Kaç Yaşında Öfke?: Hikil ve Arap Zihninin Krizi
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Türler
مقدمة
1 - انتقام الأرشيف
2 - من الذي يشتم مصر؟
3 - لعبة الأحياء والأموات
4 - ظروف العائلة أم اختيار مقصود؟
5 - التاريخ والحقيقة الضائعة
6 - ورثه مصر، ونسى!
7 - مع السادات على جناح واحد
8 - الجذور
9 - عمنا سام
Bilinmeyen sayfa
10 - من الذي هدم الهيكل؟
مقدمة
1 - انتقام الأرشيف
2 - من الذي يشتم مصر؟
3 - لعبة الأحياء والأموات
4 - ظروف العائلة أم اختيار مقصود؟
5 - التاريخ والحقيقة الضائعة
6 - ورثه مصر، ونسى!
7 - مع السادات على جناح واحد
8 - الجذور
Bilinmeyen sayfa
9 - عمنا سام
10 - من الذي هدم الهيكل؟
كم عمر الغضب؟
كم عمر الغضب؟
هيكل وأزمة العقل العربي
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
قبل أن يظهر كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل المشهور «خريف الغضب» في الأسواق، نشر على هيئة سلسلة من المقالات في صحيفة «الوطن» الكويتية، وطوال الوقت الذي كانت تنشر فيه هذه المقالات، كانت سلسلة أخرى من الأفكار تتفاعل في ذهني وتتبلور يوما بعد يوم. كان كتاب هيكل، بغير شك، هو السبب المباشر في إثارة هذه الأفكار، ومع ذلك فقد كانت أصولها أبعد من ذلك وأعمق بكثير؛ إذ كانت في نهاية المطاف تأملات في تلك الأزمة العقلية الشاملة التي شوهت تفكيرنا، حكاما ومحكومين، في النصف الثاني من القرن العشرين. وحين اطلعت على ردود الفعل التي أثارها كتاب هيكل، أو ما نشر منه، في الأوساط الرسمية والإعلامية والثقافية المصرية، والطريقة التي استجاب بها الناس له، ما بين موافق ومخالف، ازدادت الأمور في ذهني وضوحا، وتبين لي أن المناخ السائد، الذي تولدت عنه هذه الأزمة العقلية، يلف الجميع، من مؤيدين ومعارضين، مهما بدا من اختلاف ردود أفعالهم في الظاهر، وكانت المهمة التي أخذتها على عاتقي هي أن أحدد أبعاد هذه الأزمة، وأثبت أن المشكلة ليست مشكلة هيكل وحده، أو مشكلة التضاد بين هيكل وتلك القوى التي وقفت تحتج وتعترض عليه، وإنما هي أوسع من ذلك وأخطر، فقد تشوهت أشياء كثيرة في عقولنا، بفعل فترة القمع الطويلة التي لم تسمح لفكرنا بأن ينمو ويتطور بحرية، وإذا كان هذا التشويه قد ظهر بوضوح كامل في معركة «خريف الغضب»، بين أنصار هيكل وخصومه، فإن هذه المعركة لم تكن في الواقع إلا مظهرا واحدا لداء أصبح متأصلا في عقولنا، ولطريقة في التفكير فرضت نفسها على مختلف أطراف الصراع السياسي والاجتماعي الراهن.
في ضوء هذه الفكرة المحورية سجلت آرائي في هذا الموضوع في عشر مقالات كتبتها في عشرة أيام، وإن كان مضمونها حصيلة تفكير طويل، وظهرت في صحيفتي «الوطن» الكويتية، و«الرأي» الأردنية في وقت واحد، ونشرت خلال شهري يونيو، ويوليو 1983م، وكانت ردود الفعل على هذه المقالات دليلا واضحا على صحة تشخيصي للأزمة، التي انتابت العقل العربي نتيجة لعهود القمع الطويلة.
Bilinmeyen sayfa
منذ اللحظة الأولى اتخذت صحيفة «الوطن» الكويتية، موقفا مناوئا لي ومجاملا لصاحب «خريف الغضب»، وكان جزء من هذا الموقف راجعا إلى النفوذ الضخم، الذي يمارسه صاحب ذلك الكتاب على قطاعات هامة من الصحافة العربية، وجزء آخر راجعا إلى إحساس الكثيرين، من المسئولين عن النشر في تلك الصحف، بأن الأفكار التي أحللها وأنقدها تزعزع كثيرا من المعاني والقيم الراسخة في نفوسهم، وقد ظهر ذلك بوضوح صارخ فيما بعد، حين قامت هذه الصحيفة بحذف الجزء الأساسي من المقال التاسع، الذي يتناول علاقة هيكل الخاصة بأمريكا، وعنوانه: «عمنا سام». وكان المضحك المبكي في عملية الحذف هذه هو أن الجزء المحذوف، كان في معظمه اقتباسا طويلا من كتاب سابق لهيكل نفسه، وهو اقتباس يستطيع القارئ أن يستنتج منه بسهولة، أن أمريكا تتوقع من هذا الصحفي الكبير أن يلبي لها طلبات غير عادية، لا هدف لها سوى تحقيق المصالح الأمريكية الخاصة، ولم أكن في هذا الجزء بالذات إلا ناقلا لكلام هيكل ذاته، مع بعض التعليقات البسيطة، ومع ذلك فإن الصحيفة الناشرة كانت تخشى على هيكل من هيكل نفسه، فأدى بها حرصها على إرضائه إلى الامتناع عن نشر كلماته ذاتها!
على أن ردود فعل الجمهور على ما نشرت كانت تستحق التأمل؛ فقد وجد ما كتبته صدى طيبا لدى فئتين؛ فئة الشباب من جهة، وفئة الكبار الذين كان وعيهم السياسي والاجتماعي، قد بدأ يتبلور قبل ثورة 1952م من جهة أخرى. كان الشباب متحمسين لما كتبت؛ إذ كانوا يرون فيه طابعا غير مألوف، يستجيب لرغبتهم في نقد الأوضاع الفاسدة من الجذور، وكان النقد الحاد الذي وجهته إلى أسلوب التفكير السائد في عهد كامل، يتمشى مع ما يلمسونه حولهم كل يوم من مظاهر الانهيار الناجمة عن أخطاء ذلك العهد، ويتجاوب مع طموحهم إلى تشييد بناء جديد، مختلف بصورة جذرية عن الأوضاع القائمة والمتوارثة. أما الكبار فكانوا سعداء بما كتبت؛ لأنه يمثل خروجا عن الأطر الضيقة، التي ظل الفكر السياسي يدور فيها، حتى في كثير من أوساط المعارضة، طوال العقود الثلاثة الأخيرة.
أما الفئة التي وقفت موقف المعارضة مما كتبت، فكانت تنتمي إلى الجيل الأوسط، أعني ما يطلق عليه جيل الثورة، ولست أعني بذلك أن جميع أفراد هذه الفئة قد اتخذوا من كتابتي موقفا سلبيا؛ إذ إن الكثيرين منهم أبدوا تحمسا واضحا، ولكن ما أعنيه هو أن الجزء الأكبر من المعارضين كانوا ينتمون إلى هذه الفئة.
كان عدد غير قليل من هؤلاء المعارضين من ذوي الارتباطات السابقة بثورة 23 يوليو، وكان همهم الأكبر هو الدفاع عن هذه الارتباطات، وتلك في الواقع ظاهرة مؤسفة في حياتنا السياسية المعاصرة. فيكفي أن يكون المرء قد احتل يوما ما موقعا في الاتحاد الاشتراكي، أو منظمة الشباب، أو التنظيم الطليعي، حتى يهب لمهاجمة كل من يتصدى بالنقد لممارسات ثورة يوليو، وكأن هذا الناقد يوجه إليه هجوما شخصيا يتعين عليه أن يصده بهجوم مضاد، يدافع به عن ارتباطه السابق ويبرره، في ثنايا دفاعه عن النظام كله وتبريره. والأمر الذي فات هؤلاء هو أن المنظور الذي كتبت منه لا علاقة له بالأشخاص وانتماءاتهم، وإنما هو منظور أوسع من ذلك بكثير، يرصد التيارات والاتجاهات ويوضح جوانب القصور فيها، مستهدفا غاية أسمى بكثير من الانتقام من عهد معين أو تصفية الحساب مع المتعاونين معه. والأهم من ذلك أن التدهور الذي أصاب كافة جوانب حياتنا، كان كفيلا بأن يجعل أصحاب الارتباطات السابقة، ينسون أشخاصهم ويركزون تفكيرهم في أوضاعنا المتردية، وفي أفضل السبل لإنقاذ وطننا من الهاوية التي ينزلق إليها بسرعة رهيبة. ولكن يبدو أن الحرص على تبرئة الذات وتبرير تاريخها السابق، أهم لدى الكثيرين من مد يد المعونة إلى الوطن الغارق.
وهكذا اعتقد الناصريون أنني لم أقصد، من كل ما كتبت، سوى عبد الناصر، وأغمضوا عيونهم عن جميع الشواهد القاطعة، التي تدل على أنني تصديت لأسلوب في الحكم، لا لأشخاص، ولم أتعرض لعبد الناصر أو للسادات أو لهيكل، إلا بقدر ما كانوا يجسدون هذا الأسلوب في فكرهم أو ممارساتهم، واعتقد بعض اليساريين أن انتقادي لهيكل، في الوقت الذي كان يخوض فيه معركة ضد المؤسسة الساداتية، كان نوعا من السذاجة السياسية التي تؤدي موضوعيا إلى خدمة المعسكر الساداتي. ولو كان هؤلاء قد أمعنوا التفكير فيما كتبت؛ لتبين لهم أن النقد الذي وجهته إلى أسس النظام الساداتي كان أكثر فعالية بكثير من انتقادات هيكل؛ ذلك لأن صورة السادات عند هيكل تظل دائما مهتزة غير محددة المعالم؛ فهو يصوره مغامرا غير وطني في شبابه قبل الثورة، ثم واحدا من أقرب المقربين إلى زعيم وطني كبير، ثم رئيسا للبلاد أعطاه هيكل، خلال سنواته الأولى والحاسمة، كل تأييده، آملا أن «يمنحه فرصة» يمحو فيها تاريخه القديم المشين، ثم قائدا لا يعرف كيف يدير - سياسيا - معركته العسكرية الكبرى، ثم زعيما متهاونا ومستسلما أمام أعداء الوطن ... إنها صورة خالية من التماسك والاتساق، وما كان من الممكن إلا أن تكون على هذا النحو؛ إذ إن مواقف هيكل نفسه من السادات كانت أبعد ما تكون عن الاتساق، وكانت تتراوح بين التأييد المطلق والعداء المطلق، مع إنكار العداء السابق وقت التأييد، وإنكار التأييد السابق وقت العداء. وهكذا كان الاهتزاز في صورة السادات، كما رسمها هيكل، تعبيرا عن التذبذب الحاد في مواقف هيكل نفسه. فهل هذا الموقف الأعرج هو الذي يمكن الاعتماد عليه في نقد الظاهرة الساداتية؟ ألن يكون النقد المتسق، المتماسك، الصادر بدوافع موضوعية لا تشوهها ارتباطات أو تبريرات، هو الأقدر على كشف السمات الحقيقية لهذه الظاهرة؟
ولقد كان الوجه الآخر لهذه الرؤية الضيقة، هو تصدي بعض الناصريين للدفاع عن هيكل بوصفه رمزا للناصرية، ناسين تماما تلك المعركة التي خاضها بكل ضراوة، جنبا إلى جنب مع السادات، في عام 1971م، ضد الكتلة الرئيسية من الناصريين الذين أطلق عليهم اسم «مراكز القوى»، وتلك الخلافات الحادة التي نشبت بينه وبين أشد العناصر الناصرية إخلاصا لمبادئها، وذلك الدور الحاسم الذي لعبه في سنوات السادات الأولى، من أجل تهيئة عقول الناس للتحول الحاسم، الذي كان يخطط له بذكاء من أجل هدم دعائم أساسية للناصرية. •••
أعود فأقول إن ردود الأفعال هذه كانت دليلا آخر على صحة التشخيص، الذي قمت به في هذا الكتاب للتشويه الذي لحق عقولنا بعد سنوات طويلة من الممارسات الملتوية المقيدة بألف قيد، فقد ظهر لي بوضوح كامل أن عددا لا يستهان به من مثقفينا، ما زالوا يصرون على تصنيف المفكرين السياسيين، في إطار تلك الثنائية المحدودة؛ الناصرية أو الساداتية. فأنت في نظرهم لا بد أن تكون هذا أو ذاك، وإذا انتقدت أحدهما فلا بد - في رأيهم - أن يكون هذا النقد لحساب الآخر، أما أن يتخذ المفكر لنفسه موقعا خارج نطاق هذه الثنائية، ويقف من الطرفين معا موقفا ناقدا متحررا، كما حاولت أن أفعل في هذا الكتاب، فهذا ما يعجزون عن تصوره أو استيعابه.
والحق أن هذا الكتاب سيكون قد حقق الهدف، الذي يرمي إليه كاتبه لو استطاع أن يقنع القارئ بأن مصر أوسع وأرحب، من أن تختزل إلى هذه الثنائية الضيقة المحصورة في إطار ثورة يوليو، وبأن العهدين الناصري والساداتي، وإن اختلفا تماما في مضمونهما وأهدافهما، قد أخضعا مصر لأسلوب فردي في الحكم، كان هو المسئول عن القدر الأكبر من هذا التدهور، الذي نلمسه في كل جوانب حياتنا، وهذا الانهيار القاتل في معنويات الإنسان، ولو لم يدرك القارئ عن وعي طبيعة المنظور الاستقلالي الذي كتبت به هذه الصفحات، لأفلت منه الخيط الأساسي الجامع بينها، وعجز عن فهم الهدف الحقيقي الذي يرمي إليه كاتبها.
فؤاد زكريا
أبريل 1984م
Bilinmeyen sayfa
الفصل الأول
انتقام الأرشيف
لن أكون قد أضفت جديدا لو قلت إن هيكل، في «خريف الغضب » قد قال الكثير، ولكن الجديد الذي أود أن أضيفه هو أن ما لم يقله هيكل أهم وأخطر بكثير مما قاله.
لقد أثارت المعلومات الهائلة التي فجرها هيكل في كتابه، والتي لم يكن أحد غيره يستطيع أن يصل إليها أو يعبر عنها بمثل هذه الدقة، عاصفة عاتية في مصر، سرعان ما امتدت إلى سائر البلاد العربية. كان هيكل هنا يكتب، لأول مرة، «بصراحة»، ولم يكن من العسير على القارئ الواعي أن يدرك أنه تخلى، في «خريف الغضب»، عن الأسلوب الدبلوماسي الحذر، وعن طرق التعبير غير المباشر التي كانت تميز «صراحاته» في معظم الأحيان. كان هيكل هنا، لأول مرة، في مواجهة حقيقية أمام حاكم كان نظامه لا يزال، بعد موته، يحتفظ بالكثير من أعراض الحياة، بل كانت روحه لا تزال - في رأي البعض - ترفرف بقوة على معظم جوانب الحياة الرسمية في مصر، وجاءت المواجهة قاسية، مريرة، نافذة بضرباتها إلى الصميم.
