[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
اختلف فى البسملة هل هى من خصوصيات هذه الأمة أو كانت للأمم قبلها! فنقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله افتتح كل كتاب بها، وهذه دعوى لم تعضدها حجة إذ صحة الإجماع متوقفة على ثبوت نقله، وذهب آخرون إلى أنها من خصوصيات هذه الأمة، واحتج له الألوسي بما لا طائل تحته والعجب من هؤلاء كيف يغفلون عن كتاب سليمان الذي صدر بها، وقد حكاه الله فى سورة النمل، أما كونها من القرآن الكريم فهو مما أجمع عليه لعدم الاختلاف فى كونها جزء آية من سورة النمل، وقد أخطأ من نسب إلى أبي حنيفة وغيره القول بأنها ليست من القرآن أصلا، وممن وقع فى هذه العثرة أبو السعود فى تفسيره ومنشأ الخطأ التباس نفى كونها آية من الفاتحة ومن كل سورة صدرت بها بنفى قرآنيتها مطلقا على أن كتابتها فى صدر السور إلا سورة براءة فى المصحف الإمام بإجماع الصحابة (رضى الله تعالى عنهم) وتناقل الأمة لذلك جيلا بعد جيل حجة قاطعة لا تدع مجالا للريب فى أنها آية من كل السور التي صدرت بها كيف والصحابة (رضى الله عنهم) كانوا أشد ما يكونون حرصا على تجريد القرآن الكريم فى كتابته فى المصاحف من كل ما ليس منه. ولذلك جردوا مصاحفهم من عناوين السور فليس من المعقول أن يزيدوا فى مائة وثلاث عشرة سورة ما ليس منها، وهذه المسألة قد كثر فيها الأخذ والرد حتى أن جماعة من العلماء أفردوا لها مؤلفات خاصة، وخلاصة ما فيها أنهم اختلفوا فيها مع إجماعهم أنها جزء آية من سورة النمل، فذهب إلى إنها آية من كل سورة صدرت بها من علماء السلف من أهل مكة، فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير وأهل الكوفة ومنهم القارئان المشهوران عاصم والكسائي، وعزى إلى على وابن عباس وابن عمر وأبى هريرة من الصحابة، وإلى سعيد بن جبير وعطاء الزهرى وابن مبارك من التابعين وهو مذهبنا ومذهب الشافعى فى الجديد وعليه أصحابه، ونسب إلى الثورى وأحمد فى أحد قوليه وعليه الإمامية، وذهب جماعة إلى أنها آية مفردة أنزلت للفصل بين السور وليست من الفاتحة ولا من غيرها ما عدا سورة النمل وهو الذى عليه مالك وغيره من علماء المدينة والأوزاعى وجماعة من علماء الشام ويعقوب من قراءة البصرة، وعليه الحنفية، وذهب فريق آخر إلى أنها ليست آية مطلقا من هذه السور ولم تنزل للفصل بينها وإنما هى جزء آية من سورة النمل ونسب هذا القول إلى ابن مسعود وهو رأى لبعض الحنفية، وقال حمزة من قراء الكوفة إنها آية من الفاتحة دون غيرها وهو رواية عن أحمد، وتوجد أقوال أخرى هى إلى الشذوذ أقرب منها أنها بعض آية من جميع السور، ومنها أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور ومنها عكس ذلك، وهذا الاختلاف استتبع الاختلاف فى قراءتها في الصلاة، وفى الجهر والإسرار بها كما سنوضحه إن شاء الله، وحجة القول الأول ما ذكرناه من إجماع الصحابة واستقراء العمل على كتابتها فى صدر كل سورة إلا سورة التوبة، والكتابة حجه معتبرة عند جميع شعوب العالم والمدينة فى العصر الحديث بل الكتابة الرسمية أقوى ما يعتمد عليه عندهم كما جاء ذلك في المنار وقد كانت كتابتها فى المصحف الإمام الذي وزعت نسخة فى الأمصار بأمر الخليفة الثالث وعلى مسمع ومرأى من سادات المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولم ينكر ذلك أحد منهم وقد كانوا أحذر ما يكونون عن إضافة أى شىء إلى القرآن مما ليس منه، وتوالت من بعدهم أجيال هذه الأمة وكلها مطبقة على كتابتها فى صدر السور وعلى تلاوتها مع القرآن وإن كان منهم من يزعم أنها آية أنزلت بانفراد للفصل بين السور ولا يؤثر هذا الزعم فى الإجماع العملى، ولو أن الناس أنصفوا لكفتهم هذه الحجة عن غيرها ولما أخذوا بالروايات الآحادية الظنية فى مقابل هذه الحجة المتواترة القطعية ولكنهم عولوا على الروايات فسلكوا طرائق قددا
كل حزب بما لديهم فرحون
[المؤمنون: 53] وأصرح ما اعتمدوا عليه من الروايات حديث أبى هريرة رضى الله عنه عند الربيع وأحمد ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قال الله عز وجل قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدنى عبدى، فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدى، فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدنى عبدى، وقال مرة فوض إلى عبدى، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل "
ووجه استدلالهم بالحديث لعدم ذكر البسملة، قالوا لو كانت من الفاتحة لذكرت فى الحديث، وهو كما ترى استدلال سلبي فى مقابلة الإيجابي القطعي المتواتر وهو إجماع الجميع على كتابتها وتلاوتها فى الفاتحة وغيرها من سور القرآن وأين هذه الحجة السلبية الخفية التي تحمل ضروبا من التأويل من تلك الحجة القطعية الظاهرة التى لا يمكن تأويلها بحال؟ ويكفيك دلالة على ضعف هذه الحجة أن الحديث لم يذكر قسمة الفاتحة بل ذكر قسمة الصلاة والصلاة تشتمل على أذكار وأفعال متعددة وعلى قراءة من غير الفاتحة، وكل هذه الأشياء لم تذكر فى القسمة الواردة فى الحديث، وإنما ذكرت الفاتحة وحدها، بل ذكر منها ما لا يشاركها فيه غيرها من السور، والبسملة قد اشتركت فيها السور كلها ما عدا براءة، وثم جواب آخر هو أن ما فى البسملة من الثناء على الله بوصفه بالرحمة مكرر فى الفاتحة ومذكور فى القسمة فلا يقوى الاستدلال السلبى الذى اعتمدوا عليه على معارضة القطعى، هذا لو سلمت المعارضة بين الحديث وما تدل عليه كتابة الفاتحة فى البسملة وغيرها، وقد علمت أن ليست ثم معارضة، وفى هذا يقول السيد محمد رشيد رضا: " إذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات، فمخالفة القطعى من القرآن للتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه، على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة " ، وللإمام الفخر فى تفسيره الكبير " مفاتيح الغيب " اعترض على استدلالهم بهذا الحديث بما جاء من ذكر البسملة فى بعض طرقه، فقد أخرج الثعلبى بإسناده عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين، فإذا قال العبد. بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله سبحانه مجدنى عبدى، وإذا قال الحمد لله رب العالمين، قال الله تبارك وتعالى حمدنى عبدى، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: أثنى علي عبدى، وإذا قال مالك يوم الدين، قال الله: فوض إلي عبدى،...إلخ "
وتابعه الإمام العلامة أبو مسلم فى نثاره غير أنا لعدم اطلاعنا على إسناد هذا الحديث عند الثعلبى، وعدم معرفتنا بصحته لا نستطيع الاعتماد عليه، ونكتفى بما أسلفنا ذكره فى الإجابة على استدلالهم.
ومما اعتمدوا عليه حديث أبى هريرة عند أحمد وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك "
ووجه الاستدلال أن سورة الملك هى ثلالون آية دون البسملة، وأجيب بأن البسملة لم تعد من السورة للإشتراك فيها بينها وبين غيرها، والمراد بالثلاثين آية الآيات الخاصة بالسورة ويدل على ذلك ما روى عن أبى هريرة أيضا أن سورة الكوثر ثلاث آيات مع أن أحمد ومسلما والنسائى أخرجوا من حديث أنس (رضى الله عنه) قال:
" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فى المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله فقال: " نزلت علي آنفا سورة " فقرأ: { بسم الله الرحمن الرحيم. إنآ أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } [سورة الكوثر] "
وهذا الحديث دلالته على أن البسملة من سورة الكوثر واضحه مع أنها لم تعد من آياتها لما ذكر، فكونها آية من سورة الفاتحة أولى وهو أصح من حديث أبى هريرة فى سورة الملك لأن البخارى أعله بأن عباس الجشمى راويه لا يعرف سماعه عن أبى هريرة، وتعلقوا بأحاديث عدم الجهر بالبسملة المروية عن أنس بن مالك قال: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد ومسلم، وفى لفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد والنسائى على شرط الصحيح، وأخرجه ابن حبان والدارقطنى والطحاوى والطبرانى وفى لفظ لابن خزيمة " كانوا يسرون " ولأحمد ومسلم رواية أخرى بلفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا فى آخرها " ولعبد الله بن أحمد فى مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس " صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبى بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم " قال شعبة فقلت لقتادة أنت سمعته من أنس؟ قال نعم نحن سألناه عنه، وللنسائى عن منصور بن زادان عن أنس قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما " وأنت ترى هذه الروايات عن أنس لا تخلو من اضطراب فتجدها تارة نافية لقراءة البسملة وتارة نافية للجهر بها وأخرى نافية لسماعها، ومثل هذا الاختلاف لا تنهض به حجة كما صرح بذلك ابن عبد البر فى (الاستذكار) وهو من أجل أئمة المالكية، والمالكيون لا يرون قراءة البسملة في الصلاة فضلا عن الجهر بها، وهذه المسألة أى مسألة الإسرار والجهر بالبسملة أو تركها رأسا مما وقع فيه الخلاف واضطربت فيه الروايات عن الصحابة والتابعين فنجد الصحابي يروى عنه الجهر والإسرار بها ولم نجد أحدا من الصحابة روي عنه الإسرار وحده إلا ابن مسعود رضي الله عنه، وممن روي الجهر بها عنهم في حال الجهر بالقراءة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن الزبير وابن عباس وعمار بن ياسر، وأبى بن كعب وأبو قتادة والسعيد وأنس وعبد الله بن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي ومعاوية، وذكر الشوكانى في (نيل الأوطار) عن الخطيب أن من قال بالجهر بها من التابعين أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا منهم سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين وعكرمة وعلى بن الحسين وابنه محمد بن على وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن كعب ونافع مولى ابن عمر وأبو الشعثاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول وحبيب بن أبي ثابت والزهرى وأبو قلابة وعلى بن عبد الله بن عباس وابنه والأزرق بن قيس وعبد الله بن معقل بن مقرن، وممن بعد التابعين عبيد الله العمرى والحسن بن زيد وزيد بن على ابن الحسين ومحمد بن عمر بن علي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه، وزاد البيهقي في التابعين عبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية وسليمان التيمى، ومن تابعيهم المعتمد ابن سليمان، وذكر البيهقى في الخلافيات أنه اجتمع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ويؤيده ما جاء في كتب العترة وهو الذى عليه الشافعى وأصحابه واتفق عليه أصحابنا، وذكر الخطيب عن عكرمة أنه كان لا يصلى خلف من لا يجهر بالبسملة، ويرى جماعة من العلماء الإسرار بها وهو المعمول به عند الحنفية والحنابلة، وقد روى عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، ومالك لا يرى قراءتها سرا ولا جهرا ونقل عنه قراءتها فى النوافل فى فاتحة الكتاب وسائر القران، ومنهم من يرى جواز الجهر والإسرار بها حكاه القاضى أبو الطيب الطبرى عن ابن أبى ليلى، وإذا تدبرت مجموع الروايات استطعت أن تستخلص منها صحة القول بالجهر، فقد أخرج الإمام الشافعى بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال صلى معاوية بالناس فى المدينة صلاة جهر فيها بالقراءة، فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر فى الخفض والرفع فلما فرغ ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية نقصت الصلاة - وفي رواية سرفت الصلاة - أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر.
والحديث صحيح الإسناد كما أوضح العلامة المحدث أحمد محمد شاكر في شرحه وتحقيقه لسنن الترمذى، وأخرجه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم. فأت ترى كيف اجتمعت كلمة المهاجرين والأنصار على إنكار عدم الجهر بالبسملة على معاوية بن أبى سفيان مع شدة بطشه وقوة شكيمته وليس ذلك إلا لتركه واجبا لا يصح التساهل فيه، والحديث ظاهر في أن العمل عند الصحابة رضي الله عنهم قد استقر على الجهر بالبسملة وإلا فكيف يعرفون أن لم يقرأها رأسا ولو كانت مما يخفت في الصلاة وفي هذا الحديث ما يرد على دعوى ابن العربى والقرطبى فى انتصارهما لمذهبهما المالكي في عدم قراءة البسملة في الصلاة بأن ذلك قد استقر عليه العمل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلا بعد جيل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك ولعمرى إن هذه الدعوى لبعيدة المنال، فإن حادثة المهاجرين والأنصار مع معاوية كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يبعد أن تكون في مسجده الشريف، فمن أين لابن العربي والقرطبى استقرار العمل في المسجد النبوى على عدم قراءتها.
هذا وقد حاول جماعة الجمع بين روايات أنس المختلفة بأن المقصود من قوله " كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم " عدم جهرهم بها كما صرح بذلك في رواية " كانوا لا يجهرون " ، وأن المقصود بقوله " كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين " الاستفتاح بهذه السورة بما فيها البسملة على أن أنسا رضي الله عنه قد روى عنه عدم حفظه لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدار قطنى وصححه عن أبى سلمه قال: - سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو " ببسم الله الرحمن الرحيم "؟ فقال: إنك سألتنى عن شيء ما أحفظه، وما سألني عنه أحد قبلك، فقلت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين؟ قال نعم، وذكر الشوكاني في " نيل الأوطار " أن عروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر، فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات - قال: وكان صيتا يملأ صوته الجامع - فاختلفوا في ذلك، فقال بعضهم يجهر وقال بعضهم يخفت، وعقب على ذلك السيد محمد رشيد رضا في " المنار " بأن اختلاف هؤلاء المصلين لم يكن في صلاة واحدة بل في جميع الصلوات ورد ذلك إلى الغفلة والناس عرضة لها لا سيما الغفلة عن أول الصلاة وعلل ذلك باشتغال الناس عن مراقبة قراءة الإمام بالدخول في الصلاة وقراءة دعاء الافتتاح وحمل عليه روايات أنس في عدم الجهر بالبسملة أو عدم سماعها، إذ يرى السيد رشيد رضا مرد ذلك إلى بعد أنس عن الصفوف القريبة من الإمام واشتغاله بدعاء الافتتاح والإحرام فلذلك لم يسمع البسملة من الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الثلاثة مع أنه من العادة أن يكون صوت القارىء خافتا في أول القراءة، ورأى كل من الحافظ ابن حجر والشوكانى أن الرواية إثبات الجهر إذا وجدت قدمت على نفيه، لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافى كما هي القاعدة، لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان فلا يسمع منهم الجهر فى صلاة واحدة بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه إلا الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا فلم يستحضر الجهر بالبسملة فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر وهما يشيران بهذا إلى سؤال أبي سلمة بن مالك عما كان رسول الله يستفتح به قراءته وقد سلف ذكره، وأنس بن مالك هو نفسه الذى روى قصة المهاجرين والأنصار مع معاوية وإنكارهم عليه عدم قراءته البسملة الذى استدلوا عليه بعدم جهره بها
وروى البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم، وهو واضح في جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبسملة.
ومما تعلق به القائلون بعدم كونها آية من الفاتحة حديث عبد الله ابن مغفل عند الخمسة إلا أبا داود قال سمعني أبى وأن أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال يا بني إياك والحدث - قال ولم أر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كان أبغض إليه الحدث في الإسلام منه - فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت فقل الحمد لله رب العالمين.. والحديث معلول بعبدالله بن مغفل فإنه مجهول لا يعرف ولم يرو عنه إلا أبو نعامة وإن صح فهو محمول على ما حملت عليه أحاديث أنس.
الدليل على كون البسملة من الفاتحة: -
أما أدلة إثبات كون البسملة من الفاتحة، وإثبات الجهر بها فكثيرة قد تقدم ذكر بعضها من رواية أنس رضى الله عنه نفسه، وذكر الفخر الرازى في تفسيره لذلك سبع عشرة حجة منها القوي ومنها الضعيف، وتابعه على الاستدلال بها العلامة أبو مسلم في نثاره وحاول العلامة الألوسي نقض هذه الحجج حجة حجة انتصارا لمذهبه الجديد الذى انتقل إليه، وابدى السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المنار استغرابه الشديد من صنيع الألوسي الذى حاول بكل وسيلة هدم الحجج الشامخة البنيان، المتينة الأركان من غير داع لذلك إلا التعصب المذهبي، على أن الألوسي نفسه كان من قبل شافعي المذهب ولكنه اتبع مذهب الأحناف تقربا إلى الدولة العثمانية حسبما يقول السيد رشيد رضا ، وسوف أورد (إن شاء الله) بعض هذه الحجج التي أراها صالحة للاحتجاج بها، وأذكر صورة من محاولة الألوسي لنقضها كما اضم إليها بعض الحجج الأخرى.
منها حديث أبي هريرة الذى أخرجه الطبرانى وابن مردويه والبيهقي بلفظ " الحمد لله رب العالمين سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن وهى السبع المثانى والقرآن العظيم وهى أم القرآن، وهى فاتحة الكتاب " وأخرجه الدارقطنى بلفظ " إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم أنها أم القرآن وام الكتاب والسبع المثانى وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " والحديث واضح في أن البسملة من الفاتحة، ولكن الألوسي حاول قلب هذه الدلالة الواضحة فقال ما معناه إن المراد من الرواية الأولى أن الحمد لله رب العالمين إلى آخرها سبع آيات كما يقول الحنفية، وقوله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن " أراد به إزالة توهم كونها ليست من القرآن لعدم تعرضه لها، وقد جاءت عبارته بأسلوب التشبيه البليغ ومراده أنها كإحدى آياتها في كونها من القرآن، وكذلك قوله في الرواية الأخرى " وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " وأنت ترى أن في هذا الكلام صرفا للعبارة عن ظاهرها وخروجا بالحديث عن دلالته الواضحه فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد التأكيد على أن البسملة من الفاتحة، وقوله { الحمد لله رب العالمين } علم على هذه السورة، فما الذى يدعو إلى زعم أن البسملة ليست بآية منها مع هذا التصريح في كلامه عليه أفضل الصلاة والسلام بأنها إحدى آياتها، وما الداعي لتقدير أداة التشبيه، ولو كان المراد التشبيه لذكرت أداته لدفع اللبس فإن حذفها لا يكون إلا مع الأمن منه، وفي هذا ما يكفي المستفيد دلالة على طريقة الألوسي في الرد على خصمه الرازى في هذه المسألة.
ومنها ما رواه الشافعي عن ابن جريح عن أبي مليكه عن أم سلمة أنها قالت:
" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية، { الحمد لله رب العالمين } آية، { الرحمن الرحيم } آية، { مالك يوم الدين } آية، { إياك نعبد وإياك نستعين } آية، { اهدنا الصراط المستقيم } آية، { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } آية "
وهذا نص صريح، وجاء هذا الحديث عند أحمد وأبي داود بلفظ:
" سئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كان يقطع قراءته آية آية، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، "
وفي لفظ ابن الأنباري والبيهقي:
" كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية، يقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف، ثم يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف، ثم يقول مالك يوم الدين "
وفي رواية الدار قطني عن ابن أبي مليكه عن أم سلمة رضى الله عنها أيضا
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقطعها آية آية، وعدها عد الأعراب، وعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية، ولم يعد { عليهم } "
قال اليعمرى: رواته موثقون، وأخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم، وفي إسناده عمر بن هارون البلخى: ضعفه الحافظ لكنه وثق عند غيره، وغاية ما تشبث به الألوسي في الاعتراض على هذا الدليل أمران أحدهما عدم ثبوت سماع أبي مليكه عن أم سلمه رضي الله عنها، ثانيهما أن غاية ما في الروايات قراءة النبي صلى الله عليه وسلم البسملة مع الفاتحة وهو دليل قرآنيتها لا دليل كونها من الفاتحة والجواب عن الاعتراض الأول بأن الذين أعلوا الحديث بالانقطاع كالطحاوى استدلوا برواية الليث عن ابن أبى مليكه عن يعلى بن مالك عن أم سلمه، ورد عليهم الحافظ بأن هذا الذى أعل به ليس بعله فقد رواه الترمذى من طريق ابن أبى مليكه عن أم سلمة بلا واسطة وصححه ورجحه على الإسناد الذى فيه يعلى بن مملك، ويريد الحافظ بذلك رواية الترمذى للحديث وتصحيحه له في باب فضائل القرآن مع العلم أن الترمذى ذكر في باب القراءة أن إسناده ليس بمتصل، ولعل التصحيح لأجل الاتصال وعدم التصحيح في الرواية غير المتصلة كما يقول الشوكاني في " نيل الأوطار ".
والجواب عن الاعتراض الثاني أن دعوى كون البسملة آية من القرآن بانفراد ليست من الفاتحة محتاجة إلى دليل، إذ لو كانت كذلك لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومداومته قراءتها مع الفاتحة باستمرار من غير أن يبين للناس استقلالها عنها دليل على أنها جزء منها، وهذه الروايات عن أم سلمة تدل على جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالبسملة وإلا فمن أين لها أن تصف قراءته لها لو أنه كان يخفيها؟.
ومنها حديث أبي هريرة عند النسائي قال نعيم المجمر صليت وراء أبي هريرة فقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ثم قرأ بأم القرآن - وفيه - ويقول إذا سلم: والذى نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم، وقال البيهقي صحيح الإسناد وله شواهد وقال أبو بكر الخطيب فيه ثابت صحيح لا يتوجه إليه تعليل.
ومنها حديث أبي هريرة أيضا عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الدارقطني رجال إسناده كلهم ثقات، وقال الشوكاني إن في إسناده عبد الله بن عبد الله الأصبحي، روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه.
ومنها حديث علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته.
أخرجه الدارقطني وقال هذا إسناد علوى لا بأس به، وهو وإن أعله الحافظ بأنه بين ضعيف ومجهول يعتضد بالروايات الأخرى التي في معناه، على أن الدارقطني أخرج عنه بإسناد رجاله كلهم ثقات أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين قيل إنما هي ست فقال بسم الله الرحمن الرحيم.. وأخرج الدارقطني عنه وعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو مع ضعف إسناده يعتضد متنه ببقية المتون.
ومنها حديث سمره قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان. سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وسكتة إذا فرغ من القراءة.. فأنكر ذلك عمران بن الحصين فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمره. أخرجه الدارقطني بإسناد جيد ولا ينافيه ما أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما عنه بلفظ سكتة حين يفتتح، وسكتة إذا فرغ من السورة لأن المبين مقدم على المجمل.
ومنها حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. أخرجه الحاكم وقال رواته كلهم ثقات. وأخرجه الدارقطني عنه بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وله طريق أخرى عن أنس عند الدارقطني والحاكم بمعناه. ونحوه عن عائشة رضى الله تعالى عنها من طرق يشد بعضها بعضا.
ومن العجيب أن يزعم القرطبي أن هذه الروايات ليست فيها حجة لأنها آحادية والقرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه، وقد فات القرطبي أن هذه الروايات إنما هي حجة تثبت كيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وتؤكد من ناحية أخرى حجية قرآنيتها، وكونها جزءا من سورة الفاتحة، أما أصل ثبوت قرآنيتها وكونها من الفاتحة فمن النقل للتواتر لها في المصاحف التي نقلتها هذه الأمة جيلا بعد جيل مجمعة على صحتها ولو كان ثبوت قرآنية البسملة متوقفا على تواتر أحاديث تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم تنص على أنها من الفاتحة أو من القرآن لتوقف ثبوت قرآنية أية آية من أية سورة على مثل ذلك وأني لأحد بذلك؟ وإنما ثبتت قرآنية البسملة بنفس ما ثبتت به قرآنية بقية الآيات وهو إثباتها في المصحف الإمام بإجماع الصحابة رضى الله عنهم، وتواتر النقل جيلا بعد جيل لكل ما اشتمل عليه ذلك المصحف من سور وآيات بما في ذلك البسملة، وأعجب من كلام القرطبي قول ابن العربي: " ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها والقرآن لا يختلف فيه، وهو مقال في منتهى الخطورة لمصادمته الإجماع القطعي، فإن البسملة مجمع على أنها جزء آية من سورة النمل، ولا يصح سلب شيء من سور القرآن صفة القرآنية بحال، ولو جاز ذلك لجاز أن تسلب آية الكرسي أو غيرها صفة القرآنية في بعض المواضع.
ولعل من أحسن ما قيل في هذا الموضوع ما قاله السيد محمد رشيد رضا في تفسيره " المنار ": إن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوى، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جدا جدا، وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإمام القطعي المتواتر، والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات آحادية أو بنظريات جدلية، وأصحاب الجدل يجمعون بين الخث والسمين، وبين الضدين والنقيضين، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره وربما يظهر عليه المبطل بخلابته إذا كان الحن بحجته " وهو كلام نفيس جدا، وقد قال قبله: " ولا يغرن أحدا قول العلماء إن منكر كون البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يكفر، فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبهة المعارضة التي تقدمت وبينا ضعفها وسنزيده بيانا والشبهة تدر أحد الرده " وأنكر على الألوسي دعواه أن ثبوت البسملة بخط المصحف المتواتر دليل على كونها من القرآن دون كونها من الفاتحة وقال: هو من تمحل الجدل فلا معنى لكونها آية مستقلة في القرآن ألحقت بسوره كلها إلا واحدة وليست في شيء منها ولا في فاتحتها التي اقتدوا بها في بدء كتبهم كلها، إنه لقول واه تبطله عباداتهم وسيرتهم، وينبذه ذوقهم لولا فتنة الروايات والتقليد. فتعارض الروايات اغتربه أفراد مستقلون، وبالتقليد فتن كثيرون " ولله في خلقه شئون " وابدى السيد رشيد رضا استغرابه من اضطراب الألوسي في هذه المسألة، فقد حكم وجدانه، واستفتى قلبه في بعض فروعها فأفتاه بوجوب قراءة الفاتحة والبسملة في الصلاة وخالفه في كونها آية منها، وقال لا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها، فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول، وإن أمكنني بفضل الله توجيهه، كيف وكتب الحديث ملأى بما يدل على خلافه وهو الذي صح عندي عن الإمام - يعني إمامه أبا حنيفة - وأبدى الألوسي استشكالا في حاشيته على تفسيره ووصفه بأنه إشكال كالجبل العظيم، وأجاب عنه بما لا يروي من ظمأ ولا يشبع من مسغبه، ووجه الإشكال أن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفي به، فكيف يمكن الجمع بين إثبات المثبتين ونفي النافعين للبسملة، وحكى إجابة ارتضاها عن هذا الإشكال ملخصها أن حكم البسملة كحكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة، فهي قطعية الإثبات والنفي معا، ولهذا اختلف القراء فأثبتها بعض وأسقطها آخرون وإن اجتمعت المصاحف على الإثبات ومثل لذلك بالصراط ومصيطر فقد قرءا بالسين ولم يكتبا إلا بالصاد، وبقوله تعالى:
وما هو على الغيب بضنين
[سورة التكوير: 24] فإنه كتب بالضاد وقرىء بها وبالظاء، وأطال السيد محمد رشيد رضا في الرد عليه وتفنيد كلامه ومما قاله " إن الإشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم هو في نفسه صغير حقير، ضئيل قميء، خفي كالذرة من الهباء، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض أو كالعدم المحض، ثم أخذ يجيب عن الإشكال الذي فرضه الألوسي وملخص جوابه أنه لم ينف أحد من القراء كون البسملة من الفاتحة نفيا صريحا تعضده رواية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كل ما يتعلق به النافون شبهة عدم رواية بعض القراء لها وشبهة تعارض الروايات الآحادية السالفة الذكر، وثبوتها قطعي بالروايات المتواترة تواتر سائر آيات الفاتحة، وعدم نقل الإثبات للشيء ليس نفيا له رواية ولا دراية، وقد فرق العلماء بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه كما هو معلوم بالضرورة، ولو فرض أنه روى التصريح بالنفي لكان الواجب الجزم ببطلان هذه الرواية، ومنشؤه التباس نفي الإثبات بإثبات النفي لاستحالة كون المتناقضين قطعيين معا، ورواية الإثبات لا يمكن فيها الطعن، كيف وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من الروايات القولية، وأعصى على التأويل والاحتمال، ثم رد السيد محمد رشيد رضا على القائلين بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة، وملخص رده أنه مجرد رأي أريد به الجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة، والجمع بغيره مما لا إشكال فيه ممكن، فلو كان المراد بها الفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة وهي أول القرآن ترتيبا، ولم تحذف من أول براءة لوجود العلة المقتضية للإثبات، ثم تعقب الجواب الذي نقله الألوسي وقال: لا يستغرب صدوره ولا إقراره ممن يثبت الجمع بين النقيضين المنطقيين، ويفتخر بأنه يمكنه توجيه ما يعتقد بطلانه على أنه جواب عن إشكال غير وارد، وبعبارة أخرى ليس جوابا عن إشكال إذ لا إشكال، ثم قال عن الخلاف بين القراء في مثل السراط والصراط ومسيطر ومصيطر وضنين وظنين إنه ليس خلافا بين النفي والإثبات كمسألة البسملة بل هي قراءات ثابتة بالتواتر فأما ضنين وظنين فهما قراءتان متواترتان - كمالك وملك في الفاتحة - كتبت قراءة الضاد في مصحف أبى وهو الذي وزع في الأمصار وقرأ بها الجمهور، وقراءة الظاء في مصحف عبد الله بن مسعود وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ولكل منهما معنى، وليستا من قبيل تسهيل القراءة لقرب المخرج ثم قال عن السراط والصراط ومسيطر ومصيطر لا فرق بينهما إلا تفخيم السين وترقيقه وبكل منهما نطق بعض العرب، وثبت به النص فهو من قبيل ما صح من تحقيق الهمزة وتسهيلها، ومن الإمالة وعدمها فلا تنافي بين هذه القراءات فيعد إثبات إحداهما نفيا لمقابلتها كما هو بديهي على أن خط المصحف أقوى الحجج، فلو فرضنا تعارض هذه القراءات لكان هو المرجح ولكن لا تعارض ولله الحمد.
هذا ما قاله السيد رشيد رضا في هذه المسألة وهو ناتج عن عمق فهمه وتوقد ذكائه ولعل الذين يقولون أن البسملة أنزلت للفصل بين السور يستدلون بما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انتهاء السورة - حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمن الرحيم }.
ولكن ليس في الحديث ما يدل على أنها تنزل استقلالا للفصل وإنما غاية ما فيه أن كل سورة تنزل كانت تصدر بالبسملة فيستدل بذلك النبي صلى الله عليه وسلم على انتهاء السورة التي قبلها واستقباله سورة جديدة تنزل بعدها، ولو كانت لمجرد الفصل لما أثبتت في أول الفاتحة - كما ذكرناه عن صاحب المنار - لعدم تقدمها بسورة قبلها.
هذا ويرى جماعة من العلماء الجمع بين روايات الجهر والإخفاء بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزأون بمكاء وتصدية ويقولون محمد يذكر إله اليمامة - وكان مسيلمة الكذاب يسمى " رحمن " - فأنزل الله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك } فتسمع المشركين فيهزءوا بك { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم.. وقد قال في مجمع الزوائد إن رجاله موثقون، وقال الحكيم الترمذي: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة، واعتمده القرطبي والنيسابوري في الجمع بين الروايات، ويرى السيد محمد رشيد رضا أن ترك الجهر كان في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة، والجهر فيما بعده، وفي نفسي من هذه الرواية ما يجعلني غير واثق من صحتها وذلك لأمرين:
أولهما أن مسيلمة الكذاب لم يشتهر قبل الهجرة ولا فى أوائلها، وإنما اشتهر بالتنبؤ بعد ذلك، وعندئذ لقب برحمن اليمامة فيبعد أن يستخف المشركون بمكة المكرمة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم عندما يسمعونه يذكر الرحمن، معلقين عليه بأنه يقصد مسيلمة.
ثانيهما: لو كان صنيع المشركين هذا داعيا إلى إخفاء البسملة لئلا يسمعوا اسم " الرحمن " فيهزأوا به لكان ذلك يستدعى إخفاء هذا الاسم في كل آية من الكتاب بما في ذلك قول الحق تعالى في الفاتحة { الرحمن الرحيم } ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتجنب إعلان اسم الرحمن خشية استخفاف المشركين على أن هذا الاسم الكريم كثيرا ما كان يرد في القرآن المكي كقوله تعالى في سورة الإسراء:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
وقوله في " طه "
الرحمن على العرش استوى
وقوله في الفرقان
الرحمن فسئل به خبيرا، وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن
[الفرقان: 59 - 60] وقوله في سورة الرحمن
الرحمن علم القرآن
[الرحمن: 1- 2].
وإذا اتضح لك أن الراجح كون البسملة آية من الفاتحة ومن سائر السور إلا براءة، ووجوب تلاوتها في الصلاة مع الجهر بها في القراءة الجهرية فاعلم أنه لم يقل أحد من أصحابنا ولا من غيرهم بتكفير أو تفسيق المخالف في هذه المسألة، والذين يقولون بخلاف قولنا يتفقون معنا على عدم تكفير أو تفسيق من يخالفهم اللهم إلا ما يذكر عن أبي بكر الرازي من أن أقل ما في المسألة تفسيق المخالف وقد رد عليه العلامة أبو مسلم رحمه الله في (نثاره) بما يكفي حجة للمستبصر.
من فوائد افتتاح الأعمال باسم الله
والافتتاح ببسم الله الرحمن الرحيم فيه تعليم للناس بأن يفتتحوا أعمالهم ببسم الله، وهذا يعني أن تكون أفعالهم في حدود شرع الله لا تتجاوزه فتبقى دائرة في حدود الواجب والمندوب والمباح، كما أن في ذلك تعليما للناس بأن أعمالهم كلها لازنة لها في كفة الدين ما لم يقصد بها وجه الله سبحانه، والعبد عندما يفتتح أي عمل باسم الله يشعر أن عمله محكوم بشرع الله فليس له أن يتصرف كما يملى عليه هواه، وقد شهر عند الناس الافتتاح بأسماء الأشخاص والمؤسسات لقصد التنويه بها والإشادة بذكرها والإشعار بأن العمل المفتتح ذو صلة بالمؤسسات أو الأشخاص المذكورة أسماؤهم، والمسلم عندما يفتتح باسم الله يعلن شرعيه عمله وهذا يتضح في مشروعية ذكر اسم الله عند الذبح، لأن ذبح الحيوان إيلام له وهو قبيح في العقل، لولا أن الله سبحانه خالق الحيوان ومالكه أباح في شرعه ذبح بعض الحيوانات والانتفاع بلحومها، فالذابح عندما يذكر اسم الله يعلن أن ذبحه تعديا من قبل نفسه وإنما هو بمقتضى الإباحة الشرعية ممن خلقه وخلق ذلك الحيوان.
مباحث العلماء في البسملة
وفي قول الحق سبحانه { بسم الله الرحمن الرحيم } مباحث كثيرة عني بها المفسرون في تفاسيرهم بحسب اختلافهم في العلوم التي يعنون بها، فالنحويون تهمهم المباحث الإعرابية، والبلاغيون يعتنون بالمباحث البيانية، والفقهاء يعتنون بمسائل الفقه، وأول ما بدىء به " الباء " وهي تأتي لمعان ليست كلها سائغة هنا وإنما يسوغ منها معنيان وهما الاستعانة والمصاحبة.. أما الاستعانة فقد رجحها طائفة من المفسرين والنحويين منهم الزمخشري وعولوا على مجموعة من الحجج منها حديث
" باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء "
، وتكلف الألوسي رد جميع حجج هؤلاء حجة حجة والانتصار لقول الفريق الأول ولست أجد كبير فائدة في هذا الاختلاف حتى أبحث ما هو الراجح من الرأيين؟ وإنما أتعجب من القرطبي في زعمه أن الباء للقسم، وأن المقسم عليه أن كل ما جاءت به السورة التي تلى البسملة هو حق من عند الله، وأعجب منه نسبة القرطبي هذا القول إلى العلماء مع أنه نفسه حكى الاختلاف في متعلق الباء هل هو خاص أو عام وهو مما ينافي كونها للقسم على أنه يتبادر للإنسان حالما يتلو بسم الله الرحمن الرحيم أن المراد بها غير القسم، وحاصل الاختلاف في متعلق الباء أن بعض العلماء يراه خاصا توحى به قرائن الأحوال فالقارىء عنما يتلو { بسم الله } يقصد أقرأ بسم الله، والذابح يقصد كذلك أذبح باسم الله، والداخل يقصد أدخل باسمه، والخارج يقصد أخرج باسمه، وهكذا في الكتاب، والمسافر، وكل من يعمل عملا يبتدئه باسم الله تعالى، وبعضهم يراه عاما ويقدره " أبتدىء " سواء في القراءة أو الكتابة أو الذبح أو أي شىء آخر، والذين يقدرونه خاصا يستدلون له بالتصريح به في قول الله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق
[العلق: 1- 2] وأنت ترى أن كلا الوجهين ينافيان ما ذكره القرطبي أن الباء للقسم، ولو كانت للقسم لقدر المتعلق إما أقسم أو أحلف، ولم يذكر شيئا من ذلك القرطبي، ولم ينسبه إلى أحد، ومن العلماء من يرى أن المتعلق فعل أمر تقديره اقرأ وهو خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى كل قارىء، والظاهر من كلام الإمام ابن جرير أنه يميل إلى هذا الرأى، فقد ذكر بعد إيراده عن ابن عباس رضى الله عنهما أن أول ما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة والبسملة، وهذا يفهم منه أن مراده اقرأ باسم الله، والاختلاف في جعل المتعلق خاصا أو عاما يرجع إلى الاختلاف في وجهات نظر العلماء المختلفين، فالذين قدروه خاصا راعوا ضرورة استحضار العمل الذي يقترن البدء فيه بالبسملة، ويقول ابن جرير:- " إن ذلك يجري مجرى الأشياء التي تعرف من غير أن تذكر، كقول القائل:- خبزا في جواب ماذا أكلت؟ فإنه يعلم بالضرورة أن مراده أكلت خبزا، وكقول المهنئين بالزواج: " بالرفاء والبنين " فإن المراد واضح وهو تزوجت أو اقترنت بالرفاء والبنين، وكذلك عندما يقرأ القارىء ويتلو { بسم الله } يعرف بالضرورة أن مراده باسم الله أقرأ، وعندما يصنع الصانع ويتلو { بسم الله } يعلم بالضرورة أن مراده باسم الله أصنع.. وهكذا، والذين قدروه عاما نظروا إلى مجيء البسملة في أول الأقوال والأفعال وجعلوه دليلا على أن المراد التبرك بها في الافتتاح، وللفريقين نقاش طويل وبحوث واسعة لا نجد جدوى في إيرادها هنا.
ومما كثر الخلاف فيه الاسم والمسمى، هل هما شىء واحد أو شيئان؟ وقبل التعرض لخلافهم يجدر بنا أن نحدد معنى الاسم.
يرى ابن سيده أن الاسم هو اللفظ الموضوع على الجواهر أو العرض، ويقول الراغب: هو ما يعرف به ذات الشيء وأصله، ويرى أبو حيان أن الاسم هو اللفظ الذي يدل بمقتضى الوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان إن كان معقولا من غير أن يقترن جوهره بزمان، ويرى السيد رشيد رضا أن الاسم هو اللفظ الذى يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب وزيد أو معنى من المعاني كالعلم والفرح، وتخصيص ابن سيده للإسم بما وضع على الجواهر والأعراض يمنع من شمول تعريفه لأسماء الله الحسنى لأن ذات الله تعالى ليست جوهرا ولا عرضا، وكذلك تعريف الراغب له بأنه ما يعرف به ذات الشيء وأصله لا يصح اعتباره منطبقا على أسماء الله، فإن ذات الله - وهي حقيقته الخاصة - لا يعرفها أحد من خلقه كما هي، وإنما غاية ما يمكن التوصل إليه معرفة صفاتها، أما تعريف أبي حيان والسيد رشيد رضا فهما خاليان من الاعتراض، ومن خلال تأملنا لجميع هذه التعريفات يمكننا أن ندرك أن الاسم هو غير المسمى ذلك لأن الاسم لفظ يدل نطقا أو كتابة على المسمى، والمسمى حقيقة سواءا أكانت محسوسة أو معقولة، ومما يؤسف له أن كثيرا من العلماء أضاعوا جهودهم في بحث هذه المسالة ورد بعضهم على بعض بما لا طائل تحته، وقد تعجب الإمام أبو حيان من هذا الاختلاف وهو جدير بأن يتعجب منه، ولولا خشية اللبس لضربت صفحا عن بحث هذه المسألة من أصلها، وإليك من تلخيصها وتحريرها ما يكفيك دليلا لتستبصر في مثل هذه المقامات التي كثيرا ما تنزلق فيها الأفهام.
لا ريب أنك تدرك إذا أدرت لسانك على ذكر اسم شيء لا يحضر ذلك الشيء بعينه فلو ذكرت زيدا أو محمدا أو عامرا أو سعيدا لحصل لك ذكر الإسم دون المسمى وإلا للزم أن تروى غلتك إذا ذكرت اسم ماء بلسانك وأنت ظمآن، وأن تحترق لسانك بمجرد ذكرك لاسم النار، ومع ظهور ذلك بداهة فإن جماعة من العلماء أصروا على أن الاسم هو عين المسمى ومن هؤلاء ابن الحصار والقرطبي والألوسي ونسبه الرازي إلى الأشعرية والكرامية والحشوية ولم يكتفوا بالوقوف عند هذا الحد، بل أخذوا يشنعون على مخالفيهم، فالقرطبي ينسب قولهم إلى أهل الحق ومفهومه أن قول مخالفيهم هو قول أهل الباطل، بل صرح ابن الحصار بأن القول الآخر هو قول أهل البدعة، ولم يأل الألوسي جهدا في الانتصار لقولهم هذا مستندا إلى فلسفات متنوعة ليست من القرآن ولا من السنة في شيء، وفي مقابل هؤلاء نجد الإمام ابن جرير الطبري والفخر الرازي وابن القيم والسيد محمد رشيد رضا يخالفونهم تمام المخالفة ويعدون القول بأن الاسم هو عين المسمى من الأخطاء التي أوقع أصحابها فيها قلة فهمهم لمقاصد النصوص، ولقطب الأئمة رحمه الله كلام في (هيميانه) يفيد تعذر كون الإسم هو المسمى، وحمل كلام أصحابنا بأن أسماء الله هي ذاته على أن مرادهم بذلك مدلول أسمائه، ونحوه ما أفاده نور الدين السالمي رحمه الله في مشارقه، ومنشأ اللبس الذي سبب الخلاف أن القائلين بأن الإسم هو عين المسمى رأوا أن الله تعالى أمر بذكره وتسبيحه في آيات من الكتاب وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى فقد قال عز من قائل:
واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل: 8]
واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا
[الإنسان: 25]
ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا
[الحج: 40]
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين
[الأنعام: 118]
وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه
[الأنعام: 119]
فاذكروا اسم الله عليها صوآف
[الحج: 36] وقال سبحانه:
يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا..
[الأحزاب: 41- 42]
فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم
[البقرة: 198]
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبآءكم أو أشد ذكرا
[البقرة: 200]
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..
[آل عمران: 191]
فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم
[النساء: 103] ونحوه قوله في التسبيح:
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون
[الأعراف: 206] وقوله:
سبح اسم ربك الأعلى
[الأعلى: 1]
فسبح باسم ربك العظيم
[الواقعة: 74] وقال تعالى:
فتبارك الله أحسن الخالقين
[المؤمنون: 14]
تبارك الذي نزل الفرقان
[الفرقان: 1]
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
[الرحمن: 78] وقد دعاهم هذا إلى الجمع بين هذه الآيات بأن يجعلوا الاسم عين المسمى، وأن يجعلوا ذكر الله وتسبيحه وذكر اسمه وتسبيح اسمه واحدا لأن اسمه عين ذاته، والصواب - كما يقول صاحب المنار - أن الذكر في اللغة ضد النسيان وهو ذكر القلب ولذلك قرنه الله بالتفكر في سورة آل عمران حيث قال:
الذين الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..
وقال:
واذكر ربك إذا نسيت
[الكهف: 24] كما يطلق الذكر على النطق باللسان لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان له، وذكر اللسان للاسم دون المسمى كما هو الشأن في سائر الأسماء فإذا قال قائل نار، لا تقع النار على لسانه فتحرقه، وإذا قال الظمآن ماء لا يجري الماء على فيه فيروي ظمأه - كما ذكرنا من قبل، فالمراد من ذكر الله بالقلب تذكر جلاله وعظمته وكبريائه ونعمه والمراد من ذكره باللسان ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليها، وهكذا يقال في التسبيح فالقلب واللسان يشتركان في التسبيح وإنما تسبيح القلب اعتقاد كما له وتنزهه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه، وتسبيح اللسان إضافة التسبيح إلى أسمائه، ولو لم ينطق بكلمة اسم، ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام الربيع رحمه الله عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه لما نزل قول الله تعالى
فسبح باسم ربك العظيم
[الواقعة: 74] قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اجعلوها في ركوعكم "
ولما نزل قوله:
سبح اسم ربك الأعلى
قال:
" اجعلوها في سجودكم "
ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حيان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه
" سبحان ربي العظيم "
وفي سجوده
" سبحان ربي الأعلى "
فظهر من هذا كله أن الاسم غير المسمى وأن ذكر كل منهما مشروع والفرق بينهما ظاهر وكذلك يقال في التسبيح والتبارك فكما يعظم الحق سبحانه يعظم اسمه الكريم فلا يذكر إلا مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس، وقد صرحوا أن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر، لأنه لا يمكن أن يصدر ذلك من مؤمن .
وهذا ملخص تحرير صاحب المنار لهذه المسألة وهو منتهى الوضوح وفي غاية التحقيق.
ومما تعلق به القائلون بأن الاسم عين المسمى قول لبيد:
إلى الحق ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فقد قال القرطبي: استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى، واستدل أبو عبيدة معمر بن مثنى بالبيت على أن اسم صلة زائدة أقحمت في بسم الله الرحمن الرحيم، وأن الأصل بالله الرحمن الرحيم، وهو كلام مردود، فإن اعتبار شيء من كلمات القرآن مقحما أمر لا يخلو من سوء أدب مع كلام الله تعالى، أما البيت فقد أجاب عنه ابن جرير بجوابين:
أولهما أن مراد لبيد به: عليكما اسم الله أي ألزمناه فقدم المفعول على اسم الفعل فرفعه كما هي القاعدة ألا ينصب اسم الفعل المفعول به إن تقدمه.
ثانيهما أن مراده بقوله: ثم اسم السلام عليكما ثم بركة اسم السلام عليكما، كما يقال في ما يقصد تعويذه اسم الله عليه، والقول باتحاد الاسم والمسمى نسبه غير واحد إلي سيبويه من أئمة اللغة العربية وخطأ صاحب صاحب المنار هذه النسبة معولا على ما قاله ابن القيم في (بدائع الفوائد) ما قال نحوي قط ولا عربي أن الاسم عين المسمى، وللفخر الرازي في تفسيره نقاش طويل يدحض به شبه القائلين باتحادهما نرى الاستغناء عنه بما ذكرناه.
وكلمة اسم على وزن فعل حسب أصلها وأصلها عند البصريين سمو مأخوذة من السمو لأن الاسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه، وقيل لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به، وقيل بأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره، وأصله عند الكوفيين وسم، مأخوذ من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، وعلى الرأي الأول هو محذوف اللام على وزن إفع سكنت فاؤه فاجتلبت له همزة الوصل في ابتداء الكلام، وعلى الثاني هو واوى الفاء حذفت فاؤه فاجتلبت له همزة الوصل ووزنه إعل، ويدل للأول تصريفه فإنه يصغر على سمي لا على وسيم ويجمع على أسماء لا على أوسام، والتصريف يرد الكلمات إلى أصولها، وإنما كانت نظرة الكوفيين مبنية على أن المراد من وضع الأسماء للمسميات أن تكون علامة ودليلا عليها، ولم ينظروا إلى تصريف الكلمة بينما البصريون عولوا على التصريف مع نظرهم إلى أن الاسم يظهر بمسماه والظهور في حقيقته سمو وارتفاع.
وفي إضافة اسم إلى لفظ الجلالة خلاف، هل هي للعهد أو للجنس الذي يحمل على الاستغراق؟ وهو مبني على أن الإضافة تأتي لما تأتي له أل من المعاني، وعلى الأول فالمقصود اسم معهود من أسماء الله، والأجدر أن يكون اسم الجلالة لشيوعه وذيوعه، وعلى الثاني فالمراد الافتتاح بجميع أسماء الله الحسنى، والأولى أن تكون الإضافة هنا البيان، ووصف اسم الجلالة هنا بالرحمن الرحيم يؤكد ذلك، وإنما كان الافتتاح باسم الجلالة دون غيره لأن جميع الأسماء تابعة له فلذلك يوصف بها ولا توصف به، وفي افتتاح الكلام باسمه تعالى تفخيم له وتعظيم من شأنه، وهذا مما جرت به العادة عند الناس كما أشرنا من قبل، فهم عندما يريدون أن يفتتحوا مشروعا جديرا بالعناية يفتتحونه باسم شخص مشهور كسلطان أو أمير أو باسم مؤسسة ذات شأن..
ويعني ذلك أنه لولا صاحب الاسم لم يفتتح المشروع، وبما أن القرآن الكريم جاء لتطهير العقيدة من جميع أدران الشرك ولوثات الزيغ فإنه علمنا كيف نخص اسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح الأقوال والأعمال، وهذا لأن العبد عندما يقول { بسم الله الرحمن الرحيم } يعلن براءته من الحول والطول وعدم قدرته على أى عمل إلا بعون الله كما يعلن أن قيمة العمل تكون يقدر الإخلاص لله سبحانه، وفي الافتتاح باسمه تعالى إضفاء صفة شرعية على العمل المفتتح، ومن ثم قال العلماء " إن الأعمال غير المشروعة لا تفتتح باسم الله، ولأجل ذلك كرهوا افتتاح دواوين الأشعار بالبسملة لما يكون فيها من المجون والأقوال المجانبة للحق، فالشعراء هم كما وصفهم الله بقوله:
والشعرآء يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا
[الشعراء: 224 - 227] وفي هذا الاستثناء ما يدل على أن الشعر إن كان خالصا من الشوائب، بعيدا عن المنكرات، لا يمنع من افتتاح ديوانه بالبسملة.
{ الله } اسم خاص لا يطلق إلا على رب العالمين، وقالوا في تعريفه: هو علم على ذات واجب المستحق لجميع المحامد لذاته، واختلف في أصله، فالجمهور يرون أن أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام وأدغمت اللام في اللام ثم فخمت، ولأجل أن الألف واللام للتعويض اجتمعتا مع حرف النداء ولا تجتمع أداة التعريف في غير هذا الاسم مع يا إلا مقرونة بأي، وأصل إله أله بمعنى عبد عند ابن جرير وجماعة من علماء العربية والتفسير وعضده ابن جرير بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ
ويذرك وآلهتك
[الأعراف: 127] وفسره بمعنى عبادتك، وذكر علماء العربية أن أله كعبد وزنا ومعنى، يقال أله إلهة وألوهة وألوهية كعبد عبادة وعبودية وعبودة، وقيل أصله أله على وزن سمع بمعنى تحير لأن العقول تتحير في معرفته سبحانه، ويرد على هذا أن الأصل في الاشتقاق أن يكون لمعنى في المشتق والحيرة إنما هي في العباد، وقبل أصله من أله بمعنى فزع لأن الخلق يفزعون إلى الله سبحانه
وهو يجير ولا يجار عليه
[المؤمنون: 88] وقيل من أله بمعنى سكن لأن النفوس تسكن إليه تعالى
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28] وقيل هو مأخوذ من وله بمعنى تجبر فيكون على هذا أصل إله ولاه وإنما أبدلت الهمزة واوا كما قيل في وشاح إشاح، وقيل غير ذلك، وهذه الأقوال كلها مبنية على التخمين الذي لا يشفي غليلا، والظاهر أن اسم الجلالة غير مشتق والألف واللام فيه ليستا للتعريف فإن هذا الاسم الكريم هو أعرف المعارف فليس بحاجة إلى أن تجتلب له أداه تعريف والقول بعدم اشتقاقه محكي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي مع حكاية القول الآخر عنه وذكر بعض المؤلفين أن الخليل رؤي في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال رحمني بقولي إن اسم الجلالة غير مشتق، ولابن مالك النحوي الشهير في المقام تحرير " ما أظن أن شبهة تبقى معه لمدعى اشتقاق هذا الاسم الكريم وأن أصله إله، وحاصل ما يقوله أنه يكفي في رد دعوى القائلين بالاشتقاق أنهم ادعوا ما لا دليل عليه، لأن الله والإله مختلفان لفظا ومعنى أما لفظا فلأن الله عينه حرف علة والإله صحيح العين واللام وإنما فاؤه همزة فهما من مادتين، وردهما إلى أصل واحد تحكم من سوء التصريف، وأما معنى فلأن الله لم يطلق في جاهلية ولا إسلام على غير الحق تبارك وتعالى وأما الإله فأصل وضعه لمطلق المعبود ولكنه خص بالمعبود بحق، ومن قال أصله الإله لا يخلو من أمرين، إما أن يقول أن حذف الهمزة كان ابتداء ثم ادغمت اللام، أو يقول إن حركتها أزيلت وألقيت إلى اللام قبلها ثم حذفت على القياس، والأمران باطلان أما الأول فبطلانه لأجل دعوى حذف الفاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من اسم ثلاثي ولا يصح أن يقاس هذا الحذف على الحذف في يد وما شابهه لأن الحذف في باب يد في الأواخر، ويترخص فيها ما لا يترخص في فاء الكلمة ثم لا يقاس على الحذف في باب عدة لأن الحذف فيه محمول على الحذف في المضارع من بابه وهو يعد، ولا على رقة بمعنى ورق لمشابهته عدة وزنا وإعلالا، ولولا أنه بمعناه لألحق بباب لثه وهو الثنائي المحذوف اللام، وأما (ناس) فأصله أناس، فالناس من نوس والأناس من الأنس، ولو سلم أن أصلهما واحد فالحمل عليه زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا داع.
وأما الثاني فبطلانه لاستلزامه مخالفة الأصل من وجوه، أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم ولا نظير له، (الثاني) نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها وهو يوجب اجتماع مثلين متحركين وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن، (الثالث) الرجوع إلى تسكين المنقول إليه الحركة وهو يبطل النقل لأنه يعود عملا كلا عمل، وهو مستقبح في كلمة فكيف بالكلمتين، (الرابع) إدغام المنقول إليه في ما بعد الهمزة وهو مجانب للقياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت، فإدغام ما قبلها في ما بعدها كإدغام أحد المنفصلين، وقد اعتبر أبو عمرو في الإدغام الكبير الفصل بواجب الحذف كالياء في نحو (يبتغ غير) فلم يدغم.
فاعتبار غير واجب الحذف أولى والذين يزعمون أن أصله إله يقولون: إن الألف واللام عوض من الهمزة، ويرده أن المعوض والمعوض عنه لا يحذفان معا وقد حذفت الألف في قول الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب
عنى ولا أنت دياني فتخزوني
وقالوا: (لهي أبوك) فحذفوا لام الجر والألف واللام وقدموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء، وهذا يدل أن الألف كانت منقلبة لتحركها وانفتاح ما قبلها فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها وفتحتها فتحة بناء وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي علي، ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره وإن لم يوضع له حرف عند ابن مالك، هذا ملخص كلامه وهو منتهى الجودة ولكن لعل خصومه يجدون في قول الله تعالى:
لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا
[الكهف: 38] حجة يستندون إليها في الرد عليه في إنكاره إدغام ما قبل الهمزة فيما بعدها، اعتبارا للمحذوف في حكم الثابت سواء كان واجب الحذف أو جائزه فإن كثيرا من أئمة التفسير والعربية نصوا على أن الأصل { لكن انا هو الله ربي } فحذفت ألف أنا وأدغمت نون لكن في نونها، وممن نص على ذلك ابن جرير والزمخشري غير أن لابن مالك أن يقول كما يقول أبو حيان في (البحر المحيط) بأن ذلك غير متعين لإمكان أن تكون (لكن) مشددة هنا وحذف اسمها وهو ضمير وهو ضمير المتكلم أي (لكنني أنا هو الله ربي) كما حذف اسمها ضميرا في قول الشاعر: -
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب
وتقلينني لكن إياك لا أقلي
فأصله (لكنني)، وفي قول الآخر:-
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
ولكن زنجي عظيم المشافر
على رفع زنجي وتقديره (ولكنك زنجي).
واختلفوا في الفرق بين الإله والله، فالسيد السند يرى أنهما علم لذاته تعالى، ولكن إله يطلق على غيره تعالى ، والله لا يطلق على غيره سبحانه أصلا، وقال السعد: " إن الإله اسم لمفهوم كلى هو المعبود بحق، والله علم لذاته، وقال الرضى هما قبل الإدغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الإدغام من الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة، وأنت تدري أنه إذا أطلق اسم الجلالة لم يتبادر إلى ذهن أي أحد من أي ملة كان إلا أن المراد به الحي الدائم خالق كل شيء، وأما الإله فهو يطلق على المعبود وإنما خص في الإسلام بالمعبود بالحق سبحانه وتعالى، ولذلك إذا أطلقه غير المسلم قد يتبادر أن المراد به غير الله تعالى والله سبحانه قد حكى في كتابه عن المشركين قولهم
أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب
[ص: 5] كما حكى عنهم قولهم
واصبروا على آلهتكم
[ص: 6] وقولهم
إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها
[الفرقان: 42] ولم يحك عنهم ما يدل على أنهم يطلقون اسم الجلالة على غيره تعالى بل حكى عنهم ما يدل على أنهم يخصونه به سبحانه فقد قال تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
[لقمان: 25] وفي هذا ما يدل على اختلاف مفهوم الكلمتين عندهم فالإله هو المعبود والله هو الخالق القادر على كل شيء، وإنما انحصر معنى الإله عند المسلمين في الله سبحانه لأنه المعبود بحق، وكل ما يعبد سواه فهو معبود بباطل، وبهذا يتضح أن الإله معناه كلي ينحصر في فرد، ولو لم يكن كذلك لما كان قول الموحد " لا إله إلا الله " توحيدا إذ لو كان المعنى المتبادر من اللفظين واحدا من أول الأمر لكان ذلك بمثابة قول القائل " لا إله إلا إله " وفي هذا ما يؤيد رأي ابن مالك في أن كل واحد من اللفظين مستقل وضعا.
ومن أغرب ما قيل أن هذا الاسم الكريم ليس بعربي الأصل وهو رأي لا يلتفت إليه ولعل من قال به حيره اختلاف العلماء فيه هل هو مشتق أو غير مشتق؟ وما هو أصل اشتقاقه فلم يستطع أن يخلص من ذلك إلا إلى القول بأنه أعجمي الأصل.
وأما علمية هذا الاسم فقد استدل عليها بوجوه: -
أولها: أنه يوصف ولا يوصف به، قال الله تعالى:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم
[البقرة: 255] وقال:
هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الأسمآء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم
[الحشر: 22- 24] وأما قراءة { صراط العزيز الحميد الله } في سورة إبراهيم بالجر فمحمولة على البيان.
ثانيهما: أنه لا بد من اسم تجرى عليه صفاته، فإن كل ما تتوجه إليه الأذهان ويحتاج إلى التعبير عنه وقد وضع له اسم، سواء كان توفيقا أو اصطلاحيا، فمن المستحيل أن يهمل الخالق تعالى الذي هو مصدر الأشياء جميعا، فلا يكون له اسم يجري عليه ما يعزى إليه، وأسماء غيره لا تصلح له لانفراده تعالى بكونه واجب الوجود لذاته غير مماثل لشيء من مخلوقاته، ولا يصح أن يكون اسم جنس معرفا لأنه غير خاص وضعا، وكذلك لا يصح أن يكون علما منقولا من الوصفية، لأنه يستدعى أن لا يكون في الأصل مما تجري عليه الصفات.
ثالثهما: أنه لو كان وصفا لجاز اتصاف غيره بأصل ذلك الوصف ولو كان مجازا إن كان من الصفات التي تجري على المخلوقين كالعلم والقدرة والمشيئة والحياة والسمع والبصر، وذلك يمنع الاكتفاء به في التوحيد نحو (لا إله إلا العالم القدير السميع العليم) لإمكان أن يراد غير الله تعالى بهذه الصفات لعدم تعذر إطلاقها على غيره بخلاف اسم الجلالة لاختصاصه به سبحانه.
