ولكن هذا القلب لن يشقى ويتعذب بعد اليوم. فهذه هي الحمى تندلع نيرانها في جسمي، وما أحسبها إلا قاضية عليه القضاء الأخير عما قليل. وحينئذ يخلو لك الجو، ولا يبقى هناك ما يحملك على سكب العبرات وتنميق العبارات لتموهي بها على سليم الساذج الغر الذي أخلص لك الحب، وعق في سبيلك والدته الحنون، وكذب عينيه وأذنيه وقلبه ليبقى معتقدا أنك ملاك طاهر لا تعرفين المخاتلة والرياء.
آه يا سلمى! إن والدتي المسكينة لا علم لها بما أنا فيه الآن، ولا شك في أنها ناقمة غاضبة لمخالفتي نصحها وإرشادها. لكني على يقين من أنها لن تلبث قليلا بعد موتي حتى تلحق بي حسرة وحزنا. فإذا قدر لك أن تقابليها قبل ذاك فاستغفريها لذنبي وذنبك. ووداعا يا سلمى! وداعا إلى الأبد، وإلى غير لقاء!
سليم
وطوى سليم الكتاب، ثم وضعه في ظرف، ونهض من مقعده وقد شعر بدوار شديد فعاد إلى الاستلقاء في سريره، وأخذ يفكر في وسيلة يرسل بها الكتاب إلى سلمى.
ولبث مستلقيا كذلك حتى الغروب، ثم جاء الخادم فأضاء المصباح وسأله عما يريده من طعام للعشاء ، ولم يكن سليم يشعر بشهية لتناول أي طعام، لكنه طلب قليلا من المرق، ثم تناوله وهو ما زال شاعرا بدوار الحمى وحرارتها، وعاد إلى التمدد في سريره، والتفكير في أمره.
ولاح له أن متاعبه كلها لم تجئ إلا لوجوده غريبا وحيدا في القاهرة حيث خابت آماله في الحب والصداقة ولم يلق في مهنته النجاح الذي كان يرجوه، فأخذ يناجي نفسه قائلا: «آه لو أنني نجوت من هذه الحمى الطاغية القاتلة، إذن لسارعت من هذه البلدة الظالم أهلها، ونقلت مكتبي إلى الإسكندرية، وهناك أجد القلب الذي لا يمكن أن يكن لي إلا المحبة والحنان، قلب والدتي العزيزة!»
وفي منتصف الليل، زايلته الحمى، وشعر بأنه استرد بعض قواه، كما شعر بأن كتابته ذلك الخطاب إلى سلمى قد أزاحت عن صدره جانبا كبيرا من ثقل حيرته وتردده، وما لبث بعد ذلك قليلا حتى أخذه النعاس، فنام لأول مرة منذ مرضه نوما عميقا هادئا لا تتخلله الأحلام المزعجة.
واستيقظ في الصباح وهو أحسن حالا، فارتدى بذلته، ووضع في جيبه الخطاب الذي كتبه إلى سلمى، ثم هبط إلى الشارع وركب عربة مضى بها حتى بلغ أول العطفة المؤدية إلى منزل سلمى، فأمر السائق بالوقوف هناك، وكلفه أن يصعد إلى المنزل ويسأل عن الخادمة العجوز سعيدة ويدعوها إليه.
وبعد قليل جاءت سعيدة، فما كادت عيناها تقعان على سليم وهو جالس في العربة حتى خفت إلى استقباله مرحبة، وقبلت يده متظاهرة بالبشر والحبور لرؤيته. فقال لها: «لي عندك رجاء فهل أنت على استعداد لإجابته؟»
فقالت: «إنني خادمتك المطيعة يا سيدي، ورهن إشارتك في كل ما تطلب، ولو كلفني ذلك حياتي.»
Bilinmeyen sayfa