ولما كان نابليون في مدرسة برين كان إخوانه في المدرسة يقللون من شأنه، فدعاه ذلك إلى أن دعا أحدهم للمبارزة معه، فلما علم ناظر المدرسة بذلك حبس نابليون في سجن المدرسة عقابا له، فكتب نابليون إلى الناظر خطابا لم يسعه بعده إلا أن أطلق سراحه. وهذا تعريب الخطاب: «سيدي، لن أعمد إلى تهدئة ما في نفسي من سورة الغضب مهما كان في ذلك من الخطورة؛ لأني أعتقد من صميم قلبي أن داعيه شريف مقدس. إني لا أطيق أن أرى أبي المحترم يهان أمام عيني، ولو اعترضت المصلحة وقامت القوائم. وإني لأحس أن في الشكوى إلى الرؤساء من مثل ما رأيت ضعة وذلة، وأن الولد الجدير بالبنوة جدير أن يثأر لنفسه إذا أصابه مثل ذلك.» «ما أكثر ذكرات الصبا عندي كلما خلا فؤادي من التفكر في الأمور السياسية أو فيما يصيبني من يد ساجني (السير هدسون لو ) على هذه الصخرة. هنالك أفكر في حياة الإنسان، وهنالك تتمثل لي فكرتي الأولى في أنني كنت أعيش أسعد الناس إذا كان لي دخل قدره خمسمائة جنيه في العام أعيش بها عيشة والد بين زوجته وبنيه في منزلنا القديم في أجاكسيو.
إنك يا منتلون تعرف هذا المنزل وتذكر حسن موقعه، لقد طالما أفقدت بستانه الجميل أبهى ما كان فيه من عناقيد الكرم أيام تجري أنت ورفيقتك بولين في نواحيه تقطفان منه ما شاءت طفولتكما. ما أسعد هذه الأوقات! إن للوطن لسحرا خالدا تنمقه الذكرى بأزهى ما يستميل القلوب حتى إلى طيب ثراها، ذلك الثرى الذي نال من كل حاسة نصيبا حتى ليكاد الإنسان وعينه مقفلة أن يعرف أين دبت قدمه من ذلك المكان في زمان الطفولة.
نابليون يقدم سيفه إلى صاحبه ويوصيه أن يسلمه إلى ولده.
إني إلى اليوم أذكر وأنا جم العاطفة كيف مشيت بجوار باولي ذلك الأمير العظيم حينما ساح في جزيرتنا، هنالك كنا خمسمائة من أبناء أرقى أهل الجزيرة في معيته، ولقد كنت أشعر بصلف إذ مشيت بجواره وكان يريني، كما يري الوالد ولده، تلك المآزق التي جاهد فيها مواطنونا الكرماء في سبيل استقلال البلاد. أما والله إن أثرها ليزال يرن في صدري.»
وكتب إلى الأستاذ رينال، من خطاب في سنة 1786: «أراني من الكتاب وإن لم أعد الثامنة عشرة من العمر تلك السن التي يجب على المرء فيها أن يتعلم. أفترى جرأتي هذه مستوجبة هزؤك؟ إذا كان العفو دليلا على سمو الحجى فقد وجب أن يكون عفوك عظيما. إني باعث لك بالفصلين الأول والثاني من كتاب أردت إيداعه تاريخ كورسيكا، ومرسل إليك معهما محصل الباقي، فإن راقك ما أفعل استمررت، وإن نصحت لي بالوقوف انقطعت.»
وكتب إلى والدته في خطاب تاريخه 1789: «ليس لي منزع إلا العمل؛ لذلك فأنا لا أرتدي ثيابي إلا مرة في كل ثمانية أيام، وترينني لا أنام منذ مرضت إلا قليلا؛ أذهب إلى مخدعي في العاشرة من الليل وأفيق في الرابعة من الصباح. أما طعامي فأتناوله مرة في اليوم، وذلك في الساعة الثالثة، وقد وجدت ذلك مفيدا لصحتي.»
وكتب إلى أخيه يوسف في 3 يولية سنة 1792: «كل يعمل لنفسه ويود أن يرقى في الناس بالمين والوشاية، ولقد رأيت الناس في هذه الأيام أمشى بالدسائس وأسعى فيها منهم فيما مضى. فليت شعري، أفلا يقضي هذا على الأماني والأمال! إني لاشفق على أولئك الذين يقتادهم سوء الحظ إلى أن يمثلوا في الوجود دورا ما كان أغناهم عن تمثيله. لئن عاش المرء في هدوء تحفه محبة أهل بيته له - إذا كان له أيها الأخ أربعة آلاف من الفرنكات - لقد كان له من أمره رشد. كما أنه يقتضي للمرء أن يكون بين الخامسة والعشرين والأربعين من العمر لتقصر تخيلاته فلا تعود تشقي فؤاده. إنى أعانقك وأوصيك بالاعتدال إذا أردت أن تعيش هانئا.»
وقال نابليون في خطاب إلى أخيه يوسف: «أراني في كل وقت من أوقاتي كما يكون الرجال ليلة موقعة عظيمة؛ وذلك لأني معتقد من صميم فؤادي أنه إذا طاح الموت بين الجموع يفصل بين الأمور ويقضي كان من الجنون أن يضطرب له القلب أو يهتم به الوجدان. خلقت ثبتا أقابل المقدور بشجاعة، وسأظل كذلك إلا إذا بدل مني.» «دعاني شبابي أيام رأست جيش فرنسا في إيطاليا أن أكون على جانب عظيم من التحفظ فيما يبدو من أخلاقي، وأن أرعى شرائط الآداب جد المراعاة. ولولا ذلك ما استطعت أن أبسط سلطتي على رجال أكبر مني سنا وأكثر تجربة. أجل، فقد اختططت لنفسي سيرة لو محصها متعمد ما وجد في غضونها غبرة. لقد كنت في الخلق الرفيع مثالا كما كان «كاتو» بين الرومانيين، ولا شك أن الناس كانوا يرون ذلك مني، كما أني كنت فوق ذلك كالفلاسفة والصالحين. كيف لا وأنا لا أستطيع أن أحتفظ برفعتي إلا إذا ظهرت في الجيش خيرا من أي رجل فيه. لو أنني ملت مع النفس في ضعفها لأضعت سلطتي وفقدت سطوتي.»
وقال في خطاب إلى أخيه يوسف : «أريد الوحدة والعزلة، فقد أنضاني المجد وأتعبني؛ غاض معين الشعور وأصبح النصر لا طعم له. يالله! ما لي ولم أعد التاسعة والعشرين قد بلغت النهاية ...!»
وقال في خطاب إلى جوزفين: «أقطع في اليوم عشرين أو خمسا وعشرين مرحلة بين ركوب عربة وامتطاء جواد. أنام في الساعة الثامنة وأستيقظ للعمل في منتصف الليل.» «أنا دائم الشغل كثير التفكير، فإذا رأى الناس أنني مستعد على الدوام لتدبير ما تخلقه الظروف من عاجلات الأمور ولحل عارضات المسائل، فذلك لأني قبل أن أشرع في أي عمل من الأعمال أكون قد فكرت فيه وتدبرته وتبينت ما قد ينشأ عنه. فلا تحسبن أنه الذكاء يملي علي ما أقول وأفعل إذا حدث أمر لم يكن في الحسبان! كلا، بل هو التفكير والتدبير. إني دائم الاشتغال، أشتغل على المائدة وفي قاعة التمثيل وغيرها، وأفيق في الليل لكي أعمل عملا.»
Bilinmeyen sayfa