ولسبب اختصاص الله تعالى بهذا الاسم الكريم وكونه علما على ذاته صرف جميع خلقه عن التسمى به، ولم تحدث أحدا نفسه - وإن كان من أعتى العتاه - أن يتسمى به أو يسمى به غيره، فلو سئل أحد من أهل الجاهلية: هل اللات هي الله؟ أو العزى أو مناة؟ لأنكر ذلك، ومن ثم قال غير واحد من أئمة التفسير وغيرهم إن هذا الاسم هو المراد في قوله سبحانه:
هل تعلم له سميا
[مريم: 65] أما الإله فلم يكن الناس في جاهليتهم يتورعون من وصف غير الله به، لأن أصله لمطلق المعبود، والإسلام حصره في المعبود بحق كما ذكرنا فمن وصف به أي شيء غير الله تعالى فقد جعل لله ندا، ولذلك أنكر القرآن تسمية المشركين أصنامهم آلهة، ويرى السيد محمد رشيد رضا أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها لا مجرد تسميتها، فقد سماها هو آلهة في قوله:
وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب
[هود: 101] قال ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية، وفي كلامه هذا نظر فإن الإله لو لم يمنع شرعا إطلاقه على غير الله لما كان قول " لا إله إلا الله " توحيدا، ونجد في القرآن الكريم الإنكار الذي يلي الإنكار على من يصف غير الله بالألوهية وقد تكرر ذلك في سورة النمل قال تعالى:
أإله مع الله بل هم قوم يعدلون
[النمل: 60]
أإله مع الله قليلا ما تذكرون
[النمل: 62]
أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون
[النمل:61]
أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
[النمل:64] وأما قوله:
فما أغنت عنهم آلهتهم
[هود:101] فليس فيه ما يدل على إقرار هذه التسمية لأنه مسوق مساق التهكم والاستخفاف بهم، وهؤلاء المشركون وإن استجابوا عبادة هذه الأشياء فإنما يعتبرون العبادة وسيلة إلى الله فإنهم يقولون:
ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى
[الزمر: 3] أما لو سئلوا هل خلق شيء من هذه الأصنام التي يعبدونها شيئا من هذه الكائنات لأجابوا بالنفي، بدليل قوله تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
[لقمان:25].
{ الرحمن الرحيم } صفتان لله تعالى اشتقاقهما من الرحمة وهي انفعال نفسي يحمل صاحبه على الإحسان إلى غيره وهو محال على الله بحسب المعنى المعروف في البشر لأنه في البشر ألم يلم بالنفس لا يشفيه إلا الإحسان، والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات، وإنما يحمل وصف الله تعالى بالرحمة على أثرها وهو الإحسان ومثل هذا مألوف عند العرب، وكون صفتي " الرحمن الرحيم " مشتقتين من الرحمة هو رأي الجمهور، وذهب بعضهم إلى أن " الرحمن " اسم وليس بصفة وأنه غير مشتق لأنه لو كان مشتقا من الرحمة لجاز اتصاله بالمرحوم فيقال: الله رحمن بعباده كما يقال رحيم بعباده، وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعته إذ لم يكونوا ينكرون رحمة بهم، وقد قال الله عنهم:
وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن
[الفرقان: 60] واستدل ابن العربي بقولهم " وما الرحمن " ولم يقولوا ومن الرحمن على أنهم جهلوا الصفة دون الموصوف واعترضه ابن الحصار محتجا عليه بقوله تعالى:
وهم يكفرون بالرحمن
[الرعد: 30] ويؤيد رأي الجمهور ما رواه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته "
وليس في عدم اتصاله بذكر المرحوم ما يدل على عدم الاشتقاق فإنه استدلال سلبي قي مقابلة الدليل الثبوتي، وإنكار العرب للرحمن ناشيء عن تعنتهم في الكفر وإصرارهم على التكذيب وإلا فقد كانوا غير جاهلين به، كيف! وقد ورد في أشعارهم كما ذكره ابن جرير، ومنه قول أحد الجاهلية الجهلاء:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها
ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقول سلامة بن جندب الطهوي: -
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
ومما يستغرب ما نسبه ابن الأنباري إلى المبرد وأبو إسحاق الزجاج إلى أحمد بن يحيى أن اسم الرحمن عبراني وليس بعربي، واستدل لذلك بقول جرير:
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم
بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا
أو تتركون إلى القسين هجكرتكم
ومسحكم صلبهم رحمان قربانا
وليس في ذلك ما يدل على عبرانيته، إذ لا يلزم من استعمال أهل الكتاب له - لوصح - ألا يكون عربيا ولعل القائلين باسمية " الرحمن " يستدلون بالإسناد إليه في نحو قوله تعالى:
الرحمن على العرش استوى
[طه: 5]
الرحمن علم القرآن
[الرحمن: 1- 2] وهذا لا ينافي وصفيته لأنه وإن كان صفة مشتقة فهو مختص بالله تعالى والصفات يسند إليها كثيرا وإن لم تكن مختصة فما بالك بالمختص؟ واختصاصه بالله هو رأي الجمهور وحملوا قول الشاعر بني حنيفة في مسيلمة: -
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
على التعنت بالكفر.
واختلف في الفرق بين { الرحمن } و { الرحيم } فالجمهور على أن { الرحمن } أبلغ من { الرحيم } وهو مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وأورد الزمخشرى من هذا الباب نكتة لطيفة وذلك أنه ذكر أنه كان في طريقه إلى الحجار فوجد محملا أكبر بقليل عن محامل تستعمل في العراق يسمى الواحد منها " الشقدف " فسأل أعرابيا عن اسم المحمل الذي رآه فقال له أليس ذلك يدعى الشقدف؟ قال له: بلى.. قال: فهذا الشقنداف، واستظهر منه الزمخشري أن طول الإسم لكبر المسمى، وهذه القاعدة غير مطرده، فإن حذرا أبلغ من حاذر وحروفه أقل، وبناء على ما يقوله الجمهور قيل: إن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم و { الرحيم } هو المنعم بدقائقها وقيل أن { الرحمن } هو المنعم بنعم شاملة تعم المؤمن والكافر والبر والفاجر و { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة، ومتعلق هذا القول قوله تعالى { وكان بالمؤمنين رحيما } وانتقد الأستاذ الشيخ محمد عبده هذين القولين وقال: " كل هذا تحكم في اللغة مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا فصفة { الرحمن } تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه سواء كان جليلا أم رقيقا وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليه اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا فهو غير معنى ولا مراد، وقد قارب من قال: إن { الرحمن } المحسن بالإحسان العام ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول { الرحيم } بالمؤمنين.
وقيل { الرحمن } رحمن الدنيا والآخرة " والرحيم " رحيم الآخرة، وهو كسابقيه لا يستند إلى دليل، ولعل عدم ظهور الحجة في التفرقة التي زعموها كان هو السبب في قول جماعة من المفسرين كالمحلي والصبان: إن الاسمين الكريمين بمعنى، وإنما جيىء بالثاني تأكيدا للأول، وانتقد الإمام محمد عبده هذا الرأي قائلا: " ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة، نسأل الله أن يسامح صاحبها " ثم قال: " وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به، نعم قد يكون في معنى الكلمة ما يزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير، بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة، فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق، وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها، وأما ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وضع لذلك ومعناه هو التأكيد، وليس معناه معنى الكلمة التي يؤكدها، فالباء في قوله تعالى:
وكفى بالله شهيدا
[النساء: 79، 166] تؤكد معنى اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها وهو معناها الذي وضعت له، ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإعراب وكذلك معنى من في قوله:
وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله
[البقرة: 102] ونحو ذلك، أما التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه، كتكرار جملة
فبأي آلاء ربكما تكذبان
[الرحمن] ونحوها عقب ذكر كل نعمة وهي عند التأمل ليست مكررة، فإن معناها عند ذكر كل نعمة " أفبهذه النعمة تكذبان " ، وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو ويخلص الإمام بعد هذا الرد إلى اختيار القول باستقلال كل من لفظي { الرحمن } و { الرحيم } بمعنى، ويرد استخراج المعنى الذي تدل عليه كل واحدة من اللفظتين إلى بنائها الحرفي، فالرحمن على وزن فعلان، وهذه الصيغة تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال وهو مستمعل لغة في الصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان وشعبان، و { الرحيم } على وزن فعيل، وهذه الصيغة تستعمل لغة في المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا نحو سميع وبصير وعليم وحكيم وحليم وجميل، والقرآن الكريم عندما يخبر عن صفات الله لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ، وإنما تعلو صفات الله عن مماثلة صفات المخلوقين، ومن هنا يرى الأستاذ أن " الرحمن " يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل، وهي إفاضة النعم على الخلق والإحسان إليهم، وأن { الرحيم } يدل على مصدر هذه الرحمة ومنشأ هذا الإحسان، وهو بهذا يثبت أن { الرحمن } صفة فعلية، و { الرحيم } صفة ذاتية ثابتة له تعالى، ويؤكد بهذه التفرقة أنه لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون مجيء الثاني لمجرد تأكيد الأول، ويرى أن العربي إذا سمع وصف الله جل ثناؤه بالرحمن وفهم منه أنه مفيض النعم، وواهب الإحسان بالفعل لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما، لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن صادرا عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا، ولكن عندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بجلال الله ويرضيه سبحانه، ويعلم أن لله صفة ثابتة، وهي الرحمة التي يكون عنها أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول ليكون برهانا عليه.
ورأي الإمام في التفرقة بين الرحمن والرحيم يتفق مع الجويني الذي حكى عنه الألوسي بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر، وفعيلا لمن ثبت منه الفعل ودام، وابن القيم يرى عكس ذلك فهو يرى أن الرحمن صفة ذاتية لله تعالى، والرحيم يدل على تعلقها بالمرحوم، ويستدل لذلك بقول الله تعالى:
وكان بالمؤمنين رحيما
[الأحزاب: 43]، إنه بهم رحيم، وعدم مجيء " الرحمان بهم " وأكد رأيه بقوله: (فعلمت أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، والرحيم هو الراحم برحمته، وعلى كلا الرأيين فإن اجتماع الوصفين الكريمين يؤدي إلى ما لا يحصل لو أفرد أحدهما بالذكر) وللمفسرين أقوال في { الرحمن الرحيم } غير التي ذكرنا نرى الاستغناء عن ذكرها لعدم اعتضادها بحجة مقبولة.
[1.2]
الحمد والمدح ينتظمهما الاشتقاق الكبير، وهو اتحاد الحروف مع اختلاف ترتيبها ، فالحاء والميم والدال الموجودة في الحمد هى نفسها حروف " المدح " ولكن بترتيب آخر، والزمخشري يقول بتآخيهما، واختلف الذين عنوا بشرح كلامه، هل قصده بالتآخي: اتحاد معناهما أو اتحاد حروفهما مع ما ينتظم الكلمات المتنوعة التي تلتقي بالاشتقاق من معنى لطيف قد يظهر مع التأمل الخاطف، وقد يخفي إلا مع التأمل الطويل؟ فالحمد والمدح كالجذب والجبذ في اتحاد الحروف، ووجود معنى يجمع بينهما، والذين فرقوا بين الحمد والمدح راعوا أن الحمد يكون على الأمور التي للمحمود اختيار فيها، بخلاف المدح، فقد يكون في الأمور الطبيعية كمدح الوجه بالحسن، والقامة بالاعتدال، والدرة بالصفاء، ولا يسمى شيء من ذلك حمدا، وعرفوا الحمد أنه الثناء باللسان على الجميل وقيده بعضهم بكونه اختياريا، ومنهم من زاد على ذلك سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل على أن بعض العلماء يرى أن المدح أيضا لا يكون إلا في الأمور الاختيارية، وإن ورد على غيرها عد من باب المجاز، وتقييد الثناء بكونه على الجميل يخرج الذم فإن الثناء قد يصدق عليه في نحو قولهم (أثنى عليه شرا) وتقييد الجميل بكونه اختياريا يخرج المحاسن الاضطرارية كالتي أشرنا إليها وهي التي تمدح - على رأي بعض - ولا تحمد، وقول بعضهم سواء تعلق بالفضائل أو بالفواضل يقتضي دخول الصفات التي تكون ذات أثر في الغير فيما يحمد عليه فإن الفضائل جمع فضيلة وهي صفة تقوم بنفس الموصوف لا تتعداه إلى غيره، والفواضل جمع فاضلة وهي ما ينتقل أثره إلى الغير، فسجية الكرم فضيلة، والكرم طبيعة قائمة بنفس الكريم لا تنتقل عنه وإنما ينتقل عنه أثرها وهو الإحسان إلى الغير ويعبر عنه بالفاضلة، والشجاعة طبيعة في نفس الشجاع لا تتعداه إلى غيره وإنما يتعدى أثرها عندما تبعث صاحبها على نصرة المظلومين وإغاثة الملهوفين، ويعبر عن هذا الأثر بالفاضلة كذلك، واستشكل هذا التعريف بأنه يمنع دخول صفات الله فيما يحمد عليه وهي من أجل المحامد، وسبب المنع هو قيد الاختياري، وأجاب القطب رحمه الله في (التيسير) بأن هذا القيد يراد به إخراج المحاسن الاضطرارية، فلا يمنع من دخول صفات الله تعالى لأنها وإن لم يجز لنا أن نصفها بأنها اختيارية لما يفهمه هذا الوصف من إمكان تخلي الله تعالى عنها فإنه لا يجوز لنا أيضا أن نقول عنها إنها اضطرارية لما يقتضي ذلك من كون الله سبحانه مضطرا إليها - تعالى الله عن ذلك - ورأي القطب في (الهيميان) أن يستبدل قيد الاختياري بغير الاضطراري لئلا يكون مانعا من دخول صفات الله، ويرى السيد الجرجاني في حاشيته على الكشاف أن كون الصفات مبدأ للاختيارات يزيح المانع من دخولها وتابعه المفسر الشهير أبو السعود حيث قال عن الجميل اختياريا كان أو مبدأ له، وحاصل ذلك أنه لما كانت صفات الله تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة والمشيئة سببا لحصول أفعاله الاختيارية كالخلق والإنعام جاز حمده عليها بل وجب ذلك.
واختلف في الحمد والشكر هل هما متحدان؟ أم مختلفان؟ فذهب ابن جرير الطبري وأبو العباس المبرد إلى أنهما بمعنى واحد ونسبه ابن جرير إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب " الحقائق " عن جعفر الصادق وابن عطاء قال القرطبي: وليس بمرضي، واستدل له ابن جرير بصحة قولك: الحمد لله شكرا، وتعقبه ابن عطيه بأنه دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم، وأنكر ابن كثير على سلفه ابن جرير جعل الحمد والشكر بمعنى مستندا في هذا الإنكار على التفرقة التي أوردها المتأخرون بينهما، وتعقبه الشوكاني في (فتح القدير) بأن كلام المتأخرين ليس بحجة على استعمال الكلمات العربية ولا سيما أن ابن جرير قد عضد رأيه بما رواه عن بعض السلف كما عضده بجواز مجيء الشكر مصدرا للحمد، وفي السنه ما يدل على أن الحمد قد يسد مسد الشكر، فقد أخرج ابن جرير عن الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا قلت الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله فزادك "
وأخرج عبد الرزاق في " المصنف " والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " والخطابي في " الغريب " والبيهقي في " الأدب " والديلمي في " مسند الفردوس " عن عبد الله بن عمرو ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده "
وفيه انقطاع إلى أن الألوسي ذكر أن له شاهدا يتقوى به، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبى قال: الصلاة شكر والصيام وكل خير تفعله شكر وأفضل الشكر الحمد، وأخرج الطبراني في " الأوسط " بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لئن ردها الله علي لأشكرن ربي " فرجعت فلما رآها قال: " الحمد لله " فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوما أو صلاة فظنوا أنه نسى، فقالوا يا رسول الله قد كنت قلت: " لئن ردها الله علي لأشكرن ربي " قال: " ألم أقل الحمد لله " وإنما كان الحمد رأس الشكر وأفضله لأنه إعلان باللسان عن إنعام المنعم، واللسان أقوى دلالة من غيره، وفيما أوردناه ما يؤكد ما قاله ابن عطية من أن الشكر أعم من الحمد فهو يشمل القول والعمل ويدل لذلك قول الله تعالى:
اعملوا آل داوود شكرا
[سبأ: 13] وقوله سبحانه:
أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير
[لقمان: 14] إذ ليس المطلوب من شكر الله، وشكر الوالدين مجرد الاعتراف بالإحسان وإنما المطلوب القيام بحقوق عبادة الله كما أمر، ومعاملة الوالدين بالإحسان وهو واضح في قوله سبحانه:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا.. الخ
[الإسراء: 23] وعرف بعض العلماء الشكر لغة بأنه فعل ينبيء عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر سواء كان قولا باللسان أم اعتقادا ومحبة بالجنان، أم عملا وخدمة بالأركان، واستدل بذلك بقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
فإن مراده من هذا أن النعماء سخرت لهم يده يخدمهم بها، ولسانه يثني عليهم به، والضمير المحجب يواليهم به، وإذا القينا نظرة على هذا التعريف وجدنا بين الحمد والشكر عموما وجيها، فكل واحد منهما أخص من وجه وأعم من آخر، أما الحمد فهو أخص موردا وأعم متعلقا لأن مورده اللسان وحده ومتعلقه النعمة وغيرها، وأما الشكر فهو بعكس ذلك لأن مورده اللسان والقلب والجوارح ومتعلقه النعمة وحدها، وهذا كما ذكرنا أن الحمد يكون على الفضائل كالشجاعة والكرم وغيرهما، وبعض العلماء جعل تعريف الشكر المذكور نفسه تعريفا للحمد العرفي فيكون بين الحمدين اللغوي والعرفي كالذي بين الحمد والشكر اللغويين من العموم الوجهي، ولست أدري ما هي حجة هؤلاء في جعل الحمد العرفي أعم موردا من الحمد اللغوي بحيث يكون باللسان وغيره، وهؤلاء يرون أن الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله، وهو سائغ نظرا إلى أن جميع آلاء الله تعالى تستدعي طاعته والقيام بحسن عبادته، ويؤكد ذلك قوله تعالى:
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
[الإنسان: 3] وقوله على لسان سليمان عليه السلام:
ليبلوني أأشكر أم أكفر
[النمل: 40] على أن بعض العلماء يرى أن الحمد لا يتصور أن يكون عملا لسانيا لا يشامله عمل القلب والجوارح لأن حمد المحمود باللسان وحده من غير استشعار معناه بالقلب ولا تصديق له بالجوارح يعد سخرية واستخفافا، وأجيب بأن استشعار معني الحمد بالقلب وتصديقه بعمل الجوارح شرطان له وليسا من جوهره ومما يستغرب منه دعوى القرطبي: إن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان، وهو مردود بالأحاديث الصحيحة التي أوردها القرطبي نفسه في تفسيره منها ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها "
وروى ابن ماجه عن أنس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ "
، وفي الكتاب العزيز ما يدل على أن الحمد يكون في مقابل الإحسان فالله تعالى يقول تعليما لعباده كيف يحمدونه:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا..
[الكهف: 1] ويقول
الحمد لله فاطر السماوات والأرض
[فاطر: 1] وحكى عن أهل الجنة قولهم وقالوا
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب
[فاطر: 34- 35] ويستغرب من القرطبي قوله عقب هذا.
وعلى هذا الحد قال علماؤنا الحمد أعم من الشكر لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر، فإن هذا الذي ذكره أخيرا يهدم ما بناه أولا حيث اشترط في الحمد أن يكون من غير سبق إحسان، اللهم إلا أن يكون مراده أن الحمد يأتي تارة في مقابل نعمة وتارة بدونها كما صرح به ابن عطية وكما يفيده تعريف الحمد الذي ذكرناه، وإذا كان هذا هو مراد القرطبي فهو معنى صحيح ولكن عبارته لم تف بمطلوبه.
و " ال " في الحمد قيل هي للاستغراق وعليه أبو حيان في (البحر) والقرطبي في تفسيره والألوسي " مع بعض تردد " والفخر الرازي في (مفاتيح الغيب) والشوكاني في (فتح القدير) وقطب الأئمة في (الهيميان) ونور الدين السالمي في (طلعة الشمس).
وقيل هي للجنس وعليه الزمخشري وكثير من الذين تأثروا برأيه، ووهم الزمخشري أصحاب الرأي الأول، وحمل خصوم الزمخشري هذا التوهيم على أنه أراد به الانتصار لمذهبه الفاسد في خلق الأفعال فإنه إذا جعلت جميع صنوف المحامد محصورة في الله عز وجل كما يستلزمه القول بالاستغراق فات الزمخشري مطلوبه من جعل العباد الصالحين مستحقين لشيء من الحمد على خلقهم الأفعال الحسنة كما هي عقيدة المعتزلة في أن الإنسان يستقل بخلق أفعاله استقلالا تاما ، وللإمام نور الدين السالمي رحمه الله في أول " طلعة الشمس " بحث نفيس في هذه المسألة أطال فيه مناقشة الزمخشري في رأيه، غير أن السيد الجرجاني انتصر للزمخشري في حاشيته على " الكشاف " بإيضاح لا يدع مجالا للشك في أن الزمخشري لم يرد برأيه هذا نصرة مذهبه في خلق الأفعال، فإن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا، إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وإنما اختار الزمخشري الجنس على الاستغراق لأنه يستفاد من جوهر الكلام، ويستلزم اختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية، بل يكون على ما اختاره اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء.
وإذا كان إفراد الحمد على كلا القولين مختصة بالله سبحانه فإن في ذلك ما يفيد أن جميع النعم لا تصدر إلا عنه
وما بكم من نعمة فمن الله
[النمل: 53] وفي تذكير الإنسان بذلك تحرير لرقبته من الذل لغير الله تعالى، ورفع للرؤوس حتى لا تتطأطأ لغير عزته وكبريائه، ورفع من معنوية الإنسان فلا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه.
وجملة " الحمد لله " قيل إنها خبرية يراد بها الإخبار عن كون جميع المحامد لله سبحانه وقيل هي خبرية لفظا، إنشائية معنى، والظاهر أن معناها يحتمل الخبر والإنشاء بحسب قصد المتكلم بها، وأما لفظها فخبري قطعا.
" الرب " مأخوذ من ربه يربه بمعنى نماه أو أصلحه أو ملكه، ويقال أيضا رببه وربته ورباه، ويطلق الرب على الملك كقول النابغة: -
تخب إلى النعمان حتى تناله
فذلك من رب تليدي وطارفي
ومنه قول الآخر: -
وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي
وقبلك ربتني فضعت ربوب
ويطلق على المالك، واستشهد له بقصة صفوان بن أمية مع أبي سفيان صخر بن حرب عندما نمى إلى أهل مكة بعد فتحها أن المسلمين هزموا في حربهم مع هوازن وكان أبو سفيان لا تزال الجاهلية مترسبة في نفسه، وكان صفوان لا يزال على شركه فسر أبو سفيان بما سمع ، وأخذت الحمية القرشية صفوان فغضب عليه وقال له " في فيك الكثكث لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن " يعني لأن يملكني رجل من قريش - يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحب إلى من أن يملكني رجل من هوازن، ويطلق الرب على السيد والمصلح والمدبر، وهذه المعاني قريب بعضها من بعض، والله تعالى يربي عباده بالآلاء الظاهرة والباطنة التي يسبغها عليهم وهو مالك أمرهم ومدبره، وجابر كسرهم، ومصلح شأنهم.
" العالمين " جمع عالم وفي العالم خلاف! هل هو مأخوذ من العلم أو العلامة؟
فعلى الأول يطلق على ما من شأنه العلم، فيقال عالم البشر وعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الشياطين، وعلى الثاني يطلق على كل ما كان علامة على وجود الله سبحانه فيشمل الكائنات كلها، فإن كل ذرة في الوجود هي حجة قاطعة على وجوده سبحانه، ودليل ساطع على صفاته اللائقة بجلاله، ومن ثم يقول الإمام ابن أبي نبهان رحمهما الله: " إن كل ذرة في الوجود هي كلمة من كلمات الله سبحانه، دالة على معرفته، ناطقة بتوحيده، وما عداها فهو كالشرح لتلك الكلمة " ونظرا إلى الاختلاف في اشتقاقه كلمة " العالم " وما توحيه القرائن اختلف المفسرون في المراد بالعالمين هنا، فقيل يراد به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما رواه ابن جرير عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وروى عنه أن المراد بالعالمين الإنس والجن وهو محكي عن سعيد بن جبير ومجاهد واستدل له بقوله تعالى
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا
[الفرقان: 1] وقال الفراء وأبو عبيدة: يراد به العقلاء وهم أربعة أمم الإنس والجن والملائكة والشياطين، ونسبه صاحب المنار إلى الإمام جعفر الصادق، وأصح هذه الأقوال القول الأول لأن أحسن ما فسر به القرآن القرآن نفسه، والله تعالى يقول:
قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والأرض وما بينهمآ..
[الشعراء: 23- 24] وكل ذرة في الكون هي بحاجة إلى الرعاية والإصلاح والتنمية من قبل الله تعالى إذ لو تخلى الله سبحانه عن أي كائن في هذا الوجود في أقل من لحظة لما قر له قرار، وتربية الله سبحانه تغمر كل كائن دقيقا كان أو جليلا وما من شيء إلا وهو ناطق بلسان حاله معلنا افتقاره إلى الله ذي الجلال، ومن هنا ساغ أن يجمع العالم - مع صدقه على ما يعقل وما لا يعقل - فيقال العالمون إذ لا فرق بين العاقل وغيره في دلالة حاله على احتياجه إلى واجب الوجود لذاته، ويرى الإمام محمد عبده تغليب العاقل على غيره لنكتة لاحظتها العرب وهي أن لفظ العالم لا يطلق على كل كائن وموجود فيقال عالم الحجر وعالم التراب وإنما يطلق على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وإن لم تكن منه فيقال عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات ثم قال ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذى يعطيه لفظ رب لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد، وهذا ظاهر في الحيوان ثم حكى عن أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني أن الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب وإن كان لا ينام ولا يغفل.
ويتضح لك مما ذكرناه سابقا أن التربية تظهر في كل شيء وليس ظهورها محصورا في الأصناف التي ذكرها الأستاذ الإمام، وللعلماء أقوال في جمع العالم مع أن العالم اسم جنس يستغرق جميع أفراده من غير أن يجمع وأحسن ما يقال أنه أريد بالجمع إدخال جميع أجناس العالم المختلفة في مدلول هذه الكلمة بينما يحصل استغراق أفراد هذه الأجناس بالتعريف إذ لو قيل رب العالم لربما توهم أن المراد به جنس من أجناس العالم كالبشر أو الملائكة أو الجن، أما بهذه الصيغة فلا يبقى مجال لتوهم ذلك.
وتربية الله للعالمين تنقسم إلى قسمين: تكوينية وتشريعية. فالتكوينية ظاهرة على كل شيء ولنأخذ الإنسان مثلا لذلك فإن الله أوجده من خلية مهينة حقيرة إذا نظرت بالمجهر لم تكد تبصر لدقتها المتناهية ولكن لم تلبث أن تطورت بأطوار تربية الله المختلفة حتى خرج منها بشر سوي سميع بصير يفكر ويقدر ويدبر ويعلم ويريد، يتميز بقدرات معنوية مع ما أوتيه من قوة حسية، أهله كل ذلك للخلافة في الأرض والاضطلاع بأمانة ثقلت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وكل ما يسره الله سبحانه للإنسان من قوام جسده داخل في حدود تربيته التكوينية.
وأما التربية التشريعية فالإنسان هو المستهدف بها وإن عم أثرها غيره وهى تتمثل في رسالات الله التي بعث بها رسله المصطفين لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وجمع شتاتهم وتوجيه عقولهم وأفكارهم وتصفية فطرهم وطبائعهم وكما أن الخلق لا يكون إلا من الله والبشر مهما أوتوا من قوة لن يخلقوا ذبابا، فإن التشريع الصالح للإنسانية لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى أما التشريعات البشرية فما هي إلا مصدر شقاء الإنسانية وبلائها إذ لا يمكن أن تؤلف بين الأجناس المختلفة في العادات والظروف ولا أن تجمع بين الرغبات المتباينة، ولا يصح أن تعتبر من التربية في شيء، وكل من تسول له نفسه فيشرع من الأحكام ما لم يأذن به الله كمن تسول له نفسه بأن يستطيع أن يشارك الله تعالى في خلقه تعالى الله عن ذلك.
[1.3]
سبق تفسيرهما وبقى النظر في إعادتهما وللمفسرين في ذلك آراء منهم من يرى هذه الإعادة دليلا على أن البسملة ليست من الفاتحة إذ لو كانت من الفاتحة لما كان معنى لتكرار ما جاء فيها من غير داع إلى ذلك، ومن هؤلاء ابن جرير الطبري فقد جعل من هذه الإعادة دليلا على خطأ القائلين بأن البسملة من الفاتحة ثم التفت إلى ما جاء في القرآن مما ظاهره التكرار نحو قوله تعالى:
فبأي آلاء ربكما تكذبان
في سورة الرحمن وقوله:
ويل يومئذ للمكذبين
في سورة المرسلات وأجاب بأن ذلك إنما يكون مع الفاصل وما قبل { الرحمن الرحيم } في سورة الفاتحة لا يكفي لأن يعد فاصلا وبنى ذلك في رأيه على ما حكاه عن جماعة من أهل التأويل بأن في التركيب تقديما وتأخيرا والأصل { الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين مالك يوم الدين } وبين سبب هذه الدعوى أن الأصل في التركيب أن يكون كل شيء مع مناسبه وفي الآيات وصف الله سبحانه بالربوبية والرحمة والملك، والربوبية أليق أن تكون بجانب الملك والرحمة بجانب الالوهية المستفادة من اسم الجلالة، وذكر أن التقديم والتأخير مما لا يستنكر في الوضع العربي والشواهد عليهما قائمة في القرآن نفسه ومن سائر الكلام العربي، وذكر من القرآن شاهدا على ذلك قول الله تعالى:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما..
[الكهف: 1- 2] فإن في التركيب - حسبما يقول - تقديما وتأخيرا والأصل { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا } واستشهد لذلك من كلام العرب بقول جرير:
طاف الخيال وأين منك لماما
فارجع لزورك بالسلام سلاما
فالأصل: طاف الخيال لماما منك هو.. وهذا الذي اعتمده ابن جرير ونسبه إلى جماعة من أهل التأويل نسبه أبو حيان في البحر المحيط إلى مكي وقال: لولا جلالة قائله لنزهت كتابي عن ذكره ثم ذكر أبو حيان علو بلاغة القرآن وجمال أسلوبه في تركيب كلماته ورصف جمله فلا وجه للدعوى بأنه قدم فيه ما حقه التأخير أو أخر ما حقه التقديم وأضاف إلى ذلك بأن الله سبحانه وصف نفسه في الفاتحة بالربوبية والرحمة، وذكر فيها حمده وعبادته، ووصف الربوبية يقتضي استحقاق الحمد، ووصف الرحمة يقتضى استحقاق العبادة، وقد وضع كل واحد من الوصفين بجوار ما يلائمه.
هذا وضعف كلام ابن جرير أظهر من أن يحتاج إلى الكشف، فان عبارات القرآن الكريم لا يصح أن تحمل على خلاف الأصل إلا لأمر يقتضي الخروج عنه ولا داعي هنا للتقديم والتأخير، ولا يصح أن يحمل التركيب القرآني الذي هو أبلغ تركيب في الكلام على ما قد يضطر الشعراء إليه في شعرهم محافظتهم على الوزن والقافية، فإن للشعر أحكاما لا تكون حتى للكلام المنثور، وقد يفضى الإضطرار بالشعراء إلى الإتيان بتركيب ممجوج تأباه الفصاحة، نحو قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا
أبو أمه حي أبوه يقاربه
وقد أجمع علماء البلاغة على رداءة هذا التركيب، فهل يصح أن يحمل عليه أو على مثله شيء من التركيب القرآنى الذى يتعالى عن الضرورات، ويعلو على كل العبارات، وأما قول الله تعالى في فاتحة الكهف
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما
فإن كل كلمة فيه قد جاءت في موضعها من غير تقديم ولا تأخير، فإن الله سبحانه ابتدأ بنفي العوج عن كتابه ثم أكد هذا النفي بوصفه أنه قيم والتأكيد يأتي بعد المؤكد، وقد اجتمع من نفي العوج عن الكتاب ووصفه أنه قيم نفى النقص عنه وإثبات الكمال له، وإذا ألقينا نظرة على ترتيب كلمات الفاتحة الشريفة وجدنا كل كلمة جاءت في موضعها بحسب ما يقتضيه معناها، وتصدير الفاتحة بعد البسملة بجملة { الحمد لله رب العالمين } أمر تقتضيه الرسالة التي بعث بها النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وبعث بها النبيون من قبله فإن رسالات جميع المرسلين تلتقي على الدعوة إلى توحيد الله تعالى { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقد كانت دعوة كل رسول يواجه بها قومه
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
[الأعراف: 59] فلا غرو أذا رأينا أم القرآن الكريم تصدر - بعد البسملة التي تشترك فيها مع غيرها من السور - بجملة تستأصل جذور الشرك والوثنية من قلوب العباد وتغرس فيها شجرة التوحيد الخالص، كيف وقد جمعت الفاتحة مقاصد القرآن، والتوحيد أسمى مقاصده، وقد كان القرآن منذ بداية نزوله يواجه تلك الوثنية العاتية المتأصلة في نفوس العرب، فما أنسب أن تكون بداية هذه السورة الكريمة معنية ببناء صرح العقيدة الصحيحة التي ترجع إليها جزئيات الأعمال في الإسلام، إذ ما من شيء من أعمال المسلم التي يطالب بها إلا وهو إما أن يكون مددا للعقيدة أو منبثقا منها، فالشعائر التعبدية كلها وقود لمشكاتها وصقل لمرآتها والشريعة الجامعة التي شرعها الله هي من مقتضياتها ولوازمها، فإن إنفراد الله سبحانه بالربوبية والألوهية يقتضي أن لا يستمد منهج الحياة إلا منه، ولا ريب أن ذوي الفطرة السليمة إذا قرع مسامعهم قول الحق سبحانه: { الحمد لله رب العالمين } وتصوروا معناه داخلت قلوبهم هيبة تجف منها نفوسهم وترتجف منها أوصالهم لما يدركونه من عظمة الخالق سبحانه الذي يخضع لجلاله كل كائن في الوجود، ويذل لكبريائه كل عزيز وعظيم، فلا عجب إذا تلي ذلك بوصف الرحمن الرحيم لإفاضة الطمأنينة على هذه القلوب الواجفة وإنزال السكينة على هذه النفوس المضطربة عندما تشعر بأن هذه الربوبية هي ربوبية رحمة وإحسان، والألوسي الذي تشدد في إنكار كون البسملة آية من الفاتحة يتفق هنا معنا على ضعف هذه الحجة، وأوضح أن هذا التكرار لفائدة وهي أن ذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عز شأنه وذكرهما هنا تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد، والرازي يرى أن حكمة التكرار تشويق القلوب إلى رحمة الله تعالى كأنه قيل: اذكر أني إله ورب مرة واحدة، واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمه أكثر منها بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين، ونظيره قوله تعالى:
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول
[غافر: 3] وتعقب الألوسي كلام الرازي بأن الألوهية مكررة أيضا يشير بذلك إلى ذكر اسم الجلالة في البسملة وإعادته في جملة الحمد لله، وذكر الإمام محمد عبده نكتة ظاهرة في إعادة هذين الوصفين الكريمين وهي أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه، ثم أشار إلى النكتة التي ذكرناها من قبل وهي أن مراده تعالى بهذا التكرير أن يتحبب إلى عباده فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان ليكون في ذلك حافز لهم على اكتساب مرضاته وتجنب ما يؤدي إلى سخطه.. إلى آخر ما ذكر.
ويرى السيد رشيد رضا أنه لا وجه للبحث في عد ذكر { الرحمن الرحيم } في سورة الفاتحة تكرارا أو إعادة مطلقا، وبين أن ذلك ظاهر على القول بأن البسملة ليست آية منها، وأما على القول بأنها آية منه فيحتاج إلى بيان، وأوضح وجهه وهو أن المراد من جعلها آية منها ومن كل سورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقنها ويبلغها الناس إعلانا منه بأن السورة التي صدرت بها منزلة من عند الله لتكون رحمة لخلقه بما تشتمل عليه من هدايه، وأنه عليه أفضل الصلاة والسلام لم يكن له كسب فيها ولا صنع، وما هو إلا مبلغ لها بأمر الله تعالى، فلذلك كانت مقدمة للسور كلها إلا سورة براءة المنزلة بالسيف وكشف الستار عن نفاق المنافقين، فهي بلاء على من أنزل أكثرها في شأنه لا رحمة بهم، ثم قال: وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافي ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالى مع بيان ربوبيته للعالمين، وكونه الملك الذي يملك وحده جزاء العاملين على أعمالهم وأنه بهذه الأسماء والصفات كان مستحقا للحمد من عباده، كما أنه مستحق له في ذاته، ولهذا نسب الحمد إلى اسم الذات الموصوف بهذه الصفات، ثم أضاف إلى ذلك أن الحاصل أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت
حم، تنزيل من الرحمن الرحيم
[فصلت: 1- 2] لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي والتنزيل وفي السور للمعنى الخاص الذي تبينه السوره.. الخ.
هذا وبما أن القرآن الكريم أنزله الله ليكون هدى للمؤمنين، فإن كل كلمة منه تشع منها الهداية، وبإمكان تاليه أن يستفيد بكل ما يتلوه في تهذيب نفسه وتربية ضميره، وذكر صاحب " المنار " أن حظ العبد من وصف الله تعالى بالربوبية أن يحمده تعالى ويشكره باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله مستشعرا عظم المنة من الله سبحانه عليه من غير أن يكون تعالى محتاجا إليه، وفي هذا ما يدعوه إلى إحسان تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ، واستعمال نعمته بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والإجتماعية، وكذا تربية من يوكل إليه تربيتهم، وأن لا يبغي كما بغى فرعون فيدعى أنه رب الناس، وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى، وبقولهم هذا حلال وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته قال تعالى:
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله
[الشورى: 21] وفسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله بمثل هذا.
وذكر صاحب المنار أيضا أن حظ العبد من وصف الله بالرحمة أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة من خلق الله تعالى حتى الحيوان الأعجم، وأن يتذكر دائما أن ذلك هو طريقه إلى رحمة الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" إنما يرحم الله من عباده الرحماء "
رواه الطبراني عن جرير بسند صحيح وقال:
" الراحمون يرحمهم الله تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "
رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث ابن عمر، وقال صلى الله عليه وسلم:
" من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله تعالى يوم القيامة "
رواه البخاري في " الأدب المفرد " والطبراني عن أبي أمامه وأشار السيوطي إلى صحته.
[1.4]
في هذه الآية الكريمة تقرير لحقيقة هامة جاء القران الكريم ليقررها بكثير من آياته وهي كلية من كليات العقيدة الإسلامية الصحيحة وضرورة من ضرورات الفكر الإنساني الذي تصدر عنه التصرفات والأعمال وتقوم على أساسه حياة الإنسان فإن الإيمان باليوم الآخر ليس هو من الأمور الهامشية التي لا صلة لها بعمق الفكر ولا أثر لها في واقع الحياة ولكنه ركيزة أساسية في بناء الحياة الفكرية والعملية، ولذلك نجد الإيمان به يأتي رديف الإيمان بالله في الذكر سواء في آيات الكتاب أو في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصا عندما يستدعي الحال تأكيد أمر أو نهي فكثيرا ما يأتي في القرآن { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } أو ما يفيد مفاد هذا التعبير في حال التأكيد، كما أنا نسمع كثيرا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فليفعل كذا "
أو
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يفعل كذا "
وفي ذلك ما يكفي برهانا أن الإيمان باليوم الآخر كالإيمان بالله في عمق أثرهما في سلوك الإنسان وقوة تأثيرهما في توجيه ميوله ورغباته وضبط غرائزه ونزعاته، وهذا لأن الإيمان بالله يعني الإيمان بالمبدأ والإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بالمصير وهل تبقى للإنسان قيمة إن جهل المبدأ أو المصير، وماذا عسى أن تكون حالة هذا الإنسان الذي يعيش على هامش الحياة لا يستشعر حقوقا عليه لمبدئه، ولا مسئولية يخشى مغبتها في مصيره وإنما يلهو ويمرح ويأكل ويشرب ويسافد ويتناسل شأن البهائم التي لا عقل لها ولا ضمير أما إذا أدرك واستيقن أن له مبدئا أخرجه من العدم واسبغ عليه صنوف النعم وبوأه في الأرض ومكن له فيها فإن إدراكه لذلك يحيي في نفسه شعورا لافتقاره إلى تحري مرضاة هذا المبديء الكريم والخالق العظيم فيدعوه ذلك إلى أن يستمد منه منهج حياته وميزانه الذي يعرف به الخير والشر والنفع والضر ولكنه مع ذلك قد يتعامى عن قصد السبيل لما يتجاذبه من طبائع النفس ويتقاضاه من مطالب الحياة فهو واقع بين العواطف الملتهبة والغرائز الجارفة والمطالب المختلفة والدوافع المتنوعة فلا عجب إذا أنساه ذلك ما يجب عليه تجاه خالقه وتجاه الخلق، ولكن إيمانه بالمنقلب الذي يلقى فيه جزاءه يجعله يستعلى على ضرورات حياته ورغبات نفسه ودوافع غرائزه فلا يجعل العواطف أساسا لتعامله مع الناس ولا الغرائز مقياسا للنفع والضر والخير والشر، وحياة الإنسان في الأرض حياة محدودة بل حياة وهمية إذ لا يعرف أحد مقدار بقائه فيها فهو ينتظر فراقها بين لحظة وأخرى، فإذا لم يؤمن بحياة أطول يجازى فيها على عمله كان ذلك داعيا إلى التقاعس عن الخير واستغلال ما يمكن من المنافع العاجلة ولو على حساب الآخرين وما الذي يدعوا الإنسان إلى التفاني في البر وهو غير واثق من إستيفاء جزائه في هذه الحياة الدنيا ولا راج حياة أخرى يطمع فيها أن يلقى أجر ما كسب، وعدم الإيمان بالمعاد مدعاة للقلق بسبب عدم وثوق الإنسان من التعمير في هذه الدنيا، وهبه معمرا فيها فإنه لا بد له من يوم يواجه فيه الموت الكريه، فهو يحسب حسابه بإستمرار ليوم فنائه الذي يفرق ما جمع، ويأتي على ما كسب، وما الليل والنهار إلا مطيته الدؤب التي تسير به إلى ذلك اليوم وهذا يدعوه - مع عدم إعتقاد المعاد - إلى التكاسل عن واجباته الإجتماعية، أما إذا وثق بأنه سيعاد كما كان مرة أخرى وسيوفى جزاء عمله فإن وثوقه بذلك سبب لطمأنينة نفسه ونشاطها في العمل.
والمشركون الذين كان القرآن يواجههم كانوا يؤمنون إيمانا جزئيا بالله الخالق العظيم سبحانه وتعالى، فالله تعالى يقول عنهم:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
[لقمان: 25] ولكنهم فاقدون الإيمان بيوم البعث وهذا جعلهم يعيشون بلا هدف ويحيون للشهوات الدنيئة، فقد حكى الله تعالى عنهم قولهم:
أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد
[ق: 3] وقولهم
أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أو آبآؤنا الأولون
[المؤمنون:82، الصافات: 16- 17، الواقعة: 47- 48] وكان القرآن الكريم يواجههم بالأمثال المختلفة التي يضربها لهم لتبديد شبههم وتفريق أوهامهم، فاسمع إلى قول الله تعالى:
يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور
[الحج: 5- 7] وإلى قوله:
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم
[يس: 77- 81] تتصور تلك المعركة الحامية الوطيس، معركة الجدال في اليوم الآخر.
وقوله تعالى: { ملك يوم الدين } جاء في هذه السورة الكريمة لقرن الترهيب بالترغيب، فإن الآيات السابقة آيات مبشرات، وقد قضت سنة الله في كتابه أن يجتمع الوعد والوعيد غالبا في آية أو آيات متجاورة لحكمة بالغة علمها الله تعالى، فإن العباد بحاجة إلى تربيتهم بالترغيب والترهيب، وإيقاظ الشعور بالخوف والرجاء في نفوسهم لينشطوا للأعمال الصالحة بباعث الرجاء، وليحاذروا الأعمال السيئة لداعي الخوف، وفي الآية قراءات: " قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف في مختاره { ملك يوم الدين } ، قال الألوسي: وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير، وقراءة كثير من الصحابة منهم أبي وابن مسعود ومعاذ وابن عباس والتابعين منهم قتادة والأعمش "
وذكر ابن عطية في تفسيره عن مكي أن نسبها - فيمن نسبها إليهم - إلى طلحة والزبير أيضا، وقرأ باقي السبعة " ملك يوم الدين " ، ونسبت إلى زيد وأبي الدرداء وابن عمرو وكثير من الصحابة والتابعين، وروى أحمد بن صالح عن ورش عن نافع " ملكي " بإشباع كسرة الكاف، وروي عن أبى عمرو من السبعة " ملك يوم الدين " بتسكين اللام، وثم قراءات أخرى منها: " ملك يوم الدين " بفتح اللام فعلا ماضيا، و " مالك " بالنصب و " مالكا " بالنصب والتنوين، و " مالك " بالرفع والتنوين، و " مالك.
. " بالرفع والإضافة، و " مالك " بالنصب والإضافة، و " مليك " على وزن عظيم، وهي قراءات شاذة لا يقرأ بها في الصلاة، وإنما المشهور القراءتان الأوليان.
وروي الترمذي في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ " ملك " بغير ألف، وأخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس، وأخرج أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرأون " مالك " بالألف، وأخرجه الحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، ورواه الطبراني في " الكبير " عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحوه عند سعيد بن منصور عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا وكيع في تفسيره وعبد بن حميد وأبو داود عن الزهري يرفعه مرسلا، وأخرجه ابن الرزاق في تفسيره وعبد بن حميد وابو داود عن ابن المسيب يرفعه أيضا ارسالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشوكاني في تفسيره: وقد روي من طرق كثيرة فهو أرجح من الأول، وللعلماء خلاف في ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى مع الإجماع أن كلتيهما صحيحتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذهب إلى ترجيح { ملك يوم الدين } طائفة منهم المبرد وأبو عبيد من أئمة العربية وعليه ابن جرير الطبري والزمخشري والجرجاني والقرطبي وقطب الأئمة والإمام أبو نبهان والسيد محمد رشيد رضا.
وذهب إلى ترجيح { ملك يوم الدين } طائفة أخرى منهم أبو حاتم وابن العربي وابن عطية والشكواني والإمام محمد عبده، ولكل حجة.
أما الأولون فيحتجون لرأيهم بأن قراءة " ملك " هي قراءة أهل الحرمين وهم أجدر أن يقرأوا القرآن غضا طريا كما أنزل، وبأنها تعتضد بقوله تعالى في وصف يوم الدين { لمن الملك اليوم } وبقوله تعالى في سورة الناس وهي آخر القرآن ترتيبا
ملك الناس
وبأن نفوذ الملك أعم من نفوذ المالك وبأنه يلزم على قراءة " مالك " نوع تكرار لأن الرب بمعناه أيضا، وبأنه سبحانه وصف ذاته المتعالية بالملك عند المبالغة في قوله
مالك الملك
[آل عمران: 26] والملك مأخوذة من الملك بالضم بخلاف المالك فإنه من الملك بالكسر، واعترض على الأول بأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لم يسلم ذلك في عهد القراء المشهورين، ومن المعلوم أن صحيح البخاري مقدم على موطأ مالك مع أن مالكا هو عالم المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة، وقول بعضهم: لا يخفي أن أهل الحرمين قديما وحديثا أعلم بالقرآن والأحكام مردود بأنه لو ثبت ذلك لأقتضى ترجيح روايتهم على كل رواية والأخذ برأيهم دون من سواهم، واعترض على الثاني بأن عضد قراءة " ملك " بقوله تعالى:
لمن الملك اليوم
[غافر: 16] يمنعه قوله سبحانه عن ذلك اليوم:
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا
[الانفطار: 19] فإنه أراد به يوم القيامة وهو يوم الدين، ونفى المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له، لأن السياق لبيان عظمته تعالى، ويعضده قوله من بعد:
والأمر يومئذ لله
[الانفطار: 19] فإن المقصود بالأمر واحد الأمور لا الأوامر، وإعترض على الثالث بأن ما في سورة الناس يختلف عما في سورة الفاتحة لأنه لو قريء هنالك " مالك الناس " لتكرر معناه مع ما في رب الناس وأما هنا فلا تكرار لإختلاف المقام، واعترض على الرابع بأنه لا يلزم أن يكون الملك أعم من المالك بل بينهما العموم الوجهي ويتصور ذلك فيمن شمل ملكه مدينة فيها الكثير من الناس والممتلكات، ولكن لا ملك له فيها - بالكسر - فهو ملك غير مالك بالنسبة إليها، وأصحاب الملك بالكسر - هم الذين لهم مطلق التصرف فيما يمتلكون دون الملك، واعترض على الخامس بأن دعوى التكرار مدفوعة وهي أيضا لازمة على قراءة ملك إن فسر الرب بالملك كما ذكره الجوهري، وقد أوردنا بعض الشواهد لذلك في تفسير الرب واعترض على السادس بأن قوله تعالى: { مالك الملك } أدل على المالكية منه على الملكية، وإضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن الملك - بالضم - قد جعل تحت حيطة المالكية لأنه أحد مملوكاته.
وأما الآخرون فيحتجون أيضا بأدلة، منها أن في قراءة مالك حرفا زائدا، ولكل حرف في التلاوة عشر حسنات كما جاء في الحديث، فكانت قراءته أكثر ثوابا، ومنها أن المالك أقوى تصرفا في ملكه من الملك في ملكه لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ولا تصرف له بشيء من شئونهم الخاصة، قال الإمام محمد عبده: (وإنما تظهر هذه التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون السلطان)، ومنها أن الملك ملك الرعية، والمالك مالك للعبيد والعبد أدون حالا من الرعية، فوجب أن يكون القهر في الملكية أكثر منه في المالكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالا من الملك، ومنها أن الرعية يمكنهم التخلص عن كونهم رعية ملكهم بإختيار أنفسهم وذلك بانتقالهم عن مملكته إلى مملكة أخرى وحملهم جنسية جديدة، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه أن يكون مملوكا لمالكه وهذا يدل على أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية، ومنها أن المملوك مطالب بخدمة المالك وليس له أن يستقل بأمره دونه، ولا يجب على الرعية خدمة الملك وهذا يعني أن الإنقياد والخضوع في المملوكين أبلغ منهما في الرعايا، ومنها أن المالك يحق له بيع مملوكه ورهنه بخلاف الملك فلا يحق له بيع رعيته، ومنها أن المالك يضاف إلى العاقل وغيره، فيقال مالك الناس، ومالك الدواب، ومالك الأرض، ومالك الشجر، أما الملك فلا يضاف إلى مطلق هذه الأشياء بل يضاف إلى الناس لأنهم عقلاء، ونحن إذا أمعنا النظر لم نجد فائدة في هذا الإختلاف، فالقراءتان صحيحتان مشهورتان، وكل واحدة منهما تؤكد معنى، فالله تعالى قد وصف نفسه في التنزيل بأنه ملك ومالك، فقد قال:
هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس
[الحشر: 23] وقال:
قل اللهم مالك الملك
[آل عمران: 26].
فلا داعي إلى ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى مع ثبوتهما جميعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أختار أن يلتزم القاريء في الصلاة وفي غيرها القراءة التي اعتادها، فلا تكون قراءته للقرآن مركبة بعضها بقراءة قاريء وبعضها بقراءة قاريء آخر، فنحن هنا في المشرق نقرأ بقراءة عاصم فعلينا أن نقرأ { مالك } في الصلاة وفي غيرها إلا إذا أراد أحدنا أن يقرأ في الصلاة بقراءة أحد القراء السبعة الآخرين فعليه أن يلتزم تلك القراءة في كل شيء لا في (ملك) فحسب، وكذلك إذا أراد أحدنا أن يتلو القرآن خارج الصلاة بقراءة قاريء آخر فعليه أن يلتزمها من أول القرآن إلى آخره لا أن يقرأ بعضه بقراءة وبعضه بقراءة أخرى، أما أهل شمال افريقيا وغربها فهم يقرأون بقراءة نافع، فالأولى بهم أن يقرأوا (ملك) لئلا يخرجوا عن التركيب الذي ذكرته اللهم إلا أن يريد أحدهم أن يقرأ في صلاة بعينها أو في كل الصلوات أو في تلاوة بعينها أو في جميع التلاوات بقراءة قاريء آخر فله ذلك على أن يلتزم ما تقتضيه تلك القراءة من أحكام، أما إذا نظرنا إلى ما تدل عليه الكلمتان وجدنا أن كلمة مالك أبلغ في التنصيص على عدم وجود من يملك في ذلك اليوم شروى نقير إذ إنفراد أحد بكونه ملكا في زمان أو مكان لا يمنع من وجود ملاك تحته بخلاف ما إن (انفرد بكونه مالكا) ومن هنا قال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك وملك ابلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله مالكا كان ملكا، وبهذا تعلم أن الخشوع الذي تثيره قراءة مالك لا يقل عما تثيره قراءة ملك، وإن قال السيد محمد رشيد رضا في " المنار " بخلاف ذلك مستدلا لما يقوله بأن الملك هو المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء، والمراد بالآية تذكير المكلفين بما ينتظرهم من الجزاء على اعمالهم رجاء أن تستقيم أحوالهم.
وإنما قلت بأن القراءتين جميعا تؤثران الخشوع في القلب بالسواء نظرا إلى أن المالك لذلك اليوم هو الذي وعد وتوعد ولا اخلاف لوعده أو وعيده ولا تبديل لكلماته فليس معنى لما يقوله السيد رشيد رضا من أن قراءة ملك أكثر تأثيرا في الخشوع ولا يلزم من هذه القراءة أن يكون معناها تكرارا لما في رب العالمين لأن ذكر الخاص بعد العام إنما هو دليل الاهتمام به ولا يعد من التكرار، وذكر ابن عطية والقرطبي في تفسيريهما عن أبي على أن أبا بكر بن السراج حكى عن بعض من اختار القراءة بملك، أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله: { رب العالمين } فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير قال أبو على: ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله تعالى:
هو الله الخالق البارىء المصور
[الحشر: 24] فالخالق يعم ويذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة، وكما قال تعالى:
وبالآخرة هم يوقنون
[البقرة: 4] بعد قوله
الذين يؤمنون بالغيب
[البقرة: 3] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال: { الرحمن الرحيم } فذكر الرحمن الذي هو عام وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله:
وكان بالمؤمنين رحيما
[الأحزاب: 43]
والإضافة في مالك كالإضافة في ملك ليست مجرد إضافة لفظية فالتعريف بها حاصل ولذلك جاز وصف اسم الجلالة بها ويوم الدين وإن كان مستقبلا فإنه لتحقق وقوعه نازل منزلة الشيء الكائن وملك الله تعالى له أمر ثابت.
وكون الله تعالى مالك ذلك اليوم يعني أنه مالك لكل ما فيه لأن الزمان كالمكان تقتضي الإضافة إليه شمول ما ينطوي عليه، وقد جاء ذكر يوم الدين في كثير من آيات الكتاب العزيز في معرض التخويف من الجزاء وبيان عاقبة القوم الظالمين من ذلك قوله سبحانه:
ومآ أدراك ما يوم الدين، ثم مآ أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله
[الانفطار: 17- 19] وقوله:
ويوم تشقق السمآء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا
[الفرقان: 25- 26] وقوله:
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئا بمآ أسلفتم في الأيام الخالية، وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، يليتها كانت القاضية، مآ أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه
[الحاقة: 18- 32] وبين تعالى أن العبد يومئذ يتخلى عنه كل ما أوتيه في الدنيا من ملك وجاه، وكل ما يكون سببا للاعتزاز والافتخار فقد قال عز من قائل:
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم
[الأنعام: 94] وقال سبحانه:
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
[مريم: 93- 95] وأخبر تعالى عن تقطع جميع الصلات والأسباب يومئذ وتحول جميع المودات إلى عداوة ساخنة إلا ما يكون بين عباده المتقين حيث قال:
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون
[المؤمنون: 101] وقال:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف: 67] وقال:
يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصحبته وبنيه، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
[عبس: 34- 37] وفي هذا ما يدعو ذوي الألباب لانتهاز فرصة الحياة وتزود تقوى الله تعالى منها
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى
[البقرة: 197].
و { اليوم } لغة وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها، وشرعا من بين طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، ويطلق على مجموع الليل والنهار واستعير هنا لما بين ابتداء القيامة إلى استقرار أهل الدارين فيهما، و (الدين) يأتي لغة لمعان، نقتصر منها على معنيين لصلتهما بالمراد في الآية:
أولهما: الحساب على الأعمال والمجازاة عليها، ومنه قولهم: كما تدين تدان، وقول الشاعر:
واعلم يقينا أن ملكك زائل
واعلم بأن كما تدين تدان
وقول الآخر:
إذا ما رمونا رميناهم
ودناهم مثلما يقرضونا
ثانيهما: القضاء ومنه قوله تعالى:
ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك
[يوسف: 76] وقول الشاعر:
لعمرك ما كانت حمولة معبد
على جدها حربا لدينك من مضر
وفسر الدين في الآية بالمعنى الأول ابن عباس وابن مسعود من الصحابة رضى الله عنهم، وعليه ابن جريج وقتادة، وحكى ذلك عنهم ابن جرير وغيره من المفسرين، وروي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما تفسيره بالمعنى الثاني وكلاهما سائغ، وجاء الدين في القرآن بمعنى الجزاء في قوله:
يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق
[النور: 25] وقوله:
أإنا لمدينون
[الصافات: 53] ويدل عليه قوله تعالى:
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت
[غافر: 17] وقوله:
اليوم تجزون ما كنتم تعملون
[الجاثية: 28]
وقد يسأل سائل، أليس الله مالكا لجميع الأيام؟ فكيف يخص ملكه بيوم الدين؟.
والجواب أن كل زمان داخل في حيطة ملك الله تعالى الواسع كدخول كل مكان، وإنما خص يوم الدين بالذكر لأن الذين يتعامون في الحياة الدنيا عن دلائل اختصاص الله تعالى بالملك فيدعون الملك لأنفسهم أو لغيرهم ويخشون غير الله تعالى، ويرجون سواه يدركون في ذلك اليوم أن الملك لله تعالى وحده، فلا يتطاول أحد على ادعاء الملك، ولا يتعلق خوف أحد ولا رجاؤه بغير الله، ولذلك قال الله تعالى:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر: 16] وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الشيخين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "
، ومن هنا حرم أن يوصف أي أحد غير الله بأنه مالك يوم الدين أو ملك يوم الدين، كما يحرم وصف غيره بأنه رب العالمين، ومثلهما ملك الملوك وملك الأملاك فإنهما وصفان لله تعالى وحده، ففي حديث أبي هريرة عند الشيخين أيضا أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام قال:
" إن أخنع إسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك "
- زاد مسلم -
" لا مالك إلا الله عز وجل "
وفي رواية أخرى
" أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله سبحانه ".
أما الملك فيجوز اطلاقه مجازا على غير الله كما في قوله تعالى حكاية عن بني اسرائيل :
ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله
[البقرة: 246] وقوله:
إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا
[البقرة: 247] وفي الحديث
" ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ".
ولسائل أن يسأل أيضا أليست كل الأيام أيام جزاء وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في اداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم؟ واترك الإجابة لصاحب المنار الذي طرح هذا السئوال واجاب عنه بما معناه: أن الجزاء قد يقع في أيام الدنيا على جميع الأعمال خيرا كانت أم شرا ولكن ربما لا يظهر للمجزيين إلا على بعضها دون جميعها، وانما يظهر الجزاء على التفريط في العمل الواجب ظهورا تاما في الدنيا بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من أفرادها فكل أمة تنحرف عن صراط الله المستقيم ولا تراعي سننه في خليقته لا ينتظرها إلا مصير حاسم تلقى فيه من العدل الإلهي ما تستحقه من الجزاء كالفقر والذل وتبدد العزة وتلاشي السلطة جزاء وفاقا، أما الأفراد فإن كثيرا من المسرفين الظالمين منهم يقضون أعمارهم في لجج الشهوات والملذات وقد توبخهم ضمائرهم أحيانا ولا يسلمون من المنغصات وقد يصيبهم النقص في أموالهم وعافية ابدانهم وقوة مداركهم ولكن كل هذا لا يقابل بعض اعمالهم القبيحة لا سيما أولئك الجبابرة المتسلطون الذين تشقى بأعمالهم السيئة شعوب وأمم، وفي مقابل أولئك نرى المحسنين في انفسهم وفي الناس يبتلون بصنوف البلاء ولا ينالون الجزاء الذي يستحقونه على صنوف أعمالهم! نعم يكرمهم الله تعالى براحة ضمائرهم وسلامة أخلاقهم وصحة ملكاتهم ولكن ليس ذلك كل ما يستحقون، أما في ذلك اليوم فكل فرد من افراد العاملين يوفى جزاؤه كاملا لا يظلم شيئا منه كما قال تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
الزلزلة: [7- 8].
