ثمن الكتابة
كانت هي الأضعف
نظر ويحفظ
العطش
المقال
حلقة الخيول الدائرية
الصورة
ليس بغلا
الكذب
المربع
الأنف
رجل
الرجل ذو الأزرار
هؤلاء
لا أحد يقول لها ...
بلد غير البلد
ثمن الكتابة
كانت هي الأضعف
نظر ويحفظ
العطش
المقال
حلقة الخيول الدائرية
الصورة
ليس بغلا
الكذب
المربع
الأنف
رجل
الرجل ذو الأزرار
هؤلاء
لا أحد يقول لها ...
بلد غير البلد
كانت هي الأضعف
كانت هي الأضعف
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا . - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
كانت هي الأضعف
الأصبع الأوسط من دون أصابع يده اليمنى؛ فليس هناك أصبع آخر يصلح، الأصبع الصغير أرفع من اللازم، والإبهام أتخن من اللازم، السبابة ظفرها ميت لا ينمو بعد أن فرمته الفأس، والظفر مهم، ربما أهم من الأصبع؛ فهو الذي سيشق الطريق. وقد ألح على أمه أن يستخدم شيئا آخر أكثر صلابة كبوز العصا الخيزران، لكن أمه زغدته في كفته بأصابعها القوية فتدحرج على الأرض وعجز عن البصق، فلعق التراب بلسانه وهو يتأمل قدمي أمه الكبيرتين تدبان بقوة، وجسدها الفارع المدكوك يهز الأرض، وأصابعها الطويلة الصلبة تلتف حول الفأس وترفعه إلى أعلى كما لو كان عود ذرة جافا، ثم تهوي به إلى الأرض لتشجها كالبطيخة.
قوية كالثور، تحمل على رأسها حمولة أكثر مما تحملها الحمارة، وتعجن ماجور عجين وتكنس وتطبخ وتعزق وتحمل وتلد ولا شيء فيها يكل أو يمل ... رغم أنها أمه التي صنعته من لحمها وشرب من دمها، لكنها احتجزت لنفسها القوة ولم تورثه غير القبح والضعف.
هذه الرغبة العنيفة في أن يلتصق بأمه ويضع رأسه في صدرها ويشم رائحة جسدها لم تكن حبا؛ كان يريد أن يمتزج بها مرة أخرى لتلده مرة أخرى بعضلات أكثر قوة، كان يريد أن يسحب من أنفاسها شيئا من القوة. حين كان يقبلها لم يكن يريد أن يقبلها، ولكنه يريد أن يعضها ويأكل لحمها المدكوك قطعة قطعة، ولكنه لم يكن يستطيع، كل ما كان يستطيعه هو أن يدفس رأسه في حجرها ويكرهها، وأحيانا يبكي، وأحيانا يهرب. تسلل يوما من الحقل آخر النهار، ووضع ذيل جلبابه بين أسنانه، وظل يجري حتى دخل في أرض لا يعرفها وحوطه الظلام من كل جانب، وسمع عواء ذئب من بعيد، فاستدار عائدا جريا إلى داره. ومرة سرق من جراب أمه قطعة من ذات الخمسة القروش، وركب قطار الدلتا ونزل في قرية لا يعرف اسمها، أخذ يسير في شوارعها حتى عوت معدته والتهبت شقوق قدميه، فقطع تذكرة وعاد بالقطار إلى قريته. ومرة سرق قطعة من ذات العشرة القروش وذهب متخفيا إلى حلاق الصحة ووقف أمامه يلهث. - «انطق يا ولد عاوز إيه؟»
وشد لسانه الجاف من سقف حلقه وأخفى أصابعه في جلبابه: «صوابعي ...» - «مالها!» - «مش بتمسك الفاس زي أمي.»
وزغده الرجل في كتفه: «وهو ده عيب يا وله، روح خلي أمك توكلك رطل لحمة وانت تبقى زي الحصان!»
وبكى في حجر أمه الفسيح حتى اشترت له قطعة من اللحم أكلها عن آخرها، وشرب وتجشأ وهو يشعر بدفء ممتع يسري في أصابعه، فقبضها وبسطها وثناها وفردها سعيدا بقدرته الجديدة، لكنه شعر بجفنيه يثقلان، فأغمض عينيه وراح في نوم عميق، ثم استيقظ بعد يومين ليجري وراء الجدار حيث تسربت في أمعائه بقايا اللحم، وتسربت معها القدرة الجديدة.
ولكن لا بد من حل، إن في رأسه عقلا يشتغل، وهو أذكى رجال القرية؛ فهو يقرأ لهم الجرائد، ويكتب لهم الخطابات، ويحل مشاكلهم، ويخطب الجمعة حين يغيب الإمام، ولكن عقله وذكاءه لن يشفعا له؛ فالرجل عندهم جسد قوي وليكن له رأس بغل.
عقله يشتغل لكن عضلاته تتهدل، والأيام تمر واليوم الملعون يقترب، وكل الطرق يجربها ولا تنفع، فيغلق باب القاعة الخلفية على نفسه ويقف يمرن عضلاته، يقبض أصابعه ويثنيها ويفردها ويطرقعها، كل ليلة يتمرن، وأصابعه تنقبض تارة وتلتوي تارة أخرى ثم تسقط.
وحل اليوم، ورأى أمه قبل الفجر تكنس القاعة وترشها، وترص الدكك الخشبية أمام الدار، وحاول أن يتناوم أو يتماوت، لكن أمه زغدته في كتفه بأصابعها المعهودة فانتفض على قدميه، وبدأت وفود الناس تملأ صحن الدار؛ رجال يحملون العصي ويتصارعون ويرقصون، ونساء يرتدين الجلابيب الملونة ويغنين ويزغردن ويقذفنه بأشياء تلسع قفاه، وهو مسمر في الأرض ببلغة جديدة ناشفة تحك أصابع قدميه، وحول عنقه كوفية جديدة يشدها بأصابع متشنجة فيكاد يخنق بها نفسه لولا عضلاته التي تلين كالعجين، وساقاه لا تتحركان وإنما هي دفعات من الخلف ومن اليسار ومن اليمين تجعله يتذبذب، فكأنه يرقص مع الراقصين ويترنح مع المترنحين، إلى أن وجد نفسه على عتبة القاعة، رفع رأسه من فوق صدره ليرى أمامه شيئا عجيبا، شيئا نصفه الأعلى مغطى بشال أحمر كبير، والنصف الأسفل فخذان رفيعتان عاريتان، إلى جوار كل ساق امرأة تقبض عليها بذراعين مفتولين نفرت منهما عروق غليظة.
ظل واقفا على عتبة الباب عيناه تزغللان، وفمه يحاول أن ينفتح ليصرخ، لكن شيئا لا يخرج من بين شفتيه إلا لعابه الذي يجري من زاوية فمه دافئا ناعما كذيل حية لا تعض.
وشعر بأصابع قوية تشبه أصابع أمه تضغط على كتفيه وتجلسه على مؤخرته، وأحس بعض الراحة حين افترشت أليتاه الأرض الرطبة المرشوشة، وظل جالسا مغمضا عينيه في شبه غيبوبة، لكن لكزة أخرى في كتفه جعلته يفتح عينيه ليجد نفسه وجها لوجه مع الساقين المنفرجتين، وأشاح بوجهه بعيدا فلمح بزاوية عينه جمهور الرجال والنساء من خلفه محتشدين في صحن الدار، أبطلوا الطبل والزمر والرقص ووقفوا ينتظرون، عيونهم مفتوحة عن آخرها، ترقب باب القاعة في شغف ولهفة. ولكن لا ... لن يمتع أنظارهم بالفضيحة، إنه ليس أبله، بل إنه أذكى رجال القرية؛ يقرأ لهم الجرائد، ويكتب لهم الخطابات، ويخطب حين يغيب الإمام ... ولا بد له أن يخرج إليهم رافعا رأسه كما فعل كل رجال القرية، بما فيهم ذلك الصبي الأبله الذي يتهته ويريل.
وبسط يده اليمنى وشد أصبعه متقدما به بين الساقين، ولكن ذراعه ارتجفت نافضة عنه الأصبع الذي سقط متهدلا كذيل جرو ميت.
ولم يتوقف، ظل يحاول ويناضل، والعرق الغزير يجري في قنوات وجهه ليصب في فمه، فيلعقه بلسانه وهو يختلس النظر إلى المرأتين الجالستين إلى جواره، وكانت كل امرأة منهما منقضة بجسدها على الساق التي من نصيبها، مشيحة بوجهها ناحية الحائط؛ تأدبا من أن تتفرج على مثل هذا المشهد، أو زهدا في شيء تراه كثيرا، أو استنكارا من أن تصنع من نفسها رقيبا على رجولة رجل لحظة زفافه، أو خجلا أو إشفاقا ... أو أي شيء، المهم أنهما لم تكونا تريانه.
وحرك عينيه ناحية الباب في حذر ليكشف جانبا من الجمهور الواقف المترقب، لمح بطرف عينه الرجل العجوز والد العروس واقفا بالباب عيناه تروحان وتجيئان من باب القاعة إلى وجه الناس في قلق وخوف.
وفرك أصابعه في اطمئنان، الحقيقة لا يعرفها أحد، فالمرأتان لا تريان إلا الحائط وصاحب الشأن مستغرق في القلق على شرفه.
لا أحد يعرف الحقيقة، إلا هي، هي؟ من؟ إنه لا يعرفها، لم يرها أبدا، لم ير وجهها ولا عينيها ولا شعرة واحدة من شعر رأسها، أول مرة يراها الآن، وهو لا يرى عروسا، لا يرى أسنانا، مجرد شال أحمر كبير في نهايته فخذان رفيعتان منفرجتان كفخذي البقرة الكسيحة، ولكنها موجودة أمامه تفضح عجزه، وتنصب قائمتها كالفخ لتصيد ضعفه وفشله، وهو يكرهها كما يكره أمه، ويود لو مزقها بأسنانه إربا، أو صب عليها ماء نار فتنهشها.
ومنحته الكراهية ذكاء وكبرياء، فبصق على الأرض في تأفف ومصمص شفتيه في ازدراء، وشد ملامحه مستجمعا قواه، ونهض من مكانه متمهلا، واستدار إلى الباب رافعا رأسه إلى أعلى، مدليا البشكير إلى أسفل، وخطا خطوة بطيئة ثابتة نحو الرجل العجوز، ورمقه بنظرة استعلاء ثم قذف البشكير في وجهه، نظيفا كما كان، مغسولا كما كان، لم تطأه بقعة دم حمراء.
وتهدلت عينا والد العروس في خزي، وانكمشت رقبته حتى التصق رأسه بصدره، وحف به الرجال من كل جانب متآزرين متكاتفين، ثم استداروا جميعا إلى باب القاعة متحفزين ، وظهرت العروس على عتبة الباب ورأسها الصغير من تحت الشال الأحمر منكس في انكسار، ونظرات نارية منذرة ترشقها من كل جانب.
نظر ويحفظ
إنه جالس على المقعد وأمامه الدوسيه الكبير المفتوح، عيناه مفتوحتان لا ترمشان، والقاعة الكبيرة جدرانها بيضاء، وسقفها عال تتدلى منه نجفة بلورية، والمائدة مغطاة بمفرش من الجوخ الأخضر، وفناجين القهوة تصنع فوقها نصف دائرة، يتوسطها فنجان أكبر تغطيه طبقة كثيفة من البن أكثر كثافة من الفناجين الأخرى، وأكواب الماء مثلجة تكثفت عليها قطرات صغيرة من الماء، وجهاز التكييف يزن في أذنيه كنحلة دءوب، وأصوات عالية خشنة، ورءوس تهتز، وتهتز معها دوائر على الجدران هي انعكاسات الضوء على الصلعات، وأمام الفنجان الأكبر ذي الطبقة الكثيفة من البن جسد كبير له رأس أبيض، يتحرك إلى اليمين فتتحرك الرءوس إلى اليمين وتتحرك معها الدوائر، ودخان السجائر يتصاعد في الجو ويلتف حول النجفة في حلقات صغيرة تبتلعها حلقات أكبر.
وهو جالس على المقعد، يرتطم بأذنه اسم «مدحت عبد الحميد» كحجر مدبب، وتتحرك الشفاه المبللة بالقهوة، وتظهر أطراف الأسنان المصفرة بالدخان: «مدحت عبد الحميد كفاءة نادرة.» ويهتز الرأس الأبيض وتهتز الصلعات اللامعة.
ويحاول أن يفتح شفتيه ويحرك لسانه، ولكن شفتيه لا تنفتحان، ولسانه جاف لا يتحرك، ومرارة غريبة ملتصقة بحلقه كالصمغ، إنه يعرف قصة مدحت عبد الحميد وهي مكتوبة أمامه في الدوسيه، ولكن هل يتكلم؟
وبلل شفتيه ببعض الماء المثلج، وأحس بحنجرته وهي تعلو وتهبط وتحتك بجدار عنقه، ما قيمة أن يفتح شفتيه ويقول شيئا؟ إنهم لا ينظرون إليه، يتكلمون أحيانا بلغة لا يفهمها، أياديهم بضة، أظافرها ناعمة نظيفة، وربطات أعناقهم منشاة قوية كالورق الكرتون، وهم يضحكون ويتبادلون النكات، وهو لا يستطيع أن يضحك، مع أنه يضحك بسهولة مع زملائه في المكتب، ومع زوجته في البيت، ولكن هؤلاء لهم هيبة، نظراتهم تأمره بالصمت، تفرض عليه أن يكون من طبقة أدنى.
ولكن اسم مدحت عبد الحميد يخترق رأسه كرصاصة، مدحت عبد الحميد انطلاقة تحطم اللوائح الجامدة، وتتحرك الشفاه الندية والرءوس اللامعة، أيمكن أن يسكت؟ وفتح شفتيه لينطق الكلمات الملتصقة بحلقه كالصمغ، والمرارة يمتصها جوفه ويمتلئ بها، وتضغط على عضلات بطنه وصدره فيشعر بالغثيان، لكنه غثيان عاجز لا يستطيع أن يطرد ما يريد أن يطرد، غثيان لا يشفى إلا إذا طرد الهواء من صدره، وطرد الدم من قلبه، وطرد معهما الكلمات الملتصقة بالدم وانفتح حلقه بكلمات عالقة كالديدان.
وفتح شفتيه نصف فتحة وأخرج من بينهما بعض الهواء الساخن، أيمكن أن تخرج بعض الكلمات؟ ولكن ما جدوى أن يتكلم؟ إنهم أكبر منه، وهم يملكون قوت عياله، ما قيمة أن يدخل معركة خاسرة؟ ما قيمة قطرة في محيط؟ من هو؟ الرقعة الصغيرة في البنطلون ظاهرة، وربطة عنقه متهدلة، وجلد يديه خشن مجعد وهما يقلبان في الدوسيه، وما قيمة الدوسيه؟
ما قيمة الحقيقة المدفونة؟ مدحت بك عبد الحميد سرق أموال الناس ولكن قريبه مرموق، وعبد الغفار أفندي اكتشف السرقة ولكنه كاتب صغير، التحقيق بدأ وطال وطال، وكيل النيابة اختفى وجاء غيره، أوراق ضاعت وأوراق جديدة ظهرت، وانتهى التحقيق وأصبح عبد الغفار أفندي هو السارق.
وتأمل حلقات الدخان الكبيرة وهي تبتلع الحلقات الأصغر، وخفف المرارة المركزة في حلقه ببعض الماء.
أيمكن أن يدافع عن عبد الغفار أفندي؟ لقد وعده قبل أن يدخل القاعة بأنه سيدافع عنه، ولكن ما جدوى الدفاع، الأكبر يأكل الأصغر في الماء، وفوق الأرض وفي الجو، وإذا فتح شفتيه ودافع عن عبد الغفار أفندي فماذا إذن يكون دور الآلهة؟
وهو ليس إلا موظفا في الدرجة الثانية، له زوجة وتسعة أولاد، كل شهر يؤجل شراء البدلة، وقوته تضعف مع الزمن، وبنطلونه يتهدل، ومع ذلك فكيف سينظر في عين عبد الغفار أفندي بعد الجلسة؟ وكيف سينظر في أعين كل الناس؟ إنهم ينتظرونه خلف باب القاعة، لقد وعدهم بأن يقول الحقيقة، وهز يده في ضيق، لماذا يطلبون منه المعجزات؟ إنه ليس إلها؟ وحرك رأسه باستخفاف، وما قيمة هؤلاء الناس؟ إنهم لا يملكون قوت عياله، إنهم لا يملكون إلا نظرات اللوم والعتاب.
وما جدوى نظرات اللوم والعتاب؟ إنها لا تنتزع اللقمة من فمه، ثم لماذا يقول الحقيقة وحده؟ لماذا هم لا يتكلمون، لا يصرخون، لا يثورون؟ إنهم كثرة، إنهم أغلبية، ولكنهم مشتتون بغير رباط، عصا رفيعة من الخيزران تخيفهم، وكلمة معسولة ترضيهم.
ومد يده إلى فنجان القهوة وابتلع رشفة، والتقطت أذناه اسم عبد الغفار أفندي من الجو، تلفظه الشفاه الندية كبصقة لزجة، الكاتب الصغير الذي خان سيده، هذا الصنف لا أمان له، هذا الصنف لا أصل له، هذا الصنف تربى في الأزقة.
وصعد الدم إلى رأسه: ما دخل الأزقة في السرقة؟ هو أيضا تربى في الأزقة، وليس له أصل، ليس له أقارب لهم وظائف محترمة، وليس له قريب واحد مرموق، ولكنه لم يسرق أبدا، ثلاثون عاما مضت منذ عين في وظيفته وكان يمكن أن يسرق لو أراد، أموال الناس كانت تحت يديه، وحين مرض ابنه الصغير واستدان ساوره الشيطان لحظة، لكنه استعاذ بالله منه وطرد الفكرة من رأسه.
وتساءل بينه وبين نفسه: لماذا سرق مدحت بك عبد الحميد، وكان يملك عربتين وعمارة وليس له إلا ولدان، لعله مرض أعوذ بالله، أو لعله العين الفارغة التي لا يملؤها إلا التراب.
وسمع الأصوات من حوله تخفت، ورفع رأسه ورأى رأس الأبيض يتحرك، واليد البضة الناعمة تمسك القلم وتكتب القرار الأخير، مدحت عبد الحميد بريء، وتعلقت عيناه بسن القلم، وفتح شفتيه كأنه يلهث، وسمع صوته كحشرجة: «لحظة واحدة يا أفندم.»
وتراجعت الظهور السميكة في استرخاء إلى مساند المقاعد الجلدية، وارتسمت حول الشفاه الندية دوائر كالابتسامات.
ووضع يده في جيبه وأخرج منديله وجفف عرقه، وسمع صوتا غليظا مألوفا يقول: «اكتب عليه: نظر ويحفظ.»
العطش
أرض الشارع الإسمنت تلين تحت قدميها من شدة حرارة الشمس، تلسعها كقطعة حديد منصهرة، فتقفز هنا وهناك، تتخبط كفراشة صغيرة تصطدم بلا وعي بجدران لمبة النور الحارقة، وكان يمكن أن تنحرف إلى الظل في جانب الطريق، وتجلس بعض الوقت على التراب الرطب، ولكن سبت الخضار معلق في ذراعها، ويدها اليمنى مطبقة على ورقة مهلهلة من ذات الخمسين قرشا، تردد بينها وبين نفسها الأشياء التي ستشتريها من السوق كي تحفظها: «نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين قرش، كيلو كوسة بخمسة صاغ، كيلو طماطم بسبعة صاغ، والباقي ثلاثة قروش. نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين، كيلو كوسة بخمسة صاغ، كيلو طماطم بسبعة صاغ، والباقي ثلاثة قروش. نص كيلو لحم ب ...»
وكان يمكن أن تستمر في العد حتى تصل إلى السوق كالمعتاد كل يوم، ولكن عينيها لمحتا فجأة شيئا غريبا، شيئا لم يخطر على بالها قط، وتغلب الدهشة على سخونة الأرض فوقفت تحملق، عيناها مفتوحتان وشفتاها متدليتان، كانت هناك حميدة بلحمها ودمها، تقف أمام الكشك وفي يدها زجاجة كازوزة مثلجة، ترفعها إلى فمها وتشرب منها.
لأول لحظة لم تعرف أنها حميدة، كانت تراها من الخلف وهي واقفة أمام الكشك ولم تتصور أنها حميدة، قد تكون إحدى البنات اللاتي تراهن كل يوم أمام الكشك يشربن الكازوزة، البنات أولاد الناس، اللاتي يلعبن بالكرة والحبل، ويذهبن إلى المدرسة ولا يشتغلن في البيوت، مثل سعاد ومنى وأمل ومرفت وكل صديقات ستها الصغيرة سهير.
كانت تظن أنها إحدى هؤلاء البنات، وكانت ستمضي في طريقها، ولكنها لمحت سبت الخضار، لمحته وهو يتدلى من ذراعها وهي واقفة أمام الكشك، ولم تصدق عينيها فدققت النظر ورأت خصلات شعرها الأكرت تتدلى على قفاها من تحت المنديل الأبيض، هذا هو منديل رأس حميدة، وهذه هي ذراعها يتدلى منها سبت الخضار، ولكن أيمكن أن تكون حميدة حقا؟
وأخذت تفحصها من الخلف فحصا دقيقا، ورأت كعبيها المتشققين يبرزان من الشبشب البلاستيك الأخضر، هذا هو شبشب حميدة الأخضر وكعباها، ورغم كل ذلك لم تستطع أن تصدق، وأخذت تفحصها من جميع الزوايا: من الشمال ومن اليمين، وفي كل مرة ترى شيئا لا يمكن أن يكون إلا لحميدة التي تعرفها: الجلباب التيل الأصفر وفيه شق صغير من الجنب فوق فخذها اليسرى، وفردة الحلق المصدية في أذنها اليمنى، والجرح العميق القديم على صدغها الأيمن، هي حميدة إذن بعينها، بلحمها ودمها، وليست بنتا أخرى بأي حال من الأحوال، ووقفت تتأملها أكثر .
كانت حميدة واقفة أمام الكشك، وفي يدها اليمنى زجاجة كازوزة على سطحها الخارجي تلك النقط المائية الشفافة، لم تكن تشرب بسرعة مثل البنات الأخريات، ولكنها كانت تشرب ببطء شديد، تحوط أصابعها حول الزجاجة تتحسس برودتها في تلذذ، وتظل ممسكة بالزجاجة لحظة، ثم ترفعها في بطء إلى فمها، وتلامس طرف شفتيها بفم الزجاجة، وتلعقه بلسانها ملتقطة كل ما حوله من رذاذ، ثم ترفع ذراعها إلى أعلى قليلا لتميل الزجاجة على فمها ميلا خفيفا لا يسمح إلا برشفة واحدة من السائل الوردي المثلج، وإلى هنا تطبق شفتيها بإحكام شديد محتفظة بالرشفة في فمها بعض الوقت، لا تبتلعها دفعة واحدة، ولكنها تمتصها على مهل حتى تتلاشى في فمها إلى آخر قطرة فيها، مستمتعة أشد الاستمتاع، ملقية برأسها إلى الخلف بعض الشيء، وعضلات ظهرها مسترخية متكئة في راحة على جدار الكشك الخشبي.
