ومع امتلائه بالثقة والتحدي فقد رفع القلة في وجل وهو يحملق في انبعاجها وكأنه يتوقع في كل لحظة أن تنفجر، ولم تحدث الكارثة، وأيقن حينئذ أن رمضان وحجارته وبطحته لا بد خرافة، وأفرغ كل ما تحتويه القلة من ماء في جوفه، وكان يتوقف ليتلذذ بطعم الماء ويتساءل: كيف لم يفطن أن للماء طعما من قبل، بل وطعم حلو سحر لم يتذوق مثله أبدا.
ورجع إلى جلسته في الصالة ينتقم من الوقت الطويل الذي أمضاه في لهيب العطش بوقت طويل آخر يمضيه في نعيم الري، ولكن شعورا بالانقباض بدأ ينتابه، كان هينا أول الأمر، ولكنه ما لبث أن ثقل وتعمق، أحس بشيء يهبش صدره ويخيفه ويرهبه، ولم يكن خوفه كخوفه من العفاريت أو الجن أو أبو رجل مسلوخة، وإنما كان يحس بأنه خائف من شيء داخله، وكأنه يخاف من نفسه.
ولم يسكت ذلك الإحساس، بل راح يدب ويتسلل إلى عقله ويملك عليه كل تفكيره، وأيقن أن لا بد أن تحدث كارثة، لا بد أن رمضان سينتقم منه ويجازيه؛ فمن غير المعقول أن ينال متعة الشرب بعد الظمأ هكذا وبدون ثمن، وكان مستعدا أن يتقبل أي عذاب أو أية مصيبة، فقط لو كان يعرف نوعها أو ما هي، أجل، إذا كان رمضان لم يفعل شيئا قبل الشرب فلا بد أنه فاعله بعد، ولكن متى؟ وكيف؟ ذلك هو ما يخيفه، هل يبطحه؟ هل سينتقم منه بأن يجعله يرسب في الامتحان؟ هل تقع فوق رأسه الصخرة المعلقة بين السماء والأرض والتي كثيرا ما حدثته عنها جدته وقالت: إنها صعدت وراء النبي؟ هل يمرض أخوه ويموت؟
وتوقع أن تحل الكارثة في العصر، ولما لم تحل قال: بعد المغرب، ومضى المغرب والعشاء، وقبل أن ينام ضربه أبوه علقة، وقال فتحي: بس، هذا هو عقاب رمضان. ولكنه فطن حين رقد يبكي في فراشه إلى أن أباه ضربه لأنه كسر زجاجة المنبه وليس من أجل إفطاره، وبالتالي لم يكن ما حل به هو العقاب المتوقع.
وانتظر فتحي أن تحل المصيبة في الأيام التالية، ولكنها لم تحل، حتى بعد أن تكرر ظمؤه وتكرر شربه خفية.
لم تحل إلا حينما ضبطته أمه وهو يشرب ذات يوم ، وبعد أن انجابت لحظة مفاجأته وانتهت من تأنيبه وتعنيفه، فرح فتحي في قرارة نفسه؛ لأنهم سوف يقولون: إنه لا يستحق الصيام ويجعلونه يفطر، ويستطيع بعد هذا أن يشرب ويأكل دون عقاب أو وجل، ولكن المصيبة الكبرى أنهم هذه المرة قالوا: إنه باظ، وضربوه علقة، وأرغموه على الصوم بالقوة، وراقبوا التنفيذ بدقة.
واضطر فتحي أن يصوم بعد هذا ويواظب على الصيام، لا خوفا من رمضان وبطحاته، ولكن خوفا من أهله الذين لا يفيد معهم رفع ذراع أو إجراء تجارب؛ إذ هم يعرفون كل شيء إن آجلا أو عاجلا، وهم الذين يتولون بأنفسهم العقاب، ويضربون العلق ويبطحون ولا يرحمون.
قصة حب
1
ليست أول محطة ترام في شبرا البلد بداية خط فقط، ولكنها قبل هذا مركز تفاعل مستمر بين القاهرة وضواحيها، وبين المدينة والمصانع الكثيرة المبعثرة حولها، تجد عليها الفلاحين القادمين إلى مصر، وقد أخذتهم رهبة المدينة مبهورين بطنين الحركة الزائدة والدنيا الجديدة، وتجد العمال الزاهدين في تلك الحركة الحاقدين على المدينة ولا يجدون منها خلاصا.
Bilinmeyen sayfa