وحين بدأت المعركة الحامية حول الكتاب، كانت تحمل سمة فريدة يقف أمامها الفكر الواعي حائرا؛ فقد كانت، بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من المصريين، معركة ضد شبح مجهول، كانت الردود تتوالى، بعضها مؤيد ومعظمها معارض، دون أن يكون أحد قد عرف عن موضوع المعركة وأسبابها إلا معلومات أولية، نقلتها حلقات قليلة جدا من الكتاب، وتسربت إلى الجمهور قبل أن يصدر قرار المنع، ومع ذلك فقد استمرت المعركة بعد المنع، وضد هذا الشبح المجهول، بكل حدتها وعنفوانها، وكانت تلك المعركة ذاتها من أبرز أعراض ذلك المرض، الذي عانى منه المصريون مرارا طوال الأعوام الثلاثين الأخيرة، أعني أن يروا أجهزة إعلامهم تمتشق سيوفها بكل الحماسة والغضب، ضد عدو لم تتح لهم فرصة معرفته.
في هذه المعركة كان الاستقطاب واضحا؛ فقد أعطاها أنصار هيكل وخصومه طابع الصراع بين عهد السادات وعهد عبد الناصر، كان المصفقون المتحمسون لما كتبه هيكل هم أنصار عبد الناصر، بحيث لم يقتصر إعجابهم بالكتاب على ما حواه من فضائح تمس العهد الساداتي، بل كان من أهم أسباب ترحيبهم به ما احتواه من دفاع، صريح تارة وضمني تارة أخرى، عن العهد الناصري. ومن جهة أخرى فقد كان الناقدون الناقمون على الكتاب هم، بلا استثناء تقريبا، من مؤيدي سياسة السادات، فلم يقتصروا في هجومهم على تبرير تلك السياسة، وإنما اغتنموا الفرصة لكي يجروا مقارناتهم المألوفة بين العهدين، ويثبتوا (على طريقتهم الخاصة) إلى أي حد تمكن العهد اللاحق من إصلاح ما أفسده العهد السابق.
وهكذا كان هيكل، في نظر البعض، شاهد صدق فضح عهدا فاسدا بأدلة لا تنكر، وكان في نظر البعض الآخر مفتريا على الحق، مختلقا للأكاذيب، ناشرا للباطل. ولم يكن أمام الجمهور إلا أن يختار بين هذين الطرفين: فأنت إما مع هيكل، فتصدق كل ما كتب، وإما ضده، فتكذب كل ما قال.
أما كاتب هذه السطور فيؤمن إيمانا راسخا، بأن هذا الاستقطاب للجماهير بين ناصريين وساداتيين، وهذا الاختيار المفروض عليهما بين التصديق المطلق والتكذيب المطلق، ما هو إلا مظهر خطير لضيق الأفق السياسي، الذي فرض نفسه على عقولنا في العقود الأخيرة، فالقضايا الحقيقية التي تثيرها عملية «الفضح» في كتاب هيكل، لا تؤدي أبدا إلى الاختيار بين عهدين، وإنما تؤدي إلى إلقاء ظلال من الشك على مرحلة بأكملها، تشمل العهدين معا، ويمكن أن تشمل غيرهما أيضا، أما الاختيار الآخر بين التصديق والتكذيب، فلا بد للعقل الواعي أن يتجاوزه، والموقف الذي أدافع عنه هو أن في وسع المرء، أن يصدق الكثير جدا مما قاله هيكل، دون أن يكون مع ذلك مؤيدا لهيكل.
هذا الكلام قد يبدو لغزا غير قابل للفهم، ولكن المعنى المقصود يظهر بوضوح من مثال بسيط: لو فرضنا أن أحد أفراد عصابة «المافيا»، قد انشق عن الجماعة وأفشى أسرارها للمحقق، هل سيكون هذا المحقق ملزما، إذا صدقه فيما أدلى به من معلومات، بأن يؤيده وينحاز إليه؟ إنني لا أود أن يؤخذ هذا التشبيه بحرفيته، ولكن كل ما قصدته منه هو أن أضرب مثلا لتلك الحالات، التي يمكن أن يكون فيها أحد طرفي النزاع صادقا، ومع ذلك لا يستحق التأييد ولا التمجيد، وهذا المعنى الأخير هو الذي يلخص موقفي من كتاب هيكل، الذي أصدق الكثير مما احتواه، وأرحب به؛ لأنه قدم إلي معلومات ما كانت لتصلني لولا هيكل، ولكني في الوقت ذاته لا أؤيد صاحبه ولا أشعر بتقدير كبير للبواعث التي دعته إلى تأليفه.
إن ما يهمني، منذ البداية، هو أن يكون موقفي واضحا كل الوضوح، ولست أطالب القارئ، منذ هذه اللحظة، بأن يقتنع برأيي؛ لأن هذا الاقتناع - إذا حدث - سوف تنسج خيوطه ببطء وتدرج خلال حلقات متتابعة من حديث طويل، ولكن ما أطالب به وأصر عليه هو ألا يكون هناك أي لبس في الموقف الذي سأتخذه. فالقضايا الحقيقية التي يثيرها كتاب هيكل هي، كما قلت، تلك التي لم يصرح بها، أو تلك التي تؤدي إليها كتاباته دون أن يقصد. والمشكلة التي تطل علينا من بين غلافي هذا الكتاب أوسع من أن تكون مشكلة هيكل وحده، أو السادات وحده، أو عبد الناصر وحده، إنها مشكلة أسلوب كامل في الحكم، كانت القضايا التي أشار إليها هيكل (ببراعة ودقة) مجرد عرض من أعراضه، وعلى الرغم من أنني سأشير في كثير من الأحيان إلى ما قاله هيكل في «خريف الغضب» فإن هدفي الحقيقي ليس التعليق على كتاب أو نقد مؤلفه، بل إن هدفي هو الكشف عن تلك الظروف والأوضاع التي جعلت الكاتب، والكتاب، والرؤساء الذين يتحدث عنهم، على ما هم عليه.
Bilinmeyen sayfa
ولكي يزداد موقفي وضوحا، فإني أود أن أعلن منذ البداية أنني أؤيد هيكل في الكثير مما قال، ولكنني أستنتج من كل ما قاله أمورا مختلفة كل الاختلاف، تجعلني معارضا لاتجاهاته العامة في معظم الأحيان، ولست أود أن يستنتج الساداتيون من معارضتي لاتجاهات هيكل أنني أقف معهم على أي أرض مشتركة، بل إنني أرفض على نحو قاطع أية محاولة منهم لاستغلال انتقاداتي لهيكل من أجل دعم موقفهم؛ فأنا، بلا مواربة، معارض للساداتية بكل قوة، ولكن هذا لا يعني أنني أنحاز إلى الطرف الآخر في الاستقطاب السائد في هذه الأيام، بل إنني أكتب من منظور أوسع من هذا الاستقطاب بكثير، ولا أقبل أن يجرني أحد إلى طرف من أطرافه.
إن هيكل يقوم في هذا الكتاب بمحاولة مستحيلة، هي أن يقتطع عهدا من سياقه الكامل، ويعزله عن سوابقه، وأية نظرة مدققة إلى تاريخ العقود الثلاثة الأخيرة في مصر، تقنعنا باستحالة فصل قطعة من هذا التاريخ عن مقدماتها الضرورية. فلنسلم منذ البدء بأن لكل نظام في الحكم شكلا وموضوعا، أما المضمون فهو اتجاه السياسات التي يتبعها، وأما الشكل فهو الأسلوب الذي يطبقه من أجل تنفيذ هذه السياسات، وإذا كان من المسلم به أن مضمون العهد الساداتي مختلف اختلافا كبيرا عن مضمون العهد الناصري، فإن من الحقائق التي ينبغي ألا تغيب عن الأذهان أن «شكل» الحكم، أي أسلوبه، كان متشابها إلى حد كبير وبعيد طوال ثورة 23 يوليو، ويحمل معظم ملامحه الأصلية حتى اليوم. ولقد تحدث هيكل أساسا عن الاختلاف - الذي ينبغي الاعتراف به - بين الاتجاهات السياسية عند عبد الناصر والسادات، ولكنه كاد أن يغفل تماما الحديث عن التشابه بين أسلوب الحكم في كلا العهدين، وفي هذا الجانب الأخير يعد السادات امتدادا لمنهج في الحكم أرست قواعده ثورة 23 يوليو، ويجوز أنه أضاف إليه اجتهاداته «وابتكاراته» الخاصة هنا أو هناك، ولكن جوهر الأسلوب واحد من البداية إلى النهاية، وأعني به الحكم الفردي الذي يؤمن بحقيقة واحدة، هي ما يعبر عنه الحاكم، ويقمع كل ما عداها.
وهكذا فإن كل إشارات هيكل إلى أخطاء ممارسات الحكم الساداتية قد تكون صائبة، ولكن الأمر الذي يغفله هو أن من المستحيل فصل النتيجة عن السبب، وأن الصورة تكون ناقصة نقصا خطيرا، لو اكتفينا بمظهرها الأخير وتجاهلنا امتداداتها السابقة. ومجمل القول أن هيكل كان على حق عندما كشف العيوب الخطيرة للنظام الساداتي، ولكنه كان مقصرا تقصيرا مخلا حين عزل هذا النظام عن سياقه، ولم ينظر إليه على أنه جزء من ظاهرة أوسع منه بكثير - مع اعترافنا الكامل بأن هذه الظاهرة بلغت قمتها المأساوية في العهد الساداتي على وجه التحديد.
أما الخطأ الرئيسي الثاني الذي اتسم به موقف هيكل، والذي يعد بدون مبالغة عرضا من أعراض مرض أوسع نطاقا، فهو أنه استثنى نفسه تماما من اللوم، وصب اتهاماته على الغير، وكأنه كان طوال الوقت مشاهدا محايدا، أو ناصحا أمينا لا يستمع إليه أحد. ولقد بحثت طوال الصفحات التي قاربت الستمائة في كتاب هيكل، عن سطر واحد من النقد الذاتي، فلم أجد، وكان أقصى ما قاله عن نفسه هو أنه تصور أن السادات سيفعل كذا أو كذا ولكن تصوراته لم تتحقق، ويكون المعنى الضمني دائما هو أن الخطأ في عدم تحققها، يرجع إلى أن الطرف الآخر لم يستمع إلى نصحه، أو لم يفعل ما كان هيكل يأمل أن يفعله. وكل من عاش هذه الفترة وتابعها بوعي، ولم يفقد ذاكرته تحت وطأة الدعايات المتلاحقة، التي تتخذ كل يوم موقفا مناقضا لليوم السابق، يعلم حق العلم أن هيكل كان جزءا لا يتجزأ من معظم الأخطاء التي يعيبها على السادات، وأن دوره قد بلغ ذروة التأثير في سنوات التكوين الأولى، التي تشكلت فيها معالم السياسة الساداتية الجديدة، والتي ترجع إليها معظم التطورات اللاحقة. هذه حقيقة لا بد أن يثبتها التاريخ على نحو قاطع، ومع ذلك فإن من يبحث عند هيكل عن كلمة واحدة تعبر عن تأنيب الضمير أو مراجعة النفس، أو نقد الذات على ممارسات غرست البذرة الأولى والأساسية للشجرة، التي نمت معوجة فيما بعد، سيكون بحثه قد ضاع هباء.
عند هذه النقطة لا يملك المرء إلا أن يتساءل: ما الذي أتاح لهيكل كل هذه الفرصة التي مكنته من أن يوجه نقدا موجعا للعهد الساداتي، إذا كان هو ذاته قد أعطى هذا العهد، بجهوده الواعية والمتعمدة، معالمه الأولى التي حددت قسماته وملامحه لوقت طويل فيما بعد؟ هنا لا يملك المرء إلا أن يفكر مليا في قول هيكل، في مستهل كتابه، إن فكرة الكتاب قد طرأت على ذهنه، منذ اللحظة الأولى لدخوله المعتقل في سبتمبر 1981م، ثم قوله في الفصول الأخيرة من الكتاب، إنه لم يكن يتصور أن السادات سيقدم على اعتقاله، على الرغم من كل ما بينهما من خلافات.
لقد كان لدى هيكل سلاح جبار يخشاه الجميع، وهذا السلاح هو الذي جعله واثقا من أنه لن يعتقل، فلما تجاوز السادات الحد، في لحظة يأس لم يترك فيها اتجاها من اتجاهات الفكر والسياسة والعقيدة في مصر إلا واعتقل أهم ممثليه، قرر هيكل أن يصوب إلى السادات طلقات سلاحه الجبار: الأرشيف.
لقد كان هذا السلاح، منذ البداية، نتاجا لظاهرة الحكم الفردي التي ازدهر في ظلها هيكل، فمن خلال صلته الوثيقة بعبد الناصر، كانت الأسرار والوثائق الخطيرة تأتيه وحده دون غيره، وكان هو ذاته يحرص على تسجيل كل صغيرة وكبيرة تدور حوله، مدركا بذكاء أن كل كلمة تسجل، يمكن أن تكون مصدر قوة له في يوم من الأيام.
ولم تكن البراعة الصحفية وحدها، ولا الذكاء الشخصي وحده، هما اللذان أتاحا له هذه الفرص، بل إن انعدام الديمقراطية وسيادة جو التكتم والقرار الفردي المفاجئ، جعل من الضروري أن يضيق نطاق المطلعين على الأسرار إلى أبعد حد. وهكذا اطلع هيكل على ما لم يكن متاحا للآخرين، أو مطروحا على الناس، وهداه ذكاؤه إلى أن يسجل أولا بأول كل ما هو «خفي» و«ممنوع». ومنذ أن تبين له أن الناس يتلهفون على قراءة الأسرار، التي لا يعرفها أحد صباح يوم الجمعة، أدرك هيكل أهمية «سلاح الأرشيف» من حيث هو مصدر قوة وحماية له في نفس الوقت.
بل إن أحد الكتاب الساداتيين، ممن كانوا على صلة وثيقة بهيكل،
1
Bilinmeyen sayfa
يذهب إلى أن سلاح المعلومات كان يستخدم عند هيكل في العطاء أيضا، فهو يرى أن من أهم أسباب المكانة الخاصة التي اكتسبها هيكل لدى عبد الناصر، منذ أول سنوات الثورة، أنه كان يزود زعيم الثورة بقدر هائل من المعلومات، التي تتجمع لديه من قراءاته الواسعة، والتي كان عبد الناصر - وهو لا يزال ضابطا حديث العهد بالحكم - في أشد الحاجة إليها. وهكذا بدأ هيكل بالعطاء، وفيما بعد سددت له هذه الديون أضعافا مضاعفة، عن طريق فتح خزائن الأسرار كلها له . وهكذا كان «سلاح الأرشيف» ذا حدين: يعطي أولا، ثم يأخذ بعد ذلك بلا حدود.
