103

قال الدكتور ماك فيل: لا ليست سادية محضة، إنما هي سادية تطبيقية، سادية بواعثها عميقة، هي سادية في سبيل مثل أعلى معين، وهي تعبير عن عقيدة دينية معينة. ثم التفت إلى ويل وأضاف إلى ذلك قوله: وهذا موضوع لا بد أن يقوم أحد بدراسته دراسة عميقة تاريخية؛ أعني العلاقة بين اللاهوت وعقوبة الأطفال بدنيا. عندي نظرية مؤداها أن البلاد التي يجلد فيها البنون والبنات بطريقة نظامية تنشأ فيه ضحايا التعذيب على تصور الله بأنه هو «الآخر الكامل»؛ أليست هذه هي اللغة التي تتحدثونها في ذلك الجزء من العالم الذي تسكنونه؟ في حين - على عكس ذلك - أن الأطفال الذين ينشئون دون أن يتعرضوا للقسوة البدنية يرون أن الله موجود في كل الوجود. إن العقيدة الدينية لشعب من الشعوب تعكس مدى تعرض أطفاله للعقوبة البدنية. انظر إلى العبرانيين؛ وهم شعب يضرب أطفاله في حماسة شديدة، وكذلك كان كل المسيحيين الطيبين في عهود الإيمان. من هنا كانت فكرة يهوه، والخطيئة الأولى والآب الذي أخطأ الإنسان في حقه خطأ شنيعا في العقيدة الأصيلة الرومانية والبروتستانتية. في حين أن التربية عند الهندوس والبوذيين اتسمت دائما بعدم العنف، انعدمت عندهم العقوبات البدنية؛ ومن ثم كانت عقيدتهم في أن المرء هو كذلك «روحه من الروح الأعلى». ثم انظر إلى الصاحبيين (الكويكرز)، لقد عدوهم من الزنادقة لأنهم آمنوا «بالضوء الباطني»، فماذا حدث؟ تخلوا عن ضرب الأطفال، وكانوا أول طائفة مسيحية احتجت على نظام الرق.

واعترض على ذلك ويل بقوله: إن ضرب الأطفال لم يعد شائعا في هذه الأيام، ومع ذلك ففي هذه الآونة نفسها أمست الإباحة بفكرة «الآخر الكامل» هي من الفكر المتقدم الحديث.

وفند الدكتور ماك فيل هذا الاعتراض وقال: ليس ذلك إلا من قبيل رد الفعل بعد الفعل. ببلوغ النصف الثاني من القرن التاسع عشر اشتدت حركة الإنسانيين المتحررين في أفكارهم حتى تأثر بها المسيحيون الطيبون أنفسهم فكفوا عن ضرب الأطفال ولم تعد للضرب آثاره في أجسام الأطفال؛ ولذلك لم يعد هؤلاء الأطفال يرون الله «الآخر الكامل» وأخذ الجيل الجديد يخلق «الفكر الجديد»، و«الوحدانية»، و«العلم النصراني»؛

4

وكلها بدع شبه شرقية الله فيها يتطابق مع الإنسان تطابقا كاملا. وسارت هذه الحركة شوطا بعيدا على عهد وليام جيمس، ثم أخذت تقوى بعد ذلك. غير أن الفكرة دائما تثير نقيضها، وبمرور الأيام ولدت هذه البدع الأرثوذكسية الجديدة، التي قضت على التطابق الكامل بين الله والإنسان وعادت إلى فكرة «الآخر الكامل»! وكانت العودة إلى أوغسطين ومارتن لوثر. وبعبارة موجزة: العودة إلى أشد ما عرف الإنسان في تاريخه كله من الإيذاء البدني بغير هوادة. اقرأ «الاعترافات» واقرأ «حديث المائدة». وكان أوغسطين يتلقى الضرب من معلمه والسخرية من أبويه إذا هو شكا. وتعرض لوثر للضرب المستمر ليس فقط من معلميه ومن أبيه، بل حتى من أمه التي تحبه. ودفع العالم ثمن هذا الضرب المبرح منذ ذلك الحين. ولولا لوثر وعقيدته الدينية التي صاحبها الضرب ما ظهرت في الوجود فظائع البروسية والرايخ الثالث. ثم خذ عقيدة أوغسطين القائمة على القسوة البدنية، والتي بلغت مع كالفين نتيجتها المنطقية واتبعتها برمتها عامة الناس من أمثال جيمس ماك فيل وجانيت كاميرون. القضية الكبرى: الله منفصل عنا تماما، والقضية الصغرى: الإنسان فاسق فسقا كاملا. النتيجة: اضرب أبناءك كما ضربت، وافعل بهم ما فعله أبونا الذي في السماء بجسد الإنسانية جمعاء منذ سقوط الإنسان: الجلد بالسياط بغير هوادة!

ثم سادت فترة من الصمت. وتطلع ويل فارنبي مرة أخرى إلى رسم ذلك الشخص الصخري في مصنع الحبال، وطافت بذهنه كل الصور الخيالية البشعة القبيحة التي ارتفعت إلى مستوى الأمور الخارقة للطبيعة، وكل القساوات الدنيئة التي أوحت بها تلك الصور الخيالية، وكل الآلام التي فرضت على الناس وأسباب الشقاء التي تحملوها بسببها. إذا لم يكن أوغسطين بقسوته المحتملة كان روبسبيير، أو استالين. وإذا لم يكن لوثر يحض الأمراء على قتل الفلاحين كان ماو المعتدل الذي يهبط بهم إلى مستوى العبودية.

وسأله ويل: ألا يصيبك اليأس أحيانا؟

وهز ماك فيل رأسه وقال: نحن لا نيأس لأننا نعلم بأن الأمور لا يتحتم بالضرورة أن تكون سيئة كما كانت دائما في الواقع.

وأضافت سوزيلا: نعلم أنه من الممكن أن يكون أفضل كثيرا. نعلم ذلك لأنها بالفعل أفضل، الآن، وفي هذا المكان، فوق هذه الجزيرة غير المعقولة.

قال الدكتور ماك فيل: ولكن هل سنستطيع أن نغريكم أيها القوم لكي تحذوا حذونا، أو هل حتى أن نحافظ على واحتنا الإنسانية الصغيرة هذه وسط بيدائكم الفسيحة التي تسكنها القردة؛ هذا للأسف أمر آخر. ولعل لدينا ما يبرر الشعور بالتشاؤم الشديد فيما يتعلق بالموقف الحالي، أما اليأس، اليأس المطلق، فأنا لا أرى البتة أي مبرر له. - حتى وأنت تقرأ التاريخ؟ - حتى وأنا أقرأ التاريخ. - إني أحسدكم. وكيف استطعتم ذلك؟ - بتذكرنا حقيقة التاريخ؛ إنه سجل لما أكره البشر على فعله من جهلهم، وهو الغرور الأحمق الشديد الذي يجعلهم يقننون جهالتهم لتكون عقيدة سياسية أو دينية.

Bilinmeyen sayfa