وقد رتب السالكون عليها كتبهم على حروف المعجم معتبرين فيها أوائل الكلم؛ فيذكرون في الباب الأول وهو باب الألف - ويراد بها هنا الهمزة - كل كلمة في أولها ألف، مثل: «أب» و«ألو» و«أبي»، وفي الباب الثاني وهو باب الباء كل كلمة في أولها باء، مثل: «بر» و«بري»، ولا يزالون على هذا النهج إلى أن يصلوا إلى النهاية وهي باب الياء، وقد جعلوا كأصحاب الطريقة الجوهرية في كل باب فصولا ناظرين فيها إلى ثواني الكلم؛ فيذكرون الفصل الأول ما يكون ثانيه همزة، وفي الثاني ما يكون ثانيه باء، وفي الفصل الثالث ما يكون ثانيه تاء، ولا يزالون على ذلك إلى أن يصلوا إلى النهاية؛ فالحرف الأول عند هؤلاء كالحرف الأخير عند الجوهري، والحرف الثاني عندهم كالحرف الأول عنده؛ فمثل «أبي» تذكر عندهم في أول الكتاب في فصل الباء من كتاب الألف، وتذكر عند الجوهري في آخر الكتاب في فصل الألف من كتاب الياء، ويقدمون بعض كلمات الفصل على بعض بالنظر إلى ما بعد الحرف الثاني؛ فيذكرون «برج» مثلا قبل «برح»، و«برنج» قبل «برزخ»، و«عندل» قبل «عندم»، و«سنبك» قبل «سندس »، وعلى هذه الطريقة جرى ابن فارس في «المجمل»، والهروي في «الغريبين»، والراغب الأصفهاني في «المفردات»، والزمخشري في «أساس البلاغة»، وابن الأثير في «النهاية».
قال صاحب «المجمل» في أوله مبينا لسبب أمن قارئه المتدبر له من التصحيف: «وذلك أني خرجته على حروف المعجم، وجعلت كل كلمة أولها همزة في كتاب الهمز، وكل كلمة أولها باء في كتاب الباء، حتى أتيت على الحروف كلها، فإذا احتجت إلى كلمة نظرت إلى أول حروفها فالتمستها في الكتاب الموسوم بذلك الحرف؛ فإنك تجدها مصورة في الحاشية ومفسرة من بعد.» وقد تسمى الألف ههنا همزة.
وقال صاحب «الغريبين» في كتابه وهو موضوع على نسق الحروف المعجمة: «نبدأ بالهمزة فنفيض بها على سائر الحروف حرفا حرفا، ونعمل لكل حرف بابا، ونفتتح كل باب بالحرف الذي يكون أوله الهمزة ثم الباء ثم التاء إلى آخر الحروف، إلا أن لا نجده فنتعداه إلى ما نجده على الترتيب فيه، ثم نأخذ في كتاب الباء على هذا العمل إلى أن ننتهي بالحروف كلها إلى آخرها؛ ليصير المفتش عن الحرف إلى إصابته من الكتاب بأهون سعي وأخف طلب، وقد جعل بعض المؤلفين بدل قولهم: باب كذا، قوله: كتاب كذا، وبدل قولهم: فصل كذا، قوله: باب كذا، وربما ترك بعضهم ذكر لفظ الفصل في العنوان، واكتفى بقوله: الألف مع الباء مثلا، والخطب في ذلك سهل.»
هذا، ويجب على من أراد البحث عن كلمة في كتب اللغة أن يجردها أولا من الزوائد إن كان فيها زائد، ويعيدها إلى أصلها الأول إن عراها تغيير، ثم يبحث عن الموضع الذي هو مظنة أن توجد فيه؛ فيراجع: «أقبل» «تقبل» و«استقبل» في: «قبل»، و«إثمد» في: «ثمد»، و«منسأة» في: «نسأ»، و«مبراة» في: «بري»، و«وهبة» في: «وهب»، و«سعة» في: «وسع»، و«هدى» في: «هدى»، و«أب» في: «أبو»، و«ابن» في: «بنو»، و«يد» في: «يدي».
ومعرفة الحرف الزائد والأصل الأول وإن توقف على معرفة علم الصرف، إلا أن أناسا عرفوا ذلك بالممارسة، وقد مرن بعض المعلمين في مدارس المبتدئين تلاميذهم على ذلك فصاروا في أقل مدة يراجعون ما يورد عليهم من الكلمات في كتب اللغة بدون تلكؤ، وجرى لهم نحو ذلك في رسم الخط؛ فتراهم يرسمون مثلا: علا بالألف، وأعلى بالياء، ومن عرف سر التعليم لم يستبعد أعظم من ذلك أن هنا شيئا، وهو أن بعض الكلمات قد اختلف فيها رأي اللغويين، مثل: «هبلع» وهو الأكول؛ فإن بعضهم يحكم بأن الهاء زائدة فيذكر في مادة «بلع»، وبعضهم يحكم بأنها أصلية، ومثل: «إبان» فإن صاحب «الصحاح» ذكره في «أبن» بناء على أن النون فيه أصلية؛ فيكون وزنه فعالا، وصاحب «أساس البلاغة» ذكره في «أب» بناء على أن النون فيه زائدة، كنون وجدان ونحوها؛ فيكون وزنه فعلانا.