ولكن على الرغم من كل هذه الفرص الاستثنائية التي أتيحت لهيكل وحده، في ظل أسلوب حكم فردي مطلق، وكشفت له عن القوة الهائلة التي تكمن في «سلاح الأرشيف»، فإن المرء لا يملك إلا أن يشعر بوجود سر خفي في تلك المقدرة الهائلة على جمع المعلومات واختزانها وإعادة استخدامها واستثمارها في الوقت المناسب. لقد سخر هيكل من الضباط الذي قلبوا بيته الريفي، وقت اعتقاله الأخير، بحثا عن أوراقه السياسية، مؤكدا لهم أن الرئيس ذاته يعلم أنه (أي هيكل) لا يحتفظ بشيء من أوراقه في بيته، وأنه يبعث بها أولا بأول إلى خارج البلاد. وهكذا كان الأرشيف بالنسبة إلى هيكل، بالإضافة إلى كونه مصدر قوة، تأمينا على الحياة، وضمانا ضد أي شكل من أشكال الاضطهاد؛ فهو يحمل معه أسرار الجميع، بالوثائق، ويوم يمسه سوء ستعلن هذه الأسرار وتفضح كل شيء، ومن هنا كان الحرص على أن تظل خارج البلاد. ولكن يظل السؤال قائما: هل يستطيع فرد واحد، مهما كان ذكاؤه وتشعب قدراته، أن يجمع كل هذه المعلومات، ويرتبها بهذه الدقة، ويبعث بها أولا بأول إلى الخارج؟ لست أدري، ولكنني كلما أمعنت الفكر في هذه الظاهرة، بدا لي أنها أعقد وأوسع نطاقا من إمكانات أي فرد، بل من إمكانات أي جهاز في دولة متخلفة، وخيل إلي أننا نجد أنفسنا هنا على مستوى، يكاد يصل إلى مستوى أجهزة المخابرات في الدول الكبرى.
وهكذا فإن هيكل عندما وجد نفسه معتقلا، وحين تبين له أن السادات تجاوز الحدود وتحدى قدراته، سلط عليه أرشيفه الجبار، وحقق لنفسه انتقامه الشخصي من حاكم كان بيته بالفعل من الزجاج، وكان متهورا ويائسا عندما اختار هيكل بالذات ليكون واحدا ممن يرميهم بالحجارة.
على أن الأمر الملفت للنظر، والذي تتجلى فيه سخرية الأقدار بحق، هو أن «سلاح الأرشيف»، مثلما أنه مصدر قوة هيكل، هو أيضا مكمن الضعف فيه؛ ذلك لأن من يستخدم هذا السلاح يستطيع بأكثر الإمكانات تواضعا ، أن يصيب هيكل في مقتل . ويكفي أن يرجع بانتظام إلى قائمة كتاباته في أواخر الأربعينيات، ثم في مختلف مراحل الخمسينيات والستينيات، وأخيرا في أوائل السبعينيات، ويكفي أن يقارن هذه الكتابات بعضها ببعض، أو بما يظهر منها في المرحلة الراهنة؛ لكي يجد لديه مادة هائلة تستخدم ضد هيكل بسهولة تامة. وحسبنا أن نضرب لذلك مثلا واحدا مما نشر في الصحف المصرية أخيرا. فها هو ذا كاتب يتجاسر فيقول: «إن تاريخ الأستاذ محمد حسنين هيكل صفحة سوداء في تاريخ مصر، لقد اتهمه الرئيس محمد نجيب بالخيانة لحساب دولة أجنبية، وكتب ذلك في كتابه «كلمتي للتاريخ»، كما اتهمه مايلز كوبلاند في كتابه «بغير عباءة أو خنجر» بأنه كان عميلا مخلصا، كما اتهمه خروشوف بنفس التهمة، وذكر له قيمة المبالغ والشيكات التي تسلمها من وكالة المخابرات المركزية، وكان ذلك عندما سافر سيده (يقصد عبد الناصر) إلى روسيا، واصطحبه معه في هذه السفرة، فلما واجه نيكيتا خروشوف بهذه الفضيحة المرة، اضطر أن يسافر في اليوم التالي عائدا إلى مصر.»
2
هنا نجد «سلاح الأرشيف» يستخدم ضد أبرع من أتقنوا استخدامه، وإذا كنا لا نملك الحكم على مدى صحة الوقائع الواردة في هذا الكلام، فإن الاتهامات التي تحدث عنها الكاتب، قد وجهت بالفعل إلى هيكل، على أيدي نجيب وكوبلاند وخروشوف، وكل ما فعله الكاتب هو أنه رجع إلى الوراء قليلا، مقلبا صفحات الجرائد في السنوات الماضية. وما هذا إلا مثل واحد يكشف عن الوجه الآخر لسلاح الأرشيف، عندما يسدد إلى عنق صاحبه.
الفصل الثاني
من الذي يشتم مصر؟
أثار كتاب هيكل، أو على الأصح الجزء الضئيل الذي نشر منه في مصر، عاصفة عاتية من ردود الفعل، وفي رأيي أن دراسة ردود الفعل هذه، باتجاهاتها المختلفة وتشعباتها الكثيرة، تزودنا بذخيرة هائلة نستطيع من خلال تحليلها المتعمق، أن نفهم الكثير عن طبيعة التشويه الفكري الذي أصبحت بلادنا تعانيه، وعن شكل التضليل الإعلامي الذي يسلط على عقولنا ليل نهار، ففي ردود الفعل هذه تتحدد مواقف كثيرة، وتنكشف وتظهر حقيقة الأفكار التي ظلت كامنة، مستترة، مغلفة بشتى أنواع الأقنعة الخداعة، ومن خلال ردود الفعل هذه يتضح اتجاه المصالح الحقيقية في مصر؛ إذ كان معظم المدافعين عن السادات من المنتفعين منه، أو من أصحاب المصالح التي ازدهرت في عهده، وإن لم يمنع ذلك من وجود بعض المتأثرين بطوفان الإعلام، ومن خلالها ينكشف تهافت وتناقض الشخصيات، التي كان لها دور مصيري في تاريخ مصر، ودور أساسي في تشكيل عقلها، وهو حكم لا أستثني منه هيكل نفسه. ومن خلالها تظهر للعيان جريمة الحكم الفردي التي لا تغتفر، إذ يتبين لنا بوضوح مدى التزييف الذي طرأ على الوعي السياسي المصري، متمثلا في عدد غير قليل من كبار مثقفيه، بعد ثلاثين عاما من حكم يفترض أنه ثورة تستهدف، على وجه التحديد، تحرير الوعي من أوهامه.
وأخيرا، فمن خلال ردود الفعل نستطيع أن ندرك إن كان عهد السادات قد انتهى حقا، أم أن آثاره ما زالت تدب فيها الحياة بكل عدوانية وتحفز.
Bilinmeyen sayfa
إن دراسة العقل المصري وتحليل سماته كما تتمثل في اتجاهات ردود الفعل على هيكل، هي في نظري أهم الأهداف. ولم يكن كتاب هيكل في هذه الحالة، إلا فرصة لكشف أساليب التفكير المستورة، التي تظل في حالة كتمان حتى تطرأ أزمة أو محنة تفجرها، وهكذا سوف أتوقف طويلا عند ردود الفعل، وأخضعها لتحليل سأحاول أن يكون دقيقا، آملا أن أتمكن عن طريقها من إلقاء الضوء على بعض سمات العقل المصري - التي تجمعها روابط مشتركة كثيرة مع العقل العربي بوجه عام - بعد ثلاثين سنة حكم ثورة 23 يوليو.
هذا الرجل (السادات) قد اخترناه جميعا زعيما لهذا البلد، واختيار زعيم فيه تجسيد للشعب الذي اختاره، وبالتالي فإن كل ما يقال عن هذا الزعيم يعتبر في حقيقته نيلا من الشعب الذي اختاره.
قائل هذه الكلمات أستاذ كبير في القانون، في اجتماع للمجلس الأعلى للصحافة خصص لمناقشة كتاب هيكل، ونشرته جريدة «الأهرام» في 29 أبريل 1983م، والأساس الذي يبنى عليه تفكير أستاذ القانون هو أن الحاكم تجسيد لبلده، ما دامت قد اختارته بإرادتها، ومن ثم فإن أي هجوم من هيكل أو غيره على السادات هو هجوم على مصر كلها.
هذا النوع من التفكير بلغ، في السنوات الأخيرة، من الانتشار حدا يحتم علينا أن نتوقف طويلا عنده، فما من أحد منا إلا وتعرض مرارا لتلك التجربة المثيرة والمستفزة، تجربة المناقشة مع شخص يؤكد أن أي نقد للحاكم، هو انتقاص من قدر بلاده، وأن الوطنية الحقة تحتم على المرء ألا يسيء إلى الحكام.
ولا شك أن عبارة أستاذ القانون، السابقة، هي تعبير نموذجي عن وجهة النظر هذه: (أ)
فهو يستخدم لفظ «الزعيم» مرتين، وهي نفس الكلمة التي كان يطلقها النازيون على هتلر (الفوهرر)، والفاشيون على موسوليني (الدوتشي). وليس هذا استخداما اعتباطيا؛ إذ كان يمكنه أن يقول: الحاكم، أو رئيس الدولة، ولكن إصراره على لفظ «الزعيم» هو جزء لا يتجزأ من العقلية التي توحد على نحو مطلق بين شخص الحاكم وبلده. (ب)
وهو يرى هذا الزعيم «تجسيدا» للشعب، ولم يقل «رمزا»؛ لأن الرمز لا يتعين أن يكون مشابها لما يرمز إليه (اللون الأخضر رمز لإمكان مرور السيارات مثلا) بل تفصل بينهما مسافة ما، أما التجسيد فهو اندماج كامل، بل إن الزعيم يصبح في هذه الحالة «خلاصة» شعبه وأنقى تعبير عنه، وهذا يفترض، بطبيعة الحال، أن الشعب كتلة متجانسة لا تمايز فيها، ولا اختلاف ولا تباين في الرأي أو الاتجاه، حتى يستطيع شخص واحد أن يكون تجسيدا له، ومن هنا فمن المؤكد أن الإنكليز، مثلا لا بد أن يسخروا ممن يرى في «تاتشر» تجسيدا لهم، إذ إنها حتى لو كانت تجسد المحافظين، فماذا تقول عن العمال والأحرار؟ وفضلا عن ذلك فإن الزعيم الذي يجسد شعبه هو، بحكم تعريفه، غير قابل للتغيير، وإلا فكيف نتصور أن يتخلص شعب ممن يجسده؟ (ج)
وأخيرا، فإن أستاذ القانون الكبير يتحدث أربع مرات، في أقل من ثلاثة أسطر، عن «اختيار» الشعب للزعيم، وهكذا فإنه، بكل وقار القانون وهيبة الأستاذية، يعلن ثقته المطلقة وتصديقه الكامل لاستفتاءات 99,9٪، ويرى فيها أساسا يسمح للمرء بأن يقول باطمئنان تام وبضمير مستريح: «هذا الرجل قد اخترناه جميعا.»
هذه الكوارث أو الفواجع الفكرية تتجمع كلها في أقل من ثلاثة أسطر، وتعبر بوضوح صارخ عن تدني مستوى الوعي السياسي والاجتماعي، عند من يفترض فيهم أن يكونوا معلمين ومرشدين لغيرهم في هذا الميدان، وهي في واقع الأمر أبلغ دليل على نوع العقول التي توحد بين الحاكم وبلده، وترفض أي نقد للحاكم، بحجة أن هذا النقد إهانة لوطنه ونيل منه. •••
على أن لهذا اللون من التفكير، أعني التوحيد بين الحاكم والوطن، وجها آخر ربما كان أشد حدة، هو ذلك الذي يشيع بين المصريين المغتربين على وجه التخصيص، فظروف الاغتراب تزيد من قوة التوحيد بين البلد وحاكمها، ومن هنا كان من ردود الفعل الأكثر شيوعا، بين المصريين العاملين في البلاد العربية بوجه خاص، استنكار ما كتبه هيكل باعتباره «شتيمة لمصر».
Bilinmeyen sayfa
هذه ظاهرة لم تتمثل في حالة هيكل وحده، بل تعرض لها كل من يكتب كتابة نقدية عن الأوضاع المصرية في إحدى الصحف العربية، كما أن من يستخدمون هذه الحجة ليسوا هم المواطنين المغتربين العاديين فحسب، بل إن المرء يجدها تتردد على أعلى المستويات، وأستطيع، من تجربتي الشخصية، أن أؤكد أن النسبة الغالبة من أساتذة الجامعات المصريين العاملين في بلد كالكويت، تحتج بشدة على أي مقال يوجه نقدا لحاكم مصر أو حكومتها، باعتباره هجوما على مصر. وهكذا فإن شيوع هذه الحجة بين المغتربين يفوق بكثير انتشارها داخل مصر ذاتها؛ ولذا كانت تحتاج إلى وقفة متأنية تناقش الأسس التي ترتكز عليها بهدوء. (1)
أول أساس لهذه الحجة هو ذلك الذي أوردناه من قبل، وأعني به أن الحاكم تجسيد لبلده، ويزداد الحرص على فكرة التجسيد هذه عندما يكون الشخص مغتربا، بحيث تتضاعف حساسيته إزاء أي نقد يوجه إلى الحاكم، وكم من مصري مغترب ينتقد كتاب هيكل - على سبيل المثال - انتقادا مريرا، لا لأنه غير مقتنع بما يتضمنه من وقائع؛ بل لأنه حتى لو كانت كل كلمة فيه صحيحة، يسيء إلى صورة «مصر».
إن قليلا من التفكير يقنعنا بأن الحريص حقا على سمعة بلاده، هو الذي لا يوحد بينها وبين حاكمها، وفي حالة بلد كمصر يكون من المخجل حقا، أن يساوي المرء بين ذلك التاريخ العريق والحضارة الأصيلة، بين بلد النيل والأهرام والأزهر، وبين تصرفات حكام أفراد يمكن أن يكون الكثيرون منهم مصابين بجنون العظمة، أو داء الاستبداد والبطش والادعاء. إن من يعتز ببلده وتاريخه حقا، هو ذلك الذي يعلن في كل مكان، وأمام الجميع، أن مصر ليست مسئولة عن أخطاء حكامها، وينزه بلده عن تلك النقائص التي يمكن أن يتصف بها هذا الحاكم أو ذاك، أما ذلك الذي ينصب نفسه محاميا عن كل خطأ يرتكبه الحاكم، متوهما أنه يدافع على هذا النحو عن وطنه، فهو في الواقع الذي يسيء إلى هذا الوطن أبلغ إساءة، ولو اتخذت مسألة التوحيد بين الحاكم والوطن قاعدة عامة، لكان علينا جميعا أن نحمل بلدا كمصر أخطاء فاروق والخديوي توفيق والحاكم بأمر الله وقراقوش. (2)
ولكن أصحاب هذا الموقف يلجئون، عادة، إلى إضافة حجة أخرى، هي الإشارة إلى الفارق بين النقد داخل الوطن والنقد خارجه، ففي استطاعتك أن تنقد الأوضاع كما تشاء ما دمت في بلدك، أما إذا كنت في بلد آخر فإن الواجب يقضي عليك بأن تمتنع عن النقد، بل تتصدى له بكل قوة، حتى لا تترك «للغرباء» فرصة «الشماتة» في وطنك. ويشارك الحاكم ذاته في هذه الحجة؛ فهو يهاجم بكل العنف أولئك الذين «يشتمون مصر» في الخارج، وربما استخدم التعبير المألوف «نشر الغسيل»، ويجد هذا الرأي صدى لدى الكثيرين ممن يتقبلون ما يقرءونه أو يسمعونه بلا تفكير، ولكن الأمر المؤسف هو أن الأمر لا يقتصر على هؤلاء، بل إن نسبة كبيرة من المثقفين الذين يشغلون مراكز علمية واجتماعية مرموقة، تردد في كل مناسبة هذا المبدأ: «انتقد بلدك في الداخل كما تشاء، ولكن عليك في الخارج أن تدافع عنها (والمقصود هنا بالطبع: تدافع عن حكامها) بالحق أو بالباطل، ولا تسمح لأحد بمهاجمتها (والمقصود: مهاجمة حكامها).»