إلى هنا لم تستطع أن تقاوم، وكانت قد اقتربت بلا وعي شيئا فشيئا من الكشك ووقفت تحتمي في ظله من الشمس.
فجلست على الأرض ووضعت سبت الخضار إلى جوارها، وعيناها معلقتان تراقبان اللقاء الحار بين شفتي حميدة وفم الزجاجة، ثم الرشف وعملية المص البطيئة، وما يعقبها من استمتاع واسترخاء. وكان التراب ساخنا يلسع ردفيها النحيلين من خلال الجلباب الدمور البالي، ولكنها لم تهتم، كل ما يهمها أن تظل ترى، أن تظل تتابع حركات حميدة حركة حركة بعينيها وأعضائها، فتثني رأسها إلى الخلف كلما ثنت حميدة رأسها إلى الخلف، وتفتح شفتيها كلما فتحت حميدة لسانها، ولكن حلقها جاف ليس فيه قطرة لعاب واحدة، ولسانها ناشف يروح ويجيء ويرتطم بجدران حلقها كالعصا الخشبية، والجفاف يمتد من حلقها إلى زورها ويغوص حتى معدتها، جفاف غريب فظيع لم تشعر به من قبل، كأن الماء تبخر فجأة من كل خلايا جسمها، من عينيها ومن أنفها ومن الجلد الذي يغطي كل أجزائها، جفاف وصل إلى عروقها وإلى الدم الذي يجري فيها فجففه أيضا، وشعرت بآلام حرق في جوفها وتحسست جلدها فشعرت به سميكا جافا مجعدا كجلد السردينة المجففة ، وشعرت بطعم الملح في فمها مرا كالعلقم لاذعا حارقا، وهي تحاول أن تبحث عن ريقها لتبلل شفتيها المملحتين، ولكن طرف لسانها التهب دون أن يعثر على قطرة واحدة، كل ذلك وحميدة لا تزال أمامها تحيط شفتيها بفم الزجاجة المثلجة، وتمتص خلايا جسدها الكازوزة خلية خلية، وحميدة تحمل في ذراعها سبت الخضار مثل سبتها، وفي قدميها شبشب مثل شبشبها، وعلى جسدها جلباب رخيص مقطوع مثل جلبابها، وهي تشتغل في البيوت مثلها.
وارتخت قليلا عضلات أصابعها المطبقة على الورقة القذرة من فئة الخمسين قرشا، وعادت إلى ذاكرتها الأسطوانة التي كانت تحفظها: نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين، كيلو كوسة بخمسة صاغ، كيلو طماطم بسبعة صاغ ويفضل ثلاثة صاغ ... وثمن زجاجة الكازوزة ثلاثة صاغ، غالية جدا، كانت العام الماضي بثلاثة تعريفة فقط، لو وقع هذا الحادث العام الماضي لكان من الممكن أن تفكر في شراء زجاجة، ثلاثة تعريفة ليست قليلة ولكن كان يمكن أن تدبر الأمر، فالكوسة أحيانا بخمسة ونصف، والطماطم بسبعة ونصف، أما اللحم فلا يمكن أن تزيد عليه تعريفة؛ لأنه بالتسعيرة، والست تعرف التسعيرة عن ظهر قلب، ولا يمكن أن يفوتها شيء، حتى بالنسبة للخضار الذي يتغير ثمنه كل يوم فيزيد أو ينقص تعريفة كانت أيضا تعرف الزيادة أو النقصان يوما بيوم، كأنها تحلم بالتسعيرة كل ليلة، وإذا فرض واستطاعت أن تغالطها في تعريفة الكوسة وتعريفة الطماطم، فمن أين لها بالتعريفة الثالثة؟ ليس من السهل أن تدعي أنها ضاعت منها؛ فهذه لعبة لا تخيل على الست الناصحة ذات الصفعات القوية، كما أنها ستلجأ في كل هذا إلى الكذب، والكذب أخو السرقة كما تقول لها أمها: «اوع يا بت يا فاطمة تمدي إيدك على قرش، السرقة يا بنتي حرام وربنا يحرقك في النار ...»
كانت تخاف من النار، كيف يمكن أن تشتعل النار في شعرها ورأسها وجسمها، وإذا كانت لسعة عود الكبريت تؤلمها، فما بال النار تلتهم كل جسدها؟ لم تكن تتصور هذه النار، لم تعرفها، لم تشعر بها، الذي تشعر به هو تلك النار الأخرى التي تحرق جوفها، نار الجفاف والعطش، نار لا يطفئها شيء سوى بعض رشفات من زجاجة الكازوزة، والكشك إلى جوارها تستطيع أن تلمس جداره بكفها، وحميدة أمامها تشرب زجاجة الكازوزة، ولكن كيف تحصل على الثلاثة قروش، أسهل شيء هو أن توزعها بالتساوي على اللحم والكوسة والطماطم، تزيد قرشا على كل منها، كلام أمها لا معنى له الآن، النار التي تهددها بها لم تعرفها، لم تر أحدا يحترق بها أمامها، ربما لا تكون هناك هذه النار، وإذا كانت موجودة فهي بعيدة جدا عنها، بعيدة بعد الموت، وهي لا تعرف متى تموت، ولا تتخيل أنها ستموت يوما.
ونهضت من جلستها تنفض التراب عن جلبابها، ووقفت تتطلع إلى حميدة وهي تفرغ آخر جرعة من الكازوزة في فمها، وتضم شفتيها حول فم الزجاجة لا تود أن تفارقها، وشد الرجل الزجاجة من يدها فتطبع عليها قبلة وداع طويلة قبل أن تنتزعها إلى الأبد من بين شفتيها، ثم تفتح يدها اليسرى في حرص وتعد ثلاثة قروش كاملة.
ارتعدت بعض الشيء وهي تقف أمام الكشك في المكان نفسه الذي كانت تقف فيه حميدة، وهبت من داخل الكشك نسمة رطبة تحمل رائحة الكازوزة، ليحدث بعد ذلك ما يحدث، الصفعات القوية لم تعد تؤلمها فقد تعودتها، والنار التي تحرق لم تعد تخيفها لأنها بعيدة، والدنيا بكل ما فيها من آلام ومخاوف لا تساوي رشفة واحدة من الكازوزة المثلجة.
المقال
الدم الأحمر يصعد متهاديا إلى خديه، ويمشي حثيثا في أصابع يديه وقدميه، دافئا مشبعا بالدفء، من النار المتوهجة شديدة الوهج في قلب المدفأة الكبيرة، والقلم البارد بين أصابعه المحتقنة بالسخونة يتأرجح على صفحة بيضاء يروح ويجيء على سطورها الخالية من الحروف، لا يصنع شيئا إلا خطوطا قصيرة مشرشرة.
وقام من كرسي مكتبه وسار إلى المدفأة وجلس القرفصاء أمامها، وقرب القلم منها ليشيع في جسمه البارد الدفء، وجذبت النار بشدة توهجها عينيه، فحملق فيها متفرسا، شاعرا بخمول عجيب يشبه النشوة أو ألذ منها، وتمنى بينه وبين نفسه لو جلس بقية عمره مقرفصا على هذا النحو إلى جوار تلك السخونة اللذيذة التي تسري في كل فقرة من فقرات عظامه، لكن القلم الممدود بين أصابعه ذكره بالمقال الذي لا بد أن يسلمه للجريدة اليوم، فاستجمع إرادته وعاد متثاقلا إلى كرسي مكتبه، ووضع القلم على الورقة وحاول أن يكتب، لكن سن القلم راح يتأرجح مرة أخرى فوق الصفحة البيضاء، ويرسم عليها خطوطا قصيرة مشرشرة كأرجل الصراصير.
واقتحمت ذاكرته في الحال صورته وهو تلميذ صغير جالس في حصة الأحياء، يرسم أرجل الصرصور وشواربه. كان يكره الصرصور، ويكره حصة الأحياء، ويود لو قفز من السور وهرب من المدرسة، لكن عيني أبيه تطلان عليه من فوق صحن الملوخية تقولان له في استجداء: «اتعلم يا ابني لاجل تكون أفندي لك مقام كبير مثل خالك البيه.» وقفزت أمامه صورة خاله وهو يهبط من العربة السوداء الطويلة، ومعه زوجته البيضاء السمينة ومن خلفهما ابنتهما الرشيقة، ثم يسيرون إلى بيتهم المبني بالطوب الأحمر وهم يتطلعون بازدراء إلى العيال الملتفين حول العربة، ويضعون مناديلهم الحريرية البيضاء على أنوفهم ليحولوا بينها وبين عاصفة التراب التي قامت في الزقاق المترب، ويسمع طفلا يهمس في أذنه وهو يشهق: «خالك البيه!» فيرد عليه بنظرة زهو عالية، ثم يجري نحو خاله ويمد له يده الملوثة بالطين والجميز، ويقول له في انبهار وهو يلهث: «حمد الله على السلامة يا خالي البيه.»
ووقع القلم من بين أصابعه وارتطم بالمكتب، وابتسم لنفسه في سخرية، وهو يتأمل أرجل الصراصير المرسومة على الورقة التي شدت من الماضي البعيد هذه الصور ومسح أنفه بطرف منديله الحريري الناعم، لتطرد رائحة العطر الرجالي الثمين أشباح الماضي الأغبر، ورفع رأسه من فوق المكتب ليتأمل اللوحات الفاخرة على الجدران، واصطدمت عيناه بوجه زوجته الكبير على الحائط، وانقبض قلبه وهو يتأمل الملامح الحادة المثلجة، الأنف الممدود إلى أعلى في تحد وقسوة، والشفتان الرفيعتان المشدودتان اللتان لا يعرف كيف يقبلها، والعينان الزرقاوان السليطتان تشوب زرقتهما أرستقراطية مترفعة منفرة، ومصمص شفتيه وهو يتساءل: ما فائدة الملامح في الزواج؟ وبماذا كانت تفيده ملامح خديجة الحلوة؟ وهربت عيناه من عيني زوجته وهبطت على الورقة، وأمسك القلم ليكتب عنوان المقال، وبخط كبير وفي أعلى الصفحة كتب: «طريقنا إلى الاشتراكية»، ووضع تحته خطا عريضا، ثم أخذ يفكر في بداية المقال، وأصابعه ملتفة حول القلم تضغط عليه كأنما لتعتصر منه الكلمات، والقلم بينها يتلوى ويتأرجح على الورقة ليضع خطا ثابتا تحت العنوان أو ليرسم رجل صرصور، وأصابع يده اليسرى تعبث بذقنه وشاربه، تارة تشد شعره، وتارة تتحسس حفرة ...
ومط عنقه إلى الأمام وهز القلم بخفة، ووضع سنه على الورقة، ولكنه أدرك أن الورقة بما عليها من خطوط وأرجل صراصير لم تعد صالحة للمقال، فكورها بيديه وألقاها في سلة المهملات، وفتح درج المكتب ليخرج ورقة جديدة، لكن عينيه التقطتا كتابا صغيرا بعنوان: «نحو الاشتراكية»، فقبض عليه بيديه، وفتحه بسرعة وبرقت عيناه وهو يقرأ، وقد شعر أن الوحي والإلهام ينزلان به، فأغلق الكتاب وقذف به في الدرج، وسحب الورقة البيضاء النظيفة وانكفأ عليها يكتب: «أنا فلاح ابن فلاح فقير ...»
فقير فشطبها وكتب كلمة معدم، وابتسم في رضا وهو يقرأ: «ابن فلاح معدم»، أجل هذه الكلمة أفضل تؤكد للناس أنه رجل له ماض مشرف.
وسخن رأسه بالحماس، وجرى القلم على الورقة يخلع على رأسه أمجادا لا حصر لها من الفقر، ويكيل على رءوس آبائه وأجداده مفاخر لا حد لها من الحرمان والعدم، وزحزحت حمى الحماس دون وعيه غطاء المخزن الغائر في قاع مخه، المغلق على الذكريات الأليمة، وتسربت من تحته صور دفنت بلا وعي في اللاوعي، وتراءت له أمه بجلبابها الأسود المترب وطرحتها السوداء يتكور طرفها الطويل على عدد من كيزان الذرة، وقدميها المشققتين الوارمتين تحت حلقة الخلخال الحديدية، تنتقلان على الأرض في تثاقل وبطء كخفي الجمل المنهك، وهو بجلبابه الزفير المتآكل ينخل تراب الفرن بأصابعه وركبتاه المدببتان تحت صدره، وصوت أبيه المختنق يدب في أذنه: «يشتغل معي في الحقل.» ويرتفع صوت أمه المنبوح: «لا! سيذهب إلى المدرسة.» ثم يتحشرج فمها لتتثاءب فتقفز شفتها العليا كاشفة عن أسنانها البارزة، وعن مساحة كبيرة من لثتها الحمراء فتظهر أمامه في الحال أسنان خاله البارزة ولثته الحمراء وهو يتثاءب، حين يراه جالسا في ركن الصالة الكبيرة يضم ركبتيه الرفيعتين على أطراف سرواله المشرشر، ويضم شفتيه اليابستين على عواء معدته الخاوية، ويزداد معه عواء معدته فيحرف وجهه إلى الجهة الأخرى متظاهرا بالانشغال عن فم خاله بأي شيء، طاويا في أعماق نفسه شحنات غير محدودة من الكراهية لخاله الذي يجلس على الأريكة الطرية ويتثاءب كالثور الملكوم، ولزوجة خاله التي تتلكأ في الخروج من المطبخ لتدعوه للعشاء، وتسير وساقاها ملتصقتان كالبقرة الحبلى، ولأبيه الغبي الذي لم يحسن في الحياة شيئا سوى عزق الأرض، ولأمه التي حملته دون النساء في بطنها الخاوي فأورثته القبح والفقر، ولكل الناس الذين ينامون على الأسرة ويدخلون المدارس ويدفعون المصاريف، ثم يأكلون بعد كل ذلك حتى يشبعون.
كان يكره كل شيء، يكره المذاكرة، ويكره المدرسة، ويكره التلاميذ، ويكره الشتاء، ويكره الريح الباردة التي تدخل إليه طول الليل من شقوق الجدران، ويكره النهار، ويكره الشمس التي تكوي رأسه طول الصيف، ويكره البواب الذي يطالبه بأجرة الحجرة كل شهر، ويكره السكان الذين يعيشون في شقق محكمة، ويكره المرأة السمراء النحيلة التي تسكن الحجرة الخشبية ويكره طبيخها البايت، ويكره فحيحها البارد تحت عنقه وهي تهمس في أذنه بكلمات قبيحة.
كان يكره كل شيء حتى نفسه والرائحة العطنة الراقدة في ملابسه، وجسمه العنيد الذي ينز دائما بذلك العرق اللزج، وأصابع قدميه المدببة التي تطل دائما من الحذاء، ونظرات الكراهية الصفراء التي تطل دائما من عينيه في المرآة الصغيرة المشروخة، ومعدته الشرهة التي تلتهم في لحظة خاطفة الرغيف والعشر طعميات ثم تنقبض على نفسها الفارغة وتعوي كالذئب.
كان يكره كل شيء وأي شيء ما عدا تلك اللحظة الباهرة العجيبة التي يتكور فيها حول الرغيف والعشر طعميات الساخنة يتشممها ويلعقها بلسانه، ثم يحتويها في فمه ويمصها مصا حتى تذوب في جوفه السحيق وتتلاشى.
وانفرجت شفتاه بلا وعي وفرت من بينهما قطرة لعاب دافئة لم يستطع أن يدركها بطرف لسانه، فسقطت على الورقة تحت يده، وشدت إليها عينيه فمصمص شفتيه بازدراء وهو يقرأ كلمات الفقر والعدم التي كتبها، وكور الورقة في يديه، وألقى بها في سلة المهملات، ثم سحب ورقة جديدة نظيفة وكتب وقلبه ينوء بثقل كبير:
الاشتراكية هي ألا تندفع الريح من شقوق الجدران طول الليل، وألا تسقط الشمس على الرءوس طول النهار، وألا تخرج أصابع الأقدام من الأحذية، وألا تتكدس في أحشاء الناس الكراهية.
وتوقف القلم بين أصابعه، وعاد ينظر إلى الجملة الأخيرة يقرؤها ويتأملها: ألا تتكدس في أحشاء الناس الكراهية؟ وتساءل بينه وبين نفسه: بماذا يكافح الناس إذا لم يكدسوا في أحشائهم الكراهية؟ وأي شيء غير الكراهية علمه الكفاح والإصرار على النجاح؟ وأي شيء غير الكراهية ألهب إرادته، وطرد النوم، وخنق الغريزة، وسلب من خلايا عقله وجسمه استرخاءها ولو للحظة واحدة عابرة؟ أي شيء غير الكراهية؟ وامتدت يده إلى الورقة تكورها وتلقي بها في السلة وتسحب ورقة أخرى نظيفة.
ولكن القلم راح يتأرجح مرة أخرى على السطور الخالية من الحروف يضع الخطوط الصماء، أو يمارس هوايته الأصلية في رسم الصراصير المشرشرة، والكلمات لا تريد أن تخرج، كأنه لم يكتب أبدا، مع أنه كثيرا ما كتب، وكثيرا ما ملأ الصفحات في المجلات والصحف؛ أن يضع الكلمة بجوار الكلمة، والجملة بجوار الجملة، لم يكن أبدا عسيرا عليه، إن اسمه طويل عريض يحتل عرض الصفحة، وإن ثقافته واسعة ممتدة من المدرسة الإلزامية إلى ماجستير حقوق، وهو يحفظ عددا كبيرا من الكلمات المثقفة والمصطلحات الجديدة. ومط عنقه إلى الأمام في اعتداد وثقة، وتعجب كيف ضيع كل ذلك الوقت في كتابة كلمات سوقية بسيطة يكتبها أي شخص لم يحصل من الثقافة ما حصل، ولم يحفظ من المصطلحات ما حفظ.
وحوط القلم بأصابعه في ثقة وضغطه على الورقة وكتب:
إن المرحلة الثورية التي نجتازها تتطلب الجمع بين الأيدولوجية المتبلورة الأصلية والعمل التطبيقي في إطار القوانين العامة للعالم المنطلق نحو آفاق المستقبل الاشتراكي.
ووضع القلم على المكتب ومسح أرنبة أنفه بالمنديل الحريري تفوح منه رائحة العطر الرجالي الثمين، وتأمل الكلمات التي كتبها وهو يمط عنقه إلى الأمام في زهو، وتثاءب وفرد ساقيه وذراعيه وتمطى في ارتياح، ونظر إلى الساعة ثم طبق الورقة بسرعة ووضعها في جيبه، ونزل إلى الشارع، ورأى الصبي الصغير يجري إلى العربة الطويلة ليفتح الباب، ودخل إلى العربة وجلس ليدير المحرك، ورأى الصبي الصغير يلمع زجاج العربة بحماس ثم يقف في عرض الشارع ليراقب المرور حتى هدأ، وأشار له أن يسير مقبلا نحوه باسطا يده، فضغط على دواسة البنزين بقوة وانطلقت العربة كالسهم في الشارع الواسع.
وفي المرآة الصغيرة التي أمامه رأى الصبي الصغير يتراجع إلى الوراء ويده لا تزال مبسوطة إلى الأمام، وفي عينيه نظرات يعرفها، نظرات ظلت تطل إليه سنين طويلة من مرآته الصغيرة المشروخة.
حلقة الخيول الدائرية
الشبه كبير بينها وبين الخيول، لكنها ترفع قائمتيها الأماميتين إلى أعلى فتبدو وكأنها تدور على قائمتين اثنتين، وفي الوسط واحد منها، لماذا هو بالذات في الوسط؟ إنه لا يختلف عنها، القائمتان الأماميتان مرفوعتان إلى أعلى فلا تلمسان الأرض، بل ترتفعان فوق الركبتين وتتدليان على الجنين كاليدين، هو تماما مثلها، لكنه في الوسط، في مركز الدائرة، ولا أحد يقترب منه، الكل يدور في المحيط الخارجي، وجهه ناحيته ينظر إليه ولا يرمش، يقف حين يقف، ويدور حين يدور، ويهز رجله حين يهز رجله، ويطرقع بحافره حين يطرقع، ويميل بمؤخرته إلى اليمين أو الشمال فيميل.
والمتفرجون جالسون في مقاعدهم، الصفوف الخلفية ترى ظهور الصفوف الأمامية، والصفوف الأمامية ترى ظهور الخيل، الكل لا يرى إلا ظهورا، والظهور مقوسة تظهر منها فقرات العمود الفقري واضحة ومدببة تؤلم العين، وحركة الدوران تؤلم العين، والمقاعد الخشبية تؤلم الفخذين، والملعب كبير واسع مستدير بغير سور يمنع الهواء البارد.
الهواء البارد يطرد النوم، والمتفرجون ينفخون في أيديهم ليدفئوها، والحوافر تصطك بالأرض، الصوت المنتظم يتبع الحركة، والحركة على شكل دائرة. الكل في المحيط الخارجي، وواحد فقط في الوسط، واحد فقط لا يختلف عن الكل، فالقائمتان الأماميتان مرفوعتان إلى أعلى متدليتان على حافة البطن بلا عمل، والقائمتان الخلفيتان هما فقط اللتان تدوران كالخيول تماما حين ترقص أو حين ترفس، لكنها ليست خيولا، فالوجوه ملوية ناحية الوسط والظهور ناحية المتفرجين، والمتفرجون سئموا منظر الظهور وغلبهم النوم فوق المقاعد الخشبية لولا الهواء البارد الذي يلفحهم.
الصورة
كان كل شيء يمكن أن يستمر كما كان في حياة نرجس، لولا أن يدها اصطدمت صدفة بظهر نبوية فارتطمت أصابعها بكرة طرية من اللحم، ورأت عيناها المندهشتان بروزين صغيرين يهتزان تحت جلبابها مع اهتزازات ذراعيها وهي تغسل أمام الحوض، لأول مرة تكتشف أن لنبوية ردفين، نبوية التي جاءت إليهم من البلد العام الماضي خادمة صغيرة جسمها ناحل كعود الذرة لا تكاد تعرف ظهرها من بطنها، ولولا اسمها نبوية لظنت أنها ولد.
ووجدت نرجس نفسها أمام المرآة في حجرتها، واستدارت حول نفسها أمام المرآة، واتسعت عيناها في دهشة حين رأت بروزين صغيرين يهتزان تحت الفستان، وامتدت يدها في استطلاع تستكشف ظهرها، واصطدمت أصابعها المرتجفة بكرتين طريتين من اللحم! هي أيضا نما لها ردفان؟!
ورفعت فستانها من الخلف لتكشف عنهما، ولوت رأسها لتراهما من الناحية الأخرى، لكنهما كانا يدوران مع جسمها ويختفيان وراءها، وحاولت أن تثبت نصفها الأسفل أمام المرآة وتدور بعينيها دورة كاملة حول جسمها، لكنها لم تستطع، كان رأسها يلف فيلف معه نصفها الأعلى، وكلما دار نصفها الأعلى دار معه نصفها الأسفل، وشعرت بشيء من الاستغراب أنها لا تستطيع أن ترى نفسها من الخلف، على حين أنها تستطيع أن ترى نبوية من الخلف، وخيل إليها في تلك اللحظة أنها اكتشفت محنة جديدة للإنسان؛ ذلك أنه لا يستطيع أن يرى جسمه الذي ولد به، والذي يحمله معه في كل مكان وفي كل وقت كما يستطيع أن يرى أجسام الآخرين.