وقد جرت عادة اللغويين أن يذكروه في الموضع الذي يترجح عندهم أنه موضعه، وبعضهم يذكره في أحد الموضعين، ويذكر في الموضع الآخر أنه قد مضى ذكره في كذا أو سيأتي فيه، وقد جرت عادة كثير من اللغويين الذين يحبون التيسير على الناس أن يذكروه في الموضع الذي يظن في بادئ الرأي أنه يذكر فيه وإن كان ليس موضعه على مذهبه، وقد جرى على ذلك الزمخشري في «أساس البلاغة»؛ فإنه قال فيه:
وقد رتب هذا الكتاب على أشهر ترتيب متداولا، وأسهله متناولا، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه.
وجرى على مثل ذلك المطرزي في «المغرب» فقال فيه: «وربما فسرت الشيء مع لفقه موضع ليس بوفقه؛ لئلا ينقطع الكلام، ويتضلع النظام. ثم إذا انتهيت إلى موضعه الذي يقتضيه، أثبته غير مفسر فيه؛ كل ذلك تقريبا للبعيد وتسهيلا على المستفيد.»
وممن جرى على ذلك مجد الدين المبارك ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث والأثر»؛ فإنه قال بعد أن ذكر كتاب «الغريبين» للهروي، وكتاب أبي موسى الأصفهاني في استدراك ما فات الهروي: «وسلكت طريق الكتابين في الترتيب الذي اشتملا عليه، والوضع الذي حوياه من التقفية على حروف المعجم بالتزام الحرف الأول والثاني من كل كلمة وإتباعهما بالحرف الثالث منها على سياق الحروف، إلا أني وجدت في الحديث كلمات كثيرة في أوائلها حروف زائدة قد بنيت الكلمة عليها حتى صارت كأنها من نفسها، وكان يلتبس موضعها الأصلي على طالبها، لا سيما وأكثر طلبة غريب الحديث لا يكادون يفرقون بين الأصلي والزائد؛ فرأيت أن أثبتها في باب الحرف الذي هو في أولها وإن لم يكن أصليا، ونبهت عند ذكره على زيادته؛ لئلا يراها أحد في غير بابها فيظن أني وضعتها فيه للجهل بها؛ فلا أنسب إلى ذلك ولا أكون قد عرضت الواقف عليها للغيبة وسوء الظن، ومع هذا فإن المصيب في القول والفعل قليل بل عديم، ومن الذي يأمن الغلط والسهو والزلل! نسأل الله العصمة والتوفيق.»
وقد أكثر صاحب «القاموس» من تعقب الجوهري في مواضع الكلم، وذلك كقوله: في «زرج»: «و«الزرجون»، كقربوس شجر العنب أو قضبانها والخمر وماء المطر الصافي المستنقع في الصخرة، وذكره الجوهري في النون ووهم.» وكقوله لدى لغة في «لدن» و«اللدة»، كعدة الترب جمع «لدات» ... هنا يذكر لا في «ولد»، وقد اشتد إنكار العلماء على صاحب «القاموس» في ذلك؛ لما عرفت أن عادة كثير من اللغويين أن يذكروا الكلمة في الموضع الذي يظن أن الطالب يطلبها فيه، وأنهم قد يذكرون الكلمة مع لفقها في موضع ليس بوفقها تسهيلا عليه؛ مع أن أكثر ما انتقده عليه هو مذكور في موضعه على أصول أئمة الصرف الذين كان الجوهري يعد منهم، غير أنهم أفرطوا في ذلك حتى كادوا أن لا يقيموا لاعتراض من اعتراضاته وزنا، مع أن من كثر خطؤه يمكن أن يخطئ الخطأ ولو مرة، ولم يفده كونه من الجماعة وكون الجوهري من أهل الاعتزال؛ لما أن أهل الأدب لا تؤثر فيهم غالبا هذه العصبية، وعلى كل فليس لنا إلا أن نشكر مسعى كل من خدم هذه اللغة على أي وجه كان، أجزل الله ثوابهم وجعل إلى دار السعادة مآبهم.
Bilinmeyen sayfa