هذه الرغبة العنيفة في أن يلتصق بأمه ويضع رأسه في صدرها ويشم رائحة جسدها لم تكن حبا؛ كان يريد أن يمتزج بها مرة أخرى لتلده مرة أخرى بعضلات أكثر قوة، كان يريد أن يسحب من أنفاسها شيئا من القوة. حين كان يقبلها لم يكن يريد أن يقبلها، ولكنه يريد أن يعضها ويأكل لحمها المدكوك قطعة قطعة، ولكنه لم يكن يستطيع، كل ما كان يستطيعه هو أن يدفس رأسه في حجرها ويكرهها، وأحيانا يبكي، وأحيانا يهرب. تسلل يوما من الحقل آخر النهار، ووضع ذيل جلبابه بين أسنانه، وظل يجري حتى دخل في أرض لا يعرفها وحوطه الظلام من كل جانب، وسمع عواء ذئب من بعيد، فاستدار عائدا جريا إلى داره. ومرة سرق من جراب أمه قطعة من ذات الخمسة القروش، وركب قطار الدلتا ونزل في قرية لا يعرف اسمها، أخذ يسير في شوارعها حتى عوت معدته والتهبت شقوق قدميه، فقطع تذكرة وعاد بالقطار إلى قريته. ومرة سرق قطعة من ذات العشرة القروش وذهب متخفيا إلى حلاق الصحة ووقف أمامه يلهث. - «انطق يا ولد عاوز إيه؟»
وشد لسانه الجاف من سقف حلقه وأخفى أصابعه في جلبابه: «صوابعي ...» - «مالها!» - «مش بتمسك الفاس زي أمي.»
وزغده الرجل في كتفه: «وهو ده عيب يا وله، روح خلي أمك توكلك رطل لحمة وانت تبقى زي الحصان!»
وبكى في حجر أمه الفسيح حتى اشترت له قطعة من اللحم أكلها عن آخرها، وشرب وتجشأ وهو يشعر بدفء ممتع يسري في أصابعه، فقبضها وبسطها وثناها وفردها سعيدا بقدرته الجديدة، لكنه شعر بجفنيه يثقلان، فأغمض عينيه وراح في نوم عميق، ثم استيقظ بعد يومين ليجري وراء الجدار حيث تسربت في أمعائه بقايا اللحم، وتسربت معها القدرة الجديدة.
ولكن لا بد من حل، إن في رأسه عقلا يشتغل، وهو أذكى رجال القرية؛ فهو يقرأ لهم الجرائد، ويكتب لهم الخطابات، ويحل مشاكلهم، ويخطب الجمعة حين يغيب الإمام، ولكن عقله وذكاءه لن يشفعا له؛ فالرجل عندهم جسد قوي وليكن له رأس بغل.
عقله يشتغل لكن عضلاته تتهدل، والأيام تمر واليوم الملعون يقترب، وكل الطرق يجربها ولا تنفع، فيغلق باب القاعة الخلفية على نفسه ويقف يمرن عضلاته، يقبض أصابعه ويثنيها ويفردها ويطرقعها، كل ليلة يتمرن، وأصابعه تنقبض تارة وتلتوي تارة أخرى ثم تسقط.
وحل اليوم، ورأى أمه قبل الفجر تكنس القاعة وترشها، وترص الدكك الخشبية أمام الدار، وحاول أن يتناوم أو يتماوت، لكن أمه زغدته في كتفه بأصابعها المعهودة فانتفض على قدميه، وبدأت وفود الناس تملأ صحن الدار؛ رجال يحملون العصي ويتصارعون ويرقصون، ونساء يرتدين الجلابيب الملونة ويغنين ويزغردن ويقذفنه بأشياء تلسع قفاه، وهو مسمر في الأرض ببلغة جديدة ناشفة تحك أصابع قدميه، وحول عنقه كوفية جديدة يشدها بأصابع متشنجة فيكاد يخنق بها نفسه لولا عضلاته التي تلين كالعجين، وساقاه لا تتحركان وإنما هي دفعات من الخلف ومن اليسار ومن اليمين تجعله يتذبذب، فكأنه يرقص مع الراقصين ويترنح مع المترنحين، إلى أن وجد نفسه على عتبة القاعة، رفع رأسه من فوق صدره ليرى أمامه شيئا عجيبا، شيئا نصفه الأعلى مغطى بشال أحمر كبير، والنصف الأسفل فخذان رفيعتان عاريتان، إلى جوار كل ساق امرأة تقبض عليها بذراعين مفتولين نفرت منهما عروق غليظة.
ظل واقفا على عتبة الباب عيناه تزغللان، وفمه يحاول أن ينفتح ليصرخ، لكن شيئا لا يخرج من بين شفتيه إلا لعابه الذي يجري من زاوية فمه دافئا ناعما كذيل حية لا تعض.
وشعر بأصابع قوية تشبه أصابع أمه تضغط على كتفيه وتجلسه على مؤخرته، وأحس بعض الراحة حين افترشت أليتاه الأرض الرطبة المرشوشة، وظل جالسا مغمضا عينيه في شبه غيبوبة، لكن لكزة أخرى في كتفه جعلته يفتح عينيه ليجد نفسه وجها لوجه مع الساقين المنفرجتين، وأشاح بوجهه بعيدا فلمح بزاوية عينه جمهور الرجال والنساء من خلفه محتشدين في صحن الدار، أبطلوا الطبل والزمر والرقص ووقفوا ينتظرون، عيونهم مفتوحة عن آخرها، ترقب باب القاعة في شغف ولهفة. ولكن لا ... لن يمتع أنظارهم بالفضيحة، إنه ليس أبله، بل إنه أذكى رجال القرية؛ يقرأ لهم الجرائد، ويكتب لهم الخطابات، ويخطب حين يغيب الإمام ... ولا بد له أن يخرج إليهم رافعا رأسه كما فعل كل رجال القرية، بما فيهم ذلك الصبي الأبله الذي يتهته ويريل.
وبسط يده اليمنى وشد أصبعه متقدما به بين الساقين، ولكن ذراعه ارتجفت نافضة عنه الأصبع الذي سقط متهدلا كذيل جرو ميت.
Bilinmeyen sayfa