ونحن في الطابور - ذلك القطاع الحي من قطاعات الحياة - قد نجد أنفسنا رغم كل الجهود في المؤخرة، أو على الأقل خلف أناس لا يملكون مثل رصيدنا من القيم والإمكانيات، سبقونا لأن لهم وسائلهم الخاصة في الوصول قبل غيرهم. إن الوصوليين في كل طابور تبطئ فيه الحركة أو تتجمد، حريصون دائما على أن يحتلوا مكانهم في مقدمة الصفوف.
وفي الحياة أكثر من طابور، ولكل طابور وضعه ونظامه وخط سيره الحياتي، الذي لجأ إليه عن إرادة أو غير إرادة؛ وحين تلتقي هذه الطوابير كما التقت في أول عمل فني من أعمال هذه المجموعة، يبدو كل طابور وهو غريب في منطق الطابور الآخر، وتتحول هذه الغرابة إلى حركة تعبير خاصة، تجسم وجهات النظر المتبادلة بين الطوابير: طابور صامت وكأنه يتخذ من الصمت شعار احتجاج صارخ على وضعه ومصيره، وهو طابور الأولاد المشردين. وطابور يعبر بوجهة نظر أخرى عنصرها اللامبالاة، ووسيلتها للأداء إخراج اللسان وهز الأرداف، وهو طابور البنات الساقطات. وطابور يواجه لغة التشرد ولغة السقوط، بما يناسب اختلاف المستويات العقلية لجموع الواقفين فيه، وهو طابور الراغبين في إثبات وجودهم بطريقة رسمية!
وكل شيء في الحياة إنما يستمد قيمته من مقدار حاجتنا إليه: بقدر ما نحتاج يصبح الشيء في تقديرنا وهو شيء، وبقدر ما نستغني يصبح الشيء في تقديرنا وهو لا شيء؛ إن قيم الأشياء نسبية بحتة، يحدث هذا عندما لا نحس شيئا من الفراغ والوحدة في طابور الحياة؛ في مثل هذه اللحظة يبدو لنا الإنسان العادي، وهو كم مهمل لا حاجة بنا إليه، أما عندما نمارس تجربة الوحدة والفراغ ومرارة السأم، فإننا نتلهف على أن يؤنس وحدتنا ويقضي على سآمتنا أي مخلوق ولو كان أبله؛ «الشيخ الذي أمامي لا يزال يقرأ، لا يزال يتمتم بصلوات وأدعية، يبدو أنه ليس لديه أي استعداد لأن يتحدث مع أحد، كأنما جاء إلى هنا ليتفرغ للعبادة؛ آه أين أنت يا صديقي الأبله؟ إن الإنسان لا يدرك أحيانا قيمة أن يتحدث إليه أي شخص، أي حديث ولو كان هذيانا، لا شك أن الحيوانات كائنات تعسة للغاية؛ لأنها لا تستطيع أن تثرثر.»
أما الواقعية بالنسبة للشخصيات فهي واقعية نمط؛ الرجل الذي يشتغل في كل مهنة ولا يستقر في مكان، ويتزوج خمس مرات وله أولاد لا تربطهم به صلة، مثل هذا الرجل الأبله نمط؛ والعامل الذي يشكو من الضغط المادي لحياة المدينة الكبيرة، والذي كان الأبله ينصحه بأن يشتغل «مرسال صنف» ليحيا حياة مريحة، مثل هذا العامل نمط؛ والموظف الصغير المثقل بأعباء العمل، والذي يحيله الإرهاق المتواصل إلى آلة، تتعامل مع الناس على أنهم مجرد أسماء وعناوين وأعمار ومهن، مثل هذا الموظف نمط؛ والشيخ الذي يذكر الله بطريقة ميكانيكية تشغله عن كل ما حوله، حتى ليخيل إليك أنها تشغله عن الله نفسه، مثل هذا الشيخ نمط؛ وكل دمية بشرية كانت تقف في طابور البنات أو طابور الأولاد، وينبئ مظهرها الخارجي عن حقيقتها الداخلية، مثل هذه الدمية نمط ... وكل نمط من هذه الأنماط البشرية يمثل مجموعة متشابهة من الأحياء.
