John Locke: Çok Kısa Bir Giriş
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
Türler
لا صلة لهذه الشكوك على وجه العموم بصلب الموضوع، ولا شك أن محاولة لوك لشرح كيفية معرفة الإنسان قانون الطبيعة كانت محاولة فاشلة في نهاية المطاف حتى من وجهة نظره، لكن ثمة دليلا قويا على أنه مضى في هذه المحاولة وثابر عليها على مدى سنوات عديدة بعد نشر الطبعة الأولى من «مقال في الفهم البشري» عام 1689، ومن الحمق أن نظن أنه ربما فعل ذلك لأنه ظل متمسكا بالأمل في نجاح هذه المحاولة. ومن الواضح أيضا أنه لم يحبذ على الإطلاق - لا في هذه الفترة من حياته ولا في أي فترة أخرى - المفهوم العلماني المتعنت عن قانون الطبيعة باعتباره من النظريات المتوافقة تماما مع الإنسان، وهو المفهوم الذي اعتنقه أناس من أمثال توماس هوبز. وثمة احتمال آخر أكثر جاذبية، استعرضه لوك فيما بعد في عمله «معقولية المسيحية»، وهو تأسيس حقوق الإنسان وواجباته بصورة مباشرة على مذاهب المسيحية المنزلة. لكن، حتى لو كان قد افترض مع عالم اللاهوت الفرنسي البارز بوسويه إمكانية أن تستمد المبادئ السياسية مباشرة من كلمات الكتاب المقدس، لما كان لأمر كهذا أن يخدم أغراض شافتسبري السياسية في صراعه ضد تشارلز الثاني. ومن وجهة نظر غير المؤمنين المحدثين، ثمة ما يدعو بالفعل إلى الشك في قوة إقناع النظرية السياسية التي طرحها لوك في عمله «رسالتان في الحكم»؛ نظرا لاعتماده البائس على تصوره منزلة الإنسان في الطبيعة، الذي يرى فيه أن كل إنسان يعيش حياته بناء على التعليمات الكاملة التي يمليها الله عليه. يجد معظم الناس حاليا (بما فيهم عدد كبير للغاية من المسيحيين المتدينين) صعوبة في فهم هذا الرأي، لكن لا يوجد في التاريخ ما يدعو على الإطلاق إلى الشك في أن يكون هذا الرأي هو ما تبناه لوك.
يرى لوك أن الحقوق السياسية تنبع من الواجبات السياسية، وكلتاهما مستمدة من مشيئة الله وإرادته. وكما طرح السؤال على نحو بلاغي عام 1678: «إذا اكتشف الإنسان أن الله قد أقامه هو وسائر البشر في دولة لا يمكنهم فيها أن يحيوا بمعزل عن المجتمع، فهل من الممكن أن يتوصل إلى استنتاج آخر خلاف أنه مسير، وأن الله يأمره باتباع تلك القواعد التي تؤدي إلى الحفاظ على المجتمع؟» (الفكر السياسي لجون لوك). كان التغير الجوهري في آرائه السياسية، من الالتزام بالطاعة العمياء إلى الدفاع عن الحق في مناهضة السلطة السياسية الجائرة والتصدي لها، هو تغيرا في مفهومه عن الكيفية التي يمكن للإنسان - بل يتعين عليه أيضا - من خلالها أن يقيم ما من شأنه أن يصون مجتمعه. وبدلا من ترك هذا التقدير تماما إلى الحاكم واحتفاظ بقية الشعب بالحق فقط في اعتناق معتقداتهم الدينية (ذلك الحق الذي رأى لوك أنه لم تكن لديهم أي سلطة لتركه)، رأى لوك في «رسالتان في الحكم» أن تقدير كيفية صون المجتمع هو حق وواجب على كل إنسان بالغ. لم يكن هذا بأية حال استنتاجا محدثا أو غير مسبوق، لكن - بالنسبة إلى لوك نفسه - كان الأمر يمثل بالتأكيد تغيرا كبيرا للغاية في رأيه وفكره.