فلنناقش إذن هذا المبدأ الخطير، المنتشر على أوسع نطاق بين أوساط المصريين المغتربين على مختلف مستوياتهم:
أولا:
هذا المبدأ يفترض أن العرب، الذين يقيم هؤلاء المصريون في بلادهم، هم بالنسبة إليهم «غرباء»، والأمر الملفت للنظر حقا هو أن نفس هؤلاء الذين يفكرون بهذا المنطق، يمكن أن يتحدثوا باستفاضة، في مجال آخر، عن وحدة العروبة والمصير المشترك، والحواجز المصطنعة بين الأقطار في الوطن العربي الواحد، ولا يدركون التناقض الصارخ بين حديثهم المتحمس هذا، وبين نظرتهم إلى العرب على أنهم «غرباء»، لا ينبغي أن تطرح مشاكل مصر الداخلية أو الخارجية أمامهم، ولا ينبغي أن تتاح لهم فرصة «الشماتة» في مصر. فكيف يسمح هؤلاء لأنفسهم بأن يكونوا إقليميين إلى أقصى حد في جانب، ووحدويين متحمسين في جانب آخر؟ أليس من الواضح أن الإيمان الحقيقي بوحدة العروبة، يحتم على المرء ألا يجد فارقا بين المصري وأي عربي، في نقد الممارسات الخاطئة لأي نظام من الأنظمة، سواء أكان هذا النظام مصريا أم لم يكن؟
إن العرب، من غير المصريين، لا يهتمون بأوضاع مصر من أجل «الشماتة»، كما يتصور قصار النظر هؤلاء، بل إن ما يحدث في مصر من مد وجزر، ومن تقدم أو تخلف، هو الشغل الشاغل لكل عربي لسبب بسيط: هو أنه لا بد، عاجلا أو آجلا، أن ينعكس على بلاده إيجابا أو سلبا، وما من عربي مستنير إلا ويتابع سياسة مصر بكل ما يملك من ترقب واهتمام؛ لأنه يعلم أن مفتاح المنطقة كلها هناك؛ ولأنه يخشى على بلده من أن يلحقها أي مكروه يصيب مصر قبلها، وهكذا فإن الاهتمام الزائد الذي يبديه أي عربي بأوضاع مصر، يظل في واقع الأمر اعترافا بمكانة مصر الرئيسية في الوطن العربي، حتى لو اتخذ شكل انتقاد مرير لأوضاعها، فلماذا لا يبدي أحد اهتماما بانتقاد ما يحدث داخل موريتانيا أو جيبوتي مثلا، حتى لو تراكمت الأخطاء في ممارسات حكام هذين البلدين؟
ثانيا:
يفترض هذا المبدأ أن فرص النقد مكفولة داخل مصر، ولكن أصحابه يخدعون أنفسهم، في الواقع، خداعا مكشوفا حين يتظاهرون بالوطنية فيقولون: انتقد حكام مصر في داخلها كما تشاء، أما في خارجها فلا. من الذي يستطيع أن ينتقد حكام مصر في داخلها «كما يشاء»؟ لقد ظل كتاب مصر ومثقفوها الذين يحملون هموم مصر على أكتافهم يحاورون ويناورون، لمدة ثلاثين عاما، كلما وجدوا أمامهم ممارسات خاطئة، وكم من نقد كان يمكن أن ينقذ البلاد من كوارث رهيبة، عوقب موجهه أو أرغم على السكوت، أو اضطر - على أحسن الفروض - إلى التعبير عنه بحذر والتواء، حتى يمكن أن يجد طريقه إلى الناس وسط الرقابة الصارمة، فلماذا نغالط أنفسنا، ونتصور أن من ينتقد في الخارج يفعل ذلك طواعية، وأنه كان يستطيع أن ينقد في الداخل ولكنه اختار - لمصالح خاصة - منبرا للتعبير خارج بلاده؟
Bilinmeyen sayfa
ثالثا:
من الممكن أن يدرك المرء، حين يعمل فكره قليلا، أن معظم أصحاب هذا المبدأ، يقومون بعملية إسقاط لخلافاتهم الصغيرة في العمل، ومنافساتهم الشخصية مع جنسيات عربية أخرى في نطاق العلاقات الفردية الضيقة، على موقفهم السياسي العام، فكل منهم يتصور أن ظهور نقد للأوضاع المصرية في جريدة صباحية، سيجعل زميله أو رئيسه العربي في المكتب أو المصنع، يكسب نقطة على حسابه حين يفتح الجريدة، وينتهز الفرصة للتشفي منه، وهذه نظرة طفولية ضيقة، تخلط بين العلاقات الشخصية والشئون الوطنية العامة، وإن كانت للأسف واسعة الانتشار، حتى على أعلى المستويات.
إن هذا الخلط بين المستوى الشخصي للسلوك، وبين تقييم العمل السياسي العام، هو آفة من أخطر الآفات في تفكيرنا المعاصر، وهو علامة واضحة على أن تربيتنا السياسية بعيدة كل البعد عن ذلك النضوج، الذي لا بد منه لقيام نهضة حقيقية، وسوف تتاح لنا، خلال معالجتنا لجوانب الموضوع الذي نتناوله في هذه الدراسة، فرص كثيرة لرؤية أمثلة أخرى لهذا الخلط، ويكفي أن نقول الآن إن الكلام عن «التشفي» أو «الشماتة»، حين يكون الأمر متعلقا بالسياسة العامة لبلد من البلاد، هو مظهر للبدائية في التفكير، أما «نشر الغسيل» وهو للأسف تعبير ما زال يستخدمه مسئولون كبار - فهو تعبير مضحك ومؤسف في آن واحد، وليقل لي هواة هذه التعبيرات: هل سمع أحد منكم واحدا من أنصار ريجان أو ميتران يتحدث، في معرض تقييمه لسياسة بلاده، عن «الغسيل»؟
إن الفكرة الكامنة من وراء هذا هي فكرة «الستر»، وهي مبدأ أخلاقي مذموم حتى على المستوى الفردي، ففي أخلاقنا الشعبية نزوع شديد إلى التغطية على العيوب، إلى درجة أن افتضاح هذه العيوب ومعرفة الآخرين بها هو في نظرنا شر يفوق العيوب نفسها، وكثيرا ما نتصرف بحيث نتغاضى عن أخطر أنواع الآثام ما دامت «مستورة»، ومن هنا كان «الستر» أمنية غالية في تعبيراتنا الشعبية المألوفة، ولكن الخطأ الفكري والأخلاقي يتضاعف، حين ننقل هذا المبدأ إلى ميدان السياسة، فندعو مواطنينا إلى السكوت على أوضاع جائرة، حتى لا تفتضح أمام الآخرين، ونطالبهم بألا «ينشروا الغسيل»، بدلا من أن نطالب أنفسنا بأن نبقي غسيلنا نظيفا على الدوام.
وهكذا تكشفت ردود الفعل على كتاب هيكل، عن أخطاء فكرية فادحة، ترسخت في عقولنا وسرت فيها مسرى البديهيات التي لا تناقش، ويتبين لنا أن توحيدنا بين تصرفات الحاكم وبين سمعة بلاده، هو أبلغ دليل على أن لعبة الحاكم الفرد لا تقتصر على من يمارسها بنفسه، بل إن الذين تمارس عليهم هذه اللعبة قد اندمجوا فيها، وانتقلت عدواها إليهم دون أن يشعروا، وأن الخاضع للاضطهاد قد تقمص الكثير من أفكار من يضطهده، وأن الطغيان أصبح جزءا من تكوين المحكوم، لا الحاكم وحده، إلى حد أنه أصبح يوحد نفسه، وبلده، وكرامته ومكانته، مع شخص الحاكم المطلق، ويقدم بتفكيره الخاص، أقوى دعامة لذلك الاستبداد الذي يكتوي بناره ليل نهار.
الفصل الثالث
لعبة الأحياء والأموات
حين نمضي في رحلة الكشف عن مظاهر تزييف الوعي، وانهيار العقل والمنطق، كما تمثلت في ردود الفعل على كتاب هيكل، ستظهر لنا أمثلة أخرى مؤسفة لذلك الخلط، الذي أصبح سائدا على كافة الأصعدة، بين أساليب الناس في التعامل معا على المستوى الشخصي، وأساليبهم في النظر إلى أمور المجتمع العامة على المستوى السياسي، ولكنا سنكتشف أيضا أن قدرة المزيفين على الخداع، وصلت إلى حد من الجراءة، بل من الصفاقة، يفوق كل تصور، وأنهم ما كانوا ليبلغوا هذا المدى، لو لم يكونوا قد اعتادوا النظر إلى الجمهور على أنه قطيع ينقاد، بلا عقل، في أي اتجاه يفرض عليه، وهذا التعالي على الناس، والاعتقاد بأن أية أكذوبة يمكن أن تمر عليهم، ليس إلا النتيجة الطبيعية لجو القهر المخيم منذ أمد بعيد، والذي أشاعه عهد لا يجعل للجمهور من دور سوى التصفيق والتصديق.
لنستمع إلى كاتب كبير كان له يوما دور بارز في الحركة الوطنية المصرية، ولكنه انجرف في تيار التضليل السياسي منذ السبعينيات، يعلق على كتاب هيكل فيقول: «لقد اغتالوا حياته في 6 أكتوبر، عيد انتصاره الحربي، وفي 25 أبريل عيد انتصاره السلمي يحاولون اغتيال سمعته ... إننا نصغر في عيون الآخرين، ويبدو بعض كتابنا بلا وفاء، يحركهم الانتقام وتضطرب في أيديهم الموازين. إن ما كتبه هيكل ليس تحليلا، إنما هو التشهير بعينه، هو الاعتداء على حرمة رئيس مات، وعلى سمعة وطن بأسره. من قال إن كاتب التاريخ من حقه أن يهدر الحرمات، ويشهر بسمعة الرجال والنساء بلا دليل؟ من قال إن كتابة التاريخ تعني العدوان على سمعة الذين هم في ذمة التاريخ؟ ومتى كانت كتابة التاريخ تمزيقا للأشلاء؟»
1
Bilinmeyen sayfa
ولنستمع، بعد ذلك، إلى أستاذ مرموق في الطب، وأمين عام لنقابة الأطباء، وهو يهاجم الصحيفة التي نشرت مقالات هيكل الأولى قبل أن تصادر، فيقول: «هذه الصحيفة صدرت في ظل الحريات، وقانون الأحزاب التي أرسى قواعدها من أرادوا نهش لحمه حيا وميتا، لا لشيء إلا لأنه اتخذ موقف الصدق مع شعبه، واستجاب لمطلب أمته وأعلن عداءه للشيوعية ...»
ويواصل الطبيب الكبير كلامه قائلا: «لا أظن أن مصريا لم يتابع جنازة السادات، ولم تدمع عيناه، ولم يكتو قلبه لوعة وحزنا على النهاية، التي أودت بحياة رئيس مصر ورمزها ...» ثم يقول: «لقد بلغ به الغضب قمته عندما رأى من مد يديه إليهم بالخير، وفتح لهم أبواب الحرية، وسمح لهم بالتعبير عما يجيش في صدورهم من رأي، يمدون إليه أيديهم بالشر وأقلامهم بالقذف.»
2
وأخيرا، يتخيل كاتب لم يشأ ذكر اسمه أن السادات قد تولى الرد على هيكل ، فيتحدث بلسانه قائلا: «كرهت لإنسان أن ينزع مثلي من منامه فأوقفت زوار الفجر، ومقت لآمن انتهاك حرمته، فأحرقت أشرطة الأسرار ومنعت التسجيل والتصنت، وتصديت لشريعة الغاب فأغلقت المعتقلات، وآمنت بحق الدفاع عن النفس فأعليت سيادة القانون ... واغفروا لي إن كان قد دفعني بعض الأبناء، إلى ما لا يمكن أن يحبه ويرضاه أب لكل الأبناء.»
3
نماذج ثلاثة لم أخترها لكي أناقش أصحابها أو أرد عليهم، بل لكي يفتح القارئ عينيه، من خلالها، على الانهيار الفكري الذي تولده عهود الانفراد بالسلطة والرأي الواحد، فما هي العيوب الفكرية التي تكشف عنها هذه النماذج؟
أولا:
حين يتحدث النموذج الأول عمن يكتبون بلا وفاء، فإنه يسقط الاعتبارات الأخلاقية الشخصية على التقييم السياسي، وكأن المؤرخ ملزم، من أجل الوفاء للحاكم، إذا كان قد أسدى إليه خدمات معينة، بأن يغمض عينيه عن عيوب هذا الحاكم، ويغش جمهوره عندما يصدر حكما عليه، ثم يزداد الخلط والتشويش (الذي لا أظنه كله متعمدا، بل هو يعبر عن الطريقة التي أصبح يفكر بها الكاتب نفسه) حين يتحدث عن «سمعة الوطن»، واهدار الحرمات، والتشهير بالرجال والنساء، ويصل الضباب الفكري إلى ذروته، عندما يستخدم الكاتب تعبيرات إنشائية، لا مجال لها على الإطلاق في السياق الذي يتناوله، وكل ما تؤدي إليه هو إيجاد جو من التعاطف مع «الضحية»، أو جو من النفور من «المعتدي»، مثل «العدوان على سمعة الذين هم في ذمة التاريخ» أو «تمزيق الأشلاء»، هكذا أصبح للتاريخ «ذمة»، وهذه الذمة تحمي الحاكم من أي نقد، وتجعل من يمس الحكام اللاجئين إليها «ممزقا للأشلاء»!
ثانيا:
أما النموذج الثاني فأمره أغرب، إنه يؤكد ببساطة شديدة أن السادات، حين أعلن عداءه للشيوعية، إنما اتخذ موقف الصدق مع شعبه واستجاب لمطلبه، وهكذا يقرر الطبيب المرموق أن مطلب الشعب المصري ليس المعيشة الآدمية، ولا المواصلات السهلة، ولا المسكن المعقول، ولا الخبز الضروري، وإنما هو العداء للشيوعية. ولا يخجل الكاتب من أن ينسب اللوعة والحزن إلى المصريين جميعا في تلك الجنازة التي شهد الأمريكان أنفسهم بأنها قوبلت من الشعب بعدم اكتراث كامل. وأخيرا، فإن الكاتب ينظر إلى الحاكم على أنه ولي النعم، ويصل به تقديس الفرد، واحتقار الجماهير، إلى حد القول إنه هو الذي يمد يديه بالخير، وهو الذي يفتح أبواب الحرية، وهو الذي يسمح للناس بالتعبير، ويرى هذا كله وضعا طبيعيا يدافع عنه بحرارة، وفي مقابل ذلك فإن المعارضين الجاحدين، لا يردون على هذا الخير الذي يتصدق عليهم الحاكم به إلا بالشر والقذف.