وخطرت لها فكرة سريعة أن تذهب إلى المطبخ وتطلب من نبوية أن تنظر إلى ظهرها، ثم تصف لها ردفيها بدقة؛ ما شكلهما؟ هل هما مستديران أم بيضاويان؟ هل هما يهتزان وهي واقفة أم حين تسير فقط؟ هل هما بارزان وملفتان للنظر أم أنهما لا يلفتان النظر؟
وهمت أن تذهب لكنها توقفت، أيمكن أن تطلب من نبوية مثل هذا الطلب؟ نبوية الخادمة التي لم تكن تبادلها الكلام، كانت تصدر إليها أوامر أبعد ما تكون عن الكلام، وكانت إجابات نبوية بحاضر أو نعم أبعد ما تكون عن الإجابات، وإنما هي ردود فعل تلقائية تتتابع بانتظام بنفس السرعة ونفس الدرجة من الارتفاع كذبذبات الآلة سواء بسواء.
وشعرت بشيء من الغيظ وصممت على أن ترى ظهرها بنفسها، فشدت فستانها فتعرت تماما من الخلف وثبتت قدميها في الأرض، ولوت رأسها ودارت بعينيها حول جسمها، لكن رأسها ما لبث أن توقف عن الحركة ولم تكمل عيناها الدورة حول نفسها، وشدت عضلاتها بقوة وحاولت أن تلوي رأسها مرة أخرى، وبينما هي تدور برأسها أمام المرآة وقد تعرى ظهرها عن آخره، اصطدمت عيناها بعيني أبيها فارتجفت، كانت تعرف أنهما ليستا عينيه الحقيقيتين، وإنما هي صورته المعلقة على الجدار، لكن جسدها الصغير ظل يرتجف حتى شدت الفستان وغطت ظهرها، ولم تستطع أن تحول عينيها عن عينيه، كانت تريد أن تراهما بما فيه الكفاية وأنها تريد أن تراه أكثر، ثلاثة عشر عاما منذ ولدت وهي تراه كل يوم من الخلف فقط، حين يكون ظهره ناحيتها تستطيع أن ترفع عينيها وتتأمل قامته الطويلة العريضة، لم ترفع عينيها في عينيه مرة واحدة، ولم يحدث أن بادلته النظرات أو الكلام، إذا نظر إليها أطرقت، وإذا وجه إليها كلاما لم يكن كلاما وإنما توجيهات وأوامر ترد عليها بحاضر أو نعم في تتابع آلي وطاعة عمياء؛ حين أمرها أن تترك المدرسة وتبقى في البيت، تركت المدرسة وبقيت في البيت، وحين أمرها ألا تفتح النوافذ لم تفتح النوافذ، وحين أمرها أن تتوضأ قبل أن تنام لتحلم أحلاما شريفة، أصبحت تتوضأ قبل أن تنام وأصبحت تحلم أحلاما شريفة.
وظلت عيناها مشدودتين إلى عينيه، تريد أن تنظر إليه ولا تطرق، أن تثبت عينيها في عينيه وتراهما وتعرفهما وتألفهما، لكنها لم تستطع، كانت هناك مسافة دائما تبعد عينيها عن عينيه فلا تستطيع أن تراهما عن قرب رغم أن أنفها كاد يلامس الصورة، وبدا لها وجهه كبيرا وأنفه ضخما مقوسا وعيناه غائرتين واسعتين تكادان تبتلعانها، وأخفت وجهها بيديها، وعاد إلى ذاكرتها المكتب الكبير، ومن خلفه ارتفع أنف أبيها المقوس من بين الأوراق الكثيرة، يتطلع من حين إلى حين إلى ذلك الطابور الطويل من الناس الذين وقفوا أمامه وعيونهم شاخصة إليه في استجداء وخشوع، ويهتز رأسه الكبير بين أكوام الورق، وتلتف أصابعه الطويلة الغليظة حول القلم ويجري به على الورق في سرعة شديدة، وتضم ساقيها الرقيقتين الصغيرتين وهي جالسة في الركن وتنكمش حول نفسها كاتمة أنفاسها، أيمكن أن تكون ابنة هذا الرجل العظيم؟ وحين كان أبوها يقف ترتفع قامته الطويلة العريضة من وراء المكتب ويكاد طرف أنفه العالي يلامس السقف، ويرتفع رأسها في زهو وهي تسير إلى جواره في الشارع وتكاد ترى العيون كلها متجهة إلى أبيها، والشفاه كلها حين تنفرج إنما هي تنفرج بالدعاء لأبيها، وتكاد أذناها الصغيرتان تلتقطان همسا خافتا يدور دائما بين الناس السائرين في الشارع، هذا هو صاحب الأمر والنهي وهذه هي ابنته نرجس التي تسير بجواره، وحين يجتازان الشارع يمسك أبوها يدها في يده، وتلتف أصابعه الكبيرة حول أصابعها الصغيرة؛ فيخفق قلبها، وتتلاحق أنفاسها، وتميل برأسها لتلثم يده، وما إن تلامس شفتاها يده الكبيرة المشعرة حتى تنفذ إلى أنفها تلك الرائحة القوية، رائحة أبيها المميزة، لا تعرف تماما ما هي، ولكنها تشمها في كل مكان يوجد فيه، وحين تدخل حجرته تشمها في كل أنحاء الحجرة وفي السرير وفي الدولاب وفي الملابس، وأحيانا تدفن رأسها في ملابسه لتشمها أكثر وأكثر، وقد تقبل ملابسه وتلثمها وتركع أمام صورته الكبيرة فوق سريره وتكاد تصلي، ليست تلك الصلاة العادية التي تؤديها بسرعة لإله لم تره أبدا، ولكنها عبادة حقيقية وإله حقيقي تراه بعينيها وتسمعه بأذنيها وتشمه بأنفها، وهو الذي يشتري لها الطعام والملابس، وله مكتب كبير وأوراق كثيرة يعرف كل ما فيها، وقضى للناس حاجاتهم، وفوق كل ذلك يكتب بالقلم بسرعة تخطف البصر.
ووجدت نرجس نفسها راكعة أمام الصورة كأنما تصلي، فنهضت وهي مطرقة إلى الأرض في خشوع، ولثمت يده كعادتها كل ليلة قبل أن تنام، وبينما هي تستلقي على ظهرها احتك ردفاها البارزان بالسرير فسرت في جسدها رعدة لذيذة جديدة، وامتدت أصابعها المرتجفة تتحسس ظهرها. كتلتان مكورتان من اللحم تنحشران بينها وبين السرير، وانقلبت على وجهها ليزول إحساسها بهما وتنام، لكن ردفيها ارتفعا في الهواء ضاغطين بثقلهما على بطنها، وانقلبت على جنبيها لكنهما ظلا يحتكان بالسرير مع كل حركة شهيق أو زفير، وتوقفت عن التنفس لحظة لكن أنفاسها ما لبثت أن تتابعت وتلاحقت بسرعة جعلت جسمها الصغير ينتفض في اهتزازات سريعة ويهز معه السرير محدثا صريرا خافتا، خيل إليها في سكون الليل أنه مسموع وأنه يصل إلى أذني أبيها النائم في حجرته، والذي سيعرف بلا ريب مصدره وسببه الحقيقي.
وارتعدت لهذه الفكرة وحاولت أن تكتم أنفاسها ليكف السرير عن الصرير، وكادت تختنق لولا أن الهواء اندفع بقوة داخل صدرها فارتج جسمها ارتجاجا شديدا، وارتج مع السرير وهو يزعق في سكون الليل بالصرير الغليظ، فقفزت خارج السرير.
وما إن استقرت بقدميها على الأرض حتى كف السرير عن الصرير، ولم تعد تسمع إلا صوت أنفاسها المتلاحقة، التي أخذت تهدأ شيئا فشيئا حتى هدأت تماما، وما إن عاد السكون إلى حجرتها ككل ليلة حتى تذكرت أنها لم تتوضأ قبل أن تنام، وشعرت بشيء من الراحة حين اكتشفت سبب تلك الأحاسيس الآثمة التي تسللت إلى جسدها غير الطاهر.
وبينما كانت نرجس واقفة أمام الحوض تتوضأ وهي تبسمل وتحوقل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، التقطت أذناها صوتا خافتا ينبعث من وراء باب المطبخ، نبوية لم تنم حتى الآن؟ ودفعت باب المطبخ برفق، لكن الباب لم يفتح، ووصل إلى أذنيها الصوت الخافت مرة أخرى، فوضعت أذنها على الباب وسمعت بوضوح صوت أنفاس تتلاحق بسرعة واضطراب، وابتسمت وهي تحس شيئا من الراحة ؛ نبوية مؤرقة مثلها تستكشف ردفيها الجديدين! وتحرك رأسها بغير وعي فوق الباب، فأصبحت عيناها على الثقب ونظرت داخل المطبخ، كانت الكنبة الصغيرة التي تنام عليها نبوية خالية، وأبصرت شيئا يتحرك على أرض المطبخ، دققت فيه النظر، واتسعت حدقتا عينيها وهما تستقران على كتلة عارية من اللحم تتدحرج على الأرض ولها رأسان: أحدهما رأس نبوية بضفائرها الطويلة، والآخر رأس أبيها بأنفه المقوس العالي! كان يمكن في تلك اللحظة أن تسقط على الأرض بعيدا عن الثقب، لكن عينيها ظلتا فوق الثقب وقد التصقتا به التصاقا وكأنما هما جزء منه، وتجمدت نظراتها فوق الكتلة الكبيرة العارية وهي تتدحرج، فيصبح رأس نبوية على الأرض ويرتطم بصفيحة الزبالة ويرتفع رأس أبيها إلى فوق ويخبط في قاع الحوض، ولكن سرعان ما يتبادلان المواقع فيرتطم رأس نبوية بقاع الحوض ويهبط رأس أبيها إلى حيث صفيحة الزبالة. ثم ما لبث أن اختفى الرأسان تماما بين الحلل، ولم تعد ترى إلا أربع أقدام بأصابعها العشرين تنتفض في ارتعاشة سريعة، وقد تشابكت والتحمت بعضها بالبعض في شكل عجيب كأنما هي حيوان مائي متعدد الأذرع أو أخطبوط.
لم تعرف نرجس كيف انفصلت عيناها عن الثقب، وكيف عادت إلى حجرتها ونظرت في المرآة، كان رأسها الصغير ينتفض ويدور حول جسمها في اهتزازات سريعة، واصطدمت عيناها الزائغتان بردفيها البارزين وهما يصاحبان جسمها في اهتزازات سريعة قوية، وامتدت يدها بغير وعي تكشف ظهرها عن آخره وهي ترمق وجه أبيها بطرف عينيها، وكادت الرجفة القديمة تسري في ذراعها فتشد فستانها وتغطي نفسها، لكن ذراعها لم تتحرك، وظلت تحملق في وجه أبيها دون أن تطرق. كانت عيناه الواسعتان جاحظتين، وأنفه المقوس الحاد يشطر وجهه شطرين، وقد التصق بطرفه المدبب العالي خيط طويل من العنكبوت يهتز مع نسمة الليل المتدفقة من خلال الشيش.
واقتربت نرجس من الصورة ونفخت العنكبوت عن أنف أبيها، لكن رذاذ لعابها انتشر فوق الصورة والتصق العنكبوت بوجه أبيها، وحاولت أن تنفخه مرة أخرى لكنه التصق أكثر، وامتدت يداها بغير وعي وبأظافرها الطويلة الحادة راحت تنزعه فعلا، لكنها كانت تنزع معه أيضا ورق الصورة الذي تبلل بلعابها وتساقط من بين أصابعها إلى الأرض فتافيت صغيرة.
ليس بغلا
لم يكن فاقدا للوعي، كان يعرف كل ما يدور حوله، ويرى ويسمع الأصوات واضحة حادة، ربما أوضح من أي وقت آخر، لكنه لم يكن يتحرك، وربما لم يكن يبدو للعيان أنه يتنفس؛ فصدره لا يعلو ولا يهبط. حقيقة، كان صدره لا يعلو ولا يهبط، لكنه كان يتنفس في الخفاء. كيف كان يتنفس في الخفاء؟ كيف كان الهواء يدخل صدره ويخرج دون حركة أو صوت؟ كيف كان الهواء يدخل صدره ويخرج دون أن تهتز الشعيرات الرفيعة على فتحتي أنفه؟ لا أحد يعرف ولا هو نفسه يعرف. أشياء كثيرة أصبح يفعلها دون أن يعرف كيف يفعلها، قوى جديدة غريبة اكتسبتها بعض أعضاء جسمه هكذا بالغريزة دون وعي أو تدرب، الجدار العالي بعد يوم واحد أصبح يعرف كيف يتسلقه، كيف يقفز إلى أعلى قفزة واحدة هائلة ترفعه إلى الطاقة الحديدية، فيمسك فيها بكل قوته ثم يرفع جسمه إلى فوق على عضلات يديه؛ ليطل من بين القضبان على ذلك الجزء الصغير المربع من السماء.
كيف كان جسمه يتمدد وينكمش، ويتصلب ويرتخي، ويختفي ويظهر، وفقا لإشارات أو نظرات أو أصوات معينة، بل كيف كان أن يخرج منه عضو جديد كالأميبا أو وحيدة الخلية إذا لزم الأمر، لا أحد يمكن أن يصدق أن جسمه هذا الذي حمله أكثر من عشرين عاما وعرف ثقله وكثافته وقدراته يمكن أن يتغير بهذا الشكل وبهذه السرعة فكأنه ليس جسمه، كم من مرة وضع الرسالة المطوية بين اللثة والصدغ، ومر من جوار الحارس ناظرا إلى الأمام موحيا إلى جسمه بكل إرادته وبكل غريزة البقاء فيه ألا يرى فلا يرى.
لم يكن غريبا إذن أن يتنفس وصدره ساكن، ويسحب الهواء دون أن تهتز شعيرات أنفه، فهذه هي الوسيلة الوحيدة التي تجعله حيا، فما إن يتوقف صدره عن الحركة وتتوقف شعيرات أنفه عن الاهتزاز حتى يتوقف ذلك الصوت الغليظ الذي يدوي في الهواء ثم يهوي مرتطما بشيء صلب. له طراوة اللحم، وله إحساس معين يحسه ويعرفه، ليس ألما مبرحا بل ليس ألما على الإطلاق، وإنما أشبه ما يكون بالضغط أو الشد، وهنا أيضا يكتسب الجسم قدرة خارقة عجيبة، يكتسب القدرة على عدم الإحساس بالألم، كأنما الشومة الغليظة التي ترتفع في الهواء ثم تهوي لا ترتطم بجسمه هو وإنما بجسم آخر منفصل عنه، لكنه قريب منه، قريب إلى حد أنه قد لا يكون منفصلا وقد يكون جسمه هو، ومع هذا التشكك والالتباس والاختلاط يصبح الألم أيضا شيئا مشكوكا فيه، ملتبسا إلى حد الاختلاط بإحساس آخر يشبه الإحساس بالفرح أو اللذة، ويكاد يحس أنه سعيد، وقد يشعر برغبة في أن يبتسم؛ ذلك أن فكرة غريبة خطرت بباله، وهي أن الشاويش هو الوحيد الذي يلهث من التعب، وقد وقف على بعد خطوة منه يتحسس يديه من فرط الألم الذي يحسه بعد ذلك المجهود المضني، وقد يئن أنينا خافتا يختلط بأنفاسه اللاهثة، ويبتسم هو في الخفاء دون أن يحرك عضلات شفتيه، ويرقب الشاويش دون أن يحرك جفنيه، ويتنفس دون أن يحرك صدره بتلك الطريقة الجهنمية التي لم يرد لها وصف في كتب الطب! ولكن كم يجهل الأطباء الجسم الإنساني، إنهم يشرحونه كقطعة من اللحم ويحكمون عليه بحواسهم الخمس العقيمة، أيعرفون شيئا عن تلك الحواس الجديدة أو الأعضاء التي تنبت فجأة؟ وكيف يعرفون وهم لم يعيشوا التجربة الفريدة التي يعيشها هو؟
ورأى الشاويش وهو ينتصب فاردا عضلاته باسطا الشومة أمامه ضاربا على رأسها بيد، ورافعا اليد الأخرى مشدودة الأصابع لترتطم بجبهته، ويظهر الضابط علوي قصيرا سمينا أبيض، وشفته العليا مشقوقة من الوسط لتصنع قناة بين فمه وأنفه كما هو الحال في الجنين في شهوره الأولى؛ حيث لم تتم بعد تلك الحواجز التي تفصل الأعضاء بعضها عن البعض، ويرن في أذنه الصوت الغريب، صوت لا يعرف أهو يفلت من الأنف إلى الفم، أم من الفم إلى الأنف: «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخذ ايه من السكوت ؟» وتتسرب كل قوته وصلابته إلى عضلات شفتيه، وتترك جسده مرتخيا هامدا ممدودا، وتصبح شفتاه كشريطين رفيعين من الصلب الملتهب يطبقهما بكل قوته فتلتحمان ببعضهما بعضا في شفة واحدة عريضة.
الصوت الحاد الأخنف يرن في رأسه، وهو عاجز عن النطق ليس عجزا لا إراديا لعدم القدرة على تحريك اللسان، وليس فقدانا للذاكرة ونسيان مكان المطبعة، وليس تمسكا بمبدأ أو وفاء لعهد أو التزام، فهو لم يعد يذكر تلك المسائل والعواطف البشرية، إنه لم يعد بشرا، أصبح كائنا آخر له جسم آخر وأعضاء أخرى، وهو قادر على النطق، قادر على أن يفتح شفتيه ويقول: «شارع وسط البلد، نمرة 6.» هذه الكلمات لا تزال في ذاكرته واضحة، أكثر وضوحا من أي شيء آخر، بل لا يكاد يكون هناك شيء غيرها في ذاكرته، نسي شكل ملامح أمه، ونسي علم الجيولوجيا الذي قضي سنوات عمره يتعلمه، أفرغت ذاكرته كل محتوياتها ولم يبق إلا تلك الكلمات القليلة: شارع وسط البلد نمرة 6.
ودوى الصوت الحاد الأخنف في رأسه محدثا أصداء غريبة في تجويف رأسه، الذي اتسع وانتفخ فكأنه صندوق كبير مفرغ يكبر الصوت كالميكروفون. «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟» الضابط علوي ذو الشفة الأرنبية المشقوقة لا يمكن أن يعرف ما الذي يمكن أن يأخذ من السكوت، إلا ذلك الضرب المبرح حتى الاقتراب من الموت أو لعله الموت حقيقة، ولكن هناك شيئا آخر لا يعرفه علوي ولا يمكن أن يعرفه لا لنقص في عقله، ولا لأن بعض خلايا وجهه متوقفة في نموها عند مرحلة الجنين في شهوره الأولى، ولكن لأنه شيء غريب جدا، لم يعرفه أحد من قبل وما كان له هو أن يعرفه لولا أنه عاش هذه اللحظة العجيبة التي يعيشها الآن، لحظة ينفصل فيها الجسم عن النفس دون أن يموت أحدهما، لحظة يصبح فيها جسمك وكأنه شيء آخر بعيد عن نفسك، ليس بعيدا جدا ولكنه منفصل عن نفسك بمسافة صغيرة متناهية الصغر، كشعرة رأس أو واحد من الألف من شعرة الرأس، في تلك اللحظة لا يهمك جسمك، فهو ليس جسمك، وألمه ليس ألمك، وبقاؤه ليس بقاءك، وفي تلك اللحظة بل في ذلك الجزء من اللحظة تنشطر غريزة البقاء إلى شطرين، ليسا شطرين متساويين، وإنما أحدهما شطر كبير جدا يخيل إليك أنه هو الكل وليس هناك جزء آخر بعيد، ليس بعيدا جدا وإنما قريب بقرب ذلك الجسد منك، وهكذا يحدث ذلك الشيء العجيب، تكون أنت متكورا على نفسك متقوقعا حولها منتفخا بكل غريزة البقاء فيك، ويكون جسدك هناك على غير بعد منك، عاريا مرتخيا ممدودا، لا يحس بالبرد أو الحر ولا يعرف الضرب من الركل من الزغد من الزغزغة، كل شيء يصبح لديه سواء، كضغط ما يروح ويجيء، ويجيء ويروح، كذلك الضغط الطبيعي للهواء من فوق، وللأرض من تحت، على أي كائن أو جسم.
في تلك اللحظة لا يكون لبقاء ذلك الجسم معنى، يبقى أو لا يبقى سيان، المهم هو نفسك، هو تلك النقطة الهلامية المحسوسة وغير المحسوسة التي يتركز فيها بقاؤك، تلك القطرة السرية المجهولة من الحياة التي تجعلك حيا حتى ولو فقدت إحساسك بوجود جسدك، تلك القطرة التي إذا جفت جفت فيك الحياة وأصبحت ميتا ولو كان جسدك ما زال محسوسا.
لم يكن غريبا أن تتركز غريزة البقاء في تلك القطرة، وأن يتحوصل ويصنع حولها قوقعة صلبة منيعة، قوقعة حديدية تغلق فوهتها إغلاقا غريبا كأنما انصهرت شفتاها الحديديتان وذابتا بعضهما بالبعض، ولم تعد هنالك فوهة أو حتى معالم فوهة، ولكن هل يمكن أن يتخيل تلك القوقعة الحديدية بغير فوهة، وداخلها مساحة صغيرة متناهية الصغر لا تتسع لأكثر من قطرة، وداخلها مساحة صغيرة متناهية الصغر لا تتسع لأكثر من قطرة واحدة، ذابت فيها كل حياته وكل ذاكرته التي نفضت عنها كل شيء وتركزت وتبخرت وتكثفت في قطرة واحدة مقطرة هي المطبعة؟ «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
الصوت الأخنف لا يزال يردد السؤال الغبي الأجوف: «حتاخد إيه من السكوت؟» سؤال غريب، أغرب سؤال سمعه في حياته، سؤال ليس له جواب لأن أحدا لا يعرف الجواب، سؤال لم تستطع البشرية بأكملها أن تجيب عنه حتى الآن، هي التي أجابت على ملايين الأسئلة، وكشفت الملايين من أسرار الأرض والسماء، سؤال بغير جواب، والسؤال نفسه ليس سؤالا، لا يعرف أحد كيف يسأله أو ما الذي يسأله، أو ما الذي يريد أن يعرف بالضبط؛ ذلك أنه يعرف الجواب، ليس تلك المعرفة العادية الواضحة حيث يمكن أن يعرف، ولكنها معرفة مجهولة كعدم المعرفة سواء بسواء. إنه يعرف أن هناك بؤرة صغيرة في مكان منه تتركز فيها الحياة كبؤرة العدسة، صغيرة ودقيقة ولا مرئية، وربما لا موجودة ولكنها محسوسة في مكان ما من نفسه يعرفها ويحسها دون جدوى، كسراب ولكنها ليست سرابا، إنها الحقيقة ماثلة في كيانه كحقيقة وجوده، حقيقة صغيرة متناهية الصغر كذرة أو واحد في الألف من الذرة، يعلقها كل لحظة بذهنه ويختزنها في جوفه ويتقوقع حولها متشبثا بها إلى الأبد، فهي سر حياته وسر وجوده وسر بقائه، عرفها تماما كما عرف نفسه ولم يعرفها أبدا كما لم يعرف نفسه. «المطبعة فين؟ انطق يا مغفل! حتاخد إيه من السكوت؟»
الصوت الحاد الأخنف يزداد حدة ويزداد خنفا، والقوقعة من حوله تزداد سمكا وصلابة، والقطرة في داخلها تزداد أمنا وطمأنينة فترق وتصفو وتشف حتى تكاد ترى الحروف من خلالها واضحة جليلة، «شارع وسط البلد، نمرة 6»، حروف تلمع بلون الرصاص، تلتف وتتشابك، وتغلظ وتنحف، وتنفصل وتتصل، ورائحة الورق حين يسحق بين فكي المطبعة رائحة نفاذة غريبة، لا تدخل إليك من فتحتي الأنف كأي رائحة، وإنما تشق عظام رأسك وتغزو نافوخك بكلمة تعرفها قبل أن تقرأها، وتدور المطبعة في رأسك وتصطك الحروف الرصاصية كالأسنان وتولد الكلمة؛ كلمة وليست إلا كلمة، ولكنها النقطة التي بدأ بها كل شيء، النقطة التي بدأت منها حياته، وامتدت على طول السنين حتى هذه اللحظة التي يعيشها الآن، خيط طويل بدأ بنقطة وما زال ممتدا إلى تلك النقطة الهلامية الصغيرة المتناهية الصغر، التي تلتف حولها نفسه وتحوطها وتحميها كجنين في بطن أمه.