كيف ينبغي بالضبط أن نرى الأسباب التي دفعته إلى تغيير رأيه؟ من الواضح أن تجربة أزمة الإقصاء السياسية المباشرة كانت أسرع الضغوط التي دفعته دفعا إلى تغيير رأيه. وليس ثمة ما يبرر الاعتقاد بأن لوك ما كان ليكتب عملا عن النظرية السياسية على غرار «رسالتان في الحكم»، لولا دور شافتسبري في هذا الصراع السياسي. ولقد ساعد كل من المناسبة التي ألف فيها لوك «رسالتان في الحكم»، والباعث الذي دفعه إلى تأليفه، في أن يجعل من هذا العمل عملا خاصا بأزمة الإقصاء، لكنه في أوجه كثيرة كان ضعيفا في تصميمه حسبما يتضح لنا من جزء «مقدمة إلى القارئ»، ولا يرجع هذا إلى طوله الأصلي فحسب، الذي كان أكثر من ضعف النص الذي نشر في النهاية. جاءت حجج لوك مغايرة على نحو بالغ لأساليب شافتسبري، حتى فيما يتعلق بالقضايا الدستورية التي كانت تحظى بأهمية مباشرة في ذلك الوقت، لكن بعيدا عن هذه التفاصيل المتعلقة بالحكم السياسي العملي، يتضح من مضمون الكتاب ككل أن لوك كان يفكر مليا في الآثار المترتبة على تغيير رأيه، ولم يكن ببساطة بصدد تحرير ملخص شامل من أجل سيده المثير للقلاقل. لقد كانت تجربة لوك السياسية في ذلك الوقت هي ما دفعته إلى تغيير نظرته إلى السياسة، وغيرت في المقام الأول نظرته للعلاقة بين السياسة وسائر حياة الإنسان، وكان الحماس الذي حاول أن يفهم به الآثار المترتبة على تغيير رأيه، هو ما جعل من «رسالتان في الحكم» عملا رائعا حول النظرية السياسية.
لا شك أن معظم الأعمال المهمة في مجال النظرية السياسية كانت تبنى على تلك التجارب السياسية الوليدة المصادفة غالبا؛ فمن الطبيعي أن يكون الدافع لإنعام النظر في شئون السياسة ذا صبغة سياسية صريحة، لكن في حالة «رسالتان في الحكم» تتدخل الظروف العرضية لتأليفه في نص العمل نفسه على نحو بالغ ومحير للغاية؛ فالرسالة الأولى عبارة عن نقد مفصل للمؤلفات السياسية لكاتب سياسي سابق عليه، وهو النبيل السير روبرت فيلمر من مقاطعة كنت، وهو من الكتاب المؤيدين للحكم الملكي في فترة الحرب الأهلية. كان فيلمر من المفكرين الذين لديهم قدرة كبيرة على النقد، وكما رأينا، فقد كتب كل من جيمس تايرل وألجرنون سيدني مقالين آخرين إبان أزمة الإقصاء، يهاجمان فيهما أعمال فيلمر؛ ومن ثم لم يكن استهداف لوك لأعمال فيلمر وتصديه لها بالأمر المستغرب. تميز فيلمر عن غيره من مؤيدي الحكم الملكي - الأحياء منهم والأموات - بالطابع المتعنت لنظريته عن السلطة السياسية؛ فهي تتسم بنبرتها المتدينة، وفروضها التي تبعث الطمأنينة في نفس أي أنجليكاني، لكنها أيضا ذات مطالب استبدادية بالقدر الذي يجعلها تضاهي الدعوات العملية التي تنادي بها نظرية توماس هوبز الأقل تدينا على نحو مقلق. ومن غير الواضح تماما، ما إذا كان اختيار فيلمر خصما في مطلع الثمانينيات من القرن السابع عشر قد جاء تقديرا لشعبيته بين أنصار تشارلز الثاني، أم أنه كان بالأحرى انعكاسا لملكاته التي تجعل منه هدفا فكريا جذابا. لكن، حتى فيما يتعلق بهذا الجانب، لم يكن المهم في جودة الكتاب الذي سطره لوك ومحتواه، الباعث الأساسي الذي دفعه إلى كتابته، وإنما التأثير الفكري لتنظيم أفكاره على هذا النحو البالغ في هجومه على فيلمر، في الرسالة الثانية وكذلك الأولى.
