وهو، من ناحية أبيه، حفيد توماس هنري هكسلي العالم الشهير، وينتمي من ناحية أمه إلى أسرة توماس أرنولد ناظر مدرسة رجبي المعروف في عالم التربية في بلاد الإنجليز. ومن بين أفراد أسرته من كان أستاذا، ومن كان عالما، أو شاعرا، أو روائيا. فهو من بيت علم وأدب، تأثر في نشأته بهذا الوسط الثقافي، وتزود بقسط وافر من المعارف وقدر كبير من الألفاظ المعبرة. ولما كان من الأدباء الموهوبين فقد كانت كتاباته دسمة تنطوي على فكر عميق وأسلوب رائع خلاب.
قاسى كثيرا في طفولته من ضعف بصره الذي كاد أن يفقده ويعيش ضريرا كفيف البصر، وقضى أياما كثيرة وحده في غرفة مظلمة لا يستطيع القراءة ولا تقع عيناه على شيء، فانقلب إلى دخيلة نفسه يفكر ويتأمل. وكان لهذه الفترة من حياته أثرها الكبير في كل ما كتب فيما بعد، بعدما زال عنه خطر العمى الكامل واسترد شيئا من قدرته على الرؤية؛ فهو يميل دائما إلى التفكير المستقل والتأمل الصوفي.
غير أن ما أصابه في عينيه لم يصرفه عن التعلم وإدمان القراءة. وقد بدأ حياته الأدبية شاعرا محتذيا في ذلك حذو أكثر الكتاب من جيله، ولبث شاعرا طوال حياته حتى عندما تحول من التعبير بالكلام المنظوم إلى النثر الفني يكتب به القصص والمقالات. فهو في نثره ينضح من الوجدان أكثر مما يبني على العقل والمنطق، يحلق في الخيال ويستخدم الطريف من التشبيه والاستعارة والكناية.
ولما أتم تعليمه الجامعي في أكسفورد رحل إلى لندن واشتغل بالصحافة، يكتب المقالات والقصص القصيرة.
ثم شرع بعد ذلك يكتب الروايات الطويلة متأثرا بمنهج الكاتب الروائي توماس بيكوك الذي عاش في القرن التاسع عشر، واشتهر بسعة الاطلاع وروح التهكم والخيال الجامح. وأخرج هكسلي العديد من الروايات التي اتخذ منها وسيلة لبث كثير من آرائه التي بشر بها.
وهو كاتب متنوع المواهب متنوع الموضوعات. يقول عنه أخوه العالم جوليان إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية حينما يقوم برحلة طويلة أو يطوف حول العالم، ولكنه - على الرغم من عمق ثقافته وغزارة علمه - لم يقصر نفسه على مجرد التفكير، بل كان يمارس كثيرا من الأعمال ويعاشر الكثير من الرجال، وكانت حياته الاجتماعية خصبة تمده بكثير من التجارب والخبرات.
يقول في إحدى قصصه التي كتبها في باكورة حياته الأدبية:
أكثر الناس يقبل على معركة الحياة يخوضها بآراء مسبقة عن كل شيء وله فلسفة جاهزة يحاول أن يخضع لها أمور هذه الدنيا بأسرها. وهذا وضع مقلوب، والصحيح هو أن يمارس المرء حياته أولا، ثم يحاول بعد الخبرة أن يصوغ فلسفته وآراءه التي تتفق مع الحياة كما عرفها.
وعلى هذا النهج سار هكسلي في حياته؛ يمارس العمل ويكتسب الخبرة قبل أن يصوغ الرأي، لا تكبله قيود المبادئ والأصول والتقاليد الموروثة؛ ومن أجل هذا كان ثائرا على المألوف. وكانت له آراء عجيبة لا يسيغها المجتمع، ولكنه وضع حريته في الرأي فوق استرضاء الجماهير.
وشغل نفسه طوال حياته بالعلاقة بين العلم والمجتمع، فكتب روايته الشهيرة «العالم الطريف» التي سبق لي أن نقلتها إلى اللغة العربية. وفي هذه الرواية عبر هكسلي عن خوفه من سيطرة العلم سيطرة كاملة على حياة الناس، وأشفق على المجتمع البشري من المغالاة في تطبيق العلم إلى الحد الذي تنتفي معه في حياته العاطفة والشعر وتقدير الجمال.
Bilinmeyen sayfa