[1.5]
في هذه الآية الكريمة يعلم الله عبادة أن يفردوه بالعبادة وبالإستعانة، وهذه ثمرة التوحيد وجوهر الإيمان والآيات المتقدمة في السورة جاءت توطئة لها ومقدمة لما فيها فإن الإله الحق الذي هو رب العالمين والمتصف بالرحمة والمالك للأمر في الدنيا والآخرة جدير بأن لا تتجه العبادة إلى غيره وأن لا يتعلق القلب بسواه، ويرى الزمخشري أن الآية الكريمة جاءت لتبين الحمد المقصود في قول الله تعالى: { الحمد لله } ويتقدمها سؤال مقدر تقديره كيف تحمدونه؟ فأجيب: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وسوغ السيد الجرجاني ذلك لأن السؤال عن كيفية الحمد لا عن ماهيته، فصح أن يجاب عنه بالإجابة المشتملة على الحمد وعلى غيره لأن ضم غيره إليه نوع بيان لكيفيته، أي حال حمدنا أن نجمعه بسائر عبادات الجوارح والإستعانة في المهمات، ونخص مجموعها بك، وأورد السيد الجرجاني أيضا أنه صح كون العبادة بيانا للحمد من حيث أن اقصى غاية الخضوع يقتضي اعترافا تاما بالإنعام، ووصفا للمنعم بصفات الجلال والإكرام، وهذا لأن الحمد اصل العبادة ورأسها كما مر أنه رأس الشكر، إذ حقيقة العبادة شكر المنعم الحقيقي، أي اظهار الإنقياد له بقدر الإمكان غاية ما في الباب أن الجواب يشتمل على زيادة في البيان، ورجح السيد الجرجاني أن يكون قوله { إياك نعبد } استئنافا جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها أزلا وأبدا، كأن سائلا يقول: ما شأنكم مع هذا الموصوف؟ وكيف توجهكم إليه؟.
فأجيب بحصر العبادة والإستعانة فيه، واعترض الإمام أبو السعود ما يقوله الزمخشري " بأنه مع كونه لا حاجة إليه مما لا صحة له في نفسه فإن السؤال المقدر لا بد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام، وتنساق إليه الأذهان والأفهام، ولا ريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته، على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العباده حتى يتوهم أنه بيان لكيفية حمدهم، والإعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالمفهوم المقدر، ثم قال: وبعد اللتيا والتي إن فرض السؤال من جهته عز وجل فأتت نكته الإلتفات التي أجمع عليها السلف والخلف، وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لأبتناء الجواب على خطابه تعالى وبهذا هدم أبو السعود ما رجحه الجرجانى من أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها، وأضاف (بأن تناسي جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابه عز وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله) ثم قال: (والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكرمن النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هنالك شيء آخر) وأرى أن أضيف إلى ما يقوله أبو السعود أن السورة الكريمة صدرت بحصر الحمد في ذات الحق تعالى وهو مشعر كما سبق بصدور جميع الآلاء عنه ثم تلي ذلك بوصفه تعالى أنه رب العالمين، وفي هذا تصريح بما يستلزمه حصر الحمد فيه من كونه مصدر جميع الآلاء، كما أن فيه إيقاظا للشعور بعظمته تعالى المستوجبة لملأ القلب بهيبته، ثم أتبع ذلك وصفه بالرحمة المستلزمة للإحسان، واختتمت سلسلة هذه الصفات بكونه مالك يوم الدين وهو اليوم الذي ينقلب جيع الناس إليه ليلقوا جزاء ما قدموا، وإجراء هذه الصفات العظيمة على الله باللسان مع استشعار معانيها بالقلب يجعل النفس تنساق انسياقا تلقائيا إلى منتهى الخضوع لهذا الرب الجليل الموصوف بهذه الصفات، صفات العظمة التي لا تليق بغيره، وليس خضوع أبلغ من خضوع العابد فناسب المقام أن يفرد الله تعالى هنا بالعبادة وبالإستعانة بصيغة الخطاب المشعرة بالحضور، والخروج بالكلام من أسلوب الغيبة إلى أسلوب الخطاب هو المعروف عند علماء البلاغة بالالتفات ويكون أيضا بالخروج عن التكلم إلى الخطاب أو العكس وبالخروج عن الخطاب إلى الغيبة أو التكلم وهكذا.
. ولا يعنينا هنا بحث مسائل الالتفات فإن ذلك من اختصاص علم البلاغة وانما يعنينا بحث النكتة التي يجاء به لأجلها، وقد ذكر علماء البلاغة نكتة عامة له وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط السامع والمتكلم، وقد تنضم إليها نكت خاصة بحسب المقامات، وللمفسرين والبلاغيين سباق في إظهار النكت التي تناسب هذا المقام، منهم من قال: لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات العظمة التي تميزه عن غيره تعلقت معرفة القلب بمعلوم متميز خوطب بذلك ليكون أدل على الإختصاص والترقي من البرهان إلى العيان، والإنتقال من الغيبة إلى الشهود فكأن المعلوم صار عيانا، والمعقول مشاهدا، والغيب حضورا، وقيل: لما شرح الله تعالى صدر عبده بالإسلام وأفاض على قلبه نور الإيمان ترقى بسلم الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى مقام الإحسان وهو (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وأيضا حقيقة العباده هو الإنقياد المطلق من النفس لأحكام المعبود، وصورة هذا الإنقياد وقالبه الإسلام، ومعناه وروحه الإيمان، وسره وغايته الإحسان، وبالإلتفات في (نعبد) يصل العبد عبر المرحلتين السابقتين إلى المرحلة الثالثة، وذكر الألوسي " بأنه يحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء، والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى " ، وقيل غير ذلك.
والعبادة لغة بمعنى الذل، يقال: عبد إذا ذل، وعبد إذا ذلل، منه قوله تعالى:
أن عبدت بني إسرائيل
[الشعراء: 22] ويقال طريق معبد إذا وطئته الأقدام حتى ذللته، ومنه قول طرفة بن العبد:
تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
أما إصطلاحا فللناس فيها مذاهب ترجع إلى المعنى اللغوي، فابن جرير الطبري يفسرها بالخضوع والإستكانة والذل مع الإقرار بالربوبية للرب المعبود وحده، وروي عن ترجمان القرآن رضي الله عنه " أن المراد بقوله سبحانه { إياك نعبد } إياك نوحد ونخاف ونرجو " ، ورواه عنه ايضا ابن ابي حاتم، وابن كثير يرى أن العبادة استكمال المحبة مع منتهى الخضوع والخوف، وابن تيميه يرى أن العباده الجمع بين المحبة والخضوع، ولجهابذة العلماء في العصر الحديث أنظار في مدلول لفظ العباده، فالإمام أبو الأعلى المودودي يرى أن العبادة تتكون من عناصر، منها الإذعان التام من العابد لعلو المعبود والنزول له عن حريته واستقلاله، وترك كل مقاومة وعصيان إزاءه والإعتقاد بعلائه، والإعتراف بعلو شأنه، وأن يكون قلبه مفعما بعواطف الشكر والإمتنان على نعمه وأياديه بحيث يبالغ في تمجيده وتعظيمه، ويتفنن في إبداء الشكر على آلائه، وفي أداء شعائر العبدية له، ويرى العلامة المودودي أن هذا التصور لا ينضم إلى معاني العبدية إلا إذا كان العبد لا يخضع لسيده رأسه فحسب، بل يخضع معه قلبه أيضا، ويستمد السيد الموردودي نظرته هذه في تفسير العبادة من مدلول الكلمة اللغوي، فإن العربي بمجرد سماعه كلمة العبد والعبادة لا يتصور إلا العبديه والعبودية، وبما أن وظيفة العبد الحقيقية هي طاعة سيده المطلقة فإن تصور الطاعة بمجرد ذكر العبد والعبادة أمر لا بد منه، وخلاصة رأيه في العبادة أنها خضوع الظاهر والباطن والانقياد المطلق من العابد للمعبود مع غمرة القلب بالشعور العبودي.
أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فيرى أن العبادة شعور خاص في القلب يستلزم الخضوع المطلق والإنقياد التام من العابد للمعبود وفي ذلك يقول: ما هي العبادة؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون احيانا بالتعريف اللفظي، ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها اجمالا وتساهلا واننا إذا تتبعنا آى القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى - كخضع وخنع واطاع وذل - نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي عبد ويحل محلها ويقع موقعها.
ولذلك قالوا: إن لفظ العباد مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى ولفظ العبيد تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى، ومن هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه.
يغلو العاشق في تعظيم معشسوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه وتذوب إرادته في ارادته ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء فترى من خضوعهم لهم وتحريمهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة إذا؟.
تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشىء عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطىء أقدامه ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء لكرمه المحدود اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن للملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا لأنهم أطيب الناس عنصرا وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية.
ويضيف الأستاذ إلى ذلك فيقول: للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع فإذا كانت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانا خذ إليك عبادة الصلاة مثلا وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإتيان بها وإقامة الشيء هي الإتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله:
إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت: 45] وقوله عز وجل
إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين
[المعارج: 19- 22] وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدى إلى غايتها بقوله:
فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يرآءون ويمنعون الماعون
[الماعون: 4- 7] فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته والمشعر للقلوب بعظم سلطانه ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون.
هذا كلام الأستاذ في العبادة، وهو يفيد أن معنى العبادة لا يتم إلا مع استشعار عظمة المعبود التي لا تكتنه، وقدرته التي لا تحد، وهو صحيح بالنظر إلى العبادة الصحيحية الواجبة لله تعالى، ولكن لا يمنع أن يطلق اسم العباده على تعظيم أحد لغيره تعظيما يخرج به عن حدود استحقاق البشر، ويدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله مع أنهم لم يكونوا يعتقدون لهؤلاء الأحبار والرهبان القدرة المطلقة التي لا تحد، والعظمة الباهرة التي لا تكتنه، وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو قوله سبحانه:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله
[التوبة: 31] - وكان امرأ قد تنصر - فقال له إنهم لم يعبدوهم، قال له: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " فإذا كان اتباع الإنسان على تحليله الحرام وتحريمه الحلال عبادة فما بالك بما يكون من مخلوق لمخلوق مثله من تعظيم لا يليق إلا بمقام الألوهية.
هذا والعبادة هي الغاية التي لأجلها خلق الإنسان، قال تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56] ومن هنا كانت فطرة كل إنسان داعية إليها لما تستشعره من الفراغ الروحي والخواء النفسي بدونها، ومن ثم كانت العبادة تلبية لنداء الفطرة الذي يجلجل من أعماق النفس الإنسانية، وإنما الفطرة وحدها لا تستطيع أن تهتدي إلى العبادة الصحيحة ولذا فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه لتوجيه هذه الفطرة إلى الصراط المستقيم، وما من رسول إلا وكانت دعوته الأولى في قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبادة
ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
[الأنبياء: 25] والعبادة الخالصة لله تعالى توائم بين حركتي الإنسان الاختيارية والاضطرارية، فجسم الإنسان تعد خلاياه بملايين الملايين، وكل هذه الخلايا تتحرك بحسب سنة الله فيها، فإذا انقاد هذا الإنسان وأذعن لربه العظيم وعبده حق عبادته حصل الانسجام التام ما بين هذه الحركات الطبيعية في جسمه وحركته الاختيارية التي ينساق إليها مختارا طاعة لمولاه، ومن هنا نجد الإمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي رحمه الله يعبر في إحدى قصائده النورانية عما يشعر به وهو يسبح لله سبحانه من تجاوب ألسنة لا تحصى فيه مع هذا التسبيح حيث يقول: -
أعاين تسبيحي بنور جناني
فأشهد منى ألف ألف لسان
وكل لسان أجتلي من لغاته
إذا ألف ألف من غريب أغان
ويهدى إلى سمعي بكل لغية
هدي ألف ألف من شتيت معان
وفي كل معنى ألف ألف عجيبة
يقصر عن إحصائها الثقلان
ولا تقف عبادة الإنسان عند هذا الحد بل توائم بين حركته وحركة كل شيء في هذا الكون الواسع الذي تسبح كل ذرة منه بحمد الله وتسجد خاضعة لجلاله،
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء: 44]،
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب
[الحج: 18] ولذلك كانت عبادة الله الخالصة داعية للشعور بالانسجام مع الكون والألفة مع الوجود، فلا ينظر إليه العابد نظرة نفرة وعداء، وإنما ينظر إليه نظرة وئام ووداد.
أما إذا تجلى الإنسان عن عبادة ربه فإنه يشعر بعداوة الكون وخصومة الطبيعة له، ولذلك تجد الغربيين الذين رانت على قلوبهم الجاهلية الحديثة ينظرون إلى الكون نظرة الخصومة والعداء، ويتجلى ذلك في عباراتهم، فكثيرا ما يرد على ألسنتهم وأقلامهم قهر الطبيعة وقسوتها، فإذا حقق أحدهم شيئا قالوا قهر الطبيعة أو تغلب عليها، وإذا أصيب أحدهم بمكروه قالوا قست الطبيعة عليه، أما المؤمن الذي يسبح بحمد الله ويسجد لكبريائه فهو لا يشعر بأية عداوة بينه وبين الطبيعة، وإنما يشعر بالألفة والمودة بينه وبينها لما يربطهما من الخضوع لله والتسبيح بحمده، ولما يتلوه على صفحاتها من آيات بينات تزيد إيمانه رسوخا ويقينه ثباتا، ومما يؤسف له أن تردد ألسنة تلامذة الغرب المنتسبين إلى الإسلام هذه العبارات الوقحة بدون شعور بهاجس نفسي يؤنبهم على استعمالها، وهذا إن دل على شيء فهو دليل على ما أصاب قلوبهم من المسخ وبصائرهم من الطمس، وإذا كانت العبادة منشأ الألفة والوئام بين العابد وجميع الكائنات فإن ذلك يقتضي أن تكون العبادة أوسع مدلولا مما يظنه كثير من الناس من أنها منحصرة في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهذا هو الذى تدل عليه الآيات والأحاديث. أما الآيات فأرى أن أؤخر الكلام عليها إلى أن أصل إليها إن شاء الله في مواضعها، وأما الأحاديث فبحسبي أن أذكر مثالين منها:
1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" في كل ذى كبد رطبة أجر "
وهو دليل على أن الإنسان يتقرب إلى الله سبحانه بالإحسان حتى إلى البهيمة العجماء.
2- يقول عليه أفضل الصلاة والسلام
" في بضع أحدكم صدقة " قيل له يا رسول الله أيصيب أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: " أرأيت إن وضعها في حرام ألم يكن يؤزر " قيل له بلى يا رسول الله قال: " كذلك يؤجر إن وضعها في حلال "
فانظر كيف يكون العمل الفطرى الذي يبلى به الإنسان داعي الغريزة عبادة يؤجر عليها إن أحسن توجيهه واستصحب معه حسن النية.
وبهذا يتضح أن العبادة تقتضى الخضوع المطلق لمنهاج الله فلا يحكم العابد إلا به ولا يحتكم إلا إليه ولذلك حكم الله على من لم يكن يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق حيث قال:
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون
[المائدة: 44] وقال:
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون
[المائدة: 45] وقال:
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
[المائدة: 47] وانكر على الذين يدعون الإيمان وهم يتحاكمون إلى غير شرعه في قوله:
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به
[النساء: 60] ونفى الايمان عن كل من لم يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم الناطق بوحيه المبلغ لأمره في قوله:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
[النساء: 65].
والعبادة أسمى ما ينتسب إليه الانسان ولذلك وصف الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى مقامات ذكره وهى صنو العبادة فقد قال في معرض ذكر إنزال الكتاب عليه
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات..
[آل عمران: 7] وقال
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا
[الكهف: 1] وقال:
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا
[الفرقان: 1] وقال في معرض الحديث عن إبلاغه الرسالة ودعائه الله { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } وقال في الحديث عن الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ترتب عليه أن ينال من الإكرام ما لم ينله أحد قبله:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ إنه هو السميع البصير
[الإسراء: 1] وهذا لأن عبادة الإنسان لربه وعبوديته له تعنيان تحرير رقبته من الذل لسواه وتخليص قلبه من الخضوع لغير عزته، وقد غلا بعضهم فادعى أن العبودية أشرف من الرسالة حكى ذلك الفخر الرازى في تفسيره ولم يتعرض له بشيء، وحاصل ما احتج به هذا القائل أن الرسالة انصراف عن الحق إلى الخلق، والعبودية انصراف عن الخلق إلى الحق، والعبودية أيضا تجرد عن التصرفات، والرسالة تلبس بها، وهذه فلسفة باطلة لا يجوز لمن يؤمن بالله ورسله أن يقرها فالرسالة هى أشرف المقامات وأعلى الدرجات التي يوصل إليها بمحض اصطفاء الله تعالى ولا تنافي العبودية ولذلك وصف الله بهما أحب الناس إليه وأرفعهم عنده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليست الرسالة - كما قال - انصرافا من الحق إلى الخلق وإنما هى اضطلاع بواجب أمانة الحق لابلاغها إلى الخلق، وإذا كانت تقتضي اشتغالا بالتصرفات فإن تلك التصرفات هى من أقرب القربات إلى المرسل سبحانه فهى داخلة في حدود عبادته، وأعظم الدلائل على إخلاص العبودية له.
والفخر والألوسي قسما العبادة إلى ثلاث درجات تمشيا مع آراء كثير من العلماء:
الدرجة الأولى: أن تكون العبادة ابتغاء ثواب الله وخشية عقابه، وهى أضعف الدرجات وسماها الألوسي في تفسيره عبادة.
الدرجة الثانية: أن تكون لأجل نيل شرف بما فيها من التزلف إلى الله تعالى، وهى درجة متوسطة عندهم، وسماها الألوسي عبودية.
الدرجة الثالثة: أن تكون لذات الله مع غض النظر عن كل ما سواه وسماها الألوسي عبودية.
وفي هذا التصنيف نظر، إذ لا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة، وتعظيم الله سبحانه بالعبادة وإخلاصها لوجه لا ينافيان ابتغاء ثوابه والحذر من عقابه كما لا ينافيان الرغبة في نيل شرف عبادته عز وجل، وللإمام نور الدين السالمي رحمه الله في معارجه بحث نفيس في هذه المسأله، ناقش فيه كلام هؤلاء الذين يقسمون العبادة من تلقاء أنفسهم أقساما، واستدل لرده بما جاء من الآيات التي تصف الأنبياء أنهم كانوا يعبدون الله رغبا ورهبا، كقوله سبحانه:
كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا
[الأنبياء: 90] وهي في معرض مدحهم والإبانة عن علو قدرهم، ولا ريب أن الأنبياء أرسخ في العبادة قدما، وأسرع إلى كل خير سبقا من غيرهم، فلو كانت العبادة التي تكون بباعث الخوف والرجاء أضعف من غيرها لكانت عبادات الأنبياء غير مقرونة بهما على أن الخوف والرجاء هما السور المتين الذي يحوط أعمال البر كلها.
وكما تطالب الآية الكريمة الناس أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة تطالبهم بأن يفردوه بالاستعانة لأن القوة المطلقة لله وكل ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وكما أن الله تعالى قد تفرد بخلق الكون فهو متفرد بتدبيره فلا معنى للتعلق بغيره، والقرآن الكريم جاء ليقرر هذه الحقيقة بكثير من الآيات التي تخاطب الناس بالبرهان وتضرب لهم الأمثال، منها قول الله سبحانه
قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أوليآء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار
[الرعد: 16] وقوله:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون
[الزمر: 38] ويبين لنا القرآن أن كل محاولة من المخلوقين لرد سراء أو ضراء كتبها الله لأحد أو عليه لا بد أن تبوء بالفشل الذريع
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم
[فاطر: 2]
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم
[يونس: 107] والنبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أمته على هذه العقيدة القرآنية لتتحول إلى واقع ملموس في أحوال المؤمنين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الشيخين
" إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ".
وهنا سؤال يفرض نفسه وهو أن الإنسان كائن اجتماعي يشترك مع غيره في المصالح والمنافع ولا يمكنه الاستقلال عن سائر بني جنسه فهو بحاجة دائما إلى من يعينه فإذا مرض احتاج إلى الطبيب، وإذا أفلس احتاج إلى من يقرضه أو يتصدق عليه، وإذا اضطر إلى حمل شيء لا يطيقه احتاج إلى من يعينه عليه، وهكذا فكيف يمنع من الاستعاة بالناس؟ على أن القرآن نفسه يرشدنا إلى التعاون في قوله:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
[المائدة: 2] وأترك الإجابة عن هذا السئوال لفيلسوف الإسلام الإمام محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا.
أما الإمام محمد عبده فيجيب بما معناه: أن أعمال الناس تتوقف ثمراتها ونجاحها على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية اليها وانتفاء الموانع التي جعلها الله بمقتضى حكمته حائلة دونها، والإنسان بما اوتي من علم وقوة مكن الله له من كسب بعض الأسباب ودفع بعض الموانع ولكن حجب عنه البعض الآخر فيجب على الناس أن يقوموا بما فيه استطاعتهم من ذلك ويتقنوا أعمالهم بما في وسعهم وأن يتعاونوا ويساعد بعضهم بعضا ويفوضوا الأمر فيما وراء الكسب إلى القادر على كل شيء ويلجأوا إليه وحده طالبين منه المعونة المتممة للعمل والمؤدية إلى جناء ثمرته وليس لهم أن يتعلقوا بما وراء الاسباب إلا بمسببها سبحانه، ويتضح بهذا أن قوله تعالى: { وإياك نستعين } متمم لمعنى قوله { إياك نعبد } لأن هذه الاستعانة هي فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به وذلك من مخ العبادة، فإذا توجه بها العبد إلى غير الله كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي انتشرت في زمن التنزيل وقبله، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجاهلون أن الاستعانة بالذين اتخذوهم أولياء من دون الله واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة للناس هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة فأراد الله سبحانه أن يزيل هذا اللبس ببيان أن الاستعانة بالناس في حدود استطاعتهم ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما مثلها إلا كمثل الآلات المستعملة فيما خصت به بخلاف الاستعانة بهم فيما وراء طاقاتهم البشرية كالاستعانة في شفاء المريض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدد فإن ذلك مما لا يجوز أن يكون إلا بالله تعالى الذي بيده الأسباب والمسببات وهو على كل شيء قدير، وضرب الإمام محمد عبده مثلا لذلك: الزارع عندما يبذل جهده في الحرث والعذق وتسميد الأرض وريها فهو يمارس الوسائل المؤدية مع التوفيق إلى حصول المطلوب، ويستعين بالله تعالى على النجاح طالبا منه منع الآفات والجوائح السماوية والأرضية، ومثل بالتاجر الذي يحذق في اختيار الأصناف ويمهر في فن الترويج، ويتوكل على الله فيما وراء ذلك، وخلص الأستاذ الإمام من هذا إلى تفنيد حالة الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم وشفاء أمراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من الأمور التي ليست في استطاعة الأحياء بله الأموات، وقال عنهم: إنهم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون، واستخرج الأستاذ الإمام من قول الله سبحانه: { وإياك نستعين } فائدتين جليلتين قال فيهما: (هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة):
أولاهما: أن الإنسان مطالب بالأعمال النافعة والاجتهاد في إتقانها ما استطاع، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه أو يخشى أن لا ينجح فيه فيطلب المعونة على إتمامه وكماله.
فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، أما من وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده فهو جدير بطلب المعونة من غيره على رفعه ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، ثم قال الأستاذ بعد هذا التحرير: وهذا الأمر هو مرقاه السعادة الدنيوية وركن من أركان السعادة الأخروية.
ثانيتهما: ما يفيده الحصر المستفاد من تقديم المعمول على العامل من وجوب تخصيص الاستعانة بالله وحده فيما وراء ذلك، قال: وهو روح التوحيد وكمال الدين الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكذابين من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا
ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما
[الأحزاب: 71].
وأما السيد محمد رشيد رضا فيقول " إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه هو الإله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية المعنوية، قال: ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم واسم الرب الأكرم إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف، والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى:
ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه
[هود: 123] فهذه الاستعانة هى ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفا على قرن العبادة بالتوكل فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقيق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبى وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب.
قال: وبهذا البيان تعلم أن لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى بل الكمال والأدب في الجمع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبيده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا وجعلهم خدما يقومون بأمرها لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشاها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، وهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته فالعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه حيث جعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل، قال: هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه لا يجد من يتوجه إليه سواه إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد، وأتبع ذلك قوله أن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام، به وفي هذا تكريم للإنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة، ولا من هدي الشريعة فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وتذكير له من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم بأنه مستغن بكسبه عن عناية ربه فيكون من الهالكين في عاقبة أمره، هذا كلامه وهو ككلام أستاذه في إثبات كون الاستعانة بالله وعدم إشراك غيره فيها من لوازم الإيمان ومقتضيات التوحيد، وإنما بين كلاميهما خلاف لفظي، فالأستاذ الإمام يرى أن الاستعانة فيما كان داخلا في إطار الأسباب التي منحها الله عباده جائزة أن تكون بأولئك الذين أجرى الله الأسباب على أيديهم وعلى ذلك يحمل نحو قوله تعالى:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
[المائدة: 2] أما تلميذه السيد محمد رشيد رضا فهو ينظر إلى أن أولئك ليسوا مستقلين بالأسباب وإنما وهبهم الله تعالى من فضله التفوق فيها وسخرهم بحكمته لإعانة المحتاجين إليها فالمستعين بهم إنما يستعين في الحقيقة بالله واهب الأسباب ومقدرها فيجب على المؤمن ألا يغفل عن هذه الحقيقة عندما يطلب من غيره قضاء حاجته.
هذا وقد يفهم من كلامه في الأسباب العامة وقوله إنها موهوبة للناس كافة أنه يرى تكافؤ جميع الناس فيها، وهو أمر ترده المشاهدة فإن الناس متباينون في المواهب منهم من وهب حصافة الرأي، ومنهم من وهب قوة البدن ومنهم من وهب الحذق في أعمال خاصة وهذا لتكون حياة الناس قائمة على أسس الاجتماع ولو تساوى الناس في مواهبهم لاستغنى كل أحد بنفسه واستكفى بموهبته ولكن الله سبحانه يريد بذلك تذكير الناس بفقرهم واحتياجهم، لئلا يغتر إنسان بما أوتي فيدعي أنه أوتيه باستحقاق، فتجد الملك بحاجة إلى الحجام والقين والحداد والطباخ كحاجته إلى المستشارين والوزراء فسبحان الغني الذي تفرد بالعزة والكبرياء.
وبهذا الذي حررناه تدرك خطورة ما يصنعه كثير من الناس من التعلق بغير الله سبحانه في طلب الحاجات التي لم يجعل الله قضاءها بيد الناس والأعجب من ذلك أن يأتي أحدهم إلى ضريح طالبا من صاحبه الميت البالي أن يعينه على ما لا يستعان عليه إلا بالله، أو يأتي إلى صخرة صماء أو شجرة أو نهر أو أي شيء من هذا القبيل طالبا منه ذلك مع أن هذه الأشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تعقل وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق منزلة وأعظمهم شأنا يقول له سبحانه في حياته:
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شآء الله
[الأعراف: 188] فما بالك بغيره صلى الله عليه وسلم بل ما بالك بالأموات والجمادات والنباتات هل من المعقول أن تلبي هذه الأشياء لأحد طلبا أو تسمع له دعاء أو تستجيب له نداء؟ وإنما ذلك شأن العقول إذا ضلت والأفكار إذا زاغت.
ولعمري ليس تفشي مثل هذه الضلالات في هذه الأمة إلا تصديقا لنبوة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم حيث يقول كما ثبت في الصحيحين
" لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه "
وفي حديث أبي واقد الليثي عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها " ذات أنواط " يعلقون عليها أسلحتهم، فقيل له: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي:
" سبحان الله هذا كما قال قوم موسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ".
هذا وفي المقام مباحث:
الأول:- في تقديم العبادة على الاستعانة، ولأفكار العلماء تزاحم في استخراج حكمة ذلك وقد استظهروا وجوها:
أولها: أن العبادة أمانة كما قال تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
[الأحزاب: 72] لذلك كانت أجدر بالعناية، فقدمت.
ثانيها: أن إسناد المتكلم العبادة إلى نفسه يوهم التبجح والاعتداد بما صدرعنه، فكان جديرا بأن يتبع ما يدل على أن العبادة لا تتم إلا بمعونة وتوفيق من الله وهذا يستفاد من جملة { وإياك نستعين }.
ثالثها: أن العبادة قربة محضة إلى الله تعالى، أما الاستعانة فقد تكون لمنفعة عاجلة.
رابعها: أن العبادة مطلوبة لله تعالى من العباد، والاستعانة مطلوبة للعباد من الله، وتقديم ما كان لله أولى مما كان للعباد.
خامسها: أن العبادة في جملتها واجبة لله تعالى على العبد، ولذلك كانت هي الغاية من خلق الإنس والجن، قال تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56] أما الاستعانة فيختلف حكمها باختلاف حال المستعان عليه.
سادسها: أن العبادة أظهر مناسبة بذكر الجزاء فجيء بها بعده، والاستعانة أكثر التئاما مع طلب الهداية فجيء بها قبله.
سابعها: أن الاستعانة ثمرة للعبادة، فإن إخلاص العبادة لله يستلزم إفراده بالاستعانة، قال صاحب المنار: " ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإتيان بها على الوجه المرضي له عز وجل، لا منافاة بين الأمرين لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى، فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشيء الأعمال، فكل منها سبب ومسبب، وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة ".
ويرى ابن جرير أن الترابط الذي بين العبادة والاستعانة يقتضي جواز تقديم أي منهما على الآخر كما يجوز أن يقال: قضيت حقي فأحسنت إلي، أو أحسنت إلي فقضيت حقي، ويستفاد مما قاله أنه لا يرى ما يسوغ البحث في تقديم العبادة على الاستعانة.
الثاني:- في تقديم المعمول وهو { إياك } على العامل وهو { نعبد } و { نستعين } ، وذكروا له وجوها:-
أولها: الدلالة على الحصر والاختصاص، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلا نعبد غيرك، ويراد به التبرؤ عن الشرك والتعريض بالمشركين.
ثانيها: أن المتقدم في الوجود أحق بالتقدم في الذكر، فالله تعالى كان قبل كل موجود، ولذلك كان الأنسب تقديم ذكره عن ذكر عبادته.
ثالثها: أن في تقديم ذكره تعالى تنبيها للعابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله، فيوقظ ذلك الهمة في نفسه ويقضي على الكسل والتواني.
الثالث:- في المجيء بصيغة الجمع دون الإفراد في قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } وفيه أقوال:
أولها: أن العبد يحتقر نفسه في مقام الخطاب لله عز وجل، ويستقل عبادته بجانب ما لله تعالى من منة أسبغها عليه وحق يجب له تعالى على العبد، فيجدر به أن يخاطبه مع غيره وأن يوجه عبادته إليه مختلطة بعبادة العابدين.
ثانيها: أن الإنسان مع خضوعه لأهل الدنيا وطلبه منهم ما يجدر طلبه من الله إن قال بمفرده إياك أعبد وإياك أستعين كان كاذبا، أما إن وجه الخطاب بصيغة الجمع الدالة على اشتراكه مع العابدين والمستعينين كان أبعد عن الكذب، لوجود من أخلص له العبادة وقصر الاستعانة عليه من بينهم.
ثالثها: أن صيغة الجمع أدعى إلى القبول والاستجابة من صيغة الإفراد لأن المخاطب يحشر نفسه في زمرة المخاطبين، ولا يعتد بخطابه بنفسه، وذكروا أنه مما يرشد إلى ذلك ما حكاه الله عن الذبيح إسماعيل عليه السلام من قوله:
ستجدني إن شآء الله من الصابرين
[الصافات: 102] وما حكاه عن الكليم عليه السلام من قوله:
ستجدني إن شآء الله صابرا
[الكهف: 69] وقد صبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحدا من جمع، ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أنهما قالا جميعا " إن شاء الله ".
رابعها: أن الإسلام دين وحدة واجتماع، وليس بدين تشتت وافتراق، ولأجل ذلك شرعت بعض العبادات تؤدي بطريقة جماعية لا على الانفراد، وفي المجيء بصيغة الجمع هنا في هذه السورة التي يجب على المسلم أن يكررها في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أهم عبادة في الإسلام تذكير بواجب الترابط بين المسلمين وإيقاظ لمشاعر الأخوة والمودة بينهم.
الرابع:- في تكرار { إياك } وفيه آراء:-
أولها: أنه للتنصيص على أن طلب العون منه تعالى فإنه لو قال: { إياك نعبد ونستعين } لاحتمل أن يكون إخبارا عن طلب العون من غير تعيين للجهة المطلوب منها.
ثانيها: أن العبادة هي قربة إلى الله تعالى ولو لم تكن مقرونة بالاستعانة، والاستعانة كذلك ولو لم تكن في حال العبادة، ولو أفرد ذكر الضمير لأوهم أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بينهما.
ثالثها: أن في التكرار تعليما للناس بأن يجددوا ذكر الله عند كل حاجة تعن.
الخامس: في إطلاق الاستعانة وعدم تقييدها بمستعان فيه معين، وقد ذكروا لذلك نكته وهي قصد العموم لاحتمال دخول كل ما يستعان عليه، والفعل المثبت وإن كان له حكم الإطلاق المخالف لحكم العموم في عدم احتوائه جميع أفراد مدلولات لفظه دفعة واحدة، فإنه بعدم تقييده يقضي باحتمال قصد أي فرد من أفراد تلك المدلولات، ومن جهابذة المفسرين من يرى أن الاستعانة هنا ليست على إطلاقها وإنما هي محصورة في العبادة، وممن جنح إلى هذه العلامة الزمخشري في كشافه حيث جعل الاستعانة مبهمة أوضحها قول الله تعالى فيما بعد: { اهدنا الصراط المستقيم } فكأنما المستعينون سئلوا من قبل العلي الأعلى: كيف أعينكم؟ فقالوا: إهدنا الصراط المستقيم.
واللائق بعقيدة التوحيد عموم الاستعانة في كل ما يطلب العون فيه وهذا لا يمنع أن تكون العبادات داخلة من باب الأولوية فيما يستعان فيه، وقد أسلفنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما الدال على الاستعانة بالله شاملة لكل ما يطلب فيه العون، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العون من الله في أداء العبادة، فقد أخذ يوما بيد معاذ رضى الله عنه وقال:
" والله إني لأحبك أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ".
[1.6]
الهداية تطلق على الدلالة، وخصها بعضهم بالدلالة المصحوبة باللطف وأجيب عما عساه يتجه إلى هذا من سؤال عن قول الله تعالى:
فاهدوهم إلى صراط الجحيم
[الصافات: 23] الذي تنافي الهداية فيه اللطف المزعوم بأن الآية واردة مورد التهكم على حد
فبشرهم بعذاب أليم
[التوبة: 34] وكما قال الشاعر:-
وخيل قد دلفت لها بخيل
تحية بينهم ضرب وجيع
والهداية في القرآن ذات مدلولات متعددة، فلذلك تأتي تارة مسندا فعلها إلى الله وحده ومنفيا عمن سواه، كما في قوله تعالى في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم:
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء
[القصص: 56] وفي قوله:
ومآ أنت بهادي العمي عن ضلالتهم
[النمل: 81] وقوله:
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشآء
[البقرة: 272] ويسند فعلها تارة إلى غيره تعالى كإسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
[الشورى: 52] وإسناده إلى النبيين من قبله كما في قوله عز من قائل:
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا
[الأنبياء: 73] وإسناده إلى القرآن في قوله سبحانه:
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
[الإسراء: 9] وتأتي تارة محصورة في المؤمنين وحدهم دون الكافرين كما في قوله سبحانه في وصف القرآن:
هدى للمتقين
[البقرة: 2] وقوله:
هدى وبشرى للمؤمنين
[النمل: 2] وقوله:
هدى ورحمة للمحسنين
[لقمان: 3] وقوله سبحانه في وصف المؤمنين:
وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد
[الحج: 24] وقوله:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69] وقوله: { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } وقوله:
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم
[محمد: 17] وقوله:
والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم
[محمد: 4- 5] وقوله:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم
[يونس: 9] وقوله في النبيين:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام: 90] وتأتي تارة شاملة للمؤمنين والكفار كما في قوله سبحانه:
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
[الإنسان: 3] وقوله:
وهديناه النجدين
[البلد: 10] بل تأتى تارة نصا في الكفار وحدهم كما في قوله سبحانه:
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت: 17] ومن هذا الباب قول الله تعالى:
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه: 50] وقوله:
والذي قدر فهدى
[الأعلى: 3].
وقد استظهر أصحابنا رحمهم الله من هذا أن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية بيان، وهداية توفيق، فهداية البيان تعم المؤمن والكافر ويحمل عليها نحو قوله تعالى: { وأما ثمود فهديناهم } ، وأما هداية التوفيق فهي محصورة في المؤمنين، ويحمل عليها نحو قوله عز وجل: { أولئك الذين هدى الله } ، وهداية البيان يصح إسناد فعلها إلى غير الله تعالى كما في قوله: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فإن المراد بهدايته صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستقيم دعاؤه إليه المقرون ببيان معالمه، أما هداية التوفيق فليست من مقدور البشر وإنما هي من مقدور القادر على كل شيء الذي يصرف القلوب كيف يشاء، وإذا نظرنا إلى الآيات التي أوردناها وجدنا أن الهداية أوسع مدلولا وأكثر تشعبا مما ذكره أصحابنا، فمدلولها يشمل هداية الدين وغيرها، ومتعلقها الإنسان المخاطب بهداية الدين وغيره من المخلوقات، لذلك أميل إلى ما قاله بعض أئمة التفسير في القديم والحديث في تفسير الهداية وتقسيمها إلى أقسام:-
الأول: هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وتكون للإنسان وغيره منذ الولادة، فالمولود يشعر بحاجته إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته، ويلهم امتصاص الثدي بمجرد وصوله إلى فيه.
الثاني: هداية الحواس والمشاعر، وهي تتميم للهداية المذكورة في القسم الأول، وهي أيضا مشتركة بين الإنسان وغيره، بل غير الإنسان أكمل فيها وفيما قبلها منه فإن حواس الحيوان وإلهامه تكمل له بعد ولادته بقليل، أما الإنسان فإنه يتدرج فيها في زمن طويل، ولذلك لا تظهر عليه عقب الولاده علامات إدراك الأصوات والمرئيات، وعندما يبصر لا يمكنه تحديد المسافات فيرى البعيد قريبا وتحدثه نفسه بأن يمد إليه يده وهذا الغلط في الحس لا ينفك عن الإنسان حتى بعد نموه وكماله، ألا تراه يرى النجم نقطة في السماء وهو قد يكون أكبر من الأرض بملايين المرات، وهذان القسمان داخلان في عموم قوله تعالى:
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه: 50] وقوله:
والذي قدر فهدى
[الأعلى: 3].
الثالث: هداية العقل وهي خاصة بالإنسان من بين الكائنات الحية المستقرة في الأرض وهذا لأن الإنسان ينوء بثقل أمانة الخلافة في الأرض وهو كائن اجتماعي تتوقف مصالحه على التعارف والتفاهم بين بني جنسه ولم يعط من قوة المشاعر الباطنة والظاهرة ما يكفيه للقيام بما تقتضيه الحياة الاجتماعية كما أعطى النحل والنمل فإن الله قد وهبها من الإلهام الفطري ما يكفيها لأن تعيش مجتمعه يؤدي كل واحد منها وظيفة العمل لجميعها ويؤدي الجميع وظيفة العمل للواحد، وهذا سبب الترابط بين أفرادها ووجود النظام فيما بينها.
أما الإنسان فلم تكن له هذه الخاصية ولم يتوفر له هذا الإلهام، ومع ذلك فهو يتميز عنها بما منحه من شرف الخلافة في الأرض والسيادة فيها، وقد وهبه الله في مقابل ذلك هداية العقل التي هي أقوى من هداية الحس والمشاعر، فإن العقل هو الذي يصحح أخطاء الحواس والمشاعر ويكشف عن أسباب هذه الأخطاء، فعندما يرى البصر الكبير صغيرا على البعد، ويرى العود المستقيم معوجا في الماء، ويذوق الصفراوي الحلو فيحس منه المرارة يحكم العقل في ذلك فيفند هذه الأخطاء ويبين أسبابها، وحمل بعضهم على هذه الهداية قول الله سبحانه
وهديناه النجدين
[البلد: 10].
الرابع: هداية الدين، فإن العقل وحده لا يستطيع أن يقوم سلوك الإنسان المعوج، ويهدي فكره المنحرف فإن الخطأ يتسلط عليه كما يتسلط على الحس، وقد يتأثر عقل الإنسان بالجو الذي يعيش فيه، والمحيط الذي يتربى وسطه، فيستحسن ما يستقبحه غيره، ويستقبح ما يستحسنه سواه، وقد تستعلى عواطفه أو رغباته على العقل فتطمس نوره وتوهن قواه، ولذلك ينساق كثير من الناس - مع ما أتوه من قوة التفكير - وراء شهواتهم وعواطفهم، غير مبالين بالمصير الذي تؤديهم إليه، بل يسخرون أحيانا طاقاتهم العقلية والحسية للوصول إل ما يهدفون إليه من مقاصد دنيئة، بدلا من استخدام العقل فيما يؤول إلى سعادة الإنسان الشخصية والنوعية، ولا تقف رغبات الإنسان عند حد معين، ولذلك كثيرا ما تفضي به إلى التطاول إلى ما فيه يد غيره، وعدم المبالاة بإمتهان كرامة بني جنسه، فيؤدي الأمر إلى التنازع والتدافع والتقاتل والتفاني، ولا تغني تلك الهدايات شيئا، وهذا أمر مشاهد حتى في الشعوب والأمم التي تعد نفسها أرقى من غيرها حضارة، ولا أدل على ذلك مما يحصل أحيانا في سلسلة الحروب الدولية، من إبادة شعوب أو استرقاقها، واهلاك الحرث والنسل بالوسائل العلمية، التي تستخدمها عقول ضلت سبيل الرشد وأخفقت في بناء مجتمع بشري ينعم بالسعادة والهناء والإستقرار، ومن ثم كان الإنسان بحاجة إلى هداية أسمى من الهدايات السابقة الذكر تملأ القلب خشية من سلطة غيبية أعلى وأجل من تصورات البشر ومدارك العقول والأفكار، وتضع حدودا للأعمال ورسوما لكل ما تتطلبه حياة الإنسان فلا يعدو أحد على غيره، كما تصل الإنسان بالغيب الذي يتطلع إليه وما هو ببالغه إلا من طريق هذه الهداية.
هذا وقد أودع في غريزة كل إنسان الشعور بهذه القوة الغيبية التي لا يحاط بها علما، والتي تهيمن على الوجود كله وإليها يرد الإنسان بفطرته كل ما لا يعرف له سببا لأنها هي التي تهب كل موجود ما يكون به قوام وجوده، كما أودع في غريزة كل أحد بأن هذه الحياة الدنيا ليست هي الحياة النهائية التي يحياها الإنسان ولذلك يتطلع كل أحد إلى حياة أوسع منها.
والهدايات الثلاث السابقة لا تصل إلى تحديد ما يجب على الإنسان لذي القوة الغيبية الذي خلقه في أحسن تقويم وسخر له ما يحتاج إليه كما لا تصل إلى تحديد ما تكون به السعادة في الحياة الأخرى، ومن هنا كانت ضرورته إلى الدين وإفتقاره إلى توجيهه، والهدايات الثلاث السابقة مشتركة بين البر والفاجر، ويرى بعض المفسرين أنها يشار إليها جميعا بقوله تعالى:
وهديناه النجدين
[البلد: 10] وبعضهم يرى دخول الهداية الرابعة ضمن الإشارة وهذه الهداية الرابعة - أعني هداية الدين - قد يشارك فيها الفاجر إذا فسرت بالبيان دونما إذا فسرت بالتوفيق كما أسلفنا من قبل، وهداية التوفيق تنقسم إلى ثلاث مراتب:-
المرتبة الأولى: التوفيق لقبول الحق والعمل به وإليها الإشارة بنحو قوله عز وجل:
ولكن الله يهدي من يشآء
[البقرة: 272].
المرتبة الثانية: التوفيق للإستمرار على الحق والإستزادة منه، وإليها الإشارة بنحو قوله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69] فإن الجهاد نفسه لا يكون إلا بهداية توفيقية من الله سبحانه، وقوله:
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم
[محمد: 17] واختلف في هذه الهداية، هل هي مكتسبة من العبد نظرا إلى العمل يسببها؟ نحو الجهاد الوارد في قوله عز وجل: { والذين جاهدوا فينا } ، أو هي هبة من الله لعبده نظرا إلى أن الله هو الذي أفاضها عليه، والاختلاف باختلاف الاعتبارات ليس غير، ولذلك تصح نسبة إكتسابها إلى العبد كما تصح نسبة هبتها إلى الله تعالى.
المرتبة الثالثة: التوفيق لجوار الله سبحانه في جنات عدن وإليها الإشارة بقوله عز وجل:
والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم
[محمد: 4- 6] وقوله:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم
[يونس: 9] وهذه هي أسمى مراتب الهدايات وأرقى منازل المهتدين، وجميع الهدايات السابقة سلم للصعود إليها، ووسائل للحصول عليها.
والأصل في كلمة هدى أن تستعمل بمعنى الإمالة - هكذا نقل القرطبي في تفسيره - واستدل له بقوله تعالى:
إنا هدنآ إليك
[الأعراف: 156] أي ملنا، وبحديث عائشة في الصحيحين:
" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهادى بين رجلين "
أي يتمايل من المرض، ومنه الهدية لأنها تمال من ملك إلى ملك والهدي للحيوان الذي يساق إلى الحرم، لأنه يمال به من مكان إلى مكان، وفي الاستدلال لذلك بقوله تعالى: { إنا هدنآ إليك } نظر فإنه من هاد يهود وليس من هدى يهدي.
ويتعدى فعل الهداية إلى المفعول الثاني بنفسه كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
فاتبعني أهدك صراطا سويا
[مريم: 43] ويتعدى إليه باللام نحو قوله سبحانه حكاية عن أهل الجنة:
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
[الأعراف: 43] ويتعدى إليه بإلى نحو قوله عز وجل
وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد
[الحج: 24].
وللعلماء آراء في التفرقة بين معنى الهداية إن تعدت بنفسها إلىالمفعول الثاني ومعناها إن تعدت إليه بحرف. ولم تقم أدلة على صحة آرائهم بل قامت على دحض بعضها لذلك استغنيت عن ذكرها. وطلب الهداية هنا محمول على طلب المزيد منها، أو على طلب التوفيق للاستمرار عليها لأن الإنسان عرضة للخطأ والضلال والتأثر بالمؤثرات الداخلية والخارجية، وبهذا يجاب عما لو سئل:
أليس من حمد الله بمحامده، ووصفه بصفاته، وخصه بالعبادة والإستعانة مهتديا؟ فلماذا يطلب منه الهداية؟ وهل هو إلا تحصيل حاصل؟..
والصراط الطريق ومنه قول الشاعر:
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوج الموارد مستقيم
وقول الآخر:
وطئنا أرضهم بالخيل حتى
تركناهم أذل من الصراط
وأصله السراط بالسين لأنه يسترط السابلة أي يبتلعها، أو يسترطه السابل بالقطع، ولذلك سمي لقما لأنه يلتقم السالك، أو يلتقمه السالك وأبدلت السين صادا لمكان الطاء.
روى الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { الصراط المستقيم } بالصاد، وروى البخاري في تاريخه وسعيد بن منصور وعبد بن وحميد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ { السراط المستقيم } بالسين، والقراءة بالسين أخرجها ابن الأنباري عن ابن كثير، أحد القراء السبعة والرواية عنه مختلفة، فقد روى عنه أيضا الصاد والمضارعة بينها وبين الزاي، وأخرج ابن الأنباري أيضا عن حمزة أنه كان يقرأ (الزراط) بالزاي الخالصة، قال الفراء: وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين، وهذه القراءة رواها الأصمعي عن أبي عمرو، وذكر ابن عطية وأبو حيان في تفسيرهما عن بعض اللغويين، أنه قال ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا، ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا.
ثم ذكر أن هذا الكلام حكاه أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد، وقد مر أن هذه القراءة أسندها ابن الأنباري إلى حمزة، وهو أحد القراء السبعة، وأنها لغة عذرة وكلب وبني القين، فتخطئة بعض اللغويين للأصمعي في نقلها عن ابي عمرو تسرع منه، وأبو حيان الذي نقل هذه التخطئة كما نقلها ابن عطية نقل من بعد عن ابي جعفر الطوسي، وهو أحد أئمة التفسير من الشيعة الإمامية، أنه قال: " الصراط بالصاد لغة قريش، وهي اللغة الجيدة وعامة العرب يجعلونها سينا، والزاي لغة عذرة وكعب وبني القين " والجمهور قرأوا بالصاد.
وللمفسرين أقوال في معنى الصراط ترجع إلى ما قاله ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو كذلك في لغة جميع العرب.
قيل: هو القرآن، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن علي كرم الله وجهه مرفوعا، ورواه ابن جرير موقوفا عليه، ويشهد له ما رواه أحمد والترمذي عن علي مرفوعا في فضائل القرآن، " وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم " وقد تقدم الحديث بتمامه في مقدمة التفسير، وهذا القول أخرجه ابن المنذر ووكيع وعبد بن وحميد وأبو بكر الأنباري والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن مسعود.
وقيل هو الإسلام أخرجه وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، عن جابر بن عبد الله ونص ما رووا عنه أنه قال: (هو دين الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض)، وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك عن ابن مسعود وناس من الصحابة وروى ابن جرير عن محمد بن الحنفية أنه قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الإسلام، رواه عنه ابن جرير ايضا، ويشهد لهذا التفسير قول الله تعالى:
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
[الأنعام: 161] كما يشهد له ما اخرجه أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن النواس ابن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم "
قال ابن كثير: - بعدما أورد بعض أسانيد الحديث - وهو إسناد حسن صحيح.
وقيل: هو السنة ذكره بعض المفسرين عن بعض الصحابة.
وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمرو، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن عساكر عن عاصم الأحول عن أبي العالية، وجاء فيه عن عاصم الأحول أنه ذكر للحسن البصري تفسير أبي العالية فقال: صدق ابو العاليه ونصح، وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية عن ابن عباس مثله.
قال قطب الأئمة رحمه الله في الهيميان: " ويقدر مضاف أي اهدنا اتباعهم، وفيه تكلف بعيد، وتجوز تسمية أشخاصهم طريقا ووجهه أنهم واسطة إلى الجنة لمن اقتدى بهم ممن أنعم الله عليه، وعلى هذا الأخير يكون الخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم وغير أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قيل: وهو قوي في المعنى ".
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر القرطبي في تفسيره عن الفضيل بن عياض أنه قال: هو طريق الحج، قال القرطبي: وهذا خاص والعموم أولى.
وهذه الأقوال كلها ما عدا الأخير متحدة في المعنى وإن اختلفت في اللفظ، فإن الإسلام يتمثل في تعاليم القرآن وهديه، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وهدى أصحابه رضي الله عنهم، فلا يختلف تفسير من فسره بالقرآن عن تفسير من فسره بالإسلام أو السنة أو الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وإنما اختلفت العبارات لإختلاف الإعتبارات، وقد أوردنا سابقا كلام ابن تيميه، الذي أوضح فيه أن مثل هذا لا يعد خلافا، وانتقد الفخر الرازي تفسير الصراط المستقيم بالإسلام أو القرآن نظرا إلى أن قوله تعالى: { صراط الذين أنعمت عليهم } بدل من { الصراط المستقيم } والبدلية تقتضي صحة حلول البدل محل المبدل منه، فكأنه قيل: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، والأمم السابقة لم يكن لها القرآن والإسلام، ورد عليه أبو حيان في البحرالمحيط بأن هذا لا يتأتي له إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون، قال: " وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم ": ورد الألوسي على الفخر بما حاصله أن الفخر نفسه اختار فيما اختار من الوجوه التي ارتضاها أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال، وأكد ذلك بقوله تعالى:
وكذلك جعلناكم أمة وسطا
[البقرة: 143] قال الألوسي: " فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لو لم يكن هذا للمتقدمين من الأمم، وتلونا عليه الآية التي ذكرها، وسبحان من لا يرد عليه ".
هذا وقد تقدم ما يدل على صحة تفسير الصراط المستقيم بالإسلام من القرآن والحديث، ومما يؤكد ذلك قول الله تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
[الأنعام: 153] ولا معنى لما يقوله الفخر، من أن الأمم لم يكن لها إسلام، فإن الإسلام لم تختص به هذه الأمة فحسب، بل هو مشترك بينها وبين جميع الأمم، التي اتبعت هدى أنبيائها فإن المرسلين ما بعثوا لتفريق الدين بل بعثوا لجمعه وتوحيده، وينص على ذلك قول الله تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب
[الشورى: 13] وإذا كانت شرائع النبيين قد اختلفت باختلاف الظروف التي واجهوها، وأحوال الأمم التي بعثوا فيها، فإن أصول دينهم لم تختلف، إذ لم يأت رسول إلا ويدعو إلى توحيد الله وعدم إشراك غيره في العبادة، وهذا هو الإسلام عينه. ومما يدل على ما قلناه قول الحق سبحانه
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين
[آل عمران: 67] وقد حكى الله عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أنهما كانا يقولان - وهما يرفعان قواعد البيت العتيق -:
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك
[البقرة: 128] وقال عز وجل:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون
[1.7]
فصراط هنا بدل من الصراط الذي ذكر من قبل، وهذا النوع من البدل يعبر عنه النحويون ببدل الكل من الكل، وزعم بعضهم بأن { صراط } الثاني غير { الصراط } الأول، وكأنه نوى فيه حرف عطف، واختلف هؤلاء في تعيينه، فجعفر بن محمد يرى أنه العلم بالله والفهم عنه، وبعضهم يرى أنه موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة، ومنهم من يرى أنه التزام الفرائض والسنن. ودعوى أن { صراط } الثاني غير الأول، ما هي إلا هروب من الواضح إلى المشكل، وفائدة المجيء بالبدل والمبدل منه، التنصيص على أن صراط هؤلاء هو علم في الإستقامة، فلو قيل: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لم تحصل هذه الفائدة، ومثال ذلك إذا أردت المبالغة في وصف أحد بالكرم والفضل فإنك تقول: (هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان، فإنك بذلك جعلته علما على الكرم والفضل، بحيث إذا ذكر تصور الكرم والفضل في أعلى مراتبهما، بين يدي السامع وأمام ناظريه، ولو جئت بأسلوب آخر وقلت: هل أدلك على فلان أكرم الناس وأفضلهم، لم تفد العبارة هذه المبالغة، وكذلك هنا ذكر أولا الصراط المستقيم ثم فسر بصراط الذين انعم الله عليهم، ليكون نصا في أن هؤلاء المنعم عليهم هم معالم الإستقامة وأعلام الاعتدال والرشد، يهتدى بهم إلى مرضاة الرب تعالى.
واختلف في المقصود بهم فالجمهور يرون أنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، أخذا من قوله تعالى:
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
[النساء: 69] ويعتضد ذلك بذكر الصراط المستقيم في هذا السياق قبل هذه الآية في قوله عز وجل:
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنآ أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما
[النساء: 66- 68] وهذا هو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي عنه: أنهم المؤمنون. وأخرج عبد ابن حميد عن الربيع بن أنس أنهم النبيون، وقيل: هم قوم موسى وعيسى قبل النسخ والتبديل، وقيل: هم المسلمون، وقيل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن أبي العالية أنهم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، وانتقد الإمام محمد عبده تفسير المنعم عليهم بالمسلمين، محتجا بأن الفاتحة أول سورة نزلت، كما روى عن الإمام على كرم الله وجهه، وكما حققه الإمام محمد عبده نفسه.
وإن لم تكن أول سورة على الإطلاق، فلا خلاف في أنها من أوائل السور ولم يكن المسلمون حال نزول السورة بحيث يطلب الإهتداء بهداهم، لأن هداهم معقود بالوحي، وتلك هي بداية الوحي، ثم انهم هم المأمورون بأن يطلبوا من الله أن يهديهم هذا الصراط، صراط الذين أنعم عليهم من قبلهم فهم قطعا غيرهم، ورجح الإمام محمد عبده قول الجمهور أنهم هم الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتقاد الإمام موجه إلى الذين يزعمون أن هؤلاء المنعم عليهم هم مسلمو هذه الأمة وهو لا ينافي أن يكون المعنيون - وإن كانوا قبل هذه الأمة - من المسلمين أيضا، لما علمت من أن الإسلام ليس محصورا في هذه الأمة، وإنما هو دين جميع النبيين والصالحين، وأوضح الإمام محمد عبده أن ما جاء من ذكر المنعم عليهم إلى آخره، مجمل لما فصل في سائر القرآن من أخبار الأمم وبيان أحوالها مما يقدر بثلاثة أرباع القرآن تقريبا، والمراد من ذلك توجيه الأنظار إلى الإعتبار بأحوال الأمم في الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة إذ لا شيء - يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع، فإذا إمتثل المسلمون الأمر والإرشاد، ونظروا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم، وجهلهم، ورقيهم، وانحطاطهم، وقوتهم، وضعفهم، وعزهم، وذلهم، وسائر ما يعرض للأمم، كان لهذا النظر أثر إيجابي في نفوس المسلمين، يحملهم على الإقتداء بالصالحين من قبلهم واتباع أسباب العلم والرقي والقوة والعز، ليتمكنوا في الأرض، واجتناب أسباب الجهل والإنحطاط والضعف والذل التي تؤدي إلى الشقاوة والهلاك والدمار.
ثم أشار الأستاذ محمد عبده إلى علم التاريخ، وما فيه من الفوائد والثمرات وذكر أن العاقل تأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من شيوخ الدين من أمة هذا كتابها يعادون بإسم الدين، ويزهدون فيه غيرهم، كما يرغبون بأنفسهم عنه، زاعمين أنه لا حاجة إليه ولا فائدة منه، ثم قال وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات
[الرعد: 6].
وأورد بعد هذا سئوالا وهو: كيف يأمرنا الله باتباع صراط من تقدمنا؟! وعندنا احكام وإرشادات لم تكن عندهم، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم، وأصلح لزماننا، وما بعده؟ وأجاب عما ذكرناه من قبل أن دين الله في جميع الأمم واحد، وانما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف بإختلاف الزمان، وأما الأصول فلا خوف فيها فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، وترك الشر وعمل البر، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والتخلي عن العادات المذمومة، كل من ذلك أمر مشترك بين الجميع، وقد أمرنا الله بالنظر فيما كانوا عليه، والاعتبار بما صاروا إليه، لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير، وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة، على حسب طريقة القرآن، في قرن الدليل بالمدلول، والعلة بالمعلول والجمع بين السبب والمسبب، وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإجمال نعرفه من شرعنا، وهدى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.
وزاد السيد محمد رشيد رضا عما قال أستاذه، أن في الإسلام من ضروب الهداية ما قد يعد من الأصول الخاصة به، ويرى أنه مما يقتضي الاستدراك على ما قرره الأستاذ الشيخ محمد عبده، وذلك نحو بناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد جلب المصالح والمنافع، ودفع المضار والمفاسد، ونحو بيان أن للكون سننا مطردة تجري عليها عوالمه العاقلة وغيرالعاقلة، وكالحث على النظر في الكائنات لقصد العلم والمعرفة، لما فيها من الحكمة والأسرار التي يرتقي بها العقل، وتتسع بها أبواب المنافع للإنسان، وكل ذلك مما امتاز به القرآن، وأجاب عن ذلك أنه تكميل لأصول الدين الثلاث، التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإنسان، والأصول الثلاثة هي الإيمان الصحيح، وعبادة الله تعالى وحده، وحسن المعاملة مع الناس، ولا خلاف فيها في رسالات جميع المرسلين.
والإنعام أطلق في الآية الكريمة لأن من رزق نعمة التوفيق للخير، فكأنما استجمع جميع النعم، والخير بأسره محصور في الإسلام، فمن هدي إليه فقد جمع بين نعمة الحال والمآل، وللعلماء رأيان في الكفرة، هل يقال فيهم: إن الله أنعم عليهم أو يمنع ذلك؟ فالمعتزلة يجيزون هذا الوصف في غير المسلمين، وأكثر علماء الكلام من غيرهم يمنعونه، ونجد الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) يستدل للقائلين بالمنع بأنه لو جاز نحو هذا الوصف في غير المؤمنين، لأدى ذلك إلى دخولهم ضمنا في قوله سبحانه: { الذين أنعمت عليهم } وهذا يقتضي جواز أن يقول الإنسان في دعائه: (إهدني صراط من أنعمت عليهم من القوم الكافرين) ولما امتنع ذلك بالإجماع، ثبت لدينا عدم صدق وصف الإنعام على غير المؤمنين، وأنت إذا تدبرت ما جاء من تقييد في نفس هذه الآية الكريمة إتضح لك بطلان ما يقوله الرازي، فإن قوله سبحانه { غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } وصف تقييدي للمنعم عليهم، يخرج مما يقتضيه إطلاق لفظ الإنعام، كل من لم يكن على طريقة أصحاب الصراط المستقيم المعنيين في الدعاء، ويدل على ذلك ما جاء في القرآن، من تذكير الناس - مؤمنهم وكافرهم - بآلاء الله، وقد يأتي الخطاب موجها إلى غير المؤمنين، ومما ورد هذا المورد قول الله عز وجل:
ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
[البقرة: 21- 22] وقوله:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم
[البقرة: 28- 29] وقوله عز وجل
يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
[البقرة: 40] وقوله سبحانه:
يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
[البقرة: 122] وقوله تعالى:
لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتآء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
[قريش].
إلى ما وراء ذلك من آيات الإمتنان، التي تعم المؤمن والكافر تارة، وتخص الكافرين تارة أخرى، أما ما قيل من أن هذه العطايا التي بسطها الله للكفار ليست إنعاما عليهم، وإنما هي استدراج ولا تساوى شيئا، إذا قيست بما ينتظرهم من عقاب، فالجواب عنه: أنه وإن كانت استدراجا فهي لا تنافي أن تكون إنعاما، كما نص عليه الكتاب في خطاب بني إسرائيل، والعقاب العظيم الذي ينتظر الكفار ليس مترتبا على النعم، وإنما هو مترتب على كفرهم بها وبواهبها سبحانه وتعالى، والكفر قد كان باختيارهم، ولم يكونا عليه مكرهين.