كانت أهم نتيجة مباشرة لهذا التركيز هي معالجته للملكية، ذلك الإنجاز الذي من الواضح أن لوك نفسه كان فخورا به لأقصى درجة (أعمال جون لوك، المجلد الرابع). لكن ربما كان الأهم هو الأثر الإبداعي للتصدي لمثل هذا العرض الواضح للرأي السياسي، الذي بدأ لوك نفسه يرفضه فيما بعد، وهو أثر شمل الكتاب بأكمله. بالنظر إلى السياق السياسي لأزمة الإقصاء، والسياق الاجتماعي لإنجلترا في أواخر القرن السابع عشر قبل الإقصاء وبعده، يتضح أن آراء لوك السياسية لم تكن راديكالية على نحو استثنائي؛ فهو لم يتوقع أن تطبق في أيامه البرامج الراديكالية المنادية بتوسيع نطاق حق التصويت، التي اقترحتها حركة أنصار المساواة إبان الحرب الأهلية الإنجليزية، أو الحركة الميثاقية بعد زمنه بقرن ونصف قرن، بل لم يكن حتى ليرغب في ذلك. لكن النظرية التي طرحها في «رسالتان في الحكم» كانت راديكالية للغاية؛ فهي نظرية تدعو إلى المساواة والمسئولية السياسية بالاستناد إلى حكم كل فرد بالغ، وقد عبر لوك نفسه في أجزاء متفرقة من الكتاب عن النظرية كما لو أنه كان يعتزم أن تفهم بالمعنى الحرفي للكلمة. وبالنسبة إلى الجمهور الذي كان لوك نفسه يفترض أنه يخاطبه، فقد كان ثمة بعض الخطر في أن تؤخذ النظرية على هذا النحو الحرفي. (لم يقرأ معظم البالغين في المجتمع الإنجليزي في ذلك الوقت كتاب «رسالتان في الحكم» ولم يفهموه.) وفي الواقع، كان النقاد المحافظون فقط - الذين تعرضوا لأعمال لوك - هم من تظاهروا بالاعتقاد أنه كان يعني أن تؤخذ آراؤه حول هذه النظرية بالمعنى الحرفي أو أنها كانت تستحق أن تؤخذ كذلك، واستمر الحال على هذا النحو لفترة من الوقت بعد ذلك. لكن هذه النظرية وكذلك بعض الشعارات المطروحة في الكتاب وصلت في حينها إلى قطاع أكبر من الجمهور في إنجلترا وأمريكا، وعندئذ بات من الصعب جدا إنكار طبيعتها الراديكالية الثورية، وكان الوضوح والقوة اللذان عرضت بهما الراديكالية في «رسالتان في الحكم» نتاج استجابة لوك االمبدعة لتحدي فيلمر في المقام الأول.
حقق هذا التحدي أبلغ أثر فكري له في نقده النظريات السياسية، التي سعت إلى استنباط السلطة السياسية وحقوق الملكية من الاختيارات الحرة للبشر، وعلى الرغم من أصدائها الأيديولوجية، فقد كان من الواضح أنها في حد ذاتها لا تليق بأن تكون نظرية عن السلطة الشرعية. كان جوهر آراء فيلمر بسيطا على نحو غريب، بل إن آراءه بدت أيضا لبعض معاصريه أكثر من مجرد آراء غريبة. كان فيلمر يرى أن جميع أشكال السلطة بين البشر تنبثق في الأساس من نفس النوع؛ سلطة الأب في عائلته، وسلطة الملك في مملكته؛ فكل سلطة يمارسها إنسان على غيره من البشر هي سلطة ممنوحة مباشرة من الله، وبما أنه ما من إنسان يملك حق التحكم في حياته، وبما أنه من حق كل الحكام البشر إزهاق أرواح رعاياهم أو الأعداء الغرباء متى تسببوا - بحسب تقديرهم - في الإضرار بالصالح العام، فلا مفر من أن نخلص إلى أن الحكام لم يستمدوا هذا الحق من رعاياهم وإنما من الله نفسه. ويستحيل التوافق بين تحريم المسيحية للانتحار وحقوق الحاكم، إلا بافتراض أن حقوق الحاكم هي عطية الله له. ترصد النصوص المسيحية (أو العهد القديم، لنكون أكثر دقة) مناسبة هذه العطية الربانية على وجه الدقة؛ فقد سلم الله الأرض بأكملها للإنسان الأول آدم، وجميع السلطات السياسية وحقوق الملكية هي نتيجة تاريخية وشرعية لهذه العطية. لقد كانت سيادة آدم حقيقة تاريخية لا يجد مدعاة لإنكارها سوى الآثمين (أو أولئك الأشقياء الذين لم يصادفهم الحظ كي يتلقوا الوحي المسيحي). ومنذ أن فوض الله الإنسان الأول بحكم العالم، صار سلطان آدم - الذي هو شكل من أشكال الملكية بقدر ما هو أحد أشكال حكم البشر وفرض السيطرة عليهم - مقسما بحسب سياق التاريخ الإنساني إلى تقسيمات فرعية، لكن كل تقسيم فرعي كان تعبيرا مباشرا عن العناية الإلهية، ولا بد من النظر إليه باعتبار أنه يمثل مشيئة الله. وكانت المسئوليات السياسية لأي رجل لم يصادف يوما أن صار حاكما (بل أيضا المسئوليات السياسية لأي امرأة) هي ببساطة أن يفعل ما يملى عليه، وأن يقر بالعناية الإلهية في السلطة السياسية التي وجد نفسه خاضعا لها؛ ومن ثم أن يحترم هذه السلطة ويدين لها بفروض الطاعة. ولم يكن بيان فيلمر لهذا الرأي واضحا أو مستوفي الأركان، وكان من المستبعد تماما فيما يبدو أن يقتنع من لم يشعروا أنهم ملزمون بطاعة الحاكم - وهم كثر - بأنهم ملزمون في دخيلة أنفسهم بتلك الطاعة.
