أيرجع الزمن إلى الوراء ويعود يعبد الأوثان؟
فخ لا شك وقع فيه، ونفخ من الغيظ فدخلت ذرات التراب إلى أنفه، وحاول أن يعطس أو لعله عطس فعلا؛ فلكزه أحد في جنبه، لم يكن يدري حتى تلك اللحظة أن معه آخرين، لكنه استطاع أن يلحظ بطرف عينه صفا طويلا من الأنوف أرنبتها الرفيعة المدببة مرتكزة على الأرض، على حين بقيت الأقدام معلقة في الهواء.
رجل
في مثل هذه اللحظة النادرة التي لا تمر بكل الناس، وإنما بقلة قليلة جدا حالفها الحظ، أو بالأحرى خانها الحظ فإذا بها لسبب ما وجها لوجه مع الحياة وقد تعرت عريا كاملا، وبدت على حقيقتها كوميض مكهرب يصعق الإنسان في التو واللحظة، فيموت ويموت معه السر، أو لعله يكون أكثر احتمالا فلا يموت تماما وإنما يصبح في تلك الحالة المترددة بين الوعي واللاوعي، وتختلط الأشياء بعضها بالبعض فلا يعرف الحقيقة من غير الحقيقة، ولا يدرك اليقظة من النوم.
في هذه اللحظة كانت خديجة قد رفعت يدها وفتحت الباب، وكأنما أصيب جسدها بمس كهربي ففقدت القدرة على النطق والحركة، تجمد جسدها في مكانه وتجمد الدم في عروقها، وكان من الممكن أن يتوقف قلبها عن الحركة وتفارقها الحياة تماما لولا أن عينيها ظلتا قادرتين على الرؤية بقدرة قادر، فكأنما الحياة انسحبت من كل جسدها لتتركز فيهما. واستطاعت خديجة أن ترى المشهد العجيب، ربما لم تدرك تماما أهو حلم أم حقيقة، لكنها كانت تراه بوضوح، وتعرفت منذ الوهلة الأولى على رأس عشماوي بشعره الأكرت وقفاه الأسمر الغليظ، لكنه بدا لها في تلك اللحظة كرأس رجل غريب لم تره من قبل ولم تعش معه عشر سنوات كاملة، وربما كان هذا هو السبب الذي جعلها تتأمل المنظر بغير إحساس، أو بإحساس محايد كمشاهد في سينما أو مسرح أو بالأحرى سيرك تقوم فيه الحيوانات بألعاب عجيبة تذهل الإنسان، فيفتح فمه وينطق مشدوها: «يا خبر!»
وحينما انفتح فم خديجة وخرج صوتها المبحوح المشدوه: «يا خبر!» ارتطمت على الفور أربع عيون متسعة مذعورة بعينيها الجاحظتين، أربع عيون بدت لها من شدة ذعرها غير آدمية، لكنها سرعان ما تعرفت على عيني عشماوي ببياضهما الواسع المصفر وجفنيهما الوارمين، أما العينان الأخريان فقد اختفتا في اللحظة نفسها التي ظهرتا فيها، فكأنما لم تكونا إلا لقطة خاطفة في فيلم وليستا عينين حقيقيتين في إنسان مجسد حي.
