كذلك كان بوليقراطس نفسه قد جمع مكتبة كثيرة الكتب كما ذكرنا آنفا، وقد كانت في العالم الإغريقي إحدى الباكورات التي استمتع بها بوليقراطس، وأنفق في جمعها مالا طائلا. ويقولون نحو ذلك بالنسبة إلى بيزيسطراط المتقدم بالزمان على بوليقراطس، يقولون إنه أنشأ مكتبة في آتينا وجعلها مكتبة عمومية ليلطف من حال الشعب بهذه المزية وبغيرها، ولكن ناقلي هذا الخبر إلينا هما من المتأخرين؛ لأن أحدهما أطيني والآخر أولوجل، غير أني لا أجد أسبابا تحمل على الشك في روايتهما، فأما بوليقراطس فإن مصر كانت له قدوة ما كان أسهل عليه تقليدها كما سنبينه بعد، وكان في استطاعته أن يجمع آثار المؤلفين الذين يعجبون سكان الشواطئ الذين يطربون للشعر ويتذوقون طعوم العلم منذ عهد هوميروس ، وأما بيزيسطراط فمن المؤكد أنه إذا لم يكن فتح مكتبة للجمهور فهو على الأقل قد اقتنى الكتب واشتغل بنفسه فيها لغرض سياسي محض.
وروى بلوتارخس في كتابه «حياة طيسي» أن بيزيسطراط سلخ من «هيزيود» بيت شعر كان يمكن أن يجرح صلف الآتينيين، وأنه زاد على قصيدة هوميروس بيتا من شأنه أن يسرهم، فذلك الحذف وهذه الإضافة كيف يمكن إثباتهما إلا أن يكون لديه نسخ من تلك القصائد يمكن فيها التغيير والتبديل.
نرجع إلى استعمال الرسائل في العهد الذي نحن بصدده.
إن أوريطيس مرزبان سرديس الذي عامل بوليقراطس بتلك القسوة الفظيعة استوجب بسلوكه الوحشي سخط كل من حوله، فإن أحد زملائه عاب عليه أحبولته التي نصبها لطاغية سموس، فقتله هو وابنه. وكان دارا الذي ارتقى عرش الملك حديثا ساخطا على أوريطيس الذي فوق ما قارف من الآثام تلكأ في حرب المجوس والفرس بعد موت قمبيز، وكان ذلك أكثر مما يلزم للملك الجديد من الأسباب التي تحمله على التخلص من مرزبان قوي يسوس فريجة وليديا ويونيا جميعا، ويقود جيشا عرمرما. ولأن يقبض عليه جهرا بالقوة فيه ما فيه من عدم التبصر خصوصا في ابتداء حكم جديد، ومع ذلك فإن أوريطس دس على سفراء دارا الذين جاءوا يدعونه إلى مقابلة الملك من قتلهم سرا، فصار بجملة ما فعل مستحقا للعقوبة، ولكن كان يلزم مداراته بعض الشيء وتجنب ثورة أصبح حدوثها قريب الوقوع، فدعا دارا أكابر الفرس، وطلب إليهم أن يخلصوه من ذلك العاصي إما بقتله وإما بالقبض عليه وإحضاره، وفي كلتا الحالتين لا ينبغي اتباع غير طريق الحيلة، فتقدم إليه منهم ثلاثون دفعة واحدة كلهم يعرض قيامه بهذا العمل وحده، فلم يشأ دارا أن يختار من هذه العروض الصادرة عن الإخلاص، واقترع بين أصحابه؛ فصادفت القرعة باجي بن أرطوطيس.
ماذا فعل باجي؟ كتب كثيرا من الأوامر تتعلق بمسائل شتى، وختم كل واحد منها بختم دارا، فلما وصل إلى سرديس سلم هذه الأوامر إلى سكرتير الملك بحضرة أوريطيس؛ لأن كل مرزبان كان لديه ممثل للملك، ففض السكرتير الخاتم عن تلك الأوامر وقرأها على الضباط العظام الذين كانوا حول أوريطيس، وكانت تلك الأوامر موجهة إليهم بنوع أخص، فتلقوا جميعا أوامر الملك بغاية الطاعة والاحترام، فسر باجي بهذه المحنة الأولى، ورأى أن في استطاعته الاعتماد على طاعتهم، فأفضى إليهم سرا ببعض الأوامر التي يأمرهم فيها دارا بالانفضاض عن أوريطيس والانقطاع عن خدمته؛ فأطاعه الضباط أيضا وألقوا رماحهم دلالة على أنهم تركوا المرزبان، فلما تحقق باجي من تأثيره فيهم جعل سكرتير الملك يقرأ عليهم أمره إياهم بقتل المرزبان، فهجموا عليه فخر صريعا تحت طعنات سيوفهم، وبذلك أخذ منه القود لبوليقراطس، ونال دارا بغيته من الانتقام.
18
على ذلك كان الفرس أنفسهم في زمن دارا يستعملون الكتب بالسهولة التي يستعملها بها الإغريق الذين هم أرقى منهم تعلما وأكثر مدنية، فإن الملك الكبير كان يرسل أوامره إلى جميع أجزاء مملكته الفسيحة الأرجاء. وكانت هذه الأوامر مكتوبة بالأوضاع وبالمواد التي ربما لا تزال تستعملها إلى الآن تلك البلاد القليلة المدنية.
لما اتهم الإغريق بوزانياس بأن له ضلعا مع الفرس وكرهوه عزم فعلا على خيانة قضيتهم الشريفة التي طالما خدمها في بلاتة، فراسل إكزاركسيس بكتاب يعرض عليه فيه أن يخضع له إسبرطة وبقية بلاد الإغريق، فقبل ملك الفرس عرض ذلك الخائن، وكتب إليه بخط يده كتابا أرسله إليه مع أرطباز مرزبان دسكيلينس. فلما أحس أهل إيفورس خيانة ملكهم، كتبوا إليه ينذرونه بأن يغادر طروادة ويعود إلى إسبرطة حيث يستطيعون مراقبة سلوكه، فلم يجرؤ بوزانياس على مخالفتهم، وعاد إلى مقر ملكه، ولكنه لم يكف مع ذلك عن مراسلته الجنائية، ولكن الرجل الذي سلم إليه آخر الرسائل خاف على نفسه لأنه لم يعد ولا واحد من الرسل الذين حملوا أمثال هذا الكتاب إلى دارا، ففض غلاف الكتب بعد أن قلد الختم الموضوع عليها ليقفلها كما كانت، فتحها ليرى ما إذا كان لخوفه محل، وإذا به يقرأ توصية على قتله، فحمل الكتب إلى أهل إيفورس وبلغهم أمر الملك الذي كان يسلم إغريقا للمتوحشين.
إن تاريخ طيميستوكل أشبه ما يكون بتاريخ بوزانياس وإن كان أقل منه جناية؛ لأن الآتينيين كانوا حرضوه على الخيانة بأن عاقبوه بالنفي ظلما؛ فكاتب أرطقزاركسيس. ولما هرب من أرغوص إلى قرقير ومنها إلى الملك أدميت ملك الملوص، ومن عنده إلى إسكندر - ملك مقدونيا - جاء آخر الأمر إلى إيفيزوس حيث كتب إلى الملك الكبير يطلب إليه ملجأ أباه عليه الإغريق. وقد روى طوكوديدس صورة ذلك الكتاب، ولا محل للتظنن في صحته.
19
Bilinmeyen sayfa