لكن إذا كانت نظرية فيلمر تفتقر إلى قوة الإقناع، فإنها أثارت عددا من المشكلات المحيرة لأي شخص يؤمن أن المصادر العملية للسلطة السياسية بشرية محضة. وربما من الأمور المهمة أيضا أن الشكل الذي اتخذته نظريته قدم مزاعم السلطة السياسية المطلقة على نحو مستهجن بوضوح، وكما رأينا سابقا، لم يجد لوك حرجا في اعتبار الطاعة السياسية واجبا بسيطا وجوهريا للغاية بالنسبة إلى معظم الرجال (وكل النساء تقريبا) في معظم الأحيان، وهي نتيجة للقانون الإلهي «الذي ينهى عن مخالفة الحكومات أو حلها.» ومما لا شك فيه أن لوك في خضم الملابسات المحيطة بأزمة الإقصاء، كانت لديه دوافع قوية لإعادة النظر في نطاق هذا الواجب وشموليته، وللتشكك في فرضياته السابقة حول الأمور التي جعلته واجبا بالفعل. مهدت كتابات فيلمر الطريق أمامه بسهولة؛ حيث قدم عقيدة محددة لم يجد لوك عناء في رفضها؛ يرى فيلمر أن حقوق الحاكم هي عطية شخصية من الله، ولا بد من فهمها في الأساس بوصفها حقوق ملكية، تسري على البشر والأرض والسلع المادية؛ فالرعايا ملك للحاكم ويدينون له بالطاعة؛ لأن الله منحه إياهم من خلال تدابير عنايته الإلهية. وردا على ذلك، سعى لوك إلى التمييز بوضوح بين واجبات الرعايا في الطاعة وحقوق الحاكم في إصدار الأوامر وفرض السيطرة. سوف يتعين في أغلب الوقت على معظم الأفراد في المجتمعات أن يطيعوا حكامهم؛ لأن السلام والنظام المدني شرطان أساسيان لأن يحيا الإنسان حياة كريمة، لكن سيكون للحكام في المقابل الحق في إصدار الأوامر فيما يختص بالمواضع التي تكون فيها ممارستهم سلطتهم والأوامر التي يصدرونها جديرة بالطاعة. وإذا كان الحكام أنفسهم يمثلون تهديدا للسلام والنظام المدني، فسيكون لرعاياهم كل الحق في تقدير حجم هذا التهديد ومدى قربه منهم، وإذا بدا هذا الخطر جسيما بما يستدعي المقاومة، فعليهم أن يقاوموه ويتصدوا له بكل ما أوتوا من قوة؛ ومن ثم منح فيلمر لوك ما كان يتمنى أن يدحضه؛ مساواة عملية وصريحة لكل أصحاب المناصب في السلطة السياسية بطبيعتهم البشرية الصرفة مع مشيئة الله نفسه، لكنه وضع لوك إزاء العديد من المسائل الفكرية الشائكة، من أبرزها مسألتان على وجه التحديد؛ إحداهما: مسألة المواءمة بين المصدر البشري المحض للسلطة السياسية من جانب، وحق الاستحواذ على حياة الإنسان وسجل التاريخ العلماني والديني من جانب آخر. وثانيهما: هي مسألة شرح الكيفية التي استطاع من خلالها البشر أن تكون لهم ملكية فردية في أي جزء من أرض الله أو خيراتها.