ولأول وهلة أيضا اختلط الأمر على عشماوي، فلم يتأكد تماما من أن هاتين العينين الجاحظتين المطلتين عليه هما عينا خديجة الغائرتان الضيقتان، ولعله أيضا لم يدرك أهو شيء حقيقي ذلك الذي يحدث أم أنه مجرد كابوس، وامتدت يده بغير وعي تتحسس جسمه ليتأكد من يقظته، فارتطمت أصابعه بظهره العاري، وجثمت عليه الحقيقة كجدار ثقيل لم يستطع معه أن يتحرك، استطاع فقط أن يدفن وجهه في بطن السجادة العجمي السميكة، لكن بقية جسده ظل كما كان فوق الأرض ظاهرا وعاريا ومرئيا، تراه عينا خديجة بوضوح، وتستطيع أن تعد فقرات ظهره فقرة فقرة. لم تكن تظن أن جسمه نحيل إلى هذا الحد، وأن عظام كتفه دقيقة وصغيرة بهذا الشكل، كان يبدو لها في البدلة ممتلئا عريض الكتفين، وحينما جاء لأول مرة وخطبها من أبيها وافقت على الفور، أبوه مزارع أجير يعمل في أرضهم لكنه علم ابنه في المدارس وأصبح عشماوي موظفا في الحكومة يرتدي البدلة، كثيرا ما رفضت غيره من شباب القرية، حتى ابن العمدة رفضته، إنه يملك وحده عشرة أفدنة ولكنه لم يتوظف في الحكومة ولا زال يرتدي الجلباب، جلباب من السكروته الغالية حقا ولكنه جلباب يتهدل فوق كتفيه وساقيه واسعا فضفاضا كجلابيب النساء، والرجل لكي يكون رجلا لا بد له من كتفين غير متهدلتين صلبتين عريضتين في وضع أفقي مستقيم، وهذا ما تفعله الجاكتة، ولا بد له من ساقين منفصلتين بعضهما عن البعض يمكنه أن يحرك كلا منهما على حدة وبثقة وحرية، وهذا في نظرها هو صفة الرجولة التي تميزها على الأنوثة، والتي لا يمكن أن تحدث إلا في ظل البنطلون. •••
ولأول مرة في حياتها ترى خديجة عشماوي بغير ملابس، كانت تراه بالبيجاما قبل أن ينام وبعد أن يصحو من النوم، لكنها لم تره أبدا بغير ملابس على الإطلاق، حتى في تلك اللحظات التي كان يمكن لها أن تراه بغير ملابس لم تكن تجرؤ على أن تفتح عينيها، إنها امرأة شريفة ومن أسرة كريمة ولا يصح لها إن تحملق في مثل هذه الأوقات، ولم يكن الشرف وحده هو الذي يمنعها وإنما الخوف أيضا والرهبة كل الرهبة للتجسس على ذلك الشيء الخطير الذي اسمه جسد الرجل، كانت ترهبه وتجهله، وحينما كان يقترب منها ويحوط ذراعيه حولها تنتفض، لم تكن تتصور أن هناك زوجة يمكن أن تكون أسعد منها، أو أن زوجها يحبها أكثر مما يحبها عشماوي. نعم، عشماوي يحبها، هذا شيء أكيد، وهو يبذل كل جهده ليمنحها السعادة كل جهده.
وبقيت كلمة «كل جهده» مكورة في حلقها كالغصة، إحساس مبهم قديم بدأ يبرز من منطقة ضبابية في قاع سحيق من نفسها، كدبوس ينخر في رأسها لتخرج فكرة غريبة لم تخطر ببالها، عشماوي كان يبذل كل جهده ليرضيها، إرضاؤها كان عسيرا عليه، كان يحاول أن يرضيها رغم إرادته، رغم رغبته. عشماوي لم يرغبها، لم يحبها أبدا، حتى في أكثر اللحظات نشوة حين يغرقها بالهدايا والحب، بل في قمة تلاحم العشق كان هناك دائما ذلك الإحساس الغامض الراكد في أعماقها يفصل بينها وبينه كلوح من الزجاج البارد، أو كبؤرة صديدية مزمنة؛ لا هي تخرج إلى السطح وتنفجر، ولا هي تموت وتؤكل بكرات الدم البيضاء. لكنها لم تكن تحس بها، استطاعت دائما أن تتجاهلها لتنساها، وأحيانا كانت تنهر نفسها وتتهم جسدها بالجشع والطمع، وأحيانا أخرى لم يكن أي شيء يجدي فتصعد المرارة من مكانها الخفي السحيق ، وتكاد تحس طعمها القابض في جوفها.
وكأنما انقشعت عن ذاكرة خديجة سحابة أو غشاوة، فراحت تتذكر أشياء لم تكن تذكرها، وتلحظ أشياء لم تكن تلحظها، كم من مرة سافر عشماوي في مأموريات مفاجئة، كل ليلة كان يخرج بحجة حضور اللجان، كم من ليلة مرت عليها وهي مؤرقة تتقلب في الفراش وهو نائم إلى جوارها يشخر، وحينما كان يقترب منها بعد كل محاولاتها للإفصاح ويحاول أن يرضيها، لم يكن يرضيها في معظم الأحيان، بل لعله لم يرضها أبدا، كانت توهمه وتوهم نفسها أنها رضيت، لكن جسدها كثيرا ما كان يخونها فيظل متشبثا به مستجديا مستميتا ليبلغ النهاية، فلا هو يبلغها ولا هو يكف عن الطلب، ويظل مشدودا بينهما مصلوبا لا يخلصه إلا الإرهاق والتعب، فيسقط كفرخة مذبوحة يرتعش وينتفض، ثم لا يلبث أن يهمد تماما ويكف عن الحركة.
Bilinmeyen sayfa