ولكن مع كل هذا يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن العلم يبحث ماهية الأشياء ويقتصر على ذلك، فهو معرفة، أو وسيلة للمعرفة، ولكن استخدام هذه المعرفة يحتاج إلى الحكمة التي نستخلصها من الآداب والفلسفات والأديان.
والأديان في نظري هي بعض الآداب والفلسفات، والضمير الراقي هو الذي تكون وتربى بالثقافة العالمية التي تعد الاديان بعضا منها، والإحساس الديني الراقي هو الإحساس الإنساني الذي ينكر الغيبيات إنكارا تاما.
دراسة السياسة
الجريدة هي فطورنا الذهني في الصباح ، ونحن نقرأ أخبارها ونتأمل صورها فننتعش ، ونجد المواد للحديث والتفكير سائر اليوم، والجرائد تعنى أكبر عناية بالسياسة الداخلية والخارجية، ولكن عنايتها مقصورة على الأخبار أو الدعاية.
وكي نفهم الجريدة يجب أن ندرس السياسة؛ أي الأسس التي تنبني عليها السياسة، وهي التاريخ والاقتصاد والسيكلوجية، ومن سوء حظ العالم كله أن السياسة في الوقت الحاضر يتولى شئونها هواة وصوليون يعجزون عن المعالجة العلمية لمشكلاتها، ومن هنا تعلقهم بالخطابة الانفعالية بدلا من اعتمادهم على الوجدان والتعقل، ومن هنا أيضا هذه الفوضى العامة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بل هذه الحروب التي تزلزل الأمم.
وإذا تركنا الأمم البدائية والمتوحشة، وكذلك الأمم الشرقية التي لا تزال تشقى بالمستعمرين أو بأمرائها المستبدين أو شيوخها الرجعيين، وجدنا ثلاثة أنواع من النظم تستحق من الرجل المثقف الدراسة الجدية، هي النظام الديمقراطي والنظام الفاشي والنظام الاشتراكي.
فأما النظام الديمقراطي فهو على أحسنه في أمم أوروبا الصغيرة مثل سويسرا وسويد ونرويج ودنمركا، وتأتي بعد هولاء الولايات المتحدة، وهذا النظام ينشد حرية الفرد، ويحاول أن يتوقى التفاوت الاقتصادي بضرائب تخفف من قسوته، ومع هذا التخفيف يستطيع الإنسان أن يعيش في حرية نسبية وقد يجتاز القلاقل الاقتصادية بعض الأحيان، وليس شك في أن الديمقراطية المدنية ستنتهي يوما إلى ديمقراطية اقتصادية.
وهذه الديمقراطية الاقتصادية هي ما نجد في عصرنا في الدولة البريطانية، حيث يسود النظام الاشتراكي في كثير من المرافق، وحيث تجبي الحكومة 95 ألف جنيه من الثري الذي يبلغ دخله 100 ألف جنيه، ويجب على كل مثقف أو من ينشد الثقافة السياسية أن يدرس هذا النظام، وهذا النظام الاشتراكي حين يتم هو النهاية التي سوف تنتهي إليها جميع النظم الديمقراطية.
فأما الفاشية فقد كانت دخانا من الاستبداد خيم على ألمانيا وإيطاليا وبعض الأمم الأخرى، وقد انقشع عنهما، وسوف ينقشع عن الأمم الأخرى؛ لأنه خلو من ميزات الديمقراطية والاشتراكية وليس فيه شيء من عوامل البقاء، وهو يعيش الآن بقوة الآلة الحربية الضخمة التي أوجدها والتي لا يستطيع أن يعيش بدونها.
وهناك مفتاح نفهم به أدق فهم تلك الانقلابات التي تحدث في عصرنا في السياسة العالمية، نعني به نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ، فإذا درسنا هذه النظرية عرفنا البواعث والمحركات التي انتهت بالفاشية في إيطاليا وألمانيا، والاشتراكية في بريطانيا، بل عرفنا أيضا البواعث والمحركات للإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والهولندية، وللاستعمار في جميع ألوانه العصرية، والفرق ليس عظيما فقط، بل هو فاحش، بين من يملك هذا المفتاح ومن لا يملكه؛ لأن الخبر الصغير في إحدى الجرائد عن اتفاق سياسي بين دولتين أو اندغام شركتين أو دعوة إلى دين أو تأييد لرجعية في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، كل هذه الأخبار ومئات غيرها تعود لها دلالة جديدة إذا كنا نقرؤها ونحن نسترشد بالتفسير الاقتصادي للتاريخ.
Bilinmeyen sayfa