قال: «سنعين المكان والزمان في فرصة أخرى.»
ثم أخذوا في أحاديث مختلفة، وفيما هم في ذلك سمعوا رنين جرس الدار، ثم دخل حبيب فقاموا جميعا للترحيب به، فسلم عليهم وجلس يشاركهم الحديث، ولما سألوه عن والدته وشقيقته قال: «هما في خير وتهديانكم أزكى السلام، وكان في عزمهما الحضور إلى القاهرة اليوم، ثم آثرتا تأجيل ذلك إلى يوم الجمعة المقبل، لتقضيا معكم بعض الوقت، ثم تتوجهان إلى بيت الخواجة سعيد؛ لأننا تواعدنا مع أسرته على زيارة الأهرام معا، ويا حبذا لو شاركتمونا هذه الزيارة!»
فقال سليم: «الحق أنها زيارة ممتعة، ولئن وافق عمي والأسرة على ذلك لنكونن جميعا من السعداء.»
فاستحسن الجميع ذلك الرأي، وتم الاتفاق على الذهاب إلى الأهرام صباح يوم الجمعة القادم، ثم أخذوا في أحاديث أخرى. •••
كان حبيب وحده من بين الحاضرين يعلم أمر خطبة سلمى لصديقه سليم، وقد كان في قلق عليه منذ وقف على حقيقة حاله مصادفة على ضفة النيل؛ ولذلك سارع بعد خروجه من الديوان إلى زيارته في غرفته بالفندق ليرى ما تم له، فلما لم يجده هناك وعلم أنه ذهب إلى بيت خطيبته، لحق به إليه.
وكان يتوقع أن يرى على وجه صديقه شيئا من علامات الاضطراب، واعتزم أن يعزيه ويسعى في تخفيف كربه، ولكنه شاهده على غير ما كان يتوقع وكأنه لم يكن في شيء مما كان بالأمس، فعجب لتأثير المحبة في قلوب المحبين، وكيف أنها مع ما يخالطها من الأكدار تكون أكبر تعزية لهم! وهكذا خف قلقه على صديقه، ولكنه بقي معتزما مفاتحته في الأمر في فرصة أخرى لعله يستطيع مساعدته بشيء.
ولما حان وقت العشاء نهض حبيب مستأذنا في الانصراف لكي يلحق القطار الذاهب إلى حلوان بعد قليل، فودعوه بمثل ما استقبلوه به من الإعزاز وخرج من هناك إلى المحطة رأسا، مؤجلا المرور ببيت الخواجة سعيد إلى فرصة أخرى.
أما سليم فبقي في بيت خطيبته إلى حوالي الساعة الحادية عشرة، وكانت الساعات تمر مسرعة كالسحاب دون أن يشعر بها لفرط سروره بمجالسة خطيبته واستئناسه بحديثها وإعجابه بكمالها، فضلا عما كانت عليه من الجمال وخفة الروح. ثم ودعهم وخرج وقلبه يود البقاء، ولم ينس قبل خروجه أن يضغط يدها وهو يصافحها مودعا، فضغطت يده بدورها متمنية له السلامة في الذهاب والإياب.
ولم يكد سليم يخرج من البيت حتى عادت إليه هواجسه وأخذ يفكر فيما هو فيه من الارتباك، فانقبض وجهه وقلبه، وما كاد يصل إلى غرفته حتى وجد بطاقة زيارة متروكة له باسم داود سليمان، فأخذه العجب لأنه لا يعرف أحدا بهذا الاسم، ثم دق جرسا أمامه داعيا الخادم، فلما جاءه سأله عمن أتى بتلك البطاقة، فقال: «إن صاحبها أتى لمقابلتك، فلما لم يجدك تركها على أن يعود صباح الغد.»
وبعد أن صرف سليم الخادم، جلس يكتب إلى والدته خطابا يرد به على خطابها، ولكنه كان مشتت الفكر لا يدري ماذا يكتب، فكتب سطرين ثم مزق الورقة وعاد فكتب سطرين آخرين ولم يعرف كيف يعبر عن أفكاره لشدة ارتباكه فمزق هذه الورقة أيضا وأطرق مفكرا وقد أخذ منه الارتباك مأخذا عظيما. وبقي كذلك حينا غير قصير، ثم نهض دون أن يكتب شيئا فبدل ثيابه وتمدد في سريره محاولا النوم. لكنه بقي مسهدا يتقلب في فراشه إلى أن طلع الفجر فغادر الفراش وارتدى ثيابه، ثم أخذ يشغل نفسه ببعض أوراق القضايا التي وكل فيها.
Bilinmeyen sayfa