Bilinmeyen sayfa
إن مستوى الوعي السياسي هو الذي يهم في الموضوع كله؛ فها هو ذا إنسان لا بد أنه سافر مرارا إلى الخارج، وقرأ ذلك الكم الرهيب من «الشر والقذف» الذي تحتشد به صحف حزب العمال ضد تاتشر أو صحف الديجوليين ضد ميتران، ورأى نماذج لا حصر لها للمعارضة القاسية الضارية، التي تتقبلها الحكومات بكل ترحيب، ومع ذلك فهو لا يقبل لبلده إلا أسوأ نموذج؛ ذلك الذي يكون فيه الحاكم مانحا للحرية، والمعارض الناقد معتديا أثيما.
أنقول إنها عقلية عصر الانفتاح، منعكسة على ضمائر أقطاب العهد؟ أنقول إن الطبيب الكبير يدافع عن عهد، يتيح له أن يتقاضى عن المريض الواحد، في كشف يستغرق دقائق قليلة، مقدار ما يتقاضاه خريج الجامعة الحديث، إذا عين موظفا حكوميا، ليعيش به في شهر كامل؟ لست أدري، وكل ما أعرفه هو أنها محنة فكرية، قبل أن تكون أزمة في الضمائر.
ثالثا وأخيرا:
فإن النموذج الثالث، الذي يقدم إلينا حديثا متخيلا بلسان السادات، يكرر بلا مواربة أفكار النموذج الثاني عن الحاكم من حيث هو «ولي النعم»، ويقدم مجموعة غريبة من الأحكام لا تصدر إلا عن شخص يفترض أن قراءه قد ألغيت عقولهم وحرموا حاسة الفهم، يؤمن بأن قارئه قد نسي تماما، أن عهد السادات كان فيه أيضا زوار للفجر، وأن كثيرا من القضايا السياسية قدمت فيه بناء على شهادة أجهزة تجسس وتنصت، وأن سيادة القانون كانت تخرق حتى على مستوى أعضاء مجلس الشعب، ولكنه يستدرك بعد ذلك، فيستخدم لغة «الآباء والأبناء» في وصف حركة اعتقالات سبتمبر 1981م، ويصور المسألة كما لو كان الأب الحنون، كبير الأسرة الواحدة، قد اضطر متألما إلى أن يكون صارما مع بعض أبنائه من أجل صالحهم.
إن جرأة الإعلام على التزييف والمغالطة، حين تصل إلى هذا الحد، فلا بد أن يكون في الأمر كله خطأ فادح، صحيح أن الإعلام في العالم كله يبالغ، ويخرج عن الحقائق هنا وهناك، غير أن ثمة حدا أدنى من الاحترام لعقول الناس، ولكن هذا الحد الأدنى لا أثر له للأسف، في إعلام عهود الحكم الفردي المطلق، ومن ثم فإن الكاتب يستبيح لنفسه أن يلوي الحقائق كما يشاء، ما دام يؤمن بأن عقول الناس قد ألغيت منذ أمد بعيد.
ومع هذا كله، فإن هناك ما هو أفدح وأخطر، وأعني به الحديث المتكرر عن «نبش القبور»، والسؤال الذي أصبح التفكير السياسي القاصر في هذه الأيام؛ يطرحه كما لو كان قضية بالغة الأهمية، وأعني به: هل ينبغي أن ينقد الحاكم حيا أم ميتا؟
لقد رأينا في النماذج الثلاثة السابقة إشارات متكررة إلى استنكار الهجوم على الحاكم بعد موته، ولكن لا بد أن نقدم نماذج أخرى لهذا الاستنكار، حتى يدرك القارئ مدى انتشار هذا اللون من التفكير؛ فالكاتب موسى صبري، وهو من أكبر الدعاة الساداتيين، يتحدث حديثا طويلا عن «حرمة الموت والموتى»، وعن «نبش القبور» و«انتهاك الحرمات»،
4
ولكن الأخطر من ذلك بيان نقابة الصحفيين في مصر تعقيبا على كتاب هيكل: «إن ما نشر يعد اعتداء على حرمة الموتى وتعرضا لحياتهم الخاصة ومخالفا لتقاليد المجتمع الدينية والأخلاقية.»
ولقد استنكر هيكل - وكان على حق في ذلك - استخدام رهبة الموت وقدسيته، من أجل تبرئة الحكام وإبعادهم عن النقد، فقال: «ومع ذلك فمن المصريين من يطالب بمصادرة حقنا في أن نناقشه، هل من المعقول أن يأتي كل حاكم ويفعل ما يشاء، ثم يذهب فلا نناقشه في حياته، ولا نناقشه بعد مماته؟ أهذا معقول؟»
Bilinmeyen sayfa
5
هذا كلام رائع بغير شك؛ فكل من يستنكرون مهاجمة الحكام بعد موتهم إنما يهدفون، في حقيقة الأمر، إلى مصادرة حق الناس في توجيه أي نقد إلى الحاكم، سواء خلال حياته أو بعد مماته؛ ذلك لأنهم هم أنفسهم الذين يشاركون في قمع حريات المعارضين والتنكيل بهم، واتهامهم بالعمالة والخيانة لو انتقدوا الحاكم حيا، وهم الذين يتمسحون بالفضيلة والأخلاق وتقاليد المجتمع والدين لو وجدوا من يهاجم الحاكم ميتا، وهكذا فالنقد أثناء الحياة ممنوع، وبعد الموت عيب وحرام، فهل هذا - كما قال هيكل بالضبط - معقول؟
ولكن المهزلة الكبرى تتمثل في أن هيكل نفسه، الذي يتلفت الآن حواليه ببراءة ويتساءل: أهذا معقول؟ كان هو نفسه من أهم من استخدموا هذه الحجة المتهافتة، وكان من أقوى الناس نقدا لمن يهاجمون الحكام بعد موتهم، وهكذا نجد أنفسنا إزاء «لا معقول» آخر، غير ذلك الذي يمثله خصوم هيكل، هو «لا معقول» هيكل نفسه.
فلنبدأ بتأمل رأي قريب العهد لهيكل. لقد نشرت الصحف في مصر والكويت، الرسالتين المتبادلتين بين توفيق الحكيم وهيكل، فماذا نجد في هاتين الرسالتين بشأن الموضوع الذي نتحدث عنه الآن؟ قال توفيق الحكيم مخاطبا هيكل: «إن حالتي تشبه حالتك؛ فأنت كتبت كتابا «خريف الغضب» اعتبر هجوما ضد السادات بعد موته، وأنا كتبت كتابا هو «عودة الوعي» اعتبر هجوما على عبد الناصر بعد موته.» ولكن هيكل يرفض هذا التشبيه بين الكتابين، ويهمنا في رفضه السبب الثاني الذي قدمه للاختلاف بينهما: «لم أكتب بعد موت أحد، كتبت في حياته رأيي، وكتبت بعد موته نتائج دراستي لما حدث.» وهو يؤكد في موضع آخر أن الحكيم ألف كتابه «بعد ثلاث سنوات من رحيل عبد الناصر»، على حين أنه هو ذاته نقد السادات منذ فبراير 1974م.
علام يدل هذا الحرص على نفي فكرة نقد الحاكم بعد موته؟ على شيء واحد، هو أن هيكل يقف على نفس الأرض التي يقف عليها خصومه، ويفكر بنفس منطقهم، ويتبنى نفس قيمهم؛ فالمعنى الضمني لديه هو أن نقد الحاكم بعد موته جبن، أو عمل غير أخلاقي، ومن هنا كان حرصه على تأكيد أنه نقد السادات حيا، ولم ينتظر ثلاث سنوات كما فعل توفيق الحكيم، وكل ما فعله بعد موت السادات هو أنه «كتب نتائج دراسته لما حدث».
ولكن، لنترك المعاني المفهومة ضمنا وننتقل إلى الكلام الصريح، فقد نشر هيكل مقالا بجريدة «الوطن» الكويتية
6
بعنوان: «ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين!» وهو في ذاته عنوان بالغ الدلالة، يتهم فيه هيكل من ينقدون الأموات بالجبن؛ لأنهم لم يمارسوا «شجاعتهم» إلا على الغائبين، في هذا المقال يروي لنا هيكل قصة عتابه لعبد الناصر على قيامه باعتقال شخصية من الشخصيات المرتبطة بصحيفة «الأهرام»، ثم يعلق قائلا: «لا أسمح لنفسي أن أقص عليك ما قلته له، ذلك الآن تجاوز لا يليق، لو كان حيا واقتضت الظروف أن أروي الحديث كله لرويته، ولكنه لم يعد بيننا؛ ولهذا لا أستبيح لنفسي أن أدعي الشجاعة على غائب، ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين! الفئران كلها تعربد في غياب القطط، ولم يكن جمال عبد الناصر قطا، وإنما كان أسدا مهيبا وشامخا.»
وهكذا يصف هيكل توجيه النقد للحكام بعد موتهم بأنه عربدة فئران في غياب القطط، ولا يدري أنه بعد أعوام قلائل من حديثه ذاك، سيجد بدوره من يشبهه بنفس التشبيه، بعد أن مارس هو أيضا شجاعته على حاكم غائب، والمفارقة الساخرة أن قائل هذا الكلام هو نفسه الذي يهتف في أيامنا هذه باستنكار: هل من المعقول أن يفعل الحاكم ما يشاء فلا نناقشه في حياته، ولا نناقشه بعد مماته؟
وهكذا فإنه، عندما كان الأمر متعلقا بنقد تصرفات لعبد الناصر، وجد هيكل في مهاجمة الأموات جبنا، وعندما أصبح متعلقا بالهجوم على السادات، استنكر عدم مناقشة الحاكم بعد مماته (ولاحظ أنه استخدم في هذه الحالة الأخيرة عبارة «كل حاكم» أي أنه كان يصدر حكما منطبقا على جميع الحالات)، هذا التناقض يدل على أن هيكل وخصومه يقفون جميعا على أرض واحدة، ويؤمنون بمجموعة واحدة من الأفكار الباطلة، التي ترتكز على نزعة أخلاقية زائفة تخاطب عواطف الناس لا عقولهم، وتخلط بين الموت من حيث هو كارثة إنسانية شخصية، وبين التقييم السياسي من حيث هو ممارسة لا صلة لها بالموتى أو الأحياء.
Bilinmeyen sayfa
إن الجميع في الوهم والضحالة الفكرية سواء، والكل نشئوا في مناخ سياسي لا يسمح بالموضوعية ولا يترك مجالا للنقاش المنطقي المجرد عن الأهواء، فالساداتيون يقولون: لقد نبشتم قبر السادات، وهنا يرد الناصري: وأين كنتم عندما نبش قبر عبد الناصر؟ أنتم فئران! ولكنه حين ينبش هو نفسه قبر السادات، ويهاجمه خصومه لهذا السبب، يتساءل في براءة: هل من المعقول أن يمنعونا عن نقد «كل حاكم» حيا أو ميتا؟
إنها أرجوحة شيطانية، يتراقص فيها الجميع سكارى بخمر الأفكار الزائفة والقيم المضللة، ويثبتون بها، على نحو قاطع، طفولية الفكر السياسي بين جميع أطراف اللعبة بعد ثلاثين عاما من ثورة، أعلنت أن هدفها تحرير الفكر وتصحيح مسار القيم.
تظل هناك، بعد ذلك، نقطة واحدة يمكن أن يلجأ إليها هيكل في دفاعه، وهي أن نقده للسادات بدأ أثناء حياته، هذا صحيح، ولكن ليقل لي الأستاذ هيكل «بصراحة»: لو كان السادات لا يزال حيا، أكان يستطيع أن يتكلم عن «ست البرين» وعن «المجعراتي المتسول» وكأس الفودكا الذي يؤخذ بعد كل غداء؟ ليجب بصراحة أيضا عن هذا السؤال: ما دام هو نفسه صاحب منطق القطط والفئران، فأين يضع نفسه، في هذه النقطة بالذات، بين هاتين الفئتين؟
إن المسألة كلها خلط مركب، فالكلام عن الأحياء والأموات، والتفرقة بينهم في النقد، أمر لا معنى له في ظل أي وعي سياسي سليم، ومبدأ «اذكروا محاسن موتاكم» ينطبق على الأقارب أو الجيران أو الشركاء، ولكنه خارج عن مجال الكتابة التاريخية والسياسية، ولو صح هذا المبدأ في تلك الميادين الأخيرة، لما استطعنا كتابة التاريخ، ولكان الموت هو شهادة البراءة لكل حاكم ظالم أو فاسق أو طاغية، ولأصبح كل مؤرخ، بحكم مهنته ذاتها، نباشا للقبور، ولكن الناس الذين اعتادوا على مدى سنوات طويلة، أن يحصروا تفكيرهم في شخص الحاكم، والذين عجزوا عن أن يتصوروا أية حقيقة تتجاوزه، هم الذين يصبغون السياسة بهذه الصبغة الشخصية، ويحكمون على تصرفات الحكام مثلما يحكمون على سلوك «كبار العائلة»، وينسون المسئوليات الخاصة «لرجل الدولة »، التي تحتم علينا أن نحاسبه على كل شيء ، وفي أي وقت نشاء.
هذا الذي قلناه على الموضوع كله، من حيث المبدأ، وفي ظل أي نظام، حتى النظام الديمقراطي، أما النظام الدكتاتوري - الذي تدور في ظله كل مناقشات هيكل وخصومه - ففيه يصبح الموقف أوضح، فالنظام الدكتاتوري لا يسمح بمناقشة الحاكم «إلا» بعد وفاته، وما دام النظام الدكتاتوري تحكمه أسود مهيبة وشامخة، فمن الطبيعي أن يكون على الطرف الآخر، فئران - وإلا فعلى أي شيء يستأسد الأسود؟
إن الناقد الذي يهاجم أي حاكم فردي مطلق بعد مماته، إنما يتصرف تصرفا طبيعيا لا مفر منه، لو قيل له: إنك خائف، لكان رده: نعم، إنني لم أتكلم إلا الآن؛ لأنني كنت خائفا، ولي كل الحق في أن أخاف، وحتى لو ادعى هيكل الشجاعة فأكد أنه انتقد السادات في حياته، فإن هذه ليست قاعدة يمكن أن تسري على الجميع، فهيكل قد استطاع أن يختلف مع السادات في سنواته الأخيرة؛ لأنه هيكل، بكل ما يحمله من نفوذ وما لديه من اتصالات عالمية، وما يحتفظ به من أسرار تبعث الرعب في قلوب أقوى الأقوياء - وهذه كلها إمكانات لا تتوافر لأي كاتب آخر، حتى لو كان في منزلة توفيق الحكيم، ومع كل ذلك فإن هيكل عندما هاجم الحاكم الفرد في حياته لم يكن يمسه إلا مسا رقيقا، واضطر - بكل سلطته ونفوذه وإمكاناته - أن ينتظر حتى يموت لكي يغوص في الأعماق.
إن القضية كلها - أعني الكتابة عن الحكام أحياء أم أمواتا - هي في رأينا قضية ما كان ينبغي أن تثار، وليس الاهتمام المفرط الذي أبداه أطراف النزاع بها إلا دليلا على قصور شديد في الوعي السياسي لدى الجميع، والمسألة ببساطة استغلال لعاطفية الجماهير واستغفال لعقولها من أجل الحيلولة دون نقد الحاكم حين لا يعود الناس خائفين، بعد أن كان نقده ممنوعا عندما كانوا خائفين، والخطأ الحقيقي الذي ارتكبه هيكل، لا يكمن في أنه انتظر حتى يموت السادات ثم فجر قنابل المعلومات على قبره؛ إذ إن الدكتاتور لا يمكن نقده إلا بهذه الطريقة، وإنما يكمن خطأ هيكل في أنه لم يكن يدرك هذه الحقيقة طوال الوقت، بل عاش الجانب الأكبر من حياته واقعا في وهم «القطط والفئران» والشجاعة على الحاضرين والجبن على الغائبين.
