وبعد حوالي نصف ساعة وقفت المركبتان أمام منزل جميل فخم، يقع على مرتفع مشرف على البحر، فنزل الجميع ودخلوا وسليم بينهم، حيث جلسوا بعض الوقت في غرفة فخمة الأثاث والرياش معدة للاستقبال، ثم أشارت وردة بالانتقال إلى الغرفة التي خصصت لنوم سليم، فانتقلوا إليها، وأمضوا وقتا آخر محيطين بسريره، يلاطفونه بمختلف الأحاديث، ما عدا إميلي فقد بقيت ساكتة يبدو عليها الاستحياء، وإن لاحظ سليم أنها تختلس النظر إليه بين آونة وأخرى ثم تعاود إطراقها أو تتشاغل بالإشراف على أعمال الخدم وهم يعدون العشاء.
وأخيرا، انصرف فؤاد وقرينته عائدين إلى منزلهما بعد تناول العشاء. ولم يبق مع سليم في غرفته سوى وردة وابنتها، وكانت نوبة الحمى قد زايلته وشعر بتجدد قواه، فأخذ يسرح طرفه في الأفق من النافذة المطلة على البحر أمامه، متحاشيا النظر إلى إميلي كيلا يزيد في خجلها، ولئلا يثير أشجانه بتذكر سلمى.
وفيما هو في ذلك نهضت وردة من مقعدها بجانب السرير، وأمسكت زجاجة الدواء الموضوعة على منضدة فخمة تحت النافذة المذكورة، فصبت قليلا منها في قدح، وعادت تحمله إلى سليم، فتناوله من يدها وشرب ما فيه ثم رده لها شاكرا، فقالت: «إذا شئت أن تزيد في سعادتنا وسرورنا لوجودك معنا، فلا تعد مرة أخرى إلى مثل هذه العبارات. فأنت هنا في منزلك مع والدتك وشقيقتك، وليس عليك إلا أن تأمر وعلينا السمع والطاعة.»
فاغرورقت عيناه بالدموع لفرط تأثره بهذه المجاملة، ولاحظت إميلي أن العرق يتصبب من وجهه، فنهضت وجاءت بمنديل كبير من الحرير الأبيض، وأخذت تمسح به وجهه في ترفق وحنان، فضاعف هذا تأثره ولم يستطع إمساك دمعة انحدرت على خده، وخشي أن يتكلم ليشكرها فتخنقه عبراته، فاكتفى بأن ضمن نظراته إليها كل معاني الشكر والاعتراف بالجميل، ثم عاد إلى تحاشيه النظر إليها لما لاحظه من ازدياد خجلها حتى تضرجت وجنتاها بالحمرة.
على أنها ما لبثت قليلا حتى جاءت بمروحة لطيفة ووقفت تروح بها على وجهه، فاحمر وجهه هو حياء، ونظر إليها وعلى فمه ابتسامة الشكر قائلا: «لا داعي لتعبك يا عزيزتي.»
فقاطعته والدتها قائلة: «إن إميلي بمنزلة شقيقتك، فدعها تقم بالواجب عليها؛ لأن هذا يسعدها ولا شك.»
ولم يسعه إلا السكوت، وأخذ يصغي لما تحدثه به وردة عن علائق المودة الخالصة التي تربطها وابنتها بوالدته، وعن تمنياتهن الطيبة المشتركة له قبل رجوعه من القاهرة، بينما قلبه يخفق بشدة، ولا سيما حين كانت تحين منه التفاتة إلى إميلي وهي تروح له فتقع عيناه على يدها البضة تزينها الأساور الذهبية المرصعة بالماس، أو على وجهها المتورد وقد ازدادت حمرته خجلا من نظراته، وتأثرا بحركة يدها المستمرة في الترويح له.
وكانت صورة سلمى تراود خياله خلال ذلك، فلا يسعه إلا أن يجاهد نفسه كي يبعدها، مستنكفا أن يفسح لها مكانا بجانب صورة إميلي التي أسرته بتواضعها ولطفها وتفانيها في خدمته رغم أنه لم يرها من قبل.
ومضى الوقت دون أن يشعر بمضيه إلا حين دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فأراد أن يستأذنهما في أن تتركاه مشكورتين لينام، لكنه خجل وسكت. وإذا بإميلي تقول: «أظن أنه يستحسن أن نتركك الآن لتأخذ حاجتك من النوم؟»
فأعجب بفطنتها وظرفها وقال: «الواقع أني لا أريد أن تفارقاني لحظة واحدة، ولكني أشعر بأني أتعبتكما كثيرا.»
Bilinmeyen sayfa