والنعمة عرفها بعض العلماء بأنها الحالة التي يستلذها الإنسان، وقسمها بعضهم إلى دنيوية وأخروية، والدنيوية إلى روحانية وجسمانية، فالروحانية نفخ الروح وإنارة العقل وإذكاء المشاعر، والجسمانية تكوين الجسم وتجهيزه بالطاقات المختلفة والحواس المتنوعة، والأخروية هي الفوز برضوان الله والسعادة بجواره، في جنات عدن، وهي تترتب على نعمة الهداية المترتبة على التوفيق لاستخدام العقل فيما يؤدي إلى الخير، وبهذا التقسيم يتضح لك أن من النعم ما يكون مشتركا بين المؤمن والكافر، ومنها ما يكون خاصا بالمؤمنين، والمنعم عليهم هنا هم المؤمنون، لأنهم الذين وفقوا لسلوك صراط الحق، المؤدى إلى رضوان الله عز وجل، وطريقهم هو طريق العز والنصر في الدنيا، والفوز والسعادة في الدار الآخرة، فإن الله سبحانه قد وعد بالاستخلاف والتمكين للمؤمنين الملتزمين لنهج الإيمان
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا
[النور: 55].
{ غير المغضوب عليهم ولا الضآلين }
الجمهور قرأوا بجر { غير } وابن كثير قرأ بنصبها، وروى عنه الجر، ولا إشكال في قراءة النصب، لأن { غير } يلزمها التنكير، وإن أضيفت إلى المعارف كمثل، وذلك أنك إذا قلت: رأيت غيرك فكل، ما سوى المخاطب يحتمل أن يكون المراد، وكذلك إذ قلت: رأيت مثلك فإن الاعداد المحتمل قصدها من أمثاله لا تحصى، لكثرة ووجوه المماثلة، وعليه فالنصب هنا على الحال، وأما قراءة الجر فلعلماء العربية فيها رأيان: أولهما أن تكون { غير } بدلا من { الذين } أو بدلا من الضمير في { عليهم } والوجه الثاني ضعيف، وهذا الرأي مبني على جواز الإبدال بالمشتق وما في حكمه، ويرى أبو حيان ضعفه. ثانيهما: أن تكون { غير } صفة للذين وهو مبني على أحد أمرين إما اعتبار { الذين } في حكم المعرف بلام الجنس، وهو المعبر عنه بالمعهود الذهني، فإنه يكون معرفة بالنظر إلى مدلوله وله حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة، ولذلك يعامل معاملتها في الوصف بالجملة وهى في حكم النكرة، نحو قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وإما اعتبار { غير } في حكم المعرفة، نظرا إلى وقوعها بين معرفتين متضادتين، وفي مثل هذه الحالة تكتسب التعريف، نحو قولك: إلزم العلم غير الجهل، وقولك: إرغب في الحياة غير الموت، فإنه لا ضد للعلم إلا الجهل، ولا ضد للحياة إلا الموت، وكذلك قول الله تعالى: { الذين أنعمت عليهم } فإن هؤلاء لا ضد لهم إلا ما جاء بعد { غير }.
وانتقد أبو السعود إعتبار { الذين } في حكم المعهود الذهني في الإبهام، لأنه لا معنى لأن يضاف بدل { الصراط المستقيم } إلى الموصول إلا لشهرته وتميزه، المنافيين للإبهام، فإن البدل يراد به إيضاح المبدل منه. أما الزمخشري فإنه سوغ كل واحد من الإعتبارين. وابن جرير اعتبرهما في حكم الوجه الواحد، وأضاف إليه وجها آخر وهو تقدير { صراط } مضاف إلى { غير } ، وفي هذا تكلف لا يخفى على متأمل ، وأنت إذا نظرت في الرأي الأول، وجدته لا يخلو من مسوغ، فإن توغل { غير } في الإسمية كاف لإعطائها بعض أحكام الجوامد كالبدلية، وإن كانت في حكم المشتق، والوصف أيضا ليس بالضعيف لإمكان اعتبار إكتساب { غير } هنا للتعريف بسبب وقوعها بين ضدين، وقد علمت مما نقلناه عن أبي السعود بطلان دعوى أن الإسم الموصول في قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } في حكم النكرة، وبهذا تعلم عدم صحة ما قاله العلامة الساليكوتي وغيره، في تسويغ تلك الدعوى مما حاصله أنه لا صحة لإرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له، ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق، سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات، أو المجموع من حيث المجموع، فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأخروية وهم طائفة من المؤمنين لا بأعيانها، فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كالنكرة، وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أي المنعم عليهم كان معرفة، نقل ذلك العلامة الألوسي ولم يعقب عليه إلا بقوله: ولا يخلو من دغدغة، وبطلانه يظهر من حيث أن صراط جميع المنعم عليهم صراط واحد، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
[الأنعام: 153] وقد صوره النبي صلى الله عليه وسلم للأذهان في صورة المحسوس، عندما خط خطا في الأرض مستقيما لا عوج فيه، وقال:
" (هذا صراط الله) وخط عن يمينه، خطوطا وقال: (هذه السبل، ما من سبيل إلا وعلى رأسه شيطان يدعو إليه) "
ثم تلا الآية، وهذا يعني أن صراط أي فرد من المنعم عليهم هو صراط الجنس كله، وليس لكل طائفة منهم صراط خاص، حتى يقال بأن الصراط المقصود هنا هو صراط طائفة من المؤمنين، ويؤكد ذلك أن الصراط المبدل منه معرف، وما أريد بالبدل إلا مزيد الإيضاح فلا معنى لمجيئه مبهما، ولو كان مبهما - كما قالوا - لما صح أن يكون علما على الاستقامة ومجانبة الإنحراف والاعوجاج.
و { غير } هنا أشربت معنى النفي، فلذلك صح أن تقابل بلا النافيه، ولو كانت للإستثناء المحض لما جاز ذلك.
و " الغضب " هو انفعال نفسي يدفع صاحبه إلى الإنتقام، وهذا لا يليق بجلال الله سبحانه، المنزه عن جميع صفات المخلوقين، فلذلك أول الغضب في مثل هذا المقام، إما بمسببه القريب وهو إرادة الانتقام، أو بمسببه البعيد وهو إنزال العقوبة، ولفظة الغضب تدل على الشدة، ولذلك يطلق العرب وصف الغضوب على الناقة العبوس، وعلى الحية الخبيثة، ويسمون الدرقة من جلد البعير المطوي بعضه على بعض " غضبه " كما يسمون بذلك الصخرة المتميزة في الجبل، ومنه قول الراجز: أو غضبة في هضبة ما أمنعا.
و { الضلال } يطلق على الذهاب عن الطريق السوي، ومنه قوله عز من قائل:
أإذا ضللنا في الأرض
[السجدة: 10] أي غبنا فيها بالموت، ومنه قول العرب: ضل اللبن في الماء إذا إمتزج به.
وجيء بفعل الإنعام مسندا إلى ضمير الخطاب، الموجه إلى الله، بخلاف الغضب والإضلال، لأجل تعليم العباد كيف يتأدبون في مخاطبته عز وجل.
وجمهور المفسرين: على أن المراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى، وذكر ابن أبي حاتم أنه لا يعلم خلافا بين المفسرين في ذلك، وهو من التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج عبد الرزاق وأحمد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير والبغوي وابن المنذر وأبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق قال:
" أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرس له، ويسأله رجل من بني القين فقال: من المغضوب عليهم يا رسول الله؟ قال: (اليهود) قال فمن الضالون؟ قال: (النصارى) "
وأخرجه إبن مردويه عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه بما ذكر، وأخرج البيهقي عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بني القين أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله.. إلخ وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن عبد الله بن شقيق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر أهل وادي القرى فقال له رجل.. إلخ، وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن المغضوب عليهم هم اليهود وإن الضالين هم النصارى "
وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه والطبراني
" عن الشريد قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي فقال: أتقعد قعدة المغضوب عليم "
وهذا التفسير مروي عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وروى عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكثير من أئمة التابعين فمن بعدهم، قال الشوكاني: والمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين وهو الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف.
وعضد هذا التفسير باقتران ذكر اليهود بالغضب وذكر النصارى بالضلال في عدة آيات من الكتاب نحو قوله عز وجل:
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين
[البقرة: 90] وقوله:
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل
[المائدة: 60] وقوله عز من قائل:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
[المائدة: 78] وقوله تعالى:
قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل
[المائدة: 77]، والأولى - كما قال الألوسي: الاستدلال بالحديث، لأن الغضب والضلال وردا في القرآن لجميع الكفار على العموم قال تعالى:
ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله
[النحل: 106] وقال:
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضللا بعيدا
[النساء: 167] وقال
إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
[الفرقان: 44].
واليهود والنصارى جميعا جديرون بوصف الضلال، حقيقون بالغضب، لذا يتوجه السئوال عن وصف اليهود " بالمغضوب عليهم " والنصارى " بالضالين " وأجاب عنه ابن جرير: بأن الله وسم لعباده كل فريق بما تكررت العبارة عنه به وفهم به امره ولم يره ابن عطية هذه الإجابة تشفي غليلا - وإنها لكذلك - لذلك عدل عنها إلى الجواب، بأن أفاعيل اليهود من اعتدائهم وتعنتهم وكفرهم، مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم الأنبياء بغير حق أمور توجب الغضب في عرف الناس فسمى الله ما أحل بهم غضبا، والنصارى لم تصدر منهم هذه الأشياء، وإنما ضلوا من أول أمرهم، دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم في عرف الناس بل، الغضب العام الذي يستحقه كل كافر، فلذلك وصفت كل واحدة من الطائفتين بما وصفت به.
ونقل الفخر الرازي تضعيف هذا التفسير، لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى، فكان الإحتراز عن دينهم أولى، واختار الفخر أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الإعتقاد، لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل، وذكر وجها آخر وهو أن المغضوب عليهم الكفار، والضالين المنافقون، لأن الله تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في أوائل البقرة ثم ثنى بذكر الكفار وتوعدهم، ثم ثلث بذكر المنافقين وتصوير أحوالهم، فيحتمل أن يكون المغضوب عليهم هنا الكفار والضالون المنافقين كما أن المنعم عليهم المؤمنون، ورد ذلك الألوسي بأنه لا قول لقائل، ولا قياس لقايس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، وحكى القرطبي أن المغضوب عليهم هم متبعو البدع، والضالين هم الذين ضلوا عن سنن الهدى وذكر عن السلمي في حقائقه، والماوردي في تفسيره، أنهما حكيا: بأن المغضوب عليهم من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة، والضالين من ضل عن بركة قراءتها.
قال القرطبي: وليس بشيء، ونقل عن الماوردي قوله: وهذا وجه مردود لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار، وانتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم.
ويرى بعض المفسرين أن المغضوب عليهم هم الذين نبذوا الحق وراء ظهورهم بعد معرفتهم به، وقيام حجته عليهم، والضالين هم الذين لم يعرفوا الحق رأسا، أو عرفوه على غير وجهه الصحيح، ومن بين القائلين بذلك الإمام محمد عبده، وأوضح أن المغضوب عليهم ضالون أيضا، لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها، فلا يصلون منها إلى مطلوب ولا يهتدون فيه إلى مرغوب، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها، وهم من لم تبلغهم الرسالة، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين، فإن الضال حقيقة هو التائه الواقع في عماية، لا يهتدي معها إلى المطلوب، والعماية في الدين هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل، وتشبه الصواب بالخطأ.
وقسم الإمام محمد عبده الضالين إلى أقسام:-
الأول: من حرموا بلوغ دعوة الرسالة إليهم، أو بلغتهم على غير وجهها الصحيح، فهؤلاء لم يرزقوا من أنواع الهداية إلا ما يحصل بالحس والعقل، وحرموا رشد الدين ومن الطبيعي أن لا تستقيم أحوالهم في شئونهم الدنيوية، ولو قدر أن استقامت على الوجه الصحيح، فلا محيص لهم عن الضلال فيما تكون به نجاة الأرواح وتتحقق به سعادتها في الدار الآخرة على أن الدين المستقيم من شأنه أن يفيض على أهله من روح الحياة ما تكون به سعادتهم في الدنيا والآخرة معا، فمن حرم الدين حرم السعادتين، وظهر أثر التخبط والإضطراب في أعماله المعاشية، وحل به الرزايا ما يكون عادة نتيجة الضلال والخبط وهي سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا.
ويرى الإمام محمد عبده أن أمر هؤلاء في الآخرة إلى الله إن شاء عفا عنهم وإن شاء أخذهم ولن يساووا المهتدين في منازلهم. وزاد السيد محمد رشيد رضا على كلام أستاذه، أن الذين حرموا هداية الدين لا يعقل أن يؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يعرف إلا بهذه الهداية، وهو معنى كونهم غير مكلفين، ونسبه إلى جمهور المتكلمين واستدل له بقوله عز وجل:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
[الإسراء: 15].
وانتقد السيد محمد رشيد رضا من قال إنهم مكلفون بالعقل لعدم ظهور وجه لقوله، إلا إن أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتفاع أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة، لأن الناس يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم، بسبب تفاوت استعدادهم الفطري ولإختلاف وسائل تربيتهم.
ويرى السيد محمد رشيد رضا بهذا الجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو الفصل بينهما، وذكر أن ما يعطيهم الله تعالى إياه في الدار الآخرة على حسب ما يكونون عليه من الخير أو الشر، ومن الفضيلة أو الرذيلة هو الجزاء العادل على أعمالهم الإختيارية ويزيدهم الله من فضله إن شاء.
هذه خلاصة كلامهما وأنت تدري أن من الأمور التكليفية ما تكون طريقة معرفته العقل كمعرفة الخالق عز وجل وصفاته الواجبة وانتقاء أضدادها ولذلك يحيل القرآن الكريم إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض، لأجل الإهتداء إلى معرفة الخالق وعظمته وتقوية الإيمان به عز وجل، ويشير القرآن الكريم إلى أن الذين يستفيدون من ذلك هم أولوا الألباب الذين يستخدمون ما وهبهم الله تعالى من طاقات العقل والفكر في استجلاء الحقيقة واستظهار الحق، ومن ذلك قوله عز وجل:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السمآء والأرض لآيات لقوم يعقلون
[البقرة: 164] وقوله عز من قائل:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب
[آل عمران: 190] والكفار الذين حرموا نعمة الهداية والدين، قد طمسوا أنوار بصائرهم بما أخلدوا إليه من الكفر وجنحوا إليه من الضلال، ولذلك حكى الله تعالى عنهم قولهم يوم القيامة:
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
[الملك: 10].
إذا تدبرت ذلك، اتضح لك أن من لاحت له معالم الحقيقة وانكشفت لبصيرته أعلام الحق فتعامى عنها مستمسكا بما ورثه من العقائد، لن يكون سالما، وكذلك الذي لا يكلف نفسه مؤونة البحث عن الحق والتفتيش عن الصواب، أما الذي ينشد الحق ويتبع كل بارقة تلمع له من نوره ويحرص على أداء واجباته الإجتماعية من غير تفريط فيها فذلك الذي ترجى له السلامة عند الله.
على أن الحجة قد قامت على الناس بما يسمعون عنه من أخبار النبوات وأحوال النبيين وما عليهم إلا أن يفتشوا عن ضالتهم المنشوده والله لا يضيع عمل عامل
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69].
ونحن نسلم أن الشرع هو الحكم في العقائد والأعمال ولكنا نرى وجوب استخدام العقل مع تعذر الوصول إلى الشرع وهذا يقضي أن يتجنب الإنسان كل ما يستقبحه عقله قبل التوصل إلى حكمه الشرعي ولا ريب أن العقول السليمة كلها تقضي بمنع الإعتداء والظلم والفساد، لأجل ذلك ذهب من ذهب من علمائنا - كالإمامين أبي سعيد وابن بركه - إلى وجوب تحكيم العقل عند تعذر الوصول إلى الشرع حتى في الأمور العملية ولهذه المسألة مباحث ليس من غرضنا استيفاؤها، فمن أرادها فليطلبها من مظانها ككتاب الإستقامة للإمام الكدمي ومشارق أنوار العقول للإمام السالمي رحمهما الله.
الثاني: من بلغته الدعوة على وجه يؤدي إلى النظر، فساق همته إليه واستفرغ جهده فيه ولكن لم يوفق إلى الإيمان بما دعي إليه، وانقضى عمره وهو جاد في الطلب، وهذا القسم لا يتكون إلا من أفراد متفرقين في الأمم ولا ينطبق على شعب بأسره من الشعوب، فلا يظهر له أثر سلبي في أحوال شعب أو أمة، وما يكون لهما من سعادة أو شقاء في الحياة الدنيا، أما منزلة صاحب هذه الحالة في الدار الآخرة، فقد نقل الإمام محمد عبده عن بعض الأشاعرة، أنه ممن ترجى له رحمة الله تعالى، وعزا صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري، وعزا الإمام محمد عبده إلى الجمهور - بناء على رأيهم - أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد، الذي أنكر التنزيل واستعصى على الدليل وكفر بنعمة العقل ورضي بحظه من الجهل.
هذا ملخص ما قاله في أصحاب هذا القسم، ولكنني أستبعد جدا أن يتجه إنسان إلى الحق غير راغب عن شيء منه ولا مؤثر لهواه عن بعض ما يقتضيه الحق ويستلزمه الرشد مستخدما كل الوسائل الممكنة له في الوصول إليه، ثم يحال بينه وبينه لأن الله تعالى يقول: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } والله لا يخلف الميعاد، فلا يتصور هذا بحال وإذا ضل الإنسان عن جملة الحق أو عن بعضه فما هو إلا نتيجة تقصيره في البحث أو اتباعه الهوى بعدما تبين له الهدى، ومثل هذا لا يصح أن ترجى له رحمة الله، لأن رحمة الله إنما هى للمتقين.
الثالث: من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها فكانت عقائدهم نابعة من أهوائهم، وهم أصحاب البدع المنحرفون في إعتقادهم عن هداية الوحي، وهم الذين مزقوا شمل الأمة، لإنحرافهم عن نهج سلفها الصالح، وأشار الإمام محمد عبده إلى طرف من آثار هؤلاء في الناس، فذكر أن الرجل منهم يأتي إلى دوائر القضاة، فيستحلف بالله العلي العظيم أنه لم يفعل ما نسب إليه فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه فإذا أتاه المستحلف من طريق آخر وحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية، لم يلبث أن يتغير لونه وتتزلزل أركانه ويرجع في قسمه ويقول الحق، مقرا بأنه فعل ما حلف أولا بالله أنه لم يفعله، تكريما لاسم ذلك الشيخ وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو ينزل به نقمة إذا حلف باسمه كاذبا، ويرد الإمام محمد عبده هذا الضلال إلى الضلال في الإيمان بالله وما يجب له من الوحدانية في الأفعال، ثم أشار بعد ذلك إلى الضلالات المتنوعة التي عرضت على دين الإسلام وسلكت بهذه الأمة سبلا معوجة، لا توصل إلى حق ولا رشد، وذكر أن من أشنع هذه الضلالات أثرا وأشدها ضررا خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر والاختيار والجبر والوعد والوعيد وتهوين مخالفة الله على النفوس، ثم ذكر أنه لا بد لمن أراد تمحيص الإعتقاد ومعرفة ما فيه من الضلال والرشاد من تنزيه القرآن عن إدخال أي شيء مما في أدمغة الناس من المعتقدات فيه وبدون ذلك لا يمكن معرفة الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان، فلا يدرى ما هو الموزون به، ثم أوضح أن معنى ذلك أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون.
الرابع: الذين ضلوا في الأعمال وحرفوا الأحكام عما وضعت له نتيجة الخطأ في فهم مقاصد الشعائر الدينية والواجبات الاجتماعية التي فرضت في الإسلام وضرب الإمام محمد عبده لذلك مثلا: الإحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي جزء من الحول الثاني هروبا من الزكاة المفروضة، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية، ولا يعلم أنه بذلك يهدم ركنا من أركان دينه ويعمل عمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره وذلك محال على الله سبحانه وتعالى.
ومثل هذا التحايل الذي ذكره الأستاذ الإمام، الحيل الربوية التي كثيرا ما يستخدمها الذين لا يرعون للدين حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، نحو ما تعارف عليه الناس من بيوع الإقالة، فتجد أحدهم إذا احتاج يبيع عقارا للآخر بثمن معلوم ولا يشترط الإقالة إلى مدة معلومة ويتفق البائع والشاري على أن يستأجر البائع المبيع من المشتري في كل شهر بقدر معلوم من غير أن يتخلى عنه ويقبضه المشتري، وفي هذا العقد حرم متعددة:-
الأولى: حرمة التذرع إلى الربا والتحايل على من لا تخفى عليه خافية، وحرمة الربا لما فيه من الاستغلال وابتزاز ثروات المحتاجين، وهذا المعنى حاصل في هذه المعاملة.
الثانية: حرمة بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، وقد صح النهي عن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: حرمة بيعين في بيع، وللإيجار حكم البيع، فاجتماع عقدته وعقدة البيع معا يضفي على هذا العقد هذا الحكم نفسه.
الرابعة: حرمة الشرطين في بيع، وهذا العقد ليس منطويا على شرطين فحسب، بل على ثلاثة شروط: أولها شرط الإقالة، ثانيها شرط الاستئجار، ثالثها اشتراط كون الاستئجار بثمن معلوم، ومثل هذا قد تفشى في معاملات الناس، نتيجة الجهل والإسخفاف بأحكام الله تعالى.
وذكر الأستاذ الإمام أن ثلاثة أقسام من هذا الضلال، أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم، فتختل فيها قوى الإدراك، وتفسد الأخلاق وتضطرب الأعمال، ويحل بها الشقاء عقوبة من الله، لا بد من نزولها بهم، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا، وذكر أن حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم، من العلامات والدلالات على غضب الله تعالى، بما أحدثته في عقائدها وأعمالها ما يخالف سننه، لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم، بالوقوف عند حدوده وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه، بالإنحراف عن شرائعه، سواء كان ذلك عمدا وعنادا أو غواية وجهلا، وذكر أن الأمة إذا ضلت سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها فسدت أخلاقها واعتلت أعمالها وقعت في الشقاء لا محالة، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشئونها ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب وإن كانت ستلاقى منه نصيبا أيضا، فإذا تمادى بها الغي، وصل بها إلى الهلاك ومحا أثرها من الوجود، لهذا علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم لنعتبر ونميز بين ما تكون به سعادة الأمة أو شقاؤها، أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا، فقد يستدرج الضال من حيث لا يعلم ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه وإنما يلقى جزاءه
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله
[الإنفطار: 19] انتهى كلامه وهو بحث نفيس ولأجل نفاسته حرصت على إيراد أقسام الضالين التي ذكرها وإن كنت أجنح إلى تفسير الضالين في الآية بما أثر النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف.
ويرى السيد محمد رشيد رضا الجمع بين التفسير المأثور والتفسير الذى عزاه إلى المحققين - ومنهم شيخه الإمام محمد عبده - بما حاصله، أن ما ذكره المحققون ليس مخالفا للمأثور، لورود المأثور مورد التمثيل لا التخصيص والحصر.
ونستفيد أمرين جليلين من قوله تعالى { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين }:
أولها: وجوب الترابط والتلاحم بين المؤمنين بحيث يكون أفرادهم كتلة منيعة، وتأتي أجيالهم حلقات متتابعة في سلسلة واحدة، يواصل كل جيل منها ما بدأه الجيل الذي تقدمه.
ثانيهما: وجوب نفرة المؤمنين عن أعداء الدين ومنابذتهم بحيث لا يلتقون معهم على فكر ولا خلق ولا سلوك.
وهذان الأمران هما المعروفان عند العلماء - وخاصة أصحابنا - بالولاية والبراءة ولأجل أهميتهما جاءت هذه السورة التي هي أكثر تكرارا على ألسنة المسلمين في الصلاة وغيرها، مؤكدة عليهما، فالله تعالى يعلم عباده أن يطلبوا منه، بأن يهديهم صراط الذين أنعم عليهم، من سلفهم الصالحين الذين استقاموا على الطريقة وقاوموا الإنحراف، وأن يطلبوا بأن يوفقهم لمجانبة طرق أضدادهم من المغضوب عليهم والضالين، وما أجملته الآية الكريمة هنا قد فصلته وأكدته آيات أخرى في سائر القرآن منها قوله عز وجل:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم
[التوبة: 71] وقوله:
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أوليآء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير، والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير
[الأنفال: 72- 73] وقوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جآءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغآء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سوآء السبيل، إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون
[الممتحنة: 1- 2] وضرب الله مثلا لعباده المؤمنين ابراهيم عليه السلام ومن معه الذين أعلنوا براءتهم من القوم الكافرين وإن كانوا من ذوي قرباهم حيث قال:
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ومآ أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنآ إنك أنت العزيز الحكيم
[الممتحنة: 4- 5] ثم تلا ذلك ما يدل على وجوب التأسي بهم وعلى أن ذلك لازم الإيمان بالله واليوم الآخر، حيث قال:
لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد
[الممتحنة: 6] ومفهوم هذا أن من لم يتأس بهم ليس من الذين يرجون الله واليوم الآخر، وفي خاتمة الآية ما لا يخفى من الوعيد لمن أعرض عن هذا الأمر واستخف بهذا الواجب، وبين سبحانه أنه ليس من شأن المؤمن أن يوالي أحدا ممن عرف عداوته لله ولدينه، ولو كان أقرب قريب، فقد قال عز وجل:
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة: 22] وأكد سبحانه وتعالى أن من تولى كافرا فله حكمه، حيث قال:
يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
[المائدة: 51] وبين عز وجل أن هذه الموالاة لا تنشأ إلا عن مرض نفساني عضال، يستحكم في قلوب الذين لا يرجون الله واليوم الآخر، حيث قال:
فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على مآ أسروا في أنفسهم نادمين
[المائدة: 52] وحذر في هذا السياق من الإرتداد تعريضا بالذين إتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتنبيها على أن هذه الموالاة تؤدي إلى الردة والعياذ بالله وذلك في قوله:
يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
[المائدة: 54] ويأتي في هذا السياق نفسه بيان صفات القوم الذين يجب على المؤمن أن يرتبط بهم بحبل الولاية، وهم الذين يجمعون بين الإيمان الراسخ والعمل الصالح، وذلك حيث يقول:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
[المائدة: 55] وأتبع ذلك ما يكشف عن عاقبة الترابط بين المؤمنين برباط الولاية في قوله تعالى:
ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
[المائدة: 56] ثم أتبع ذلك كله تأكيد التحذير من ولاية جميع القوم الكافرين في قوله:
يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أوليآء
[المائدة: 57].
وفي هذا ما يكفي العاقل تنفيرا وتحذيرا من الإندفاع وراء خطوات الكافرين وهم الذين لا يضمرون لهذه الأمة إلا الحقد الأسود الدفين ولا يريدون لها إلا الذوبان في بوتقة الإلحاد، أو الغرق في خضم الفساد، ولذلك ينصبون كل ما يمكن من شراك المكائد، لاصطياد مرضى القلوب وضعاف الإيمان من هذه الأمة الذين يعيشهم بريق المظهر وتستهويهم نغمة التضليل والإفساد، وما الغاية من ذلك إلا ترغيبها في سفاسف الأمور، وتزهيدها في معاليها، هذا بجانب التآمر عليها في استقلالها وثرواتها.
ولا ريب أن غفلة هذه الأمة عن ذلك كله، هو الداء العضال المستعصي على العلاج، وإذا ألقينا نظرة على طريقة السلف الصالح، الذين مكن الله لهم في الأرض واستخلفهم فيها، نجد حياتهم تنم عن عمق فهمهم لمقاصد هذه التوجيهات الربانية، ولذلك كانوا ينأون بأنفسهم ويربأون عن الدنو حول ما يوهم مودة لأعدائهم أو إعجابا بشيء من أمرهم وذلك كله نتيجة التربية العملية التي ربوا بها على هداية القرآن، وإرشاده ونصحه وتعاليمه، وكان على رأس من قام بهذه التربية في هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما يتجلى ذلك في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم فقد بلغ الحال أن كانت صلوات الله وسلامه عليه يحرص على مخالفة الكفار حتى في الأمور العادية، ومن ذلك ما يروى أنه عليه أفضل الصلاة والسلام، كان واقفا في حال دفن ميت وكان أصحابه وقوفا معه، فمر بهم يهودي وقال: هكذا تصنع أحبارنا، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالقعود، مخالفة لمسلك اليهود، وكثيرا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه في معرض الأمر والنهي،
" خالفوا اليهود أو خالفوا المشركين "
وذلك لئلا يتأثر السلوك فتتأثر بالتالي العقيدة، وهنا لا يملك المؤمن إلا أن يقف خاشعا أمام عظمة الإسلام وعمق حكمته وسلامة تربيته ولكن يا للأسف الشديد، أين هذه التعاليم القرآنية والتوجيهات النبوية من أمة اليوم؟ التي أخذت تلهث وراء بهرجة الجاهلية الحديثة، واطئة بأقدامها على قيمها وأخلاقها وعقيدتها، فما أكثر أولئك الذين يقيسون التقدم الحضاري بمقياس التأثر بحياة الغرب الجاهلية، فأصبحوا يتأسون بالغربيين في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ونومهم وحديثهم، وجميع أمورهم المعاشية معتقدين بأن ذلك رمز الوعي وعنوان الترقي ولا يدري هؤلاء البله أن ذلك إن دل على شيء، فإنما يدل على الحماقة والتخلف والإنحطاط والذوبان.
هذا وقد بلغ الإسلام من دقته في هذه الأمور أن كل ما أراد أن يصل إلى هذه الأمة من مواريث النبوات السابقة، أوصله إليها بطريق الوحي لا بطريق العادات الجاهلية، بل قطع أولا صلتهم بالجاهلية رأسا، لئلا تبقى هذه الأمة عالة على غيرها من الأمم، في شيء من عقيدتها، ولا في شيء من عباداتها وعاداتها، ويكفي مثلا لذلك تعظيم البيت الحرام، الذي بقي عند العرب مما ورثوه عن أبي الأنبياء ابراهيم عليه السلام، ولكن بما أن ذلك قد تلوث بلوثات الجاهلية، صرف الله تعالى هذه الأمة أولا، حتى عن الإتجاه إلى البيت الحرام في صلاتها، لتتلقى جميع أمور دينها عن ربها سبحانه، من طريق الوحي، لا من طريق العادات الجاهلية ولما استقرت عقيدتها ورسخ إيمانها وصارت لا تتلقى إلا عن الله تعالى، أمرت من جديد باستقبال البيت الحرام، وشرعت لها المناسك العظام، بعدما محصتهم هداية الله ونجحوا في مرحلة الامتحان، ولذلك يقول الله تعالى:
وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله
[البقرة: 143] وفي هذا ما يكفي لأن يكون عبرة لأولى الألباب، نسأل الله العون والتوفيق والتأييد والتسديد، وهو حسبنا وكفى.
تلاوة الفاتحة في الصلاة
فاتحة الكتاب هي أم القرآن، بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وبما ذكرناه من اشتمالها على مجمل معاني القرآن، ولذلك شرعت تلاوتها في الصلاة، لتذكير المصلي بما تحتويه من المعاني القيمة، التى أنزل القرآن لتبيانها، ولا خلاف بين الامة في مشروعية تلاوة الفاتحة في الصلاة، ولكنهم اختلفوا في فرعين من فروع هذه المسألة، نقسم الحديث عنهما إلى مبحثين:-
المبحث الأول: في وجوب تلاوة الفاتحة في الصلاة، لقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دالة على مشروعية تلاوة الفاتحة في الصلاة، بل على وجوبها منها ما أخرجه الربيع رحمه الله عن أبي عبيدة، عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك رضى الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "
ورواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "
رواه أحمد وابن ماجه، ورواه البيهقي من طريق علي مرفوعا بلفظ
" كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "
، وفسر الربيع رحمه الله الخداج بالناقصة وهي غير التمام، ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي: (لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد) وهو وإن أعل بجعفر ابن ميمون الذي قال النسائي عنه: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بقوي، وقال ابن عدي يكتب حديثه في الضعفاء، فإنه يعتضد بما أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبان عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا "
والحديث مروي عند الجماعة بدون لفظة (فصاعدا) وإنما تفرد بها منهم مسلم وأبو داود، وأخرجه الدارقطني بلفظ
" لا تجزيء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
وقال إسناده صحيح وصححه ابن القطان أيضا، ويعتضد بشاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ورواه أحمد بلفظ
" لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن "
والأحاديث في ذلك كثيرة يعزز بعضها بعضا، منها حديث أنس عند أحمد والترمذي، وحديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي، وابن عمر عند ابن ماجه، وأبي سعيد عند أحمد وأبي داود وابن ماجه، وأبي الدرداء عند النسائي وابن ماجه، وجابر عند ابن ماجه.
وجمهور الأمة يحملون هذه الأحاديث على الوجوب، حتى أن الفخر الرازي نقل عن ابي حامد الإسفرائينى أنه حكى إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة، وذكر جماعة عن أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ما يدل على عدم وجوب قراءتها، وذلك أنهم قالوا: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة: أقله ثلاث آيات، أو آية طويلة، كآية الدين، وذكر عن محمد بن الحسن أيضا أنه قال: أسوغ الإجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة نحو الحمد لله، ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما.
وذكر القرطبي عن الطبري أنه قال: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها في القرآن عدد آياتها وحروفها، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر قوله: وهذا لا معنى له، لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها، ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها، وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات المتعينات في العبادات، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح، أن الحنفية يتفقون مع غيرهم على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة، لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا تتم الصلاة إلا به هو فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن، وقد قال تعالى:
فاقرءوا ما تيسر من القرآن
[المزمل: 20] فالفرض قراءة ما تيسر، وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزيء الصلاة بدونه.
وأتبع الحافظ ذلك قوله: وإذا تقرر ذلك، لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة، فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره، والذي نسبه إلى الحنفية من وجوب الفاتحة في الصلاة، نص عليه الكاساني منهم في بدائع الصنائع وإنما حصر الوجوب في الركعتين الأوليين من ذوات الأربع والثلاث، وفي كلتا الركعتين من ذات الركعتين وذكر أن من تركها عمدا كان مسيئا، ومن تركها سهوا لزمه سجود السهو، قال: وهذا يعني عندنا - يعني الحنفية -.
وهذا التفصيل نسبه الفخر الرازي إلى أبي حنيفة نفسه وقال في الركعتين الأخيرتين، يخير المصلي إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت، ونسب الفخر إلى صاحب كتاب الاستحباب أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين، وحكى عن ابن الصباغ أنه نقل في كتاب الشامل عن سفيان، وجوب القراءة في الركعتين الأوليين وكراهتها في الأخريين، والقول بالاكتفاء بالتسبيح في الأخريين منسوب في بعض كتب أصحابنا إلى الإمام أبي معاوية عزان بن الصقر رحمه الله، وحكى الفخر عن الأصم وابن علية أن القراءة غير واجبة أصلا، وذهب الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي إلى أن قراءتها في ركعة واحدة مجزئة، سواء كانت الصلاة ثنائية، أو ثلاثية أو رباعية، ونسبه القرطبي إلى المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني، وإلى أكثر أهل البصرة. وحاصل المقام أن في المسألة أقوالا:-
أولها: قول الجمهور، وهو اشتراط الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وحكى الإسفرائيني إجماع الصحابة عليه، وذكر أنه قال به أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود، ونسبه غيره إلى ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي بن كعب وأبي أيوب الإنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير، وعليه جمهور أصحابنا، وبه قال مالك والشافعي، وهو المشهور عن أحمد، ونسبه القرطبي إلى مشهور مذهب الأوزاعي ونسبه الشوكاني إلى العترة.
ثانيها: عدم وجوب القراءة في الصلاة أصلا، وهو قول الأصم وابن علية.
ثالثها: وجوبها في ركعة من ركعات الصلاة فقط وهو قول الحسن البصري ومن تابعه، ونسب إلى داود وإسحاق والهادي والمؤيد بالله.
رابعها: وجوبها في الركعتين الأوليين والإجتزاء بالتسبيح في الأخريين وهو رأي الحنفية وبه يقول أبو معاوية عزان بن الصقر من أصحابنا، غير أن الحنفية لا يرون بطلان الصلاة بدونها، كما تقدم، بناء على تفرقتهم بين الفرض والواجب.
خامسها: الاستغناء عن الفاتحة بغيرها من القرآن نحو ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدين، وهو رأي أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وسوغ محمد بن الحسن الاجتهاد في آية أو كلمة مفهومة نحو { الحمد لله } دون حرف لا يكون كلاما ، وذكر ابن قدامة في المغني عن أحمد رواية أنها لا تتعين وتجزىء قراءة آية من القرآن من أي موضع كان.
سادسها: اشتراط قراءة الفاتحة أو مثلها من القرآن في عدد آياتها وحروفها نسبه القرطبي إلى الطبري.
سابعها: وجوب قراءتها في الركعتين الأوليين، وكراهتها في الأخريين، وهو قول سفيان حسبما نقله الفخر الرازي، عن كتاب الشامل لابن الصباغ.
والصحيح من هذه الآراء القول بوجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وهو الذي تقتضيه الأحاديث التي أسلفنا ذكرها، ويعضده إجماع الصحابة الذي حكاه أبو حامد الإسفرائيني، أما القول بإسقاط وجوب القراءة رأسا فهو مناف لدلالة قوله تعالى:
فاقرءوا ما تيسر من القرآن
[المزمل: 20] ومصادم لنصوص الأحاديث التي أسلفنا ذكرها.
وأما القائلون بالإجتزاء بتلاوتها في ركعة من ركعات الصلاة فيرد عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته:
" ثم افعل ذلك في صلاتك كلها "
، بعد أن أمره بالقراءة. رواه الجماعة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
" ثم افعل ذلك في كل ركعة "
كما يرد عليهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري عن إبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب.. والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام تأتي أفعاله في العبادات، تشريعا لأمته يستوضح بها ما انبهم ويستبان بها ما أجمل، وقد قال:
" صلوا كما رأيتموني أصلي "
ولا متعلق لهم في نحو قوله صلى الله عليه وسلم
" لا تقبل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن "
اعتبارا أن الاستثناء من النفي إثبات، فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة صحت الصلاة، لأن سنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية بينت أن هذه القراءة المطلوبة يجب أن تكون في كل ركعة من ركعات الصلاة، لا في ركعة واحدة فحسب، فاتضح بذلك أن صحة الصلاة موقوفة على تلاوة الفاتحة في كل ركعة، وبهذا يرد على القائلين بالاجتزاء بها في الركعتين الأوليين من صلاة رباعية أو ثلاثية.
وأما القائلون بكفاية غيرها عنها - سواء القائلون بكفاية آية أو ثلاث آيات أو مثل الفاتحة في مثل عدد آياتها وحروفها - فأحاديث اشتراط الفاتحة كافية في هدم رأيهم والكشف عن ضعفه، ولا حجة لهم في إطلاق قوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته:
" ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن "
، لأن المجمل يحمل على المبين والمطلق يرد إلى المقيد، على أنه ورد في حديث المسيء أيضا، عند أحمد وأبي داود وابن حبان بلفظ:
" ثم اقرأ بأم القرآن "
وروى الشافعي بإسناده عن رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي:
" ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ "
وفي مثل هذا دليل على تعين الفاتحة وأن ما تيسر محمول على ما زاد عليها، مع احتمال أنه لم يكن يحسن الفاتحة، والآية الكريمة جاءت في سياق أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، وليست في الصلوات الخمس، وذكر بعض العلماء احتمال أنها نزلت قبل نزول الفاتحة، لأنها نزلت بمكة المكرمة في صدر زمن الرسالة، فليس فيها ما يدل على معارضة الأحاديث، أما ما يتعلقون به من حديث أبي سعيد بلفظ:
" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها "
فإن ابن سيد الناس يقول: لا يدرى بهذا اللفظ من أين جاء وقد صح عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر.. وإسناده صحيح ورواته ثقات.
وأما تعلقهم بحديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ:
" لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب "
فيجاب عنه بأنه من رواية جعفر بن ميمون وقد سبق أن ذكرنا عن النسائي وأحمد وابن عدي تضعيفه وهو أيضا مردود بأن أبا داود أخرج من طريقه عن أبي هريرة بلفظ:
" أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أخرج فأنادي، أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد "
وليست تلك الرواية بأولى من هذه ، بل هذه أولى بما يشدها من الروايات الأخرى، التي هي أقوى سندا وأصح متنا، على أنه يحتمل أن المراد بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام - لو صحت الرواية -
" لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب "
الاجتزاء بقراءة الفاتحة وحدها، في بعض الصلوات كصلاة السر، كما هو المذهب عندنا.
وبالجملة فإن كل ما يتعلق به المخالف في هذه المسألة، إما رواية واهية أو ذات احتمال، والدليل إذا طرقه الإحتمال سقط به الاستدلال، أما أدلتنا على وجوب الفاتحة في كل ركعة فهي أقوى من أن تغمز، وأظهر من أن تؤول، وإن حاول جماعة قلب الاستدلال بها لصالح رأيهم، ومن ذلك دعواهم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "
يدل على صحة الصلاة بدونها، لأن غاية ما في الحديث أن الصلاة دونها ناقصة، وهو لا يدل على بطلانها، ويجاب عن ذلك بأن الصلاة المطلوبة شرعا هي الصلاة المستكملة لشروطها وأركانها، فإذا اختل شيء منها انهدم جميعها، والخداج هو في الأصل، اسم لإلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل، كما قال اللغويون، وهو سبب من أسباب هلاك الحمل، على أن الروايات الأخرى التي جاءت تارة بلفظ
" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
وأخرى بلفظ
" لا تجزىء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
صريحة في بيان المقصود بالخداج.
وحاولوا كذلك قلب الأدلة - من قوله صلى الله عليه وسلم
" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
زاعمين بأن المراد نفي الكمال لا نفي الذات، لأن الذات قائمة غير منتفية، ونفي الكمال يدل بمفهومه على وجود الحقيقة، وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح بما حاصله: إما أن يدعى هؤلاء أن المراد بالصلاة حقيقتها اللغوية، وإما أن يسلموا أن المراد بها معناها الشرعي، والأول غير مسلم لأن ألفاظ الشرع محمولة على مصطلحاته، إذ هي المستوجبة للبيان ولم يبعث الشارع لبيان الموضوعات اللغوية ولكنه بعث لبيان الحقائق الشرعية، وإذا ثبت أن الصلاة المنفية هنا هى الصلاة الشرعية اتضح نفي حقيقتها، من غير احتياج إلى إضمار الإجزاء ولا الكمال، لأنه يؤدى إلى الإجمال، كما نقل عن القاضى أبي بكر وغيره حتى مال إلى التوقف لأن نفي الكامل يشعر بحصول الإجزاء، فلو قدر الإجزاء منتفيا لأجل العموم قدر ثابتا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته، فيؤدي إلى التناقض ولا سبيل إلى إضمارهما معا، لأن الاضمار إنما احتيج إليه للضرورة وهي تندفع باضمار فرد فلا حاجة إلى أكثر منه ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر، قاله ابن دقيق العيد، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن في هذا الأخير نظرا، لأنا إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة، فالحمل على أقرب المجازين إليها أولى من الحمل على أبعدهما، ونفى الاجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس، فيكون أولى، وأيد الحافظ ذلك برواية " لا تجزىء " التي ذكرناها، وبرواية " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وإذا علمت وجوب قراءتها في كل ركعة من الصلاة، فاعلم أن تركها عمدا أو نسيانا، أو ترك شيء منها، مفض إلى بطلان الصلاة على الصحيح، وهو قول أصحابنا في العمد، ونسيان أكثرها، وقول أكثرهم في نسيان الأقل منها، ووافقنا عليه الشافعي في الجديد، وعليه ابن حزم الظاهرى في المحلى، وذهب الشافعي في قديمه إلى أن نسيانها لا يفسد الصلاة، واحتج بما روى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: صلى بنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه المغرب، فترك القراءة، فلما انقضت الصلاة قيل له: تركت القراءة، قال: كيف كان الركوع والسجود، قالوا: حسنا، قال: فلا بأس، واعتبر الشافعي حدوث هذه الواقعة بمحضر الصحابة من غير نكير منهم في حكم الإجماع، ثم رجع عنه في الجديد، كما ذكرنا، أخذا بالأدلة العامة التي تشمل العمد والسهو، وأجاب عن قصة عمر بجوابين:
أولهما: أن الشعبي روى أن عمر رضي الله عنه أعاد الصلاة.
وهي زيادة من الثقة حكمها القبول، والمثبت مقدم على النافي عند التعارض.
ثانيهما: احتمال أن يكون عمر رضى الله عنه لم يترك نفس القراءة وإنما ترك الجهر بها، قال الشافعي: هذا هو الظن بعمر.
وضعف القرطبي ما روى عن عمر أنه اعتد بالصلاة التي لم يقرأ فيها بعدم إعادته لها، وقال عنه: منكر اللفظ، منقطع الإسناد، لأنه يرويه ابراهيم بن حارث التيمي عن عمر، ومرة يرويه ابراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة فيه، وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه، لأنه رماه مالك من كتابه بأخره، وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "
ثم ذكر القرطبي ما روى عن عمر، أنه أعاد تلك الصلاة، وقال: وهو الصحيح عنه، روى يحيى بن يحيى النيسابورى قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش: عن ابراهيم النخعي عن همام بن الحارث، أن عمر نسي القراءة في المغرب، فأعاد بهم الصلاة، قال ابن عبد البر: وهذا حديث متصل شهده همام بن عمر، روى ذلك من وجوه، وروى أشهب عن مالك قال: سئل مالك عن الذي نسى القراءة، أيعجبك ما قال عمر، قال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال: يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به، أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا.
والمفهوم من كلام المالكية أن مالكا يرى رأينا في من يتركها عمدا وهو خلاف ما ذكره عنه ابن حزم وغيره، والاعتماد على ما يرويه عنه أصحابه أولى، أما في حالة النسيان، فذكر ابن خويزمنداد البصري المالكي، عدم اختلاف قول مالك، في بطلان صلاة من تركها في ركعة من صلاة ركعتين ولزوم الإعادة عليه، واختلف قوله من تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية، فقال مرة يعيد الصلاة، وقال مرة أخرى يسجد سجدتي السهو، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك، قال ابن خويزمنداد: وقد قيل إنه يعيد تلك الركعة، ويسجد للسهو بعد السلام، قال ابن عبد البر : الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة، والاتيان بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا، وهو اختيار ابن القاسم.
في تلاوة الفاتحة للإمام والمأموم والمنفرد
فاتحة الكتاب جامعة لما لم يجمعه غيرها من مجملات معاني القرآن، وهذا سر مشروعية قراءتها في الصلاة كما أسلفنا، ومن هنا أطلق عليها اسم الصلاة. أخرج الإمام الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل "
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا قال العبد الحمد لله فيقول الله حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرحمن الرحيم فيقول الله أثنى على عبدي، وإذا قال العبد: { ملك يوم الدين } فيقول الله: مجدني عبدي، فيقول: العبد إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فيقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فيقول الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل ".
وأخرج الحديث الجماعة إلا البخاري وإبن ماجه بلفظ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج "
، فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام فقال: إقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي.. إلخ ".
والحديث الأول هنا حديث مستقل، أخرجه الإمام الربيع رحمه الله، من طريق أنس رضي الله عنه كما سبق، وإطلاق إسم الصلاة على الفاتحة يدل على أهميتها في الصلاة، وضرورة قراءتها، لتوقف صحة الصلاة عليها، فهي بمثابة العمود الفقري فيها، وفي هذا ما يكفي حجة لإيجابها على كل مصل، إماما كان أو مأموما أو منفردا، فإن الفاتحة في الصلاة لا تقل أهمية عن الركوع والسجود، بل الحديث يدل على سبق أهميتها، وإذا كان الركوع والسجود لا يحملهما إمام عن المأموم، فأجدر أن يكون هذا الحكم على الفاتحة، ووجوب قراءتها على المأموم كالإمام والمنفرد مروي عن جماعة الصحابة رضي الله عنهم، منهم عمر بن الخطاب، فقد روى الدار قطني عن يزيد بن شريك قال: سألت عمر عن القراءة خلف الإمام فأمرني أن أقرأ، قلت: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا، قلت، وإن جهرت، قال: وإن جهرت.
قال الدارقطني هذا إسناد صحيح، وأخرجه ابن حزم مسندا في المحلى عن يزيد بن شريك وعباية بن رداد وخيثمة بن عبد الرحمن عن عمر رضي الله عنه وذكر الترمذي في جامعه أن أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين يقولون بذلك، وعزاه إلى مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد واسحق، وصحح هذا الرأي القرطبي من المالكية في تفسيره، وعليه جمهور أصحابنا، ونسب إلى الناصر من أهل البيت ورجحه الشوكاني.
وقيل: بعدم القراءة مطلقا خلف الإمام سواء أسر أو جهر، وهو قول: أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال: ابن وهب وأشهب وابن الحكم وابن حبيب من أصحاب مالك، وقال: بعض سلف مشارقتنا، حتى قال بعضهم: جمرة في عينه أحب إليه من أن يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وعزي هذا القول إلى الإمام ابن محجوب رحمه الله، وعزا إليه القطب رحمه الله في الشامل وشرح النيل رجوعه عنه.
وقيل بالتفرقة بين الجهرية السرية، فينصت لها المأموم من إمامه في الجهر ويقرؤها في السر، وهو مشهور مذهب مالك، ونسبه الشوكاني إلى زيد بن على والهادي والقاسم وأحمد بن عيسى وعبيد الله بن الحسن العنبري واسحاق بن راهويه وأحمد، وذكر ابن قدامة في المغني أنه رواية الجماعة عن أحمد، وعزاه أيضا إلى الزهري والثوري وابن عيينه وإلى إسحاق، واعتمده، من قبله سلفه الخرقي في مختصره.
وذكر ابن حزم الظاهري اختلاف أصحابه الظاهرية في ذلك، فمنهم من رأى وجوب القراءة مطلقا خلف الإمام، كما هو القول الأول ورجحه هو وعزي إلى سلفه داود، ومنهم من فرق بين قراءتي السر والجهر كما هو القول الثالث، ويؤيد القول الأول، ما أخرجه الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله، عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: (لعلكم تقرأون خلف إمامكم) قلنا أجل، قال:
" لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة إلا بها "
والحديث أخرجه عن عبادة أيضا أحمد والبخاري في جزء القراءة، وصححه ابو داود والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي، من طريق ابن اسحاق قال: حدثني مكحول عن محمود بن ربيعه، عن عبادة، وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول، وأخرجه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال: أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة ابن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن فلما انصرف قلت: لعبادة سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر، قال: أجل " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة فقال: بعضنا: إنا نصنع ذلك، قال:
" فلا وأنا أقول مالي ينازعني القرآن فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن "
وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن اسحاق بمعناه وحسنه، وقال الدارقطني: هذا إسناد حسن ورجاله كلهم ثقات، وجاء في كثير من روايات الحديث
" لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "
، وذكر الشوكاني من شواهده، ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء، عن ابي قلابة بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لعلكم تقرأون والإمام يقرأ " ، قالوا: إنا لنفعل، قال: " لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب "
، قال الحافظ: إسناده حسن، ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس، وزعم أن الطريقتين محفوظتان، وخالفه البيهقي فقال: إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست محفوظة، وفي لفظ للدارقطني عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يقرأ أحد منكم شيئا من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن "
قال الدارقطني: رجاله كلهم ثقات.
فهذه الأحاديث ناصة على أن للفاتحة حكما خاصا في الصلاة، فلا يكتفي فيها بسماعها من الإمام بخلاف غيرها، وهذا لتوغلها في الوجوب، لأنها ركن من أركان الصلاة، ولذلك أطلق عليها اسم الصلاة بالنص الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه رب العالمين، لأنها بمثابة القلب منها.
واحتج القائلون بعدم القراءة خلف الإمام مطلقا أو فيما يجهر به بعموم قوله تعالى
وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا
[الأعراف: 204] وبعموم روايات، منها ما أخرجه الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قال: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة جهر فيها بالقرأ، فقال:
" هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا فيما جهر به من الصلاة "
، ورواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، وابن ماجة وابن حبان بلفظ:
" فإني أقول مالي أنازع القرآن "
وزيادة فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه سلم فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الزيادة مدرجة في الخبر كما نقله الشوكاني عن الخطيب، وذكر أنه اتفق على ذلك البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم.
قال النووي: وهذا مما لا خلاف فيه بينهم، ومنها حديث أبي هريرة عند الخمسة إلا الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا "
ونسب إلى مسلم تصحيحه، ولكن أبا داود قال في زيادة قوله (وإذا قرأ فأنصتوا)، ليست بمحفوظة، ونسب الوهم فيها إلى أبي خالد، ورد عليه المنذري بأن أبا خالد هذا هو سليمان ابن حيان الأحمر وهو من الثقات الذين احتج بهم البخاري ومسلم في صحيحهما، وأجاب عنه الإمام نور الدين السالمي رحمه الله، بأن ذلك لا ينافي وقوع الوهم منه، لأن أبا داود لم يدع كذبه، وإنما ادعى وهمه، وهو غير الكذب بل هو في معنى الغلط، غير أن المنذري عزز ثبوت هذه الزيادة، ونفي الوهم عن راويها أبي خالد، بعدم تفرده بها، فقد تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعد الأنصاري الأشهلي المدني نزيل بغداد، وقد سمع من عجلان وهو ثقة وثقه يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المحزمي وأبو عبد الرحمن النسائي وقد أخرج النسائي هذه الزيادة في سننه من حديث أبي خالد الأحمر ومحمد بن سعد، ونسب المنذري إلى مسلم إخراج هذه الزيادة في حديث أبي موسى الأشعري من رواية جرير ابن عبد الحميد، عن سليمان التيمي عن قتادة وأقر الشوكاني نسبتها إلى رواية مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري، ورأيت جماعة من العلماء عزوا إخراجها إلى مسلم من حديث أبي موسى، منهم القرطبي في تفسيره، والحافظ ابن حجر في فتح الباريء، وعزا إليه ابن قدامة في المغنى إخراج حديث أبي هريرة الذي تقدم ذكره، وقد راجعت أبواب القراءة في الصلاة وأبواب صلاة الجماعة من صحيح مسلم بابا بابا، وتأملت ما فيها حديثا حديثا، فلم أجد ما عزوه اليه من رواية أبي موسى، ولا من رواية أبي هريرة، ولا من رواية غيرهما، وإنما رأيت في باب ائتمام المأموم بالإمام أربعة أحاديث أخرحها مسلم من رواية أنس وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة رضي الله عنهم أما حديث أنس فلفظه
" إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، فإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا وإذا قال: سمع الله لمن الحمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قعودا فصلوا قعودا أجمعون "
وفي بعض طرقه عنه زيادة
" فإذا صلى قائما فصلوا قياما "
ولفظ حديث عائشة
" إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا "
ولفظ حديث جابر
" إئتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا "
ولفظ حديث أبي هريرة
" إنما الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون "
وفي بعض الطرق في نفس صحيح مسلم زيادة بعض ألفاظ في رواية أبي هريرة منها
" إذا صلى قائما فصلوا قياما "
وليس في شيء منها
" وإذا قرأ فأنصتوا "
ولم تأت رواية في هذا الباب عن أبي موسى الأشعري، ولست أدري أين تقع هذه الرواية التي نسبوها إليه، مع العلم أن هؤلاء الذين عزوا إخراج مسلم لهذا الحديث عن أبي موسى وتصحيحه حديث أبي هريرة معدودون في مقدمة أئمة الحديث رواية ودراية، هذا وقد أعل الدارقطني زيادة " وإذا قرأ فأنصتوا " الواردة في رواية سليمان التيمي عن قتادة بأن الحفاظ من أصحاب قتادة لم يذكروها منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة، قال الدارقطنى: فإجماعهم يدل على وهمه، وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي، ولكن ليس هو بالقوي تركه القطان، لكن روى بعضهم تصحيحها عن أحمد بن حنبل وابن المنذر.
ومنها حديث
" من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة "
وهو حديث مرسل من طريق عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أسنده عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن عماره: وأبو حنيفه وقد ضعفهما الدارقطنى الراوى للحديث قال: وروي هذا الحديث سفيان الثوري، وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينه وحريث ابن عبد الحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وذكر الحافظ وغيره أنه مشهور من كلام جابر بن عبد الله موقوفا عليه، وقد رواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر، قال ابن عبد البر: " ورواه يحيى بن سلام، صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ ".
وليس في شيء مما احتجوا به ما يدل على صحة ما ذهبوا إليه، أما الآية الكريمة فإنها ليست نصا في الموضوع، إذ يحتمل أن تكون القراءة المقصودة فيها خارج الصلاة وهي مكية، وتحريم الكلام في الصلاة كان في المدينة، كما قال زيد بن الأرقم: وليس ببعيد أن يكون المقصود بها المشركين الذين يرفعون أصواتهم عند تلاوة القرآن حذر أن يصل إلى نفوسهم إن أنصتوا إليه فيستولى عليها، وقد روي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب ويشهد له قول الله تعالى:
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
[فصلت: 26] ولو سلم أنها نزلت في قراءة الصلاة، فهي مخصصة بالأحاديث الناصة على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، والخصوص إذا ثبت قدم على العموم ولو كان قرآنا، لأن العام ظني الدلالة - وإن كان قطعي المتن - بخلاف الخصوص، وأما الأحاديث فهي أيضا عمومات محمولة على ما فوق الفاتحة، لوجوب تقديم الخاص على العام، ولا تقوى هذه العمومات على معارضة الخصوصات الصريحة الواضحة، وقد علمت ما في بعض تلك الأحاديث من مطاعن لأئمة الحديث في أسانيدها، فكيف تقوى على معارضة الروايات الصحيحة الصريحة في إيجاب تلاوة الفاتحة على كل مصل؟.
هذا وإذا ثبت الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام فإن ذلك لا يتقيد بحال سكوته إذ ليس في تلك الأحاديث ما يدل عليه، وقد اختلفت الشافعية في قراءة الفاتحة، هل تكون عند سكتات الإمام وعند قراءته، قال الشوكاني: وظاهر الأحاديث أنها تقرأ عند قراءة الإمام، وفعلها حال سكوت الإمام إن أمكن أحوط، لأنه يجوز عند أهل القول الأول فيكون فاعل ذلك آخذا بالإجماع - قال - وأما اعتياد قراءتها حال قراءة الإمام للفاتحة فقط، أو حال قراءته للسورة فقط، فليس عليه دليل بل الكل جائز وسنة، نعم حال قراءة الإمام للفاتحة مناسب، من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الإستعاذة عن محلها، أو تكريرها عند إرادة قراءة الفاتحة إن فعلها في محلها أول وآخر الفاتحة إلى حال قراءة الإمام للسورة. إنتهى كلامه بتصرف.
ثم ذكر الشوكاني عن بعض الشافعية أنه بالغ، فصرح بأنه إذا اتفقت قراءة الإمام والمأموم في آية خاصة من آي الفاتحة بطلت صلاته، وذكر عن صاحب البيان من الشافعية، أنه رواه عن بعض أهل الوجوه منهم، قال: وهو من الفساد بمكان يغني عن رده، وللحافظ ابن حجر بحث قيم في هذه المسألة في الفتح، فبعد أن ذكر حديث
" وإذا قرأ فأنصتوا "
أتى باحتمالين في المقصود به:-
أولهما: أن الإنصات المطلوب فيما عدا الفاتحة.
ثانيهما: أن ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت، قال: وعلى هذا فيتعين على الإمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم، لئلا يوقعه في ارتكاب النهي، حيث لا ينصت إذا قرأ الإمام، ثم قال: وقد ثبت الإذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في جزء القراءة والترمذي وابن حبان وغيرهما، من رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقلت عليه القراءة في الفجر.. وأورد حديث عبادة الذي ذكرناه، ثم قال: وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي ومن حديث أنس عند ابن حبان.
ويمكنك بهذا استظهار رجحان القول بقراءة الفاتحة، ولو في حال قراءة الإمام، وهو الذي عليه العمل عندنا، وذكر صاحب الإيضاح وغيره عن بعض أصحابنا اختيار ما عليه بعض الشافعية من قراءتها في سكتات الإمام.