الفصل الرابع
ظروف العائلة أم اختيار مقصود؟
تظل ردود الفعل على كتاب هيكل مصدرا مفيدا غاية الفائدة؛ لتحليل أساليب التفكير المشوهة، التي أصبحت سائدة في عالمنا العربي بعد سنوات طويلة من القمع، وتتعمق دلالة هذا التشويه حين ندرك أن الكاتب الذي أثار ردود الفعل هذه، لم يسلم هو ذاته، في كثير من الأحيان، من الوقوع في أخطاء نقاده نفسها، بحيث يشعر المرء بأن المسألة في حقيقتها لا ينبغي أن تناقش على مستوى أطراف النزاع، ولا ينبغي أن تنحصر في البحث عن المصيب والمخطئ بين هذه الأطراف، وإنما المشكلة الحقيقية تكمن في ذلك الجو الفكري المزيف الذي طغى تأثيره على الجميع ولم يسلم منه أي طرف.
Bilinmeyen sayfa
كان هيكل، بغير شك، مبالغا في حديثه عن العوامل الفردية والعائلية التي تحكمت في نشأة أنور السادات، وصبغت شخصيته فيما بعد بصبغتها المميزة، صحيح أنه، حين يكون الحكم فرديا مطلقا، تلعب شخصية الحاكم وأهواؤه، وربما نزواته، دورا لا يستهان به، يمكن أن ينعكس حتى على قراراته المصيرية، ولكن المشكلة هي أن العوامل الشخصية تقبل أشد التفسيرات تنوعا: فالابن الذي يضطهده أبوه أو يسيء معاملته، مثلا، يمكن أن يتحول إلى إنسان منحرف يضطهد الآخرين عندما يكبر، ويكون انحرافه هذا رد فعل على نشأته الأولى، ولكنه يمكن أيضا أن يكون إنسانا حنونا عطوفا على الآخرين، لا يريد لهم نفس المحنة التي مر هو ذاته بها، ويكون هذا أيضا رد فعل على نشأته الأولى. وهكذا فإن الحديث عن العقد النفسية للطفولة، وتأثيرها في الإنسان البالغ، هو دائما حديث محفوف بالمخاطر، يقبل أشد التأويلات تناقضا.
خذ مثلا فكرة الأصل المتواضع، والحياة الصعبة التي كانت تحياها أسرة السادات، هذا شيء يقبل تفسيرات شديدة التنوع، فكم من زعيم أسدى لشعبه أعظم الخدمات، وكان أصله المتواضع هو الحافز له على أن يفني حياته من أجل الشعب الذي يشعر دائما بانتمائه إليه! وإذا كان السادات قد أغرق نفسه في البذخ، بصورة مبتذلة، في حياته المتأخرة، فإن هذا اختيار واع من جانبه، وانتماء وانحياز منه إلى طبقة محددة، وليس مجرد عقدة نفسية عبرت عن نفسها بصورة عكسية، فلماذا لم تؤد عقدة الفقر بهوشي منه أو لومومبا مثلا إلى اختيار حياة القصور والاستراحات؟ ألم يكن جمال عبد الناصر نفسه فقيرا؟
1
بل إن مثل هذا التفسير يمكن أن يستخدم ضد هيكل نفسه، وقد أشار موسى صبري بوضوح مقزز إلى أصول هيكل العائلية ولمح إلى ما يسميه: خوفه من إظهار أبيه في الأماكن العامة، بل إن كاتبا قدم عملا روائيا ومسرحيا مشهورا، تضمن إشارات مماثلة تتعلق بشخصية من شخصيات الرواية، رأى كثير من النقاد أنها ربما كانت تعبيرا عن شخصية هيكل نفسه.
2
هذه أمثلة لا أذكرها إلى لكي أنقدها، وأبين أنها مبنية على فهم باطل من أساسه، لعملية تفسير مسلك رجل الدولة، ومع ذلك فقد تورط هيكل فيها، خلال فصوله الأولى، أكثر مما ينبغي، ولا شك أن نوعية الجمهور الذي وجه إليه الكتاب أصلا، وهو الجمهور الأمريكي، كانت مسئولة إلى حد بعيد عن هذا التورط، فالأمريكيون مصابون بهوس العقد النفسية والتفسيرات السيكولوجية الرخيصة، وهم ينفقون على العلاج النفسي ما يغطي ميزانيات عدة دول من العالم الثالث، دون أن يجنوا من ذلك إلا مزيدا من السلوك غير السوي. وهكذا خاطب هيكل جمهوره الأمريكي باللغة التي تروق له، ولكنها للأسف لغة لا تفسر شيئا، بل تزيد الأمور تعقيدا.
خذ مثلا مشكلة اللون، لقد كان هيكل - للإنصاف - واضحا في هذه المسألة، فأكد أن السادات كان معقدا من لونه «بلا داع»، وفي كل مرة كان يكرر أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى هذا التعقيد اللوني، ولكن مجرد الإشارة إلى اللون كانت كفيلة بإثارة ردود فعل غاضبة لدى كثير من الناس، وكان من أطرف ردود الفعل هذه، ما كتبه مستشار سوداني احتج بشدة على ما ذكره هيكل عن عقدة اللون عند السادات، الذي يحبه المصريون ويفخرون به ، وذاهبا إلى أن هذه إساءة إلى الشعب السوداني تعرقل مسيرة التكامل بين البلدين «في ظل قيادة الرئيس نميري»، ورأى المستشار فيما قاله هيكل تفرقة عنصرية، ومؤامرة مشتركة مع القذافي لعرقلة التكامل بين الشعبين، ولم ينس المستشار أن يشير إلى أسماء عدد من الشخصيات المصرية المشهورة التي كانت من أب سوداني أو أم سودانية، كمحمد نجيب، وعبد الله النجومي، وعلي عبد اللطيف، ولم يمنعهم ذلك من دخول التاريخ،
3
هذا رد فعل مبالغ فيه بغير شك، وربما كان طائشا، نتج عن فهم قاصر لإشارة هيكل إلى لون السادات، ولكن الموضوع بأكمله ما كان ينبغي أن يثار؛ لأن أخطاء الحكام، وخاصة حين تكون فادحة، أعقد من أن تفسر بمثل هذه العوامل.
ولكن لنتوقف وقفة أطول عند صفة أخرى أكدها هيكل بإلحاح، وأثارت ضده موجة من ردود الفعل العنيفة، وأعني بها نشأة السادات الفقيرة، التي أدت - وفقا لتفسيرات هيكل النفسية - إلى رد فعل في الاتجاه العكسي لدى السادات عندما أتيحت له فرص الإثراء، ولما كان هدفنا الدائم هو التوصل إلى أنماط الفكر التي أصبحت سائدة في أيامنا هذه، والتي تشهد على الانهيار العقلي المميز لعهود القهر والكبت، فسوف نبدأ بضرب أمثلة لردود الفعل التي لا يكاد يتصورها العقل، على ما قاله هيكل عن فقر السادات في حداثته: فالكاتب الذي اقتبسنا عنه من قبل، والذي تحدث بلسان السادات، ردا على هيكل، دون أن يذكر اسمه، يقول: «صدقوا فيما يقولون، نشأتي عقدتني، ذقت الفقر وقسوته فحاولت أن أجنب غيري تذوق مرارته، تملكتني عقدة الرخاء، وكانت أغلى أماني أن يوفقني الله إلى حماية من عنده لكل مصري ومصرية من مواجهة لا ترحم مع شيخوخة أو عجز أو عوز، وأن يقدرني على طلب الطعام من الصحاري لكل فم، وحق العلاج والدواء لكل عليل، وتوفير البيت لكل عروس، ويشهد الله والشعب الوفي الذي لا ينسى، أنني سعيت وحاولت قدر طاقتي.»
Bilinmeyen sayfa
ويستنكر زعيم يمني سابق على هيكل أنه يعير السادات بفقره، فيذكر القراء بأن الله قد اختار أنبياءه من الفقراء ، وقال لرسوله:
فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث ، ثم يعلق الزعيم السابق المشهور قائلا: «ولم نسمع أن السادات قهر يتيما، ولا نهر سائلا، وكان بنعمة ربه يحدث.»
4
والنموذج الثالث شهادة سريعة لموسى صبري، يكرر فيها قصة عن السادات الذي أصر على أن يقرأ بنفسه شكوى رجل فقير بعد أن حاول سكرتيره الخاص أن يعالج الموضوع دون تدخل من الرئيس، ثم قال السادات لهذا السكرتير: «أنت يا فوزي لم تعان الفقر كما عانيته.»
5
هذه الأمثلة تكفي للدلالة على التدهور الخلقي والفكري، الذي يمكن أن يصل إليه الإعلام في ظل القمع، فكاتب العبارة الأولى، على سبيل المثال، لا يخجل من الحديث عن رحمة الرئيس بالفقراء، ويتوهم أن الوعي لدى الجماهير قد انعدم إلى حد نسيان مجموعة المليونيرات التي أحاطت بالرئيس السابق وصاهرته، وتلك التي أعطيت لها كل الفرص لنهب أموال الشعب في ظل الانفتاح، ولا يتورع الكاتب عن الحديث عن شقة لكل عروس، في الوقت الذي تشهد به تجربة الناس اليومية، أن أسعار المساكن الخيالية، وصلت إلى أرقام، لم تعد تقدر عليها إلا عروس واحدة بين كل ألف عروس، وهو لا يستحي من الحديث عن الطعام لكل فم وسط الغلاء الطاحن، ولا عن الدواء لكل مريض وسط الإهمال الكاسح لعلاج الشعب، والارتفاع الصاروخي لأسعار العلاج الخاص! فماذا يمكن أن يقول العقل والمنطق، حين تصل الصفاقة بالإعلام إلى هذا الحد؟
إن من العبث أن يسترسل المرء في مناقشة هذه الشهادات الفجة، التي لا ترتكز إلا على مغالطات مفضوحة، وما استشهدنا بها ها هنا، إلا لكي نقدم نماذج للمستوى، الذي أصبحت تناقش به أمور المجتمع المصيرية في الوقت الراهن، ولكن الأهم من ذلك هو أن نتساءل: هل يكفي التعليل الذي قدمه هيكل، والذي يرتكز على فكرة عقدة الفقر؛ لكي يفسر البذخ المفرط الذي تميزت به حياة السادات، وحياة المحيطين به من أقارب وأصحاب؟ إن عقدة الفقر، كما قلنا، يمكن أن تتجه اتجاها عكسيا، فتولد لدى الحاكم تعاطفا حقيقيا مع الفقراء، وسعيا جادا إلى استئصال الأسباب المؤدية إليه، فلماذا إذن كان الاتجاه، في حالة السادات، إلى التمتع المفرط بنعم الحياة، والاندماج التام بأكبر أثرياء المجتمع؟
في رأيي أن المسألة اختيار واع ومقصود لنمط معين من أنماط الحياة، ولفئة معينة في المجتمع هي الأقدر على إشباع احتياجات نمط الحياة المطلوب، فالتفسير هنا اجتماعي واقتصادي قبل أن يكون نفسيا.
والدليل على صحة الرأي الذي نقدمه هو أن السادات حارب فكرة الفقر ذاتها، بطريقة متعمدة، أملا في إلغائها من القاموس، وبذل جهودا واعية لإقامة «فلسفة» خاصة به، لا مكان فيها لمفهوم الفقر، وبذلك تكتمل عملية تغييب الوعي لدى الجماهير التي تشعر بوطأة الفقر في حياتها اليومية حتى لو لم تفهم الأسباب الحقيقية المؤدية إليه، ففي معظم خطب السادات وأحاديثه كانت هناك دعوة متكررة إلى إلغاء الحقد، والاستعاضة عنه بالحب والتآلف والانسجام في ظل مجمع «الأسرة الواحدة»، الذي يرعاه ويسهر عليه «كبير العائلة». والحقد هنا ليس إلا تطلع الفقراء إلى نمط حياة الأغنياء، وإلغاء الإحساس بالفوارق الصارخة بين الطبقات، بدلا من أن تقوم على إلغاء هذه الفوارق ذاتها، ولا جدال في أن الإلحاح على الناس ليل نهار؛ كي يتخلوا عن الحقد ويحبوا بعضهم بعضا، في إطار مجتمع يسوده كل هذا القدر من التفاوت في الثروات وفي كافة فرص الحياة، إنما هو محاولة واعية لتزييف عقول الناس، بحيث تنسى واقعها الأليم ذاته، وليس على الإطلاق مجرد رد فعل نفسي من جانب الحاكم على نشأته الفقيرة.
ولعل الدليل الأوضح من هذا كله هو موقف السادات من أحداث يناير 1977م، فهذه الأحداث «ثورة فقراء» بمعنى الكلمة، والأمر اللافت للنظر حتما، في موقف السادات إزاءها، ليس أسلوب القمع العنيف الذي اتبعه لإخمادها، فهذا هو المسلك المنتظر من أي حاكم في مثل موقفه، ولكن ما ينفرد به السادات هو أنه حاول أن يلغي طبيعة الحدث ذاته، ويحذف منه عنصره الأساسي؛ عنصر الفقر، حذفا كاملا، وهكذا ظل السادات شهورا طويلة، بعد يناير، يوجه إلى كل من يناقشه أو يحاوره سؤالا لا يتغير: انتفاضة شعبية أم انتفاضة حرامية؟ وتبعا للإجابة عن هذا السؤال يتحدد موقف كل شخص، إن كان مع السلطة أو ضدها، من أنصار الانفتاح أو خصومه، من الطبقة العليا الجديدة أم من الطبقات الدنيا، كان إطلاق اسم «الحرامية» على تلك الملايين التي خرجت في مظاهرات تلقائية عارمة ضد رفع الأسعار، هو في ذاته اختيارا طبقيا لا تخطئه أي عين، وبغض النظر عن أن وجود كل هذا العدد الهائل من «الحرامية» (لو صحت التسمية) هو في ذاته دليل على أن هناك خللا أساسيا في المجتمع، فإن الشيء الذي ينطوي على دلالة عميقة هو أن الاختلاف حول الاسم كان يعكس محاولة من الحاكم لإنكار وجود الفقر في المجتمع أصلا، فالمتظاهرون لم يخرجوا لأنهم فقراء، بل لأنهم «حرامية». هذه قمة التوحد مع الطبقة الثرية التي أصبحت تحكم مصر وتنهب مواردها، ذلك التوحد الذي يصل إلى حد إلغاء كلمة الفقر من القاموس، وكأن حذف لفظ معين وإحلال لفظ آخر محله سوف يستأصل الظاهرة نفسها من جذورها!
