استلمت هذا المساء كتابا من أمي، فقرأت عباراته العذبة بفم يضطرب وعين ملأى بالدموع، مقبلا تلك الكلمات التي تكاد تكون حياة لولا أنها خرساء لا صوت لها، وأخذت أربعة عشر ذهبا هي آخر ما كان في كيس أمي!
المدرسة الإكليريكية، في 9 آذار سنة 1793
هو ذا أنا وحيد في هذا العالم، يتيم بين جدرانه! «اذهب يا ولدي، قالت أمي في ساعة الوداع، وليباركك الله بيده الرءوفة، اذهب وعد إلى ذراعي بعد حين»، آه! إن عطفك يا أمي ليرميك في هوة من الضلال، ما أنا في هذا الدير إلا قلب يضم في حناياه نارا مقدسة، ولم أوجد بين هذه الجدران إلا لأبقى إلى الأبد مرتديا ثوب مبتدئ أو ثوب شهيد! أجل سأبقى ...
عن مغارة النسور في أعالي جبال الألب في الدوفينه، في 15 نيسان سنة 1793
فلأدون حوادث هذين الشهرين لتبقى أثرا هائلا من آثار الثورة الرهيبة!
نهض الشعب نهضة الذئب ووثب على أبواب الكنائس والمعابد يطارد أبناء الله ويسفك دماءهم الطاهرة على أقدام المذابح! هذه يده وقد سكبت النبيذ في كئوس القربان ترتفع إلى شفاهه المرتجفة بسكرة الدم! وهذه أقدامه تطوف الهياكل مدمرة ما يقع عليه النظر الغضوب، وهذه مطامعه تختلس الآنية وتمزق الرسوم! وهناك، كهنة المعابد يرفعون إلى الله صلواتهم من أعمق أعماق أفئدتهم، وقد أمسك بهم الشعب الدنس وطرحهم على الأوحال، حيث تمرغت شعورهم البيضاء وسالت دماؤهم من الدموع! وقد نجا البعض بشبابه أمام دوي البنادق وصليل السيوف، منتشرا هنا وهناك، باحثا عن موئل يلجأ إليه أو عن عذاب يذيب نفسه بين شفراته! هذه امرأة تأخذني بيدي في وسط الظلام وتقودني إلى خارج الجدران مشيرة إلي بالهرب إلى أعالي هذه الجبال، قائلة: «انج بنفسك يا ابني وخذ هذه القطع من الخبز تحتاج إليها في مجاهل الطرقات»، بقيت ستة أيام وست ليال هائما على نفسي في مفاوز الأكمات، متوسدا نواتئ الصخور، ملتحفا دجنة الظلام حتى بلغت أقدام الجبال مجتازا تلك السيول المتحدرة من مذاهب القمم، وإذا بصياد يكتشف مقري بنباح كلبه فخلع علي ثيابه رأفة وشفقة وأخذ ثيابي، بدأت أتسلق مراقي التلال، تلك الأعمدة غير المتناهية التي تكاد ترزح تحت أثقال القلل وتحجب البحيرات العميقة والأودية السوداء بين الصخور المتهيرة والأطواد المدلة بارتفاعها، أجل، لبثت أصعد تلك الشواهق مضطربا تحت مواكب «الشلالات» وكانت أشجار الصنوبر تبرز لعيني أخيلتها الرهيبة، حتى وصلت إلى مروج خضراء تنبسط كالنجاد على أقدام الذرى، فأبصرت معازا مسنا يتطلع إلى السماء وبين أنامله سبحة من الخشب، فارتاحت نفسي إلى ذلك الشيخ، وقد وثقت من صديق لا ريب فيه، فتقدمت إليه باسم الله فذعر بادئ ذي بدء لرؤيتي في هذا المكان المنفرد من الطبيعة غير أني سكنت روعه بسرد قصتي له فأصغى باكيا إلى روايتي المحزنة وقسم بيني وبينه ما كان معه من الخبز والحليب، وعند الصباح رفع نظره إلي، وقال: «كن مطمئن البال يا بني فسوف لا تجد إلا السلام عندي، فالبقر قد أكلت جميع ما في المرج من العشب، وغدا أبحث عن مرج آخر بين جبال غير هذه الجبال، ولكن عندما ينتهي فصل الشتاء ونرحل عن هذه الأكمات نزود خبزا لأيام الصيف وسيكون لك هذا الخبز؛ لأنك شاطرتني إياه، غير أنه لا يمكنك أن تتبعني إلى حيث يأوى الرعاة مخافة أن يتساءلوا عن أمرك، فشعرك الأشقر لم يتصلب بين العواصف ويداك البضتان تفشيان سرك أمام هؤلاء، ولا يمكنك أيضا أن تبقى بين هذه الأكواخ مخافة أن يكتشف مكانك بعض الجنود، فهذه الأنحاء معروفة لدى عساكر الجلادين، أما إذا شئت فتعال معي فأهديك إلى مغارة عميقة لا يدري مكانها سواي، فما من أحد يمكنه أن يبلغها إلا البروق والأرواح وبعض النسور المنشرة في هذه الأصقاع! تعال معي، فيد الله قادتني إلى ذلك الكهف لأقودك إليه فيما بعد، فهناك تحيا حياة تقشف وزهد ولكنك تبقى أمينا على نفسك، وعندما تحدثني نفسي باحتياجك إلى الطعام أصعد إليك خفية وأضع بين يديك ما يقوم بأودك إلى أن يفرج الله ويفسح لك مجال الحرية، انتبه جيدا إلى فوهة هذا الصخر، وتعال من وقت إلى آخر تحت جلباب الضباب تجد فيها ما تحتاج إليه؛ لأني لن أجسر أن أذهب إليك حذرا من أن يراني أحد فيترصدني وينتهي إلى معرفة كل شيء!»
