Soykırım: Toprak, Irk ve Tarih
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
Türler
القدس - فلسطين 1945م
أصوات ضحكات تتعالى هنا، نقاشات حادة هناك، منافسة شديدة تجري بين أبي هشام وأبي خالد في لعبة «طاولة الزهر» وقد التف حولهما المتابعون، والمشجعون، يسحب أبو هشام نفسا من الأرجيلة، يرمق خصمه بنظرة ثاقبة، ثم يرمي النردين، فيتدحرجان على نفسيهما وكأنهما يؤديان الرقصة المولوية على الخشبة الرقيقة، ويصيح هيا «دو شيش، دو شيش»، تستقر النردان على «يك دو »، فيخرج صوت حسرة ويضرب كفا بكف: يا لحظي العاثر! يطلق أبو خالد ابتسامة مع هزة رأس، ويقول هذا «دو شيش» يا أبا هشام، فيرمي النرد وإذ به هو، يصدر قهقهة ويعتلي الفرح أساريره، لقد انتهت اللعبة، لن تلحق بي بعد. أثناء ذلك يدير صاحب المقهى الراديو فيخرج صوت مذيع يقلد «كمال سرور» الذي كسب قلوب الجماهير بصوته الرنان وبإلقائه الفريد من خلال إذاعة البي بي سي باللغة العربية منذ انطلاقتها الأولى بتلك الجملة الشهيرة منه «هنا لندن .. سيداتي سادتي .. نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية للمرة الأولى في التاريخ.» معلنا أخبار السادسة مساء. يعم صمت مفاجئ إلا من صوت المذيع، وكأن المقهى خلا من رواده. «تتوالى انتصارات قوات الحلفاء في الحرب ضد قوات المحور؛ هذا وقد تقدمت قوات مشتركة من الحلفاء في بولندا نحو مدينة أوشفيتز التي تضم معسكر الاعتقال «أوشفيتز بيركناو» أحد أكبر معتقلات ألمانيا النازية التي تعيش أواخر أيامها بهزائمها المتتالية.» أخفض صاحب المقهى صوت المذياع، التفت إلى الحاضرين، كانت أخبارا سيئة، شاحت الوجوه، خرجت أصوات اتهامات: «إنه يكذب، ألمانيا ستنتصر، نعم ستنتصر وتكمم أفواههم»، رد آخر: «أحسنت، فهؤلاء لو سقطت لندن بيد قوات المحور لقالوا سقطت برلين بيد الحلفاء.» علت الأصوات الناقمة، غادر البعض المقهى غاضبا، وظل آخرون، كل يدلي برأيه فيما يجري، والكل يمني النفس بأن تكون أخبارا كاذبة ومفبركة سببها سياسة المحطة غير المحايدة؛ فهزيمة ألمانيا تعني انتصار المحتل البريطاني واستمراره في الهيمنة على البلاد.
غادر حسن المقهى وأجواءه الصاخبة، اعتلى الدرج الحجري في الحارة المؤدية إلى بيت أبي هشام، مفكرا بالذي جرى بينه وبين أنوشكا في آخر لقاء بينهما، تلمس شفتيه بظهر كفه اليمنى، شعر بالقبلة اليتيمة التي زرعها على خدها، قطف ياسمينة متدلية من إحدى النوافذ الخشبية وضعها على أنفه، أخذ نفسا عميقا انتشى بعبق الياسمين، تسارعت خطواته بين تلك الأزقة الضيقة، سمع صوتا قد ألفه أهل الحي جميعا، إنه الحاج صالح كعادته يرسل الرحمات بين الفينة والأخرى بصوت مرتفع: «الله يرحم ترابك عبد الحميد!» تذكر كلام والده عن المقصود بتلك الرحمة المتكررة، يوم كانوا في الباص المتوجه إلى دير ياسين، فاقترب منه حسن وقال: اللهم آمين.
رد الحاج صالح: من؟ - حسن أوما حفظت صوتي إلى الآن؟! - بلى، لكن آفة النسيان تغزو الذاكرة كلما تقدمنا في العمر يا بني. - ولم تنس السلطان المعظم؟! - في اليوم الذي لا تسمع صوتي أترحم عليه هنا، توجه إلى الأقصى ستجد المصلين هناك يكبرون أربعا على جنازتي. - أطال الله بعمرك، أخبرني إذن قصة ما أنت فيه.
أخرج الحاج صالح تنهيدة طويلة، ثم اتكأ على حائط الدار وبدأ يسرد قصته، وحسن يتأمل ملامح وجهه الذي سطت عليه أخاديد الزمن، وأظهرت تقسيمات على التقاسيم وتعرجات لا متناهية فيه. - انتدبني إلى حرس القصر رجل من علية القوم كان يتردد على دكان أبي هناك في السوق القديم، كنا نبيع أجود أنواع زيت الزيتون الفلسطيني في الآستانة كلها، لكنني لم أرغب يوما في تلك المهنة، وأبي لم يكن بحاجتي في الدكان بوجود أخي الأكبر «محمد»، هو من كان يدير التجارة بالكامل، يجهز طلبات الزبائن، يوصي التجار بالكميات المطلوبة من الزيتون الذي يجلبونه من فلسطين، يقيد سجلات الديون، يحسب الربح والخسارة يجهز القناني الزجاجية الخاصة بالزيت، يفعل كل شيء وحده في الدكان، وأبي كان المسئول عن المعصرة، غايته الحفاظ على إنتاج زيت نقي على نفس الجودة والطعم في كل مرة، كنت أشعر بينهما أنني حجر عثرة، فلا أستطيع أن أكون مثل محمد بهمته العالية ونشاطه الكبير، ولا أحب دخول المعصرة والعمل مع أبي، لكنها مهنة في النهاية، ومن الواجبات المسلمة عند الآباء الحث أو حتى إجبار أبنائهم على تعلم مهنة العائلة. وكم حاول معي لكن دون جدوى، كنت أريد الخروج من ضيق المعصرة والدكان إلى مكان أكبر وأوسع.