Bilinmeyen sayfa
كانت تلك، بطبيعة الحال، واحدة من الحالات التي يقوم فيها اختيار لكلمة مخففة بالتغطية على حقيقة أليمة مريرة، تلك الحالات التي تكتشف فيها أجهزة الإعلام سحر «الكلمة»، فتتلاعب بها وهي واثقة من أن الكلمة المزيفة، إذا ما تكرر استخدامها إلى الحد الكافي، تستطيع أن تغير طبيعة الظاهرة التي نتحدث عنها وتشكلها بالطريقة التي تحقق أهداف الحاكم - ويدخل في هذا الإطار استخدام أجهزة الإعلام المتكرر للفظ «النكسة» بدلا من الهزيمة الثقيلة في يونيو 1967م، وحديثها الدائم عن «سيادة القانون»، بمعنى وضع قوانين مزيفة توافق عليها الأغلبية الآلية في المجالس النيابية ثم ضمان «السيادة» لها، واستخدامها تعبير «تحريك الأسعار» بدلا من الغلاء الفاحش، وهلم جرا.
على أن الأمر اللافت للنظر هو ذلك الافتقار العجيب إلى سياسة محددة المعالم، قابلة للتنفيذ، لمواجهة ظاهرة الفقر في مصر، فبدلا من التصدي للظاهرة بأساليب مخططة ومدروسة، كان الحاكم يتحدث في كل مناسبة، عن أمنيته الغالية، وهي أن يكون لكل مصري «فيلا وسيارة» خاصة به ، ومثل هذا الحديث ليس مجرد تخدير لحواس الناس وعقولهم فحسب، بل هو أيضا دليل على أن فكرة المواجهة العلمية للمشكلات غير موجودة في ذهنه أصلا؛ ذلك لأن بلدا كمصر لا يحتمل ببساطة، أن يكون لكل مواطن فيه «فيلا وسيارة»، حتى لو كان نظام الحكم فيه وطنيا مخلصا بلا أي شائبة، والنظرة العلمية إلى مشكلة كهذه، هي التي تحدد الأهداف وفقا للإمكانات الموجودة، وتكتفي بالحد الأدنى للمعيشة الآدمية، بدلا من أن تغرق الناس في أوهام يستحيل تحقيقها، ومن المؤكد أن المفارقة لا بد أن تكون قاسية بين حلم «الفيلا والسيارة»، حين يشيعه بين الناس أكبر مسئول في الدولة، وبين الأسعار الفلكية للمساكن الجديدة، ووسائل المواصلات اللاإنسانية التي لا تملك الأغلبية الصامتة غيرها، وفي مثل هذه الحالات، يكون التقدير الواقعي للأهداف أقدر بكثير على تهدئة مشاعر الناس، وبعث الأمل في نفوسهم من أي تعبير تخديري حالم.
المهم في الأمر أن المحاولات الواعية المتعمدة للتغطية على حقيقة الفقر الصارخة، ولتعليل الناس بآمال زائفة، لا يمكن أن تكون مجرد تعبير عن «عقدة فقر» متأصلة منذ النشأة الأولى، وإنما هي تعبير عن اختيار وانحياز إلى جانب القلة المستغلة، ضد الأكثرية المطحونة من وطأة الاستغلال، إنها فلسفة متكاملة، دبرت وخططت بعناية وبخطط مرسومة، وليست مجرد رد فعل سيكولوجي على ظروف الفقر التي سادت خلال فترة النشأة الأولى، ومن هنا يبدو أن الخطأ الذي ارتكبه هيكل في هذا الجزء، لا يقل فداحة عن ذلك الذي ارتكبه خصومه ممن تحمسوا للدفاع عن السادات، سواء منهم ذلك الذي أكد أن فقر السادات جعله يسعى حثيثا لاستئصال كل مظاهر الفقر في بلاده، أو ذلك الذي ذرف دموع التماسيح وهو يتحدث عن معاناة رئيسه من الفقر في حداثته، أو ذلك الذي شهد - بكل أمانة وإخلاص - بأن السادات لم يقهر يتيما، ولم ينهر سائلا، وكان بنعمة ربه يحدث!
إن الاهتمام الزائد بعوامل التنشئة والتربية والبيئة الأولى، في حياة السياسيين، يمكن أن يؤدي إلى عكس الهدف المقصود منه، ففي حالة السادات كان من الممكن - كما قلنا من قبل - أن تفسر نشأته المتواضعة على نحو يؤكد تعاطفه مع الفقراء، كما فعلت أجهزة الإعلام المؤيدة له بالفعل، ولو قيل إن النشأة المتواضعة، وليس الاختيار الأصيل، هي التي أدت به إلى ارتكاب أخطائه، فإن مثل هذا التعليل يعني التماس شيء من العذر للحاكم؛ لأنه سيكون عندئذ «ضحية» ظروفه العائلية القاسية، وربما اقتنع البعض بأنه لم يكن يملك أن يفعل إلا ما فعل، وهذا كله هروب من المسئولية الحقيقية؛ مسئولية الاختيار الواعي، المخطط، المرسوم، الذي تخلى فيه السادات عن طبقته الأصلية، وانحاز بكل قوة إلى صف أصحاب الملايين الجدد.
ومع ذلك فإن هيكل يبرز هذا العامل إلى حد تصوير المسألة، كما لو كانت مسألة إنسان مصاب بمجموعة من العقد النفسية، التي لم يكن يستطيع التخلص من تأثيرها طوال حياته، وإذا قال البعض، دفاعا عن هيكل، إنه لم يفعل ذلك إلا في الفصول الأولى، بينما خصص الفصول التالية للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الموضوعية، فإن هيكل نفسه يعود فيؤكد التهمة الموجهة إليه حين يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه، بعد أن عرض ملحمته الطويلة عن السادات، وأراد أن يلخص في النهاية ما انتهى إليه من نتائج: «يمكن الآن بأثر رجعي أن يقال إن غلطة السادات الكبرى، تمثلت في تضحيته بالأهداف الاستراتيجية لمصر، من أجل مناورات تكتيكية كان مشكوكا منذ البداية في قيمتها، ويمكن أن يقال - وبحق - إن حرب أكتوبر كانت فرصته الكبرى، بل كانت فرصة لم تتح لحاكم مصري قبله في تاريخ مصر الحديث، بما في ذلك محمد علي وجمال عبد الناصر، ولكنه ألقى بكل شيء في الهواء، وربما كانت المسئولية تقع على نوع الحياة التي عاشها، أو ربما كانت تقع على نقص حصيلته من التعليم والعلم، وكلها عوامل تجعل من الظلم إصدار حكم قاطع عليه.»
هنا، وفي نهاية الكتاب، يعمد هيكل إلى استخدام التعليلات الشخصية، مثل نوع الحياة التي عاشها الحاكم، أو نقص تعليمه؛ لكي يفسر بها أخطر الأحداث، وكأن السادات لو كان أكثر علما لتغيرت سياساته جميعا ، أما المصالح والانتماءات والارتباطات، فلا مكان لها في تعليلات هيكل، فظروف الحاكم، من حيث هو فرد معين نشأ في أوضاع معينة، هي التي تفسر كل شيء، وإن المرء ليعجب كيف يقبل مفكر ومحلل كبير، كان أقرب المقربين إلى حكام أكبر بلد عربي خلال ربع قرن من الزمان على الأقل، أن يقدم مثل هذا التعليل الجزئي الضيق لأحداث سياسية كبرى، ويتجاهل عوامل سياسية مثل اختيار الحاكم أن ينتمي إلى الشريحة العليا للمجتمع ويربط مصيره بها، ومثل اتباعه أسلوبا للحكم غير مستند إلى إرادة شعبية تعبر عن نفسها تعبيرا حرا سليما، فهل يكون من المستغرب بعد ذلك، أن تكون النتيجة التي يصل إليها تحليله، هي أن «من الظلم إصدار حكم قاطع عليه»؟
وكل ما أستطيع أن أقوله من تفسير لهذا القصور الشديد في التحليل، هو أن من اعتادوا الاقتراب الشديد من حكام أفراد بعيدين عن الديمقراطية، ومن ألفوا رؤية أخطر القرارات تصدر بإرادة فردية مطلقة، لن يستطيعوا أن يخرجوا في تعليلاتهم وتفسيراتهم عن إطار الظروف الشخصية لأصحاب السلطان. •••
إن المناقشة الطويلة التي قمنا بها، على مدى هذا الفصل والفصول السابقة، لردود الفعل على ما كتبه هيكل، إنما كانت تستهدف قبل كل شيء، إظهار عناصر الضعف والتفكك في الجو الفكري الذي عاش في ظله هيكل وخصومه معا، فالجميع يقعون في أخطاء متشابهة، وإن كانت هذه الأخطاء مكشوفة مفضوحة في بعض الحالات، وغير ظاهرة للعيان في حالات أخرى.
وأبرز هذه الأخطاء هو الخلط بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية في تحليل الظواهر السياسية، وإصدار الأحكام على تصرفات رجال الدولة، هذا الخطأ واضح كالشمس في استنكار الساداتيين لعدم الوفاء وانتهاك الحرمات ونبش القبور، ولكنه ظاهر أيضا في تأكيدات هيكل، في مواضع كثيرة من كتاباته، بأن نقد الحكام بعد موتهم ليس من الشجاعة في شيء، إن المنهج الفكري واحد، وإن كان يطبق في حالة هيكل - كما يحدث دائما - بطريقة أكثر ذكاء وخفاء.
ومن شأن اتباع هذا المنهج أن يبدو الصراع حول المسائل السياسية الكبرى، كما لو كان ثأرا بين أشخاص، وهكذا يقول البعض، تأييدا لموقف هيكل ضد مهاجميه: أين كنتم عندما كان عبد الناصر يشتم؟ فيرد البعض الآخر ممن ينقد حملة هيكل على السادات: ولماذا هاجمت دكتاتورية السادات وسكت عن دكتاتورية عبد الناصر؟ ويظل كل من الطرفين حريصا، قبل كل شيء، على ألا يوجه اللوم إلى الرئيس الذي يدافع عنه ويترك الآخر، أما القضية الأصلية، وهي أن حق النقد ينبغي أن يكون مباحا للجميع، وفي عهود كل الحكام، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، فلم يدافع عنها أحد.
Bilinmeyen sayfa
وحين تثور العواصف ضد هيكل من صحفيين كانوا زملاء له، ثم اندمجوا في العهد الساداتي، يعلق على ذلك بأسف قائلا: «ليس بينهم من لم أقف معه في أحلك الظروف ولم أفعل كل ما في وسعي لمساعدته، ولولا أنني لا أريد أن أمن على أحد، لذكرتهم لك واحدا واحدا وبالاسم، ورويت ما قدمته لهم.»
6
إنه هنا يلخص الموقف كله: فهو يتصور أنه بمثل هذه الإشارات إلى الخدمات الشخصية التي أسداها يرد على نقاده، وينسى أن القضايا المثارة أخطر بكثير من منطق الخدمات والمساعدات الفردية، ويثبت أنه لا يختلف عن مهاجميه ممن خضعوا لمنطق الحكم المطلق، وعجزوا عن تفسير الظواهر العامة إلا من خلال سلوك الأفراد.
الفصل الخامس
التاريخ والحقيقة الضائعة
من سمات عهود القمع الفكري وكبت الرأي المعارض، أنها تنشئ أجيالا لا تعرف التاريخ إلا في صورة مشوهة، فحين تكون وجهات النظر المتباينة متاحة يستطيع العقل الناضج أن يكون صورة صحيحة عن أحداث التاريخ وتياراته، ويصدر أحكاما سليمة على السياسات التي تحكمت في صياغته، أما حين يسري الحظر الكامل على وجهات النظر التي تخالف موقف السلطة الحاكمة، فكيف نتوقع من أي جيل لم يتعرض إلا لوجهة النظر هذه، أن يفهم أحداث التاريخ ويصدر حكما صحيحا عليها؟
وأستطيع أن أقول إن الأجيال التي تقل أعمارها عن خمسة وأربعين عاما، وهي بالطبع تشكل الأغلبية في العالم العربي المعاصر، لا تعرف عن تاريخ ما قبل ثورة 1952م سوى معلومات غير موضوعية وغير منصفة، هذا بالطبع لا يمنع من أن يكون ثمة أفراد هنا وهناك، بذلوا جهودا مضنية في القراءة والاطلاع والبحث عن الحقائق من مصادرها الأصلية، بحيث لا يسري عليهم هذا الحكم، ولكن مثل هذه الجهود لا تتاح إلا للقلة القليلة، بحيث يمكن القول إن الجيل بوجه عام لم يعد يعرف ذلك التاريخ، إلا من خلال وجهة نظر معادية له، ومن ثم فقد حرصت كل الحرص على تشويهه.
كانت تجربة مصر مع الديمقراطية تجربة فريدة بحق، فمنذ القرن التاسع عشر كانت هناك مجالس نيابية، حاول حكام مصر في ذلك الحين، وهم أتراك أو أنصاف أتراك، أن يستغلوها لحسابهم، وجندوا بالفعل عددا من الأعوان والأذناب، ولكن كان هناك دائما من يتصدون للقهر والطغيان، وشهدت هذه المجالس مواقف مجيدة، كان نواب الشعب فيها يدافعون عن الدستور ضد سلطة الحاكم، ويؤكدون سيادة الشعب ويحمون حقوقه، كانت تجربة ديمقراطية مبكرة، سبقت نظيراتها في كثير من البلاد الأوروبية، وكانت شهادة بالغة الدلالة على أن الشعب يستطيع أن يجني من الديمقراطية مكاسب هامة، مهما كانت قوة التيارات التي تقف في وجه تطوره.
ولقد كانت هذه التيارات قوية بغير شك، فقد كان هناك القصر (الخديوي في البدء، ثم الملوك بعد ذلك)، وكان هناك الإنجليز، وكان هناك أعوان يستطيع الحكام شراءهم بالوعود والمصالح، ولم يكن الطريق بالتالي سهلا على الإطلاق، ومع ذلك فقد كان الشعب يؤكد حقوقه ويدافع عن حرياته في كل فرصة تتاح له.
وحين قامت ثورة 1919م في مصر، لم تكن الثورة التي عمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، والتي شاركت فيها الطبقات الدنيا والوسطى وكثير من شرائح الطبقة العليا، ولم تعرف تفرقة بين مسلم وقبطي في الكفاح من أجل الوطن؛ لم تكن هذه الثورة كفاحا ضد الأجنبي المحتل فحسب، بل كانت في الوقت ذاته جهادا من أجل تأكيد الديمقراطية والحقوق الدستورية للشعب، وكان من أبرز مظاهر النضج السياسي في ذلك الحين، وجود وعي كامل بأن الكفاح من أجل الاستقلال، والكفاح من أجل الديمقراطية لا ينفصلان.
Bilinmeyen sayfa
وخلال تلك الفترة الواقعة بين 1919 و1952م، تميزت الحياة السياسية بطابع الصراع العنيف، الذي تحددت معالمه بوضوح تام، بين تيارين: تيار رجعي يمثله القصر والإنجليز وأعوانهما، وتيار شعبي مستنير يمثله الوفد، ولم يكن الوفد حزبا مثاليا، بل كانت في دواخله تيارات متعارضة، كما كان يضم شرائح متباينة من المجتمع إلى الحد الذي يجعله أقرب ما يكون إلى صيغة «تحالف قوى الشعب»، تلك الصيغة التي بذلت فيما بعد محاولات لتطبيقها في إطار غير ديمقراطي، فلم تلق نجاحا.
