعلمنا من الأوروبيين أصول هذين الفنين لكانت لنا فيهما نهضة.
وكل هذا الذي ذكرنا يبين للقارئ أن دراسة الفنون لا تعني شيئا آخر سوى دراسة الكتب الأوروبية ورؤية المدن والمتاحف الأوروبية، ولما كانت غاية الفن هي في النهاية أن نعيش الحياة الفنية، وأن نجد الطرب الروحي الذي نحس من الجمال؛ فإن التربية الفنية تعني في النهاية التدريب المستمر للتسامي بشهواتنا ورغباتنا وتعود النظر الديني والفلسفي لشئون هذه الدنيا، حتى تسير حياتنا وكأنها القصيدة الرائعة وليست النثر المبتذل.
ولا أستطيع أن أنصح للقارئ بأن يقرأ شيئا عن الفنون في العربية، وقد يكون في كتابي «أشهر الصور» بعض الفائدة، ولكنه فتات ضئيل من المائدة الأوروبية، وعلى الراغب في الدراسة أن يوالي زيارة المتاحف والمعارض، ويتأمل ويدرس، وهذا إلى الآن قصارى ما يقال.
وغاية الفن هي بعد كل شيء أن نعيش الحياة الفنية، وأن يكون لنا مأرب فني في معايشنا ومعارفنا وسلوكنا وتصرفنا، وأن نرتفع من عيشة الضرورة البيولوجية إلى الاستمتاع المدني.
ليكن لنا كفاح ثقافي
يجب على كل مثقف أن يكون له كفاح؛ لأن الدراسة تحتاج إلى حوافز من العواطف الظاهرة أو المختفية تدفع إلى المثابرة والجهد، ولكن الحافز يضعف أو يقوى باختلاف البيئة والدراسة والشخص، فنحن نقرأ الجريدة في الصباح لأن عاطفة الاستطلاع تدفعنا إلى ذلك، ونحن ندرس الكتاب كي نتهيأ به للوصول إلى الهدف الذي قد يكون تكملا في الفن الذي نمارس أو رغبة في الرقي الذهني أو نحو ذلك؛ فالطبيب يقرأ كتابا في شرح أحد الأمراض لا أقرأه أنا؛ لأنه يجد الحافز الذي لا أجده، وأنا أقرأ كتابا في السيكلوجية لا يرضى غيري بقراءته ولو أجر عليه.
فلكل منا حافزه الذي يبعثه على الدرس، وقد يزداد هذا الحافز قوة حتى يحمل القارئ أو الدارس على الجهاد، وعندئذ يفتح هذا الجهاد أبوابا للدرس مدى الحياة، فالشاب المصري الذي عاش فيما بين 1918 و1943 وعاين الحركة الوطنية واشتبك فيها، وأصبح مجاهدا للوطن يدعو للاستقلال والحرية، قد حمله هذا الجهاد على دراسة لا تنقطع، بالحديث وقراءة الجريدة ودراسة الكتاب، لكل ما يتصل بالاستقلال والحرية والاستبداد والدستور والإمبراطوريات واستغلال الشعوب الصغيرة وخيانات الملوك والأمراء والوزراء لأوطانهم رغبة في الانتفاع بسلطان الدول المتسلطة ونحو ذلك، وهو يجد نفسه مشتاقا لدرس تاريخ الولايات المتحدة، وكيف استقلت، وهو يدرس مبادئ الثورة السوفيتية، بل جميع الثورات، وهو يعطف على الحركة الهندية التي يتزعمها غاندي أو نهرو، وهو أيضا مضطر إلى التغلغل في الاقتصاديات، كي يقف على ألاعيب الماليين الذين جروا على وطننا الخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهو يقرأ الجريدة بعناية واختيار ومراجعة، واشتباكه في الحركة الوطنية يرشده إلى الكتب التي يحتاج إلى قراءتها.
فهنا مثال الجهاد السياسي، يحمل على دراسات مختلفة تشع من بؤرة مفردة هي إرادة الاستقلال، وألوان الجهاد مختلفة متنوعة، فهنا مثلا سيدة تسعى لمنع الخمور، وهنا سيدة أخرى تسعي للمساواة بين الجنسين في الحقوق المدنية والاقتصادية، وهنا شاب يدعو إلى الاشتراكية، وآخر يجاهد من أجل الفلاح، فكل هؤلاء يجدون الحافز الذي يعبئهم على الدرس والاستزادة من الثقافة التي تتصل بموضوعاتهم، وليس هناك موضوع مستقل؛ فإن الدعوة إلى المساواة بين الجنسين تتصل بدراسات اجتماعية وتاريخية وفسيولوجية، بل دينية، ومن ينصب نفسه لهذه الدعوة محتاج إلى المثابرة والجهد في دراسة عميقة، وهو بهذه الدراسة يستنير وينتفع من هذه الناحية بدعوته كما أن دعوته تنتفع به.
انظر مثلا إلى شاب قد أحس أنه يجب أن يجاهد لتحقيق المجتمع الاشتراكي؛ فإن جهاده سيحفزه على الدرس الذي لا ينقطع طيلة حياته، وتاريخ البشر يعد عندئذ بعض موضوعاته، واقتصاديات الصناعة والزراعة، وكذلك الأخلاق والأديان، بل كذلك الاستعمار والحروب وإمبراطوريات المدفع والجنيه، كل هذا يعد من ميادينه الدراسية، وهو يرقى بهذه الدراسات، وينظر النظرة العلمية الفلسفية للمجتمع، وفي عصرنا الحاضر أجد الفرق عظيما جدا بين شاب يجهل الاشتراكية وآخر يدرسها؛ لأن الأول تجري الحوادث أمامه وهي لا تعني المعنى ولا تدل الدلالة، في حين يجد الثاني معناها ودلالتها واضحين، كما أن الأول يقرأ وهو راكد متثائب أما الثاني فيقظ متنبه، وقل أن تجد للأول مكتبة بل هو قد يهمل شراء الجريدة، أما الثاني فيعرف الشأن العظيم لهما في ترقية ذهنه، الأول ينظر إلى الحوادث متفرجا والثاني يبصر بحركة التاريخ في الحوادث الحاضرة والمستقبلة.
Bilinmeyen sayfa