الآن أصبح الشيء أقل غموضا، وأصبح في استطاعته أن يتصور خطا طويلا رفيعا كالشعرة، يبدأ بنقطة تدور حولها المطبعة في شارع وسط البلد رقم 6، وينتهي إلى تلك النقطة الحبيسة داخل نفسه في تلك الصحراء الواسعة الجرداء، حيث لا شيء إلا الشاويش بشومته ذات الرأس الغليظ الأعوج، بصوته الحاد الأخنف. «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
السؤال هو هو لكن الجواب لم يعد مجهولا، إنه لا يستطيع أن يقول إنه عرف الجواب، وإن في إمكانه أن يقول لماذا هو يسكت، وما الذي سيأخذه من السكوت، وما حقيقة هذا الخيط الطويل الممتد ما بين نقطتين مجهولتي الأصل: إحداهما فرضها هو نفسه، والأخرى فرضت عليه كما فرضت عليه نفسه، ولكنه يعلم علم اليقين أن المطبعة لا تزال تدور في تلك الشقة الصغيرة في شارع وسط البلد، تروسها وحروفها الرصاصية تصطك والورق يسحق بين فكيها، وتخرج الرائحة النفاذة تنفذ إلى النافوخ، أيمكن أن يكتشفوا مكانها من الرائحة؟ أيمكن أن تتوقف المطبعة عن الدوران؟ أيمكن أن يفقئوا تلك العين التي يرى بها رغم تلك المساحات الشاسعة بين مكانه في الصحراء ومكانها في وسط البلد؟ أيمكن أن يسحقوا تلك النقطة الأولى التي بدأ بها خيط حياته الطويل المشدود منها إلى نقطة الحياة الحبيسة داخل نفسه؟
أيمكن أن تفوح الرائحة؟ أيمكن أن يفتح واحد فمه ليتنفس أو يلهث أو يئن فتخرج من بين شفتيه مع الهواء كلمات «شارع وسط البلد، رقم 6»؟ أيمكن أن يحدث هذا؟ إن مجرد التفكير في إمكانية حدوثه يزلزل كيانه، في مكانه هو إحدى النقطتين اللتين يشد بينهما الخيط، وبقاؤه هو بقاء هذا الخيط مشدودا بين نقطتيه الاثنتين، الاثنتين معا؛ لأن زوال واحدة معناه انقطاع الخيط وزوال الثانية. «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
الآن فقط يستطيع أن يعرف لماذا يسكت، لماذا لا يفتح شفتيه المطبقتين ويئن ويجعل الكلمات تخرج مع الهواء: «شارع وسط البلد، رقم 6». إن القضية ليست التزاما بمبدأ أو وفاء لعهد ما تجاه آخرين، فالآخرون هنا ليس لهم وجود، إن جسده الذي هو أقرب الآخرين إلى نفسه لا يفصله عنه إلا تلك الشعرة أو الواحد في الألف من الشعرة، لم يعد له وجود، فما بال الآخرين. ولكن القضية أخطر من ذلك بكثير، إنها قضية نفسه، قضية ذاته، بقاء هذه الذات أو عدم بقائها، استمرار وجود ذلك الخيط المشدود يحمل من وسط البلد الماء والهواء إلى ذاته الحبيسة داخل القوقعة، أن يبقى أو لا يبقى هذه هي القضية، والبقاء هنا ليس ذلك البقاء الجسدي، فالجسد لم يعد محسوسا وإنما هو بقاء من نوع آخر، إنه بقاء الخيط مشدودا بين تلكما النقطتين. ما هو هذا الخيط؟ وما هما تلكما النقطتان؟ هذا ما لا يعرفه أبدا.
ولم يعد يسمع الصوت الحاد الأخنف، لا بد أن الضابط علوي سكت قليلا لتستريح حبال صوته، وبدأ يسمع قدمي الشاويش الثقيلتين يصطك حديدهما بالأرض الأسفلت، وسمع صوت الشومة وهي ترتفع في الهواء وتستقر لحظة، ثم تهوي فجأة وترتطم بشيء صلب له طراوة اللحم وكثافته، ولكنه ليس لحما، أو على الأقل ليس لحمه هو بالذات، وإنما لحم آخر لا يبعد كثيرا عنه، ربما لا يفصله عنه إلا مسافة صغيرة جدا متناهية الصغر كشعرة أو واحدة في الألف من الشعرة، ولكنها مسافة على أي حال تفصله عن ذلك اللحم المضروب، لو كان بغلا لمات، ولكنه ليس بغلا، إنه إنسان له عقل يعرف كيف يفكر، وكيف يتغلب على أي قوى، وكيف ينتصر في النهاية، كيف ينتصر ... كيف؟ وهو ليس إلا نقطة واحدة حبيسة، ليست طليقة في الهواء ولا يمكن أن تنطق كالذرة وتنفجر، ولكنها حبيسة داخل قوقعة سميكة صلبة بغير فوهة، كيف تنتصر؟ وعلى أي قوى؟ أي قوى هائلة وساحقة ومبيدة؟ إنه لا يكاد يصدق، لا يكاد يكتم الفرحة، لا يكاد يخفي الزهو، وأي زهو. إنه قادر على الانتصار رغم كل شيء، قادر على أن يمنح المطبعة الدوران، والدوران قادر على أن يجعل الحياة تسري في الخيط الطويل المشدود ما بين وسط البلد ومكانه البعيد في الصحراء ، إنه منتصر، إنه سعيد، ربما يريد أن يرقص.
وها هو ذا الصوت الأخنف يعود مرة أخرى، وها هو ذا يطبق شفتيه الحديديتين المنصهرتين في شفة واحدة، لو فتحوا فمه بمنشار فلن يخرج من حلقه ذرة هواء؛ لأن حلقه هو الآخر أصبح مسدودا بغير فوهة، ولأنه أصبح يعرف كيف يتنفس داخل القوقعة بغير هواء يدخل ويخرج. «أخدت إيه من السكوت يا مغفل؟ زميلك اعترف ... شارع وسط البلد نمرة 6.» إنه الصوت الحاد الأخنف، هو بأنفه المفتوح على فمه، هو الذي يقول «شارع وسط البلد نمرة 6»، هو هو الحاد الأخنف.
لم يعرف تماما ماذا حدث، لكن الصوت دوى في أذنه كالفرقعة، كبالونة كبيرة منتفخة بالهواء انفجرت، كسلك رفيع طويل مشدود انقطع فجأة، ولم يعد يرى الشاويش ولم يعد يسمع الصوت الحاد الأخنف، لم يعد يرى أو يسمع شيئا، ولم يحس أصابع الشاويش الغليظة وهي تلتف حول قدميه وتجره بعيدا إلى حيث لا يعلم أحد.
الكذب
فجأة أصبح عاريا تماما.
لم يعرف كيف خلع ملابسه، لكنه كان يريد أن يضعها أمام أمر واقع، أمام رجل عار. إن العري في حد ذاته كفيل بأن يطور العلاقة بينه وبينها. لم يعد عنده صبر، فالحاضر خطر والمستقبل غير مضمون، ولم يعد عنده وقت، فالشباب أدبر والكهولة تقترب بابتعاده عن الأربعين، ورصيده من القوة أصبح يقل، وكثيرا ما فشل جسده في لحظات تأجج فيها القلب.
كان يتحدث في شيء ما، كان موضوعا جافا، لعله كان علما أو سياسة أو فلسفة، وكانت هي تجلس أمامه مرتدية فستانا حديثا، لم تكن نظرتها مغرية أو مشتهية أو أي شيء من ذلك الشبق الذي تتقنه النساء المحتشمات، بالعكس كانت نظرتها تطرد الرجل أكثر مما تناديه، تطرده بكل عنف وبغير رجعة كما نطرد عن أنفسنا المرض أو الموت أو أي شيء نحس أنه إذا ما انقض علينا فمن المحال ألا يفتك بنا. «نحن مسوقون إلى حقنا، أردنا أم لم نرد.» قال لنفسه هذه الجملة حين لمح نفسه في المرآة عاريا، عشرون سنة عاشها مع أم أولاده الخمسة، زوجة شرعية خجول وعذراء وتعشق الإنجاب بغير أن يتعرى الجسم.
وأشاح بوجهه بعيدا عن المرآة.
فقد اصطدمت عيناه بصدر مشعر كصدر القرد، وبطن عال كبطن امرأة حامل، لم يكن يظن أن بطنه ارتفع إلى هذا الحد. في كل يوم كان يرتفع ارتفاعا قليلا جدا غير ملحوظ، ويضيق البنطلون بسيطا جدا لا يزيد عن مليمتر أو نصف مليمتر، لكنه التراكم؛ تراكم الأيام، مئات الأيام، آلاف الأيام، وتراكمت معها المليمترات بعضها فوق بعض، عشرين سنة.
وكانت هي تجلس وفي يدها الكتاب، كانت تعرف أنه جالس في كرسيه بكامل وقاره يتحدث، فالكلمات تخرج من فمه متتابعة واحدة وراء الأخرى بغير فواصل وبغير سكتات، كأنما كان يمضغ لعابه ثم يفرزه حروفا متلاصقة ممتدة كسائل له قوام، أو كالخيط يتدلى من فمه طويلا وحريريا، لا ينتهي ولا ينقطع، وربما يلتف ويتشابك كالشرنقة، وربما استطاع حرف واحد أن ينفصل من تلقاء نفسه ويتطاير في الجو كذرة مائية أو فقاعة لا تلبث أن تسقط فوق أي شيء صلب.
كانت تنصت إليه، وهو ليس ضيفا عاديا، إنه صديق زوجها منذ سنين كثيرة أكثر من السنين التي جمعت زوجها بأي أحد. وهو رجل مؤدب، تستطيع أن تحس ذلك من عضلات وجهه المشدودة، وتقلص عضلات العنق، والكرافتة المربوطة حول رقبته والمعقودة بشدة، كأنما لا تفك أو لا يمكن أن تفك أبدا، كأنه ينام ويصحو بها، بل كأنه ولد بها، والجاكت ذي الصفين من الأزرار، والبنطلون الضيق المزرر بإحكام، وساقيه المضمومتين وركبتيه المتلاصقتين كما تجلس المرأة ذات الحياء أو الفتاة العذراء. أجل، كانت له عذرية رجل لا يبدو أن خلع ملابسه أبدا، أو أن ملابسه يمكن أن تخلع حتى لو أراد.
ولم يكن وجوده بالبيت وإن غاب زوجها يزعجها في شيء، تتركه يتحدث في كرسيه وتفعل ما تريد؛ قد تكتب، وقد تقرأ، وإذا وقع منها القلم وتدحرج تحت المنضدة فهي تنثني لتلتقطه بغير حرج، فإذا ما قفز فستانها الضيق القصير وتعرت تماما من الخلف لم تنزعج، فهو لا يمكن أن ينظر إليها، وإذا نظر فإن نظرته رفيعة مثقفة، تحط على جسدها بغير ثقل وبغير حرارة كالهواء سواء بسواء، حتى حديثه غير المنقطع لم يكن يزعجها في شيء، بل لعله كان يسليها، فإذا ما غاب فتحت الراديو.
أعطى ظهره للمرآة وظل واقفا، كانت جالسة أمامه على كرسي منخفض وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع الطبيعي الذي تتخذه فخذا المرأة الحديثة حين تجلس، وكانت عيناه تنفذان بينهما بسهولة وتبلغان نهايتهما دون مشقة على الإطلاق، وكان قد انتقل في حديثه من السياسة العالمية إلى أصل الكون، إلى الجبرية في الأديان، لكن عضلات عنقه كانت - وهو يتحدث - تتقلص في شدة محدثة صريرا غريبا يخشى أن يكون مسموعا، فإذا به يتكلم بصوت أعلى مما تقتضيه الآداب الحديثة. كان يشعر بشيء من الحرج، لكن صوته يرن في الصالة ذات الأثاث المودرن ويهز الستائر الشفافة فوق النوافذ هزا رقيقا ناعما يدغدغ أذنيه، فإذا به يعشق صوته ويستشعر في نطق الكلمات لذة كبيرة.
وكان الكتاب لا يزال في يدها، وعيناها على سطر فوق إحدى الصفحات، لم تكن تحرك عينيها من كلمة إلى كلمة. كانت تعشق الكتب بشدة لكن كرهها للقراءة كان أشد، فإذا بعينيها تزحفان كمنقار، وتسري نعومة الورق الفاخر في نعومة أناملها؛ فتستشعر ترابطا حسيا بينها وبين الثقافة.
وظل واقفا وظهره إلى المرآة، إنها لم ترفع رأسها بعد من فوق الكتاب، كل ما حدث حينما انقطع صوته فجأة أن امتدت يدها بغير وعي إلى الراديو فامتلأت الصالة بصوت رصين يتلو القرآن، ربما لو كان برنامجا آخر غير محتشم، تمثيلية مثلا أو قطعة موسيقية، ربما تحرك من مكانه، أما أن يتلى القرآن وبذلك الصوت الوقور، فلم يكن أمامه إلا أن يظل واقفا في مكانه بغير حراك. كان الفصل شتاء - اليوم الأخير من شهر يناير بالتحديد - وبالرغم من النوافذ المتينة المحكمة، كان هناك تيار من هواء بارد متجه إلى عموده الفقري بالذات، وفكر في أن يمد يده ليلتقط شيئا من ملابسه الملقاة تحت قدميه، لكنه خشي إن تحرك أن يلفت نظرها قبل أن تنتهي تلاوة الآيات. استطاع فقط أن يرمق بشيء من الحسرة البلوفر بصوفه الإنجليزي الغالي يشيع الدفء في البلاط، وإلى جواره كانت هناك الكرافتة بربطتها المحكمة المحترمة وذيلها الطويل الرفيع اللامع من السولكا، وإلى جوارها تماما ويكاد يلتصق بها كان هناك سرواله القطني الخشن الضخم، يفضح حجم بطنه وانبعاج فخذيه، يفضحهما بغير شفقة وبغير حياء وبغير مراعاة للآداب العامة.
وانتهت التلاوة، وبدأ يفكر في الحركة التي يمكن أن يبدأ بها، وخيل إليه أن حركة الذراع قد تكون أكثر لياقة من غيرها، ولعله حرك ذراعه فعلا؛ لأن الشعر الكثيف تحت إبطه أصبح ظاهرا للعيان، لكن خلجة واحدة لم تتحرك فيها، كانت لا تزال جالسة تقرأ في الكتاب، وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع العادي الذي تتخذه فخذا المرأة الحديثة حين تستغرقها القراءة، ذلك الاستغراق الطبيعي لأي شخص مثقف، لكنه لم يكن يظن أو لم يكن يدور بخلده أبدا أن الاستغراق مهما بلغ من العمق أو الثقافة يمكن أن يحول بين المرأة وبين رجل عار.
وكانت أذناها قد التقطتا صوت المقرئ، فامتدت يدها بغير وعي وأدارت المسمار بشيء من الرهبة، وبدأ صوت كالهدير يذيع نشرة الأخبار. ربما لو كانت وحدها لامتدت يدها مرة أخرى وأدارت المسمار، لكنها كانت تعرف أنه جالس في كرسيه، عنقه مشدود ومربوط بالكرافتة، ونصفه الأعلى صندوق أحكم إغلاقه بصفين من الأزرار، وساقاه مضمومتان ملتصقتان في احتشام؛ الوضع الطبيعي الذي تتخذه ساقا الرجل الحديث حين يستمع إلى النشرة. وكانت عيناها قد تسربتا من فوق السطر خلسة فوق ذراعها البض الناعم، لكنهما لم تلبثا أن تعثرتا ببضع شعرات نافرات خشنات فتذكرت موعد الحلاقة.
وكان هو قد بدأ يشعر بالحيرة، فما الذي يفعله ليخرجها من ذلك الاستغراق؟ وضع أصبعه في فمه ليصفر كما كان يفعل وهو طفل حاف يلعب في الحارة عاري الأرداف، وربما وضع أصبعه في فمه فعلا لكنه لم يصفر، لم تعد عضلات فمه قادرة على إحداث تلك الأصوات المنافية للذوق العام، وظل واقفا جامدا عاريا كالتمثال، لكن الصمت دب فجأة في الصالة؛ ربما انقطع تيار الكهرباء، ورفعت رأسها من فوق الكتاب فإذا بالصالة غارقة في الظلام، وكادت تصطدم به وهي متجهة إلى حجرة المكتب، لولا أنه تراجع خطوة إلى الوراء، ولما عادت بكتاب آخر كان التيار قد عاد، وكان هو جالسا في كرسيه المعتاد بكامل ملابسه وكامل وقاره.
المربع
كان نائما في تلك المساحة المحددة له بالسنتيمترات، ومن تحته أرض صلبة ناعمة تنفث برودة ورطوبة كبلاط الحمام، ومن حوله من كل جانب كتل من اللحم، طرية وساخنة ولزجة، مختلفة الأشكال والأحجام، أذرع وأرجل ورءوس وظهور وبطون، آدمية كلها من درجة السخونة ومن رائحة الأنفاس، وقد لا تكون آدمية كلها بجوار حصان أو حمار ليقف على هذه الفروق، لكنه يعلم بما يشبه اليقين أنها آدمية كلها، ويعلم بما يشبه اليقين أيضا أنه واحد منها وأنه آدمي مثلها، لكنه ليس يقينا كاليقين، فالشيء هنا لا يبدو كالشيء نفسه، إنه يبدو شيئا آخر، مختلفا تماما، مختلفا إلى حد أنه لا يصبح هو الشيء نفسه وإنما شيئا آخر قد يصل في بعض الأحيان أن يكون هو النقيض نفسه، فهذا اليقين مثلا لم يعد يقينا كما تعوده أن يكون، وإنما أصبح أبعد ما يكون عن اليقين، وأقرب ما يكون إلى الشك، لكنه أيضا ليس شكا كالشك وإنما شك غريب يتأرجح بين الشك واليقين، فلا هو شك ولا هو يقين، تلك الحالة الشاذة التي تمر بنا أحيانا، ربما أثناء النوم، ليس النوم تماما وإنما تلك اللحظة الخاطفة السابقة للنوم، أو تلك اللحظة الخاطفة السابقة لفقدان الوعي أو ربما الموت الكامل. وهو لحظة لا يمكن لي أن أصفها، ولا يمكن لأحد غيري أن يصفها، إلا إذا مارس الموت مرة ثم صحا وجلس كالأحياء ومسك القلم ووصف لنا تلك اللحظة وصفا دقيقا، وهذا ما لم يحدث أبدا.
على أن الأمر ليس هاما بالنسبة إليه إلى هذا الحد أن شيئا لا يعنيه من تلك الأمور التي تعنينا، أن مجرد التفكير على هذا النحو فيما إذا كان ما يحدث له يقينا أو لا يقينا، أنه نائم أو غير نائم، أن هذه اللحظة التي يمر بها تندرج في حكم الزمن تحت اليقظة أو النوم أو الموت، هذه كلها تفصيلات تافهة لا تعنيه، فهو مشغول بما هو أهم، وهو مستغرق فيما هو ضروري له الآن، ضرورة ملحة إجبارية، ضرورة لا تخطر على بال أحدنا؛ لأنها ليست ضرورية لنا، أو لعلها ضرورية لكنها موجودة ومتوفرة في كل مكان وزمان، كالهواء نستنشقه من الجو دون أن يفرغ، وكالأرض نمشي عليها ونرقد فوقها دون أن تنوء بثقلنا أو تضيق بأحجامنا.
لكنه ليس واحدا منا، أو بعبارة أصح: لم يعد واحدا منا. أشياء كثيرة تغيرت بالنسبة إليه، ليس تغييرا بطيئا متدرجا كذلك الذي يحدث في حياة البشر العادية، وإنما هو تغيير فجائي، كزوبعة تهب وتكتسح كل شيء، أو فيضان يغرق كل شيء، أو زلزال أو بركان يقضي على كل شيء، هكذا في لحظة واحدة تغير كل شيء، في لحظة من تلك اللحظات التي تسبق ظهور أول خيوط النهار، وتسبق ظهور أول خيوط الوعي، قبل أن يستيقظ تماما من النوم وقبل أن يرتدي البدلة والحذاء. أجل، لم يكن هناك وقت لارتداء البدلة والحذاء، لكنه أصر على أن يرتدي البدلة والحذاء، كيف يخرج من بيته بغير بدلة وبغير حذاء؟ وضاعت بضع ثوان في ارتداء البدلة والحذاء، ولم يكن هناك وقت لأن يودع ابنه الصغير الراقد في الحجرة المجاورة، ليته ودعه قبل أن يمشي، لكن ذلك لم يبد ضروريا في تلك اللحظة، كان ارتداء البدلة والحذاء يبدو ضروريا أكثر. أشياء ما كانت تبدو ضرورية أكثر من غيرها، حفلات العشاء مع رئيس الفرع كانت تبدو ضرورية أكثر من قضاء الليلة مع ابنه الصغير، كل ما يتعلق برئيس الفرع كان يبدو ضروريا أكثر من أي شيء آخر، لكن البدلة خلعها والحذاء خلعه ولم يعد يستخدمهما، وابنه الصغير سيصحو من النوم ويعرف أنه اختفى دون أن يخطره.
على أن كل هذا لا يخطر بباله الآن، أن يفكر في ابنه لم يعد ضروريا، إن التفكير في الآخرين من الكماليات، بل إنه رفاهية وأي رفاهية، أن يفكر المرء في شخص آخر غير شخصه، بل أن يفكر في شيء آخر غير جسمه، جسمه هذا الذي لم يكن يتصور أنه بهذا الحجم الضخم. لم يسبق له أبدا أن عرف حجم جسمه، ربما عرف الطول والوزن ولكن الحجم؟ من منا فكر في أن يعرف حجم جسمه ويقيس ذلك الحيز الذي يشغله؟ لم يفكر واحد منا في هذا، لم تكن هناك ضرورة لذلك أبدا، فالمساحة بين الأرض والسماء تتسع للناس جميعا، لا تتسع فحسب ولكنها واسعة فضفاضة.