ومع ذلك كان في الوفد ميزتان أساسيتان: الأولى أنه كان على وعي تام بأن مصدر قوته هو التأييد الشعبي الساحق، ومن ثم فقد كان في أوقات الأزمات يقف بصلابة في الدفاع عن الدستور وعن حقوق الشعب التي هي رصيده الأكبر، والثانية هي مرونته وقدرته على تطوير نفسه وفقا للأحداث؛ مما أتاح له أن يصمد صمودا رائعا، طوال الفترة الواقعة بين ثورتي 1919 و1952م، على الرغم من كل حملات التشويه والتشنيع التي كانت تشن ضده بانتظام، وبفضل هاتين الميزتين استطاع الوفد أن يكتسح أحزاب الأقلية، التي خلقها القصر والإنجليز لمحاربته، في كل انتخابات تجرى بقدر معقول من الحرية، وكان آخر انتصاراته، وأكثرها مدعاة للدهشة في نظر خصومه، هو فوزه الساحق في الانتخابات التي أجريت في أواخر 1949م، بعد فترة بدا فيها لخصومه في الداخل والخارج، أنهم أفلحوا في تشويه صورته عن طريق اختلاق تفسير كاذب لأحداث 4 فبراير 1942م، وعن طريق انشقاق مكرم عبيد ونشره «كتابا أسود» ضد الوفد، وعن طريق إنشاء دار «أخبار اليوم» الصحفية خصيصا لخدمة أهداف الملك والإنجليز والتخصص في تشويه صورة الوفد.
إننا لا نقدم هنا استطرادا خارجا عن الموضوع، ولا نود أن نقطع حبل الأحداث، التي أثارها كتاب هيكل أو التي ظهر كرد فعل عليه؛ إذ إن هذه الملاحظات تدخل في صميم الموضوع، وهي في رأينا تكمن في قلب المأساة الفكرية والسياسية التي تعاني منها مصر والأمة العربية في الوقت الراهن؛ فهناك كما قلنا جيل يجهل هذه الأحداث أو لا يعرفها إلا من خلال ما كتبه عنها خصومها منذ عام 1952م، ومن حق هذا الجيل على من شهدوا هذه الفترة بوعي وفهم أن يدلوا بشهادتهم، وسواء اقتنعوا بهذه الشهادة أم لم يقتنعوا، فلينظروا إليها على أنها مادة خام تساعدهم على المزيد من التحليل والتفكير.
كانت الفترة التي تولى فيها الوفد السلطة، بعد انتصاره الساحق في آخر انتخابات أجريت قبل الثورة، وآخر انتخابات حرة في تاريخ مصر، فترة فريدة بحق في تاريخ هذه المنطقة كلها، ومن المؤسف حقا أن أحداث عامي 1950 و1951م لم تنل حظها من الدراسة والتحليل، مع أن هذه الفترة بالذات تلقي الضوء على الكثير جدا من التطورات التالية، ولن يسمح لنا المجال ها هنا، ولا الحرص على الاحتفاظ بتسلسل المناقشة وترابطها، بأن نتحدث بأي شيء من التفصيل عن هذه الفترة الحاسمة التي تنطوي على مفاتيح تفسر أحداثا كثيرة وقعت فيما بعد، ولكن حسبنا أن نشير في عجالة إلى الخطوط العريضة لأحداث هاتين السنتين الحاسمتين، اللتين بدأتا عند استدارة القرن العشرين إلى نصفه الثاني، وكانتا نقطة تحول أساسية بين التاريخ السابق والتاريخ اللاحق.
في هاتين السنتين الحاسمتين وقعت الأحداث الكبرى الآتية: (1)
تركت الحرية للصحافة لكي تهاجم الملك - أقوى سلطة في البلد، بارتكازه على قوتي الإنجليز والجيش - واتخذ الهجوم في بعض الأحيان طابع الفضح المباشر لتصرفات الملك وأسرته، وكان مما ساعد على ضمان هذه الحرية، معركة مشهورة نشبت في ذلك الحين حول تشريعات مقيدة للصحافة (وهي تشريعات لا تساوي شيئا إذا ما قيست بالقيود الفعلية التي أصبحت تمارس ضد حرية الصحافة بعد عام 1952م)، واستطاع فيها الضغط الشعبي، ممثلا في حملة صحفية رائعة ضد التشريعات الجديدة، أن ينتصر في النهاية؛ فسحبت التشريعات، وتأكدت حرية الصحافة. (2)
قامت الحكومة، استجابة لمطالبات شعبية واسعة النطاق أيضا، بإلغاء معاهدة 1936م مع الإنجليز، وبدأ عهد الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية في منطقة القناة، وبقدر ما كانت حركة الكفاح المسلح ارتجالية في البداية، فإنها كانت تحمل للدول الغربية الطامعة في المنطقة، وعلى رأسها القوة الإمبريالية الجديدة (أمريكا)، نذرا خطيرة إلى أبعد حد، هي تكوين نواة لجيش شعبي مدرب على مكافحة الاستعمار، وهو أكبر خطر تخشاه هذه القوى الأجنبية، وخاصة إذا انتقلت عدواه فيما بعد إلى الأقطار العربية الأخرى. (3)
وضعت أسس راسخة لمبادئ العدالة الاجتماعية وديمقراطية الحكم، فطبق مبدأ مجانية التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية، واتسع نطاق القبول المجاني في الجامعة إلى حد بعيد، وطبق طه حسين، حين كان وزيرا للتعليم، مبدأ «التعليم كالماء والهواء»، وكانت تلك هي البداية الحقيقية للتحول الاجتماعي، ليس فقط في التعليم، بل في فرص العمل وإدارة دفة المجتمع.
وهكذا كانت تلك التجربة الأخيرة لحكم الوفد هي ذروة التطور الديمقراطي الذي سارت فيه مصر طوال فترة لا تقل عن ثلاثة أرباع القرن، ومن اللافت للنظر أن هذه التجربة الرائعة كانت تتم في وجه عقبات هائلة، ولم يكن طريقها سهلا أو معبدا على الإطلاق؛ إذ كان هناك ملك مستبد يشعر بالخطر الذي يتهدده من هذه التطورات، ويتحين الفرص لإسقاط الحكومة التي ستؤدي سياستها حتما إلى القضاء عليه، وكان هناك احتلال بريطاني يريد أن يثبت أقدامه ويتعاون مع أعداء الحكومة الوطنية بكل الوسائل، وكان هناك جيش يدين قادته بالولاء المطلق للقصر، ومع كل هذه المعوقات تحقق الكثير، وازداد الشعب التفافا حول حكومته التي كانت تطور نفسها مع مطالب الجماهير، وكانت الأجنحة التقدمية فيها تكتسب مزيدا من الشعبية على حساب الأجنحة الأكثر محافظة، ولم يكن أمام الملك، إزاء هذا التأييد الشعبي الجارف لحكومته، إلا أن يلجأ إلى التآمر من أجل إزاحة الحكم الوطني؛ فكان حريق القاهرة، أو الثورة المضادة التي أثبتت، بعد وقت قصير، فشلها الكامل، وكشفت النظام الملكي في عجزه وتقلبه ووصوله إلى طريق مسدود.
لماذا، إذن، نتحدث عن هذه الفترة؟ وما علاقتها بموضوعنا الأصلي؟ السبب الأول هو أن هذه الفترة مجهولة لدى أبناء الجيل الأوسط والأصغر في عالمنا العربي بوجه عام، وفي مصر بوجه خاص،
Bilinmeyen sayfa
1
والكثير منهم لا يعرف عن هذا العهد إلا مجموعة من القوالب اللفظية التي تكرر ترديدها على أسماعهم إلى حد أنهم أصبحوا يأخذونها كما لو كانت من المسلمات المؤكدة، كالحديث عن «الفساد» في عهد ما قبل الثورة، وعن فشل «التجربة الحزبية» وعن «تخبط الأحزاب وسعيها» إلى «مصالحها الضيقة» وعن «الأزمة التي انتهت إليها الديمقراطية الحزبية قبل الثورة»، إلى آخر هذه العبارات التي يعرفها الجميع، والتي تخفي في واقع الأمر أهم معالم تلك التجربة الخصبة إلى أبعد حد.
أما السبب الثاني فهو تلك المواقف غير المنصفة التي وقفها هيكل من تلك التجربة.
كان هيكل، منذ بداية نضجه الصحفي، منتسبا إلى مدرسة «أخبار اليوم» في الصحافة، وهي مدرسة لها سمات خاصة، أهمها الولاء للقصر الملكي، وتأييد أحزاب الأقلية، والدعاية لكل قوة معادية لحزب الأغلبية الشعبية، أعني الوفد، وكان قطب هذه المدرسة ومعلمها الأكبر هو «محمد التابعي» وهو صحفي مخضرم كان يؤمن بأهمية الإثارة الصحفية، عن طريق الفضائح والجنس، في اجتذاب مزيد من القراء لأية جريدة. ومن الإنصاف لهيكل أن نقول إن مجرد انتمائه خلال فترة هامة من حياته الصحفية، إلى دار «أخبار اليوم» لا يعني بالضرورة أنه كان يتبنى جميع الأسس التي قامت عليها هذه الدار، ولكن من الإنصاف للتاريخ أن نقول إنه لم يبد أي نوع من التمرد الواضح عليها.
كانت هذه الدار التي أنشئت أساسا لتلطيخ سمعة الوفد (وقد أثبتت انتخابات آخر سنة 1949م أنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا) هي التي مجدت مجموعة الشباب التي كانت ينتمي إليها أنور السادات، وعلى رأسها المغامر المشبوه حسين توفيق، وهكذا كانت تروي عنهم حكايات أسطورية، وكان الغطاء الوطني لعملياتهم هو العداء لقوات الاحتلال البريطاني، ولكن الهدف الحقيقي منها هو تخليص القصر من أعدائه، عن طريق التصفية الجسدية، كما تشهد محاولات السادات المتكررة لاغتيال رمز الوطنية المصرية في ذلك الحين؛ مصطفى النحاس.
ولقد تضمن «خريف الغضب» تعبيرات كثيرة تحمل في طياتها اعترافا بالدور الوطني الذي قام به الوفد، وبالفارق الشاسع، في هذه الناحية، بين الوفد وأحزاب الأقلية الأخرى، فهو مثلا يتحدث عن «حزب الوفد المصري الذي يقوده مصطفى النحاس والذي كان يمثل أغلبية الوطنيين في مصر»، ويصدر حكما مثل: «أما الوفد - وبرغم كل محاولات تزوير الانتخابات - فقد ظل حزب الأغلبية ، يتمتع بتأييد شعبي لا ينازعه فيه أي حزب سياسي آخر.» كما يشير إلى المعارك الدستورية المجيدة التي خاضها الوفد ضد القصر، ويؤكد أن «كفاح» السادات ضد الوفد ومحاولاته اغتيال مصطفى النحاس واشتراكه في مقتل أمين عثمان، كل ذلك كان لصالح السراي، وقد تحقق عن طريق علاقة السادات بالحرس الحديدي، الذي يبدو أنه كان يقوم بدور «عمالة مزدوجة»، لصالح القصر في الواقع، ولصالح الوطنية المتطرفة في الظاهر، وكان مثل كثير من القوى الشديدة التطرف، عاملا لحساب قوى شديدة الرجعية، بل إن هيكل يتحدث عن «صحافة القصر» (ويقصد أخبار اليوم، حيث كان يعمل) التي راحت تصور هؤلاء الشباب على أنهم أبطال شعبيون ... وكل هذه كلمات صحيحة كل الصحة، ومنصفة لتاريخ مصر في تلك الفترة.
ولكن المفارقة تظهر حين يعود هيكل فيصدر أحكاما مناقضة، يبرر بها استيلاء الجيش على السلطة في 1952م، فيقول: «في ذلك المناخ (الأربعينيات) بدت السياسات المصرية التقليدية القائمة على المناورة والتوازن بين الإنجليز والقصر والوفد؛ بدت شيئا فات أوانه؛ لأنه يفقد صلته بالحقائق الجديدة يوما بعد يوم، كان لا بد من تغيير، ولم تكن هناك فائدة ترجى من انتظار التغيير بواسطة حزب سياسي قديم أو جديد، فلقد كان التركيب الطبقي في مصر لا يزال في حالة سيولة، الأمر الذي يمنع ظهور قاعدة اجتماعية صلبة، يقوم عليها تنظيم سياسي حقيقي ويزدهر، وهكذا فإنه حين جاء التغيير، كان مصدره هو القوة الوحيدة التي تمثل إرادة الاستمرار من ناحية، وتملك قدرة العمل من ناحية أخرى؛ الجيش.»
هنا يعود هيكل القديم، هيكل الخمسينيات، إلى الكلام، على الرغم من أنه كان يكتب في الثمانينيات، فمن قال إن السياسة المصرية قبل الثورة قامت على المناورة والتوازن بين الإنجليز والقصر والوفد؟ لقد كانت تقوم، كما تدل عبارات هيكل نفسه التي اقتبسناها من قبل، على صراع واضح المعالم بين الشعب، ممثلا في الوفد من جهة، والقصر والإنجليز وأحزاب الأقلية من جهة أخرى، كان صراعا حول قضايا متبلورة تماما: القضية الوطنية، الديمقراطية، حكم الدستور، توفير المطالب الشعبية، وعلى العكس من ذلك يمكن القول إن أول ما حرصت عليه ثورة 23 يوليو كان إسكات الصراع، الذي يرمز له إعدام اثنين من العمال (خميس والبقري) بالتهمة التقليدية (الشيوعية) في الأيام الأولى للثورة، ثم ظهور مختلف التنظيمات القائمة على فكرة التوازن، لا الصراع، وأولها هيئة التحرير.
وهكذا يتحدث هيكل حينا بطريقة تدل على أنه أدرك حقيقة القوى المتفاعلة في تلك الفترة المظلومة من تاريخ مصر، ولكنه سرعان ما يعود إلى موقفه التقليدي، ذلك الموقف الذي وقفته ثورة يوليو منذ البداية، وأعني به وضع الأحزاب جميعا في سلة واحدة وكأنها كلها خانت وفشلت وتنكرت للحركة الوطنية، ثم الترويج لتلك الأسطورة التي لم يكن لها أي أساس من الواقع أو التاريخ، وأعني بها أنه «لم تكن هناك فائدة ترجى من أن يأتي التغيير من حزب سياسي»، تلك الأسطورة التي تريد أن تسدل ستارا من النسيان على تجربة ديمقراطية عظيمة، كانت تبشر بتطورات وتصحيحات هائلة لمسارها، لو كتب لها البقاء بعد إزاحة العقبات التي كانت تعرقل مسيرتها حينا وتبطئ حركتها حينا آخر.
من أجل هذا يقدم هيكل تبريرات لمجموعة الإجراءات التي أدت إلى القضاء على التجربة الحزبية في مصر، وهي إجراءات تكررت، مع اختلاف في التفاصيل، في كثير من الأقطار العربية الأخرى حين قامت فيها حركات عسكرية مماثلة، وهكذا يذهب هيكل إلى أن الشرعية التقليدية في بلاد العالم الثالث لها أساس قبلي أو ديني، وحين تحاول أن تنتقل في العالم الثالث إلى شرعية ذات أساس دستوري وقانوني، تستند في عملية الانتقال هذه إلى ضرورات الاستمرار، وتمثلها «البيروقراطية» بما فيها القوات المسلحة، وكذلك إلى شخصية الزعيم.
Bilinmeyen sayfa