وتلاوة الفاتحة في الصلاة أو في غيرها يجب أن تكون بحسب ألفاظها المنزلة، فلا تصح ترجمتها إلى أي لغة أخرى، كالفارسية مثلا، لأن ذلك يسلبها قرآنيتها، وذهب أبو حنيفة إلى جواز قراءتها في الصلاة وغيرها باللغة الفارسية، وهو رأي غير سديد، وقد أطال العلماء في الرد عليه، وقد كنت أرغب في بحث هذا الموضوع هنا، ولكني رجحت تأخيره إلى موضعه وهو ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى، وأرجو أن أوفق لذلك عندما أصل في التفسير إن شاء الله إلى الآيات التي تنص علي عربية القرآن، وقول أبي حنيفة مهجور عملا إذ لم يعمل به أي أحد حتى من أصحابه الذين يرون رأيه، وبهذا كان الإجماع العملي من الأمة مخالفا لرأيه، وهذا ما يسر الله إملاءه في هذا الجزء المشتمل على مقدمات مهمة في التفسير والإعجاز، بجانب تفسير الفاتحة، أسأل الله أن يتقبله مني، وأن يجزي الخير كل من أعانني عليه، وأن يوفقني لمواصلة العمل الذي بدأته إلى نهايته، إنه سبحانه ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[2 - سورة البقرة]
[2.1]
كلمات تسرد سردا غير مركبة تركيب الجمل، افتتحت بها هذه السورة، وشقيقتها ثانية الزهراوين من السور المدنية، كما افتتحت بها وبنظائرها من قبل سبع وعشرون سورة مكية، وهي كلمات ذات غرابة طبعا، إذ لم يكن مألوفا أن تسرد هذا السرد في غير التهجي، ومع ذلك لم تكن العرب على معرفة بالقراءة والكتابة إلا قليلا منهم فلا غرو إذا لم يكن جمهورهم بحاجة إلى معرفة هذه المصطلحات في تسمية الحروف التي تتكون منها كلماتهم، لأن السليقة كانت هي الينبوع لبيانهم.
مقاصد هذه الكلمات المقطعة:
وبدهي أن تختلف الآراء وتتعدد الأقوال في تحديد مقاصد هذه الكلمات، واستظهار معانيها.
ومهما يكن فإن هذه الفواتح وأمثالها هي أسماء ومسمياتها الحروف الهجائية التي تتركب منها المفردات، وهذا واضح لانطباق حد الاسم عليها، ولأنها تعتورها علاماته كالتعريف والاسناد، والجمع والاضافة والجر، ووصفها بالحرفية لا يعدو أن يكون مجازا، لأن مدلولاتها - وهي أحرف الهجاء - حروف.
وإيضاح ذلك أن الباء - مثلا - اسم، ومسماه أول حرف من بان وباع، وأوسط حرف من جبن وقبع، وآخر حرف من ضرب وجرب.
فإذا أردت النطق بالمسمى وحده وهو الحرف، قلت (به) بإدخال هاء السكت، وقس على ذلك سائرها، ولا يرد على ذلك ما أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححاه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول { ألم } حرف، بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف "
وفي رواية عند الترمذي والدارمي:
" لا أقول { ألم } حرف وذلك الكتاب حرف، ولكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف، والذال حرف، والكاف حرف "
لأن الاصطلاح على تقسيم أنواع الكلام إلى اسم وفعل وحرف إصطلاح طارىء لا يحمل عليه الكلام النبوي الشريف، وقد كانوا قبل حدوث هذا الاصطلاح يطلقون الحرف على الحروف البسيطة، التي يتركب منها الكلام، وهي مسميات هذه الكلمات كما قلنا، وربما أطلقوه تجوزا على نفس الكلمات، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: " لا أقول الم حرف.. " الخ، دفع ظن التجوز، والظاهر ما حرره بعض المفسرين أن المراد من الحديث بيان أن الحسنات على تلاوة القرآن تكون بحسب حروفه المكتوبة إذ لو كانت بحسب النطق لعدت (ألف) ثلاثة أحرف، ويؤيده ما في رواية الترمذي والدارمي من زيادة:
" والذال حرف والكاف حرف "
فإن الذال بمدها تتولد من فتحتها ألف، فلو اعتبر التلفظ لكان الجدير باعتبارها مع مدتها حرفين، ويومئ إلى ذلك التعبير بكتاب الله المفهم للكتابة دون كلام الله أو القرآن.
إعراب هذه الكلمات:
وإذا عرفت أنها أسماء فاعلم أنها غير مبنية، لأن الاعراب هو الأصل فيها، ولكنها سكنت أعجازها هنا لأجل معاملتها معاملة الاسم الموقوف عليه، لأنها سردت سردا من غير أن تلحقها عوامل تقتضي حالة من حالات الاعراب.
معانيها:
أما معانيها في طلائع السور فقد اختلف فيها المفسرون سلفا وخلفا، ونستطيع أن نرد آراءهم إلى موقفين؛ موقف الذين تهيبوا من الخوض في معانيها حذرا من الانزلاق، لأنهم عدوه من التقول على الله بغير علم، وليس الموقف بالهين، فالكلام كلام الله، ونسبة ما لم يرده تعالى إليه كنسبة ما لم يقله.
وموقف الذين تجاسروا على القول فيها بحسب ما توحي به القرائن، وترشد إليه الدلائل، ولم نعثر في هذه الفواتح على شيء يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تفسيرها ولو من وجه ضعيف، ولو حصل وثبت لتبخر النزاع، وزال الشقاق لوجوب التسليم له عليه أفضل الصلاة والسلام، فهو أعلم بالتنزيل ومقاصده، والتأويل وطرائقه، ولكلا الفريقين حجة يستندون إليها.
استدلال من لا يرى الخوض في معانيها:
أما الأولون فقد احتجوا بالمعقول والمنقول:
أما المعقول؛ فهو أن الله سبحانه تعبدنا بأعمال منها ما نعرف حكمته، ومنها ما لا نعرف، فالصلاة والزكاة والصوم كلها عبادات ذات أثر واضح، ومنفعة بينة في حياة العابد الشخصية والاجتماعية، فإن الصلاة بما فيها من تذكير بالله وقدرته وسلطانه ومنته وإحسانه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تسد بها حاجات الفقراء، وتنتزع من قلوبهم كراهة الأغنياء مع أثرها الطيب في نفس المزكي، عندما تطهرها من رجس شهوة المال، فمنفعتها عائدة على الجانبين، والصوم وسيلة للحد من طغيان الشهوة، وكسر شوكتها، ورد جماحها، مع ما فيه من تذكير الأغنياء بآلام البؤساء الجائعين.
وبجانب هذه العبادات ذات المنافع المعقولة، والحكم الواضحة، ثم عبادات أخرى لا سبيل لنا إلى استظهار حكمتها، كرمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة، والرمل والاضطباع، وكما كان لائقا بحكمة الله أن يأمر عباده بالنوع الأول يليق بحكمته كذلك الأمر بالنوع الثاني من غير خلاف، وقد يكون الامتثال في هذا النوع أدل على الاذعان والطاعة، لأن فاعله لا يدرك له حكمة، ولا يلمس منه منفعة عاجلة، بخلاف النوع الأول، إذ ليس من المستحيل أن يكون إتيانه لمعرفته بمنفعته، وإذا جاز ذلك في التعبد العملي، فلم لا يجوز في التعبد القولي؟ وهو أن يأمرنا الله أن نعبده تارة بما نفهم معناه من الكلام، وتارة بما لا نفهم، ليتجلى الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، هذا بجانب كون غموض المعنى من اللفظ داعيا إلى الالتفات إليه، والتعلق به، والتفكر فيه خصوصا عند ما يعلم أنه صادر من أحكم الحاكمين ، وهذا التعلق باللفظ هو في حقيقته تعلق بالله عز وجل، الذي أنزله بعلمه، وذلك هو عين الذكر وروح العبادة.
وأما المنقول؛ فهو دلالة القرآن نفسه على انقسامه إلى محكم ومتشابه، وجاء فيه عن المتشابه
وما يعلم تأويله إلا الله
[آل عمران: 7] والوقف هنا ضروري لأسباب؛
أحدها: أنه لو عطف الراسخون في العلم على اسم الجلالة للزم إما انقطاع { آمنا به } عما قبله، وهو غير جائز لعدم إفادته، وإما رجوعه إلى المعطوف والمعطوف عليه، فيترتب عليه أن يكون الحق تعالى قائلا: { آمنا به كل من عند ربنا } واعتقاد ذلك عين الكفر ورأس الضلال.
ثانيها: ان مدح الراسخين في العلم بإيمانهم به دليل على أنه يختلف عن المحكم الذي فهموه، ولو كانا سواء في فهمهم لما كان لهذا التخصيص معنى.
ثالثها: نسبة الزيغ إلى الذين يريدون تأويله ولو كان كالمحكم لكان طلب معرفته موجبا للمدح لا للذم.
وعزز هؤلاء رأيهم بأنه مروي عن أجلة الصحابة - رضوان الله عليهم - منهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود وابن عباس، وهو قول جماعة من أعلام الأمة كالشعبي، وسفيان الثوري، والربيع بن خيثم، وكثير من المحدثين.
حجة الفريق الثاني:
وأما الآخرون فاحتجوا أيضا بالمعقول والمنقول، أما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أنه لو تعذرت معرفة شيء من القرآن على أفهام الأمة ما كانت لإنزاله فائدة، وكانت مخاطبة الناس به كمخاطبة العربي بالأعجمية، أو الأعجمي بالعربية.
ثانيها: أن الخطاب إنما يوجه إلى المخاطبين لأجل الافهام، فإن تعذر فهمه عليهم جميعا فهو عبث وسفه لا يليق بمقام الربوبية.
ثالثها: أن القرآن متحدى به ولا يتحدى إلا بالمعلوم.
وأما المنقول فبعضه من القرآن وبعضه من السنة، فمن القرآن قوله تعالى:
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالهآ
[محمد: 24]، فإن التوبيخ على عدم تدبره لا يكون إلا لأن تدبره مطلوب، وهو دليل إمكان فهمه، إذ لو كان متعذر الفهم ما كانت في تدبره فائدة. وفي معنى ذلك قوله:
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
[النساء: 82]، ومن البدهي أن معرفة سلامته من التناقض تتوقف على فهم جميع معانيه. وقوله:
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين
[الشعراء: 192 - 195]، فإن الانذار يتوقف على فهم المنذرين بما أنذروا به، وهذه الآيات دالة على أن الانذار بجميع التنزيل، فليس من المعقول أن يكون منه ما لا يفهم معناه، ويزيد ذلك تأكيدا ووضوحا قوله:
بلسان عربي مبين
[الشعراء: 195]. ومن المعلوم أن العرب أول من خوطبوا به، وهو بلسانهم المبين، ولو لم تصل أفهامهم إلى شيء منه لكان في ذلك ما يدعوهم إلى رفضه، والطعن في وصفه بالإبانة، فإن هذا الوصف يتنافى مع بقاء شيء منه غامض المعنى. وقوله تعالى:
لعلمه الذين يستنبطونه منهم
[النساء: 83]، فإن الاستنباط يتوقف على الإحاطة بالمعنى. وقوله:
تبيانا لكل شيء
[النحل: 89]. وقوله:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة: 15]. وقوله:
أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون
[العنكبوت: 51]. وقوله:
هذا بلاغ للناس ولينذروا به
[ابراهيم: 52]. وقوله:
قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا
[النساء: 174] وغير هذه من الآيات الدالة على أن القرآن ميسر فهمه، واضح معناه، مبشر ومنذر، وهاد إلى طريق مستقيم.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم:
" إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا؛ كتاب الله وسنتي ".
وحديث علي في وصفه:
" فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم "
الخ.
في المسألة مجال للاجتهاد:
وأنت تدري أن أمثال هذه الحجج التي استند إليها كلا الفريقين، ليس فيها ما يقطع به صحة أحد الرأيين، فتبقى المسألة مجالا للاجتهاد. ومن تجاسر على الخوض في تفسير هذه الفواتح ليس له أن يقطع بأن ما قاله هو عين المراد بها، فإن غاية ما في أقوال الخائضين في تفسيرها، الاستناد إلى قرائن قد تكون صحيحة أو غير صحيحة، وإنما يستأنس بجواز فهم معانيها بعدم وجود ما يدل على استنكار العرب الجاهليين لها مع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن عليهم، بل أثر ما يدل على تأثر بعضهم مع سماع سورة مفتتحة بها، وهو عتبة بن ربيعة، الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليه عروضا في مقابل تنازله عن دعوته، فأسمعه النبي صلى الله عليه وسلم سورة (فصلت)، فلما وصل إلى قوله عز وجل:
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود
[فصلت: 13]، وضع يده على في رسول الله صلى الله عليه وسلم إشفاقا من نزول العذاب، وانصرف إلى قومه طالبا منهم أن يكفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أنه استنكر شيئا مما سمعه. وكان سبب إسلام عمر - رضي الله عنه - ما قرأه عند أخته من سورة (طه)، ولو كان شيء مما سمعاه لا تستسيغه فهوم العرب لما كان منهما هذا التأثر، بل لأدى ذلك إلى سخريتهما واستخفافهما به، كما يستأنس للجواز بما روي عن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - من تفسير هذه الكلمات، فإن معظم من روى عنهم التوقف عن القول فيها، رويت عنهم كذلك أقوال في بيان معانيها.
الأقوال الواردة في معانيها:
ونسب ابن عطية وأبو حيان والزمخشري جواز تفسيرها إلى الجمهور ونسبه الفخر إلى المتكلمين، وهؤلاء اختلفوا في المراد بها على نحو مائة قول أكثرها ليس له قسط من الدليل، بل مسحة كذب أهل الكتاب ظاهرة على كثير منها، ورد العلامة ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) هذه الأقوال بعد حذف متداخلها وتوحيد متشاكلها، إلى عشرين قولا، وقد رأيت أن أقتصر عليها مع الافاضة فيها بتفصيل أدلتها وعزوها إلى أصحابها، وتبيان ما قيل فيها قبولا وردا، وإليكموها على الترتيب:
أولها: أنها حروف اقتضبت من أسماء وصفات لله عز وجل افتتحت بحروف مماثلة لها، ف { ألم } مثلا؛ الألف تشير إلى أحد أو أول أو آخر، واللام إلى لطيف، والميم إلى ملك أو مجيد أو نحو ذلك.
وهو المفهوم مما أخرجه ابن جرير في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: أما { ألم } فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه. وأخرج ابن جرير أيضا عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: { الم } و { حم } و { ن } ، قال: اسم مقطع. وروي مثل ذلك عن محمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، واعترض عليه بأن صحة ما قالوه يتوقف على التوقيف وأنى لهم به.
ثانيها: أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة، ف { الم } مثلا، الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد. قاله الضحاك، وهو كالذي قبله في توقف صحته على التوقيف.
ثالثها: أنها أسماء للملائكة، وأنها إذا تليت كانت للنداء لملائكتها وتصغي الملائكة إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها، فيقولون: صدقت؛ إن كان ما بعدها خبر، ويقولون: هذا مؤمن حقا، نطق حقا، وأخبر بحق، فيستغفرون له، وهو قول محيي الدين بن عربي صاحب الشطحات الصوفية المتطرفة في كتابه (الفتوحات المكية) وما هو إلا خبط بلا هاد ولا نظر، فإنه قول بعيد عن أسلوب القرآن ومقاصده.
رابعها: أنها رموز لأسماء النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه خاصة، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف، كأحمد وأبي القاسم، واللام مكنى به عن صفاته مثل لب الوجود، والميم مكنى به عن محمد، وما ماثله كمبشر ومنذر، ونسب ابن عاشور هذا القول إلى الشيخ محمد بن صالح التونسي المعروف بابن ملوكة في رسالة له، ثم قال: وعلق على هذه الرسالة تلميذه شيخ الاسلام محمد معاوية تعليقة أكثر فيها من التعداد وليست مما ينثلج بمباحثه الفؤاد، ويرد هذا القول إلتزام حذف حرف النداء، وما قاله من ظهوره في { يس } مبني على قول من قال إن { يس } بمعنى يا سيد، وهو ضعيف لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء، ولأن الشيخ نفسه عد { يس } بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولا لنحو الياء من { كهيعص }.
خامسها : أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمل، قاله أبو العالية استنادا إلى ما رواه البخاري في تأريخه وابن اسحاق وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبدالله بن رئاب، قال:
" مر أبو ياسر ابن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } ، فأتى أخاه حيي ابن أخطب في رجال من يهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه { الم ذلك الكتاب.. } فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد؛ ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب.. } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فقالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقال حيي بن أخطب - وأقبل على من كان معه -: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، قال: فقال لهم: أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد؛ هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: { المص } قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: { الر } قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مئتان، فهذه إحدى وثلاثون ومئتا سنة. قال: هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: نعم؛ { المر } قال: فهذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مئتان، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا، ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون مائة، ومئتان وإحدى وثلاثون، ومئتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره "
قال ابن جرير: ويزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات
[آل عمران: 7].
وليس في هذه القصة دليل على صحة هذا القول، ولو قدرنا صحتها - فما بالكم وسندها ضعيف بالاتفاق - فإن القرآن لا يعول في تفسيره على خرافات أهل الكتاب التي لا تستند إلا على الأوهام، وليس في إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لما ذهبوا إليه من أنها ترمز إلى مدة بقاء هذه الأمة، وإنما يحمل ذلك - لو صح وما هو بصحيح - على قصده عليه أفضل الصلاة والسلام إبطال مزاعمهم وتفنيد فهومهم على الطريقة المعروفة عند أهل الجدل بالنقض، ومرجعها إلى المنع، وقد قيل إن المانع لا مذهب له، ولا يستفاد من ضحكه صلى الله عليه وسلم إلا الاستغراب من جهلهم.
أفاد ذلك الإمام ابن عاشور.
وإن تعجب فعجب كيف يستند أئمة التفسير في بيان مراد الله من كتابه بدعاوى أهل الكتاب الذين لا يتورعون عن تحريف الكلم عن مواضعه في الكتاب الذي أوتوه، فما بالك بتحريف التأويل فيما هم بصدد اللدد والكيد له، وتكذيب الرسول الذي أنزل عليه ومثل هذه الأقوال جديرة بنفيها عن ساحة التفسير، وعدم شغل دواوينه بذكرها، لولا بغية التحذير منها والتنبيه على زيفها حذر اغترار العامة بها أثناء اطلاعهم عليها في أمهات التفسير القديمة.
سادسها: أنها رموز؛ كل حرف منها رمز إلى كلمة، فنحو { الم } أنا الله أعلم، و { المر } أنا الله أرى، و { المص } أنا الله أعلم وأفصل. رواه ابن جرير من طريق أبي الضحى عن ابن عباس، وروى مثله عن سعيد بن جبير، وهو كالقول الثاني مبني على ما عرف عن العرب أنهم يتكلمون بالحروف المقطعة أحيانا بدلا من الكلمات التي تتألف منها، وهو معروف عنهم نظما ونثرا، ومنه قول زهير:
بالخير خيرات وإن شر فا..
ولا أريد الشر إلا أن تا..
أراد: وإن شر فشر، وأراد: إلا أن تشا، فاكتفى من كل كلمة بحرف، وقول آخر:
ناداهم أن الجموا الا تا..
قالوا جميعا كلهم ألا فا..
أراد بالأول: ألا تركبون، وبالثاني: ألا فاركبوا. وقول الوليد بن المغيرة:
قلت لها قفي لنا قالت: قاف.
أراد: قد وقفت. وفي الحديث:
" من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة "
هو أن يقول كلمة: أق.. مكان أقتل. وفي حديث سعد بن عبادة عند ابن ماجة:
" كفى بالسيف شا.. "
أي شاهدا.
وقال لبيد:
درس المنا.. فمتالع فابان
فتقادمت بالحبس فالسوبان
أراد المنازل. وقال علقمة الفحل:
كان إبريقهم ظبي على شرف
مقدم بسبا.. الكتان ملثوم
أراد بسبائب الكتان.
وهو - كما قال العلامة ابن عاشور - يوهنه أنه لا ضابط له، لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة، وما ذكر من الشواهد لا يصح حمل فواتح السور عليه لاختلاف المقام، وانعدام النسبة التي تسوغ تخريج القرآن على مثل ذلك.
سابعها: أنها ترمز إلى أحوال نفسية تترتب على تزكية القلب، وتحلية النفس بالحقائق الايمانية، وهو مبني على اعتبار عدد الحروف المفتتح بها بتكرارها فهي ثمانية وسبعون حرفا، ويشار بها إلى شعب الايمان في حديث أبي هريرة:
" الايمان بضع وسبعون شعبة "
، فهذه الحروف هي شعب الايمان، ولا تكمل لأحد أسراره حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها، والبضع يصدق على الثمانية فهي المرادة به، وقد أطال صاحب الفتوحات في الانتصار لهذا القول بما أورده من الرموز الصوفية التي لا يكاد يفهم لها معنى، وتابعه الألوسي في " روح المعاني " ، وليس ذلك لعمري إلا من شطحات الغلاة التي يجب تنزيه القرآن وتفسيره عنها، وما كان ذكري لهذا القول إلا للتحذير من الاغترار به كما تقدم في نظيره.
وهذه الأقوال السبعة تخرج من باب واحد وهو اعتبار الحروف رموزا إما إلى كلمات اقتطعت منها، أو إلى حقائق تشير إليها.
ثامنها: أنها أسماء للسور التي افتتحت بها، وهو قول زيد بن أسلم، ونسب إلى الخليل وسيبويه، وقال به جم غفير من السلف والخلف، واختاره الفخر الرازي، وعزاه إلى أكثر المحققين، كما عزاه الزمخشري إلى الأكثر، واقتصر عليه الامام محمد عبده، وأقره تلميذه السيد محمد رشيد رضا في تفسير سورة البقرة من " المنار " ، ونظروه بالتسمية لما أشبه أسماء الحروف ك (لام) اسما لوالد حارثه بن لام الطائي، و(عين) اسما للذهب والشمس ومنبع الماء وحاسة البصر، و(غين) اسما للسحاب، و(نون) اسما للحوت، و(ق) اسما لجبل موهوم، و(حا) اسما لقبيلة من مذحج. وأيدوه بقول شريح بن أوفى:
يذكرني حاميم والرمح شاجر
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
واعترض بأمور:
الأول: أن الاشتراك بين مجموعة من السور في فاتحة من هذه الفواتح بعينها ك { الم } و { حم } يفقد فائدة التسمية لها.
الثاني: أن التسمية تقتضي الاشتهار ولم تشتهر هذه السور بها، وإنما اشتهرت بأسماء أخرى، كالبقرة وآل عمران ويونس وهود ويوسف.
الثالث: أن العرب لم تتجاوز فيما سمت به مجموع اسمين كمعدي كرب، وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء أو أربعة أو خمسة، فالقول بأنها أسماء لسورها خروج عن لغتهم.
الرابع: وجوب التغاير بين الإسم والمسمى والقول بإسميتها يقتضي اتحادهما.
الخامس: أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على جميعه رتبة، واسمه متأخر عنه، فيلزم أن يكون متقدما متأخرا معا، وهو محال.
وأجيب عن الأول بأن الأعلام كثيرا ما تكون مشتركة بين الناس أو البلدان أو غيرهما، وإنما صح الاشتراك لأن العلم يوضع لكل واحد وضعا مستقلا، وما يتبع هذه التسميات من الإضافات وغيرها كاف لتعيين المراد بها.
وعن الثاني بأنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم:
" يس قلب القرآن "
، و
" من قرأ حم حفظ إلى أن يصبح "
وفي السنن وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وإذا ثبت في البعض ثبت في الجميع إذ لا فارق، واشتهار أحد العلمين لا يضير علمية الآخر، فكثير من الأسماء مجهولة لا يتوصل إلى معرفتها إلا بعد التفتيش لغلبة الكنى أو الألقاب عليها، كأبي هريرة وذي اليدين، وقد يكون عدم الإشتهار لنفس الاشتراك فيترك لاحتياجه إلى ضميمة، ك { الم } هنا.
وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء فما فوق إنما تمتنع إذا ركبت تركيبا مزجيا، وجعلت إسما واحدا، أما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا تمتنع لأنها من باب التسمية بما حقه الحكاية، وقد وردت التسمية بجملة تركبت من أكثر من كلمتين: كشاب قرناها، وسر من رأى، وناهيك أن سيبويه سوى بين التسمية بالجملة، والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم.
وعن الرابع بأن التغاير الحاصل بين الكل والجزء كاف لتسويغ تسمية أحدهما بالآخر، ولذلك كان الحرف الهجائي المسمى جزءا من إسمه في الغالب، فلا مانع من العكس، على أن تسميات سور القرآن غالبا تكون كلمة مأخوذة من السورة المسماة.
وعن الخامس: بأن التقدم والتأخر إنما هما بحسب الاعتبارات، فالجزء مقدم على الكل من حيث ذاته، ومؤخر عنه من حيث الوصف وهو الإسمية إن اعتبر اسما له، وقد سبق في الجواب الذي قبله أن غالب التسميات المشهورة لسور القرآن تكون بانتزاع كلمات منها كالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة، والأنعام وهلم جرا.
تاسعها: أنها أسماء للقرآن ذكره ابن جرير ونسبه إلى قتادة ومجاهد وابن جريج، ونسبه غيره إلى الكلبي والسدي، ورده ابن عاشور لأنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها أن لو كانت أسماء للقرآن، نحو { الم غلبت الروم } و { الم أحسب الناس.. }.
عاشرها: أن كل مجموعة مركبة منها هي اسم من أسماء الله، واستؤنس له بما روي عن علي أنه كان يقول:
يا كهيعص، يا حم عسق. وعليه فالحروف المفردة يرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال، وأبطله ابن عاشور لعدم الإرتباط بين بعضها وما بعده بحيث يسوغ أن يكون خبرا أو نحوه عن اسم الله، مثل { الم ذلك الكتاب.. } و
الر كتاب أنزلناه إليك..
[إبراهيم: 1 - 2].
الحادي عشر: أنها أفعال، فإن حروف { ألم كتاب } هي نفس الحروف التي في { ألم } بمعنى نزل، فالمراد من { الم ذلك الكتاب.. } نزل عليكم قاله الماوردي، ورد بأنه لا تقرأ بصيغ الأفعال مع عدم إمكان حمل جميعها على هذا التأويل نحو { كهيعص، والر } وهو كما قيل لولا غرابته لكان حريا بالإعراض عنه.
وهذه الأقوال الأربعة ترجع إلى اعتبار أن هذه الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا.
الثاني عشر: أن هذه الحروف أقسام أقسم الله بها كما أقسم بالقلم تنويها بشأنها، لأن أسماء الله تألفت من مسمياتها، وهي كذلك أساس التخاطب، ومصدر العلوم، وهذا القول نسبه ابن جرير إلى ابن عباس وعكرمة، ونسبه غيره إلى الأخفش، وضعف بحذف حرف القسم مع أنه لا يحذف عند البصريين إلا مع اسم الجلالة، وورود أقسام بعدها في بعض المواضع نحو { ن والقلم } و { حم والكتاب المبين } مع استكراههم الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد، وفي كلا الأمرين بحوث متسعة آثرنا ضرب الصفح عن ذكرها رغبة في تجريد هذا التفسير من التعقيدات الناشئة عن البحوث العربية وغيرها.
الثالث عشر: أنها سيقت على طريقة التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية، لإيقاظ شعور السامعين، وإثارة فكرهم، ليدركوا أن هذا الكتاب - الذي تحدوا ببلاغته، وحاروا عندما طولبوا بأن يأتوا بأقصر سورة من مثله وهم فرسان البلاغة القابضون على نواصيها والرائضون لعاتيها ومستعصيها - إنما هو من جنس كلامهم الذي ألفوه، وحروفه هي نفس الحروف التي يصوغون منها كلامهم، فلو كان صادرا عن ملكات البشر لكان بإمكانهم أن يعارضوه فيقابلوا الكلمة بكلمات، والسورة بسور، ولكن عجزهم دل على أنه فوق مدارك الأفهام، وأسمى من أن تناله ملكات الأنام، فهو من عند الله الذي لا يكتنه عظمه، ولا يقدر قدره.
وهذا القول منسوب إلى المبرد وقطرب والفراء، وعليه ابن تيمية والحافظ المزي شيخ ابن كثير المفسر، وانتصر له الزمخشري في كشافه أتم الانتصار واختاره الامام ابن عاشور، وذكر أن المناسبة لوقوعها في فواتح السور ان كل سورة مقصودة بالإعجاز لقوله تعالى:
فأتوا بسورة من مثله..
[البقرة: 23]، فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته، وأيده بأن التهجي ظاهر في هذا المقصد، فلذلك سكتت عنها العرب لظهور أمره، لأن التهجي معروف عندهم، فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية التي عهدت في التعليم في غير مقامه أدرك السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لتشابه الحالين في العجز عن الإتيان بكلام بليغ، وفي هذا تعريض بهم بمعاملتهم معاملة الصبيان أول تعليمهم القراءة والكتابة، وفي ذلك ما لا يخفى من الإغراء والإثارة على التحدي والمعارضة، كما أيده أيضا بأن معظم هذه الحروف نزلت في أوائل السور المكية، وإنما شاركتها من المدنية البقرة وآل عمران، ولعل ذلك لنزولهما بعيد الهجرة من مكة، وقصد التحدي في القرآن المكي قصد أولي وعضده أيضا بأن الحروف المختتمة أسماؤها بألف ممدودة كالياء والهاء والراء والطاء والحاء، قرئت في هذه الفواتح مخففة على طريقة تهجي الصبيان.
وللسيد محمد رشيد رضا في تفسير فاتحة الأعراف بحث نفيس بين فيه تناسب هذه الفواتح مع ما بعدها، ومن الممكن أن يستنتج من هذا البحث تأييد هذا الرأي، وإن كان هو نفسه أميل إلى القول بأنها أسماء للسور في بعض ترجيحاته، وخلاصة بحثه أن الغرض من افتتاح هذه السور بهذه الفواتح تنبيه السامع بهذا الصوت إلى ما سيلقى إليه بعده من الكلام حتى لا يفوته منه شيء، فهي شبيهة بألا الافتتاحية، وها التنبيهية، وإنما خصت بها سور معينة من الطوال والمئين والمثاني والمفصل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الاسلام، وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية ما عدا الزهراوين، والدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب، وفي كلها يلي هذه الفواتح ذكر الكتاب ما عدا مريم والعنكبوت والروم و(ن)، وفي كل منها معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب، فأما سورة مريم فقد ثني فيها بتفصيل قصتها بعد افتتاحها بقصة زكريا ويحيى المشابهة لها، وتليت القصتان بذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءا كل منها بقوله تعالى:
واذكر في الكتاب..
[مريم: 16، 41، 56،51].
والمراد بالكتاب القرآن، فكأنه قال في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى واذكر في الكتاب، وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم ذلك، ولم يكن قومه على علم به كما صرح به في سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله:
تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين
[هود: 49]، وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته:
ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون
[يوسف: 102]. وختمت هذه السورة - أي سورة مريم - بإبطال الشرك وإثبات التوحيد، ونفي اتخاذ الله تعالى للولد، وتقرير عقيدة البعث والجزاء، فهي بمعنى سائر السور التي كانت تتلى للدعوة، ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم النبيين، وصدق كتابه الحكيم.
وأما سورة العنكبوت وسورة الروم فقد افتتحت كل منهما بعد { الم } بذكر أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة، فالأول الفتنة في الدين، وهي إيذاء الأقوياء للضعفاء، واضطهادهم لأجل صرفهم عن دينهم بالقوة القاهرة.
كان مشركو قريش يظنون أنهم يطفئون الإسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه لا سيما الضعفاء الذين لم يكن لهم ناصر من الأقوياء بحمية نسب ولا رابطة ولاء، وكان المضطهدون من المؤمنين لا يدركون حكمة الله في ظهور أعدائه عليهم، فبين الله في فاتحة هذه السورة أن الفتنة في الدين من سننه تعالى في نظام الاجتماع، يمتاز بها الصادقون من الكاذبين، ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وتكون العاقبة للمتقين الصابرين، فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها.
والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإنباء بأمر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل وصول خبره إلى قومه، والإنباء بما سيعقبه مما هو في طوايا الغيب، ذلك أن دولة فارس غلبت الروم في القتال الذي كان قد طال أمره بينهما، فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم الفرس في مدى بضع سنين، وقد صدق الخبر ونجز الوعد، فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات القرآن، والآيات المثبتة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو فات من تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من أولها لما فهموا مما بعدها شيئا، فكانت جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع، المنبهة للأذهان، وكان هذا بعد انتشار الاسلام بعض الانتشار وتصدي رؤساء قريش لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس، ولا سيما في موسم الحج، وكان السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون، كما أخبر عنهم سبحانه في قوله:
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
[فصلت: 26].
وأما سورة (ن) ففاتحتها وخاتمتها في بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، ودفع شبهة الجنون عنه، وهي أول ما نزل بعد سورة العلق وكانت شبهة رميه - حماه الله وكرمه - بتهمة الجنون مما يتبادر إلى الأذهان من غير عداوة ولا مكابرة، فإن رجلا أمينا فقيرا وادعا سلما ليس برئيس قوم ولا قائد جند، ولم يكن ذا تأثير في الشعب بخطابة ولا شعر، يدعي أن جميع البشر على ضلال الكفر والفسق، وأنه مرسل من الله لهداية الخلق، وأن دينه سيهدي العرب والعجم، وإصلاح شرعه سيعم جميع الأمم، لا يستغرب من مدارك أولئك المشركين الجاهلين بسنن الله في الأمم، وآياته في تأييد المرسلين، أن يكون أول ما يصفون به صاحب هذه الدعوة قبل ظهور الآيات والعلوم بقولهم: إنه لمجنون، وبعد ظهورها بقولهم: ساحر أو كاهن أو مجنون، وبعد ظهور العلم والعرفان بقولهم: معلم مجنون:
كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون
[الذاريات: 52 - 53].
نعم؛ قد قيل إن (ن) هنا بمعنى الدواة، ولذلك قرن بالقلم لبيان أن هذا الدين يقوم بالعلم والكتابة ، كما قال في أول ما نزل عليه قبلها:
اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم
[العلق: 3 - 4]. وقيل إنه بمعنى الحوت، لأن في السورة ذكرا لصاحب الحوت - يونس عليه السلام -، ولو صح هذا أو ذاك لما كتبت النون مفردة ونطقت ساكنة، بل كانت تذكر مركبة ومعربة، كقوله:
وذا النون إذ ذهب مغاضبا..
[الأنبياء: 87] وإنما يصح أن يكون فيها إشارة إلى ما ذكر كما يصح في سائر تلك الحروف أن تكون فيها إشارات إلى معاني معينة تظهر لبعض الناس دون بعض، أو غير معينة تذهب فيها الأفهام مذاهب تفيد أصحابها علما أو عبرة، بشرط أن تتفق مع هداية القرآن، وإن لم يصح أن يقال إنها مرادة لله تعالى بحسب دلالة الألفاظ العربية على معانيها.
وأتبع ذلك ذكر أمثلة، منها ما أوردناه في القول السادس عن بعض السلف أن هذه الحروف ترمز إلى أسماء وصفات وأفعال لله عز وجل.
ثم ذكر عقب هذا أن ما أورده من هذه المناسبات اللطيفة لا يتنافى مع ما اختاره في تفسير سورتي البقرة وآل عمران أن هذه الحروف أسماء للسور المصدرة بها.
والخلاصة أنه يستفاد من كلامه أن هذه الفواتح أريد بها التنبيه على ما سيعقبها كسائر أدوات الافتتاح - وهو رأي لعله لم يسبق إليه - غير أن كون القرآن لا يخرج وضعه في حروفه وكلماته عما تعورف عليه بين العرب يمنع ذلك، إذ لم يعهد من العرب التنبيه بمثل هذه الكلمات بل للتنبيه عندهم كلمات معهودة، والأقرب - حسبما أرى - أن تكون هذه المناسبات اللطيفة التي وفق هذا العلامة العيلم لاستظهارها مؤيدة لرأي من يرى أن سرد هذه الفواتح لتنبيه الغافلين بأن القرآن لم يأت بجديد من الحروف والكلمات عما هو معهود عند العرب وإنما سرت في حروفه وكلماته نفخة من روح الله عز وجل الذي أنزله بعلمه فتجاوز بلاغات جميع بلغاء الدنيا حتى أن الثقلين لو تظاهروا على الإتيان بشيء من مثله لارتدوا خاسئين.
وما أروع التذييل الذي أتبعه شهيد الإسلام سيد قطب في ظلاله، هذا الرأي الذي اختاره وعول عليه حيث قال: والشأن في هذا الاعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا، وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس، إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة أو آنية أو أسطوانة أو هيكل أو جهاز كائن في دقته ما يكون، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة، حياة نابضة خافقة تنطوي على ذلك السر الالهي المعجز سر الحياة، ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر، وهكذا القرآن، حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل الله منها قرآنا وفرقانا، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة.
الرابع عشرة: أنها أريد بها تعليم العرب الأميين للحروف المقطعة، كما يعلم الصبيان، فإذا وردت عليهم بعد ذلك مركبة كانت أسهل عليهم، وهو قول عبدالعزيز بن يحيى، وهذا لأن العرب ندر فيهم من قرأ وكتب لأن عنايتهم كانت موجهة إلى فنون الفروسية وطرائق القتال وكان جهلهم أهل بادية لا يدعوهم داع إلى تعلم الكتابة والقراءة، وإذا وجد بينهم من تعلمها فلا يكون إلا في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز، ومع ذلك كانوا قلة نادرة مغمورة بالسواد الأعظم من الأميين ومن حيث أن القرآن نزل قاضيا على الأمية كانت مجموعة من سوره مفتتحة بهذه الفواتح المقتضبة للتهجي الذي هو مفتاح القراءة والكتابة.
واعترض بأن الحروف المصدرة بها في السور ليست جميع حروف المعجم وإنما هي نصفها كما بينه صاحب الكشاف وسيأتي إن شاء الله.
الخامس عشر: أنها حروف أريد بها التنبيه كأدوات النداء، نحو يا فلان التي يراد بها إيقاظ ذهن السامع وهو محكي عن ثعلب والأخفش وأبي عبيدة.
قال ابن عطية: كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل: وفي معناه قول الفخر الرازي في تفسير فاتحة العنكبوت:
إن الحكيم إذا خاطب من يكون في محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال، يقدم على الكلام المقصود شيئا غيره ليلتفت المخاطب لسببه إليه، ويقبل بفكره عليه، ثم يشرع في المقصود، وذلك المقدم قد يكون كلاما ذا معنى مفهوم كقول القائل: اسمع واجعل بالك إلي وكن لي، وقد يكون شيئا هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل: أزيد ويا زيد وألا يا زيد، وقد يكون صوتا غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الانسان بيديه ليقبل السامع عليه، ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والمقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر، ولهذا ينادى القريب بالهمزة فيقال: أزيد، والبعيد بيا، فيقال: يا زيد، والعاقل ينبه أولا فيقال: ألا يا زيد. ثم قال: إذا ثبت هذا فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان ولكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم أن يقدم في خطابه حروفا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إن كانت لا يفهم معناها كانت أتم فائدة لأن المقصود بها إقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعدها، فلو كانت كلاما منظوما وقولا مفهوما لربما ظن سامعها أنها غاية المقصود، وليس شيء وراءها فيقطع التفاته عن المتكلم، أما إن كانت صوتا بلا معنى كانت أدعى إلى إقبال السامع واستدامة إصغائه للمتكلم لعلمه أن وراءها غاية لم يصل إليها.
وهذا القول يتفق مع ما تقدم نقله عن السيد رشيد رضا مما فصله في تفسير سورة الأعراف من المنار، وقد تقدم ما فيه ثم فلا داعي إلى تكراره، غير أني أضيف إلى ما هناك أن مجيء هذه الفواتح على غير وتيرة واحدة مما يضعف هذا القول، فاختلافها بحيث تأتي تارة على حرف وتارة على حرفين إلى خمسة أحرف، يدل على أن هذا التفاوت لحكمة مقصودة، فلا تحمل على قصد إيقاظ السامع وحده.
السادس عشر: أن تصدير بعض السور بهذه الفواتح أريد به شد انتباه السامعين إلى معجزة القرآن المنزل على النبي الأمي، وذلك أن النطق بهذه الحروف مركبة في الكلمات أمر تساوى فيه العرب، فلا فرق بين الأميين وأهل الكتاب منهم بخلاف النطق بأسمائها، فإنه كان نادرا لا يتجاوز القراء والكتاب الذين خالطوا أهل الكتاب فاقتبسوا منهم معرفة الكتابة والقراءة، ويستبعد جدا النطق بها من أمي لم تسبق له قراءة ولا كتابة استبعاد القراءة والكتابة نفسها، كما قال سبحانه:
وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون
[العنكبوت: 48]، فكان نطقه صلى الله عليه وسلم بها مع اشتهار عدم اقتباس شيء منها من الكتاب والقراء معجزا إعجاز ما احتواه القرآن من أخبار لم يكن هو ولا قومه يعلمونها، ففي كلا الأمرين شهادة على عدم تلقيهما إلا من وحي الله، إذ مثلهما كمثل التكلم بلغة أجنبية لمن لم يسمعها من قبل.
وتعقبه الامام ابن عاشور بأن الأمي لا تعسر عليه التهجية.
السابع عشر: أنها أوردت هكذا ليصغي إليها المشركون لما فيها من الغرابة، فينصب في آذانهم ما يليها من المعاني التي يتدفق بها بيان الفرقان، وذلك أنهم كانوا يتصاممون عنه خشية تأثيره عليهم ببيانه البليغ، ومعناه الساطع، كما حكى الله عنهم قولهم:
لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
[فصلت: 26]، فكانت هذه الفواتح وسيلة لإنصاتهم. قاله قطرب، وهو قريب من بعض ما تقدم.
الثامن عشر: أنها علامة لأهل الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم في سور الكتاب الذي ينزل على النبي المنتظر عليه أفضل الصلاة والسلام.
التاسع عشر: أنها أوردت هكذا تنبيها على تركب كلمات القرآن من الحروف الحادثة التي يتركب منها سائر الكلام، ليكون في ذلك هدم لدعوى من يقول بقدم القرآن من هذه الأمة، وذلك أن الله سبحانه علم أن قوما سيقولون ذلك، فأنزل هذه الحروف لتكون دليلا على بطلان معتقداتهم.
وتعقبه ابن عاشور بأن هذا وهم، لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها.
العشرون: أنها ثناء أثنى الله به على نفسه، روي عن ابن عباس وهو يرجع أيضا إلى بعض ما سبق.
وأكثر هذه الأقوال ليس بحاجة إلى دليل على ضعفه، ومن ورائها أقوال أكثر منها، فإن ما قيل في هذه الفواتح يناهز مائة قول أو يتجاوزها، فما من اسم من أسماء الله أو صفة من صفاته فيه حرف من هذه الحروف إلا قيل إنه المراد بذلك الحرف، سواء كان في أوله أو وسطه أو آخره، ومما لا يمارى فيه أن الأقوال - وان جلت منزلة قائلها - إذا لم تعضدها الأدلة لا تعدو أن تكون دعاوى أعوزتها البينات.
وإذا كان العلماء المتقدمون تباروا حسب فهومهم في تبيان المراد بهذه الفواتح، فإن المتأخرين من فرسان علم التفسير المعاصرين لم يكونوا أقل منهم عناية بها، وقد مر بكم ما استظهره العلامة صاحب المنار من نكت لطيفة، وبدائع ظريفة تتعلق بها.
وممن جرى في هذا المضمار شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم اطفيش - رحمه الله تعالى -، فقد سمعت منه في دروسه التفسيرية التي كان يلقيها بجزيرة زنجبار أيام زيارته لها عام 1380 ه، ما رأيته من بعد منقولا عنه في كتاب (إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق) للدكتور حفني محمد شرف، وإليكم نص ما نقله عنه:
إن فواتح السور من كتاب الله العزيز فيها من المعاني ما تحار فيه ألباب أساطين العلماء، فمع جمعها لعلوم شتى، فإن الفواتح المعجمة منها إذا نظرنا إلى كل سورة ابتدئت بحرف أو حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فإننا نستطيع إدراك معنى تلك الحروف المفردة في أول السورة بالمعاني التي مضت في السورة التي قبلها، وبالتأمل في هذه الحروف نرى أنها أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا رأي قال به السيوطي، فنجد قوله تعالى: { ن والقلم وما يسطرون مآ أنت بنعمة ربك بمجنون } أن معنى الحرف (ن): نور، وأنه نداء مرخم، ونور من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول الله تعالى:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة: 15] وإن ذهب بعض المفسرين إلى معان أخرى في لفظ النون ، ولكن القسم والآية بعده يدلان على أن المخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا رجعنا إلى سورة الملك قبلها فإننا نرى في أثناء تلك السورة ما يشعر بتهديد المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له، وفيها من الآيات المقرعة لهم المهددة بالعذاب في الدنيا والآخرة، فما يجتمع من كل هذه المعاني العظيمة يؤكد أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بالنور ليشعره الله بالأنس وارتفاع المكانة، وكذلك فاتحة سورة (ص) ومعناها يا صادق، و { طه } ومعناها يا طاهر، و { الم } ومعناها يا أيها المرسل، و { المر } ومعناها يا أيها الرسول، و { المص } ومعناها يا أيها المرسل الصادق، وأما { حم عسق } فمعناها يتضح بعد قراءة سورة فصلت، وما فيها من تهديدات متعددة لمشركي العرب، ولمشركي قريش، ثم ختم السورة بقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق..
[فصلت: 53] الآية، ولو علمنا أن السورة نزلت في مكة وكان بعدها غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما كسر شوكة المشركين، فإننا نجد معنى حروف { حم عسق } يتضح ويدل على المعنى الآتي: يا أحمد - وهو من أسمائه - عذاب الله سيأتيهم قريبا. فتكون الحاء والميم إشارة إلى اسم الرسول، والعين إشارة إلى عذاب الله، والسين إلى إتيان العذاب مستقبلا، والقاف للدلالة على إتيانه قريبا.
ومعنى { كهيعص } - بعد ما في سورة الكهف من اشتداد الأمر على رسول الله وكثرة همومه من أمر المشركين - الاشارة إلى كمال هذا الأمر وهو النصر اليقيني فعليك بالصبر. فتكون الكاف إشارة إلى كماله، والهاء إشارة إلى هذا الأمر، والياء إلى يقيني بدليل قوله تعالى:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجرات: 99] وهو النصر قطعا، والعين إشارة إلى الصبر، والمعنى لزم الصبر، كما لزمه زكريا - عليه السلام - ا ه.
والظاهر أن في هذا النقل سقطا لا تتم الفائدة بدون اعتباره، وتمام العبارة: فالعين إشارة إلى عليك، والصاد إشارة إلى الصبر.
وقد لاحظ الناقل الدكتور حفني محمد شرف أن هذا الرأي ليس بجديد، وإنما الجديد فيه ربط السور القرآنية برباط الوحدة الفنية التي توجد في القرآن، كما أن هذا الرأي قائم على أن ترتيب السور القرآنية ترتيب إلهي، بدليل قوله تعالى:
إن علينا جمعه وقرآنه
[القيامة: 17]. كما لاحظ على هذا الرأي الاختلاف في معنى هذه الحروف، فمرة يجعلها الشيخ إشارة إلى أشياء، ومرة يجعل الحرف الواحد إسما للرسول ينادى مرخما أو غير مرخم، كما أنه فسر العين بتفسيرين مختلفين.
وأضيف إلى ما قاله الدكتور حفني أن رأي الشيخ في هذه الفواتح لا يختلف عن رأي أغلب الذين حاولوا فك رموزها في عدم استناده إلى دليل، والقرائن التي استأنس بها لا تكفي لأن تكون سندا يعتمد عليه في بيان ما غمض من معاني القرآن، ومما يوهن رأيه أنه يؤدي إلى الخروج ببعض كلمات القرآن عن مألوف أساليب العرب في الكلام، كقوله إن (ن) ترخيم لنور، فالمعروف في الترخيم أن لا يحذف فيه أكثر من حرف، وحكمته اختصار الكلام، ومن البديهي أن هذه الحكمة تتلاشى عند ما يحذف من نور حرفان، وينطق باسم الحرف الباقي بدلا من المسمى، فإن وزن (ن) هو وزن نور نفسه، فضلا عما في ذلك من مخالفة الأسلوب العربي في الترخيم، على أن استدلاله بقوله تعالى:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة: 15] لكون النور من أسمائه صلى الله عليه وسلم لا يتم لجواز عطف اسم على اسم، أو صفة على صفة مع اتحاد حقيقة المعطوف والمعطوف عليه لأجل ملاحظة بعض الاعتبارات، كما في قوله تعالى:
وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان
[البقرة: 53] فإن الفرقان هو نفس الكتاب عند كثير من المفسرين، فلا يمنع أن يكون النور هو نفس الكتاب، وقد جاء صريحا تسميته بالنور في قوله عز وجل:
وأنزلنآ إليكم نورا مبينا
[النساء: 174]، وقوله:
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى: 52]، وقوله:
فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا
[التغابن: 8] كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نور الله في قوله:
" هو حبل الله المتين ونوره المبين.. "
ويمكن الاستئناس لكون النور هو نفس الكتاب بإفراد الضمير المذكور بعدهما في الآية التالية وهي قوله تعالى:
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
[المائدة: 16].
وقد أدلى المستشرقون من جانبهم بدلوهم في تفسير هذه الفواتح، وقد آثرت تنزيه هذا التفسير عن ذكر شيء مما قالوه، فإن آراءهم من السفسطة والسخف بحيث لا ينبغي لعاقل أن يشتغل بها، ولا عجب فإنهم ينطلقون في كل ما يكتبون أو يقولون عن الاسلام من مبدأ كراهيتهم له وحقدهم عليه.
هذا وقد أتبع الزمخشري تفسيره لهذه الفواتح بذكر نكت لطيفة ينبغي أن لا نغفل إيرادها لما فيها من الفوائد، وإليكم نص كلامه:
" واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء، وهي: الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون. في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك ان فيها من المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المهجورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة نصفها: اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء.
ثم إذا استقريت الكلمة وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة من المذكورة منها فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته.
وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم، وإلزام الحجة إياهم، ومما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر.
وقد كنت أظن ما يظنه الكثير أن الزمخشري هو رائد المفسرين في التنقيب عن لطائف هذه الأسرار، وممن كان يظن ذلك السيد الجرجاني، فبعد تحليله كلام الزمخشري في حواشيه على الكشاف قال: - مشيرا إلى هذه اللطائف - ربما لم يفطن لها قبل المصنف أحد من حذاق العلماء المتبحرين. ولكني أثناء مطالعاتي لكتاب إعجاز القرآن للامام الباقلاني رأيت بعض ما أورده الزمخشري وهو دليل على أن الزمخشري مسبوق من قبل غيره من علماء القرآن، فإن الباقلاني سابق عليه زمنا، وذكر الدكتور حفني محمد شرف في كتابه إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق أن الباقلاني هو أيضا مسبوق إلى ذلك، غير أنه لم يذكر هذا السابق وإنما جل المفسرين الذين عنوا ببحث هذه اللطائف قد اغترفوا من منهل الكشاف ونجد لهم في ذلك موقفين؛ موقف المؤيد وموقف المعارض.
أما المؤيدون فهم الغالبية العظمى، ونذكر من بينهم السيد الجرجاني، وأبا السعود، وناصر الدين بن المنير الاسكندري، وابن كثير، والبيضاوي، وقطب الأئمة، والمحقق الخليلي، ومن هؤلاء من أضاف لطائف أخرى إلى ما أورده الزمخشري، من شاء الوقوف عليها فليرجع إليها في مراجعها كتفسير البيضاوي، وهميان الزاد، وجوابات المحقق الخليلي.
وأما المعارض فهو الشوكاني حيث قال في تفسيره فتح القدير: هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتد بها وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة والتبكيت كما قال فهذا متيسر بأن يقال لهم هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها، ليس هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتا وإلزاما يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح، هو أيضا مما لا يفهمه أحد من السامعين، ولا يتعقل شيئا منه فضلا عن أن يكون تبكيتا له وإلزاما للحجة أيا كان، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه ولم يفهم السامع هذا ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله، ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا تتعلق به فائدة لجاهلي ولا إسلامي، ولا مقر ولا منكر، ولا مسلم ولا معارض، ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الرب سبحانه الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به.
وهب أن هذه صناعة عجيبة، ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة، حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم، ولا مدخل لذلك فيما ذكر، وأيضا فلو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا أن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر، بل من عكسهما وضد رسمهما.
. إلى آخر ما قاله.
والذي يستخلص من كلامه أن إعجاز القرآن الكريم كان ينبغي أن يكون مفهوما عند العرب الأميين الذين كان يجتاح ضلالاتهم بسبب بيانه، ويبدد شبهاتهم بشمس فرقانه، ولعمري إن القرآن حافل بالآيات البينات التي لم تقف في وجهها ضلالة من ضلالات الجاهلية، غير أن تألق حجته وإشراق معجزته ليسا محصورين إبان نزوله، فهو نداء الحق الذي لا يسكته مرور الزمن وتعاقب الأجيال، فما من زمن إلا وتتجلى فيه منه آيات باهرات تقف بالناس على صدق قوله وعدل حكمه، وأنه يستحيل أن يكون من عند غير الله.
وإذا كان أئمة الضلال وقادة الجاهلية كانوا يتصاممون عن قوارع نذره، ويتعامون عن بوارق آياته، ويتواصون بذلك، فإن تلامذتهم في كل عصر لا ينفكون عن هذا المسلك، وكل رجائهم أن يكدروا صفوه ويطمسوا نوره بما يقذفونه في خضمه النوراني من الأكاذيب والشبه، وهو يغرق في أعماقه قذائفهم من غير أن يكون لها أي أثر على صفوه ونوره، وفي العصر الحديث طائفة من الملاحدة الأفاكين الذين منوا أنفسهم بالنجاح في هذه المحاولة، من بينهم من خلع عليه - من قبل أساتذته الذين اختاروه لهذا الغرض - لقب عميد الأدب العربي، فقد بلغ به جهله ووقاحته أن صرح بمحاولته اختصار القرآن لتجريده من الحشو الذي يدعيه فيه، وقد حفظ الله كتابه من كيد المتآمرين، وصانه عن أيدي العابثين، واستأصل بحجته شبه دعاوى المبطلين.
وإذا كان هذا ديدن المتنطعين المحرومين من هدايته، في عصر نزوله، فما المانع أن يكون في طوايا آياته ما لم تنكشف أسراره للجيل الذي نزل فيه؟ وأن يكون مخبأ لمن يأتي من بعدهم ممن يكونون على شاكلتهم في الانطواء على عداوة الحق، ومحاربة الحقيقة، فلعل بعض المتنطعين حال تفتيشه عن الثغرات التي يتخيلها في القرآن يواجه بمثل هذه الآيات الدالة على عجز البشر عن الاتيان بمثله فيكون من نتيجة ذلك إما انصرافه عن الغي إلى الرشد، وإما افتضاحه وتحطم كيده، ومما لا يشك فيه أن الاتيان بهذه الفواتح على النحو الذي أوضحه الزمخشري وغيره ليس من مقدور البشر ولا يضير هذا الإعجاز كونه لم يتكشف للعرب الذين نزل بين ظهرانيهم، فإن نداء القرآن ليس قاصرا عليهم، وآياته لا تزال تتجدد بتجدد أطوار الناس، وتتجلى في كل عصر بما يقيم حجته على الخلق أجمعين،
وما هو إلا ذكر للعالمين
[القلم: 52]،
ولتعلمن نبأه بعد حين
[ص: 88].
[2.2]
{ ذلك الكتاب لا ريب فيه }
ذا من أسماء الإشارة، يشار بها إلى القريب والبعيد، فإن كان المشار إليه قريبا جردت أو اقترنت بها المفيدة للتنبيه، وإن كان بعيدا اقترنت بالكاف الدالة على الخطاب، وتأتي تارة مع اللام في قولك (ذلك)، وأخرى بدونها في قولك (ذاك).
عظم قدر القرآن ودلالاته:
والمشار إليه هنا الكتاب المرموز إليه ب { ألم } لأن هذه الكلمات - كما تقدم - تدل على بعض الحروف التي تركب منها، ومجيء الإشارة بالصيغة الدالة على البعد مع قرب المشار إليه محمولة على التنويه به، وبعظم قدره وعلو شأنه، كما قال تعالى عن نفسه: { ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم } ، ومثله وارد في فصيح الكلام العربي كقول خفاف بن ندبة السلمي:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها
فعمدا على عين تيممت مالكا
أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
فإنه عدل عن قوله أنا هذا لما ذكرناه من النكتة وهي بيان رفعة شأنه وعلو قدره، ومن هنا قال ابن عباس وابن جريج ومجاهد وعكرمة والسدي - فيما رواه عنهم ابن جرير -: المراد بذلك الكتاب؛ هذا الكتاب. وروي مثله عن أبي عبيدة، وقال جماعة: لا داعي إلى هذا التأويل الذي يخرج بكلمة ذلك عن أصل مدلولها. واختلف هؤلاء في المشار إليه على أقوال:
أولها: أنه الكتاب الذي كتبه الله على خلقه، فيه ذكر سعادتهم وشقاوتهم وآجالهم وأرزاقهم، والمراد بكونه لا ريب فيه، لا مبدل له.
ثانيها: أنه الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل، أن رحمته سبقت غضبه، كما جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم، وهذان القولان من الضعف بمكان، وإخباره تعالى عن الكتاب بأنه هدى للمتقين كاف في إبطالهما.
ثالثها: أنه الكتاب الذي وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو المعني في حديث عياض بن حمار المجاشعي عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان.. إلى آخره ".
رابعها: أن المشار إليه ما نزل من القرآن بمكة؛ لأن البقرة أول القرآن نزولا بعد الهجرة.
خامسها: أنه القول الموعود به في قوله عز وجل:
إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا
[المزمل: 5] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يستشرف لانزال هذا الوعد من ربه، فلما نزلت فاتحة البقرة بالمدينة كان المراد بذلك الكتاب ما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة أن يوحيه إليه، وهذا القول والقول الثالث ينبعان من نبع واحد.
سادسها: أن الاشارة إلى ما في التوراة والانجيل و { ألم } اسم للقرآن، والمراد أن هذا القرآن هو ذلك الكتاب الذي دلت عليه التوراة والانجيل، فهما يشهدان بصحته وهو يستغرق ما فيهما ويزيد عليهما.
سابعها: أن الاشارة إلى نفس التوراة والانجيل، والمراد ما ذكر من قبل أن القرآن مستوعب لما فيهما، فكأنه هو عينهما، وهو مروي عن عكرمة ورده الألوسي وما أحراه بالرد.
ثامنها: أن المشار إليه ما بقي في اللوح المحفوظ من القرآن غير نازل عند نزول الآية.
تاسعها: أنه الكتاب الذي وعد الله به أهل الكتاب أن ينزله على خاتم النبيين.
عاشرها: أنه الكتاب الذي كانوا يستفتحون به على الذين كفروا.
وذكر أبو حيان عن شيخه أبي جعفر بن إبراهيم بن الزبير أنه كان يقول: ذلك إشارة إلى الصراط في قوله: { اهدنا الصراط } كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب، ثم قال أبو حيان إثر ذلك وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد. وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر. اه.
وما أبعد هذا القول عن التحقيق، وأدناه إلى الهذيان، وإذا تأملت هذه الأقوال الاحدى عشر المبنية على أن المشار إليه بذلك بعيد، وجدتها جميعا ملتبسة بأنواع التكلفات التي يجدر بالمفسر أن لا يحمل عليها أفصح الكلام وأبلغه، وإن تعجب فعجب أن يأبى هؤلاء إخراج { ذلك } عن الاشارة بها إلى البعيد واللجوء إلى مثل هذه التأويلات التي لا تستند إلى حجة، على أن تعاقب أداتي الاشارة إلى القريب وإلى البعيد لا يخفى على من تأمل آيات الكتاب وتتبع الفصيح من كلام العرب، وثم وجه آخر وهو أن الكلام الذي تقضى له حكم البعيد وإن قرب عهده، كما حرره صاحب الكشاف، وبما أن فاتحة السورة وصلت من المرسل إلى المرسل إليه، كان لها حكم البعد، فصح أن تقع إشارته عليها، ونحوه قوله عز وجل:
لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك
[البقرة: 68] فالاشارة إلى فارض وبكر، وإنما أشير إليهما بصيغة البعد لتقضي ذكرهما، ومثله
ذلكما مما علمني ربي
[يوسف: 37].
وذكر اسم الاشارة مراعاة لتذكير الكتاب سواء كان الكتاب خبرا أم بدلا، فإن اعتبر خبرا فهذه المراعاة واضحة لشيوع اعتبار أحوال الأخبار في التذكير والتأنيث والافراد والجمع، كقول امرىء القيس:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة
فيالك من نعمى تحولن أبؤسا
فالضمير في تحولن عائد إلى نعمى، وإنما جمع مراعاة للخبر وهو أبؤس، وإن عد بدلا فالتذكير أوضح لأن الاشارة واقعة على الكتاب.
وعلى الأول فالتعريف للجنس، ويستفاد من التركيب قصر حقيقة الكتاب على القرآن لما فيه من تعريف المسند والمسند إليه، وهو داخل فيما يسمى بالقصر الإدعائي، ويراد أنه الكتاب الجامع للصفات الكمالية في جنس الكتب، حتى صار ما عداه بجانبه في حكم العدم، ومثله شائع في الكلام العربي كقولهم: محمد هو الرجل.
ويراد به أنه اجتمعت فيه صفات الرجولة حتى كأن من عداه لم يعد لهم شيء منها، ومن هذا الباب قول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
وما أجدر هذا الكتاب - الذي جمع ما تفرق من الهدايات، وتجددت في كل عصر آياته، وتجلت في كل طور مزاياه، وبقي دون غيره محفوظا من أيدي العابثين، وكيد المغرضين - أن يعد وحده الحقيق باسم الكتاب، لا سيما وأن الرجوع إلى غيره من الكتب لا يصح بعد إنزاله، فقد اختفت مشاعلها جميعا ببزوغ شمسه، وانطوت آياتها بانتشار آيته، مع ما أصيبت به من تحريف الأيدي العابثة، وإدخال أصحاب الأهواء والأغراض ما أرادوا فيها.
