من ذا الذي كان يعرف ما افتكره لو لم يكن أحد الكتبة الأقل حذرا منه قد سجل لنا أقواله التهكمية على صفحات البردي التي شد ما كان يستهين بشأنها ذلك الفرعون الحكيم المسرف في الحكمة.
بعد أن ثبتنا فلاسفتنا في نصابهم من حقيقة الحوادث التي كانت تعتور حياتهم في حال الدراسة أو في حال الحرب، في حال الإقامة أو في حال التشريد، وبعد أن بينا الظروف الحسية التي ألفوا فيها مؤلفاتهم صار جائزا لنا عن بينة وشيء من الاطمئنان أن نتساءل إلى أي حد كانت أصلية هذه الفلسفة؟ إنها كما يظهر لنا نبتت نحو القرن السابع قبل الميلاد في آسيا الصغرى المرتبطة بروابط وثيقة مع جميع البلدان المحيطة بها، فبأي شيء هي مدينة لها؟ وهل استعارت منها شيئا؟ أم هل هي مستقلة تمام الاستقلال لم تتبع سواها؟ وهل لم تنهل شيئا من غير مناهلها الذاتية؟ أكانت مذاهب طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان محض إبداع لها من الأصلية ما لشعر هوميروس وسافو وأرخيلوكس والكايوس؟ وبعبارة أخرى هل الغرب الذي فتح صدره للحياة العلمية يدين بشيء للشرق الذي هو مخالط له والذي هو معتبر أنه متقدم عليه بكثير في هذا الطريق الوعر الذي حده النهائي هو الفلسفة؟
أجيب من غير تردد بالسلب وأن إغريقا لم تدن لأحد غيرها، وأن المساعدات التي وردتها تكاد تكون من خفة الوزن بحيث يمكن الجزم بأن إغريقا في العلم أيضا كانت ذات إحداث وإبداع، شأنها في بقية الأشياء الأخرى، وإذا كانت تلقت شيئا عن جيرانها، فما هو إلا أصول عديمة الصور، فصورتها هي، وبلغت من تصويرها حد التمام بحيث يمكن القول بحق إنها هي التي أوجدتها في الواقع.
وعلي أن أقرر بادئ ذي بدء ماذا يعنى بالفلسفة؟ وحسبي حدها وهو: «اتجاه العقل اتجاها نزيها إلى العلم.» المشاهدة لأجل العلم من غير غرض آخر إلا فهم العالم الذي نعيش فيه وظواهره وأصله ونهايته. هذا هو المعنى الذي تولد وقتئذ لأول مرة في العقل الإنساني، والذي - من طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان إلى عهدنا - لا يزال ينمو من قرن إلى قرن، والذي ينمو في المستقبل بلا انقطاع ما دامت القرون وما دام الزمن الذي يقاس بها على بقاء النوع الإنساني. ذلك هو ما أجادت الفلسفة في بداية أمرها عمله: أن اعتنقت جميع العلوم بلا استثناء، وما هو إلا بسبب ضعف عقلنا وضرورات البحث العام أن انفردت العلوم الخصوصية شيئا فشيئا، وانعزلت أمها الفلسفة عن أولادها، ولكنها ما زالت تغذيها وتتوكأ عليها، ولم تلبث الفلسفة أن حددت دائرتها الخاصة المتوزعة أجزاؤها في العلوم المختلفة التي هي الفلسفة أصلها وتمامها، ولكنها في تلك الأيام الأولى كانت مختلطة بجميع العلوم؛ لأن العلوم لم تكن بعد قد خرجت منها.
من هذا سمت نفسها بذلك الاسم الجميل المتواضع؛ فإن فيثاغورث لما سأله ليوز طاغية الفلياز (سيقونيا) أجاب بأنه فيلسوف، وهو اسم لم يسمع من قبل.
