إذا عرفت ذلك فجميع ما ذكر من الضروب الثلاثة والانقسامات المذكورة في الثاني والثالث يكون معرفة الجميع، وفعل ما وجب أو ندب لأجل أمر الشارع به وترك ما نهى عنه أو أرشد إلى تركه لأجل نهي الشارع عنه شكرا لله تعالى، والمخالفة له تعالى بتغيير أي حكم منها أو ترك ما وجب من الشرعيات قطعا أو فعل ما حرم منها قطعا يكون كفرا لكنه يقيد في ترك الواجب وفعل المحرم بكفر النعمة، وكذلك الواجب والمحرم في الضرب الثاني ما لم يكن عن استحلال فيكون كفرا بلا قيد أو عن إكراه ونحوه، فلا أيهما ولا إثم، ومن هذا التفصيل يظهر مراد من قال أن الشكر العقلي ليس إلا الاعتراف بالمنعم والنعمة، فمرادهم قبل ورود الشرائع لأن العقل لا يهتدي إلى شيء منها، فلو قيل: إنها شكر واجب لزم تكليف ما لا يعلم، فاقتصروا على قولهم الشكر يعنون العقلي الاعتراف فقط ويظهر مراد من قال: إن الطاعات شكر، فمرادهم أن فعلها بعد الأمر بها شكر وقبل الأمر بها يحكم العقل فيها أنه متى صدر الأمر بها وجب الفعل شكرا، وإنما قلنا: إن الجميع شكر، لأن مجرد الاعتراف لو وقع الاقتصار عليه بعد ورود الشرائع لكان كافيا، ومن المعلوم أن من اقتصر عليه ولم يمتثل الأوامر والنواهي لم يعد شاكرا بل كافر سيما مع الاستحلال، وقد قال تعالى: {اعملوا آل داوود شكرا {، وقال تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون} [النحل:72]، فلو كان الاعتراف كافيا لما وصفهم بالكفر مع قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف:87]، وقوله تعالى: {قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} [يس:47]، فهم معترفون أن الإطعام من الله، لا يقال إنما كفرهم الله تعالى بأفعالهم القبيحة الآخرة من تكذيب الأنبياء عليهم السلام وعبادة الأصنام وعدم تصديق المعاد، لأنا نقول هب أن الأمر كما ذكرت في قوله تعالى: {قال الذين كفروا للذين آمنوا{ الآية، لكن في تعليق الكفر بالنعمة في قوله تعالى: {وبنعمة الله هم يكفرون{، مع قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله{ دلالة على أن الاعتراف بالنعمة لا يكفي في الخروج عن شكرها حتى يمتثل جميع ما أمر به ونهى عنه، وإلا لقال: أفبالله أو بالأنبياء أو بالمعاد هم يكفرون، ولما تعرض لذكر النعمة لأنهم قد اعترفوا بها واعترفوا بفاعلها، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: [ يا أبا ذر إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد ولكن أمسوا تائبين وأصبحوا تائبين ] أخرجه المؤيد بالله عليه السلام في سياسة المريدين، وقام صلى الله عليه وآله وسلم حتى ورمت قدماه فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبدا شكورا "،وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول، وقال الشاعر:
أفادتكم النعما مني ثلاثة .... يدي ولساني والضمير المحجبا
وقد سبق في صدر الكتاب ما يفيد أن الخشية والطاعة تكون على قدر المعرفة بالله تعالى.
فثبت بجميع ذلك أن معرفة الله شكر ولطف، ولا وجه لقصرها على أحدهما على أنه يقال لمن قصر وجوب المعرفة على كونها لطفا فقط، فيقال له: لطفا في ماذا ؟
فإن قلتم: في الواجبات العقلية التي هي رد الوديعة وقضاء الدين وترك الظلم والكذب.
Sayfa 53