وعلى الثاني؛ فالتعريف للعهد ويراد به الكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المرموز إليه بفاتحة هذه السورة، ولا يضير كونه لم يكتمل إنزاله عند ما نزلت الآية لأن للبعض حكم الكل، وما نزل قبلها جانب عظيم منه، فإن أغلبه كان نزوله بمكة، ومع ذلك يمكن أن تكون في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن الله تعالى سينجز وعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإنزال جميع الكتاب عليه.
والكتاب بمعنى المكتوب، وهذا الوزن شائع فيما هو بمعنى المفعول، كلباس بمعنى الملبوس، وإله بمعنى المألوه، وعماد بمعنى المعمود به، وحروفه دالة على الجمع والضم، ومنه الكتيبة فإنها تجمع شتات المقاتلين، والكتاب يجمع حروفا وكلمات، والقرآن الكريم جامع لسور، وسوره جامعة لآيات وجمل ومفردات وحروف، فمن ثم صدق عليه معنى الكتاب، وفي هذه التسمية إيماء إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته، وهو موح بوجوب تدوينه لحفظه من الذهاب، وصونه عن النسيان، ولأجل هذا قال العلماء: إن كتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين.
و(الريب): الشك. روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن جرير والحاكم وصححه، وأخرج مثله ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروى أحمد في الزهد وابن أبي حاتم نحوه عن أبي الدرداء، ومثله عن قتادة عند عبد بن حميد وعن مجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس عند ابن جرير، ويعضده إطلاق العرب الريب على الشك كقول عبدالله بن الزبعرى:
ليس في الحق يا أميمة ريب
إنما الريب ما يقول الجهول
ويطلقونه على التهمة كقول جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني
فقلت كلانا يا بثين مريب
وأصله القلق واضطراب النفس، فإن الشك من لازمة الاضطراب وعدم الارتياح، ومنه حديث
" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "
، وقيل إن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة، فإن الأمر متى كان مشكوكا فيه كان مصدرا للقلق وعدم الاستقرار، ومتى كان صدقا ظاهرا اطمأنت إليه النفس وسكنت، ولأجل ذلك قيل: ريب الزمان في نوائبه، لأنها مزعجة للنفس مقلقة للقلب.
ومن العلماء من يفرق بين الريب والشك، فبعضهم يقول: الريب هو الشك مع التهمة، وهو يعني أن الريب أعمق من الشك. وقال الراغب: إن الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والريب التوهم في الشيء، ثم انكشافه عما توهم فيه، وأضاف إلى ذلك التفرقة بينهما وبين المرية، فقال عن المرية: هي التردد في المتقابلين. وطلب الامارة مأخوذة من مرى الضرع إذا مسحه للدر. وقال الجولي: الشك ما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا، ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور، والريب ما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور.
مقاصد القرآن الكريم:
والكتاب العزيز ليس موضعا لريب، فإن مقاصده ظاهرة، ومعانيه ناصعة، وآياته ساطعة، فلا يخامر العقل السليم شك في أنه من عند الله، وأنه مصدر هداية الناس، ومنبع سعادتهم، وبهذا يندفع ما عسى أن يقال إن كثيرا من الناس مرتابون فيه غير مطمئنين إلى صدقه، فكيف ينفى الريب عنه لا سيما وأن المكذبين به والمعرضين عنه أكثر من الذين صدقوا به واتبعوه؟ ويؤكد ما ذكرناه في المراد بنفي الريب أن الله عز وجل وجه الخطاب إلى المرتابين فيه بقوله:
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
[البقرة: 23]، حيث أتى بإن الشرطية المستعملة في الشك دون إذا المستعملة في اليقين، وذلك أن الكتاب ليس مظنة للريب، فلو خامرهم منه شيء لضعف عقولهم وغلبة الهوى عليها فعليهم أن يستعرضوا ملكاتهم البيانية ويختبروا طاقاتهم، هل بإمكانهم أن يأتوا بسورة من مثله؟ ولو استنفدوا قواهم واستظهروا بنصرائهم، مع كونهم فرسان البيان الذين لا يركب في أثرهم، وقد أنزل القرآن على أمي نشأ بين ظهرانيهم، وقد اكتشفوا عاداته، ودرسوا سيرته، واكتشفوا سريرته، ولم يعرفوا منه في عنفوان شبابه طموحا إلى الظهور وتطلعا إلى مباراتهم في مضمار البيان.
وهذا التركيب يفيد نفي الريب عن القرآن من غير تعرض لإثباته أو نفيه عن غيره، فلذلك لم يقل: لا فيه ريب كما قال في خمر الجنة:
لا فيها غول
[الصافات: 47] تعريضا بخمور الدنيا التي تغتال العقول ، أفاد ذلك الزمخشري وهو واضح لمن درس قواعد البلاغة وفهم مقاصد البلغاء وإن أنكره أبو حيان.
والجمهور قرأوا بنصب ريب بلا النافية للجنس، وهي قراءة تنص على نفي كل فرد من أفراد الريب، ولذلك قالوا إنها توجب الاستغراق، وذكر عن أبي الشعثاء سليم بن أسود المحاربي أنه قرأ بالرفع، وهي محتملة لنفي الجنس، أو نفي فرد من أفراده، فلذلك قالوا إنها تجوز الاستغراق، وقراءة الجمهور أبلغ، وعليها الاعتماد في الصلاة وغيرها بخلاف الأخرى لشذوذها.
والوقف على { فيه } لا على { ريب } عند الأكثر، لارتباط فيه بالجملة، وروي عن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لا ريب } وربطا { فيه } بالجملة الثانية، وقراءتهما تقتضي تقدير خبر للا كما في قوله تعالى:
قالوا لا ضير
[الشعراء: 50]، وقول العرب لا بأس، وتقديره فيه. { فيه هدى للمتقين } ، واعتمد ذلك القرطبي حيث فصل { فيه } عن جملة لا ريب وربطها بقوله { هدى للمتقين } وأبى ذلك أكثر المفسرين، لأن اعتبار الكتاب بأن نفسه هدى أبلغ من اعتباره منطويا على الهدى، كما أن ما في سورة السجدة وهو قوله تعالى:
تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين
[السجدة: 6] يتفق مع قراءة الجمهور وتفسيرهم.
{ هدى للمتقين }
القرآن هداية للمتقين:
بدأ سبحانه بنفي الريب عن كتابه ليكون ذلك كالتقعيد لإثبات هدايته، لأن ما حام حوله الريب لا يصلح لأن يكون هاديا، وثنى على ذلك بإثبات أنه هدى للمتقين، وهو من باب قولهم التخلية قبل التحلية، وما جانبه الريب جدير أن يكون هدى، إذ الهدى لظهوره ونصوع دلالته لا يبقى معه شيء من الريب، وهو مصدر هدى، كالسرى والتقى والبكى بالقصر في لغة، وقد سبق في تفسير الفاتحة تفصيل معناه وشرح أقسامه، وبقي أن أضيف إلى ما تقدم أنه لا خلاف في كون هذه الكلمة تفيد الدلالة، وإنما الخلاف في كون هذه الدلالة موصلة إلى البغية أولا، فالزمخشري يرى أنها موصلة ويستدل لذلك بثلاثة أوجه:
أولها: وقوع الضلال مقابلا للهدى في قوله تعالى:
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى
[البقرة: 16]، وقوله:
لعلى هدى أو في ضلال مبين
[سبأ: 24]، والضلالة هي الخيبة وعدم الوصول إلى المطلوب، فلو لم يعتبر الوصول في الهدى لم يجز التقابل بينهما لإمكان اجتماعهما.
ثانيها: أن كلمة مهدي تفيد المدح كالمهتدي، ولا يوصف بالاهتداء إلا الواصل إلى البغية المطلوبة بالهداية.
ثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى ولا يختلف مفهوم المطاوع عن مفهوم أصله؛ ككسرته فانكسر وجبرته فانجبر.
ووافق الزمخشري على رأيه هذا البيضاوي والجرجاني، وقد أخذ الجرجاني - في حاشية الكشاف - يدفع عن كلام الزمخشري كل ما أورد عليه، وخالفه قطب الأئمة في هميانه، والفخر الرازي في مفاتيح الغيب، وأبو السعود والألوسي في تفسيريهما، وأطال أبو السعود في نقض كل ما تعلق به الزمخشري، وأخذ يحلل مفهوم الهداية المتعدية واللازمة تحليلا فلسفيا، وانتهى - بعد تطوافه الطويل بين المعالم اللغوية والفلسفية - إلى أن اللازمة لا تكون لازمة للمتعدية وإن كانت أثرا من آثارها.
أنواع الهداية:
وإذا رجعت إلى ما تقدم تحريره في الفاتحة الشريفة، أدركت أن الهداية تختلف باختلاف نوعها، فإن كانت هداية توفيق - وهي لا تكون إلا من الله - فهي موصلة إلى البغية قطعا، وإن كانت هداية بيان فهي توصل إليها إن اقترنت بتوفيق الله للمهدي، أما إذا لم تقترن به فلا تؤدي إليها، بدليل قوله تعالى:
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت: 17] وهذه الهداية تسند إلى الله كما في هذه الآية، وإلى غيره كما في قوله:
يهدون بأمرنا
[السجدة: 24]، ومقابلة الهدى بالضلال في قوله: { لعلى هدى أو في ضلال مبين } لا يستدل بها على الإيصال، لأن الهدى فيه بمعنى الاهتداء، وهو لازم، والاختلاف إنما هو في المتعدي ويقابله الاضلال لا الضلال، كما لا يدل مجيء اهتدى مطاوعا لهدى أن فعل الهداية موصل إلى البغية، لأن الفعل المتعدي لا يستلزم وقوع المطاوعة في مقابله، ولذلك جاز نفي المطاوعة، في نحو أمرته فلم يأتمر، ونهيته فلم ينته، وعلمته فلم يتعلم، وهذبته فلم يتهذب، وبهذا تعلم عدم امتناع قول القائل: هديته فلم يهتد، وإطلاق المهدي في موضع المدح لأن الهداية سبب للاهتداء، مع حصول التوفيق، ويمكن أن يكون الخلاف اعتباريا، فمن نظر إلى اقتران الهداية بالتوفيق اعتبرها موصلة، ومن قطع النظر عن ذلك جوز أن تكون موصلة وغير موصلة، وقد مر بكم في تفسير الفاتحة أن الهداية تكون تكوينية، وهي هداية الفطرة والحواس والعقل، ولا غموض في أن الهداية الفطرية والهداية الحسية موصلتان إلى البغية، وكذلك هداية العقل لمن وفق لاستخدامه، وإذا ما رجعتم إلى ما ذكرته هناك كملت لكم الفائدة وانجلى عنكم اللبس.
وبهذا التحرير يمكنكم فهم وجه تخصيص هدى الكتاب بالمتقين هنا وبالمؤمنين في قوله تعالى:
هدى وبشرى للمؤمنين
[النمل: 2]، وقوله:
هدى ورحمة للمحسنين
[لقمان: 3]، مع قوله في آيات الصوم من هذه السورة
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس
[البقرة: 185]، وقوله:
وما هو إلا ذكر للعالمين
[القلم: 52]، ذلك لأن المؤمنين - وهم المتقون والمحسنون - هم المنتفعون بهداية القرآن، إذ لم يلبثوا عندما أشرق لهم نوره فأبصروا الحق أن اتبعوه، أما غيرهم فقد أخلدوا إلى الباطل وتصامموا عن حجج القرآن وتعاموا عن حقائقه، ذلك لأنهم استحكم في نفوسهم التقليد الأعمى، فكان حاجزا حديديا بينهم وبين الانتفاع بهداه، وإن كان منشورا لجميع الناس ليس بينه وبينهم حائل إلا هذا العتو والاستكبار، وذلك معنى قول الحق تعالى:
وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
[الاسراء: 82]، فهو شفاء لنفوس أهل الإيمان من أمراض الجهل والمعصية ورحمة لهم، لأنهم اتبعوه في الدنيا فاقتادهم إلى مواطن السلامة وبحبوحة السعادة، أما غيرهم من الذين أصروا واستكبروا استكبارا، فإنهم لم يزدادوا به إلا خسارا، لأنهم بتكذيبهم إياه، وإعراضهم عنه - بعد انبلاج حجته - ازدادوا كفرا إلى كفرهم، وضلالا مع ضلالهم، وذلك المراد من قوله تعالى:
قل هو للذين آمنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى
[فصلت: 44]. فالهدى هنا هو هدى التوفيق، بخلافه في نحو قوله تعالى: { هدى للناس } فهو محمول على هدى البيان.
معنى التقوى ومجالاتها:
و { المتقون } جمع متق، وهو دال على الاجتناب، لأنه مأخوذ من وقاه يقيه فاتقاه؛ بمعنى: جنبه يجنبه فاجتنبه
واستخدم مجازا في اجتناب ما يسخط الله، وقد تكرر كثيرا في القرآن نحو: { وإياي فاتقون } ، { واتقوا الله } ، { واتقون يأولي الألباب }. فإنه ليس من المعقول أن يراد باتقاء الله اجتناب ذاته تعالى لاستحالة ذلك، وإنما يراد به اتقاء عذابه الذي يوجبه التهاون بأوامره وارتكاب نواهيه.
وإنما أضيفت التقوى إلى الله لتعظيم شأن مخالفته، وتهويل ما يترتب عليها من عقاب.
وذكر اللغويون أن الوقاية فرط الصيانة، ومن هذا المعنى أخذ علماء الشريعة تعريف التقوى فقالوا: إنها صيانة الإنسان نفسه مما يوجب العقوبة من فعل أو ترك، وقسموها إلى مراتب:
أولها: توقي الشرك.
ثانيها: توقي الكبائر، ومنها الإصرار على الصغائر.
ثالثها: ما أشار إليها حديث عطية السعدي عند أحمد وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ".
وذكر بعض العلماء أن الرتبة الأولى هي تقوى العوام، والثانية هي تقوى الخواص، والثالثة هي تقوى خواص الخواص.
وبما أن أصدق ما يفسر به القرآن القرآن نفسه، فإن علينا - ونحن بصدد بيان ما يراد بالمتقين - أن نستلهم حقيقة التقوى مما وصف الله به المتقين في كتابه، كقوله هنا في وصفهم:
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
[البقرة: 3]. وقوله بعد بيان أركان البر الاعتقادية والعملية والخلقية في هذه السورة:
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
[البقرة: 177] وقوله في سورة آل عمران:
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنآ إننآ آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار
[آل عمران: 15 - 17]. وقوله فيها:
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السرآء والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون
[آل عمران: 133 - 135].
وما روي من أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين في التقوى والمتقين، فهو مقتبس من هذه الآيات ونظائرها، وهو متحد في معناه وإن اختلفت عباراتهم عنه، من ذلك ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في قوله { هدى للمتقين }: أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ - رضي الله عنه - أنه قيل له: من المتقون؟ فقال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة. وأخرج أحمد في " الزهد " عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقي من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، يكون حجابا بينه وبين الحرام. وروي مثله عن جماعة من التابعين، وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلا قال له: ما التقوى؟ قال: هل وجدت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنده أو جاوزته أو قصرت عنه. قال: ذاك التقوى.
وذكر القرطبي أن عمر سأل أبيا - رضي الله عنهما - عن التقوى فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فما صنعت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت. قال: فذاك التقوى. ونظم معنى هذه الإجابة ابن المعتز في قوله:
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
وذكر أبو السعود عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أن التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما فرض. وعن شهر ابن حوشب: المتقي من يترك ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما فيه بأس. وعن أبي يزيد أن التقوى هو التورع عن كل ما فيه شبهة. وعن محمد بن حنيف: أنه مجانبة كل ما يبعدك عن الله تعالى. وعن سهل: المتقي من تبرأ من حوله وقدرته. وقال بعضهم: التقوى ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك. وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح، والسلطان الجائر. وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا أن يكون لو جعل ما في قلبه في طبق فطيف به في السوق لم يستحي ممن ينظر إليه. وقيل: التقوى أن تزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخلق. وهذه الأقوال كلها صادرة من أصل واحد، فهي متحدة المضمون وإن اختلفت بحسب اختلاف نظر أصحابها إلى مراتب التقوى ومقامات المتقين، فمنهم من نظر إلى أصل التقوى أو إلى زاوية من زواياه، ومنهم من نظر إلى ذروته وسنامه أو إلى قاعدته الكلية المستجمعة لجميع جزئياته.
ومما ذكرناه من المعنى اللغوي للتقوى يستفاد أن أصله دال على السلب، لأنه بمعنى التجنب والترك، ولكن بالرجوع إلى الآيات التي أسلفنا ذكرها وأمثالها، وإلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف الصالح، يتضح أن للتقوى في الشرع شقين؛ شقا سلبيا وهو ترك ما نهى الله عنه، وآخر إيجابيا وهو فعل ما أمر به، ولا بد من الجمع بينهما للاتصاف بحقيقة التقوى الشرعية، وقد جمعت كلمة التقوى في الشرع بين السلب والإيجاب - مع أن حقيقتها الوضعية للسلب - لأجل ما في فعل الطاعات واجتناب المعاصي من توقي سخط الله المؤدي إلى عقابه.
هذا ويرى العلامة السيد رشيد رضا أن العقاب الإلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان؛ دنيوي وأخروي، وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه، وهي نوعان؛ مخالفة دين الله وشرعه، ومخالفة سننه في نظام خلقه، فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأفضل ما يستعان به على فهمهما واتباعهما سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأولين من آل الرسول صلى الله عليه وسلم وعلماء الأمصار، وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم ولا سيما سنن اعتدال المزاج، وصحة الأبدان وأمثلتها ظاهرة، وسنن الاجتماع البشري، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونها، وإتقان آلاتها وأسلحتها التي ارتقت في هذا العصر ارتقاء عجيبا وهو المشار إليه بقوله تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..
[الأنفال: 60].
كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله، واحتساب الأجر عنده،
يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين
[الأنفال: 45 - 46]. وما ذكره يؤكد شمول مفهوم التقوى لجميع أعمال الخير سواء كانت فائدتها عاجلة أم آجلة.
والانسان مطالب باستصحاب التقوى من بداية طريق حياته إلى نهايتها، لأنها محفوفة بالمخاطر، مفروشة بالأشواك، فإن كل خطوة يخطوها الإنسان مهددة بكمين، إما من غرائزه وشهواته، وإما من عواطفه ونزعاته، وإما من مطامعه ومطامحه، وإما من خوفه ورجائه، وهي طبائع موجودة في كل أحد وكل منها صالح لاستخدامه في الخير والشر، فلذا كان كل واحد منها سلاحا ذا حدين، وكان الإنسان على أي حال مطالبا بضبطها وتوجيهها إلى الخير والصلاح والبناء، والتقوى هي العامل الوحيد لضبطها وعدم إرسال العنان لها، والباعث على استخدامها فيما يعود بالمصلحة على صاحبها وعلى مجتمعه وأمته، وناهيك أن التقوى تستلزم تجريد النفس من كل خوف ورجاء إلا خوف خالقها ورجاءه، وبهذا يتضح لك أن الحركات النفسية داخلة في مدلول التقوى، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى:
ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب
[الحج: 32]، وقوله:
أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى
[الحجرات: 3]. وقد صرح بذلك صلى الله عليه وسلم في قوله:
" التقوى ها هنا "
وأشار إلى قلبه.
وتدخل في ضمن التقوى أقوال الخير كما تدخل أعماله، بدليل قوله تعالى:
وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
[الفتح: 26].
وليس قوله صلى الله عليه وسلم:
" التقوى ها هنا "
بمقتض حصر التقوى في صفات القلب، وإنما يشير إلى أن صلاح القلب هو أساس لصلاح الأعمال، لأنه سلطان الجوارح الذي يوجهها، إما إلى الخير وإما إلى الشر، كما جاء في حديث النعمان بن بشير عند الشيخين:
".. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
ولأهمية التقوى وكونها مصدر كل صلاح ومنبع كل فضيلة وأساس كل خير، تكرر الأمر بها في الكتاب العزيز، وتكرر الثناء على المتقين، ولا تكاد تجد أمرا مكررا في القرآن كالأمر بالتقوى سواء كان صريحا أو في معرض الثناء على المتقين، وتجد ذلك مقرونا بالأوامر والنواهي، والتبشير والانذار، والقصص والأمثال، والامتنان والاخبار، فاقرأ مثلا قول الله عز وجل:
نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين
[البقرة: 223] تجد الأمر بالتقوى يتوسط التشريع والانذار والتبشير، وتأمل قوله عز وجل في تقرير تمتيع المطلقات
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين
[البقرة: 241]. وقوله تعالى بعد ذكر طائفة من أحكام الدين في آيته الأولى:
واتقوا الله ويعلمكم الله
[البقرة: 282]، وبعد ذكر جانب من أحكامه والأمر بأداء الأمانة في آيته الثانية:
وليتق الله ربه
[البقرة: 283]، وقوله في سورة الطلاق في معرض تبيان أحكامه:
يأيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة..
[الطلاق: 1]، تدرك أن تقوى الله سبحانه هو الفلك الذي يدور فيه تشريعه الحكيم.
واقرأ في باب الامتنان قول الله تعالى:
يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء
[النساء: 1]، وقوله:
واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون
[الشعراء: 132 - 134].
واقرأ في باب التبشير والانذار قوله تعالى:
ولنعم دار المتقين جنات عدن
[النحل: 30 - 31]، وقوله:
يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت
[الحج: 1 - 2]، وقوله سبحانه:
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون
[الحشر: 18]، وغيرها من آيات الوعد والوعيد، تدرك قيمة التقوى عند الله وأهميتها في الحياة.
التقوى جماع الخير في الدنيا والآخرة:
ولما للتقوى من قيمة كانت ميزان التفاضل عند الله، كما قال سبحانه:
يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم
[الحجرات: 13]، وجعلت هي الغاية من العبادة، كما في قوله عز وجل:
ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
[البقرة: 21]، وكما جاء ذكرها مقرونا بمطلق العبادة، جاء في معرض العبادات المفصلة، ومنه قوله تعالى في الصوم:
يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
[البقرة: 183]، وقوله في الحج:
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولي الألباب
[البقرة: 197]، وقوله:
واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموآ أنكم إليه تحشرون
[البقرة: 203]، وقوله:
ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب
[الحج: 32].
وفي معنى ذلك قوله تعالى في الصلاة:
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت: 45]، وتلك هي حقيقة التقوى، وفي معناه أيضا قوله في الزكاة:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها
[التوبة: 103].
وقد وعد الله بمعيته المتقين من عباده في قوله:
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
[النحل: 128]. وجعل ولايته لمن جمع بين الايمان والتقوى، ووعد هؤلاء بالبشارة في الحياة الدنيا والآخرة، وعدم خوفهم وحزنهم يوم الفزع الأكبر وذلك في قوله:
ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة..
[يونس: 62 - 64]، كما وعد سبحانه المتقين بحسن العاقبة في الدارين، أما في الدنيا فالبعز والنصر، وأما في الآخرة فبالسعادة والفلاح، وذلك في قوله:
..والعاقبة للتقوى
[طه: 132]، وقوله:
..والعاقبة للمتقين
[الأعراف: 128].
ويكفي ما ذكرته من الآيات شاهدا ودليلا على أن التقوى هي منبع السعادة والفوز في الآخرة، ومنشأ العز والكرامة في الدنيا، وهي مع ذلك سبيل النجاة من الشدائد، ومفتاح لباب الرزق والخير، كما يدل عى ذلك قوله تعالى:
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والأرض
[الأعراف: 96]. وقوله:
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب
[الطلاق: 2 - 3]. جعلنا الله من عباده المتقين وحزبه المفلحين.
ولربما تساءل بعض الناس: هل المتقون بحاجة إلى الهداية مع تسنمهم ذروة التقوى وبلوغهم منتهى الصلاح؟ والجواب: أن العبد مهما بلغ من مراتب التقوى وقطع من مراحل الاهتداء لا يزال بحاجة إلى مزيد عناية من الله تنفحه بروح الهداية، ولطف المواهب، ومن هذا الباب قوله عز وجل في سورة الفاتحة تعليما لعباده المتقين: { اهدنا الصراط المستقيم } ، وقد سبق الكلام على ذلك، وليس ببعيد أن يكون المراد هدى للذين علم الله صيرورتهم إلى التقوى، لجواز أن يطلق على الشيء اسم ما يصير إليه، ومن هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" من قتل قتيلا فله سلبه "
فإنه عندما وقع عليه القتل لم يكن قتيلا. وروي من طريق ابن عباس - رضي الله عنهما -:
" إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة "
وقد حكى الله عن نوح - عليه السلام - أنه قال في دعائه على قومه:
ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا
[نوح: 27] يعني صائرا إلى الفجور والكفر، ولو روعي ما كانوا عليه من الضلال عند بداية نزول القرآن فقيل: " هدى للضالين " لم يستقم المعنى، لأن من الضالين من ختم الله على قلوبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا يهتدون بأسباب الهداية، ولذا قال تعالى عنهم في هذه السورة:
إن الذين كفروا سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
[البقرة: 6]، وقال عنهم:
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون..
[يس: 7 - 10]، فلا يصح اعتبار القرآن هدى لهم لأنهم لا ينتفعون بهدايته، وإنما المنتفع فريق كان على الضلال فلما تجلت له حقائق التنزيل ونارت لعقله دلائله، بارح الضلالة إلى الهدى، وفارق الجاهلية إلى الإسلام، ولو أريدت الترجمة الدقيقة المعبرة عن جميع هذه الأحوال، لقيل هدى للذين تحولوا عن الفجور إلى التقوى، وخرجوا من الكفر إلى الإيمان، ولكن بجانب ما في هذه العبارة من الطول فإن عبارة القرآن سادة مسدها ومغنية عنها مع تميزها برقة الأسلوب.
والمراد بالمتقين الذين نعتوا من بعد بما في الآيات اللاحقة، وهم الذين وفقوا للتخلص من علائق الكفر، والتطهر من أدران الجاهلية، سواء كانوا من قبل من الوثنيين أو من أهل الكتاب، وهو الذي يستفاد من كلام جمهور المفسرين، وللأستاذ الامام الشيخ محمد عبده رأي آخر فيهم لخصه السيد رشيد رضا فيما يلي:
كان من الجاهليين من مقت عبادة الأصنام وأدرك أن فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأن الإله الحق يحب الخير ويبغض الشر، فكان منهم من اعتزل الناس لذلك، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال وتعظيم جانب الربوبية - وذلك ما كان يسمى صلاة في لسانهم - وبعض الخيرات التي يهتدي إليها العقل في معاملة الخلق، وكان من أهل الكتاب من وصفهم الله تعالى بمثل قوله:
..من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون آيات الله آنآء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
[آل عمران: 113 - 114]، وبقوله:
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
[المائدة: 82 - 83]
فأمثال هؤلاء من الفريقين هم المراد بالمتقين، ولا حاجة إلى تخصيص ما جاء في وصفهم بالمؤمنين منهم بعد الإسلام، أو بالمسلمين، بل أولئك هم الذين كان في قلوبهم اشمئزاز مما عليه أقوامهم، وفي نفوسهم شيء من التشوق إلى هداية يهتدون بها، ويشعرون باستعداد لها، إذا جاءهم شيء من عند الله تعالى، فالمتقون في هذه الآية إذا هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد، ووجد في أنفسهم شيء من الاستعداد لتلقي نور الحق يحملهم على توقي سخط الله تعالى والسعي في مرضاته بحسب ما وصل إليه علمهم، وأداهم إليه نظرهم واجتهادهم.
وبنى الأستاذ على رأيه هذا تفسيره ما يأتي من نعوت المتقين، وكلامه ككلام غيره قابل للنقاش، وسوف تأتي إن شاء الله مناقشته في المكان المناسب من الآيات الناعتة للمتقين.
[2.3]
معنى الإيمان وأثره:
الإيمان هو أساس الهداية، ومصدر التقوى وينبوع الفضائل، وأصله التصديق نحو قوله عز وجل:
ومآ أنت بمؤمن لنا..
[يوسف: 17]، ومأخذه من الأمن، لأن المصدق آمن محدثه التكذيب، والإيمان بالغيب هو نقطة الافتراق بين أصحاب الفطر السليمة والنفوس الزكية والعقول الراسخة والأفكار الواعية، الذين يتصلون بما وراء هذا العالم المحسوس، ويدركون أنه محاط بقوة تقهره وإرادة تدبره، وأن الوجود لا ينحصر فيما تدرك الحواس، وأن الحياة ليست مقيدة بهذه الرحلة العابرة على ظهر الأرض، وبين الذين تكدرت فطرهم، وأظلمت نفوسهم، واضطربت عقولهم، وانغلقت أفكارهم، فلم يفهموا تفسيرا للوجود إلا ما وقعت عليه حواسهم المحدودة، ولا معنى للحياة إلا هذه الرحلة التي يقطعونها على ظهر الأرض، وهم الماديون المنحبسون في مضائق المادة؛ الذين سدوا على أنفسهم منافذ التفكير، وحالوا بين عقولهم ومسارح الاعتبار، فلا يتجاوزون حدود الحواس إلا في محيط الاكتشافات بالأجهزة التي هي في حقيقتها امتداد للحواس.
ويتضح بهذا الفارق بين الطائفتين، فالمؤمنون بالغيب ينطلقون بأرواحهم وعقولهم وقلوبهم في فسيح ملكوت الله الواسع، ويرون أن هدف الحياة أسمى من أن يكون من أجل شهوات الدنيا والتنافس على حطامها والتناحر على منافعها، بينما الذين يكذبون بالغيب لا يعرفون هدفا في الحياة إلا إرضاء العواطف المضطربة، وإشباع الغرائز المنهومة، ومن هنا يختلف سلوك الطائفتين، وتختلف موازين الأمور بينهما، فالمؤمنون بالغيب يلمحون في كل شيء المبدأ والمصير، فيحرصون على أن تكون أعمالهم كلها خالصة لمبدئهم تعالى، ومنطبقة على المقاييس التي أنزلها، ومؤمنة لمصيرهم في الدار الآخرة.
ومن ثم كان الإيمان بالغيب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها العمل الاسلامي وينطلق منها المسلم في اتجاهه إلى ربه في جميع مجالات الحياة.
فالأنظمة كلها في الإسلام يجب أن يكون بناؤها على هذه القاعدة، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية. كما أن جميع التصورات والأفكار الإسلامية لا تنشأ إلا عنها، ولا ترتكز إلا عليها، وبهذا تعلمون سبب تصدير صفات المتقين في هذه الآية بالإيمان بالغيب، ولا ينبغي أن يفوتنا الحديث عن وضع كل من كلمتي الإيمان والغيب:
أما الإيمان؛ فقد ذكرت لكم في أول هذا الحديث أنه مأخوذ من معناه اللغوي وهو التصديق، ولوحظ هذا المعنى في الحقيقة الشرعية لهذه الكلمة، غير أن الشرع قد يطلقها على العقيدة وحدها، كما يستفاد من حديث جبريل - عليه السلام - في أركان الإيمان، وهو:
" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله "
، وعلى هذا المعنى يحمل الإيمان عندما يعطف عليه العمل الصالح، وقد يطلقها عليها وعلى ما تستلزمه من صالح العمل، وتدل على ذلك صفات المؤمنين المبينة في القرآن كقوله تعالى في فاتحة سورتهم:
قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون
[المؤمنون: 1 - 11].
وقوله في سورة الأنفال:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم
[الأنفال: 2 - 4].
وقوله في سورة الحجرات:
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون
[الحجرات: 15]. إلى غيرها من الآيات الواصفة للمؤمنين الكاشفة لخصال الإيمان، وهي تدل على أن الإيمان الصحيح هو ما اقترن به العمل الصالح، واجتناب المحرمات، ويؤكد هذا إطلاق إسم الإيمان على بعض الأعمال كما في قوله تعالى:
وما كان الله ليضيع إيمانكم
[البقرة: 143] أي صلاتكم.
وروى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ".
ومن أمعن في أصول الإيمان وأركانه التي أتى بها حديث جبريل، يجدها تقتضي الاستقامة في الدين باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه والاقتصار على ما أباحه ومراقبة النفس مع ذلك مراقبة دقيقة لئلا تزل عن هذا المنهج السوي، ذلك لأن الإيمان بالله وبصفاته وبأفعاله يستلزم حبه على ما أنعم، ورجاء بره وفضله، وخشية عقوبته ومكره، وهي كلها حوافز إلى طاعته، واجتناب معصيته، والإيمان بملائكته يقتضي استشعار أعمالهم ووظائفهم، ومنها مراقبة الإنسان وتسجيل أعماله وأقواله،
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
[ق: 18]،
وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون
[الانفطار: 10 - 12].
ومن شأن ذلك التيقظ والمراقبة الدقيقة للنفس حذرا من تورطها، وتسجيل السيئات عليها، وحرصا على الأعمال الصالحة التي ينقلب بها الملائكة الى ربهم وهم يشهدون بها.
والإيمان بالكتب يفضي إلى اتباع هداها، والانتفاع بمراشدها. والإيمان بالرسل يؤدي إلى حسن الاقتداء، وجميل التأسي بهم. والإيمان باليوم الآخر أكبر داع إلى توطين النفس على الخير لتزوده لذلك اليوم؛ الذي يكون فيه كل أحد رهين عمله. والإيمان بقضاء الله وقدره من مقتضياته تعلق النفس بالله وحده، وتوطنها على ما يصيبها من مكاره الدنيا.
من ذلك تجد الجم الغفير من علماء السلف يقولون إن الايمان ليس محصورا في الاعتقاد وإنما يصدق عليه مع ما يقتضيه من صادق القول وصالح العمل.
وهذا القول هو الذي درج عليه أصحابنا ونقله عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، ونقله أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم، وروي بإسناد صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل. وذكر ابن كثير في تفسيره أن الشافعي وأحمد بن حنبل وأبا عبيدة وغير واحد حكوا الإجماع عليه وهذا هو الإيمان المطلوب شرعا، وهو الذي يترتب عليه الفوز بنعيم الآخرة والنجاة من عقابها. وذلك معنى الفلاح في قوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون } ، ولا ينافي ما ذكرنا أنه يقصد بالإيمان تارة الاعتقاد وحده، فإن الاعتقاد هو منشأ العمل كما ذكرت، ومن هنا كان الاقتران بينهما في كثير من الآيات وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية في الدلالة على حقيقة الإيمان الشرعي المطلوب، من ذلك ما أخرجه الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
، فإن في هذا الحديث ما لا يخفى من كون الانصاف من النفس للغير من جوهر الإيمان، وهو يقتضي استقامة التعايش الاجتماعي بين المؤمنين.
وفي حديث أنس أيضا عند الشيخين:
" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار "
، وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا:
" والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده "
، ورواه عن أنس - رضي الله عنه - في الصحيح مرفوعا بلفظ:
" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "
، ومن البدهي أن المحبة تستلزم متابعة المحبوب في أمره ونهيه، فمحبة الله ومحبة رسول صلى الله عليه وسلم لا تتحققان إلا بامتثال أمرهما والانتهاء عن نهيهما، وإذا كانت ثم أقوال لأصحاب الفرق في جوهر الإيمان تخالف ما ذكرته، فإن المعول في فهم معناه وتجلية حقيقته على نصوص الكتاب والسنة، ثم على أقوال أسلاف الأمة الذين كانوا أغزر علما وأعمق فهما، وأقرب عهدا بزمن الرسالة. وفيما ذكرته من ذلك غني عن الاطالة.
وبناء على ما سلف من أن الايمان الشرعي يطلق على الاعتقاد الصحيح، ويطلق عليه مع اقترانه بصادق القول وصالح العمل، اختلف المفسرون في المراد بالإيمان هنا، فعن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بيؤمنون؛ يصدقون.
أخرجه ابن جرير عنهما. وروي عن الربيع بن أنس أن المراد به يخشون. وعن الزهري أن المراد به العمل. وأتبع ذلك ابن جرير قوله: " الإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل. وإذا كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القول أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب قولا واعتقادا وعملا ".
وحكى ابن كثير عن بعض المفسرين أن المراد بإيمانهم بالغيب تساوي غيبهم وشهادتهم في الإيمان بخلاف المنافقين الذين أخبر الله عنهم بقوله:
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
[البقرة: 14]، وقوله:
إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
[المنافقون: 1].
وعليه فقوله بالغيب حال من الضمير في يؤمنون، وهو يتفق مع تفسير الايمان بالخشية أو العمل وتفسيره بالخشية مستوحى من قوله تعالى:
إن الذين يخشون ربهم بالغيب
[الملك: 12]، وقوله:
من خشي الرحمن بالغيب وجآء بقلب منيب
[ق: 33].
مفهوم الغيب وأثره:
وأما الغيب فما غاب عن علمك، واختلف المفسرون في كونه هنا صفة للمؤمن أو المؤمن به. وعلى الأول فقوله بالغيب حال من الضمير في يؤمنون - كما سبق - أي يؤمنون غائبين ومتعلق الإيمان غير مذكور لعلمه من سائر الأدلة، واستدل له الزمخشري في كشافه بما أخرجه سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم وصححه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه.. إلى قوله.. المفلحون } ، ومن هذا الباب قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:
ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب
[يوسف: 52].
وعلى الثاني فالغيب هو متعلق الإيمان، واختلف فيه، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه ما جاء منه - أي من الله جل ثناؤه -. أخرجه عنه ابن جرير وأخرج عنه وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن الغيب ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم، وهذا مبني على أن هذا الوصف خاص بمؤمني العرب كما سيأتي.
وأخرج ابن جرير أيضا عن زر بن حبيش قال: الغيب؛ القرآن، والظاهر أنه يعني بذلك ما حواه القرآن من أمور غيبية. وعن قتادة أن المراد به الجنة والنار والبعث بعد الموت ويوم القيامة.
وعن الربيع بن أنس أنه قال: الذين يؤمنون بالغيب آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه وآمنوا بالحياة بعد الموت. وقيل: الغيب؛ القضاء والقدر. وقيل: كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. وقيل: هو الله سبحانه، وضعفه ابن العربي.
وأنت تدري أن مفهوم الغيب يصدق على كل ما غاب عن الحواس، سواء اهتدى إليه الإنسان بعقله أو دله عليه دليل الوحي، فيدخل في ذلك كل ما ذكره المفسرون، كما يدخل فيه كل ما دل عليه القرآن أو تواترت به السنة من أخبار الأمم البائدة، وأحوال الأحداث المستقبلة، فإن الإيمان به إيمان بغير محسوس، بل يدخل فيه التصديق بالعبادات المشروعة المعلومة من طرق الأخبار الثابتة والعمل بها، بدليل ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن تويلة بنت أسلم قالت:
" صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيليا فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أولئك قوم آمنوا بالغيب " ".
وما أخرجه البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب، قال:
" كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا، فقالوا: يا رسول الله؛ الملائكة، قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها، قالوا: يا رسول الله؛ الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوة. قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها. قالوا: يا رسول الله؛ الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء. قال: هم كذلك، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة. قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا " ".
وبما أن الإيمان بالغيب المطلوب هو الإيمان العميق الأثر، القوي التأثير، الذي يقود صاحبه إلى مناهج الخير والصلاح، ويبعد به عن مسالك الشر والفساد، وليس الايمان التقليدي الذي لا أثر له في سلوك صاحبه، ولا تأثير له على وجدانه ومشاعره، وصف الله سبحانه هؤلاء المؤمنين بصفات تدل على التزامهم موجب الإيمان، وتكييف حياتهم بمقتضاه، وذلك بتصديق الإيمان بالعمل.
إقام الصلاة أول صفات المؤمن:
وأول ما وصفوا به من الأعمال التي يلتزمونها تصديقا لايمانهم: إقام الصلاة، لأن الصلاة هي عمود الدين وإمام الواجبات العملية، والمحافظة عليها ركن من أركان الاسلام، ولأجل ذلك تتابع التأكيد عليها في القرآن حتى في أوائل السور نزولا، واقترنت بالترغيب والترهيب.
ففي سورة العلق - وهي أول ما أنزل - يقول تعالى:
أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى
[العلق: 9 - 10]، وأمر بها سبحانه في سورة المزمل التي كان نزولها في أوائل العهد المكي، وذلك في قوله:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا
[المزمل: 20]. وبين أن المهتدين بالكتاب أول صفاتهم العملية وأبرزها إقام الصلاة كما في هذه السورة، وفي سورة النمل في قوله:
هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
[النمل: 2 - 3]، ومثل ذلك في سورة لقمان في قوله:
هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
[لقمان: 3 - 4].
وبين تعالى صفات نصرة الله من العبد التي تؤدي إلى نصرة الله للعبد، وصدرها بإقام الصلاة في قوله:
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
[الحج: 41] (الآية). وذكر إسماعيل - عليه السلام - فوصفه بقوله:
وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة
[مريم: 55]. وذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال:
وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة
[الأنبياء: 73]. وعندما وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض في قوله:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض..
[النور: 55] (الآية)، أتبع ذلك قوله:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون
[النور: 56]، تنبيها على أن أول أسباب النصر على الأعداء والاستخلاف في الأرض؛ إقام الصلاة، وفي سورة " المؤمنون " صدرت صفاتهم بالخشوع في الصلاة، واختتمت بالمحافظة عليها، في قوله تعالى:
قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون
[المؤمنون: 1 - 2] - إلى قوله -
والذين هم على صلواتهم يحافظون
[المؤمنون: 9].
وذكر تعالى المؤمنين أيضا في سورة الأنفال، فكان أول ما ذكر من صفاتهم العملية إقام الصلاة، وذلك في قوله:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
[الأنفال: 2 - 3].
وشرط في تحقق الأخوة الدينية إقام الصلاة، حيث قال:
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين
[التوبة: 11].
وفيه أيضا دليل على أن توبة الكافر مشروطة بإقام الصلاة، لأن الاسلام يتحقق بها، وكذلك مسالمة المؤمنين، كما يدل على ذلك قوله سبحانه:
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم
[التوبة: 5]، وعلى ذلك نص حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ".
وإذا كانت صفات المؤمنين تبدأ غالبا بإقام الصلاة فإن صفات المشركين والمنافقين تصدر بتضييعها، كما في قوله تعالى:
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا
[مريم: 59]. وقوله في ذكر ما يكون من تساؤل بين أهل الجنة وأهل النار:
في جنات يتسآءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخآئضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين
[المدثر: 40 - 47]، فانظر كيف ذكروا أول ما ذكروا من أعمالهم التي سلكتهم في سقر، تركهم الصلاة، وقدموا ذلك على تكذيبهم بالدين، ففي هذا ما يكفي لأن يكون رادعا عن التهاون بالصلاة وباعثا على المحافظة عليها، وبجانب هذه الآيات المبينة لشأن الصلاة وقدرها في الاسلام وأثرها في النفس والمجتمع، وما تضمنته من وعد على إقامتها ووعيد على التفريط فيها، تضافرت كذلك روايات جمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعلق بالصلاة وأدائها، منها حديث ابن عمر الذي مر آنفا، وحديث في أركان الاسلام عند أحمد والشيخين، وحديث عائشة - رضي الله عنها - عند الربيع - رحمه الله - مرفوعا:
" لكل شيء عمود وعمود الدين الصلاة وعمود الصلاة الخشوع ".
وأخرج الربيع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا إيمان لمن لا صلاة له.. "
، وروى الربيع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة "
، ورواه الجماعة إلا البخاري والنسائي عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعا بلفظ:
" بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة "
، وروى أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم وصححه النسائي والعراقي عن بريدة قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر " "
، وروى أحمد بإسناد رجاله ثقات، والطبراني في الكبير والأوسط عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوما فقال:
" من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف "
وذكر بعض العلماء مناسبة لذكر هؤلاء الأربعة دون غيرهم من الكفار، وهي أن مضيع الصلاة إما أن يكون ملكا فيشغله عنها ملكه، أو غنيا فيشغله عنها ماله، أو وزيرا فتشغله عنها وزارته، أو تاجرا فتشغله عنها تجارته، فإن كان ملكا حشر مع فرعون، وإن كان غنيا حشر مع قارون، وإن كان وزيرا حشر مع هامان، وإن كان تاجرا حشر مع أبي بن خلف - وهو أحد تجار مكة الذين حاربوا الله ورسوله وقاوموا دينه وصدوا عن سبيله -.
وروى الربيع بن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخير الصلاة فقال:
" تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم يتحدث حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان ثم يقوم فينقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا "
، وأخرج الجماعة إلا البخاري وابن ماجة معناه عن أنس أيضا، وفي حديث أنس كذلك عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؛ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط "
قالها ثلاثا.
أثر الصلاة في تهذيب النفوس:
وإذا كانت العبادات المتنوعة التي شرعت في الإسلام ذات أثر عميق في الإصلاح النفسي والاجتماعي، وتنوير الفكر، وتهذيب الأخلاق، وإمداد العقيدة بالطاقات التي تمكنها من الهيمنة على العقل والقلب والروح والجسم والعواطف والغرائز، فإن الصلاة أعمق أثرا وأغزر عطاء، ولذلك شرعت متكررة في كل يوم دون غيرها، وهي بهذا التكرار تسد جانبا مهما من الفراغ الروحي، ذلك لأن للروح مطالب كمطالب الجسم، وقد هيأ الله سبحانه لكل منهما مطالبه بحسب مقتضى ضرورته إليها، فالجسم الحي أحوج ما يكون إلى الهواء فالماء فالطعام فالدواء، وكل ما كانت الحاجة إليه أدعى كان أيسر من غيره، فالهواء أيسر من الماء، والماء أيسر من الطعام، والطعام أيسر من الدواء، وذلك مثل مطالب الروح، وهي العبادات المشروعة، فما كانت الضرورة إليه أبلغ كانت ممارسته أيسر، ومن هنا كرر وجوب الصلاة في اليوم، وجعلت أيسر من سائر العبادات كالصيام والزكاة والحج.
حكمة مشروعية الصلاة:
ومعرفة حكمة مشروعية الصلاة موقوفة على إخبار الشارع الحكيم تعالى عنها، وفي كتاب الله المبين وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يغنينا عن التخمين في ذلك، فإذا تأملنا آي الذكر الحكيم وطالعنا مدونات السنة النبوية خرجنا بدليل قاطع على أن الصلاة إنما شرعت لذكر الله تعالى الذي يترتب عليه محق السيئات وتثبيط العزائم عنها، وتقوية عزائم الخير، وتواصل قلوب المؤمنين برباط الايمان، وذلك فيما إذا حافظ عليها العبد وأداها على النهج المشروع، ومن الآيات الواضحة في ذلك قوله تعالى:
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت: 45]، وقوله:
وأقم الصلاة لذكري
[طه: 14]، وقوله:
إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج: 19 - 23]، وفي هذه الآيات الأخيرة بيان أن الصلاة بما لها من سلطان روحي وأثر نفسي تأتي على خصال جبلية مذمومة فتجتثها من نفس من داوم عليها، وهي وإن كانت مشتركة مع سائر أعمال البر في ذلك، كما يشهد به عطف هذه الأعمال عليها فهي أبعد أثرا منها، بدليل تقديمها عليها والتنويه بها مرة أخرى في نهاية سردها في قوله عز وجل:
والذين هم على صلواتهم يحافظون
[المؤمنون: 9]، بل يشير ذلك إلى أنها سور للأعمال الصالحة جميعا. وفي سورة الماعون شاهد على أن التهاون بالصلاة منشأ لأعمال الشر، ذلك أن الله عز وجل ذكر فيها التكذيب بالدين ودع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين، ثم أتبع ذلك قوله:
فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون
[الماعون: 4 - 5]، والسياق يقتضي أن يقول فويل لهم ولكن عدل عن ذلك فأتى بالاسم الظاهر مكان الضمير، وكان هذا المظهر المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، للدلالة على أن السهو عن الصلاة هو باب هذه الموبقات كلها، ويشهد لذلك العطف بالفاء التي تقتضي ربط ما بعدها بما قبلها، ورب قائل يقول: إذا كانت الصلاة مشروعة لتزكية النفس - حسب ما قلت - فما بال كثير من الناس يحافظون عليها في مواقيتها ويؤدونها مع الجماعات كما أمر بها، ومع ذلك ليس لها أي أثر نفسي عليهم فلا تردعهم عن المنكرات، ولا تمنعهم من الدنايا، ولا تبعثهم إلى الصالحات؟ والجواب عن هذا التساؤل أن الصلاة المؤثرة هي الصلاة المؤداة بحسب ما شرعت روحا وشكلا بحيث تشعر القلب عظمة الخالق المعبود وعظم منته وإحاطة علمه وقدرته، وشدة بطشه ونقمته، وسعة ثوابه ورحمته، فيستشعر بها المصلي افتقاره إلى المعبود، واستغناء المعبود عنه، وذلك داع إلى تحري مرضاته فيما يصدر عنه فعلا وتركا، أما الصلاة الخالية من هذه الروح فهي صلاة ميتة بعيدة عن هذه المزايا، لا يحصل منها أي أثر نفسي أو اجتماعي. وقد أجاد الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده إذ قسم الصلاة إلى عادة وعبادة، فالعادة هي صلاة أكثر العوام، فإن أحدهم وهو في طور الرشد والعقل إذا قام يصلي لم تختلف صلاته عنها في طور طفولته عندما كان يحاكي أباه فيها، والعبادة هي هيكل وروح، فالهيكل ما شرع من الأقوال والأفعال الظاهرة فيها المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، فهي لا تعدو أن تكون بمثابة الجسم الميت الذي لا حراك له ولا جدوى منه ما لم تقترن بروحها، وروحها الخشوع الذي يوصل القلب والعقل بالله عز وجل.
الخشوع روح الصلاة:
ومن ثم كان الفلاح منوطا بالخشوع كما في قوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } ، وقد نص حديث عائشة - رضي الله عنها - السالف الذكر على أن الخشوع هو عمودها.
ولكون المحافظة على الصلاة الشرعية المستكملة لأركانها الظاهرة والباطنة هو من أعظم الواجبات الدينية، تضافرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتشنيع والوعيد على من يفرط في أي شيء من واجبات الصلاة، كأولئك الذين يحولون أبصارهم فيها تارة إلى الميمنة وأخرى إلى الميسرة، ويرفعون رؤوسهم إلى الأعلى مرة ويطأطئونها أخرى غير مبالين بآداب المناجاة التي يقتضيها المقام واستغناء المناجى وافتقار المناجي، وأولئك الذي يختلسون منها الركوع والسجود والطمأنينة، ويبدلون هيآتها، ومما ورد في ذلك حديث أبي هريرة، قال:
" نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث؛ عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب "
وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، وكان إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه وكان بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما، وإذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقب الشيطان، وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختتم الصلاة بالتسليم.
وروى الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه نهى المصلي أن يقعي في صلاته إقعاء الكلب، وأن ينقر فيها نقر الديك أو يلتفت فيها التفات الثعلب أو يقعد فيها قعود القرد. قال الربيع: إقعاء الكلب أن يفرش ذراعيه ولا ينصبهما، وقعود القرد أن يقعد على عقبيه وينصب قدميه، قال: ومن فعل شيئا من هذه الوجوه الأربعة فعليه إعادة الصلاة. وروى أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود
" عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفت في الصلاة، قال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد "
وروى الترمذي وصححه عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة.. "
(الحديث). وروى أحمد والنسائي وأبو داود عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه ".
وروى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لينتهين أقوام عن رفع رؤوسهم في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم "
، وروى من طريقه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة - واشتد ذلك عليه حتى قال - لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم "
،
" وروى أحمد والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " ، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " ، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " "
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده "
، وروى أحمد وابن ماجة عن علي بن شيبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود "
، وروى أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تجزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود "
، وروى أحمد والبخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم.
صفة الصلاة الصحيحة:
وبالجملة فإن الأدلة متضافرة على أن الصلاة الصحيحة المقبولة عند الله هي الصلاة المصحوبة بالطمأنينة والسكينة، المقترنة بروحها ومصدر سلطانها - وهو الخشوع - وبدون ذلك لا يكون لها على النفس سلطان ولا في الحياة أثر، فإنها تعد ميتة لا تغني شيئا ولا تحيي قلبا، وأذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فأمعن فكرك فيما تقوله في صلاتك مستحضرا معانيه، مستشعرا عظمة الله المعبود الذي أنت واقف بين يديه، تجد كل كلمة تلفظ بها دافقة بمعنى حيوي يسري في نفسك كما تسري الروح في جسمك، وأول ما تنطق به التكبير، وبه تدخل في صلاتك، وهو يسكب في نفسك شعورا بأن كل ما في الوجود - وإن عظم شأنه وعلا قدره عند الخلق - هو صغير حقير بجانب كبرياء الله تعالى وعظمته، إذ ليس من المعقول أن يقارن بين الخالق والمخلوق، وبين القديم والحادث، وبين الباقي والفاني، فالمخلوق مهما أوتي من قوة أو سلطان فهو نسبي في حدوده لا يوازي شيئا بجانب قوة الله المطلقة، وسلطانه المهيمن على الوجود، وإذا استشعرت هذه الحقيقة كان لها أثر نفسي عليك؛ لأنك إما أن تكون من ذوي القدر والمكانة عند الناس بمنصبك، أو مالك، أو جاهك ووجاهتك، وإما أن تكون من الذين تتجاوزهم الأنظار ولا زنة لك عند الناس لضعفك المادي، ولضعة قدرك بينهم، فإن كنت من الصنف الأول، كان نطقك بتكبير الله عز وجل كافيا في تنبيه قلبك الغافل، وإيقاظ بصيرتك النائمة بأنك لا مزية لك على غيرك من الناس، فأنتم جميعا متساوون في الضعف، والفقر، والذلة والمسكنة أمام الله، وليس ما أوتيته - مما تظنه أو يظنه غيرك مزية وعلوا لقدرك - إلا ابتلاء من الله تعالى مالك الملك ذي الطول والحول الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويهب النعمة من يشاء، ويسلبها ممن يشاء، وله ما آتى وما نزع، وبيده ما وهب وما سلب، فيكون لك من ذلك دواء لغرورك، وكبح لشرورك، لأنك تستشف بهذا الشعور عيوبك المتنوعة، سواء ما كان خاصا بك أو كان مشتركا بينك وبين الناس، وتدرك أنك واحد من العباد المفتقرين إلى الله لا مزية لك بينهم، ولا فضل لك عليهم إلا بقدر ما تتقي ربك، وتتقرب إليه بالتذلل والخضوع والخشية والخشوع، وذلك ينافي ما أنت فيه من الغرور والاستكبار والتطاول على الناس بما ابتلاك الله به.
وإن كنت من الصنف الثاني كان شعورك بما يوحيه التكبير كافيا لأن يرفع من قدرك، فلا ترضى أن تنزل منزلة المهانة والذلة بين الناس بسبب فقرك أو ضعفك، فإنهم مثلك، وكلكم في الضعف سواء، ولئن كان بعضهم أوتي ما لم تؤته من أسباب القوة ووسائل النعيم في الحياة الدنيا؛ فإن ذلك لا يعدو أن يكون ظلا زائلا، وخيالا عابرا، وإذا أنت تقربت إلى الله بصالح الأعمال، واستمسكت بعروة التقوى كنت أجدر منهم بالعزة، وأولى منهم بالكرامة، وهذا الشعور نفسه كفيل بتحرير نفسك من الذل لغير الله وجعلك تقصر خضوعك على مقام الربوبية، فما أعظم هذه التربية النفسية للمصلين، سواء كانوا من الفريق الأول أو الثاني.
وإذا شرعت في التلاوة وافتتحتها بالاستعاذة عملا بقول الله تعالى:
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم
[النحل: 98]، شعرت أنك تلجأ إلى حمى الله المنيع هروبا من الشيطان ووساوسه ومكائده، وفي ذلك ما يوقظ نفسك لما يريد بك الشيطان من سوء، وما يقصدك به من إضلال، فهو عدوك الذي لا ينفك عن الكيد لك؛ حتى يرديك في الجحيم إن لم يتداركك الله بلطفه، ويعصمك منه بحوله، وهذا يقتضي أن لا يكون لجوؤك إلى الله لجوءا قوليا فحسب، بل لجوءا قلبيا وعمليا بحيث تستنفد طاقتك في مقاومة مكائد إبليس بالطاعات التي تؤهلك للدخول في حمى الله، أما إذا قلت ذلك بلسانك فحسب، وكان قلبك وجوارحك في قبضة الشيطان، لم يغنك هذا القول شيئا، وإنما يكون مثلك مثل الأسير في قبضة عدوه لا يستطيع الانفلات منه، وهو مع ذلك يدعي بلسانه أنه هارب من ذلك الأسر، ولاجىء إلى حمى أحد الملوك، وكيف يكون لمثله اللجوء وقد أحاطت به حبال الأسر، ومنعته من قصده قيود القهر.
فإذا نطقت بالبسملة استشعرت عظمة الموقف الذي أنت واقفه، وقدر العمل الذي أنت عامله، فإنك واقف بين يدي الله، وعامل باسمه، ومن شأن ذلك أن يوحي إليك أنه لا اعتداد بشيء ما لم يكن لله تعالى خالصا، فإذا قلت { الحمد لله رب العالمين } شعرت بفيض من نعم الله تعالى يغمر جوانبك ويملأ وجودك ووجود كل شيء، فإن كون الحمد محصورا في الله سبحانه دليل على أنه مصدر كل نعمة، وهذا داع إلى قطع حبال التعلق بغيره تعالى؛ لأجل تحقيق منفعة أو دفع مضرة، ويؤكد ذلك وصفه بأنه رب العالمين، فهو مشعر بخضوع كل ما في الوجود لعزه وسلطانه، وافتقار كل كائن إلى فضله وإحسانه، فما من ذرة في الكون إلا وهي واقعة تحت حيطة قدرته، معلنة بلسان حالها افتقارها إلى فضله ومنته، وشعورك بذلك يقوي صلتك به تعالى بحيث لا ترى غيره أهلا لأن يرجى أو يتقى، كما يستدعي أن تكون في أحوالك المتقلبة، وتصرفاتك المتنوعة تتحرى مرضاته، وتجانب سخطه، ولا ريب أن قلبك - في مثل هذا الموقف الذي تتجلى فيه آيات توحيده تعالى، وتشاهد شواهد عظمته وجلاله - تغمره الدهشة وتمتلكه الهيبة، غير أنك إذا قلت { الرحمن الرحيم } أحسست بالسكينة تسري في نفسك، وتمتزج بدهشتك، وبالطمأنينة تزاحم الهيبة في قلبك، فتتعادل فيه كفتا الخوف والرجاء، لأنك تستشعر أن ربوبيته تعالى - مع جلاله الباهر وسلطانه القاهر - هي ربوبية رحمة وإنعام وفضل وإحسان، ويقوي هذا التعادل إذا ما قلت: { ملك يوم الدين } واستشعرت خطورة ذلك الموقف الذي تمثل فيه بين يدي رب العالمين، وقد تجردت من كل ما خولته في الدنيا، وقطعت جميع علائقك بأحبابك ونصرائك فيها، لتعرض عليك أعمالك السيئة والحسنة فلا يخفى منها خافية، وأنت بين الجنة والنار، أولاهما عن يمينك والثانية عن شمالك، لا تدري إلى إيهما منقلبك والله بك محيط لا مهرب لك عنه، ولا نصير لك دونه، وفي شعورك بهذا تقوية لعزائم الخير في نفسك، وكبح لعزائم الشر التي يمليها عليك هواك. فإذا قلت { إياك نعبد وإياك نستعين } ، أحسست بتضاعف الهيبة، لأنك انتقلت إلى خطاب الله تعالى خطاب الحاضر، ومضمون الخطاب نفسه يستلزم منتهى الخضوع والوصول إلى أقصى حد في التواضع، لأن معنى خطابك تقديم عبادتك إليه تعالى وهو غني عنك وعنها، وإنما هي وظيفتك التي لأجلها خلقك، ورفع قدرك بما بسط لك من نعمه وسخر لك من خلقه، فقيامك بها إنما هو شرف لنفسك ومنفعته عائدة إليك.
وهذا الخطاب منك يقتضي عدة أمور، منها: صدق المقال، وإخلاص السريرة، وتعظيم المقام، والاستمرار على الخضوع المطلق للمعبود، وطاعته الدائبة، والعطف والرحمة بعباده. فإن الله علمك في هذا الخطاب أن تشرك نفسك مع غيرك من عباده العابدين، ولم يعلمك أن تخاطبه بصيغة فردية، التي تقتضي استقلالك عنهم، وفي هذا ما يقتضي وحدة الأمة المؤمنة القائمة بعبادة ربها، وحدة عامة في الشعور والإحساس، وفي القول والعمل، وفي المبادىء والأهداف، وفي الآلام والآمال. فإذا قلت: { وإياك نستعين } شعرت بقيمتك عند خالقك، إذ لم يجعل بينك وبينه وسائط تستعين بها في طلب محبوب أو اتقاء مخوف، كما أنه لم يجعل بينك وبينه وسائط تعبدها دونه، فالعبادة والاستعانة خاصتان به تعالى وذلك فيما لم يجعل الله التعاون فيه بين الناس من سنن كونهم ونواميس حياتهم - كما تقدم تفصيله في تفسير الفاتحة الشريفة - وفي شعورك بهذا تخليص لك من التشبث بالأوهام، كالضراعة إلى الموتى في القبور، أو الى الأشجار والأحجار، أو العيون والأنهار، أو الجن والشياطين، في طلب فكاك من معضلة أو وصول إلى هدف. فإذا قلت: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } ، شعرت أنك أمام طريقين:
طريق الهداية والاستقامة المؤدي إلى نعمة الله تعالى بالتوفيق والفوز بالرضوان، وهو الذي وفق الله لسلوكه عباده الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وطريق الضلال والانحراف المؤدي إلى غضب الله وعقوبته، وتتشعب منه مسالك لا تحصى كلها ملتوية مطموسة المعالم، وهو طريق الفريق الآخر الذي نكب عن صراط الحق، وتعرض لغضب الخالق سبحانه.