حق الملكية
كانت مسألة الملكية على وجه التحديد من المسائل المثيرة للتحدي. وجه فيلمر نقده نحو نظرية حق الملكية الأكثر تأثيرا في القرن السابع عشر، التي صاغها كاتب القانون الطبيعي الهولندي البارز هوجو جروتيوس. كان فيلمر ينظر إلى جروتيوس على أنه ينادي بفكرتين متناقضتين؛ وهما: رأيه أن الطبيعة كلها بخلاف الإنسان هي ملكية مشتركة للبشر جميعا، ورأيه أن الأفراد - رجالا ونساء - يمكنهم الاتفاق بالتراضي فيما بينهم على امتلاك أجزاء منها. وما جعل هاتين الفكرتين متناقضتين على نحو واضح، في رأي فيلمر، هو الثغرة التي انطوت عليها كلتا الفكرتين فيما يخص قوانين الله للبشر. يرى فيلمر أن هذه الثغرة اتضحت في موقفي جروتيوس المتناقضين؛ اللذين في أحدهما على ما يبدو «قدم المجتمع» برمته بوصفه مالك الطبيعة، في حين فرض في الآخر الملكية الخاصة. ومن وجهة نظر أي شخص على دراية أكبر بالتطور التاريخي للمجتمع البشري، لم يكن هذا الاعتراض على درجة كبيرة من الأهمية، إلا أن فيلمر استند إليه في صياغة رأيين نقديين آخرين كان من الصعب التغاضي عنهما؛ أولهما: أن فيلمر درس بشيء من التفصيل الصحة التاريخية للتسلسل الذي تصوره جروتيوس، وكان يتطلب من الجنس البشري ككل (أو مجموعات منه في مكان معين) أن يتضافر ويتفق بالإجماع على تقسيم ملكيته لكل الأشياء التي يملكها على نحو جماعي؛ إذا كانت الملكية من قبيل الحق، وإذا كان كل البشر في الأساس يشتركون معا في ملكية كل شيء، فمن غير الممكن إذن أن يفقد إنسان حقه في كل شيء (أو أي شيء) دون أن يختار عن وعي التخلي عن هذا الشيء. وثانيهما: أن فيلمر تساءل عما إذا كان الاتفاق بالإجماع بين جميع البشر الذين هم على قيد الحياة في وقت معين، من شأنه أن يكون ملزما لأي أفراد يأتون لاحقا ولم يكونوا هم أنفسهم طرفا في الاتفاق، أو عما إذا كان الاتفاق بالإجماع سيكون ملزما بالضرورة لأي طرف من أطراف الاتفاق الأصلي، يحتمل يغير رأيه بشأن مزايا هذا الاتفاق وجدواه. يرى فيلمر أن الملكية لا تكون مكفولة عمليا وجائزة قانونا إلا إذا كانت تعبيرا مباشرا عن مشيئة الله، شأنها شأن السلطة السياسية نفسها، وبما أنها تعتمد على قرار البشر والتزامهم، فإن أي حق يخضع لتعديلات لا نهائية. في هذه النقطة على الأقل، كان لوك يتفق إلى حد كبير مع فيلمر. لقد كان السؤال الخاص بكيفية كفالة حقوق الملكية القائمة، في ظل حكومة من اختيار الشعب برمته، هو سبب فشل حملة «أنصار المساواة» في الحرب الأهلية. وحسبما طالب هنري إرتون بشدة قادة حركة «أنصار المساواة» في بوتني في أكتوبر عام 1647: «يسعدني كثيرا أن أعرف ما الذي فعلتموه أيها السادة - أنتم أو غيركم - يمنحكم الحق في امتلاك أي شيء في إنجلترا .» إذا كانت السلطة السياسية لا تستمد مباشرة من الله، وإنما تعتمد على الاختيار البشري، فربما تبدو فكرة حق الملكية واهية وضعيفة على نحو مقلق.
