وانتظر بدير قليلا ثم سأل ولعله كان بسؤاله يقصد إعادة الحديث إلى مجراه ليس إلا: طيب والشنطة؟ - يا أخي ما تفلقنيش بقى، ما قلت لك حجيبهالك.
وحين غادره بدير إلى عمله مضى حمزة ينزف.
كانت جروح المساء قد بدأت تنبح، وما أشد إيلام جروح المساء إذا طلع عليها صباح!
كان بدير قد تركه وحيدا مع إحساسه القاتل بضياعه وتفاهته وخيبته حتى راح يراجع حياته كلها، ولم يخرج منها إلا بحفنة من المواقف المخزية والقذارات، وخيل إليه أنه لم يفعل شيئا في حياته يستحق معه أن يعيش، بدا له ماضيه ساعتها أبشع من ماضي الخائن وأوهى من حجج المتردد، وكم هي قاسية ساعات الألم، إنها بقدر ما ترهف الإحساس تحرفه، وبقدر ما تفيد في تجنب الخطأ تضر بالكائن الذي سيتجنبه أبلغ الضرر، إن السعادة لا بد أن تكون هي الحياة بلا آلام.
وكما راجع حمزة ماضيه أتى على حاضره أيضا، وأية مهانة وجدها وهو يرى نفسه فاشلا مختفيا والأيام تنقضي والمعركة تخمد جذوتها وتهمد نيرانها الراقدة تحت الرماد، وهو جالس يلعب ويحب ويناقش مشاكله الخاصة.
ومن لحظة أن فتح عينه لم يستقر على حال، جلس ووقف وخبط رأسه بيده كثيرا، وراح يلصق جبهته أحيانا بالحائط ويفكر، وهو في وضعه ذاك مستعد أن يطحن الجدار برأسه في أية لحظة، وبدا له يوم الشتاء البارد الذي كان فيه يوما سقيما مريضا تفوح منه النتانة، كغريق استخرج من الماء بعد أيام، بل رأى كل أيام الشتاء وكأنها جيف متراصة ينهشها برد كالح أغبر، شتاء، وخيبة، وعزلة، وبدير، وفوزية، ووجهها الذي طالعه مخيفا حين تنمرت ملامحها، ماذا أحبه فيها؟ وأي شيء فيها يستحب؟ وأية أحلام بغيضة وتصورات مخدرين عاش فيها وهو حبيس جدران بيضاء وأيام سود.
وغلى دمه بأحاسيسه تلك وكأنه يكتشف لحظتها فقط أنه قد هرب من السجن الأميري ليواجه حتفه في ذلك السجن الحقيقي الذي يحيا فيه، ويحيا لماذا؟ ويختبئ ليفعل ماذا؟ كل ما فعله أنه أحب، وكل ما اختبأ من أجله كان هو اللحظات التي يقضيها مع معبودة الفؤاد.
هراء ما فعله وهراء ما يفعله، وهراء تلك الساعات التي تمضي والأيام التي تنقضي والمعركة تموت ولا تنتظر، هراء، لن يخرج الإنجليز ترتيبه وتنظيمه وقيادته المزعومة للمعركة وهو مختبئ في القاهرة، مكانه هناك في التل الكبير أو القرين أو الإسماعيلية أو أية مصيبة، يجب أن يغادر ذلك المكان فورا، يسافر الليلة، ويحارب الليلة أيضا، يجب. وأمه جالسة زمانها على جوال قديم أمام بيتهم في عزبة الدريسة تطرز المناديل وتتطلع إلى ابنها الكبير.
والرصاص الذي كان يتحدث عنه، و6 مارس والأولاد الأبطال وفوزية التي كان ينظر إلى كفاحها على أنه كفاح تلامذة مجتهدين، فوزية هذه تقول: لنا تاريخ، وهو يقول - هو الأستاذ القائد الذي كان عليه أن يتعهدها ويسقي عودها ويقدمها لشعبه مكافحة صلبة - هو يقول فيه موضوع خاص عايز أناقشه: عواطف بتنمو، مش قادر يا شاطر، يا حدق يا روميو، وما محل مش قادر هذه من الكفاح ومن معركة الوطن؟
وتعود الجروح إلى النزيف، وتعود أسنانه تئز وعضلاته تتقبض وشيء داخله يهيب به أن يحطم ويقتل ويثور أو ينتحر.
Bilinmeyen sayfa