وفي هذا الشعور ما يدعو إلى التبصر في مسالك الحياة والدؤوب على اتباع الحق، واجتناب الباطل، ويدعو إلى الترابط المديد بين أهل الحق، أسلافهم وأخلافهم، فلا تخرج أجيالهم عن كونها حلقات متواصلة في سلسلة واحدة.
وهكذا شأن الخاشع في صلاته في كل ما يتلوه من القرآن وما يكرره من تكبير وتسبيح وتعظيم، وجميع حركاته من قيام وقعود وركوع وسجود.
فإذا أدى صلاته على هذا النحو خرج منها طاهر الروح، زكي النفس، نقي الوجدان، مرهف الحس، مهذب الأخلاق.
فإذا خاض من بعد غمار الحياة وكاد يتلوث من جديد بدخانها وغبارها، عاد إلى هذا المعين الفياض فارتمى فيه وتطهر من أوضاره وتخلص من أكداره، وهكذا تتكرر العملية في اليوم والليلة خمس مرات، فضلا عن الرواتب والنوافل.
وقد صور رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأثر النفسي للصلاة وتطهيرها باطن الانسان من الأرجاس المعنوية في صورة المحسوس المألوف - وهو الطهارة الحسية - حيث قال صلى الله عليه وسلم:
" أرأيتم لو أن على باب أحدكم نهرا جاريا غمرا ينغمس فيه كل يوم وليلة خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس "
، وهو مثل أراد به صلى الله عليه وسلم إفهام العقول وتقريب المعاني، فإن النفس آلف للمحسوس وأدرك لحقيقته، وإلا فشتان بين نقاء الظاهر ونقاء الباطن، وطهارة الجسم وطهارة الروح.
معنى الإقامة ومغزاه:
والذي يلاحظ أن الأمر بالصلاة في القرآن لم يأت بلفظ صلوا، وكذلك الثناء لم يكن للمصلين من غير اقتران بذكر إقامة الصلاة، أو المحافظة والمداومة عليها، بل نجد أن الأمر أكثر ما يكون بإقامة الصلاة، وقد يأتي بلفظ المحافظة عليها كما في قوله عز من قائل:
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى..
[البقرة: 238]، وكذلك الثناء يختص بالمقيمي الصلاة والمحافظين عليها، والمراد بكل من إقامة الصلاة والمحافظة عليها؛ الإتيان بها مستكملة جميع أركانها وهيئاتها وآدابها الظاهرة والباطنة، بل مدلولهما الحقيقي توفية الصلاة حقها والقيام بكل لوازمها. والدليل على أن ذلك هو المراد بالإقامة قوله تعالى:
يأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل
[المائدة: 68] أي حتى توفوهما حقهما من العلم والعمل، وقوله تعالى:
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة: 66]، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن الصلاة التي أمر بها الناس، والتي أثنى الله بها على عباده المؤمنين؛ هي الصلاة التامة الأركان، المستوفية الشروط، المعتدلة الهيئات، الممتزجة بروحها وهي الخشوع.
وذكر أئمة التفسير وجوها في معنى الإقامة غايتها واحدة، وإن اختلفت ألفاظها باختلاف أنظار قائليها.
أحدها: أن المراد بها الإتيان بها مستوية، كالجسم القائم الذي لا انحناء فيه.
ثانيها: أنها بمعنى المداومة عليها؛ من قولهم قام على الشيء إذا داوم عليه، واستدل له بقوله تعالى:
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج: 23]، وقوله:
والذين هم على صلواتهم يحافظون
[المؤمنون: 9].
ثالثها: أنها مأخوذة من إقامة السوق؛ إذا أعد لها الإعداد التام، حتى تصير رائجة الزبائن؛ لأنها بالمحافظة التامة عليها تكون كالبضاعة النافقة التي تتجه إليها الأنظار ويتنافس فيها التجار، بخلاف ما إذا أهملت، ومنه قول الشاعر:
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا
حتى تقيم الخيل سوق طعان
وقول آخر:
أقامت غزالة سوق الطعان
لأهل العراقين حولا قميطا
وقول غيره:
أقمنا لأهل العراقين سوق الض
راب فخاسوا وولوا جميعا
رابعها: أن إقامتها عبارة عن استجماع الهمة وتحريك العزيمة لأدائها؛ من قولهم قام بالشيء إذا اشتدت به همته، وبالغ بالعناية بإتمامه، ويقال في الضد: قعد عن الشيء أو نام عنه، إذا استخف به، ولم يتمم لوازمه، ومن المعلوم أن القيام في العمل لا يكون إلا لداعي الاهتمام به، كقيام الخطيب في خطبته فإنه دليل على اهتمامه بما يتحدث به وحرصه على وصوله إلى مسامع الحاضرين، وولوجه إلى أذهانهم، وامتزاجه بأفهامهم، وكذلك قيام الصانع في صنعته، وهكذا، ويدل كذلك على صعوبة ما يمارسه القائم من القول أو العمل.
وثم وجه آخر؛ وهو أن ذكر الإقامة جاء تنويها بالقيام في الصلاة، لأنه ركن من أركانها، وجزء مهم من أعمالها، ولاحظ عليه قطب الأئمة - رحمه الله - في الهيميان بأن الجزء الذي يذكر عن الكل يلزم أن يكون جزءا مهما، وكل من الركوع والسجود أدل على الخضوع وأقرب إلى الخشوع من القيام، فكيف يذكر دونهما مع قصد الصلاة نفسها، وأجاب عن هذه الملاحظة بأن للقيام في الصلاة أهمية لا تقل عن أهمية الركوع والسجود، لأنه يدل على غاية الامتثال ومنتهى التذلل. ومثله فيها مثل ما يكون من المحكومين أمام الحاكمين، والمرؤوسين أمام الرؤساء، ومن هنا أمر الله تعالى بالقيام بين يديه في قوله:
قوموا لله قانتين
[البقرة: 238] وذلك في الصلاة قطعا.
وما ذكرته أولا من تفسير إقام الصلاة معناه محكي عن بعض السلف، فقد أخرج ابن جرير عن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: المراد " بيقيمون الصلاة " أنهم يقيمونها بفروضها، وروي عنه من طريق الضحاك أنه قال: إقام الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة: أن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، ولا يعد هذا اختلافا بينهم لأنه ناشىء عن اختلاف مقامات السؤال بحسب أنظار المجيبين إلى أحوال السائلين، أو إلى الظروف الملابسة لسؤالهم، وقد تقدم أن مثل هذا لا يعد خلافا.
وأكثر المفسرين على أن المراد بالصلاة هنا الصلوات المفروضة لأنها هي التي يتوقف عليها الفلاح، كما في حديث الأعرابي:
" أفلح إن صدق "
، ونسب ذلك ابن جرير إلى الضحاك، ونسب أيضا إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا مانع من دخول صلاة النفل فيها تبعا، نظرا إلى أن من صفات المتقين المسابقة إلى كل ما يقربهم إلى الله كما شأنهم، وكما يدل عليه وصفهم في القرآن.
معنى الصلاة لغة واصطلاحا:
وأصل الصلاة عند العرب الدعاء، ومنه قول الشاعر:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا
يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وقول غيره:
وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم
وقول الأعشى:
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها
وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
ويرى ابن جرير أن الصلاة نقلت من هذا المعنى اللغوي إلى معناها الشرعي - وهو العبادة المخصوصة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، المشتملة على القيام والقعود والركوع والسجود مع التلاوة والتسبيح والتعظيم - لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله لعمله مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته؛ تعرض الداعي بدعائه ربه لاستنجاح حاجاته وسؤله.
وذهب بعض المفسرين إلى أنها مأخوذة من اللزوم من قولهم: صلي النار. ومنه قوله تعالى:
تصلى نارا حامية
[الغاشية: 4] وذلك لأن المصلي يلازم العبادة حسب ما أمره الله، وقيل: هي مأخوذة من تصلية العود بالنار لأجل تقويمه وتليينه، لأن المصلي يقوم نفسه بخشوعه وخضوعه في الصلاة، وذهب الزمخشري إلى أنه مأخوذ من الصلا وهو عرق في الظهر يفترق عند عجم الذنب فيكتنف جانباه الوركين، ويسميان الصلوين، وهذا لأن المصلي يحرك صلويه في ركوعه وسجوده، وتابعه على رأيه جم غفير، غير أن الفخر الرازي بالغ في انتقاد قول الزمخشري، مدعيا أن كلامه يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة، وذلك لأن لفظ الصلاة من أعظم الألفاظ شهرة، وأكثرها دورانا على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء عن الاشتهار فيما بين أهل النقل، ولو جوز أن يكون ذلك أصل مسمى الصلاة، ثم خفي واندرس حتى صار لا يعرف إلا عند الآحاد، لكان مثله جائزا في سائر الألفاظ، ولو جوز مثل ذلك لما جاز القطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ يتبادر إلى الأذهان من المعاني، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول ذات معان أخر، وهي المرادة منها، ولما بطل ذلك بالإجماع بطل الاشتقاق الذي ادعاه الزمخشري.
وتعقبه ابن عاشور بأنه لا مانع من أن يكون لفظ المشهور منقولا من معنى خفي لأن العبرة في الشيوع بالاستعمال، وأما الاشتقاق فبحث علمي، وعضد ذلك بقول البيضاوي واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه وأيد ابن عاشور قول الزمخشري بأن الصلاة مأخوذة من الصلا بما معناه أن كتابة الصلاة في المصاحف بالواو تشير إلى اشتقاقها من الصلا، إذ لو لم تقصد الاشارة إلى ذلك لما كان وجه لكتابته بالواو، وإنما ذلك نظير صنيعهم في كتابة الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى أصلها، وانتقد ابن عاشور توجيه الزمخشري في كشافه كتابتها بالواو بأنها ورادة على لفظ المفخم، أي لغة تفخيم اللام من حيث لم يصنع مثل ذلك في غيرها من اللامات المفخمة.
وقيل: هي مأخوذة من المصلي في حلبة السباق، وهو يأتي بعد المجلي، وقد روعي في هذا الأخذ مجيئها تالية للركن الأول من أركان الاسلام، والمجلي هو الأول من الخيل في حلبة السباق، والمصلي الذي يليه، لأنه يأتي ورأسه بين صلوي سابقه.
ولا يتبادر من هذه الآراء إلا الأول وهو أنها مأخوذة من الصلاة التي هي الدعاء، لأن كلا من الداعي والمصلي لاجىء إلى الله عز وجل، راج منه الفوز بالمطلوب والوصول إلى المحبوب، وأرى أن سائر الأقوال لا تخلو من تكلف، وإذا كانت كتابة الصلاة في المصاحف بالواو تشير - حسبما يقول ابن عاشور - إلى أصل اشتقاقها فإن هذا لا يدل على صحة هذا الاشتقاق بحيث لا ينازع فيه، فإن الكتابة لا تعدو أن تكون اصطلاحا ناشئا عن اجتهاد بعض السابقين، وقد تابعهم عليه من جاء بعدهم، وذلك لا يقتضي أن ما اصطلحوا عليه حجة قاطعة في بيان أصول الاشتقاق، ولو كان الأمر كذلك لاتفقت كلمة مفسري السلف على ما تقتضيه هذه الاشارة المزعومة من أن الصلاة من الصلا، وقد علمت مما تقدم أن آراءهم تخالف ذلك، ولعل الزمخشري لم يسبق إلى المذهب الذي اختاره، فكيف يكون أمر اصطلحوا عليه دليلا على خلاف ما ذهبوا إليه؟
وقد أجاد الأستاذ الإمام في قوله: الصلاة إظهار الحاجة والافتقار إلى المعبود بالقول أو العمل، وهو المراد بقولهم: الصلاة معناها الدعاء، لأن إظهار الحاجة إلى العظيم الكريم ولو بالفعل فقط، التماس للحاجة واستدرار للنعمة أو طلب لدفع النقمة، أرأيتم أولئك الذين يقفون بين أيدي الملوك ناكسي رؤوسهم حاني ظهورهم، وتارة يقعون على أقدامهم يقبلونها، أليس الباعث على هذا العمل إما خوف من عقوبة يطلبون به دفعها وإما حذر على نعمة يتقون سلبها ورفعها فيلتمسون بقاءها ويرجون زيادتها ونماءها؟ هذه الصلاة كانت توجد عند بعض الجاهليين وهم الذين كانوا يعرفون بالحنيفيين والحنفاء، وعند بعض أهل الكتاب - ثم قال - والصلاة بالمعنى الذي ذكرناه قد ظهر في الإسلام في أفضل أشكاله، وهو تلك الصلاة التي فرضها الله على المسلمين، فإن هذه الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم على النحو الذي جاءت به السنة المتواترة من أفضل ما يعبر به عن الإحساس بالحاجة إلى المعبود، وشعور الأنفس بعظمته لو أقامها المصلون وأتوا بها على وجهها.
ومما ذكره تتضح لك المناسبة بين الصلاة التي هي الدعاء والصلاة التي هي العبادة المعروفة، ولذلك أطلق عليها اسمها.
والصلاة مصدر صلى، والأصل في نحوه مما جاء على وزن (فعل) وهو معتل اللام أن يكون مصدره على وزن تفعلة، كزكى تزكية، ونمى تنمية، ولكن خولف هذا الأصل هنا لئلا تلتبس هذه العبادة المقدسة بالتصلية بالنار إن جاءت على لفظها، حتى أن بعض كبراء أئمة اللغة زعم أنه لم يستعمل في كلام العرب لفظ التصلية بمعنى الصلاة، وليس كذلك، فقد نقل بعضهم استعماله بهذا المعنى وهو نادر، ومنه قول الشاعر:
تركت القيان وعزف القيان
وأدمنت تصلية وابتهالا
وفي نقل الصلاة وأمثالها من الحقائق الشرعية عن أصولها اللغوية مجال واسع لمناقشات علماء أصول الفقه وغيرهم، فمن أراد الاطلاع على ذلك فليرجع إلى الكتب الخاصة بهذه الفنون.
الإنفاق ركيزة من ركائز الإيمان:
وبعد تثنية وصف المتقين بإقام الصلاة ثلث بالإنفاق من رزق الله، وقد تتابعت هذه الصفات حسب أهميتها وترتبها الواقعي، فالايمان بالغيب - كما سبق - هو القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الأعمال الصالحة وتنبثق منها الفضائل، وهو صفة لازمة للمتقين لا تنفك عنهم في جميع الأحوال، والصلاة هي إمام الأعمال البدنية، وأقواها في تهذيب النفس وتقويم السلوك، وأجداها في إمداد العقيدة لما فيها من التذكير بالله وسلطانه وإحسانه - كما تقدم تفصيله - وهي أكثر الوظائف اليومية للمسلم تكررا.
والإنفاق من رزق الله هو الركن المالي الاجتماعي من أركان هذا الدين، وبه يتم تماسك المجتمع وترابط الأمة، لأن الله تعالى اقتضت حكمته أن لا يستقل أحد من الناس بمصالحه الحيوية، مهما أوتي من بسطة في الجسم وسعة في الرزق ونبوغ في التفكير، وبالانفاق من رزق الله من عباده الأغنياء على إخوانهم الفقراء يحصل بينهم التعاون الذي يترتب عليه التعايش السلمي والاستقرار النفسي والاجتماعي، وقبل حديثي عن الانفاق يحسن أن أتحدث عن الرزق من حيث مفهومه اللغوي والديني.
معنى الرزق لغة واصطلاحا:
الرزق مأخوذ من رزق يرزق رزقا - بالفتح - إذا أعطى، وهو بالكسر إسم للشيء الذي يرزق ويحصل به الانتفاع، وقيل: هو مصدر أيضا وهو عند أهل اللغة بمعنى النصيب أو الحظ كما في قوله تعالى:
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون..
[الواقعة: 82] أي حظكم التكذيب، وروى ابن السكيت عن أزد شنؤه أنه بمعنى الشكر وحمل عليه الآية، وروي عن بعضهم أن الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل.
وأبطله الفخر نظرا إلى أن الله أمر عباده أن ينفقوا مما رزقهم في قوله:
أنفقوا مما رزقناكم
[البقرة: 254] فلو كان الرزق هو المأكول لما أمكن إنفاقه، وحكى الفخر عن جماعة بأن الرزق هو ما يملك، وأبطله أيضا لجواز أن يقول الانسان اللهم ارزقني ولدا صالحا، وامرأة صالحة، وعقلا يسوسني إلى الخير، مع أنه ليس من المعقول أن يملك أحد عقله، كما أنه ليس من المشروع أن يملك ولده أو امرأته.
وفيما قاله نظر، لأن من الظاهر أن المراد من قول القائل أن الرزق هو ما يؤكل ويستعمل، ما جرت العادة بأكله واستعماله، ولا يلزم أن يكون المرزوق هو الذي يأكله أو يستعمله، وإنما يكفي في اعتباره مرزوقا إياه؛ تمكنه من أكله أو استعماله.
وقول القائل اللهم ارزقني ولدا صالحا أو امرأة صالحة أو عقلا أعيش به، لا ينافي أن يكون المرزوق مالكا لرزقه، لأن الملك إما أن يكون ملك عين، أو ملك منفعة، ولا يشك أحد أن الانسان مالك للمنفعة التي تحصل له من ولده أو امرأته أو عقله.
نعم يصح أن يعترض بجواز ما ذكره على القول السابق، واختلف علماء الشرع في تعريف الرزق، فقال أبو الحسين البصري: هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به.
وذهب بعض الأشاعرة إلى أنه؛ ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به، سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك.
وقيل: هو اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به، وعلى هذا فالرزق قاصر على ما يطعم دون سائر المنافع.
والأقرب شمول الرزق لكل ما ينتفع به، بدليل جواز قول القائل: اللهم ارزقني ولدا صالحا أو امرأة صالحة أو مسكنا واسعا. وحصر الرزق في المطعومات مما لم يقم عليه دليل، بل الدليل قائم على خلافه، فإن الله قال في قارون:
وآتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة
[القصص: 76] ثم حكى الحوار الذي كان في شأنه بين الذين أوتوا العلم والذين يريدون الحياة الدنيا، وقفى ذلك حكاية قولهم بعد هلاكه:
ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر
[القصص: 82] وهم يشيرون بذلك إلى ما أوتيه قارون من الكنوز.
وعندما ذكر الله تعالى أحكام المواريث في سورة النساء قال:
وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه
[النساء: 8] مع أن المقسوم لا يلزم أن يكون مما يتغذى به. وقال تعالى:
لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ آتاه الله
[الطلاق: 7]، والنفقة غير محصورة في صنوف الأغذية، وقال تعالى:
الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر
[الرعد: 26]، وقال:
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض
[الشورى: 27] ومن الظاهر أن البسط لا يكون في المطعومات وحدها.
وظاهر كلام ابن عاشور أن الرزق مخصوص بالإنسان دون غيره من أنواع الحيوان، ويتضح ذلك من تعريفه للرزق حيث قال:
والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته، وحاجاته، وينال بها ملائمه. وقد زاد ذلك وضوحا قوله من بعد: وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء، فهو على المجاز كما في قوله تعالى:
وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها
[هود: 6] وقوله:
وجد عندها رزقا
[آل عمران: 37] وقوله:
لا يأتيكما طعام ترزقانه
[يوسف: 37].
وإن تعجب فعجب إدراجه الآيتين الأخيرتين فيما مثل له من إطلاق الرزق - مجازا حسب قوله - على غير ما أوتيه الجنس البشري، فإن الضمير في قوله تعالى: { وجد عندها رزقا } عائد إلى مريم - عليها السلام - والخطاب في قوله: { لا يأتيكما طعام ترزقانه } إنما هو لصاحبي السجن اللذين دخلاه مع يوسف الصديق - عليه السلام -، والجميع من الجنس البشري.
ونحن لا نسلم لهذه المجازية التي يدعيها في هاتين الآيتين وفيما قبلهما، فإن حمل الألفاظ على المجاز لا يكون إلا مع القرائن الصارفة لها عن حقائقها. وإذا عرفت أن الغاية من الرزق هي المنفعة أدركت أن الحيوان مرزوق حقيقة لأنه ينتفع برزقه، على أن قوله سبحانه: { وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها } ، يدخل في عموم مدلوله الإنسان؛ لصدق مفهوم الدابة لغة على كل ما يدب على الأرض، وإذا كان إطلاق الرزق على منافع الانسان حقيقة وعلى منافع الحيوان مجازا، لزم أن يكون لفظه في الآية حقيقة ومجازا في آن واحد، وهو مردود عند أهل التحقيق، ويؤكد أن الرزق ليس من اختصاص الإنسان قوله تعالى:
وكأين من دآبة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم
[العنكبوت: 60].
ومذهبنا ومذهب الأشاعرة وجمهور الأمة أن الرزق يشمل الحلال والحرام، كما تقدم ذكره في التعريف المنسوب إلى بعض الأشاعرة، وهذا لأن الحل والحرمة إنما هما بالنظر إلى العبد المرزوق لا إلى الرب الرازق، وخالفهم المعتزلة؛ فزعموا أن الرزق لا يكون إلا حلالا محضا، وهو مبني على قاعدتهم في وجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله - تعالى الله عن ذلك - ولعل ابتناء قولهم هذا على هذه القاعدة الفاسدة هو الذي شجع خصومهم على التشنيع عليهم في هذه المسألة.
ورأي الامام ابن أبي نبهان - رحمهما الله - أنها ليست من مسائل الأصول، فلا تشنيع عنده على المخالف فيها، والظاهر أنه لم يلتفت إلى تلك القاعدة التي قامت عليها، واحتجت المعتزلة لقولها بدلائل من الكتاب والسنة، ومدلول الكلمة نفسها.
أما الكتاب فقد استدلوا منه بقوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون } وهو مدح لعباده المتقين بإنفاقهم من رزقه، وهو لا يمدحهم بإنفاق الحرام، وبقوله عز وعلا: { أنفقوا مما رزقناكم } ولا يأمر بالإنفاق من الحرام، وبقوله سبحانه:
قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون
[يونس: 59].
وأما السنة فقد استدلوا بما أخرجه ابن ماجة وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان ابن أمية، قال:
" جاء عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله؛ إن الله قد كتب علي الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله، لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " ".
وأما مدلول الكلمة فمن حيث إن الله عز وجل منع عباده من الحرام وتوعدهم عليه وأمر بزجرهم عنه، لا يصح أن يقال إنه رزقهم إياه كما لا يقال رزق السلطان جنده مالا وقد منعهم من أخذه، وأجيب عن تمسكهم بالآيات بأن الاسم قد يخص ببعض أفراد مدلولاته في الاستعمال لأجل التنويه والتشريف كما في قوله تعالى:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الحجر: 42]، وقوله:
عينا يشرب بها عباد الله
[الانسان: 6]، فقد خص لفظ العباد في الآيتين بالمتقين، وإن كان بحسب مدلوله يشمل المتقين والفجار فإن الكل عباده عز وجل، وإنما خص بالمتقين في الآيتين تشريفا لهم وتنويها بقدرهم، وكذلك إطلاق الرزق في الآيات التي تعلق بها المعتزلة على الحلال وحده، إنما هو من هذا الباب ومنه قول الداعي: يا خالق العرش والكرسي والشمس والقمر، دون يا خالق الخنازير والكلاب، مع أن الكل من خلقه تعالى. وأما الحديث فهو أدل على خلاف ما ذهبوا إليه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم:
" فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه "
دليل على دخول الحرام في ضمن الرزق. وأجيب عما استدلوا به من مدلول الكلمة اللغوي بأن المفاهيم اللغوية لا تخضع للمقاييس العقلية، فلا دخل لأدلة العقل في التسميات.
هذا وقد استدل أصحابنا والجمهور لما ذهبوا إليه بقوله عز وجل: { وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها }. مع تصور إمكان أن يعيش الانسان على الحرام طيلة حياته، وذلك بأن ينشأ طفلا مع اللصوص وقطاع الطرق يطعمونه مما ينهبون، حتى إذا بلغ الحلم ودخل في دور التكليف صنع صنيعهم وعاش عيشتهم إلى أن لقي الله فإنه يلزم على مذهب المعتزلة أن يكون مثل هذا لم يصب من رزق الله شيئا، وهو مما تبطله الآية.
ويرى الإمام الألوسي أن هذا الاستدلال ليس بشيء، وأن للمعتزلة أن ينفكوا عن هذا اللزوم باعتبار أن الرزق غير قاصر على الغذاء، بل يشمله ويشمل غيره من المنافع الجسدية والروحية، مع استحالة أن يعيش الانسان من غير أن يصيب منفعة محللة منذ ولادته إلى موته، لا مصة ثدي ولا رشفة ماء ولا نسمة هواء، ولا نظرة سارة ولا وصولا إلى بغية، ولو قدر وقوع ذلك لساغ أن يقال إن ذلك مباح في حقه لقوله تعالى:
فمن اضطر غير باغ ولا عاد
[البقرة: 173].
وللمعتزلة أن يعترضوا غيرهم بمن عاش يوما ثم مات قبل أن يتناول حلالا أو حراما وما يتوجه إليه من جواب يمكنهم أن يجيبوا به أيضا على أن الآية الكريمة لا تدل على أن الله يوصل إلى كل أحد ما ينتفع به، فإن الواقع يدل على خلافه، بل تدل على أنه عز وجل يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به، فإذا حصل إعراض من أحد عن الحلال إلى الحرام، لم يكن ذلك قادحا في تحقق كون الله رازقا له، ولقائل أن يقول إن معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية، فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها، كما أن قول القائل كل دابة تذبح بالسكين؛ لا يقتضي شمول السمك لعدم اتصافه بالمذبوحية.
ولأجل هذه الايرادات التي تتجه إلى استدلال الجمهور؛ اختار الألوسي أن يكون الاستدلال بالاجماع المنعقد قبل ظهور المعتزلة وخلافهم على أن آكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام، وأنت تدري أن الإجماع يحتاج إلى ثبوت النقل بصحة وقوعه، والظاهر أن هذه المسألة لم تثر عند السلف إلا بعد ظهور المعتزلة بجدلهم الكلامي، فدعوى الاجماع غير مسلمة فيها، ولأجل قوة أدلة الفريقين أجنح إلى ما رآه الإمام ابن أبي نبهان من أنها مسألة فرعية يسوغ فيها الاجتهاد، وإنما عدت عند الأكثرين من الأصول لملاحظة القواعد الاعتزالية التي يمكن بناؤها عليها، كالقول بوجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله - كما تقدم - والقول بالتحسين والتقبيح العقليين. ولولا ملاحظة هاتين القاعدتين الفاسدتين؛ واحتمال بناء المعتزلة مذهبهم في هذه المسألة عليهما، لما اعتبرت هذا الخلاف إلا لفظيا.
على أننا نجد من وافق المعتزلة فيها من غيرهم؛ كالجصاص صاحب كتاب أحكام القرآن.
ولا خلاف بين الجميع في أن الانفاق المشار إليه في الآية، والمأمور به في كثير من آي الكتاب، هو الانفاق من الرزق الحلال المحض، فإن الله سبحانه لا يأمر بالإنفاق من الحرام ولا يمدح به، وقد جاء في الحديث التنبيه على أن الصدقة المقبولة لا تكون إلا من الحلال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا يقبل الله صدقة من غلول "
وقوله:
" إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ".
والإنفاق: جعل الشيء نافقا، والنفاق كالنفاد: هو خروج المال من يد إلى يد.
والإنفاق الشرعي: هو إخراج المال أو جزء منه في السبل التي أمر الله سبحانه بإخراجه فيها، وهو آية من آيات صدق الإيمان، فإن كثيرا ممن يدعون الإيمان قد يقضون أوقاتهم في ضروب من العبادات البدنية، فإذا عرضت مسألة الإنفاق وطولبوا به قبضوا أيديهم عنه لضيق صدورهم منه، ولذلك تكرر في كتاب الله وصف المؤمنين الصادقين بالإنفاق من فضل الله. كما في قوله تعالى:
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون
[الحجرات: 15].
الحض على الإنفاق يوسع دائرة الخير:
كثيرا ما اقترن الحض على الإنفاق في سبيل الله بالوعد أو الوعيد، نحو قوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون
[البقرة: 245]. وقوله:
يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة
[البقرة: 254]. وقوله:
وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين
[المنافقون: 10].
ومن حيث إن المال قوام الحال، تتوقف عليه مصالح النفس وترتبط به شئون الحياة، كان الانفاق المأمور به الذي مدح الله به عباده المتقين، هو لبعض المال لا لكل المال، وذلك واضح في هذه الآية، فقد قال تعالى فيها: { ومما رزقناهم ينفقون } ولم يقل وما رزقناهم ينفقون، ونحوه قوله سبحانه: { أنفقوا من ما رزقناكم }.
وهذا هو المنهج المعتدل بين الافراط والتفريط، فلا تبذير ولا تقتير في الانفاق الشرعي. أفاد ذلك الزمخشري وتابعه جل المفسرين، وخالفهم أبو السعود حيث رأى أن دخول من على الموصول للتنبيه على أن إنفاق بعض المال كاف في جعل المنفق من المتصفين بالهداية المستحقين للفلاح. وذكر أن ما قاله الزمخشري وتابعه عليه غيره مخصوص بمن لم يصبر على مشقة الفقر وإلا فلا مانع شرعا من التصدق بجميع المال، كما فعل الصديق - رضي الله عنه - ولم ينكره عليه النبي صلى الله عليه وسلم بما هو عليه من الصبر وما وقر في قلبه من الإيمان.
ومن ثم لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإسراف، أجاب: لا إسراف في الخير.
والنكتة التي نبه عليها الزمخشري المشار إليها بمن يدل على قصدها ما أمر الله سبحانه به في غير هذه الآية من الاعتدال في الانفاق بين طرفي التفريط والافراط، وذلك في قوله:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا
[الاسراء: 29].
وهو مسلك اقتصادي وسط بين التبذير والتقتير، وهو الأليق بالتوجيه العام للناس، أما مسلك الصديق - رضي الله عنه - فهو مسلك لا يليق إلا بالقلة النادرة من الذين عزفوا عن الدنيا نهائيا، فلم يفتحوا عليها أبصارهم ولم تمل إلى شيء من حطامها قلوبهم، وحكم هؤلاء ووصفهم لا ينسحبان على عامة المؤمنين { ولكل درجات مما عملوا }.
واختلف في الإنفاق المقصود هنا، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه زكاة الأموال، أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق، ويعني ذلك أن الانفاق النفلي غير مقصود هنا، وهو يتفق مع قوله الذي أخرجه عنه المذكورون أن المراد بالصلاة الصلوات الخمس، ويحتمل أن يكون استناده على اقتران الانفاق بالصلاة في الآية.
ومن المعلوم أن الصلاة شقيقة الزكاة، ولا تذكر غالبا إلا مقترنة بها.
وروى ابن جرير عن الضحاك، قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن المثبتات الناسخات.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - وآخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النفقة المقصودة هنا هي نفقة الرجل على أهله وذلك قبل أن تنزل الزكاة.
واختار ابن جرير أنها شاملة لجميع النفقات بما في ذلك النفقات الواجبة، كالزكاة والانفاق على العيال. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنها النفقة في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله، وأخرج مثله ابن المنذر عن سعيد بن جبير، وصدر القطب - رحمه الله - في هيميانه القول بشمول هذا الانفاق للنفقات الواجبة، كالزكاة وإقراء الضيف بشمول هذا الانفاق للنفقات الواجبة، كالزكاة وإقراء الضيف الواجب وتنجية المضطر، ونفقة من لزمتهم نفقته، وأداء ما وجب من الكفارات، ونحو ذلك، ونفقات التطوع في وجوه الأجر، وهو يتفق في ذلك مع الفخر الرازي الذي نص في تفسير الآية على شمول هذا الانفاق لنوعيه الواجب والمندوب، ومن دواعي الاستغراب أن يقول ذلك الفخر في تفسير هذا الانفاق الذي مدح به المؤمنون مع أنه نفسه حصر الصلاة - التي مدحوا بإقامتها في هذه الآية نفسها - في الصلوات المفروضة كما تقدم.
وابن عطية لا يعد الاختلاف عن السلف في هذا خلافا، وإنما يحمله على قصد التمثيل بحسب ملاءمة الظروف التي تحيط بهم حال السؤال، ويرى الألوسي احتمال ذلك، وحكى عن بعضهم أنه عد ذلك خلافا. ويرى العلامة ابن عاشور أن الانفاق على النفس والعيال لا يدخل فيما مدحوا به، لأنه مما تدعو إليه الجبلة وتقتضيه الضرورة، فلا يعتني الدين بالتحريض عليه، وهو يتفق في رأيه هذا مع الامام محمد عبده، ويضيف الامام إلى ذلك بأن ما تعورف على تسميته بالجود والكرم كقري الضيوف ابتغاء عوض كالشهرة والجاه أو الأنس بالأصحاب، لا يعد من الانفاق المقصود هنا، ورأيهما لا يتفق مع ما ثبت من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الانفاق على العيال، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ".
وروي من طريق ثوبان مرفوعا:
" أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ".
قال أبو قلابة - وهو أحد رجال سند هذا الحديث -: وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم. وقد جاء في الحديث الصحيح في تعداد ما يثاب عليه المرء مع حسن النية:
" حتى ما تجعله في في امرأتك ".
والانفاق على النفس مطلوب من المسلم للتقوى على طاعة الله وكفها عن المحارم، فلا ريب أنه مما يثاب عليه مع هذه النية الحسنة، وأما إكرام الضيف فهو من الواجبات المالية الاجتماعية، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "
، وإذا لابسه الرياء وحب السمعة أحبطا ثوابه، ومثلهما معه كمثلهما مع سائر الواجبات، ولا ينقص ذلك في قيمة الواجب ولا يقلل من أجره مع إخلاص النية في أدائه.
وأنت إذا تدبرت ما شرعه الاسلام من النفقات الخاصة والعامة المنظمة وغير المنظمة، أدركت أن الآية شاملة لها جميعا، سواء المفروض منها والمندوب، فالخاص منها ما وجب لأناس مخصوصين كالعيال. والعام ما كان لعامة المحتاجين، وفي سائر السبل الخيرية، والمنظم منها الزكاة التي خصصها الله لأصناف مخصوصين من الناس في أصناف مخصوصة من المال، مع بلوغه مقادير معينة، وبنسب معينة.
وغير المنظم سائر النفقات الواجبة التي لا تقدر إلا بقدر الحاجة، وهي أيضا تدخل في ضمن المفروض مع عدم سداد العوز بدونها، كما يدل على ذلك قول الله تعالى في بيان أعمال البر: { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة } ، حيث ذكر الزكاة من بعد ذكر إيتاء المال لذوي القربى إلى آخره معطوفة عليه، ومن شأن العطف التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن الحقوق المالية المذكورة في الآية قبل الزكاة خارجة عنها، وهو الذي يدل عليه حديث فاطمة بنت قيس عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن في المال حقا سوى الزكاة "
وهو وإن أعل بأبي حمزة ميمون الأعور القصاب، فإن له ما يعضده عند ابن ماجة، كما أن صريح الآية واضح في الدلالة على هذا المعنى، وفي هذا المقام مباحث أرى إرجاءها إلى أن أصل إن شاء الله بعونه سبحانه وتوفيقه إلى تفسير آية البر من هذه السورة.
الإنفاق في سبيل الله يعالج الشح والأثرة:
والاسلام بما شرعه من الانفاق يعالج النفس البشرية التي من طبعها حب المال، والرغبة في الاستكثار منه، فإنها إذا أرسل لها العنان في هذه الرغبة تجاوزت جميع الحدود، واستخفت بكل الواجبات الأسرية والاجتماعية، وأصبح همها الوحيد ما تكسبه من مال تستكثر به على الآخرين، ولن تبالي في هذه الحالة في الوطء على كل القيم والفضائل، وقطع جميع الوشائج والأواصر، ما دام في ذلك تحقيق لرغبتها الجامحة، وإرواء لظمئها الملتهب، وفي مثل هذه الحالات تنضب العواطف وتغور مشاعر الرحمة، ويغلظ الاحساس في الانسان، وتستعر البغضاء والعداوات حتى بين الأقرباء الأدنين، فلا والد يعطف على ولده، ولا ولد يوقر والده، كما هو الشأن السائد في المجتمعات التي تعبد المادة، وتقدس الثروة، وفي هذا الانفاق علاج لهذا المرض الفتاك، فهو يرهف الحس، ويفجر مشاعر الرحمة وعواطف الاحسان بين ذوي القربى خاصة، وسائر الناس عامة.
والله تعالى قدير على إغناء كل أحد حتى يستقل بمصالحه عن غيره، ولكنه أراد بما طبع عليه النفوس من الاحتياج إلى الغير، وأمر به من التعاون بين الناس، تربية الضمير الانساني وتمتين العلاقات بين أفراد الجنس البشري، وإنما انحراف الناس عن هذا المنهج المستقيم الواضح هو السبب في وجود العداوات في القلوب، وتأجج الأحقاد في الصدور، وتحول الانسان إلى سبع ضار لا يبالي بمن يفتك به ما دام ذلك يحقق رغبته، وليس شيء أسرع في اشتعال نار الفتنة بين الناس من حب المال، فكم من ولد استعجل وفاة والده، أو قريب استطال حياة قريبه فسقاه السم الزعاف، أو استخدم أية وسيلة في القضاء على حياته، وما الغاية من ذلك إلا حيازة تركته والتنعم بثروته.
ومن استقرأ التاريخ البشري لم يجد عدالة في الاقتصاد أو غيره كعدالة الاسلام، دين الله الحق الذي كفل لكل إنسان حقه، فإن جميع الأنظمة البشرية التي عاشتها الانسانية في أطوارها المتقلبة وعصورها المختلفة لم تكن إلا مصدر شقاء وبلاء، فقد اكتوى الفقراء والبؤساء بسعيرها اللاهب، ولم تمتد منها يد عادلة لتنتزع من الطبقات الغنية ما احتكرته من حقوق الناس ، ومن أمثلة ذلك ما ذكرته المصادر التاريخية أن وادي النيل في العهود القديمة كان ينتج من المحصولات الزراعية أضعاف ما كان يحتاج إليه مواطنوه، ولكن لم تكن تنصب فوائدها إلا في خزائن الأغنياء والطبقات المستعلية من الناس، بينما الجماهير الكادحة تكتوي بنار المسغبة، وتتقلب على رمضاء المآسي، وقد أدى الحال في المجاعة المشهورة في الأسرة الثانية عشرة أن باع الفقراء نفوسهم للأغنياء من أجل الحصول على لقمة العيش، وحدث عن مثل ذلك في ممالك كل من بابل، وفارس واليونان، بل ثبت أن في مملكة اليونان كان الأغنياء يذبحون الفقراء ذبح الأغنام لأتفه الأسباب، وفي أثينا نفسها كان الفقراء يباعون مع الماشية والأرض، ووقع مثل ذلك في مملكة الرومان، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن شهوة المال إذا استحكمت في النفس جعلت صاحبها يتخطى جميع حدود الانسانية، ويتجاوز ما طبع الله عليه البشر من العطف والرقة والحنان، وهذا هو سر تحذير الله تعالى من احتكار طائفة مخصوصة من الناس رؤوس الأموال، وذلك في قوله، بعد تبيان أحكام الفيء وقسمه:
كي لا يكون دولة بين الأغنيآء
[الحشر: 7].
وإذا جهل الانسان أو تجاهل تاريخ الظلم المالي في العصور البشرية الغابرة السحيقة، فما عليه إلا أن يفتح عينيه على الأنظمة المالية السائدة في العالم اليوم والتي هي نتيجة الأطوار الاقتصادية التي مر بها الانسان، ففي العالم اليوم نظامان ماليان خطيران، كل منهما يلتهم حقوق الانسان بأتونه المستعر، وهما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، وما الفرار من أحدهما إلى الآخر إلا فرار من جهنم إلى الجحيم، ولست أتحدث عنهما عن خبر قرأته أو سمعته، وإنما أتحدث عن مشاهد رأيتها ومآس أحسستها، تتفطر منها الكبد ويذوب منها الفؤاد، فقد كنت في زيارة لدولة اشتراكية شيوعية، فشاهدت عيناي جماهير الشعب تساق بعصي الذل والهوان، ليس لأحد منهم اختيار في مأكله أو مشربه أو ملبسه أو عمله أو مسكنه أو حركته وتنقلاته، وإنما يأكل كل أحد ما يشتهى له من قوت لا ما يشتهيه، في الوقت الذي يعين له لا في الوقت الذي يعينه بنفسه، وقل مثل ذلك في مشربه ومسكنه وعمله، ولا يحق لأحد أن ينتقل من مدينة إلى أخرى باختياره، وإنما ذلك إذا اختير له، ولم تكد هذه المشاهد المؤلمة تتوارى عني حتى واجهت مشاهد أخرى في دولة رأسمالية لا تقل عما قبلها إيلاما، وإنما الفارق بين السابقة واللاحقة تنوع أسلوب القهر والظلم، فبينما كنت أشاهد العمارات الضخمة التي كأنما تعانق السحاب، وتناغي النجوم، وهي ملك لأفراد من الناس، إذا بي أشاهد أفواجا من بني الانسان قد أعوزهم المأوى الذي يقيهم لفح الصيف وقسوة الشتاء، ولم يجدوا إلا أن يأووا إما إلى القوارب في البحر، أو إلى الكهوف في الجبال، أو إلى هياكل السيارات المتحطمة، أولا يكفي ذلك دليلا على أن الانسان يفقد كل ما يحتاج إليه من عطف بني جنسه ورحمتهم وحنانهم وإحسانهم في غير ظل الاسلام دين الحق والعدل؟
إن الاسلام لا يقتصر في الانفاق على المحرومين ومواساتهم على الحض فقط، ثم يكل ذلك إلى مروءات الأغنياء وضمائرهم، وإنما يجعل الانفاق ركنا أساسيا من أركانه، لا يكتمل دونه بنيانه، ولأجل ذلك نجد الحض على الانفاق واردا في آيات نزلت في مرحلة مبكرة من تاريخ الدعوة.
ومن أمثلة ذلك ما في سورة المزمل التي هي من أوائل السور المكية نزولا، ففيها الأمر الصريح بإيتاء الزكاة في قوله تعالى:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا
[المزمل: 20]. وفي هذا دليل على أن الزكاة فرضت قبل الهجرة بزمن طويل، وليس كما يقول جل العلماء إنها لم تفرض إلا بالمدينة بعد الهجرة، وقد اشتهر ذلك بينهم حتى أصبح من المسلمات.
وإنما يتضح من خلال دراسة آيات الانفاق في القرآن الكريم أن فرضيتها اقترنت بفرضية الصلاة، أو جاءت بعدها بقليل، وإنما كانت بادىء الأمر غير منظمة، وقد كانت موكولة إلى ضمائر الأغنياء وسخائهم، مع تتابع الأمر الاجمالي بها إلى أن قامت دولة الاسلام على تربة دار الهجرة الزكية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فبينت مقاديرها وفصلت أحكامها، ولنا في هذا المقام وقفة مع الدكتور يوسف القرضاوي في قوله: " والملاحظ في السور المكية عن الزكاة أنها لم توردها بصيغة الأمر الدال على الوجوب دلالة مباشرة، ولكنها أوردتها في صورة خبرية، باعتبارها وصفا أساسيا للمؤمنين والمتقين والمحسنين، الذين يؤتون الزكاة، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين خصهم الله بالفلاح وأولئك هم المفلحون، كما أخبر أن تركها من خصائص المشركين الذين لا يؤتون الزكاة ".
فإن هذا الاطلاق غير مسلم، بدليل ما ذكرناه آنفا من النص الصريح في الأمر بها في آخر آية من سورة المزمل المكية، ومثلها في سورة الأنعام قوله تعالى:
وآتوا حقه يوم حصاده
[الأنعام: 41]، وفي سورة الاسراء:
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل
[الاسراء: 26]. والسورتان مكيتان أيضا.
وأما ما استند إليه الدكتور القرضاوي من قول بعضهم إن آية المزمل نزلت بالمدينة فلا يدفع ما قلناه؛ لأنه قول قائل، وهو كغيره من الأقوال يفتقر إلى ما يسنده من الدليل، ولا دليل له إلا ما اشتهر من أن فرضية الزكاة كانت بالمدينة ولم تكن بمكة، والآيات المكية المصرحة بذكر الزكاة المادحة لمن آتاها، والمتوعدة لمن فرط فيها، ترد على هذه الشهرة، ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة فصلت:
وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة
[فصلت: 6- 7]، وفي سورة النمل:
هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
[النمل: 2 - 3]، وفي سورة لقمان:
هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
[لقمان: 3 - 4]، وفي سورة المؤمنون:
والذين هم للزكاة فاعلون
[المؤمنون: 4]، ومثله ما في سورة الذاريات وهو قوله:
وفي أموالهم حق للسآئل والمحروم
[الذاريات: 19]، وقوله في سورة المعارج:
والذين في أموالهم حق معلوم للسآئل والمحروم
[المعارج: 24 - 25]، فإنه من المعلوم أن الحق المقصود هو الزكاة وجميع هذه السور مكية.
هذا؛ وفي وصف المشركين في سورة فصلت بأنهم لا يؤتون الزكاة، إيماء إلى أن تركها ليس من صفة المؤمنين، وكفى ذلك داعيا لذوي العقول السليمة إلى المثابرة إلى أدائها، والمحافظة عليها، ومنذرا لمن استخف بحقها وتهاون في أدائها، والزكاة إنما هي جزء من الانفاق الواجب كما سلف.
وفرض الانفاق في الاسلام مبني على اعتبار ما بأيدي الأغنياء - من الأموال - مال الله سبحانه، وما هم إلا مستخلفون فيه، ومؤتمنون عليه، والدلالة على ذلك واضحة في قوله تعالى:
وآتوهم من مال الله الذي آتاكم
[النور: 33]، وقوله:
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه
[الحديد: 7]. والشعور بذلك يمنع الغني إذا مد يده إلى الفقير بشيء من المال من الاستعلاء والاستكبار، كما أنه يحمي الفقير حين يمد يده لتناول حقه من الغني من الذلة والانسكار، فالمعطي لم يعط إلا من مال الله، الذي من الله عليه به، وأوجب عليه الانفاق منه، والآخذ لم يأخذ إلا حقه الشرعي الذي فرضه الله له مما جعله تعالى في أيدي الأغنياء من المال، فلا من ولا إيذاء، ولا استعلاء ولا استكبار من قبل المعطي، ولا ذلة ولا انكسار ولا خضوع ولا استخذاء من قبل الآخذ، وهذه المبادىء القيمة هي التي أسعدت الأمة المسلمة عندما حرصت على تطبيقها، وكانت لها مخلصا من محن الفقر ولأواء الفاقه، حتى بلغ الحال في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه - أن كان المسئولون عن الزكاة يجهدون في البحث عن الفقراء الذين يستحقونها فلا يجدونهم، حتى أمر عمر أن يزوج منها العزاب، وأن يبنى بها بيوت للذين لا يملكون مساكن، ولم تكن نعمة هذه المبادىء خاصة بالمسلمين، بل نعم بها أهل الذمة في ظل دولة الاسلام، فقد أغنوا بالزكاة عندما لم يوجد فقراء من أهل ملة التوحيد، ولو أن المسلمين اليوم - مع ما تحت أيديهم من الثروات التي من الله عليهم بها - أخذوا بهذه المبادىء، لبهروا العالم بأسره، ولما استطاعت لسان أن تنال من حرمة الاسلام أو تجرح كرامة المسلمين، ولكن تهاونهم بأمر الله، واستخفافهم بحقوقه، واندفاعهم وراء شهوات أنفسهم، هو الذي أوقفهم موقف الذلة والهوان بين الأمم، فمزقت كرامتهم الألسن، واستخفت بأقدارهم الأعين، ذلك لأنهم فتحوا على أنفسهم الثغور بتبذيرهم الجنوني لما أفاء الله عليهم من رزق، ووهبهم من فضل، في الفساد والدناءات، حتى أغنوا أعداءهم بأموالهم المتدفقة في دور البغاء ونوادي القمار وجميع أماكن اللعنة ومجامع الشرور.
يجري ذلك كله وجماهير من أبناء الاسلام لا تجد ما يسد عوزها من لقمة العيش الخشن، وأطمار الثياب البالية، أما آن لهؤلاء الغارقين في سكرة الهوى أن يفيقوا من سكرتهم، ويدركوا ما يهددهم من خطر لا يبقي ولا يذر - والعياذ بالله -؟ أما آن لهذه الأمة أن تستدرك فائتها، وتعيد كرتها فتستحق أن تسود في الأرض بما جاء به دينها من مبادىء الرحمة التي تعتبر الانسانية اليوم في أمس الحاجة إليها؟ أما آن لها أن تثبت للعالم بأسره أن سعادة النفس البشرية لا تكون إلا في ظل الاسلام الحنيف؟
إنني من منطلق النصح الديني الذي فرضه الله على عباده وجعله من صميم دينهم، أناشد كبراء هذه الأمة وأهل الحل والعقد فيها، أن ينظروا في مغبة حالها، ويسعوا لتخليصها من قيود المهانة التي ترسف فيها، ووطأة الذل التي تئن تحتها، وليس لذلك طريق إلا اتباع هدى الله الذي جاء به كتابه الكريم، ومثله رسوله العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولست أنسى هنا ما ذكره الداعية الكبير الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي في كتابه القيم " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " ، فبعد أن أسهب في بيان الأمراض المتفشية في العالم الاسلامي عامة، والعربي خاصة، قال: وقد اعتاد العرب - لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية - حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإسراف والتبذير والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة.
وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير؛ جوع وعري وفقر فاضح، يرى الناظر مناظره الشائنة في عواصم البلاد العربية، فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلا، فبينما هنالك رجل عنده فضول الثياب، وزائد الطعام والشراب، لا يعرف كيف يستهلكه، إذا ببدوي لا يعرف قوت يومه وكسوته. وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع، إذا بفوج من النساء والأطفال عليهم ثياب سوداء قد أصبحت خيوطا من طول اللبس، يعدو لأجل فلس أو قرص. فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة، وبين الأكواخ الفقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة. وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق، لا تقفها دعاية ولا قوة، وإذا لم يسد النظام الاسلامي في بلاده بجماله واعتداله، يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره، عقابا من الله كرد فعل عنيف.
والسيد أبو الحسن الذي سال قلمه بهذه العبارات الدافقة بهذه المعاني البليغة، كان ينظر إلى حالة العرب حينما سجل هذه العبارات منذ ثلث قرن من الزمان، فيستشف منها ما ينتظرهم من مستقبل سيء حافل بالثورات والقلق والاضطراب، نتيجة اعتناق السفهاء والأوغاد المبادىء الهدامة التي لا تبقي ولا تذر، كرد فعل لما عليه المترفون من الانحلال والفساد، ومنع حقوق الناس في مال الله الذي بأيديهم، وتبذيره في غير حدود في شهواتهم وملذاتهم، وقد أرسل كلماته هذه نذيرا صارخا لعلها تصادف قلبا واعيا وسمعا صاغيا، لكن كان - مع الأسف - كمن ينفخ في رماد ويصرخ في واد.
وقد وقع فعلا ما كان يحذره ويحذر منه، وما زالت هذه الأمة إلى اليوم تعاني من ويلات الاضطراب والقلق في كثير من أنحاء البلاد. فمتى تصحو من سكرتها؟! ويثوب إليها رشدها، عسى أن يكون ذلك يوما قريبا.
[2.4]
أقوال في المعنيين بالوصف:
اختلف في المعنيين بهذا الوصف، هل هم نفس الطائفة الموصوفة في الآية السابقة بأنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، أو هم طائفة أخرى؟ وبناء على هذا الرأي الأخير، فمن المراد بهم؟
روى ابن جرير في تفسيره عن ترجماني القرآني ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بالذين يؤمنون بالغيب.. الخ ما في الآية السابقة، مؤمنو العرب، إذ لم يكن لهم رصيد من علم الكتب السماوية من قبل، وإنما فوجئوا به على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وهو ما لم يكونوا يألفونه، فكان إيمانهم به صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه أحرى بأن يوصف أنه إيمان بالغيب، وأما هذه الآية فهي في أهل الكتاب، لأنهم سبق لهم إيمان بما أنزل على النبيين من قبل، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى من عند الله، عرفوا صدقه بما سبق لهم من العلم بالنبوات، وبما كانوا يتلونه في كتبهم من البشائر ببعثته عليه أفضل الصلاة والسلام. واختار هذا القول ابن جرير واستدل له بما ذكرته، وعضده بتقسيم المعرضين عن هدي ما أنزل الله على رسول صلى الله عليه وسلم - في الآيات الآتية - إلى طائفتين؛ طائفة جاهرت بالكفر وأعلنت التكذيب، وأخرى أسرت كفرها في قرارة نفسها ولم تبح بالتكذيب إلا فيما بينها.
وهذا التقسيم يتناسب - حسب رأيه - مع تقسيم المؤمنين المنتفعين بهدى التنزيل إلى طائفتين؛ مؤمني العرب، ومؤمني أهل الكتاب، واستشهد ابن كثير لهذا القول بقوله تعالى:
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ومآ أنزل إليكم ومآ أنزل إليهم خاشعين لله
[آل عمران: 199]، وقوله سبحانه:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنآ إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون
[القصص: 52 - 54].
وبحديث أبي موسى عند الشيخين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ".
ويلمح من كلام القطب رحمه الله في هيميانه أنه يجنح إلى هذا القول، وذلك من تصديره إياه، وإتباعه كثيرا من البحوث المتفرعة عنه، واعتمده من المعاصرين العلامة ابن عاشور، واستدل له بما يوجبه تكرار الموصول من التغاير، غير أنه نبه على دخول أهل الكتاب - إن آمنوا - في عموم الفريق الأول، لأنهم يصدق عليهم أنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون.
وكلامه يقتضي أن عطف الموصول الثاني على الأول من باب عطف الخصوص على العموم.
وقيل: الآيتان في أهل الكتاب وحدهم، ذكر هذا القول ابن جرير ولم يعزه إلى أحد، ووصفه صاحب المنار بالشذوذ.
وقيل: كلتاهما في كل المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، المتبعين لهديه سواء منهم العرب الذين كانوا على الجاهلية الجهلاء، أو من كان من قبل على ملة كتابية، وعزا ابن جرير هذا القول إلى مجاهد والربيع بن أنس ورجحه ابن كثير في تفسيره - مع استشهاده للقول الأول بما تقدم ذكره - والشوكاني في فتح القدير.
وتردد جار الله الزمخشري والعلامة الألوسي بين هذا القول والقول الأول.
وفرق الامام محمد عبده بين الموصوفين في الآيتين تفريقا دقيقا، سلك فيه مسلكا غريبا وافقه عليه تلميذه السيد رشيد رضا، لأنه - حسب رأيه - أقرب إلى مدلول النظم وإن كان أبعد عن الروايات. وخلاصة قوله أن الناس قسمان: مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي يؤمن بما لا يدركه الحس متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم. والايمان بالله وملائكته وباليوم الآخر، إيمان بالغيب، ومن لم يكن مؤمنا بالله لا يمكن أن يهتدي بالقرآن، ومن يتصدى لدعوته، عليه أولا أن يقيم الحجة العقلية على أن لهذا العالم إلها متصفا بصفات الكمال التي يتوقف عليها وصف الألوهية، ثم يقنعه بأن هذا القرآن هداية من عنده سبحانه. لذلك كان الايمان بالغيب أول ما وصف الله به المتقين الذين يهتدون بالقرآن، وهو في حقيقته الايمان بما وراء المحسوس، ومن اتصف بهذا الايمان فهو واقف على رأس طريق الرشاد، لا يحتاج إلى من يأخذ بيده فيسلك به فيه، فإن من يعتقد بأن وراء المحسوسات موجودات يصدق بها العقل وإن كانت لا تقع تحت إدراك الحس إذا أقمت له الدلائل، ونصبت له الشواهد على وجود موجد الوجود، الذي ليس كمثله شيء، لم يشق عليه تصديقك ولم يتردد في النظر في جلي المقدمات وخفيها، وإذا جاءه الرسول بوصف اليوم الآخر أو وصف عالم من عوالم الغيب التي استأثر الله بعلمها، كعالم الملائكة، لم يشق على نفسه تصديق ما جاء به الخبر، بعد ثبوت النبوة، وذلك بخلاف شأن أولئك الذين انحبسوا في مضائق المادة فصاروا ينفرون من كل خبر عما وراءها.
ويرى الأستاذ أن المتقين هنا هم طائفة من العرب في الجاهلية، كان عندهم إيمان جزئي بالغيب أداهم إلى مقت عبادة الأصنام لما عرفوه بالفطرة من أن فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأنه يحب الخير ويبغض الشر، وقد أدى ذلك ببعضهم إلى اعتزال الناس، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال، وتعظيم جانب الربوبية - وذلك ما كان يسمى صلاة في عرفهم - وبعض الخبرات التي يهتدي إليها العقل في معاملات الخلق.
وطائفة من أهل الكتاب، وهم الموصوفون بقوله سبحانه:
من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون آيات الله آنآء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
[آل عمران: 113 - 114]، وقوله:
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
[المائدة: 82 - 83].
فإن كلتا الطائفتين على استعداد لتلقي هداية الحق والاستجابة له والانضمام إليه، لأنهم كانوا جميعا مشمئزين مما عليه أقوامهم من الكفر والضلال، ومتطلعين إلى شعاع من الهدى يلوح لهم فينير لهم الطريق، فهم جديرون بوصف التقوى، لأنهم زكت فطرهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد، واستعدت لتلقي نور الحق الذي يحملها على توقي سخط الله واتباع مرضاته. فالطائفتان هما - في نظر الامام - أحرى بالوصف الذي في قوله سبحانه: { الذين يؤمنون بالغيب.. } " الآية " ، وأما الموصوفون في هذه الآية فهم عنده الذين تحققت هدايتهم، ووصلوا إلى الغاية التي ينشدونها، إذ آمنوا فعلا بالرسول واتبعوا النور الذي جاء به، فهم أرقى درجة في الخير، وأبعد مدى في الهدى، واستدل الأستاذ للتغاير بينهما بمثل ما استدل به العلامة ابن عاشور، وهو إعادة لفظ الموصول معطوفا، كما استأنس لرأيه بتكرار اسم الاشارة مع العطف في قوله تعالى بعد ذلك:
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
[البقرة: 5].
الرأي الراجح في هذه الأقوال:
هذا؛ وقد تأملت هذه الأقوال وتتبعت أدلتها؛ فوجدت في نفسي ميلا إلى رأي من يرى أن هذه الصفات التي ذكرت في هذه الآيات؛ هي لطائفة واحدة وهم المتقون حقا، الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا النور الذي جاء به والتزموا منهاج الحق، فإن هذه الصفات هي صفات التقوى التي لا تنفك عن المتقين ولا ينفكون عنها، ولا داعي للتفرقة بين من كان من قبل على جاهلية العرب أو على ملة كتابية، بحيث يعد بعض هذه الأوصاف خاصة بأهل الكتاب، والبعض الآخر خاصا بمؤمني العرب، فإن الجميع انصهروا في بوتقة الايمان، وصاروا كالجسد الواحد، وهم مخاطبون بالايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنبيين من قبله وبما أنزل إليه وإليهم، كما في قوله تعالى:
قولوا آمنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ومآ أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
[البقرة: 136]، وهذا الايمان بجميع النبوات وكل ما أنزل على النبيين هو الذي وصف الله به رسوله والمؤمنين في قوله:
آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله
[البقرة: 285]، أما إعادة اسم الموصول معطوفا على ما قبله فليس فيه دليل على التغاير بين الموصوف بالموصولين لمجيء ذلك كثيرا في القرآن، وفي الكلام العربي مع اتحاد الموصوف، ومنه قوله تعالى:
سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى
[الأعلى: 1 - 4]، فقد تكرر فيه الموصول ثلاث مرات، ولا يقصد به إلا الرب الأعلى، ونحوه قوله سبحانه في وصف عباده:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما
[الفرقان: 63 - 65] " الآيات " ، فانظر كيف تكرر الموصول ثماني مرات، ولا يقصد به إلا عباد الرحمن، ومثل ذلك في فاتحة سورة (المؤمنون) في وصفهم، وفي سورة المعارج في وصف المصلين.
ولا إشكال في العطف، ولو أن القاعدة فيه تقتضي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه لأن التغاير لا يلزم أن يكون في الذوات، بل كثيرا ما يلحظ في الصفات، فتعطف صفة على أخرى والموصوف واحد، كما في الآيات التي استدللنا بها، ومنه قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
ويؤكد أن هذه الصفات جارية على جميع المؤمنين بالكتاب من غير تفرقة بين من كان من قبل على ملة كتابية أو على طريقة جاهلية أنهم جميعا جمعوا في الوصف في سائر السور، كما في قوله سبحانه:
تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون
[النمل: 1 - 3]، وقوله:
تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
[لقمان: 2 - 5].
