وقبلها قائلا لها «الحق» كل الحق في فمها.
وتقبلته فوزية ساهمة.
فسكت ثم ابتسم وقال: بقى مش أنا اللي ليه الحق أني أسأل؟ - تسأل إيه؟ - لحسن يكون الحب راخر صفى عندك على حاجة؟ - يوه يا حمزة، كفاية تعذيب، كفاية بقى.
ودلفت من الكلمات إلى الدموع ثم إلى البكاء، وانكفأت على ذراع الكرسي والدموع تنهمر وتبلل الذراع، ومدت يدها تطلب منديلا ولم يك لديه واحد نظيف.
فأسرع إلى الحمام وأحضر «فوطة وش» قائلا: لا مؤاخذة، إذا ما كانتش كفاية لما تتبل كلها أجيب غيرها.
وازدادت نهنهاتها وشهقاتها، فجلس حمزة على كرسي وأسند رأسه إلى الحائط، وقال: معلش، قليل من البكاء يصلح المهج، الدموع وسيلة فسيولوجية لغسل العيون، فإذا ازدادت غسلت القلوب أيضا.
ولكن فوزية انخرطت في بكاء مؤلم لا يصلح في تلافيه الهذر، وما أدرك حمزة هذا حتى ترك مكانه ولف ذراعه حولها ورفع وجهها إليه، وانبثقت في صدره لوعة عذاب حادة حين رأى عينيها الباكيتين ورأى كأن شمس يوم حزين تغرب فيهما، وقد تحول البياض الناصع إلى شفق، وتوهجت العسلية المذهبة بأشعة الغروب كما تتوهج سنابل القمح حين يغيب وراءها القرص الأحمر، والدموع تتساقط حزينة هي الأخرى تبكي وتدمع وتولد في عيون الآخرين الدموع.
ووجد نفسه يهدهد عليها برفق واحتراس وكأنها مصنوعة من دقائق زجاجية لا تحتمل لمسه، وكان يفعل ذلك بدهشة غير قليلة؛ فتلك أول مرة كان يهدهد فيها على إنسان أو حتى قطة، فما باله بفوزية وهي مستكينة إلى التجويف الدافئ الكائن بين جنبه وذراعه، والتي يحسها بعضلات صدره هشة أليفة، ودموعها متلألئة يكاد من كثرتها وتتابعها أن يتذوق طعمها في فمه، وشعرها يجذب أنفه برائحته ورائحتها وهي مطمئنة إليه بكلها، وبالشمس الغاربة في عينيها، وبمكرها ومبالغاتها، وبكل ما تحمله له من حب.
كان البيت من البيوت التي تقع في حواف الدقي، وكانت النافذة تصنع بروازا مربعا للوحة حقيقية تغرب فيها الشمس نفسها عبر البيوت البعيدة والمزارع التي لا تنتهي، وجو الغروب يشحن بمقدمات التغيير العظيم الذي سيطرأ على الكون بعد ذهاب الشمس، وكانت شعاعات صفراء وحمراء قد اخترقت النافذة وبرزت من اللوحة وأضاءت الحجرة، وأحس أنه قد أصبح إنسانا آخر، شاعرا أو موسيقارا، أو فنانا مشحونا بأحاسيس مرهفة ناعمة هفهافة تتصاعد من نفسه وتملأ الجو الذي تضيئه لهثات شمس أخيرة، بأبخرة معطرة وسحابات خفيفة مصنوعة من ذرات إنسانية خالصة، أحس أن قلبه يذوب وكأن عددا لا نهاية له من العواطف الدقيقة الضعيفة الواهنة يتسرب إلى ذاته الحديدية وينهشها ويشبعها نبضا ولينا وألفة ولا يستطيع مقاومتها، ويدفعه العجز إلى حنين جارف للبكاء وكأن لحنا جنائزيا تأتيه أنغامه من بعيد لا تشمئز له نفسه، ولكن يثير فيه أشجانه ويداعب أوتار حزنه المهملة في نفسه، فتروح تعزف هي الأخرى وتنوح، ويتصاعد حزنها ألحانا تحرض على الحزن والعجز، وتغري بأن يفضفض الإنسان عن نفسه بالدموع أو بالكلام.
وآثر حمزة أن يتكلم ، وخرج صوته غليظا قد جرحه البكاء الذي لم يتم، وكانت فوزية قد هدأت واعتدلت ومضت هي الأخرى تتحدث في وجل.
Bilinmeyen sayfa