كانت استجابة لوك لهذا التهديد بارعة للغاية؛ فهو يرى أن من الصائب على مستوى العقل البشري والوحي الإلهي أن تكون الأرض - شأنها شأن قاطنيها من البشر (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية) - ملكا لخالقها، وأن الله منحها إلى جميع البشر القاطنين فيها كي يستمتعوا جميعا بها. ويرفض لوك فكرة وجود أي حق من حقوق الملكية الخاصة، استنادا إلى افتراض فيلمر أن الله منح الأرض كلها إلى «آدم ونسله تباعا، ما خلا سائر ذريته»، لكنه قرر أن يجيب بنفسه إجابة وافية على الهدف النقدي الرئيسي لهجوم فيلمر على جروتيوس، وهو السؤال عن كيفية أن يكون للإنسان حق خاص في أي جزء من هذا الإرث العام، وكانت إجابته عن هذا السؤال هي الأشهر، وهي التي منحت نظرية الملكية التي صاغها تأثيرها التاريخي البارز والمتنوع. إن العمل هو ما يميز الملكية الخاصة عن الملكية العامة؛ العمل البدني للإنسان وكد يده؛ فالعمل هو ملكية العامل التي لا نزاع عليها، وبمزج العمل بالأغراض المادية - مثل الصيد وجمع الثمار، وأيضا زراعة الأرض - يكتسب الإنسان الحق فيما اشتغله وما صنعه من هذه المواد؛ ف «حياة الإنسان تقتضي العمل ووجود مواد لاستخدامها، وهذا الشرط يستتبع بالضرورة وجود ممتلكات خاصة.» لقد وهب الله الإنسان الأرض «للانتفاع بها وبخيراتها ونعمها الكبرى التي يمكنه الاستفادة منها»، لكن الله منحه الأرض كي يحسن استخدامها بكده، منحه إياها كي «ينتفع بها المجتهدون والعقلاء»، وليس لاستغلالها تبعا «لأهواء المشاكسين والمجادلين أو أطماعهم»، وعلى المجتهدين والعقلاء أن يستفيدوا منها جيدا. وهي ببساطة ليست ملكا لهم، كي يتدبروها حسبما يتراءى لهم تماما؛ فهم وكلاء على العالم، ولا بد أن يظهروا وكالتهم تلك في اجتهادهم وعقلانيتهم. ربما يسيطرون على الطبيعة ويستهلكون خيراتها (هذا هو حرفيا الغرض من الطبيعة)، لكنهم غير مخولين بأية حال لإهدار أي منها، «فما من شيء خلقه الله للإنسان كي يفسده الإنسان أو يدمره». ومن خلال ممارسة المجتهدين لوكالتهم تلك، فإنهم يغيرون العالم الذي منحه الله في الأساس للبشر، بعدد من الطرق الجذرية. إن العمل نشاط إبداعي؛ فهو «يضفي فرق القيمة على كل شيء»، و«يحقق أقصى استفادة من قيمة الأشياء، التي نستمتع بها في هذا العالم.» وفي الأماكن التي لا يجتهد فيها الإنسان كما ينبغي، كما في منطقة مثل أمريكا الغنية بالأراضي التي أمدتها الطبيعة بوفرة كبيرة في المواد، لن تحصل البلاد على جزء واحد في المائة من النعم التي استمتع بها الناس في إنجلترا خلال القرن السابع عشر، «ستجد هناك ملكا صاحب أراض كثيرة ومثمرة، يأكل ويسكن، ويرتدي زيا أسوأ من زي عامل اليومية في إنجلترا.» العمل قوة طبيعية في الإنسان، ومزاولته فرض عليه من الله، ويحض عليه الفهم العقلاني لمنزلة الإنسان في الطبيعة، وغالبا ما تكون ثماره نافعة في مجملها، وهو قديم قدم سقوط الإنسان. «في البدء كانت كل الأرض خربة» (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، لكن بحلول القرن السابع عشر تحسن الوضع في كثير من ربوع الأرض بفضل عمل الإنسان وكده. وإذا كان العمل هو أصل الملكية، فإن الحق والأهلية ينصهران معا - في هذا الأصل على الأقل، إن لم يكن بالضرورة بعد توارثه - ولا تدع الثمار التي تعود على البشرية جمعاء مجالا للقلق حيال هذا الأمر. وفي البداية على الأقل، سيكون الأشخاص الذين بحوزتهم ملكية أكبر هم المستحقين لتلك الملكية بالفعل، ولن يكون ثمة ما يعتذرون عنه لمن في حوزتهم ملكية أقل ويستحقونها.
Bilinmeyen sayfa