وحين نترك «في الطابور» لنلتقي بالعمل الفني الذي يليه وهو «حارس المقبرة»، نجد أن هذا العمل الفني قد اكتملت له كل الأركان اللازمة للقصة القصيرة: نجد فيه ذلك القطاع الطولي الذي أشرنا إليه من قبل، ونحن نفرق بين القصة والصورة، وقلنا عنه إنه تتلاقى على امتداده تلك الخيوط الصانعة لنسيج موضوعي واحد، ونجد فيه الشخصية التي تنمو من خلال الحدث على مدار التجربة، حتى تصل مع النمو النفسي المطرد إلى عملية تطوير موقفية معينة. إن المشكلة التي يقدمها إلينا الكاتب كنقطة ارتكاز للحدث، تتحول بعد ذلك إلى نقطة انطلاق للموقف المتطور، هي مشكلة كل إنسان فقير ومحروم، حين يضطر أمام قهر الظروف وتحت ضغط الحرمان والحاجة، إلى أن يسلك سلوكا قد يبدو في رؤية الناس وهو غير مشروع. عبد العال هو الشخصية التي ترمز إلى المشكلة، وتشير إلى جذورها الطويلة الضاربة في تربة الوضع الاجتماعي لأمثاله من أبناء القرية المصرية، الإنسان الضائع الذي يعيش الحياة يوما بيوم، بلا أمل في الحاضر ولا ضمان، لجأ إلى الموتى بعد أن فقد الضمان والأمل في صحبة الأحياء؛ لجأ إلى الموتى ليأخذ منهم، لجأ إلى الناس الطيبين الذين كانوا يرعونه ويرعون أمثاله، يوم أن كانوا على قيد الحياة؛ لقد خلت الحياة بعدهم من الرحمة والخير، وحين أتاحت له الظروف أن ينزل ضيفا عليهم، قرر بعد تفكير مرهق ومعذب، أن يمد إليهم يده!
محمد أبو المعاطي أبو النجا يقودنا إلى هذه المسالك النفسية، وهو يرسم لنا شخصية عبد العال من الداخل، وهو في أثناء الرسم، كثيرا ما يستخدم اللقطات الجانبية التي توضح بعض الأوضاع الخاصة للشخصية المرسومة: عبد العال وهو يقرر أن يسرق أكفان الشيخ عوض، ليشتري بها كسوة لأولاده، لا يقرر ذلك لأنه لص؛ بل لأنه فقير ومحتاج! والملاحظة الذكية التي تواجهنا من وراء المفارقة، أن عبد العال قد كلف بأن يكون حارسا للمقبرة، يحمي أكفانها من سطو اللصوص! إنها المفارقة التي تجسم المشكلة من خلال ذلك الصدام غير المتوقع، بين منطق الحياة ومنطق الأحياء؛ المنطق الأخير يفرض عليه أن يقف موقف الحارس، والمنطق الأول يرغمه على أن يقف موقف اللص، ومن هنا يحدث الصدام المضحك أو المبكي بين موقفين!
وعبد العال بعد ذلك - وتلك هي المفارقة الثانية - ما زال محتفظا بقيمه كرجل عاش طول عمره، وهو عف النفس رغم أنه فقير؛ ولهذا لم يحاول أن يجرد الجثة من «كل» أكفانها كما يفعل اللصوص، ولكنه يكتفي بأخذ كفنين اثنين من أكفان الشيخ عوض الثلاثة، إنه منطق الشرف حين ترغمه الحاجة، وهو في رأيه منطق عادل؛ إن بعض الأحياء من أمثاله لا يجدون إلا ثوبا واحدا، في الوقت الذي يتدثر فيه الموتى بثلاثة أثواب! لو كان الحاج أحمد الذي يرقد في قبر مجاور - والذي كان يمثل خلاصة الناس الطيبين - على قيد الحياة، لوقف وقال بأعلى صوته: «يا بلد لازم نكفن الميت في كفن واحد، وبقية قماش الكفن نفرقه على الناس الغلابة!»
وعبد العال وهو يرتجف تحت برد الليل وقسوة المطر، تتلون أفكاره بألوان اللحظة النفسية التي تمر به وتعكس ألوانها في حلم اليقظة: «كان يتصور أن شريطا عريضا من قماش الأكفان، ينبعث من هذه المقابر يشده رجلان، وأن هذا الشريط يمكن أن يغطي القرية كلها، ويصنع فوقها خيمة كبيرة لا يخترقها المطر!»
والكاتب يبرز لنا - من أعماق إحدى الزوايا في عمله الفني - جانبا من الجو العقائدي الذي يعيش فيه كل الفقراء والمحرومين؛ إنهم يحلمون بالعالم الآخر، بالجنة، بتلك المائدة الحافلة التي يمكن أن تعوضهم عن كل ما وجدوا في عالمهم من حرمان. فتحية بنت عبد العال - وهي تتحدث إلى أبيها بجوار القبر - تمثل هذه الأحلام العقائدية التي يلقنها الكبار للصغار، والتي تمثل بدورها واحدا من الشعارات النفسية لطبقة معينة من طبقات المجتمع.
إلى هنا ومحمد أبو المعاطي أبو النجا يجسم المشكلة من خلال الملاحظة الذكية وهي في قالب المفارقة، ولكن المشكلة حين تتحول إلى مأساة، تبلغ ذروة التجسيم من داخل عملية السرد نفسها في الموقف الأخير من مواقف القصة؛ موقف عبد العال وهو مهدر الآدمية تحت أقدام القطيع البشري في حواري القرية.
Bilinmeyen sayfa