على أن الأمر لم يعد كما كان، وكل شيء تغير بسرعة مذهلة، لم تعد هناك سماء وإنما جدار عال أجرب تبرز منه ألواح رفيعة طويلة كالقضبان الحديد، والأرض لم تعد أرضا وإنما مربعات صغيرة مرسومة ومحددة كصفحة في كراسة الرسم البياني، وهو لا يملك إلا مربعا واحدا فقط، هكذا بالمسطرة لا يزيد سنتيمترا واحدا ولا ينقص، بل إنه قد ينقص إذا ما تكاثر العدد، والعدد قد يتكاثر، بل دائم التكاثر، كالخلية الحية تنقسم وتتكاثر بغير توقف.
على أنه أيضا لا يفكر الآن فيما سيكون من بعد، سيزيد العدد أو لن يزيد، ستقل المساحة المحددة له أو لن تقل، هذا شيء لا يعنيه؛ فالتفكير في المستقبل رفاهية لا يستمتع به إلا من تجاوز بفكره اللحظة الحاضرة وتغلب عليها، لكنه لا زال يعيش هذه اللحظة الحاضرة، وبعبارة أصح: لا زالت هي تعيشه ولا زالت تحتويه، إنه يعيش داخلها وتحوطه خيوطها كالعنكبوت، وكان هذا في حد ذاته شيئا غريبا مروعا؛ ذلك أنه بدلا من أن يعيش هو اللحظة ويستهلكها، إذا بها هي تمسكه وتلتف حوله وتستهلكه.
لكنه لا يستهلك أبدا، لا يتلاشى أبدا ولو أراد، إنه باق وموجود رغم كل شيء، بل إن وجوده هو الشيء الوحيد الذي يعيه، وجسمه هو الشيء الوحيد الذي يحسه، بل لم يسبق له أبدا أن وعى وجوده هذا الوعي، أو أحس جسمه كل هذا الإحساس؛ فالجسم كجسم أو كتلة معينة من اللحم لها وزن وحجم لا نحس به، نحمله معنا في كل مكان بغير تردد وبغير عبء، وحين نأكل يأكل بغير حرج، وحين نمارس الجنس يمارس معنا الجنس بغير خجل، وحين ننام ينام.
لكن الأمر بالنسبة إليه أصبح مختلفا، وهو لا يعرف كيف أصبح مختلفا، ولماذا أصبح مختلفا، إنه لا يعرف شيئا، كل ما يعرفه أنه كان واحدا من الناس، وكان له زوجة وابن وبيت وسرير ينام عليه، وكان له مكتب يقف على بابه ساع، وكان له رئيس هو رئيس الفرع، وكان يعمل كثيرا، طول النهار وجزءا من الليل، لم يكن يعرف ماذا يعمل تماما، ولكنه كان يعمل بكل تأكيد ويتقاضى أجرا عن عمله يكفيه، وكانت سمعته طيبة، يؤدي الفرائض ولا يسكر ولا يعربد ولا يسرق ولا يكذب. والحق ربما كذب في بعض الأحيان، ذلك النوع من الكذب الذي ليس كذبا، كأن يذهب مع رئيس الفرع إلى حفل عشاء ويقول لزوجته إنه ذاهب لاجتماع اللجنة الدائمة، ذلك النوع من الكذب البسيط الذي لا يغضب أحدا إلا زوجته، وغضب زوجته لم يكن شيئا يذكر؛ لأنه لم يكن له ضرر يذكر.
وهكذا كان واحدا من الناس، عاديا ومحترما وله سمعة طيبة، وله بيت من ثلاث غرف وسرير ينام عليه ويمد ساقيه عن آخرهما دون أن يعوقهما شيء، فما الذي حدث؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ أهو عقاب ما؟ وإذا كان عقابا، فما هو الذنب الذي اقترفه؟ ومن هو الذي شرع العقاب أو وقفه؟
أسئلة كثيرة لا تدور بذهنه الآن كما تدور بأذهاننا؛ ذلك أنها أسئلة تتعلق بشيء مضى، والتفكير في الماضي كالتفكير في المستقبل رفاهية لا يستمتع بها إلا من تجاوز بفكره الحاضر، أو من هو قادر على تجاوزه. لكنه غير قادر على الخروج من قبضة اللحظة الحاضرة، لقد سقط فيها واحتوته وحاصرته، ولم يعد أمامه إلا أن يدور في جوفها إلى الأبد، أو يختنق ويموت ويتلاشى.
لكنه أبدا لا يتلاشى، وليس هناك من شيء يبشر بهذا التلاشي، جسمه هو جسمه بل لعله يبدو أكبر حجما مما كان يظن، لم يكن يظن أبدا أن جسمه بهذا الحجم الكبير، وأن ساقيه حين تمتدان تصبحان بكل هذا الطول. لو كان أصغر حجما، لو كانت ساقاه أقل طولا، ربما كان في إمكانه أن يتكور حول نفسه بسهولة أكثر، وربما كان في مقدوره أن يشغل بالضبط المساحة المحددة له، ذلك المربع الصغير من الأرض، مرسوما ومحددا بالمسطرة لا يزيد سنتيمترا واحدا، وأبدا مهما زاد حجم جسمه، ومهما طالت ساقاه، ومهما علت درجته، ومهما كانت علاقته طيبة برئيس الفرع، فالكل هنا سواء؛ النحيف والسمين، والطويل والقصير، المتعلم والجاهل، الساعي والمدير، كلهم سواء، متساوون كأسنان المشط، يلبسون من قماش واحد، وينامون فوق مربعات صغيرة كمربعات البلاط، مرسومة ومحددة ومتساوية، ولكل منهم مربع واحد فقط.
وهذا التساوي في حد ذاته شيء فظيع مروع، ليس هو التساوي بمعنى التساوي، ليس هو أن يأكل مع الكل من صحن واحد، أو يلبس مع الكل من قماش واحد، أو يبول مع الكل في وعاء واحد، أو ينام مع الكل في مربع واحد، ليس هو التساوي كحدث يحدث، وإنما هو الإحساس بالتساوي، الإحساس بأنه واحد من هذه الكتل اللحمية المتراصة في صفوف والمتلاصقة، لا شيء يميزه عنها، لا شيء يدل على أنه هو نفسه وليس واحدا آخر، لا اسم ولا لقب ولا ملابس ولا شهادة ولا درجة ولا علامة، ولا حتى ختم أو وشم طبع على بطن يده، وهو لا يكره التساوي، أو بعبارة أصح: لم يكن يكرهه، بل إنه كثيرا ما قرأ عنه وانفعل، وكثيرا ما تأثر لمنظر طفل يشحذ، وثار لمنظر ثري متخم، كثيرا ما تأثر وكثيرا ما ثار، وفي كل مرة كان صادقا، صادقا أكثر من أي مرة سابقة، حتى إن الدموع كانت تطفر من عينيه أحيانا من شدة الصدق، على أنه لم يعد يذكر الآن شيئا؛ فالتذكر رفاهية لا يستمتع به إلا ذلك الذي يستطيع أن يرقد فوق بطنه أو ظهره، ويمد ساقيه عن آخرهما دون أن يعوقهما شيء ويتذكر، لكنه لا يستطيع أن يمد ساقيه، فالمساحة صغيرة لا تزيد عن مربع واحد من مربعات البلاط، ومن حوله أذرع وأرجل ورءوس وبطون، تحوطه من كل جانب، وتضغط عليه من كل ناحية، وهو يحاول بكل قوة وكل جهد أن يتكور حول نفسه، وأن يتقلص وينكمش ويتضاءل؛ ليحشر نفسه داخل المساحة المحددة ويدخل في المربع، وهو لا يعرف كيف يمكن أن يحدث ذلك، كيف يمكن أن ينكمش جسمه الضخم ليصل إلى ذلك الحجم الصغير، كيف يمكن أن يتكور ويتكور ليصبح كالجنين وفي حجم الجنين. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ إنه لا يعرف، ولكنه يعرف أنه لا بد أن يحدث؛ فليس هناك من حل آخر، المساحة محددة، والمربع واحد فقط لا يزيد سنتيمترا واحدا لأي سبب، وجسمه هو جسمه بحجمه وكثافته لا ينقص جزءا ولا يعود جنينا بأي حال، لكنه لا بد أن يدخل في المربع، نعم لا بد. لماذا لا بد؟ وكيف؟ إنه لا يعرف، ولكنه يعرف أنه لا بد أن يحدث، ربما بعد مجهود فظيع مروع ليس في طاقة البشر، وربما بعد وقت طويل بغير حدود، ربما بعد أي شيء، ولكنه في النهاية سيحدث.
على أن ذلك لا يحدث، وجسمه لا زال كما هو بحجمه، ومن حوله أذرع وأرجل ورءوس وبطون ساخنة ولزجة تحيط به من كل جانب وتضغط وتضغط، لكنه لا ينضغط وتبقى تحت أي ثقل قطرة زئبق، وهو ليس أضعف من قطرة زئبق، إنه يقاوم بكل قوة؛ يقاوم حجم جسده، ويقاوم طول ساقيه، يقاوم كثافة لحمه وعظامه، يقاوم بكل قوته وكل حيله وفكره، يقاوم بغير كلل أو ملل وبغير فتور أو يأس، يتكور ويتقلص وينكمش داخل نفسه كثعبان يحاول أن يدخل في ثقب ضيق، تماما كثعبان، ليس تماما فهو ليس ثعبانا، إنه إنسان، أكثر مرونة، أكثر حيلة، وأكثر قدرة. كان له مكتب وساع ورئيس فرع، وكان له زوجة وابن وبيت من ثلاث غرف، وكان له سرير، أجل كان له سرير واسع ، يمد فوقه ساقيه لآخرهما ويتمدد فوق بطنه أو ظهره، ويغمض عينيه ويحلم، يحلم كما يحلم أي أحد أراد أو لم يرد، يحلم بحفل عشاء مع رئيس الفرع، يحلم بعلاوة استثنائية، يحلم بتحقيق المساواة بين البشر. أجل كان يحلم كل ليلة كأي أحد، وربما هو يحلم الآن، لكن السرير ليس تحته وإنما أرض صلبة رطبة كأرض الحمام، وعيناه غير مقفلتين، وساقاه ليستا ممدودتين أفقيتين كما يحدث في النوم، ولكنهما مرفوعتان إلى أعلى مقوستان متشابكتان فوق بطنه منثنيتان تحت ظهره. كيف استطاع أن يثني ساقيه إلى هذا الحد؟ كيف لانت مفاصله؟ كيف انثنت عظامه؟ إنه لا يدري، فهو لم يكن بطلا من أبطال اليوجا، ولكنه كان رجلا مفكرا يعيش بذهنه، ولا يحرك عضلاته إلا لقضاء ضرورة ملحة، وكانت مفاصله من قلة الحركة قد يبست وتصلبت، تطقطق أحيانا كلما جلس أو وقف كمفاصل الباب الصدئ، غير أن ذلك لم يكن يهمه أو يضره؛ فهو قادر في النهاية على أن يمشي ويجلس ويقف ويأكل ويمارس الجنس. ثم إن مفاصله ليست هي الوحيدة التي تطقطق، كثيرا ما سمع مفاصل زملائه، بل إن رئيس الفرع أيضا كانت مفاصله تطرقع.
على أن كل شيء أصبح مختلفا بطريقة مذهلة، وما كان في وسع أحد أن يتصور أن تلك الكتلة المستديرة المتكورة كانت في الأصل رجلا، أو يمكن أن تكون رجلا بعد أن تنفك وتتمدد، ما كان لأحد أن يتصور، لكن الأمر لم يكن خيالا أو حلما، كان حقيقة، حقيقة الأرض الصلبة الباردة تحت أليتيه، حقيقة السخونة ذات الرائحة الآدمية التي تملأ أنفه، وحقيقة وجود جسمه بثقله وحجمه، وجودا حقيقيا أكثر من أي شيء آخر، بل لا شيء غيره يبدو حقيقيا، لا شيء غيره يبدو موجودا، أو كان موجودا في وقت من الأوقات، لا مكتبه ولا الساعي ولا رئيس الفرع ولا زوجته ولا ابنه ولا بيته ولا حتى السرير، ربما كان كل عمره السابق حلما، حلما طويلا جدا، ربما كان أملا أو وهما أو دعوة صلاة، ربما كان أي شيء لكنه كان، وهو الآن بجسمه الضخم فوق تلك المساحة الصغيرة المحددة، يحاول أن يدخل في المربع، لكنه لا يدخل؛ فالمربع أصغر من جسمه، وجسمه أكبر من المربع، لكنه لا بد أن يدخل ولا بد لهذه اللحظة من أن تمر، هذه اللحظة التي احتوته في داخلها والتفت حوله وضيقت عليه الخناق كاللجام أو سلسلة من حديد، هذه اللحظة الضخمة الطويلة الممتدة إلى الأبد، كيف تكون لحظة واحدة من الزمن طويلة إلى هذا الحد؟ وكيف كانت اللحظات تمر به من قبل؟ وهل يمكن لهذه اللحظة أن تمر؟ إنه لا يعلم، ولكنه يعلم أنها لا بد ستمر، ربما بعد وقت طويل جدا لا يعرف طوله، وربما بعد مجهود فظيع مروع ليس في طاقة البشر، لكنها في النهاية ستمر هكذا كما تمر أي لحظة من العمر، وربما بالبساطة نفسها التي تمر بها أي لحظة أخرى.
الأنف
إذا كان واقفا على قدميه، فلماذا لا تكون قامته بطولها المعهود؟ ولماذا لا تكون أعضاء جسمه متراصة بعضها فوق البعض بالترتيب القديم: الرأس فوق، ومن تحتها الرقبة، فالصدر، فالبطن، فالساقان. والقدمان أليستا هما اللتين ترتكزان على الأرض؟
يبدو أن هذا ليس هو ما يحدث. إنه واقف، هذا شيء يدركه منذ وصل إلى هذا المكان، لكنه ليس واقفا على قدميه، وإنما على شيء مفلطح طري له طراوة بطنه. أيكون نائما؟ ولكنه يرتدي البدلة والحذاء والكرافتة، الكرافتة تلتف حول رقبته بإحكام، وربطتها تحت ذقنه مقوسة ومبرومة بإتقان. أجل، كرافتة محكمة حول الرقبة، كان هذا هو شرط الدخول إلى المكان.
ما العلاقة بين شريط طويل يغطي الرقبة وبين الاحترام؟ ولكن هناك أمكنة أكثر احتراما من الرقبة، وكان هو يحب رقبته عارية، وخاصة ذلك الغضروف المدبب «تفاحة آدم» دليل الرجولة الذي لا يقبل الشك، لكن تأتي أوقات لا يحتاج المرء فيها إلى دليل الرجولة أو الرجولة نفسها. ثم ما علاقة غضروف مدبب في الرقبة بالرجولة؟ هذا ما لا يستطيع أن يفهمه.
لكن الأشياء تبدو أكثر وضوحا، إنها ليست أشياء ولكنها شيء واحد، شيء واحد ابتلع كل الأشياء وأصبح ضخما، أكثر ضخامة من أي شيء رآه في حياته، أكثر ضخامة من الهرم الأكبر. حين وقف أمام الهرم كان يستطيع أن يرفع رأسه ويرى قمته، أما الآن فهو لا يستطيع أن يرى القمة، وربما لا يستطيع أن يرفع رأسه. إن رأسه ليس في ذلك الوضع الرأسي المألوف الذي يستطيع منه أن يحركه بسهولة ويرفعه، رأسه في وضع أفقي غريب، يتساوى في ارتفاعه عن الأرض مع رقبته وصدره وبطنه ومؤخرته، كأنه منبطح فوق بطنه على الأرض، أو على أقل تقدير: نائم على بطنه.
لكنه واقف، إذا كان الوقوف يعني الارتكاز على القدمين. إنه مرتكز بقدميه على الأرض، هذا شيء مؤكد أو يصبح مؤكدا الآن، والشيء الطري المفلطح ليس بطنه بأدنى شك، فهو يدوس عليه، يدوس عليه بكل ثقله حتى يكاد يغوص فيه. قد يكون الغوص هو السبب في ذلك القصر الشديد الذي أصاب قامته فأصبح قزما لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض.
ربما هو فخ نصب له. أي شيء يمكن أن يكون فخا في هذه الأوقات، وهو بطبيعته حذر شكاك يرتاب في كل شيء، ولكن أحيانا ما يخطئ ويثق، ليست ثقة تماما ولكن ثقة متشككة؛ فالأشياء لا تبدو هي الأشياء، والكلمات لا تبدو هي الكلمات، بل هو أيضا لا يبدو أنه هو. كان فارع الطول؛ إذا ما وقف على قدميه ارتفع رأسه فوق رقبته واستطاع أن يطل بعينيه إلى فوق.
لكن عينيه لا تستطيعان رؤية ما هو فوق، فالبناء ضخم، أضخم من الأهرامات لو أنها تراصت بعضها فوق البعض وأصبحت هرما واحدا قمته أعلى من قدرة البصر، وجسمه أكبر من حدود الحواس الخمس، بناء ضخم يحجب من خلفه السماء والشمس، ويرسم ظله الأسود الكثيف فوق الأرض وفوق البيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام.
فخ لا ريب وعليه أن يتملص، لا تزال قدماه رغم كل شيء قادرتين على الحركة. حركة القدمين تصبح أحيانا معجزة، يرفع قدما ويخفض القدم الأخرى وهكذا يتحرك، لا يعرف إلى أين يهرب، ليس مهما أن يعرف، إنه قادر على التحرك، هذه القدرة في حد ذاتها شيء خارق، إنه قزم لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض، والبناء الضخم شامخ في السماء لكنه يستطيع أن يتحرك، أما البناء فلا يستطيع.
مقارنة تنطوي على خبث. الخبث أيضا قدرة خارقة، إنه ليس كحركة القدمين، ولكنه حركة داخل الرأس، ربما حركة جسدية أيضا ولكنه حركة على أي حال، إنه قدرة بغير شك، وهو يفتش عن قدراته، يبحث داخل جسمه الصغير عن كل أسلحته الخفية، أجل الخفية، فكل شيء يجب أن يعمل في الخفاء في هذه الأوقات، وبالذات حين يواجه المرء بمثل هذا الشيء الضخم. إنه بناء، وليس إلا بناء حجريا عاجزا عن الحركة ولكنه ضخم ضخامة غريبة، ضخامة تملأ المساحة بين الأرض والسماء، ضخامة تبدو من كبرها ممتدة بين السماء والأرض فكأنما هي شيء متحرك مع أنها جماد ثابت، كالكرة الأرضية ثابتة ومتحركة في الوقت نفسه.
وارتعدت قدماه، إنه حذر وشكاك لكنه ليس جبانا، الحذر شيء والجبن شيء آخر، لا يذكر أنه خاف مرة من أحد، كان إحساسه بنفسه يفوق إحساسه بالآخرين، مجرد إحساس أو مجرد وهم، ولكن ما هو الإنسان؟ الإنسان هو ما يتوهمه في نفسه، وكان يتوهم أنه أقدر من الآخرين فأصبح أقدر منهم وأصبح جسمه أقدر على التهام الأكل، وفي كل مرة حين يجلس إلى المائدة ويحس ببطنه يعلو طربا فوق فخذيه، يقول لنفسه: سأقلل من الطعام. ثم يأكل أكثر من أي مرة سابقة.
لو أكل أقل ربما كان أكثر قدرة على الحركة، ربما كان أخف وزنا، ربما كانت مطالبه أقل، لكن مطالبه كانت تزداد يوما بعد يوم، ليست مطالبه وحده وإنما مطالب زوجته ومطالب أولاده ومعارفه وأصدقائه، لا أحد في هذه الأوقات بغير مطالب، وعليه أن يسد أفواها كثيرة، عليه أن يدفع مقابل الوهم بأنه أقدر من الآخرين، عليه أن يدفع مقابل أي شيء وإن كان مجرد فم يغلق.
وتحسس فمه، شفتاه موجودتان وقادرتان على الانفتاح والانغلاق. أجل، وهذا صوت يخرج يشبه صوته، إنه صوته بالفعل، النبرة المعهودة والكلمات نفسها، إن مجرد النطق معجزة في بعض الأوقات، النطق قدرة خارقة في حد ذاتها، إنه قزم لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض والبناء ضخم شامخ، لكنه يستطيع أن ينطق أما البناء فلا.
على أن هذا أيضا سلاح قديم أبلاه الزمن، فهذا صوت أعلى من صوته، ونبرته أكبر وأضخم، تكاد تصم أذنيه الصغيرتين، قد لا يكون صوتا بشريا تماما، والكلمات قد لا تكون منطوقة بالطريقة نفسها التي ينطق هو بها، ولكن هل من الضروري أن يكون كل شيء بشريا تماما؟ هل من الضروري أن يكون كل شيء مفعولا بالطريقة التي يفعلها هو؟ لماذا يحكم دائما على الأشياء بجسده؟
ارتعدت قدماه أكثر، هذا البناء الحجري قادر على إصدار أصوات مسموعة في كل أنحاء السماء والأرض، ليست مسموعة فحسب ولكنها رنانة ضخمة تبتلع في جوفها صوته فلا يسمعه أحد، وهذا البناء الحجري قادر أيضا على التحرك، ليست حركة صغيرة كحركة قدم وراء القدم الأخرى، ولكنها حركة ضخمة جبارة تهز الأرض كزلزال، وتبتلع في جوفها حركته فلا يلحظه أحد، لا أحد يسمعه ولا أحد يلحظه، فماذا يدل على أنه موجود؟ ليس هناك أي دليل.
تصبب العرق من كل جسمه، غزيرا لزجا وله رائحة، لأول مرة في حياته يشم رائحة عرقه، الرائحة نفسها التي كان يتأفف منها كلما اشتد اقترابه من الآخرين، لو كان ميتا لفقد قدرته على الشم، إنه موجود إذن، وتشبثت أصابعه بأنفه؛ بهذا الدليل الوحيد على أنه لم يمت. لم يكن يهتم كثيرا بأنفه، فالأنف لم يكن في نظره عضوا مهما، بعض الناس قطعت أنوفهم وعاشوا، بعض الناس دفنوا أنوفهم في التراب وبقيت أجسامهم تعيش وترفل في النعيم.
