ونشرت في كتاب صدر في فبراير 1989م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان
Naguib Mahfouz : Nobel 1988-a collection of critical essays, ed. M. Enani. pp. 97-144 .
ولكنني سأعرض فحسب ما يتصل منها بالترجمة الأدبية، وهي تسمية غير دقيقة، ويقصد بها بطبيعة الحال ترجمة النصوص الأدبية، وأما علاقة اللغة بالإبداع بصفة عامة فأنصح القارئ بالرجوع إلى كتاب شكري عياد «اللغة والإبداع» الذي اطلعت عليه بعد أن طبعت دراستي المذكورة، فلم أتمكن من الإفادة منه، وإن كنت قد أشرت إليه في ذيل الدراسة.
وجوهر «النظرة» التي أقول إنني انتهيت إليها - باختصار - هو أن اللغة العربية لم تكن لغة موحدة على مدى تاريخها الطويل، وأنا لا أعني بذلك اختلاف اللهجات العربية، ولكنني أقصد أن الانفصال بين لغة «الأدب الرسمي» ولغة الحياة اليومية، كان قائما بدرجات متفاوتة منذ أقدم العصور (وليست اللغة العربية فريدة في هذا)، ولكننا لا نستطيع أن ندرك درجات هذا الانفصال وأشكاله؛ لأن هم الرواة والمؤرخين كان الحفاظ على الأدب «الرسمي»، واللغة الرسمية وحدها دون المستوى الآخر؛ فالشعر الذي حفظه لنا الرواة ومن بعده النثر الفني المسجل في الكتب، كانا يمثلان التيار الرئيسي الذي تصب فيه تقاليد الأمة العربية وأعرافها، وهي لا تقتصر على التقاليد اللغوية والأدبية، بل تتخطاها إلى التقاليد الاجتماعية والإنسانية العامة، وكانت جميعا ترصد أبعاد الشخصية العربية وتحافظ عليها. فكان التعليم الرسمي يبدأ بتعلم اللغة، وكانت مباحث اللغة والأدب المختلفة تمثل الفروع الأساسية للعلم الذي يتلقاه المتأدب في صباه، وهكذا كان هم المجتمع بصفة عامة هو الحفاظ على هذا التراث وصيانته من «كلام العامة»، خصوصا بعد التوسع الكبير - جغرافيا وحضاريا - في القرون الأولى للهجرة، والتفكك الكبير أيضا فيما يسمى بعصر الانحطاط.
ولهذا فنحن دائما ما نقرأ في الكتب التي جمع فيها أصحابها تراث السلف إشارات إلى من قال كلاما «أصاب» فيه أو «أخطأ»، أو إلى عجمة هذا الشاعر أو ذاك، وأحيانا تفلت من أيدي الرواة عبارات، بل فقرات كاملة على ألسنة من يروون عنهم يختلف فيها مستوى العربية اختلافا بينا عن مستوى الشعر المسجل في الكتاب، بل عن مستوى النثر الذي يستخدمه الراوي نفسه. ولا داعي للإفاضة في هذا؛ فقد أثبته دارسو الأدب الشعبي العربي (مثل حسين نصار، وعبد الحميد يونس، وغيرهما)، فكل ما أريد أن أوضحه هو أن التيار الرسمي للأدب العربي (واللغة العربية) كان يخفي دائما تيارا آخر لا يقل عنه أهمية، وهو إذا كان ينفصل عنه انفصالا خارجيا (أي إذا كان الرواة والمؤلفون يفصلون بين التيارين في كتبهم)، فهو يتصل به اتصالا داخليا وثيقا؛ لأنه «يغذيه» ويبقي على حيويته. وفي ظني أن دراسة تطور اللغة والأدب لن تكون كاملة، ولن يكون لها المعنى الذي نرجوه إلا إذا ربطنا بين التيارين.
وعلى مر القرون تطورت اللغة المستخدمة في الحياة اليومية، وفشا فيها الكثير مما كان أعجميا أو مما جرى على ألسنة الناس من ألفاظ وتراكيب ومعان وقيم بلاغية وأشكال أسلوبية؛ بل وتغيرت بعض الأصوات العربية (كما أثبت ذلك الدكتور رمضان عبد التواب)، وأقبل الكثير من الكتاب على استخدام اللغة المتطورة التي اكتسبت بالتدريج احترام النقاد (رغم وجود نفر في كل عصر لا يقبلون إلا القديم وينفرون من كل جديد)، حتى جاء يوم ابتعدت فيه اللغة الأدبية القديمة ابتعادا واضحا عن أقلام الأدباء، وأصبحت اللغة المتطورة هي المستخدمة في إبداع الأدباء بصفة عامة.