الفيلسوف ليس إلا صاحب الحكمة؛ أي صاحب العقل، ذلك العقل الذي يدرس الأشياء ويدرس نفسه أيضا، وقد كان فيثاغورث يقول: حال الناس في الحياة يسعون فيها يشبه حال الجمهور يتقاطرون إلى الأعياد الرسمية. ففي جمعيات الجمهور الفسيحة لكل واحد من الساعين إليها أغراض مختلفة؛ أحدهم يقصدها ليبيع فيها بضائعه مدفوعا بحب الكسب، وآخر لا يقوده إليها إلا حب المجد والرغبة في أن ينال قصب السبق في القوة أو في المهارة، وطائفة أشرف من هؤلاء لا يظهرون فيها إلا لمشاهدة جمال محال تلك الاجتماعات وعجائب الصناعة المعروضة لأنظار الجميع. كذلك في الحياة، للناس الذين تضمهم الجمعية الإنسانية مشاغل متباينة؛ فمنهم المجرورون بجواذب الثروة والتمتع التي لا تقاوم، وآخرون مملوك عليهم أمرهم بالطمع في السلطان والشرف، وهما لا ينالان إلا بالحروب الحادة والمنافسات التي تسفك الدماء، ولكن الغرض الأسمى للرجل هو إمعان النظر فيما في هذا الكون من الجمال المتنوع الذي يقدمه لأنظارنا، وبذلك يستحق عنوان فيلسوف. فمن الحسن أن ينظر المرء إلى أقطار السماوات الفسيحة يتتبع سير الأفلاك التي تتحرك فيها على قدر غاية في النظام، ولكنه لا يستطاع فهمه جيدا إلا بالمبدأ المعقول المجرد الذي يسير الكون ويحصي كل شيء عددا ومقياسا.
فالحكمة تنحصر في التعرف بقدر الممكن لهذه الظواهر الإلهية الأبدية الأولية التي لا تتغير. والفلسفة ليست إلا التتبع المستمر لهذه الدراسة الشريفة التي تنير الناس وتصلحهم.
29
منذ البداية قد علمت الفلسفة ما كانت تفعل، منذ خمسة وعشرين قرنا لم تبحث الفلسفة إلا في تحقيق الفكرة التي قامت بها عند خطواتها الأولى بالتدرج تحقيقا كاملا، وما زالت حكمة فيثاغورث هي حكمتنا وإن كانت العلوم قد رقت رقيا كبيرا جدا، ولكن الفيلسوف لم يتغير؛ فإنه سيبقى دائما هو الذي يتأمل في الأشياء ويلاحظها ليفهمها وليفهم نفسه، هذا هو معنى العلم والفلسفة الذي أنسب شرفه إلى إغريقا دون سواها؛ فمن إغريقا تلقيناه من غير أن يكون افتكره أحد من قبلها في هذا الشرق الذي كانت تعتقده ويعتقده غالب أهل زماننا ينبوع كل نور وحكمة.
ممن كانت تستطيع إغريقا أن تستعير هذا المعنى وقتئذ؟ أمن مصر أم من فينيقيا أم من الفرس أم من الهند؟ لا أرى غير هذه الأمم أحدا كان يستطيع أن يعلم الإغريق شيئا، وأقول: إن هذه الأمم ولو أنها علمتهم أشياء كثيرة فلم تعلمهم الفلسفة أصلا. لا شك في أن كثيرا من فلاسفتنا - وفيثاغورث على الأخص - ساحوا سياحات طويلة في تلك البلاد، وأنهم ذهبوا إليها ليتعلموا؛ فإن فيثاغورث الذي ربما كان يدلي إلى فينيقيا بعائلته ذهب إلى مصر كما فعل طاليس من قبل وكما فعل هيرودوت بعده بقرن، وأقام فيها. ويقال إنه لقن الأسرار الخفية، وقد يمكن تصديق ذلك بسهولة؛ لأن سولون ذهب إليها أيضا، والظاهر يدل على أنه لم يقف عند محادثة كهنة سايس
Bilinmeyen sayfa