يا همس الصلاة المقدس، أنشد أغنية آلامي في فؤادي الوجيع، ومر قلبي الذي تحطمه قيثارة النسمات السماوية، أن ينفجر نعما وبركات! •••
رب! كما يزرع الفلاح بذوره في تراب السهول ويحصدها أيام النضج، هكذا حكمتك تبذر وتحصد الإنسانية - تلك البذور النبيلة التي تنبت للخلود - رب! اسكب أنداءك على مروج الحياة المعذبة، وليطلع الطين الحي رجالا وزهورا!
في 21 تشرين الثاني سنة 1802
جاءني رجل يقول: «في مزرعة صغيرة قائمة على طرقات إيتاليا امرأة مريضة لا تزال في ميعة شبابها تطلب كاهنا» أأصل قبل فوات الوقت يا ترى؟
عن ملتافيرن في 22 تشرين الثاني سنة 1802
لم يكن ينير الغرفة المظلمة إلا مصباح واحد، وكانت أخيلة الخدور تحجب الوجه عن نظري، فلم أستطع أن أتبين في تلك العتمة إلا جبينا شاحبا مستلقى بوهن على وسادة السرير، وشعورا شقراء مستطيلة مبعثرة هنا وهناك! «يا أبت»، خرجت هذه الكلمة كالهمس من فم المرأة ونفذت إلى أعماق نفسي، فلم أدرك أي تذكار مبهم رن في صداها، غير أني تجلدت وجلست مضطربا إلى وسادة السرير، عفوك يا أبت وغفرانك، لقد كلفتك أتعابا كثيرة بطلبي إياك من تلك الأصقاع البعيدة، فالطرق شديدة الوعورة، والأيام باردة وقصيرة، ولكنك تذكر أن المسيح كان يحمل نعجته على ظهره مهما كانت حقيرة غير خائف أن يلطخ ثيابه أو يدمي قدميه، واحسرتاه! ما من أحد كان جاحدا شرفه ودينه كما جحدتهما أنا: بيد أني كنت فيما مضى أحمل اسم الله في قلبي وأود اليوم، قبل رحيلي من وادي الآلام، أن أعود فأموت على أقدام الراعي الصالح، طالما حولت مسمعي عن صوته العذب ورميت نعمه ساخرة بها، ولكن قبل أن تحكم على ذنوبي حسب شريعة الإيمان، تنازل يا أبت واسمع قصتي كصديق ذي عاطفة ووجدان! ماتت أمي وأنا في أيامي الأولى وألقتني بين ذراعي والد أحبني حبا لا حد له وسقاني حنانه وعطفه إلى أن بلغت الخامسة عشرة فتوفي والدي وتركني يتيمة! يتيمة؟ آه لا! لا أدري من الذي أنزل من السماء صديقا تعهدني طيلة عامين! شابا ذا جبين ملكي وقلب كقلب الأم، ذا بسمات إلهية وعين ملؤها أشعة وحنو! بقينا عامين منفردين معا في الجبال، وكنت أحبه بدون أن أفكر مرة بذلك الحب، وكان يحبني! غير أن ثيابا خداعة كانت تخفي كنه أمري، فنشأ حبنا البريء الطاهر في كهف مظلم! أجل! كان يحبني! عفوك يا أبت واغفر لدموعي! إن شفتي المحتضرتين لتستعذبان هذه الكلمة الطاهرة! كان يحبني! أجل، هذه الكلمة لا تزال تدوي على حافة قبري! ومهما كانت حياتي ملأى بالعار فالله لا يتخلى عني في الساعة الأخيرة؛ لأنه أحبني! ...»
كانت نبرات صوتها ترتفع ارتفاعا بطيئا غير أني ما عدت أسمع شيئا: لورانس! ... أكانت هي! ما عدت أتبين إلا أشباحا تمر في الغرفة أمام نظري التائه، وكانت أفكاري تتدفق كالسيول من جبيني الشاحب! فحدثتني نفسي المضطربة أن أقتلها قبل منحها الغفران المقدس غير أني عدت فتجلدت قائلا في نفسي: «أأقدر أن أرفض مشيئتها وأنا رجل الله؟ آه لا! من يستطيع أن يمنحها غفرانا أقوى من غفراني؟ من يتمكن أن يذوب في أجفانها روح الله غير قلبي المحب؟ أية دموع تمتزج في دموعها أطهر مما في عيني؟ أليس الله هو الذي أرسلني إليها؟» كنت جامدا كالتمثال أمام هذه الشكوك إلى أن تسكن جأشي فسمعت صوتها يستعيد نبراته قائلا: «واحسرتاه! ما كادت يد القدر تفرق بيني وبينه حتى همت على نفسي في مجاهل العالم، وارتميت في لجج العار والفحش! فالزوج الذي جمعني به الحظ دون قلب لم يلبث أن أخذ بجريمة حبي؛ لأن احتقاري له وسأمي منه حولا عطفه وتعلقه بي إلى غضب ومقت، فمات حسرة وكان يعبدني، وما غفرت له حبه إلا في ساعته الأخيرة! ... •••
عند هذا، أمواج من عباد جمالي تدفقت على قدمي فتركتهم يحبونني بدون أن أحب أحدا منهم؛ لأن طيف صديقي كان يحيط بي كالغيوم ملقيا بيني وبينهم جمال صورته العذبة، آه! ويل للذي يرى أمام عينيه رؤيا لا تمحي! •••
وأخيرا كنت أحاول وأنا سكرى بالتذكارات المحرقة أن أحب جبينا من تلك الجباه المعفرة على قدمي، ولكن كنت أشعر بروحي تتلاشى الذكريات، باردة كالرخام في وسط تلك الشعلة التي أضرمتها بيدي، فأبعد ذاك الجبين المثلج قائلة: «اذهب فما أنت الذي أحب!» أجل، كنت أنظر إلى ذلك الإله الذي نزع صديقي من بين يدي نظرة الانتقام، وأستطيع الآن أن أقول لك، أمام ذلك الإله نفسه، أمام الحقيقية، أمام ذلك الطيف الحبيب وتلك الذكريات المقدسة، أجل أستطيع أن أقول لك: إن قلبي لا يزال إلى الآن طاهرا عذريا! أجل، ونفسي لا تزال عذراء وستحمل إلى القبر تلك الصورة الشريفة - صورة من أحبت! ... •••
كم أني أتمنى أن أرى قبل الموت ذلك المنفى الجميل، تلك الجبال المرتفعة، ذلك الكهف الطاهر، وأجتمع ولو بالحلم بحبي السماوي وبراءتي الأولى، كم مرة أحييت بالتذكارات تلك الصخور المنحنية، وضممت إلى صدري ذلك الطيف الجميل!» •••
Bilinmeyen sayfa