وارتجفت أصابعه فوق أنفه، أنفه أيضا لم يكن مائلا إلى أعلى في ذلك الوضع الطبيعي المألوف، كان مائلا إلى أسفل، وأرنبة أنفه الرفيعة المدببة مرتكزة على الأرض، على حين كانت قدماه معلقتين في الهواء! كيف استطاع أن يقف على أرنبة أنفه؟ وكيف استطاعت أرنبته الرفيعة المدببة أن تحمل جسده؟
قد تكون صلاة، وربما هو نسي حركات الصلاة، أربعون سنة مضت منذ كان يصلي، كان طفلا صغيرا وكان هناك شيء اسمه الإيمان، ولكن ماذا يكون الآن هذا البناء الحجري الشامخ في السماء وظله الكثيف الأسود مرسوم فوق الأرض، والبيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام؟
أيرجع الزمن إلى الوراء ويعود يعبد الأوثان؟
فخ لا شك وقع فيه، ونفخ من الغيظ فدخلت ذرات التراب إلى أنفه، وحاول أن يعطس أو لعله عطس فعلا؛ فلكزه أحد في جنبه، لم يكن يدري حتى تلك اللحظة أن معه آخرين، لكنه استطاع أن يلحظ بطرف عينه صفا طويلا من الأنوف أرنبتها الرفيعة المدببة مرتكزة على الأرض، على حين بقيت الأقدام معلقة في الهواء.
رجل
في مثل هذه اللحظة النادرة التي لا تمر بكل الناس، وإنما بقلة قليلة جدا حالفها الحظ، أو بالأحرى خانها الحظ فإذا بها لسبب ما وجها لوجه مع الحياة وقد تعرت عريا كاملا، وبدت على حقيقتها كوميض مكهرب يصعق الإنسان في التو واللحظة، فيموت ويموت معه السر، أو لعله يكون أكثر احتمالا فلا يموت تماما وإنما يصبح في تلك الحالة المترددة بين الوعي واللاوعي، وتختلط الأشياء بعضها بالبعض فلا يعرف الحقيقة من غير الحقيقة، ولا يدرك اليقظة من النوم.
في هذه اللحظة كانت خديجة قد رفعت يدها وفتحت الباب، وكأنما أصيب جسدها بمس كهربي ففقدت القدرة على النطق والحركة، تجمد جسدها في مكانه وتجمد الدم في عروقها، وكان من الممكن أن يتوقف قلبها عن الحركة وتفارقها الحياة تماما لولا أن عينيها ظلتا قادرتين على الرؤية بقدرة قادر، فكأنما الحياة انسحبت من كل جسدها لتتركز فيهما. واستطاعت خديجة أن ترى المشهد العجيب، ربما لم تدرك تماما أهو حلم أم حقيقة، لكنها كانت تراه بوضوح، وتعرفت منذ الوهلة الأولى على رأس عشماوي بشعره الأكرت وقفاه الأسمر الغليظ، لكنه بدا لها في تلك اللحظة كرأس رجل غريب لم تره من قبل ولم تعش معه عشر سنوات كاملة، وربما كان هذا هو السبب الذي جعلها تتأمل المنظر بغير إحساس، أو بإحساس محايد كمشاهد في سينما أو مسرح أو بالأحرى سيرك تقوم فيه الحيوانات بألعاب عجيبة تذهل الإنسان، فيفتح فمه وينطق مشدوها: «يا خبر!»
وحينما انفتح فم خديجة وخرج صوتها المبحوح المشدوه: «يا خبر!» ارتطمت على الفور أربع عيون متسعة مذعورة بعينيها الجاحظتين، أربع عيون بدت لها من شدة ذعرها غير آدمية، لكنها سرعان ما تعرفت على عيني عشماوي ببياضهما الواسع المصفر وجفنيهما الوارمين، أما العينان الأخريان فقد اختفتا في اللحظة نفسها التي ظهرتا فيها، فكأنما لم تكونا إلا لقطة خاطفة في فيلم وليستا عينين حقيقيتين في إنسان مجسد حي.
ولأول وهلة أيضا اختلط الأمر على عشماوي، فلم يتأكد تماما من أن هاتين العينين الجاحظتين المطلتين عليه هما عينا خديجة الغائرتان الضيقتان، ولعله أيضا لم يدرك أهو شيء حقيقي ذلك الذي يحدث أم أنه مجرد كابوس، وامتدت يده بغير وعي تتحسس جسمه ليتأكد من يقظته، فارتطمت أصابعه بظهره العاري، وجثمت عليه الحقيقة كجدار ثقيل لم يستطع معه أن يتحرك، استطاع فقط أن يدفن وجهه في بطن السجادة العجمي السميكة، لكن بقية جسده ظل كما كان فوق الأرض ظاهرا وعاريا ومرئيا، تراه عينا خديجة بوضوح، وتستطيع أن تعد فقرات ظهره فقرة فقرة. لم تكن تظن أن جسمه نحيل إلى هذا الحد، وأن عظام كتفه دقيقة وصغيرة بهذا الشكل، كان يبدو لها في البدلة ممتلئا عريض الكتفين، وحينما جاء لأول مرة وخطبها من أبيها وافقت على الفور، أبوه مزارع أجير يعمل في أرضهم لكنه علم ابنه في المدارس وأصبح عشماوي موظفا في الحكومة يرتدي البدلة، كثيرا ما رفضت غيره من شباب القرية، حتى ابن العمدة رفضته، إنه يملك وحده عشرة أفدنة ولكنه لم يتوظف في الحكومة ولا زال يرتدي الجلباب، جلباب من السكروته الغالية حقا ولكنه جلباب يتهدل فوق كتفيه وساقيه واسعا فضفاضا كجلابيب النساء، والرجل لكي يكون رجلا لا بد له من كتفين غير متهدلتين صلبتين عريضتين في وضع أفقي مستقيم، وهذا ما تفعله الجاكتة، ولا بد له من ساقين منفصلتين بعضهما عن البعض يمكنه أن يحرك كلا منهما على حدة وبثقة وحرية، وهذا في نظرها هو صفة الرجولة التي تميزها على الأنوثة، والتي لا يمكن أن تحدث إلا في ظل البنطلون. •••
ولأول مرة في حياتها ترى خديجة عشماوي بغير ملابس، كانت تراه بالبيجاما قبل أن ينام وبعد أن يصحو من النوم، لكنها لم تره أبدا بغير ملابس على الإطلاق، حتى في تلك اللحظات التي كان يمكن لها أن تراه بغير ملابس لم تكن تجرؤ على أن تفتح عينيها، إنها امرأة شريفة ومن أسرة كريمة ولا يصح لها إن تحملق في مثل هذه الأوقات، ولم يكن الشرف وحده هو الذي يمنعها وإنما الخوف أيضا والرهبة كل الرهبة للتجسس على ذلك الشيء الخطير الذي اسمه جسد الرجل، كانت ترهبه وتجهله، وحينما كان يقترب منها ويحوط ذراعيه حولها تنتفض، لم تكن تتصور أن هناك زوجة يمكن أن تكون أسعد منها، أو أن زوجها يحبها أكثر مما يحبها عشماوي. نعم، عشماوي يحبها، هذا شيء أكيد، وهو يبذل كل جهده ليمنحها السعادة كل جهده.
وبقيت كلمة «كل جهده» مكورة في حلقها كالغصة، إحساس مبهم قديم بدأ يبرز من منطقة ضبابية في قاع سحيق من نفسها، كدبوس ينخر في رأسها لتخرج فكرة غريبة لم تخطر ببالها، عشماوي كان يبذل كل جهده ليرضيها، إرضاؤها كان عسيرا عليه، كان يحاول أن يرضيها رغم إرادته، رغم رغبته. عشماوي لم يرغبها، لم يحبها أبدا، حتى في أكثر اللحظات نشوة حين يغرقها بالهدايا والحب، بل في قمة تلاحم العشق كان هناك دائما ذلك الإحساس الغامض الراكد في أعماقها يفصل بينها وبينه كلوح من الزجاج البارد، أو كبؤرة صديدية مزمنة؛ لا هي تخرج إلى السطح وتنفجر، ولا هي تموت وتؤكل بكرات الدم البيضاء. لكنها لم تكن تحس بها، استطاعت دائما أن تتجاهلها لتنساها، وأحيانا كانت تنهر نفسها وتتهم جسدها بالجشع والطمع، وأحيانا أخرى لم يكن أي شيء يجدي فتصعد المرارة من مكانها الخفي السحيق ، وتكاد تحس طعمها القابض في جوفها.
وكأنما انقشعت عن ذاكرة خديجة سحابة أو غشاوة، فراحت تتذكر أشياء لم تكن تذكرها، وتلحظ أشياء لم تكن تلحظها، كم من مرة سافر عشماوي في مأموريات مفاجئة، كل ليلة كان يخرج بحجة حضور اللجان، كم من ليلة مرت عليها وهي مؤرقة تتقلب في الفراش وهو نائم إلى جوارها يشخر، وحينما كان يقترب منها بعد كل محاولاتها للإفصاح ويحاول أن يرضيها، لم يكن يرضيها في معظم الأحيان، بل لعله لم يرضها أبدا، كانت توهمه وتوهم نفسها أنها رضيت، لكن جسدها كثيرا ما كان يخونها فيظل متشبثا به مستجديا مستميتا ليبلغ النهاية، فلا هو يبلغها ولا هو يكف عن الطلب، ويظل مشدودا بينهما مصلوبا لا يخلصه إلا الإرهاق والتعب، فيسقط كفرخة مذبوحة يرتعش وينتفض، ثم لا يلبث أن يهمد تماما ويكف عن الحركة.
لم يكن عشماوي حتى ذلك الحين قد تحرك من مكانه، خديجة رأت وعرفت، فلماذا يبذل أي جهد؟ كثيرا ما بذل من جهد، وكثيرا ما حاول أن يبذل، لكنها الآن عرفت، جاءت بقدميها وعليها أن تتحمل النتيجة، هي امرأة مهما كان الأمر وهو ما زال الرجل، ربما لم تره في وضع الرجل تماما لكنه لا زال بالنسبة إليها الرجل، ليس أي رجل وإنما موظف محترم، مدير مكتب السيد الوكيل، لو أنها جاءت إلى مكتبه في أي وقت من النهار لرأت بعينيها كيف ينحني له الموظفون صغارا وكبارا، كيف يستأذن منه مديرو العموم قبل أن يدخلوا إلى السيد الوكيل، كيف يستطيع أن يطلب أي واحد منهم بالتليفون. حين تخرج عشماوي في معهد المعلمين، كان عليه أن يختار بين وظيفتين: أن يكون مدرسا في مدرسة، أو أن يكون سكرتيرا خاصا لأحد المديرين، ورفض أن يكون مدرسا، ما قيمة مدرس؟ يعيش مدرسا ويموت مدرسا أو على الأكثر ناظر مدرسة؟ أما أن يكون سكرتيرا خاصا لأحد المديرين فهذا هو الطريق المفتوح، أن يلتصق بأحد الكبار كما تلتصق القملة بجلدة الرأس. كل الذين وصلوا قبله من الموظفين كانت لهم صلة وثيقة بأحد الكبار، وهل هناك صلة أوثق من أن يكون سكرتيرا خاصا؟
وكان عشماوي من ذلك النوع من الناس الذي صنع وتشكل ليكون سكرتيرا خاصا، نوع لا تكون له شخصية خاصة أو تفكير خاص أو رأي خاص أو حياة خاصة، بل أيضا ليس له جسد خاص وإنما هو كتلة هلامية شفافة كلوح زجاج يظهر من خلاله الشخص الآخر، كمرآة تعكس الصورة، إنه دائما صورة لشخص غيره، صورة طبق الأصل لكنها ليست الأصل أبدا.
ولم يكن عشماوي يعرف تماما ما هو عمل السكرتير الخاص، لكنه كان يعتقد أنه لا بد أن يلعب دور «البودي جارد»، أو أن يصنع من جسده درعا واقية للسيد المدير أو السيد الوكيل من بعد؛ أن يحول جسده بينه وبين الناس، أن يقف حوله في كل اجتماع، وأن يصنع من مكتبه مصفاة ثقوبها واسعة لا تبقي إلا أشخاصا معينين لهم حجم معين ووزن معين، يتدرب السكرتير الخاص على معرفة لهجتهم في التليفون، ومشيتهم حين يدخلون عليه المكتب، وطريقة وضع السيجارة في الفم وتحريكها من زاوية، وطريقة كلامهم خاصة حين ينطقون اسم السيد الوكيل مثلا قائلين «ماجد بك»، إن طريقة نطقهم لكلمة «بك» ليست طريقة مرءوس لرئيس، وإنما هي طريقة ند لند، و«بك» ل «بك»، وأحيانا لا يقولون ماجد بك وإنما الأستاذ ماجد، أحيانا يكتفي بعضهم بأن يقول ماجد «حاف» إمعانا منه في أن يفهم السكرتير الخاص درجة الألفة بينه وبين السيد الوكيل، أشياء كلها صغيرة تحتاج إلى ملاحظة دقيقة تعود عليها عشماوي وأصبح يتقنها إتقانا شديدا، وقد أدرك بعد شيء من الخبرة أن عمله لا يزيد عن مجموعة من الطقوس الصغيرة، والصغيرة جدا، لكنها هامة بل هامة جدا؛ كأن يكون هناك دائما أمام باب السيد الوكيل اثنان من السعاة في وضع الاستعداد دائما، قبل أن يخرج السيد الوكيل أو قبل أن يدخل لا بد وأن تحدث الانتفاضة ثم الانتصابة في ظهريهما الاثنين في وقت واحد، والذراع ترتفع في نفس اللحظة، والأصبع الكبير يلامس الجبهة، وقبل أن يعلن السيد الوكيل عن خروجه تكون العربة السوداء في منتصف السلم تماما، والسائق في وضع الاستعداد واقفا فاتحا الباب الخلفي بيده اليسرى، ويده اليمنى متأهبة للارتفاع في اللحظة التي تهل فيها صلعة السيد الوكيل على أول درجات السلم.
أما حين يكون السيد الوكيل مستقرا في مكتبه، فهناك أشياء أخرى صغيرة ودقيقة جدا أصبح عشماوي يتقنها، أصبح يفهم معنى أي حركة تصدر عن أي عضو من أعضاء السيد الوكيل دون حاجة إلى كلام، هزة الرأس مثلا أصبح يفهمها على الفور، وهزة الرأس ليست هي هزة الرأس في كل الأوقات والأحوال، هناك الهزة التي تعني أن السيد الوكيل مغتبط، وهناك الهزة التي تعني أنه غير مغتبط، وهناك الهزة التي تعني أن عشماوي يجب أن يظل باقيا موجودا جاثما فوق صدر الزائر بكل حجمه وكثافته، وهناك الهزة التي تعني أن عشماوي يجب أن يخرج.
وأصبح عشماوي خبيرا، وحينما انتقل من مكتب المدير إلى مكتب المدير العام، ثم إلى مكتب السيد الوكيل، لم يكن في حاجة إلى خبرة جديدة؛ فالأسلوب هو الأسلوب في كل مكان، واختصاصات السكرتير الخاص هي الاختصاصات، وتقاليد الموظفين هي التقاليد، وعلاقة الرؤساء بالمرءوسين هي العلاقة، وشخصية الموظف هي الشخصية؛ حمل وديع ناعم الصوت أمام رئيسه، وأسد مستأسد مرتفع الصوت أمام مرءوسيه، ولكل موظف حسب درجته مشية خاصة، وطريقة تدخين خاصة، وطريقة خاصة حين ينطق كلمة «بك»، وطريقة خاصة حين يمسك الدوسيه، حتى إن عشماوي أصبح يتعرف على درجة الموظف وكادره من مشيته وصوته وحركاته.
وقد أدرك عشماوي أن هناك ما هو أهم من الخبرة؛ ذلك أن يطيع الأوامر، خاصة كانت أو عامة. أحد المديرين كان يرسله صباح كل يوم ليوصل أطفاله إلى المدرسة، ومدير آخر كان يترك له «المدام» ليرافقها في جولاتها الشرائية، ومدير آخر كان يرسله إلى سوق التوفيقية لشراء لحم الأسبوع، ومدير آخر دفعه إلى التدريب على الشطرنج ليلاعبه في ساعات الفراغ، أما السيد الوكيل هذا فله هواية أخرى غريبة.
كان السيد الوكيل من ذلك النوع من الرجال الذي يظن بينه وبين نفسه أنه أكثر رجولة من أي رجل آخر، ربما لم يكن واثقا من ذلك كل الثقة، لكنه كان يريد دائما أن يثق بذلك كل الثقة، ولم يكن يعرف تماما ماذا يفعل ليتحقق له ذلك، ولكنه كان يحس كلما ظهر أمامه رجل برغبة عنيفة في إخضاعه، ولم يكن الإخضاع في نظره يعني الإخضاع العادي الذي يمكن أن يحدث بين رئيس ومرءوس، ولكنها رغبة طاغية في أن يسحق من أمامه، يسحق عقله ونفسه، بل وجسده أيضا بحيث لا يبقي له على شيء.
وكانت له طرق متعددة للإخضاع: مرة باللين ومرة بالشدة، ومرة بالعطاء ومرة بالحرمان، أحيانا كان يعطي ويغرق في العطاء حتى يستمرئ المرء لذة الحياة الرخية، وتتعود أليتاه على ركوب العربة الطرية كل يوم من البيت إلى المكتب، ومن المكتب إلى البيت، وتتعود زوجته على الشقة الجديدة والميزانية الجديدة، ويتعود هو على العلاقات الرفيعة وممارسة السلطة، ثم فجأة يهبط به إلى حيث كان، إلى ماهيته الأصلية بغير بدلات ودون حضور جلسات، إلى الانحشار في الأتوبيس كقطعة السردين، إلى التوقيع في دفتر الحضور والانصراف بالدقيقة، إلى أن يكون في مكتب مشترك بين أربعة آخرين وبغير تليفون، وبغير ساع على الباب.
وكان عشماوي قد خبر كل هذا وأصبح يعرف كيف يكسب على طول الخط في مقابل تنازلات صغيرة غير منظورة، تنازلات من ذلك النوع الغيبي أو المعنوي، تلك الأشياء التي تعارف الناس على تسميتها بالاحترام أو الرجولة أو الكرامة، وغيرها من الصفات المعنوية غير المحسوسة، وكان قد أدرك بغير شك أن مثل هذه الصفات لم تعد معنوية، لم ير في حياته رجلا فقيرا بغير سلطة حظي بشيء من هذه الصفات، كما أنه لم يكن يحس حين يتنازل عن شيء من هذا أنه يفقد شيئا، ربما أحس بطريقة خفية عميقة أنه يفقد شيئا، لكنه كان دائما في نظره شيئا صغيرا، وصغيرا جدا لا يزيد عن كونه إحساسا مبهما غير منظور، وحينما كانت تنازلاته تزيد عن كونه إحساسا مبهما غير منظور، وحينما كانت تنازلاته تزيد يوما بعد يوم، ومكاسبه تزيد بالسرعة نفسها، لم يكن يظن أن اليوم سيأتي حتما حين تزيد تنازلاته إلى حد كبير أكبر مما كان يتصور.
ولم يكن عشماوي يتصور أن ما حدث له سيحدث، وقبل أن يحدث لم يكن يتصور أنه يتنازل عن شيء كبير طالما أنه سيحدث في الخفاء ولن يدري به أحد.
وكان من الممكن قبل أن تلتقي عيناه بعيني خديجة أن يمر الحدث وينطوي كغيره من الأحداث التي مرت وانطوت، لكنه في اللحظة التي التقت عيناه بعيني خديجة، كأنما سقطت عن عينيه غشاوة، وكأنما أفاق لنفسه وأصبح يحس بوطأة ما حدث. لم يدرك أنه تنازل عن شيء كبير فحسب، وإنما هو قد تنازل عن أكبر شيء في نفسه، وأن كيانه كله قد انسحق. لم يكن ثقلا واحدا ذلك الذي سحقه، لم يكن هو ثقل السيد الوكيل وحده وإنما هو ثقل كل المديرين والرؤساء الذين عمل معهم، كل ثقلهم بأجسادهم الضخمة وأوزانهم الثقيلة، كل ثقلهم بمكاتبهم الكبيرة وسجاجيدهم العجمي، وتليفوناتهم الكثيرة السوداء والملونة، وعرباتهم السوداء الطويلة، ولمباتهم الحمراء، وأبوابهم المغلفة بالجوخ الأخضر، والمشايات الحمراء فوق السلالم الرخامية البيضاء، والجدران المتينة العالية والصور المعلقة فوق الجدران بإطاراتها السميكة المذهبة، والمرايات والشماعات والدفايات والقاعات المعبأة بالدخان والطفايات والنجف والدوسيهات واللوائح والدرجات والكادرات والتقارير السرية والبدلات والجزاءات، كلها كلها مجتمعة متراصة في ثقل واحد تدوس وتضغط على كيانه النحيل، وتسحقه وتبططه كرقاقة من صفيح أو كورقة سيجارة. •••
وكانت خديجة لا تزال تحملق في عشماوي، الذي ظل في مكانه يخفي وجهه في بطن السجادة العجمي، وجسده النحيل ممدود في محاذاة المكتب الضخم الذي ارتفع في الحجرة حتى منتصف الجدار، تعلوه بنورة من تحتها جوخ أخضر ومن فوقها لوحة خشبية طويلة نقشت عليها:
ورفع بعضكم فوق بعض درجات
ومن الخلف المكتب يبرز مسند الكرسي الجلدي الكبير.
وربما لم تكن خديجة حتى هذه اللحظة قد تنبهت تماما إلى وجودها أو إلى حقيقة ما حدث، لكنها أفاقت على صوت غريب، نهنهة مكتومة بدأت تعلو لتصبح كنحيب امرأة؛ عشماوي ينتحب ولم تعرف خديجة ما الذي حدث لها، أصبحت وكأنما كانت نائمة وحلمت بكابوس ثم استيقظت، ووجدت نفسها راكعة إلى جوار عشماوي، تربت بيدها على وجهه وتمسح بكفها دموعه، دموع عشماوي زوجها رجلها، مهما حدث فهو عشماوي، هو الوحيد الذي لها في هذه الحياة، عشر سنين تحت سقف واحد، عشر سنين في الحلو والمر معا، وكان الحلو أكثر بكثير من المر. «انهض يا عشماوي.» وبيديها الاثنتين أخذت تلم ملابسه المبعثرة، وبيديها ألبسته البدلة، البدلة التي بسببها فضلته عن كل رجال القرية.
الرجل ذو الأزرار
منذ عشر سنوات تقريبا كانت لي عيادة في بنها، وكنت قد بدأت أنشر ما أكتب، وفي إحدى المجلات نشرت لي قصة بعنوان: «زوجي، لا أحبك»، وبعد أيام قليلة جاءتني سيدة شابة ومعها قصتي ومصمصت شفتيها بما معناه أنها لم تعجبها، ثم تركت لي قصة من تأليفها بقيت في درج مكتبي حتى عثرت عليها أخيرا مطوية كالرسالة القديمة.
زوجي العزيز أمين فاضل عفيفي
قد يدهش بعض الناس حين يرون زوجة تخاطب زوجها باسمه الثلاثي، ولا أظن أن أحدا في أيامنا هذه يحرص على أن يعرف أحدا باسمه الثلاثي، اللهم إلا موظفي مكاتب الأمن والمباحث ورجال البوليس والمحققين في المحاكم وأطباء مكاتب الصحة لاستخراج شهادة الوفاة.
لا أخفي عليك سرا أنني لم أعرف اسمك الثلاثي إلا بعد زواجنا بخمسة أعوام، حين جاء ذلك الشرطي وصاح من خلف شراعة الباب: «أمين فاضل عفيفي.» وقلت لي يومها إنها قضية قديمة أقامتها ضدك أختك فهيمة بسبب استيلائك على العشرة قراريط نصيبها من الميراث.