بعدما يئس أبي من تعلمي مهنته ووجد أن خير وريث له فيها هو محمد، أصبحت من حرس القصر بعد طلب من أبي وموافقة من ذاك الرجل الذي علمت فيما بعد أنه مسئول حرس القصر والقائم على شئونهم.
قصر يلدز، ياه يا حسن! لم تر عيني أجمل منه قط، بالرغم من أننا كحرس حول القصر لا يسمح لنا بالدخول لكل زواياه وأجنحته، وبالأخص جناح السلطان، إلا أنه كان يأسر القلب من المرة الأولى، الأسوار العالية المبنية من الرخام الأبيض والزخارف والنقوشات المنحوتة فيها على الطراز الأوروبي على امتداد القصر الواقع على تلة مرتفعة مطلة على داخل المضيق كانت غابة «قازنجي أوغلو» العجيبة التي فيها من الأشجار المتنوعة والأزهار النادرة التي تم إحضارها من جميع أنحاء العالم، عندما تجوب في هذه الغابة تشعر أنك خرجت من أسوار هذا العالم وولجت إلى عالم آخر مليء بالجمال والألوان الزاهية والأصوات العذبة والروائح الزكية، أما داخل القصر فقد كانت الأجنحة وصالات الاستقبال وغرف الطعام فيها من الرقي والفخامة ما يبهر العقول، من دقة التصميم وانسيابية اللمسات الفنية الساحرة وكأنه صرح ممرد من قوارير كما وصفت ملكة سبأ صرح سليمان، حيث إن سقف الصالات والغرف يتكون من الألواح المطلية بالذهب، أما أرضياتها فقد بنيت من الباركيه تغطيها المفروشات الصدفية المزينة بالصدف والأحجار الصغيرة اللؤلؤية كأنها السماء التي تزينها النجوم في الليالي المظلمة، إضافة إلى «الصالة الصدفية» ذات الأبواب المكسية بالصدف، المصنوعة في ورشة قصر يلدز بأمر من السلطان نفسه.
تحفة فنية معمارية تليق بمقام سلطان بقدر ومكانة السلطان المعظم عبد الحميد الثاني الذي كانت هيبته تطغى على كل هذا الجمال بأعيننا، وما إن يمر في عربته الخاصة ملوحا بيده للناس الذين يحيطون جانبي الطريق أينما حل وأينما ذهب، كانت تصيبني رؤيته بتجمد في العروق وكأنني أتحول إلى صنم لا أقوى على الحركة.
في أحد الأيام بينما كنا نحرس عند البوابة الرئيسية، خرج موكب السلطان من القصر. مرت العربات والفرسان على أحصنتهم في المقدمة والمؤخرة ونحن في وضعية الاستعداد. حبست أنفاسي عندما مرت عربته من أمامي كنت أراقبه بأطراف عيني دون أن ألتفت، ثم توقف الموكب فجأة نزل السلطان من عربته وأقبل إلينا وعلى وجهه ابتسامة تكسوها هيبة عظيمة، تكلم مع مسئول الحرس رمقنا بنظرة مليئة بالثقة ورفع يده مسلما فأعدنا السلام بالتحية السلطانية وضربة قدم قوية على الأرض، ثم وضع يده على صدره وقال: «إي ڤالله.»
ولا أنسى فرحة ذلك اليوم عندما انتشر في القصر خبر رفضه عرضا ضخما لتسديد ديون الدولة العثمانية مقابل أن يتنازل عن فلسطين لليهود، لقد كان سدا منيعا يا حسن ويهابه الأعداء ويخشونه أيما خشية. لكن الطعنة أتت من الظهر ومن داخل القصر، جاءته ممن كان يخشى عليهم أكثر من نفسه، تكالبوا عليه وأجمعوا أمرهم بأن يخلعوه ويقضوا بذلك على خلافة امتدت لأربعة قرون، ثم وضعوا بمكانه أخاه محمد رشاد كهيئة وصورة مسلوبة الإرادة والصلاحية، مهمته استقبال الرؤساء والقادة وتوديعهم لا أكثر. - لكن الخلافة العثمانية انتهت بعد خلع السلطان عبد الحميد بأكثر من أربع عشرة سنة؟ استفسر حسن مستغربا. - هذه النهاية الصورية، لكن السلطان عبد الحميد كان آخر السلاطين الفعليين للدولة العثمانية، وبعد خلعه انتهت فصول تلك الدولة العظيمة، وانجلى تأثيرها وتهدمت أركانها بعد الخطوة الغبية عندما دخلوا الحرب الكبرى. - وماذا عن الانفجار الذي أصبت فيه؟ - من أخبرك بذلك؟ - أبي.
Bilinmeyen sayfa