والواقع أن لغة العامة، أي اللهجة العربية المحلية التي تختلف من بلد إلى بلد، لم تكن يوما بمعزل عن هذا التطور؛ بل إنها كانت دائما من العوامل الحاسمة في إحداثه؛ فهي تستخدم في الحديث اليومي، وفي التفكير، وفي الإحساس والتعبير عن المشاعر أيا كانت حدتها ودرجة تعقيدها. ولذلك فقد كانت أقرب إلى الألسنة العربية من «اللغة الرسمية» التي يتعلمها الصبيان في المدارس، وكثيرا ما فرضت نفسها على صور هذه اللغة وقوالبها، فغيرتها من وقت إلى وقت، طورا بالإضافة (بإضافة ألفاظ وتراكيب جديدة تقتضيها المعاني والمفاهيم الجديدة)، وطورا بالتعديل (الذي كان القدماء يعتبرونه تحريفا وتشويها)، وطورا بتقديم المقابل الجديد لشكل من أشكال التعبير القديم أصبح مهجورا لبعد العهد به، ولظهور «سياقات» حيوية (حياتية) جديدة تتطلب العربية العامية لا العربية القديمة.
وهكذا نرى أن لدينا ثلاثة مستويات متداخلة للغة العربية؛ أولها هو مستوى اللغة الأدبية القديمة، وثانيها هو مستوى اللغة المعاصرة التي أصبحت تستخدم في الأعمال الأدبية الحديثة والمترجمة، وثالثها هو مستوى العربية العامية أو ما أسميته في دراستي بالإنجليزية «العربية المصرية
Egyptian Arabic »، وهي تستخدم أيضا في الأعمال الأدبية الحديثة إما وحدها أو في سياق اللغة المعاصرة. وقد كنت عرضت مذهبي في ترجمة النصوص الأدبية العالمية في مقدمتي لترجمة مسرحية شيكسبير «تاجر البندقية»، قائلا إنني لا أعترف بأي حواجز تفصل بين هذه المستويات فصلا خارجيا؛ فالقارئ العربي ينتقل بينها بصورة طبيعية وتلقائية، كما قلت إنني أوجه عملي الأدبي إلى القارئ المعاصر الذي يدرج على دراسة القديم بينما يتحدث العامية، وبينما يستخدم في حياته اليومية العربية المعاصرة التي تقبل شتى ألوان التعبير القديمة والعامية؛ لأنها تمثل التيار الرئيسي للعربية في عصرنا هذا. والآن أضيف إلى ما قلته أنني واجهت صعوبة جديدة جعلتني أعيد النظر في بعض الأمور. وأعود إلى موضوع الترجمة الأدبية ومشاكلها؛ فكل نص أدبي يأتي معه بحصاد جديد من الأفكار. فما هي هذه الصعوبة الجديدة التي أتت بها «يوليوس قيصر»، وكيف حاولت حلها؟
الصعوبة ذات شقين؛ أما الشق الأول فيتصل بمفهوم لغة الأدب، وأما الثاني فيتعلق بنوعين من الترجمة الأدبية أستطيع من باب التيسير أن أصفهما بفن إيراد المقابل (الذي يصل في حالات مثالية نادرة إلى مستوى المثيل)، وفن إيراد البديل إذا تعذر المقابل، ويكفي أن أقول فيما يتعلق بالشق الأول، إن القول بأن للأدب لغة تختلف عن لغة «العلم» مثلا أو لغة الفلسفة قول مضلل، وينبغي ألا نقبله دون إدراك للتعميم الشديد الذي يشوبه. إذ ما المقصود بلغة الأدب؟ المقصود هو اللغة المستخدمة في الأدب لا اللغة التي هي بطبيعتها أدب! وقد نشأ هذا الخلط بكل أسف في فترة من فترات التحول اللغوي كانت اللغة العربية تخطو فيه بحذر من المستويات «القديمة » (والتي اتخذت صورا بلاغية شكلية محضة) إلى المستويات «الحديثة»؛ إذ استطاع عدد من الكتاب أن يبتدع أشكالا لغوية جديدة قادرة على نقل التراث الفكري الحديث إلى العربية. وكان معظم هؤلاء الكتاب روادا في العلوم الإنسانية، وإن كان بينهم عدد غير قليل من العلماء، فمن أجاد منهم اللغة العربية وصقل أسلوبه فنفى عنه العجمة والركاكة عد من بين الأدباء، كأنما انحصر الأدب في الكتابة بأسلوب منمق؛ بل إن أحد أساتذة العلوم، وهو المرحوم الدكتور أحمد زكي، كان يوصف بأنه أديب لأنه يكتب لغة عربية ناصعة، ويستخدم أسلوبا رشيقا أصبح علما عليه (يفصل فيه بين الصفة والموصوف، ويكثر من الابتداء بالنكرة، ويحافظ على التماثل في بناء العبارات المتتالية، وما إلى ذلك). وأذكر أن أحد الكتب المدرسية كان يقول للطلبة: إن ثمة شيئا اسمه الأسلوب «العلمي الأدبي»، وما المقصود إلا عرض المادة العلمية بلغة سليمة وأسلوب فصيح.
Bilinmeyen sayfa