كنت حتى ذلك اليوم زوجة مطيعة لرجل اسمه أمين بك عفيفي، لم أكن أعرف ملامحك معرفة كاملة، فأنا لم أنظر إلى وجهك نظرة كاملة أبدا، ولكني أستطيع أن أميزك من بين الرجال بسبب صلعتك العريضة اللامعة تتوسطها زبيبة سوداء، قالت لي جارتنا إن هذه الزبيبة دليل جسدي على التقوى والصلاح، وتساءلت يومها: ما علاقة قطعة من الجلد الأسود تنمو فوق الجبهة بالتقوى والصلاح؟ فقالت: إنها احتكاك الجبهة الناعمة المتكرر بالأرض الخشنة أثناء الصلاة المنتظمة والسجود الطويل بسبب الخشوع. الحقيقة أن هذه الزبيبة كانت ترتطم بعيني كلما نظرت إليه، والأسوأ من ذلك أنها كانت ترتطم بجبهتي حين كان يحدث بيننا ذلك الشيء، رغم الظلام التام الذي كان يسود حجرة نومنا الذي لم يكن يسمح لي بأن أرى شيئا منك، إلا أن هذه الزبيبة كانت قابلة للرؤية دائما، ربما بسبب لونها الأسود الداكن، أو بسبب بروزها، ورغم المسافة التي كانت تفصل دائما بين وجهينا، ولم يحدث أن عرفت ملمس شيء من وجهك، أو لامست شفتاك خطأ شيئا من وجهي، إلا هذه الزبيبة؛ فقد كانت وحدها ودون تقاطيع وجهك الأخرى قادرة على اجتياز المسافة بين وجهينا وترتطم بجبهتي ككرة من المطاط.
وحينما قال لك الشرطي: «أمين فاضل عفيفي.» تغير لون وجهك، ودهشت يومها؛ لماذا بدا اسمك الثلاثي كالسبة؟ وقلت لي بعد أن انصرف الرجل إن رجال الشرطة «أجلاف» من الريف لا يعرفون كيف يخاطبون الناس، ولم أسألك عن معنى كلمة «جلف»، ولم أستطع أن أعرف ماذا تعني بكلمة جلف. حين سمعتها منك لأول مرة كان لون وجهك متغيرا، وحين يتغير لون وجهك أعرف أنك غاضب أو خائف، وقد استطعت بشيء من التمرين أن أفرق بين لون الغضب ولون الخوف. حين ارتطم بنا الأتوبيس فجأة بأتوبيس آخر، أصبح وجهك لونه أبيض مشوب بصفرة، هذا هو لون الخوف، وحين تغضب وتضرب الخادمة بحذائك القديم يصبح البياض مشوبا بصفرة أيضا ولكنها صفرة مختلفة، أما لون وجهك الأصلي فأنا لا أعرفه.
كنت تقول «جلف» بصوت غليظ كثيف اللعاب، فأصبح للكلمة كثافة مادية جعلتها ترتطم بأذني كما ترتطم الزبيبة بجبهتي، واستطعت أن أستنتج من الحوار الدائر بينك وبين صديقك في حجرة الصالون أن هذا الجلف إنما هو الشاب الجديد الذي عين منذ يومين ضمن مرءوسيك، ودخل مكتبك وناداك بالأستاذ «أمين عفيفي» بدلا من «أمين بك عفيفي». كان صديقك منهمكا في تسليك أذنه بعود كبريت، لكنه قال بعد أن أخرج العود وتأمل طرفه: إن بعض الشباب الجامعيين لا يعرفون كيف يخاطبون رؤساءهم، وإن التعليم هبط هبوطا مزريا، والجامعة لم تعد تعلم شيئا.
كنت أجلس في الصالة، وأنصت إلى حديثك مع صديقك كل ليلة وأنتما جالسان في حجرة الصالون، أصنع الشاي وتدخله الخادمة في الأكواب الصغيرة؛ مرة ومرتين وثلاثا وعشرا، وأنتما لا حديث لكما إلا عن هذا الشباب الجديد، وتعددت صفاته؛ مرة جلفا، ومرة طائشا، ومرة أحمق، أما صفة الجنون فقد حلت به حين همس لأحد زملائه الشباب بأنه غير مؤمن بالعهد، ونقل هذا الهمس بالحرف الواحد إليك أحد زملائه.
لم أكن أعرف تماما ما معنى كلمة «العهد»، وظننت أنه اسم رئيسك بالمكتب، لكني فهمت من الحوار بينك وبين صديقك أن العهد هو أحد أسماء الله سبحانه وتعالى.
وبعد أن ينصرف صديقك تطفئ نور الصالون وتراني جالسة في الصالة أحملق في الظلام، وتذهب إلى السرير فتتمدد بجسدك الطويل الضخم كالتمساح، ولا يكاد يتبقى لي مكان، فأنام في مكاني على الكنبة، إلا في تلك الليلة كل شهر أو شهرين أو ثلاثة، حين تذكر فجأة وبغير سبب أعرفه أنني هناك فوق الكنبة، فتنادي علي بصوت غليظ كثيف اللعاب، وأعرف أن ذلك الشيء سيحدث، وأن الزبيبة السوداء سترتطم بجبهتي، وأن الجسد سيصبح راكدا كالبركة، ولا شيء يسري في القلب، لا ألم ولا فرح، والجلد يصبح باردا ساكنا سكون الموت. كنت أعجب من ساقي كيف يثقلان إلى ذلك الحد وأنا أسير من الصالة إلى حجرة النوم، فيصبح جسدي كله ثقيلا كمريضة أو عجوز يبست مفاصلها، على حين تصبح ساقاي خفيفتين وأنا صاعدة إلى جارتنا، أصعد الستة أدوار دون أن أشعر بساقي أو جسدي ودون أن ألهث؟!
جارتنا، لم تكن وحدها بالبيت، كان هناك شخص آخر يجلس في الركن المظلم، لم أره في الظلام، قلت لنفسي: ربما امرأة. لكنه اتجه برأسه ناحيتي، في تلك اللحظة عرفت لأول مرة الفرق بين الرجل والمرأة، شحنة كالخفقة تسري من القلب إلى الفم في ثانية أو نصف ثانية، ساخنة كالدم تصعد سريعا في ضربة واحدة مؤلمة بعض الشيء، أحسست الألم تحت ضلوعي، ناحية اليسار فوق النصف الأسفل من القلب تماما، هناك في نقطة مستديرة محددة، ليس ألما لكنه يصبح في لحظة خاطفة مؤلما، مثيرا إلى حد الخوف، إلى حد الشحوب، له سعادة حادة كالإبرة تغوص في اللحم، وتسري فوق الجلد قشعريرة كالحمى ترج الجسد.
وقالت له جارتنا بصوتها الخافت إنني حرم أيمن بك عفيفي، ابتسم دون أن يتحرك وقال: أيمن عفيفي الموظف. ولأول مرة أعرف لك اسما ثلاثيا آخر، بدا أيضا كالسبة ولم أدهش كيوم جاء الشرطي، لكني أحسست بخزي، إلى حد أن قطرات عرق بدأت تتجمع فوق جبهتي، وكل قطرة قائمة بذاتها، أحس ثقلها واستدارتها، واحدة بجوار الأخرى، كأنما نما فجأة فوق جبهتي عدد من الزبيب المشابه لزبيبتك.
حاولت أن أدافع عنك، خمسة عشر عاما تحت سقف واحد، وفي كل يوم ثلاث وجبات طعام، كنت ألمحك وأنت تنظر بنصف عين في صحني وتعد الأرغفة قبل أن آكل، لكني دافعت عنك وقلت إنك لست أمين عفيفي الموظف، والأدهى من ذلك أنه أضاف صفات أخرى لم أكن أعرفها، وقص عنك حكايات لم أسمعها، بل إنه حكى أيضا قصة أختك فهيمة والشرطي وقراريطها العشرة التي استوليت عليها، وضحك وهو يصفك حين دخلت مرة إلى رئيسك وقد زررت ثلاثة أزرار فقط من الجاكتة، أما الزرار الرابع فيبدو أنك زررته على عجل حين سمعت الجرس، فإذا به لا يدخل في العروة، أو أن جزءا صغيرا فحسب هو الذي دخل، المهم أنك ما إن مثلت بين يدي رئيسك حتى أصبح هذا الزرار الرابع خارج العروة.
بينما هو يروي لي الحكاية تذكرت حوارك مع صديقك عن هذه الحادثة، وسمعت كلمة أزرار تتردد كثيرا، لكني كنت في تلك الليلة ناعسة لا أتابع حواركما متابعة دقيقة.
وخيل إلي أن الأمر يسير وليس خطيرا إلى حد أنك كتبت التماسا إلى رئيسك تطلب منه العفو.
ذكرتني جارتنا بموعد نزولي إليك، لكني كنت أشعر بخزي كبير، وظللت واقفة مترددة، الحقيقة أنه في هذه اللحظة بالذات سقط ضوء خافت على وجهه وصدره، وخيل إلي أنه يدعوني إلى صدره بإشارة بطيئة من يده.
هذه المرة تلامسنا، ولأول مرة أعرف ملمس جسدي ونعومته، حين لامست يدي بشرتي شعرت بحركة داخل أناملي كالكهرباء، عشقت ذراعي وساقي وكدت أحتضن نفسي، جسمي أصبح يخف ويخف، وحين أسير لا تكاد أطراف أصابعي تلامس الأرض، أمشي على طبقة من الهواء تفصل بين قدمي والأرض، فيبدو لي السير كأنني أسبح في ماء، ماء أقل كثافة من الماء العذب.
قلت له: «ما اسمك؟»
قال: «ما أهمية الاسم؟»
قلت له: «ماذا تعمل؟»
قال: «أفكر وأظل في الركن المظلم لا أبارحه.»
قلت: «ليس لك رئيس أو مرءوس؟»
قال: «وليست لي أزرار أزررها، ملابسي جميعا بغير أزرار.»
قلت له: «سأبقى معك، أنت الرجل الوحيد الذي قابلته.»
قال: «ولكنك لست أول امرأة أقابلها.»
قلت: «ليكن، لا أعترض.»
قال: «ولكني أعترض.»
قلت: «لماذا؟»
قال: «وقتي لا يتسع.»
قلت: «ولماذا عرفتني بنفسك؟»
قال: «لأنقذك من الموت.»
قلت: «وتتركني أعود إلى الموت!»
قال: «لن تعودي كما كنت، ستولدين من جديد، ستعودين امرأة أخرى.»
قلت: «لن أقبل حياتي كما قبلتها من قبل.»
قال: «هذا هو المطلوب.»
قلت: «سأجن.»
قال: «هذا هو المطلوب.»
قلت: «أتدعوني إلى الجنون؟»
قال: «نعم، هذا هو سبيل الخلاص.»
وضحكت ضحكة هستيرية وأنا أودعه، وانطلقت نحو السلم أهبط الأدوار الستة، وحينما لمحتك تدخل من الباب لم أعرف كيف امتدت يداي وانهالت عليك ضربا ولكما، وقطعت لك كل أزرارك.
زوجتك فردوس
هؤلاء
لم تكن عيناه الضيقتان الغائرتان تفصحان عما يدور في نفسه، فقد كان يكسوهما غشاء رقيق نصف معتم لا يعلم أورثه عن أمه ضمن ما ورث من أصابع مدببة وأنف كروي غليظ وقفص صدر أجوف، أم أنه زحف إلى عينيه من زوايا جفونه الندية بما يشبه الطل الأبيض يتجمع من تحت الجفون أو من فوقها، أو من ثقب خفي سحري يصل ما بين أنفه وعينيه أو ما بين أذنيه وعينيه؟ لا يدري، كل الذي يدريه أن ذلك الشيء اللزج يأتي كل يوم، ويتجمع دائما أبدا ليستقر في النهاية عند زوايا عينيه ليأكلها أكلا كما تأكل الدودة لوزة القطن، وتجعله يهرشها بأصابعه هرشا جنونيا يريد أن ينتزعها من وجهه كما ينتزع اللوزة الفاسدة من شجرة القطن.
وجلس حسان القرفصاء يغطي ركبتيه المدببتين كرأس العكاز بطرف جلبابه، ويمد رأسه إلى فوق ليبصر العمدة بقفطانه الواسع وكوفيته الصوفية الكبيرة جالسا على كرسي، ومن حوله رجال جالسون على الكراسي يرتدون القفاطين والكوفيات الصوفية، وطرق أذنيه صوت العمدة القوي يقول في حماس مشيرا بأصبعه الصغير: «إني أتكلم من أجل هؤلاء!» وتعلقت عينا حسان من تحت الغشاء النصف المعتم بأصبع العمدة تتبعانه إلى حيث يشير، ورأى أصبع العمدة يسير في الهواء ثم يستقر في النهاية عليهم وهم جالسون على الأرض، يغطون ركبهم المدببة كرءوس العكاكيز بطرف جلابيبهم، ويتطلعون إلى العمدة ورجاله بعيون نصف معتمة وأفواه نصف مفتوحة؛ بعضهم يبتسم، وبعضهم يكشر، وبعضهم غلبه النعاس فتهدلت دون وعي منه شفتاه.
وهبت نسمة باردة فتقلصت شفتا حسان من البرد وتعلقت عيناه بشفتي العمدة المتوردتين النديتين، فأخذ يبلل شفتيه بلعابه الشحيح، وسمع العمدة يقول مرة أخرى: «إني أتكلم من أجل هؤلاء.» وارتطمت كلمة هؤلاء بأذن حسان، ثم ارتدت عنها ككرة من المطاط ترتطم بالأرض، فمد عنقه إلى اليمين وألصق رأسه برأس زميله مختلسا من أنفاسه بعض الدفء، وهمس في أذنه: «ما معنى هؤلاء؟» وفاحت شفتا زميله بدهشة ممزوجة برائحة البصل وقال: «ألا تعرف معناها؟ إن معناها من أبسط ما يكون!» وسقطت بعض قطرات الخجل من رأس حسان إلى وجهه الأصفر كما تسقط قطرات الندى على صفحة البركة الآسنة فتشيع في ركودها حركة خفيفة، وتطلع إلى الرجل في ارتباك وخجل وقال: «وما معناها؟» وشد الرجل عنقه إلى أعلى في خيلاء وقال: «معناها ...» ثم سكت لحظة وهو يضم شفتيه ويضم معهما رائحة البصل، ثم نظر إلي حسان وقال: «معناها أولئك، أفهمت؟» ودفس حسان عنقه في فتحة صدره وتكور حول نفسه صامتا.
ولكنه عاد فسمع العمدة يردد بصوت جهوري وشفتاه تزدادان توردا وانتعاشا: «إنني أتكلم من أجل هؤلاء.» وعادت كلمة هؤلاء ترتطم بأذنه ثم ترتد ككرة من المطاط ترتطم بالأرض، فمد عنقه إلى اليسار وألصق رأسه برأس زميله الآخر مختلسا بعض أنفاسه الدافئة، وهمس في أذنه: «ما معنى هؤلاء؟» ونظر إليه الرجل بعينين مصمتتين مسدودتين، وتهدلت شفته السفلى على ذقنه وهو يقول: «لا أدري.» فمد حسان عنقه إلى الأمام حتى التصقت برأس الرجل الذي يجلس أمامه، واختلس بعض أنفاسه الدافئة وهمس في أذنه: «ما معنى هؤلاء؟» وتشققت شفتا الرجل في تكشيرة جافة وقال: «معناها الرجال الذين يرتدون القفاطين والكوفيات الصوفية. انظر، إنه يشير إليهم!»
ورفع حسان رأسه وبربش بعينيه مركزا نظراته على أصبع العمدة الصغير متابعا حركته، حتى رآه في النهاية يستقر عليهم وهم جالسون على الأرض، فألصق حسان فمه مرة أخرى في أذن زميله الأمامي مختلسا مرة أخرى بعض أنفاسه الدافئة وهمس: «إن أصبعه الصغير يشير إلينا.» وتقلصت شفتا الرجل مرة أخرى في تكشيرة مشفقة، وقال في غضب: «أنت لا ترى! إنه يشير بأصبعه الكبير إلى الرجال ذوي القفاطين!»
واشرأب عنق حسان لتفحص عيناه أصابع العمدة وتعدها واحدا واحدا، وتقيسها وترقب حركاتها الصغيرة منها والكبيرة، ورأى حسان أن أصابع العمدة الخمس تتحرك مع شفتيه في اتجاهات كثيرة مختلفة؛ بعضها فوق، وبعضها تحت، بعضها إلى اليمين، وبعضها إلى اليسار، وبعضها في الوسط، وبعضها تحت الوسط قليلا، وبعضها فوق الوسط قليلا، وبعضها إلى يمين الوسط قليلا، وبعضها إلى يسار الوسط قليلا، وعينا حسان تروحان وتجيئان معها، وتهبطان وتصعدان حتى بدأت جفونه تفرز طلها الأبيض، وتقذف به إلى زوايا عينيه ليركد فيها ويأكلها أكلا.
وخفض حسان بصره وهرش عينيه بأصابعه يريد أن يقتلعهما من وجهه، حتى هدأت بعض الشيء النار المشتعلة فيهما، وعاد صوت العمدة الجهوري يطرق أذنيه، وعادت كلمة هؤلاء ترتطم بعظام رأسه كالكرة الصماء، فتلفت حوله في حيرة، إلى اليمين وإلى اليسار وإلى الأمام، وشعر بهواء دافئ يلفح رقبته من الخلف، فالتفت وراءه ورأى الرجل الجالس وراءه يتابع كلام العمدة بفم مفتوح وأنفاس لاهثة؛ فمد جذعه إلى الوراء حتى لامس رأسه رأس الرجل، وسحب من أنفاسه الدافئة السخية قدرا كبيرا، وألصق فمه بأذنه وقال: «ما معنى هؤلاء؟» ولم يلتفت إليه الرجل ورد عليه بسرعة: «استمع وأنت ساكت، لا تتدخل فيما لا يعنيك!»
واسترد حسان فمه من أذن الرجل، ولملم أطرافه حول جسده وانكمش داخل جلبابه صامتا.
ولكن عينيه عادتا وتسللتا رغما عنه لتقتفيا أثر أصابع العمدة، تصران على الرؤية والمعرفة، لكن أصابع العمدة كانت تهذي بحركات في كل اتجاه. وتلفت حسان حوله، ورأى الرجال الأربعة يحوطونه من الأمام ومن الخلف ومن اليمين ومن اليسار، يفصلون بينه وبين الآخرين، وأن عنقه مهما امتد فلن يصل إلى أكثر من فم الرجل الذي أمامه أو خلفه أو عن يمينه أو عن يساره، هؤلاء الأربعة الذين يحاصرونه ويصنعون من حوله أربعة جدران لا يستطيع النفاذ منها.
وتململ حسان في جلسته، شيء في جسده بدأ يؤلمه، شيء كالإبرة يغز في جلده ويفتح بعض مسامه المسدودة بالطين. كان هادئا، وكان إذا جلس لا يتململ، بل يجلس ويجعل أليتيه تفترشان الأرض في ارتخاء لذيذ، ويظل جالسا مسترخيا هادئا يشعر بلكزة حادة في كتفه، فيقوم متثائبا ليجمع الدود من شجر القطن، ولكنه الآن لا يستطيع أن يهدأ، ولا يستطيع أن يجعل أليتيه تفترشان الأرض في استرخاء لذيذ، فالإبرة تلدغه في جسده، في قفص صدره، أو في أليتيه، أو في عظام رأسه، لا يدري، كل الذي يدريه أنها مختفية في مكان تحت ملابسه، تحت جلده، تلدغه وتؤلمه وتنغص عليه جلسته.
وأخرج حسان ساقيه من تحت جلبابه، وبعثر أطرافه من حول جسده يريد أن ينفض عنه تلك الإبرة التي تلدغه هنا وهناك كالبرغوث الخبيث، وأحس أن ذراعيه وساقيه تمتد إلى آخرهما دون أن تصطدم بجدار من الجدران الأربعة، وتلفت حوله في دهشة ورأى العمدة قد انصرف ومن حوله الرجال ذوو القفاطين، ومن ورائهم ذوو الجلابيب؛ فانتصب واقفا وسار في إثرهم مسرعا، واستطاع أن يلحق بأحد الرجال يسير مستندا على عكاز من الخشب، فاقترب منه وألصق فمه بأذنه وقال: «ما معنى هؤلاء؟» واتكأ الرجل على عكازه متوقفا وقال في غضب: «أتسألني أنا؟ هل أنا الذي قلتها؟ لماذا لا تسأل الذي قالها؟» ولوح بذراعه في الهواء غاضبا، وضرب عكازه في الأرض، وراح يخب كالجواد المنهك.
ووقف حسان في الشارع يهرش عينيه. أجل، لماذا لا يسأل العمدة؟ إنه هو الذي قالها، ولا شك هو الذي يفهمها.
وسقطت بعض قطرات الحماس من رأسه إلى وجهه الأصفر كما تسقط قطرات الندى على صفحة البركة الآسنة، فتكسب ركودها بعض الحياة.
وسار حسان إلى دوار العمدة، واقترب من بابه الخشبي الكبير فاقترب منه رجل يرتدي قفطانا وكوفية ويحمل على كتفه بندقية، ورأى رأس البندقية مصوبا إلى رأسه، فاغرا فاه كالجرو الجائع أو كالأفعى الظامئة، وتخلخلت ساقا حسان تحت ثقل جسده، وود لو هبطت أليتاه إلى الأرض واستقرتا عليها في راحة واسترخاء، لكنه استطاع أن يتطلع إلى الرجل ذي القفطان والكوفية، متفاديا قدر طاقته النظر داخل الفوهة السوداء السحيقة، واستطاع رغم التصاق لسانه الجاف بحلق فمه أن ينطق بكلمات مبتورة ويقول للرجل إنه يرغب في مقابلة العمدة. ولم يعرف حسان لماذا اتسعت حدقتا الرجل وهو ينظر إليه، واقتفى أثر عينيه وهما تهبطان إلى قدميه، ولمح أصابعه المدببة الرفيعة تكسو شقوقها القصيرة طبقة رقيقة جافة من الطين الأسود، وشعر بالرجل يقترب منه ويمسكه من طرف جلبابه ويجره وراءه كالجرذ الميت، ورأى حسان نفسه داخل حجرة واسعة، ورأى أمامه رجلا آخر يرتدي قفطانا وكوفية ويحمل بندقية كبيرة كالمدفع، وارتعدت ركبتا حسان وهو يشيح بعينيه بعيدا عن فوهة النار المصوبة إلى رأسه، لكن الرجل لكزه في كتفه برأس البندقية مستفسرا عما يريد، وانتزع حسان لسانه من سقف حلقه وأخرجه من بين شفتيه اليابستين ثم أدخله وقال إنه يريد مقابلة العمدة، ثم أغمض عينيه وقرأ بينه وبين نفسه الشهادة.
ولم يعرف حسان ماذا حدث أثناء قراءته للشهادة، ولكنه فتح عينيه ورأى الرجل ذا القفطان والكوفية يشير إلى الرجل الآخر ذي القفطان والكوفية، وشعر بما يشبه الخدر بأصابع الرجل الكبيرة وهي تقبض على ذراعه وتقوده إلى باب كبير، ووضع قدمه على عتبة الباب وخطا خطوة صغيرة ثم رفع بصره لينظر أمامه، فوجد نفسه في الشارع الفسيح.