عندما انتهي المعاز من كلامه أخذنا نمشي في طرقات وعرة، ونضع أقدامنا بجسارة غريبة، حيث صياد الجبال نفسه لا يجسر على وضع أبصاره، وكانت الصخور تتهاوى تحت أرجلنا إلى أن تتوارى عن الأبصار في مجاهل تلك العقبات، والهواء العاصف يتلاطم على جبهتينا كأنه صقالة السيف، وكانت أعمدة الزبد تتساقط من أعالي الجبال ثم تتصاعد رضابا أبيض وتعود تهوي إلى الأسفل خرقا خضراء فتملأ ذلك الفضاء بالضجيج الرهيب، فنظرت إلى الدليل فأبصرته يرسم إشارة الصليب على صدره، وقد جس بقدم مرتابة تلك الحواجز المتقلقلة ووثب إلى الأمام فتبعته، وكنا نرى زوابع المياه تمر على مسافة بضعة أقدام منا حتى بلغنا واد من الأعشاب والزهر يرويه الزبد بزلاله العذب، فتراءى لنا أفق جديد خلال تلك الصخور الجرداء والمروج الزاهرة، فنزلنا من رابية إلى رابية ومن منحدر إلى منحدر حتى وقف بي المعاز أمام كهف رهيب تنساب الينابيع على جنباته، وهنا أشار إلى ذلك المأوى، حيث الحكمة الإلهية بنت للإنسان ملجأ يهرب إليه من الإنسان، وأخذ يعلمني كيف أصنع من لباب الأشجار قارورة أضع فيها الماء، وكيف أعمل من القش فراشا، وأخرج من البحيرات سمكا، ثم إنه أوصى العناية الإلهية بحياتي، تلك العناية التي تقوت الإنسان دون أن يكسب ذلك القوت بالعمل والتي تحرس عليه بلا رشد وتدبير، وقال لي: «صل يا بني إلى ربك بحرارة وإيمان فهذا المكان ممتلئ بروحه»، فسجدت وسجد، ثم عانقته وتوارى عن نظري!
مغارة النسور في 17 نيسان سنة 1793 في الليل
يا جلال الليل! أنت عرش الله العظيم حيث الكواكب النارية تحمل بين أشعتها اسم المبدع القدير وتنير به شفق الوجود! أنت يد الله وطيفه وفكرته! وأنت أيها القمر النير الشفاف، حيث يخال لي أني أرى هذه الجبال تنعكس على مرآة صقيلة، وأنت أيها الهواء الخافق طيلة الليالي فوق تلك الأصقاع المرتفعة، وأنت يا ضجيج السيول، ويا أيتها الغيوم الشاحبة، التي تمر على هذه الأماكن المنيرة كما تمر أخيلة الأهواء على القلوب الطاهرة، أنت كلك أسرار الليل التي لا يدرك أعماقها إلا الخالق العظيم! ولكن، هذه القمم الشاهقة قربتني إليك، فأنا ساجد أمامك كما يسجدون أمام مشهد إلهي!
إن عيني لتغطسان كالشعاع في هذا الجو الصافي! يا لله من هذه الزرقة اللدنة وهذا اللمعان! يظن الناظر إليهما أن مياه البحر، عندما تلامسها نسمة لطيفة فتحرك جواهر الشمس المتناثرة على صفائها، تنعكس على تلك الزرقة وذلك اللمعان! هو ذا كوكب ينحدر إلى الشفق! أرى أشباح الحور والصفصاف تحجب الهلال عن نظري، ويخال لي أن لونها الأبيض المضطرب ثلوج تتساقط وتذوب على الأوراق، أسمع زفرات الهواء تتصاعد من أفواه الجبال، وتتعالى حينا وتنخفض حينا ثم تموت! تلك هي النسمات تنوح بعاطفة وحنان، أليست تأوهات بعض الأحباب ترتفع ارتفاعا خفيفا من هذه النغمات العذبة، وتعطي الهواء أصواتا كأصوات النساء ثم تعطف علينا فتشاطر نفوسنا البكاء والدموع؟ أيتها الأشجار الموسيقية، أنت قيثارة الغابات، تضرب الأرواح على أوتارك ألحان السماء، أنت آلة يبكي عليها كل شيء ويشدو، أيتها الأشجار المقدسة، أنت تعرفين ما يرسل الخالق إلينا، فانشدي، وابكي، وخذي بين أوراقك آلامي أو أفراحي! أجل! لا يعرف سوى الله إن كنت تبكين علينا بنغماتك المطربة أو تنشدين!
Bilinmeyen sayfa