ينبغي أن ننفي عن أذهاننا إذن وجود لغة مستقلة للأدب؛ أي لغة موحدة يستطيع المترجم أن ينقل إليها شتى الأعمال الأدبية العالمية، بل أن نؤكد ضرورة هضم المترجم للنص الأدبي أولا للتحقق من نوع اللغة المستخدمة فيه ونوع البلاغة التي يستخدمها الكاتب قبل الشروع في الترجمة. وهذا يؤدي بنا إلى السؤال الثاني، وهو الهدف من الترجمة ووسيلة تحقيقه، أي منهج الترجمة الذي يصل بالمترجم إلى غايته .
أود أن أقرر في البداية أن النص الأدبي المترجم يعتبر عملا أدبيا جديدا، وما أجدرنا أن ننقل إلى مكتبتنا العربية عيون الأدب العالمي، بحيث يمكن الرجوع إليها والاعتماد عليها مثلما يرجع الإنجليز مثلا إلى ترجمات تشيخوف الإنجليزية عن الروسية التي أبدعتها كونستانس جارنيت، وترجمات إبسن الإنجليزية عن النرويجية مثلا (التي أخرجها وليم آرتشر)؛ فهذه الترجمات قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من تراث الإنجليزية، وأذكر أن رواية «ذئب الأحراش» للكاتب الألماني «هيرمان هسه» لم يكتب لها النجاح إلا عندما ترجمت إلى الإنجليزية وانتشرت في أرجاء العالم المتحدث بالإنجليزية، حتى لقد بيع منها في الستينيات خمسة ملايين نسخة، وأثرت على جيل كامل من الشباب الذي كان ما يزال يعاني من آثار ما بعد الحرب ويناقش القضايا الاجتماعية الساخنة التي برزت إلى السطح في تلك الآونة. وأذكر أنني كنت أقرؤها جنبا إلى جنب مع روايات «جورج أورويل» (مؤلف رواية «مزرعة الحيوانات» ورواية «1984» و«لتحيا زهرة الصبار» وغيرها) دون أن أشعر أن «هسه» ألماني و«أورويل» إنجليزي (واسمه الحقيقي إريك بلير، ولغته الأولى الإنجليزية)، كما كنت أقرأ مسرحيات الكاتبة الفرنسية «مارجريت دورا» المترجمة إلى الإنجليزية بعد أن احتلت مكانا راسخا بين المؤلفين المسرحيين الإنجليز دون أن أشعر بأن أصلها فرنسي.
إذا كان الهدف هو إخراج عمل أدبي جديد، فلا بد أن يقرر المترجم (وهو في أحسن حالاته أديب مبدع) ما إذا كان سيرمي إلى إخراج المقابل - الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل - أم إلى إخراج البديل؟ فما هو المقابل وما هو البديل؟ إن المترجمين يلجئون عادة إلى المقابل أولا، فإذا تعثرت جهودهم لجئوا إلى البديل. أما المقابل فهو إيجاد ما يقابل الفن الأسلوبي المحدد في لغة ما من فنون أسلوب اللغة المنقول إليها؛ فلغات الأرض الحية تشترك في بعض الخصائص التي يمكن الموازنة بينها وإقرار توازيها، مثل حيل الصنعة العامة، كالوزن والقافية في الشعر. فالمترجم الذي يطمح في إيجاد المقابل لقصيدة غنائية
Lyric (أي قصيدة قصيرة تتميز بالموسيقى الغلابة ويتحدث فيها الشاعر بضمير المتكلم ويستخدم فيها الصور البسيطة واللغة السلسة أيا كان الموضوع الذي يطرقه)، يحاول أن يقدم لنا صورة عربية للقصيدة تتميز بخصائص النظم والقافية في العربية لا في الإنجليزية. وهذا لا شك عسير، ولكنه ممكن. وربما اضطر المترجم هنا إلى الخروج عن حرفية النص الأصلي لتقديم هذه المقابلات، بل قد يقدم قصيدة تبتعد في بعض تفاصيلها الهامشية عن القصيدة الأصلية للحفاظ على الوزن والقافية إذا كانت هاتان السمتان أهم عناصر القصيدة الأصلية، بحيث إذا أغفلتا ضاعت القصيدة. ولكن أهمية الوزن والقافية تتفاوت من قصيدة إلى أخرى في الشعر الغنائي مع أنهما دائما من سماته الأساسية، وهما يميزان هذا اللون من الشعر عن الشعر القصصي (كشعر الملاحم) أو الشعر المسرحي.
وأقرب الأمثلة إلى ذهني ترجمات زاخر غبريال - وهو شاعر لم ينل حظه من الشهرة ولا نال كتابه «روائع من الشعر الإنجليزي» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979م) ما هو خليق به من تكريم - وها هي الأبيات الأولى من قصيدة
Ode to a Nightingale (أنشودة إلى البلبل) التي أبدعها شاعر الإنجليزية جون كيتس:
My heart aches and a drowsy numbness pains
My sense, as though of hemlock I had drunk
Or emptied some dull opiate to the drains
One minute past, and Lethe-wards had sunk
Bilinmeyen sayfa