لا أحد يقول لها ...
الشارع طويل مزدحم، والضباب متراكم كثيف، والأشياء من حولها لا تبدو واضحة، لكنها لا تتوقف؛ إنها تبحث عن أشياء، أشياء لا تعرف اسمها، ولكنها تريد أن تعرف، وتريد أن تستعد، فالشيء الفظيع سيحدث، وقلبها يدق دقات متأرجحة، وأصابعها محشورة في بوز الحذاء المدبب، وكعبها معلق في الهواء على عمود رفيع من الخشب، والطرقعات عالية مخجلة، وشكل قدميها مشوه؛ انبعاج من القاع وتقوس من فوق، تشبهان قدمي أمها، وأقدام صديقات أمها، وكل النساء الكبار، وهي تكره هذا الشبه وتخافه؛ فالنساء الكبار تحيط بهن أشياء غريبة، يخفينها في همسات لا تصل إلى أذنيها، وغمزات العيون لا تفهمها، وضحكات مكتوبة ممطوطة، وأشياء غريبة تخفيها أمها في أعلى درج من الدولاب؛ أربطة طويلة مطاطة، وطبقات كثيرة من قماش سميك، ونظرات غريبة في عينها، خاصة في الحمام حين تساعدها في تنظيف جسمها، تصبح نظرات أمها متعرجة متوجسة، وكلمات ما على طرف لسانها تريد أن تبوح بشيء ولكنها لا تبوح، خطر غامض يختبئ في جسدها، ولا شيء أمامها سوى جدار الحمام العالي الصامت، وأنفاس أمها زفرات مختنقة، وفوق عينيها غمامة لا تنقشع إلا حين تكون الضحكات الممطوطة والغمزات، بل في ذلك الوقت أيضا كثيرا ما تظل هناك سحابة رقيقة من الحزن تطفو على عيني أمها، وعيون صديقات أمها، وكل النساء الكبيرات، شيء ما يتربص بالنساء، شيء يخيفها، وطرقعات الكعب العالي تخجلها، وأصابعها المحشورة في بوز الحذاء تؤلمها، وتقوس قدميها يشيع في جسمها رجفة، يقرب الشبه بينها وبين أمها، ويقربها من الشيء الغامض المخيف، وقلبها لا يكف عن الدق، والحقيبة الصغيرة تحت إبطها والقروش داخلها تشخشخ، ليست كشخشخة الحصالة الصفيح. كل يوم كانت تسقط في الشق قرشا أو نصف قرش إذا ما اشتد شوقها للبان، وكل يوم ترفعها إلى أذنيها وتهزها؛ شخشخة القروش لها رنين حلو، وهي ستفتح الحصالة يوما وتصبح غنية، وتشتري لبانا كثيرا تملأ به فمها، وليست تلك القطعة الصغيرة التي تدخل في ضرسها أو تلتصق بسقف حلقها، والباقي تفرقه على زميلاتها في المدرسة، ما عدا واحدة؛ تلك التي تمضغ كل يوم ولا تعطيها شيئا.
واللبان كان أجمل شيء في حياتها، ولكن الحصالة ازدادت ثقلا، وجسمها لم يعد خفيفا، السلالم التي كانت تقفزها ثلاثا ثلاثا لم تعد تقفزها، وأحيانا لا تقفز إلا اثنتين، وحين تدب بقدميها على الأرض يرتج جسمها وتشعر بألم ما، في مكان ما، ربما في صدرها، في المكان الذي يعلو مؤلما مدببا كرأس الدمل، والبنطلون أيضا لم يعد يدخل، والجوانب تمزقت ثم استحال إلى فوطة للمطبخ، ولم يأت لها بنطلون آخر، وهي تحب ركوب الدراجة أكثر من أي شيء آخر، ربما أكثر مما تحب اللبان، ولكن عيني أمها بنظراتهما المتوجسة المتعرجة تجعلانها تنكس رأسها في صمت.
ركوب الدراجة أيضا أصبح محفوفا بالخطر، والأشياء من حولها تتخذ شكلا مختلفا مثيرا الشكوك؛ صدور فساتينها المستقيمة برزت في كشكشة غريبة، وفانلاتها البيضاء تحولت على قمصان ملونة لها أربطة مريبة تشبه قمصان أمها، وهذا الشبه يخيفها، يقربها من الشيء المخيف، وكل ما يدور في البيت ينذرها، المجلات المصورة اختفت من مكانها على المنضدة، والراديو الذي كان يغني طول النهار أصبح يهمس في أذن أمها، والخروج للعب في الحديقة أصبح محرما، بل مجرد المشي في الخلاء وشم الهواء أصبح ممنوعا.
الحياة خارج البيت أيضا تخبئ لها خطرا غامضا، وعينا أمها تتجسسان على جسدها؛ كل جزء فيه، وكل حركة، وكل خلجة، حين تجلس في حجرتها، وحين تنام في السرير، وحين تدخل الحمام، وحين تضع يدها على رأسها أو بطنها. شيء ما سيحدث، شيء فظيع، شيء لا تعرفه ولكنها تريد أن تعرفه، مهما كان فظيعا فإن عدم معرفته أفظع، وهي تريد أن تعرف كي تستعد، لكن أمها لا تريد أن تنطق، وهي لا تستطيع أن تسأل، كل ما تفعله هو البحث في الخفاء؛ تحت السرير، في الدولاب، في الحمام، تحت ملابسها، بين أصابعها، في ثنيات جسمها، وقلبها الصغير ينقبض على نفسه في تخوف، وشفتاها الرقيقتان تتقلصان في توجس، وأنفاسها تتكور في حلقها وتتصلب. الموت هو الحل الوحيد قبل أن تحل الكارثة، ولكن الموت مخيف أيضا، وسكينة المطبخ بليدة تتثنى على جدار بطنها ولا تدخل، والأشباح تزحف مع الظلام محملة بالسكاكين، ولها أظافر طويلة أو مخالب، أو رءوس مدببة كرءوس الثعابين بداخلها أنياب، وتحاول أن تصرخ لكن صوتها لا يطلع، وتحاول أن تجري لكن قدميها مشلولتان. النوم أصبح عبئا جديدا، وهي لم تكن تتذكر الأحلام، لكن الأحلام أصبحت لا تنسى، فهي تأتي بالليل وتمتد إلى النهار، وأحلام النهار ليست مخيفة، فهي تعوم في بحر دافئ، وعلى جسدها فستان هفهاف شفاف، وذراع تمتد من الماء تدغدغها، ورأس الأمل على صدرها يؤلمها، ليس ألما شديدا لكن جسدها ينتفض، تخنقه لذة خفية، وتحاول أن تجري، لكن الذراع تمسك بها، وعينا أبيها تبكيانها، وتختفي الذراع وراء الدموع ولكنها تريدها، وتشد جفنيها لتغلقهما، فلا تأتي الذراع ولا عينا أبيها وإنما عينان أخريان، تشبهان عيني مدرسة الحساب، وحكايات مدرسة الحساب غريبة، تعرفها كل بنات المدرسة، فقد دخلت الحمام يوما ثم خرجت، ووجدن منديلا غارقا في حبر أحمر، وهمست بنت في أذنها: «لا تريد أي مدرسة تكتب بالحبر الأحمر.» وشدتها بنت أخرى من ملابسها قائلة: «إنها تخاف من اللون الأحمر؛ ديك رومي كبير قفز على كتفها وعضها، كانت ترتدي فستانا أحمر.» وأدخلت بنت أخرى فمها في أذنها هامسة: «ليس حبرا أحمر يا عبيطة. دم، مرض غريب يصيب كل مدرسات الحساب!» والهمهمات تدور والغمزات والشهقات، وتتطاير في الجو كلمات، تلتقطها الآذان الصغيرة المرهفة؛ كل المدرسات، لا كل البنات، كل النساء. وتتلفت العيون البريئة حولها في حيرة، وتلاصق الأجساد الصغيرة بعضها ببعض في فزع، ما من واحدة تعرف الحقيقة، وكل واحدة تحكي قصة غريبة، سمعتها من أمها أو جدتها أو الخادمة الكبيرة.
الأطفال الصغار يولدون من آذان النساء، وتتحسس كل واحدة أذنيها في خوف وحذر. لا ليس من الآذان، من الأنوف، وتقرب كل واحدة طرف أصبعها المرتجف من فتحة أنفها، لا يمكن من الأنف، الفتحة ضيقة، الأطفال لا يولدون بسهولة، شيء فظيع يحدث قبل ذلك، لا تبوح به الأمهات، كارثة تتكرر كل سنة! لا تكوني عبيطة ... كل شهر. يا للمصيبة!
ولكن الانتظار فظيع، أفظع من الكارثة، فلتحل بها المصيبة الآن، وهي تحس ألما خفيا في أحشائها. لا، ليس الآن، ليس في الشارع، والناس كثيرون، لهم شوارب كثيفة، وسراويل طويلة، ستكون فضيحة، ولتنكمش على نفسها وتتضاءل، أو فلتنشق الأرض وتبتلعها. ولكن الأرض لا تنشق، والعيون من حولها ترقب خطواتها، وتتسلق ساقيها وتقيس ردفيها، شيء منكر في جسدها، شيء آثم، العيب؛ العيون تتهمها، والنظرات تحاصرها، وهي تسرع الخطى، والكعب الرفيع يطرقع، والقروش تحت إبطها تشخشخ، والألم الخفي يغوص في أحشائها، والشيء الفظيع سيحدث، وهي تريد أن تستعد، لكن المحلات كثيرة، والبقالة فيها أربطة ولكنها ليست كأربطة أمها، والخردوات فيها أربطة ولكنها لا تشبه الأربطة، وأصابعها المكورة في بوز الحذاء تلتهب، والعضلات في بطنها تتقلص، وقلبها يغوص إلى القاع، وأنفاسها تصعد إلى السماء، والكارثة أصبحت وشيكة، وهي لم تستعد؛ فالأشياء غير موجودة، أشياء لا تعرف اسمها، لا أحد يعرف اسمها، وهي تريد أن تعرف لكن أمها لا تقول لها، ولا أحد يريد أن ينطق، وهي لا تستطيع أن تسأل، وكعبها العالي يطرقع، والقروش تحت إبطها تشخشخ، والشارع طويل مزدحم، والضباب متراكم كثيف، والأشياء من حولها غير واضحة ولكنها تسير ولا تتوقف.
بلد غير البلد
يداها تسدان أذنيها، فالصوت لا يمكن احتماله، صوت لم تسمعه أبدا في كل عمرها الذي مر، كانت تسمع عن شيء اسمه الحرب، وقنابل تلقى من الجو والبيوت تهد والناس تحرق، وشهدت الانفجارات والحرائق، ولكن كل هذا تمثيل في تمثيل، فالسينما غير الحياة، والأشياء التي تحدث في السينما غير الحياة، وإلا فلماذا صنعوا السينما؟ وكانت تحب مناظر الحرب على الشاشة، فهي مغامرات مسلية كمغامرات الحب والجنس وغيرهما من الأساطير والخرافات ، والحياة أو حياتها هي بالذات ليست فيها خرافات أو مغامرات، إنها امرأة شريفة، تزوجت وأنجبت ستة بشرف، دون أن تعرف الحب أو الجنس، زوجها لم يرها وهي تخلع ملابسها أبدا، وحين يقترب منها في السرير تصده بقوة، وضميرها لا يؤنبها حين تستسلم لأنها تقاومه لآخر نفس، ولأنها لا تشعر بلذة وإنما بألم.
وانطلق صوت مدفع فضغطت بيديها على أذنيها وعظام رأسها: «يا ساتر يا رب! الحرب قامت بحق وحقيق.» لم تكن تصدق أن تقوم الحرب، أو أن تسقط قنبلة على بيتها، أو أن تموت أو تفقد ذراعها أو ساقها، هذه الأشياء المفزعة تحدث في السينما، أو لغيرها من الناس، أما هي فلا يمكن أن يحدث لها شيء من هذا القبيل، إنها تخاف من ذوي العاهات والمشوهين، وتخاف من جثث الموتى وهي مغطاة بالملاءة، وإذا سافر زوجها لبعض أيام أتت بجارتها لتبيت معها في الشقة، وإذا دخلت الحمام ورأت صرصارا يجري خرجت مذعورة، خصوصا إذا كان من النوع الكبير الطيار، وإذا استيقظت في منتصف الليل على صوت كركبة في المطبخ تكورت حول نفسها تحت اللحاف وكتمت أنفاسها حتى لا ينتبه اللص أو ما شابهه إلى وجودها في الشقة.
ودوى صوت فرقعة، فجرت تنتفض واختبأت تحت السرير: «لعنة الله على الطمع، كنا في دمنهور بلدنا والناس تعرفنا، والدي كان بيكسب، لكن هو طول عمره طماع، صبر زي الجمل خمس سنين وورث الدكان عن أبويا، وفضل يزن على دماغي، التجارة في الإسماعيلية تكسب ذهب، وأخويا هناك له دكان على القنال وتسع صبيان يشتغلوا ليل نهار، والنبي محمد قال شاركوا إخوانكم في الرزق.» ولطمت خدها: «والله ما شوفنا رزق، الواد محمد خدوه الجهادية، والخمس بنات جوزناهم من قرشين دمنهور، لو فضلت واحدة معايا، بعد ست مرات حبل وولادة أموت زي الكلب وحدي.»
وأنصتت من تحت السرير ولم تسمع شيئا، فزحفت خارجة، وما إن وقفت على قدميها حتى فرقعت قنبلة في الجو أو في الأرض وهزت جدران الشقة، فقفزت أم محمد داخل الدولاب: «يا ساتر يا رب! يا حفيظ! احفظ المسلمين. مش ممكن تنصر الكفرة على المسلمين، أستغفرك يا رب. ده غضب من عند الله، حكمتك يا رب، لك حق تغضب يا رب، ما بقاش فيه إسلام والذمم خربت، أخوه وولاده التسعة بيسرقوا نصيبنا في الدكان، وهو كمان ياما غالط أبويا في الحساب، وعمري ما شفته ركع ركعة. لكن اغفر يا رب لعبادك المسلمين، هم بعيوبهم برضه أحسن من الكفرة.»
ومدت أذنها خارج الدولاب، وبدا كل شيء ساكنا، فزحفت خارجة بحذر، وما إن استقرت قدماها على الأرض حتى انكفأت على وجهها ممسكة رأسها وأذنيها بيديها؛ هزة كالزلازل حركت الأرض من تحت قدميها، وصوت انفجار ملأ أذنيها بصفير حاد ولم تعد تسمع أو ترى شيئا.
لكنها تنبهت بعد لحظة، وتحسست رأسها وكتفيها وذراعيها وساقيها، كل شيء في مكانه، ورفعت عينيها بحذر إلى فوق، السقف لا زال منصوبا فوق رأسها، وانتقلت عيناها إلى الحجرة، الجدران لم تقع، والدولاب والسرير والتسريحة وكل شيء كما كان، ربما تكون حجرة الجلوس هي التي وقعت، هذه هي الكارثة. «الطاقم المدهب اشتراه المرحوم أبويا بمية وستين جنيه، الست تفيدة وكل الجيران نقلوا عفشهم من أسبوعين، قلت له نأجر لوري يابو محمد وننقل العفش، قالي: «يا شيخة أنت مصدقة إن الحرب حتقوم! ده كلام جرايد، طول عمري أسمع عن الحرب، لكن عمري ما شفتها بعيني».» - «أمال الناس نقلت عفشها ليه يابو محمد؟» - «قرود بيقلدوا بعض، واحدة ست عقلها فارغ والكل قلدها.»
ووقفت على قدميها بحذر، ومطت عنقها ناحية الباب لترى مدخل حجرة الجلوس من الصالة. «الطاقم المدهب زمانه بقه حتت. يا خسارته! والنبي ما حد قعد عليه غير المرحوم أبويا يوم الصباحية.»
وسارت خطوات حذرة بطيئة إلى الصالة، يداها تمسكان برأسها وتسدان أذنيها، وعيناها تتجولان في أنحاء الشقة. «نحمدك يا رب، الطاقم المدهب سليم، وكل حاجة سليمة، ألف حمد وألف شكر.» وتعثرت قدمها في شيء على الأرض: «يا خبر أسود، إيه ده؟ إزاز مكسر؟!» وتطلعت في ذعر إلى النوافذ، ووجدت الشيش وبقايا ألواح الزجاج، ورأت الأرض مفروشة بقطع صغيرة من الزجاج. «الإزاز مش بتاعنا، بتاع صاحب البيت.» وابتلعت ريقها واقتربت من ترابيزة الأكل، ورأت قطعة صغيرة لا تشبه قطع الزجاج تماما، ومدت إليها يدها بحذر وأمسكتها بأطراف أصابعها لحظة، ثم ألقت بها على الأرض مفزوعة: «يا خرابي! لتكون شظية ولا قنبلة ولا البتاع اللي بيسموه النابلم.»
مر وقت دون أن تسمع صوتا، وبدا كل شيء هادئا، فأنزلت يديها من فوق أذنيها وفتحت شيش النافذة بحذر؛ كان الدكان هناك كما كان على رأس الشارع، وأبو محمد واقف أمامه وسط جمهرة من الناس، رءوسهم تتقارب وتتباعد وتتلفت حولها وأصابعهم تشير إلى شيء، وتعقبت عيناها الأصابع ثم صرخت من الفزع؛ كان بيت السيدة تفيدة جارتها قد وقع. «بيتهم ملكهم، يادي الكارثة! لكن الحمد لله الست تفيدة سافرت هي وعفشها وولادها على طنطا، إنما حسنين أفندي ... يا خبر أسود ليكون كان جوه البيت؟! يا عيني يا حسنين أفندي! كنت موظف عليك القيمة في المحافظة.»
وارتدت البالطو الأسود فوق جلباب البيت، وخرجت إلى الشارع، ولمحها زوجها فابتعد عن الناس مقتربا منها، وقال لها وهو يهرش صدره: «الدكانة سليمة والحمد لله.» - «فلوس حلال يابو محمد.» - «حلال الحلال.» - «وحسنين أفندي؟» - «ربنا أنقذه، كان معايا في الدكان.» - «راجل ابن حلال يابو محمد.» - «ربنا مع المسلمين.» - «ومراته بنت حلال، نقلت عفشها من أسبوعين. ما ننقله احنا كمان يابو محمد.» - «ننقله فين يا أم محمد.» - «عند أختي في دمنهور.» - «ومن هنا لدمنهور يتكلف كام؟» - «يتكلف اللي يتكلفه، ده الطاقم المدهب لوحده بمية وستين جنيه، أنت نسيت ولا إيه؟» - «حسنين أفندي بيقول المحافظة بتجيب لوريات، أروح بكرة مع حسنين أفندي نأجر لوري.» - «نروح دلوقت، احنا عارفين بكره حيحصل إيه؟»
تعقبت عينا زوجها وحسنين أفندي من الخلف وهما يسيران نحو المحافظة، كانت تسير وراءهما ببضع خطوات، وتعثرت قدماها أكثر من مرة في قطع الطوب التي سقطت من شرفة منزل، وقبلت يدها ظهرا وبطنا وهي ترى دكانا متهدما تماما، وأشاحت بوجهها بعيدا عن رجل نزفت الدماء من رأسه وبعض الرجال يحاولون حمله. «يا حفيظ يا رب! هي دي الحرب؟ شكلها مش زي الحرب اللي في السينما.» وتعقبت عيناها ظهر زوجها وانتقلت إلى ظهر حسنين أفندي، زوجها قصير محني، له صنم لم تره إلا ليلة الزفاف، وتذكرت منظر الرجل الذي كان ينزف: «صنم صنم بس يعيش.» ورأت زوجها وحسنين أفندي يتوقفان، واستدار زوجها وقال لها: «انتظرينا هنا يا أم محمد.»
وقفت أم محمد في مكانها، لكن عينيها أخذتا تتجولان حولها، ورأت مبنى كبيرا له نوافذ زرقاء، ومن حوله حديقة كبيرة لها سور من السلك نمت عليه شجيرات الياسمين البيضاء، واقتربت من السور تتفرج، ورأت رجلا يلبس جلبابا ويمسك خرطوما ويرش الزهور بالماء. كانت هناك أحواض من زهور حمراء وبيضاء وصفراء وبنفسجية، وسمعت صوت رذاذ الماء وهو يسقط على الزهور، فتذكرت حادثة مرت في طفولتها؛ كانت قد ملأت الزلعة من البحر، وفجأة زلت قدمها فوقعت الزلعة وغرقت رأسها بالماء. وتوقف صوت الماء، فرفعت رأسها منتبهة ورأت رجلا يرتدي بدلة يقف مع الرجل ذي الجلباب الذي كان يرش الحديقة، ورأتهما وهما يسيران بين أحواض الزهور، ويقتربان من حوض كبير بجوار السور حيث تقف، وسمعت الرجل ذا البدلة يقول بصوت عال: «الورد ده مش عاجبني.» ويرد الرجل ذو الجلباب بصوت منخفض: «ليه يا فندم؟» - «اللون الأحمر باهت، الورد لازم يبقى أحمر خالص.»
وتعلقت عيناها بشفتي الرجل المتوردتين وهو يقول: «أحمر خالص، أحمر لون الغزال.»
ورد الرجل ذو الجلباب: «حاضر يا فندم.» وغادر الرجل ذو البدلة الحديقة واختفى في المبنى الكبير، وعاد الرجل ذو الجلباب يرش الحديقة.
وألصقت وجهها بالسور تتأمل الورد الأحمر وتشم رائحة الياسمين، وتتابع بأذنيها وقع رذاذ الماء فوق الزهور. «أنا في حلم؟ أنا فين؟ في أي بلد؟» تذكرت أن الحرب قد قامت منذ ساعة أو أكثر قليلا في الإسماعيلية، وأنها كانت في البيت، وأنها سمعت الضرب، وأنها رأت بيت حسنين أفندي متهدما، إنها تذكر كل هذا، ولكنها لا تذكر أنها ركبت قطارا أو أتوبيسا لتسافر إلى هنا ! أيمكن أن تنتقل من بلد إلى بلد سيرا على الأقدام؟ «اللهم اخزيك يا شيطان، يمكن ركبنا القطر!»
وتنبهت على صوت عال يأتيها من الحديقة: «بتعملي هنا إيه يا ولية؟» - «هو احنا فين ياخويا؟» - «في الإسماعيلية.» - «أمال الحرب كانت فين من ساعة كده؟»
وأشار الرجل بالخرطوم ناحية شارعهم وقال: «كانت هنالك، بعيدة، في القرشية. ابعدي عن السور لارشك بالميه.»
وأبعدت وجهها عن السور، وظلت عيناها شاردتين، ورأت زوجها وحسنين أفندي يقبلان نحوها، وسمعت زوجها يقول: «اللوري جاي بكره.» وسارت إلى جواره صامتة، ثم فجأة سألته: «حانرجع ماشيين ولا راكبين القطر؟» وخيل إليها أن زوجها يحملق في وجهها بعينين واسعتين، لكنها عادت تسأل بهدوء: «حانرجع ماشيين ولا راكبين القطر؟»
Bilinmeyen sayfa