وفي تعدد الاشارة في سورة لقمان مع أن المشار إليه طائفة واحدة - وهي طائفة المحسنين - نقض لاستدلال الامام محمد عبده بتعدد الاشارة في سورة البقرة على اختلاف المشار إليه، كما سنبينه إن شاء الله في الآية التي تلي هذه.
أما ما ذكره ابن جرير من أن في تقسيم المؤمنين إلى طائفتين تناسبا مع ما يأتي من بعد من تقسيم غيرهم إلى طائفتين أيضا؛ طائفة الكفار، وطائفة المنافقين، فهو مما لا ينبغي التعويل عليه في تأويل الكتاب، فإن تقسيم الكفار إلى طائفتين إنما هو بحسب ما هم عليه في الحال لا بحسب ما كانوا عليه من قبل.
والمؤمنون بعد إيمانهم توحدت حالهم فلا داعي لاعتبار ما كانوا عليه قبل أن يكرمهم الله بالهدى، على أن الحق هو مذهب واحد بخلاف الباطل، فإنه على طرائق؛ بدليل قوله تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
[الأنعام: 153].
أثر الإيمان بالغيب في صفاء النفوس:
والخلاصة: أن الصحيح مما تقدم من الأقوال قول مجاهد والربيع بن أنس ومن وافقهما، وهو أن هذه الصفات هي لجميع المؤمنين، وذلك الذي يقتضيه تناسق الآيات وترابط النعوت، فالله عز وعلا عندما ذكر الكتاب بين أن هدايته خاصة بالمتقين، والتقوى تستلزم صفاء الروح، وروحانية النفس، وزكاء الفطرة وسلامة الحس، وطهارة اللسان، ونقاء الوجدان، واستقامة الأركان، وحياة الضمير. وبهذا يتم التناسق بين المشاعر الباطنة، والحركات الظاهرة عند المتقين. وبسبب هذا النقاء الباطني تشف السرائر وتتألف البصائر، وترتفع عن النفوس حجب الطبع الكثيفة الحائلة بين كثير من الناس، واتصالهم بعالم الغيب، وبارتفاعها عن نفوس المتقين تتجلى لهم الحقائق الغيبية بحسب ما تفيضها الأدلة العقلية أو النقلية، تجليا لا يدع مجالا للشك أو الريب. ومن ثم كان الايمان بالغيب أول ما نعت به المتقون هنا.
والايمان شعلة في النفس تطوي من جنباتها سجاف ظلماتها، فتستنير لها مسالك الحياة، وينكشف لها ما فيه سلامتها أو خطرها. وهذه الشعلة المعنوية لا تختلف عن الشعل الحسية في حاجتها إلى ما يمدها بالطاقة؛ وإلا خبا نورها واختفى شعاعها، وقد جعل الله سبحانه عباداته المتنوعة وقودا روحانيا للايمان، وعلى رأس هذه العبادات الصلاة التي تتميز بعمق أثرها وقوة تأثيرها، فلذلك كانت إقامتها الصفة الثانية للمتقين.
وبما أن الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة يسكبان في النفس الإنسانية الشعور بآلام الآخرين ويبعثان فيها الإحساس بضرورة العطف على البؤساء والمحرومين، وهو مما يدفع صاحبه إلى الإحسان، كان ثالث ما وصفوا به الإنفاق من رزق الله.
ومع كل ذلك فالضرورة داعية إلى الوحدة الفكرية والرابطة الروحية التي تنتظم عباد الله منذ بداية الخلق إلى أن يرث الكون مكونه، وبدونها تتقطع جميع الروابط وتنحل كل الوشائج، وهذه هي المناسبة في اختتام هذه الصفات بكونهم يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من النبيين، وهذا مما يقتضي وراثة هذه الأمة لمن تقدمها من الأمم في هدي أنبيائها، كما يؤكد وحدة رسالات الله التي تتابعت مواكب رسله لنقل هدايتها إلى الناس.
والإنزال: نقل الشيء من جهة عالية إلى أدون منها، ويطلق مجازا على الإيصال والإبلاغ، كما يطلق النزول على الوصول والحلول، نحو قوله تعالى:
فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين
[الصافات: 177]. وقد يطلق على إنشاء النعم أو إظهارها نحو قوله:
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس
[الحديد: 25]، وقوله:
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج
[الزمر: 6]. والتحقيق أنه لا بد من رعاية معنى العلو في مصدره، والله سبحانه متعال فوق خلقه بقهره وسلطانه، فلذا صح إطلاق لفظ الانزال على ما يصدر منه من إحسان إلى خلقه.
ويكون العلو معنويا كما يكون حسيا.
وإنزال القرآن وسائر الكتب السماوية إنما هو عبارة عن نزول الملك المكلف بإبلاغها متلبسا بها حتى تصل إلى المرسل إليه بأمر الله. والملك يتلقاها من الله سبحانه بالطريقة التي تقتضيها مشيئته تعالى.
وقد أخبر سبحانه أن تكليمه للبشر لا يكون إلا بصفات ثلاث، بينها في قوله:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشآء
[الشورى: 51].
وبين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية تلقيه للوحي في جوابه للحارث بن هشام الذي رواه الامام الربيع والشيخان من طريق عائشة - رضي الله عنها - قالت:
" سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ قال: " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " ".
وبناء على رأي من قال إن هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب خاصة، استظهر العلامة ابن عاشور فائدة من الاتيان بالموصول في قوله: { بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك } ، ولم تكن العبارة والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب، وهي الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الاسلام، ككون التوراة لا تقبل النسخ، وأنه يجيء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأسر والعبودية، ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات - قال - ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم، وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا؛ وقد عبر في الآية بصيغة الماضي في قوله بما أنزل إليك، مع أن القرآن لم يكن كله منزلا عند نزول هذه الآية، والناس مطالبون بالايمان بكل ما أنزل أو سوف ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الايمان بما تحقق نزوله يقتضي الايمان بما سوف ينزل، لاندراجه فيه، ويرى بعض المفسرين أن هذا التعبير من باب المجاز العقلي، وهو تغليب ما أنزل على ما لم ينزل، ويرى غيرهم أنه مجاز لغوي، وذلك أنه أستعير ما أنزل لما لم ينزل.
وانتقد القطب رحمه الله هذين الرأيين لما فيهما من الجمع بين الحقيقة والمجاز، واختار ما تقدم ذكره من أن الايمان بما أنزل يقتضي الايمان بما سوف ينزل، وهو الذي يقتضيه كلام المحقق ابن عاشور، إذ يرى أن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا توقع إيمانهم بما سينزل، لعدم احتياج ذلك إلى الذكر، فإنه من المعلوم أن الذي يؤمن يستمر إيمانه بكل ما ينزل على الرسول، لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكونان في أول الأمر، فإذا زالا بالايمان أمن من الارتداد، كما قال هرقل: وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب.
فالايمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب، وهي الدلالة الأخروية، وليس هو مدلولا للفظ الماضي بطريق التغليب، ولكنه مراد من الكلام.
الإيمان بالقرآن الكريم وأثره:
والايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون إيمانا تفصيليا، بحيث يقصد المؤمن بإيمانه الكتاب المنزل إليه للاعجاز والهداية الذي رقم في المصاحف وتناقلته الألسنة بالتواتر.
أما الايمان بما أنزل من قبل على سائر الرسل فيكفي أن يكون إيمانا إجماليا، بل هذا هو الواجب نظرا إلى أن المنزل إليهم لم يبق كما هو، بل دخله التحريف والتبديل، فليس ثم شيء معين مما أنزل إليهم باقيا على ما كان عليه حتى يقصد بالايمان، وهذا أحد سببين أوجبا التفرقة في الايمان بين القرآن والكتب السالفة.
وثاني السببين أن القرآن تعبدنا بالعمل به بخلاف تلك الكتب، فقد انتهى أمدها وهيمن عليها جميعا هذا الكتاب الخالد الذي لا أمد لأثره وهدايته، ولا يمكن العمل به إلا بعد تشخيصه في الايمان.
وذهب جماعة، منهم الفخر الرازي وأبو السعود والألوسي، إلى أن الايمان بالقرآن الواجب على العوام هو إيمان إجمالي أيضا كغيره من الكتب المنزلة لتعذر الاحاطة بدقائق حكمه وتفاصيل أحكامه على عوام الناس، وإنما رأوا الايمان به تفصيلا فرضا كفائيا يقوم به العلماء المتبحرون الذين يستخرجون من أعماق بحاره الزاخرة مكنون جواهر حكمه وأحكامه.
وذكر العلامة الألوسي اختلاف الفقهاء في قدر المسافة التي يجب أن يتوفر فيها من يقوم بهذه المهمة بين الناس، فمنهم من رأى وجوب وجود مثله في كل حد مسافة القصر من البلاد الاسلامية لئلا تبقى طائفة من الناس تتخبط في ظلمات جهلها بدون مرشد ولا دليل، ويحرم - عند هؤلاء - على الامام إخلاء مثل هذه المسافة من مثل هذا الشخص الجامع لهذه الصفات.
ومنهم من يرى وجوب توفر مثله في كل إقليم، ومنهم من يرى أن وجود مثله في أي جزء من العالم الاسلامي يسقط هذا الواجب عن جميع الأمة، وفي المقام بحث نرجئه إلى مكانه المناسب بتوفيق الله.
ولا أرى فارقا معنويا بين ما قالوه وما قلته في تحديد الايمان الواجب بما أنزل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن مرادهم بالتفصيل الاحاطة بكل محتوى ما يؤمن به، ومرادي به تشخيصه بالايمان وتمييزه عن غيره، واتباع ما جاء به بحيث يصبح مسيطرا على شعاب النفس، وموجها للجوارح والأركان، وهذه هي صفة المؤمنين بآيات الله كما وصفهم بها في قوله:
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون
[السجدة: 15 - 16].
وقد وبخ الله سبحانه الذين ادعوا الايمان بالقرآن ثم هموا بأن يتحاكموا إلى غيره حيث قال:
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا
[النساء: 60].
وإذا كان الله تعالى جعل صنيع بني إسرائيل - إذ عملوا ببعض ما أنزل إليهم وأعرضوا عن بعض - من باب الخلط بين الايمان والكفر، حيث قال بعد تعداد ما صدر منهم:
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
[البقرة: 85].
فإن هذا الحكم نفسه يسري على الذين ينتسبون إلى القرآن وهم يعرضون عنه بمجانبة هديه وتعطيل أحكامه ومخالفة تعاليمه، وابتغاء الحق في غيره، ومن ثم حكم سبحانه وتعالى على من لم يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق، وذلك في قوله:
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون
[المائدة: 44]،
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون
[المائدة: 45]،
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
[المائدة: 47]. وبهذا يتبين أن الايمان بالقرآن له معنى عميق ترتبط به حياة المؤمن، وذلك أن يتكيف في فعله وتركه بحسب ما تقتضيه أحكامه وتعاليمه.
وقد كان السلف الصالح يعدون مجانبة شيء من هديه منافيا للايمان به، كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عندما أبصرت امرأة عليها ثياب رقاق: " ما آمنت بسورة النور امرأة لبست هذه الثياب " ، فأعجب لأولئك الذين يزعمون أنهم من أمة القرآن وهم يرتعون في المعاصي، غير مبالين بخلق ولا فضيلة ولا شرف، ما قيمة إيمان هؤلاء بالقرآن؟ إن القرآن الكريم مليء بأوامر الله الموجهة إلى عباده، منها ما يتعلق بالحياة الفكرية، ومنها ما يتعلق بالشعائر التعبدية، ومنها ما يتعلق بالشؤون السياسية، ومنها ما يتعلق بالنظم الاقتصادية، ومنها ما يتعلق بالواجبات الاجتماعية، ومنها ما يتعلق بالأحكام القانونية. والواجب على من آمن به أن يسلم تسليما لذلك كله وينقاد له بفكره ومشاعره وجوارحه، حتى يتحول القرآن إلى واقع محسوس يتجلى للناس جميعا في حياة المؤمنين الخاصة والعامة.
أثر الإيقان بالآخرة:
واختتم تعالى صفات هذه الطائفة بذكر الإيقان بالآخرة، لأنه ملاك الأمر، وسور الصالحات، والحاجز دون تردي النفس في مهاوي شهواتها ونزواتها، لأن فيه ربط العمل بالجزاء، ووصل المبدأ بالمصير، وما قبل الموت بما بعده، ولأن اليقين بالحياة المطلقة الأبدية بعد هذه الحياة المقيدة الفانية؛ هو مفترق الطرق بين أولئك الذين يعيشون في مضيق الحس لا يعرفون وجودا إلا هذا الوجود المحسوس، ولا متعة إلا هذه المتعة الفانية، ولا هدفا إلا ما يختص بحياة الأرض، وأولئك الذين تفتحت مداركهم واتسعت آفاق أفكارهم فأيقنوا أن المحسوس ليس هو كل شيء في الوجود، وأن هذه الحياة ليست هي كل وجود الانسان، وأن متعها الفانية ليست هي كل شيء بالنسبة إلى منافعه ومصالحه، وأن أهدافها يجب أن تكون وراءها أهداف أسمى منها قدرا، وأغلى منها قيمة، فإن من شأن هذا الإيقان أن يدفع بصاحبه إلى التفكير في العاقبة والجزاء على الأعمال وتكييفها بحسب رغبته في نوع جزائها.
والآخرة وصف أغنى عن الموصوف في التعبير، لاستقراره في الأفهام، والمراد به الحياة الآخرة، أو الدار الآخرة، حيث يحاسب كل أحد على عمله، ويجزى به جزاء وفاقا، والايمان بها يشمل الايمان بكل ما يحدث فيها، مما تضمنته النصوص القاطعة.
واليقين: قيل هو الاعتقاد للواقع الذي لا يقبل الشك ولا الزوال. ذلك لأن الاعتقاد إما أن يكون اعتقادا بأن الشيء كذا، أو اعتقادا بأنه لا يمكن إلا أن يكون كذا.
وقيل: هو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات، ويعم الجزم بخبر الصادق والاعتقاد المبني على الأدلة والأمارات إن كان ثابتا لا شك فيه.
وفسره أئمة اللغة بأنه العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر. وقالوا: إنه نقيض الشك، كما أن العلم نقيض الجهل، ولعل هذا التفسير دعا بعض المفسرين من المتقدمين والمتأخرين إلى القول بأنه العلم بالشيء عن نظر واستدلال، أو بعد شك سابق.
والشك إنما يكون فيما يستوجب النظر، وعليه فيكون اليقين أخص من الايمان ومن العلم. واحتج بعضهم لذلك بقوله تعالى:
كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم
[التكاثر: 5 - 6].
ومن ثم لا يطلق الايقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية، وبناء على هذا فإن إيثار مادة الايقان في ذكر الايمان بالآخرة لما فيها من الاشعار بأن علمهم بالآخرة ناتج عن كد الفكر وسعة التأمل في الاستدلال، لأن الحياة الأخروية حياة غائبة عن الأبصار وسائر الحواس، غريبة على الأفكار المنغلقة بين جدران الحس، وقد تراكمت على هذه الأفكار شبه جمة حالت بينها وبين إدراكها حالة الدار الآخرة، وهي مناسبة جديرة بالاعتبار في اقتناص دقائق أسرار التعبير القرآني وقد نبه عليها أحد أئمة التفسير الحاذقين.
وبناء على ما ذهب إليه الامام محمد عبده من التفرقة بين الطائفتين الموصوفتين في الآيتين، وأن الأولى كانت على إيمان جزئي، والثانية هي التي آمنت الايمان الكلي، قال ما معناه:
وصفت هذه الطائفة التي اكتمل إيمانها بالإيقان بالآخرة، لأنهم مؤمنون بالقرآن، بخلاف الأولى فإنها كانت فقط على جزء من الايمان، وهي في طريقها إلى الايمان الكامل لما أوتيت من الاستعداد لذلك.
وقد عرفت مما تقدم أنني أرجح رأي من يقول إن جميع الصفات الواردة في الآيتين هي لموصوف واحد، وهو الطائفة المؤمنة.
واليقين هو أساس الايمان الذي لا يقوم إلا عليه، فإن إيمان من يعتمد على مجرد الظن إيمان متزلزل لا ثبات له، فهو منهار الأسس منهد الأركان، ولذلك قال سبحانه في اعتقاد بعض الناس:
وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا
[النجم: 28].
وإذا كان هذا هو حكم الظن في الاعتقاد، فما بالك بما دونه من الشك والارتياب.
واليقين الحق في الايمان بالله واليوم الآخر إنما يعرف بآثاره في الأعمال، كما سبق ذكره في الحديث عن الايمان وصفات المؤمنين حسب ما يدل عليه القرآن.
وذكر الامام محمد عبده من أمثلة من لم يقم إيمانه على الايقان، من يأتي إلى محكمة بدعوى كاذبة يريد بها أكل مال أخيه بغير حق، أو بشهادة مفتراة يجامل بها صديقه، أو ينتقم بها من عدوه، وهو يعلم باطله وزوره، فيوعظ ويذكر:
ويوم يعض الظالم على يديه
[الفرقان: 27] فيقول: أعوذ بالله أنا أعلم ذلك اليوم الذي أمامي، وأن بين يدي شبرا من الأرض - يعني القبر - وأن الدنيا لا تغني عن الآخرة، ويحلف اليمين الغموس باسم الله تعالى بأنه محق في كلامه، ثم يكشف التحقيق عن إفكه، ويضطر إلى الاعتراف بزوره، فكأن الايمان بالله واليوم الآخر عنده خيال يلوح له عندما يريد أن يخادع غيره، وشرك يصطاد به حقوق الناس بغير حق.
صفة الإيمان اليقيني:
وذكر الامام أن الايمان المبني على اليقين هو الذي يكون معه إحساس من طريق الوجدان يجعل المؤمن كأنه يرى ما آمن به، وهذا الايمان هو الذي يملك نفس صاحبه، وهو يأتي من طريقين:
الأول: النظر الصحيح فيما دعت الحاجة فيه إلى النظر، كالايقان بوجود الله ورسالة رسله، وذلك بتخليص المقدمات إلى أن تصل إلى حد الضروريات، فيكون الانسان بذلك كأنه راء بعينيه ما استقرت عقيدته عليه.
الثاني: خبر الصادق المعصوم بعدما دلت على صدقه الدلائل، وقامت على عصمته الشواهد.
ولا يكون ذلك الخبر طريقا لليقين حتى يسمعه السامع من نفس المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، أو يصل إليه من طريق لا يحوم حولها الريب، وهي طريق التواتر دون سواها، فلا مصدر لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوة فيما يأتي من طريق النقل إلا التواتر الذي لا خلاف فيه، وذلك في الأمور الغيبية التي لا سبيل للعقل إليها، نحو وصف الآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وصفاته. وكذلك صفات الله تعالى التي تتوقف معرفتها على الوحي.
وتقديم الجار والمجرور - وهما بالآخرة - على متعلقهما - وهو يوقنون - وبناؤه على الضمير يفيدان الحصر عند الزمخشري، وفي ذلك تعريض بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالآخرة على حقيقتها، وخالفه في ذلك العلامة ابن عاشور، فرأى أن تقديم الجار والمجرور إنما هو لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة ، وفيه ثناء على هؤلاء لأنهم أيقنوا بأهم ما يوقن به المؤمن، وأنكر الحصر الذي ادعاه الزمخشري لاقتضائه أن يكونوا يوقنون بالآخرة دون غيرها، ورأى أن تكلف إخراج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله غير معهود.
[2.5]
الاشارة متوجهة إلى المتقين الموصوفين بما سلف والأصل فيها أن تكون لمشاهد معين، غير أن الاستعمال قد يجعلها لغير الحاضر إذا سبقها من وصفه ما يجعل حقيقته مستحضرة في الذهن، فإن تصور أحواله، وإدراك صفاته يجعلانه في حكم المشاهد، وقد يتبع الاشارة الآتية بعد صفات المشار إليه حكم، فيدل ذلك على أن تلك الصفات هي منشأ ذلك الحكم، لأنها هي السبب في استحضار ذات المشار إليه، فالحكم للمشار إليهم هنا بأنهم على هدى من ربهم، وأنهم هم المفلحون ناتج عن وصفهم بتلك النعوت الفاضلة التي تميزهم عن غيرهم من الناس، ومثله مألوف في كلام العرب، ومنه قول حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه
ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة
ولا شبعة إن نالها عد مغنما
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت
تيمم كبراهن ثمت صمما
يرى رمحه أو نبله ومجنه
وذا شطب عضب الضريبة مجذما
وأحناء سرج قاتر ولجامه
عتاد أخى هيجا وطرفا مسوما
ويغشى إذا ما كان يوم كريهة
صدور العوالي وهو مختضب دما
إذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت
وولى هذان القوم أقبل معلما
ثم قال عقب ذلك:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه
وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
وجملة أولئك على هدى مستأنفة استئنافا بيانيا مترتبا على ما وصفوا به من النعوت من قبل، فإن السامع إذا وقعت تلك الصفات التي ميزوا بها في سمعه تطلع إلى ما يترتب عليها من فائدتها، وإيثار اسم الاشارة على ذكر الضمير الذي يعود إليهم لأن الاشارة تجعل جميع ما وصفوا به مستحضرا في ذهن السامع، إذ الاشارة هنا ليست إلى ذواتهم فحسب، وإنما هي إليها وإلى الصفات التي تلبست بها فميزتها عن سائر الذوات، وفي ذلك ما لا يخفى من التنويه بالصفات المشار إليها، وبما يعقب اسم الاشارة من الأحكام الناشئة عنها.
المتقون مختصون بالهدى:
والمشار إليه هو فريق المتقين، وقد سبق في كلامنا ما يفيد ترجيح أن جميع الصفات التي لحقتهم هي صفات جارية عليهم جميعا، إذ هم فريق واحد وليسوا بفريقين خلافا لمن قال ذلك اعتبارا لحالتهم قبل التلبس بالايمان، وهم يوافقوننا أن الاشارة هنا - كالتي بعدها - يراد بها كلتا الطائفتين لأنهم جميعا متمكنون من الهدى ومنقلبون إلى الفلاح، وإنما شذ الامام محمد عبده فقال بتعدد المشار إليه كما تعددت الاشارة، ورأيه مبني على ما تقدم نقله عنه من أن المهديين منقسمون إلى طائفتين؛ طائفة أخذت تبحث عن الحق وتحاول الوصول إليه، وأخرى وصلت إليه فعلا.
فأولى الاشارتين إلى الطائفة الأولى، وثانيتهما إلى الأخرى.
وعزز رأيه بما يدل عليه تنكير هدى من النوعية. فالطائفة الأولى - حسب رأيه - أصابوا ضربا من الهدى لتفتيشهم عن الصواب، وبحثهم عن الحقيقة، فقد آمنوا بالغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق في كلامه، وأنفقوا مما رزقهم الله، فهم متمكنون مما وصلوا إليه من الهدى، ومستبصرون في طريق البحث عن المزيد من أنواعه، وذلك وإن لم يكن كافيا لاسعادهم وفلاحهم، فهو كاف لاعدادهم، وتأهيلهم لهما بالايمان التفصيلي المنزل، ولذلك قبلوا عندما بلغتهم دعوته.
ويرى الامام أن الطائفة الثانية - وهم المؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم- مشاركة للطائفة الأولى في الهدى الذي وصلت إليه، وإنما زادت عليها بما انتهت إليه من الايمان الكامل بالقرآن، وبسائر الكتب السماوية، ويقينهم بالآخرة، فهم أوسع منهم إيمانا، لأن إيمانهم بالغيب قد تجاوز حدود الاجمال إلى التفصيل، ولذلك كانت الاشارة إليهم متضمنة وعدهم بالفلاح في قوله { وأولئك هم المفلحون } ، وعزز رأيه أيضا - في التغاير بين مرجع الاشارتين - بترك ضمير الفصل (هم) في الأولى وذكره في الثانية، وقال إن المشار إليه لو كان واحدا لذكر الفصل في الأولى لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح، فهو خاص بهم دون سواهم، لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم.
وأنت إذا تدبرت هذه الآية وما قبلها من الآيات، لن تجد دليلا على التغاير بين الاشارتين، ولا على انقسام المهتدين إلى طائفتين، وحسبك ما مر بك في تفسير ما قبلها وضوحا بأن جميع تلك الصفات جارية على فريق المتقين من غير التفات إلى أي انقسام فيهم.
أما تنكير { هدى } فهو للتنويه بشأن ما تمكنوا منه من الهدى، ويعزز ذلك وصفه بأنه من { ربهم } فإنه دليل كونهم موضع عناية الله سبحانه.
وأما عدم اقتران الاشارة الأولى بضمير الفصل واقتران الثانية به، فلأجل الترقي في العبارة، ونحوه ما في سورة لقمان مع اتحاد المشار إليه، كما تقدم بيانه. وكذلك في هذه السورة في قوله تعالى بعد وصف الصابرين: { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }. وقد بين الله سبحانه اختصاص هؤلاء المتقين بالهدى، بيانا يصور لك هذه الحقيقة المعنوية، ويجليها في صورة المحسوس، حيث قال: { على هدى } دون أولئك أصحاب هدى مثلا، لأن " على " دالة على الاستعلاء، وهو يقضي بتمكن المستعلي من المستعلى عليه، وقدرته على تصريفه وترويضه، فهؤلاء المتقون متمكنون من الهدى تمكن الراكب من مركوبه، وفي الاستعارة التي ينطوي عليها هذا التعبير وجوه:
أولها: أنها تبعية، نظرا إلى أن المستعار الأصلي هو الاستعلاء، ثم سرت إلى الحرف الدال عليه وهو (على) وقد جنح إلى هذا الوجه السيد الجرجاني وحمل عليه كلام صاحب الكشاف.
ثانيها: أنها تمثيلية، لأن المشبه هيئة منتزعة من عدة أشياء وهي المتقون والهدى، وتمكنهم منه، والمشبه به صورة منتزعة من أشياء متعددة كذلك وهي الراكب والمركوب والاستعلاء، ثم طويت المشبهات لحلول المشبه بها محلها على طريق الاستعارة، وأظهرت (على) من بين الصورة المستعارة لأنها العمدة في هذا التشبيه من بين سائر أركانه، وتدخل بقية الأركان ضمن ألفاظ منوية وإن لم يقتضها سياق الكلام، ولم يبعد الجرجاني هذا الوجه.
ثالثها: أن تكون مكنية مرموزا إلى جملتها بعلى الدالة على الاستعلاء الذي هو لازم التشبيه المقصود، وكثير من الناس يسمونها تخييلية.
وجمع أنواع الاستعارات الثلاث يحتملها هذا المقام، غير أن معركة جدلية حادة نشأت بين علمي البلاغة البارزين؛ السيد الجرجاني، والسعد التفتازاني، مثارها: جواز مجامعة التمثيلية للتبعية أو عدمه، فالتفتازاني مع اختياره للتمثيلية يرى أن مجيء كلمة (على) في التركيب يقتضي أن يكون معناها - وهو الاستعلاء - مستعارا على حدة لما يماثله في جانب المستعار له، وهو التمكن، وأنكر الجرجاني ذلك بشدة لأنه رأى فيه جمعا بين متنافيين، إذ الاستعارة التمثيلية إنما ينظر فيها إلى الصورة المنتزعة من متعدد من غير التفات إلى أفرادها، والاستعلاء المستفاد من حرف الجر هنا إنما هو فرد من هذه الأفراد، وأطال في حاشيتيه على الكشاف وعلى المطول في شرح حججه. كما أطال السعد في الانتصار لمذهبه في المطول وحاشية الكشاف.
وشغلت هذه المسألة أذهان الناس واستهلكت جانبا مهما من فراغهم في عصرهما وبعده، وعقدت فيها مجالس للحوار، أولها كان بمحضر تيمور لنك، وكان الحكم فيه نعمان الخوارزمي، فحكم للجرجاني على خصمه غير أن آراء الذين جاءوا من بعدهم أثقلت كفة السعد التفتازاني، وقد أفردت هذه المسألة بمؤلفات خاصة.
وممن عني بها الشوكاني، فقد خصصها برسالة سماها (الطود المنيف في الانتصار لما قاله السعد على ما قاله الشريف).
وذكر الألوسي في تفسيره أنه أطال بحثها في كتابه (الأجوبة العراقية على الأسئلة الايرانية) وقد امتدت أذيال العناية بهذا البحث إلى عصرنا. وممن عني به من المفسرين المعاصرين الامام ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير)، فقد حاول فيه التوسط بالحكومة العادلة بين هذين القطبين، لكنه لم يلبث أن وقف في صف التفتازاني.
تنزيه القرآن الكريم عن المجادلات اللغوية والبلاغية:
وإني أرى جعل التفسير معرضا للمجادلات اللغوية وميدانا للمباريات البيانية، خروجا بهذا العلم الجليل عن حدوده المرسومة، واشتغالا بما لا داعي إليه فيه. وإنما ينبغي الاقتصار من ذلك على ما يجلي من الآية جوهر معناها، ويزيح الستار عن إعجاز مبناها.
أما الزيادة على ذلك فقد تفضي إلى تلاشي المقاصد الأساسية التي يجب أن ينحوها المفسر. فالقرآن أنزل لوصل النفوس ببارئها وصقل العقول من أصداء الشك حتى يتجلى لها العلم اليقين وتتخلص من وساوس الشيطان، وتتطهر من أرجاس الطبع وتستقيم على صراط الله العزيز الحميد.
وأكثر التفاسير - مع الأسف - بعيدة عن رعاية هذه الأهداف، بل ربما ظن قارئها أنه يتلو كتابا في الاعراب أو في اللغة واشتقاقاتها أو في البلاغة وأساليبها، وهكذا.
وفي وسط هذه التيارات تتلاشى مقاصد التفسير الأساسية، وهي إيضاح ما انبهم من هداية القرآن، وبيان موضع العبرة من قصصه وأمثاله، ومحط الحكمة من تشريعاته وأحكامه. وأدهى من ذلك حشو مؤلفات التفسير بمخلفات اليونان وغيرهم، من الفلسفات العقيمة والأساطير القديمة. ولعمري إن ذلك ليس من تفسير القرآن في شيء، بل هو أحرى أن يكون تعتيما على هداه، وحجبا لحقائقه، نسأل الله العافية.
هذا، وقد علمت مما سبق اتحاد مرجع الاشارتين في الآية، ووجه تكرار اسم الاشارة التنبيه على أن اختصاصهم بالهداية، واختصاصهم بالفلاح، كل منهما جدير بالعناية، وحقيق بأن يستقل في التنويه به فلا يكون أحد الأمرين تابعا للآخر، ولذلك خص كل واحد منهما بجملة وإشارة.
وفي ذلك أيضا تنويه بالموصوفين أنهم جمعوا بين المنقبتين، واختصوا بكلتا المأثرتين، وعطفت الجملة اللاحقة على السابقة لأجل توسطهما بين كمال الاتصال، وكمال الانقطاع، فإن كلا من الهدى والفلاح له مفهومه الخاص، وزمانه الخاص، إذ الهدى يتلبس به في الحياة الدنيا، والفلاح يتوصل إليه في الدار الآخرة.
غير أن كون الهدى سبب الوصول إلى الفلاح يعد رباطا بين الجملتين وتوسط الجملتين بين كمالي الاتصال والانقطاع من دواعي العطف كما قرره علماء المعاني.
الاسلام هو طريق الفلاح:
وتوسط ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه المعرفين دال على تأكيد الحصر المستفاد من تعريفهما، وهو هنا قاض بانحصار الفلاح في الطائفة التي جمعت بين خصائص الايمان المذكورة في هذه الآيات، وذلك يعني وحدة طريق الفلاح، وهو طريق الحق والرشد الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، كما بعث به النبيين من قبل، وهو يتمثل في هدى القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن حاد عنهما فقد حاد عن طريق الفلاح، وانتهى به السير إلى مهاوي الخسران والعياذ بالله.
والفلاح هو النجاة، ولذلك فسر المفلحون هنا بالمنجحين كما في تفسير ابن جرير. ويعني ذلك أنهم بلغوا الهدف المقصود، وأدركوا الضالة المنشودة وهي الفوز برضوان الله الذي تترتب عليه النجاة من أليم عقابه، والخلد في بحبوحة ثوابه، وذلك معنى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: في تفسير المفلحين الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا، ومن شواهد مجيء الفلاح بهذا المعنى قول لبيد بن ربيعه:
اعقلي إن كنت لما تعقلي
ولقد أفلح من كان عقل
ويجيء بمعنى البقاء، ومنه قول الشاعر:
نحل بلادا كلها حل قبلنا
ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
ومادته تدل على الشق كسائر الكلمات التي ينتظمها معه الاشتقاق الأكبر، كالفلج والفلق، ومن هنا سمي الأكار فلاحا، لأنه يشق الأرض لأجل الزرع، ويرى الامام محمد عبده " أنه لا يقال أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفوا من غير تعب ولا معاناة، بل لا بد من تحقيق المعنى اللغوي في هذه المادة من السعي إلى الرغيبة والاجتهاد لادراكها، فهم ما كانوا مفلحين إلا بالايمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة.
اتساع مفهوم الفلاح وشموله:
ويدخل في هذا كله ترك الكذب والزور، وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشره والطمع، والجبن والهلع، والبخل والجور والقسوة، وما نشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة، وارتكاب الفواحش والمنكرات، والانغماس في ضروب اللذات، كما تدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة.
وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من العبادات وحسن المعاملة مع الناس، والسعي في توفير منافعهم الخاصة والعامة مع التزام العمل والوقوف عند ما حده الشرع القويم والاستقامة على صراطه المستقيم، ثم قال عقب ذلك: وجملة القول أن الايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو الايمان بالدين الاسلامي جملة وتفصيلا، فما علم من ذلك بالضرورة، ولم يخالف فيه مخالف يعتد به، فلا يسع أحد جهله.
فالايمان به إيمان، والاسلام به لله إسلام، وإنكاره خروج من الاسلام، وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الاسلامي، وواسطة الوحدة الاسلامية، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين ".
وذكر السيد رشيد رضا أن الأستاذ زاد بخطه بعد قوله اجتهاد المجتهدين ما نصه: أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيها يعتقدون بعد التحري، والتمحيص، وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم، فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال مثل ما للناقل عنه فلا بد أن يكون عارفا بأحواله وأخلاقه، ودخائل نفسه ونحو ذلك مما يطول شرحه.
وتحصل الثقة للنفس بما يقول القائل.
وأتبع ذلك السيد رشيد رضا قوله: معنى هذا أن أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنه واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث، ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به، وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة كصحيفة علي كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة، ولم يرض الامام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة، وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذه عنه ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما.
وأما ذوق العارفين فلا يدخل شيء منه في الدين، ولا يعد حجة شرعية بالاجماع إلا ما كان من استفتاء القلب في الشبهات والاحتياط في تعارض البينات.
[2.6]
كان ما تقدم وصفا للكتاب استتبع وصف الذين استضاؤوا بمشكاته وأصغوا إلى مراشده فاتبعوا هديه، وسلكوا نهجه فجمعوا بين الاستقامة في الدنيا والفلاح يوم القيامة، وهذا الوصف في الحقيقة هو وصف للكتاب، لأنه هو الذي قادهم في النقلة من الضلال إلى الهدى، ومن الحيرة إلى البصيرة، ومن الخطر إلى السلامة، وكان جديرا بعد ذلك أن يقفي ذكرهم بذكر أضدادهم الذين أخلدوا إلى الضلال، وآثروه على الهدى، وأغمضوا أبصارهم لئلا ترى نوره وتشاهد جماله فينفذ أثر ذلك إلى بصائرهم، وسدوا آذانهم لئلا تسمع حجته فتلج إلى أفكارهم ووجدانهم، وهؤلاء فريقان:
فريق كان صريحا في منابذته للحق، مكشوفا في عداوته له.
وفريق كان ملتويا في أمره، يظهر للمؤمنين أنه على الايمان وما دعواه الايمان إلا ستار يرخيه على ما يكنه من الكفر ويضمره من الحقد.
الذين كفروا رانت الضلالة على قلوبهم:
والفريق الأول هو المراد بهذه الآية والتي تليها، وإنما قدم ذكره لاستواء ظاهره وباطنه في الكفر، وتظاهر سريرته وعلانيته على نصرة الباطل ومنابذة الحق، ولأن حالته كانت مكشوفة وضرره معلوما بخلاف الفريق الثاني فهو أقبح طوية وأسوأ حالا، وأخطر مآلا، وتعريته من لبوس الخداع يحتاج إلى بيان أوسع وعناية أبلغ، فلذلك أخر ذكره وجاءت بصدده إحدى عشرة آية متوالية.
وفصلت هذه الآية عما قبلها لما بينهما من كمال الانقطاع، فما تقدمها في ذكر الهدى والمهتدين، وهي في بيان الضلال والضالين، وصدرت بحرف التأكيد لاثارة الاهتمام بمحتواها، ولاستئصال رجاء المؤمنين في تراجع هذه الطائفة عن غيها وثوبها إلى رشدها، فالمعنيون هنا قد رانت على قلوبهم الضلالة واستولى على تفكيرهم الباطل، فتعفنت فطرهم وأظلمت عقولهم وتكدرت طبائعهم، فلم يعد للحق مساغ في نفوسهم.
واختلف المفسرون في المعنيين بالذين كفروا هنا، قيل: هم طائفة من اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبق في علم الله عدم إيمانهم. وهو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه -.
وقيل: هم قادة الأحزاب الذين قتلوا في معركة بدر. روى ذلك ابن جرير عن الربيع بن أنس، وهو قول طائفة من المفسرين، واستدل من قال بذلك بأن الواقع قد كشف عن هؤلاء أنهم لا تجدي فيهم الموعظة شيئا، فقد استوى فيهم الانذار وعدمه، وذلك أن الدعوة كانت تواجههم منذ انبلاج فجرها بقوارع نذرها، وبوارق حججها، وصواعق وعيدها، فلم يعيروها إلا آذانا صما، حتى حق عليهم قول الله فهلكوا شر مهلك، وشفى الله صدور المؤمنين إذ نصرهم عليهم فكان مهلكهم على أيديهم، ورجح ابن جرير أنهم أحبار اليهود الذين أصروا على محاربة الدين الحنيف، ومقاومة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم حسدا منهم، مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما سبق عندهم من علم الكتاب، واستدل لذلك بأن ما قبل الآية كان ثناء على مؤمني أهل الكتاب، فكان جديرا أن يقفي ذكرهم بذكر أضدادهم وكشف سوء حالهم وبيان شر منقلبهم، لأنهم جميعا ينحدرون من سلالة واحدة، وإنما فرق بينهم الايمان والكفر.
كما استدل له بما تتابع من بعد في السورة مع تقريع بني إسرائيل على كفرهم وتوبيخهم على ضلالهم، وكشف طوايا نفوسهم، وتعداد مثالبهم في تاريخهم الطويل مع النبوات والأنبياء.
وأنت تدري أن استدلال ابن جرير بما ذكرنا على أن المقصودين في الآية كفار بني إسرائيل فحسب غير واضح، فإن القرآن الكريم كان يواجه بصوادع دعوته جميع المشركين على اختلاف طوائفهم، وتباين مللهم، وكلمة { الذين كفروا } تعمهم جميعا، فلا معنى لقصر مفهومها على بعض أفراد مدلولاتها بدون حجة، على أن مثل ما في الآية من الاخبار بعدم إيمان الكفار جاء في قوله تعالى من سورة (يس):
وسوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
[يس: 10]، وقد نزلت بمكة قبل نشوب المعركة بين المؤمنين وأهل الكتاب، ولا نسلم أن ما قبل الآية من الثناء والوعد خاص بمؤمني أهل الكتاب، فقد مر بك ما يكفيك حجة ودليلا أن الثناء والوعد في الآيات السابقة شاملان لكل المؤمنين من غير تمييز بين من كان قبل على ملة كتابية أو على طريقة جاهلية.
كما أن تعنيف أهل الكتاب في السورة وتعداد مثالبهم ليس دليلا على أنهم وحدهم المعنيون هنا، والذي يدل عليه اللفظ ويقتضيه السياق أن المعنيين كل من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصر على كفره إلى أن مات، فهؤلاء لا تنجع فيهم الدعوة، ولا تتخلل نفوسهم الموعظة، فهم الحقيقون بهذا الوصف والجديرون بهذا الوعيد.
هذا، وتأول بعض المفسرين { الذين كفروا } بمعنى الذين قضي عليهم بالكفر والشقاء، وجعله نظيرا لقوله سبحانه:
إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون
[يونس: 96]، وهو تأويل غير مقبول لأن اللفظ لا يقتضيه، والقرائن لا تساعد عليه ومهما يكن المعنيون في الآية، فإن عدم اهتدائهم بالقرآن إنما هو لأمر يعود إلى نفوسهم لا إلى القرآن، ولا يخل ذلك بوصفه بالهداية، ولا يدل على نقص دلالته على الخير فهو كما أخبر الله عنه { ذكر للعالمين } ، { وهدى للناس } ، وما مثل الذين عميت بصائرهم عنه، ونبت عقولهم عن قبوله، إلا كمثل الخفافيش التي تأنس إلى الظلام وتستوحش من النور والضياء، ولا يقلل ذلك من قيمة الضوء، فحال هؤلاء لا ينافي ما وصف به القرآن.
والآية وإن كانت تفيد العموم - بناء على أن الموصول يفيد الجنسية، والجنس يقتضي الاستغراق - فإنها قد خصصت بالمشاهدة، فكثير من مشركي العرب ومن أهل الكتاب آمنوا بعد كفرهم، وأسلموا بعد عنادهم، فهي من باب العموم الذي يراد به الخصوص، كالآية التي سبق الاستشهاد بها من سورة (يس)، وكقوله سبحانه في أهل الكتاب: { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } ، وإنما هذا الوصف في قوم حقت عليهم كلمة الله كما أخبر عز وجل بقوله: { إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم }.
الكفر قسمان:
وأصل الكفر الستر والاخفاء، ومنه تسمية الزارع كافرا، كما في قوله تعالى:
أعجب الكفار نباته
[الحديد: 20].
ثم خص عرفا بإخفاء النعمة وجحدها، وإن من أشد كفران النعم جحد المنعم بها أو صفاته الكمالية، ومن ثم كان إنكار الخالق تعالى أو إنكار صفة من صفاته أو فعل من أفعاله، أو حكم من أحكامه كفرانا بنعمته التي أنعم بها على جاحدها، وغلب اسم الكفر على هذا الباب وهو ينقسم عندنا وعند جماعة من المحققين إلى كفرين؛ كفر شرك، ويعبر عنه بكفر الجحود، وكفر نعمة، ويطلق عليه اسم الفسوق والنفاق.
والأول: هو الذي عرف بأنه إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة، وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه، ونصبت عليه الأدلة، كوحدانية الله تعالى ووجوده، ويدخل فيه إنكار كل ما علم من الدين بالضرورة.
وقال أبو بكر الباقلاني: الكفر بالله هو الجهل بوجوده. ويرى الحنفية أن الكفر جحد ما ثبت بدليل قاطع، والذي عول عليه الشافعية أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام، وفرعوا عن ذلك أنه لا يكفر جاحد المجمع عليه على الاطلاق، وإنما اشترطوا أن يكون فيه نص بحيث يصبح من الأمور الظاهرة التي يشترك الناس في معرفتها، كوجوب الصلوات الخمس وحرمة الخمر والميسر.
وبناء على ما قالوا لا يكفر من جحد المجمع عليه إن كان غير معروف إلا عند الخواص، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف عندهم.
والذي اشتهر عندنا في المذهب أن هذا الكفر يكون بجحد ما علم من الدين بالضرورة، وهو معنى ما قالته الحنفية.
وقال القرافي: إن الكفر انتهاك خاص لحرمة الربوبية، ويكون بالجهل بالله أو بصفاته أو بالجراءة عليه.
وتعقب بأن هذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله.
والذي يظهر لي أن القرافي لم يرد تعريف كفر الجحود، وإنما أراد تعريف مطلق الكفر الشامل له ولكفر النعمة كما سيأتي، وإنما ينظر في إطلاقه أن الجهل بصفات الله كفر من غير تقييد بقيام الحجة، فإن الحق أن العبد غير مطالب من أول وهلة أن يعرف جميع صفات الله حتى تقوم عليه حجتها، لما في هذه المطالبة قبل الحجة من العنت والمشقة اللذين رفعهما الله عن عباده، فضلا منه وإحسانا.
والحق أن كفر الشرك أعم من أن يكون بالقول وحده، فقد يكون به وبالفعل وبالاعتقاد.
فالقول إنكار ما علم من الدين بالضرورة مما نص عليه في الكتاب العزيز أو السنة المتواترة أو أجمعت عليه الأمة إجماعا قاطعا، فاشتهر عند الخواص والعوام.
والفعل: إتيان بعمل لا يجامع عقيدة التوحيد، كالسجود للصنم وتقديم القرابين إلى الشياطين والجن.
والاعتقاد: أن يعتقد بقلبه ما لا يتفق مع عقيدة الاسلام، كوجود شريك لله تعالى، فلذلك أرى أن يعرف هذا القسم من الكفر بأنه الاجتراء على الله بما يهدم عقيدة الاسلام من قول أو عمل أو اعتقاد، وهو يخرج بصاحبه من الملة فلا يناكح ولا يوارث ولا يدفن في مقابر المسلمين.
أما القسم الثاني - وهو كفر النعمة - فهو الاجتراء على الله بترك ما فرض، كالصلاة والصوم والزكاة، وارتكاب ما حرم، كالزنا والربا والسرقة وشرب الخمر من غير استحلال للفعل أو الترك، وهو لا يؤدي بصاحبه إلى الخروج من الملة، إذ تبقى له جميع أحكام الاسلام في الدنيا ما عدا الولاية، فتجوز مناكحته وتبقى موارثته ويدفن مع المسلمين، غير أنه يسلب الولاية - وهي المحبة في الله - وينقلب إلى ضدها وهو البراءة، وهذا القسم كالذي قبله ثابت بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى:
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
[آل عمران: 97]، وقوله:
وهل نجزي إلا الكفور
[سبأ: 17]، مع ثبوت مجازاة غير المشركين بأعمالهم الباطلة بنصوص الكتاب والسنة، وقوله سبحانه حكاية عن سليمان:
ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم
[النمل: 40]، فإن الشكر المقصود هنا هو الوفاء بحق النعمة من طاعة المنعم بها الواجبة على المنعم عليه، وفي مقابلة الكفر وهو التقصير في الطاعة.
وأما السنة: فهي حافلة بكثير من النصوص الدالة على كفر مرتكب الكبائر، منها ما رواه الامام الربيع - رحمه الله - عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنهم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من أتى الرجال شهوة دون النساء أو أتى النساء في أعجازهن فقد كفر "
ومنها ما أخرجه الربيع بهذا السند مرفوعا:
" ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة "
، وراه الجماعة إلا البخاري والنسائي عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعا بلفظ
" بين الرجل والكفر ترك الصلاة "
، وروى أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان عن بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر "
، وصححه النسائي والعراقي.
ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الاحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط "
، وروى مثله مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وحكى الحافظ في الفتح في شرح هذا الحديث عن القاضي أبي بكر ابن العربي أنه قال في شرحه له: مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، وحكى ذلك عنه أيضا العلامة العيني في شرحه القيم على صحيح البخاري المسمى عمدة القاري.
واستدل مسلم في صحيحه لهذا النوع من الكفر بكثير من الأحاديث التي أخرجها؛ منها ما رواه عن ابن عمر وجرير أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال:
" لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "
، وما رواه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت "
، وما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "
، وما أخرجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر "
، وما رواه عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه "
ومثل هذا في السنة كثير.
وإن تعجب فعجب ممن ينكر هذا القسم من الكفر بعد ثبوته بالكتاب والسنة، ويشنع على الأباضية بأنهم يقولون به ويلقيهم - بسبب ذلك - في مصاف الخوارج الذين يكفرون أهل التوحيد تكفيرا يخرجهم من الملة.
وأنت إذا تدبرت كلام المحققين من المحدثين وغيرهم وجدتهم يصرحون بصحة ما ذهب إليه أصحابنا من تكفير مرتكب الكبائر كفر نعمة لا كفر شرك، وكفى بإمامي المحدثين - البخاري ومسلم - اللذين صرحا في صحيحيهما بهذا الكفر غير مرة.
وقد مر بك كلام الامام ابن العربي، وهو في مقدمة أئمة المالكية فقها وحديثا وتفسيرا، وتجد نحوه في كلام النووي في شرحه على صحيح مسلم، ومثله ما قاله المحققون من شراح البخاري كالحافظ ابن حجر في فتح الباري، والعيني في عمدة القاري، والقسطلاني في إرشاد الساري، وهو الحق الذي لا غبار عليه.
أما الذين يشنعون على من قال بكفر النعمة، فلا يخلو إما أن يكون تشنيعهم نتيجة سوء فهم وقلة علم، وإما أن يكون بباعث حالة نفسية تدفع إلى تشويه الحقيقة ومكابرة الحق، وكثيرا ما يرتبك هؤلاء عندما يواجهون مثل هذه النصوص، فيتكلفون لها تأويلات شتى، كالقول بأنها يراد بها المبالغة في التنفير عن تلك الأعمال، أو أنها أطلق عليها اسم الكفر لأنها من شأن الكفار غالبا، وهي تأويلات لا تتفق مع سياق النصوص، وإنما يلجئهم إليها التقليد الأعمى والتعصب البغيض.
والكفر المعني هنا هو الكفر الذي يخرج بصاحبه من الملة، سواء قلنا إن المعنيين به مشركو العرب أو كفرة أهل الكتاب أو الطائفتان جميعا كما هو الصحيح، لأنهم جميعا يصدق عليهم وصف الكفر المخرج من الملة.
وقال الامام محمد عبده: الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله، أو جحود الكتاب نفسه أو النبي الذي جاء به، وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بلاغا صحيحا، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها؛ فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادا أو تساهلا أو استهزاء، نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن - ثم قال - ولم نسمع أن أحدا من الصحابة - رضي الله عنهم - كفر أحدا بما وراء هذا فما عداه من الأفاعيل والأقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين ولم يصل العلم بأنه منه إلى حد الضرورة - أي لم يكن سنده قطعيا كسند الكتاب - فلا يعد منكره كافرا إلا إذا قصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند إليه فلا يكفر، وإن ضعفت شبهته في الاستناد إليه ما دام صادق النية فيما يعتقد، ولم يستهن بشيء مما ثبت بالقطع وروده عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وقد تجرأ بعض المتأخرين على تكفير من يتأول بعض الظنيات أو يخالف شيئا مما سبق الاجتهاد فيه أو ينكر بعض المسائل الخلافية، فجرأوا الناس على هذا الأمر العظيم حتى صاروا يكفرون من يخالفهم في بعض العادات وإن كانت من البدع المحظورات، ثم هم على عقائد الكافرين وأخلاق المنافقين، ويعملون أعمال المشركين، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين.
وهذا كلام في منتهى النفاسة، فإن التجرؤ على إخراج أحد من الموحدين من حظيرة الملة أمر لا يستهان به، فهو تترتب عليه عواقب سيئة في الدنيا والآخرة، لأنه سبب انفكاك العرى وانحلال الروابط وتقطع الصلات بين الأمة.
ومن ثم نجد أصحابنا - رحمهم الله - لا يكفرون كفر شرك من يصطدم بالنصوص القاطعة إن كان متشبثا بشيء من التأويل، وإن كان في ذاته أو هي من نسج العنكبوت، وإنما يصفون مثله بالنفاق وكفر النعمة.
أما المسائل الاجتهادية فللرأي فيها مجال رحب عندهم، فلا يعنف من قال برأي ما لم يصطدم بنص قاطع ولا يفسق من عمل به.
هذا، وقسم الأستاذ الامام الكافرين إلى أقسام، فقال: منهم من يعرف الحق وينكره عنادا، وهؤلاء هم الأقلون ولا ثبات لهم ولا قوام، وكان منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلبثوا أن انقرضوا - قال - كنت قلت بهذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ، وهي: أن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم، كلاهما قليل في الناس.
ومنهم من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
[الأنفال: 22 - 23]. فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا وأعرضوا واستكبروا، ففي أنفسهم شعور بالحق، ولكنهم يجدون فيه زلزلة كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم. وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق، ويخافون أن لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرا ويتوهمونه معقودا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم.
ومنهم من مرضت نفسه واعتل وجدانه، فلا يذوق للحق لذة، ولا يجد نفسه فيه رغبة، بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده، كالهموم التي غلبت أغلب الناس اليوم على عقولهم ودينهم، وهي ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية أو قضاء شهوة وهمية، فعمي عليهم كل سبيل سوى سبل ما استهلكوا فيه، فإذا عرض عليهم الحق أو ناداهم إليه مناد رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي، ولا يميزون بين ما يدعو إليه وبين ما هم عليه، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير قالوا لا نصدق ولا نكذب حتى ننتهي إلى ذلك المصير، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان، خصوصا في الأمم التي يفشو فيها الجهل وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة ، وتنضب من أنفسهم ينابيع الفضائل، فيصبحون كالبهائم السائمة لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم أو يداعب أوهامهم، ويصح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين.
والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين.
هذا كلامه، وهو مع نفاسته ينبغي أن ينظر فيه، فإن الشواهد قائمة على كثرة أفراد القسم الأول. فاليهود الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم قال الله فيهم:
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون
[البقرة: 146].
وقد ذكرهم الله في كثير من الآيات بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون ما أنزل الله فيما بأيديهم من الكتاب من آيات كاشفة للحق لأجل منفعة مادية زائلة، أو من أجل حسدهم أهل الحق أو بباعث العنت والاستكبار، وقد كانوا يستفتحون بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من العرب الأميين فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ومن فحص أحوال اليهود، وجدهم من أعرف الناس برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقها، وإنما آثروا ما توهموه مصلحة لهم على الايمان فباؤوا بالخسران وهووا في دركات الهوان.
أما مشركو العرب فإنهم وإن كانوا على جاهلية جهلاء وأمية متأصلة فيهم، فقد كانوا يتصفون برقة الشعور ودقة النظر، وقد أوتوا من ملكة البيان ما كانوا به متفوقين على غيرهم، فلم يكن يعزب عن أذهانهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانوا عميا عن إشراق حجته ونصوع دليله.
كيف وقد كان عليه أفضل الصلاة والسلام مشهورا بينهم بالصدق والأمانة لا يختلف في ذلك اثنان منهم، وكان القرآن يصبحهم ويمسيهم بقذائف إعجازه ويدعوهم إلى التحدي والمعارضة بأسلوب يبعث عزائم الخاملين منهم، وقد وقفوا مشدوهين أمام سطوع حججه، وظهور براهينه، ولم تحدثهم نفوسهم العاتية بأن ينزلوا إلى ميدان المعارضة فيحاولوا أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من سوره، وهم الذين لا يصطلى بنارهم في البيان، ولا يجرى في مضمارهم في منثور القول ومنظومه.
على أن كل ما كان يدعو إليه صلى الله عليه وسلم من عقيدة وأعمال وأخلاق، هو نفسه شاهد على صدقه، لأنه نابع من الفطرة الانسانية وملب لضرورات البشر، فلم يكن الباعث على كفرهم إلا العناد والمكابرة، كما ثبت ذلك في أقوال بعض كبرائهم.
أقوال في إعراب " سواء ":
{ وسواء }؛ اسم مصدر بمعنى الاستواء، يخبر به عن المفرد وغيره من غير أن تدخل عليه علامة للتثنية أو الجمع، قال تعالى:
فأنتم فيه سوآء
[الروم: 28]. ويوصف به المفرد وغيره كذلك، فمثال وصف المفرد قوله تعالى:
تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم
[آل عمران: 64]. ومثال وصف الجمع قوله سبحانه:
في أربعة أيام سوآء للسآئلين
[فصلت: 10]، على قراءة من جر سواء.
وكما أن المصدر يحل محل اسم الفاعل لقصد المبالغة، نحو محمد عدل، بمعنى عادل، إذا أردت أن العدل يتمثل في شخصه ويتجسد في حكمه، فكذلك اسمه، ولذلك صح الاخبار بسواء عن المبتدأ.
واختلف علماء العربية والتفسير في إعراب سواء هنا، منهم من أعربه خبرا لإن ورفع به الفاعل المفهوم من { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه، ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف، تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله: { أأنذرتهم أم لم تنذرهم }.
ومنهم من أعربه خبرا مقدما لمبتدأ مؤخر، أي سواء عليهم إنذارك وعدمه، وهو المشهور على الألسنة، وأورد عليه أمور:
أولها: أن الفعل يسند ولا يسند إليه.
ثانيها: أن الاستفهام له صدر الكلام، وهذا الاعراب يبطل ذلك.
ثالثها: أن الهمزة وأم موضوعان لأحد أمرين، ولفظ سواء لا يدل على مفرد، لأنه بمعنى الاستواء وهو يقتضي الاشتراك، ولذلك يقال استوى وجوده وعدمه، ولا يقال أو عدمه.
رابعها: أن تقديمه مع تقديره خبرا يؤدي إلى التباس المبتدأ بالفاعل فلا يصح.
وأجيب عن الأول بأنه من جنس الكلام الذي يهجر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، ومثله شائع عند العرب، كقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإن إجراءه على ظاهره يستلزم عطف الاسم المنصوب على الفعل، بل المفرد على جملة لا محل لها
وعن الثاني والثالث: بأن الهمزة وأم قد جردا هنا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولأجل استوائهما في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بهما حتى قيل إنهما تجوز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، وحاصل هذا الجواب أنهما يدلان على الاشتراك فقط ولا ملاحظة فيهما للاستفهام.
وأجيب عن الرابع: بأن الالتباس إنما يحصل في الخبر الفعلي نحو زيد قام، وإذا لم يمتنع تقديمه وهو صفة صريحة فعدم امتناعه هنا أولي.
واستظهر ابن عاشور أن المبتدأ بعد سواء مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، ومثل لذلك بقول القائل: علمت أزيد قائم، فإن تقديره علمت جواب هذا السؤال، وهذا الاعراب مبين للمعني المراد غير أنه لا يتفق مع أصول الفن. وأجيز جعل سواء مبتدأ واقعا لفاعل سد مسد الخبر، لأن سواء بمعنى مستو فهو كاسم الفاعل، فلذلك أعطى حكمه في رفع الفاعل الساد مسد خبر المبتدأ.
ومهما يكن الاعراب فإن الآية تفيد عدم جدوى الانذار في هؤلاء الناس، فلذلك تساوى مع عدمه.
مهمة الداعي الاصلاح:
وإنما واجب الرسول صلى الله عليه وسلم القيام بما أمر به من الانذار والتبليغ، وليس في مقدوره ولا في مقدور أحد من الناس تمكين الهداية من القلوب، وإنما هو من مقدور الله وحده، وفائدة تبليغ هؤلاء - مع القطع بعدم تقبلهم - إقامة حجة الله عليهم لئلا يقولوا:
ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى
[طه: 134]. وفي ذلك إيماء إلى أن مهمة الداعي محاولة استصلاح الناس وإن أيس من نجاح هذه المحاولة، كما سيأتي إن شاء الله موضحا في موضعه.
وتعدية سواء بعلى للدلالة على التمكن، فقد سبق أن على تفيد الاستعلاء، وهو يقتضي تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ويراد به هنا استواء الانذار وعدمه عند هؤلاء المعنيين.
وقوله { لا يؤمنون } يفيد تقرير ما تقدم، وهو إما تأكيد له، وإما خبر بعد خبر، ولا يصح أن يكون خبر إن، وجملة { سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } اعتراضية وإن جوزه صاحب الكشاف لأن فائدة الاخبار بيان استواء الانذار وعدمه لا إفادة عدم إيمانهم فحسب.
لا يكلف الله إلا بما في وسع المكلفين:
هذا وقد تشبث بهذه الآية كثير من القائلين بجواز التكليف بالمحال ووقوعه، ووجه استدلالهم أن الله سبحانه أخبر عن هؤلاء الكفار بعدم إيمانهم، واستواء الانذار وعدمه عليهم، وهم مع ذلك مخاطبون بالايمان مكلفون به مع عدم جواز تبديل شيء من كلمات الله تعالى، وهو يعني أنهم مطالبون بأن يؤمنوا أنهم لا يؤمنون لاندراج ذلك فيما طولبوا بالايمان به من الكتاب. هذا ملخص ما يقولونه، ولهم في الاستدلال لذلك مسالك متشعبة ووجوه مختلفة، وكأني بهؤلاء يتصاممون عن قوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ، وقوله: { لا يكلف الله نفسا إلا مآ آتاها }.
والآيات الدالة على أن عدم إيمان الكفار ناتج عن عنادهم وإخلادهم إلى الضلالة، وإصرارهم على الباطل، كقوله تعالى:
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا
[الكهف: 55]، وقوله:
وماذا عليهم لو آمنوا
[النساء: 39].
والقول الحق في ذلك أن إخبار الله عز وجل بعدم إيمانهم إنما هو إخبار عما علمه من حالهم، فلا يسقط ذلك تكليفهم بالايمان، ولا يدل على أنهم طولبوا بما هم عاجزون عنه، فإنهم كانوا قادرين على التسليم، وإنما باعدهم عنه ما رسخ في نفوسهم من كراهة الحق، وعداوة أهله.
ويرى العلامة ابن عاشور أن الاختلاف في هذه المسألة ناشئ عن الالتباس الحاصل من مفهوم المحال، فهو يطلق على ما هو محال عقلا، كجمع النقيضين، ومحال عادة، كصعود السماء، وما فيه حرج وإعنات كذبح المرء ولده، ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، وما عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر، كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل ذلك مندرج فيما لا يطاق كما في قوله سبحانه: { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } ، فإن المراد بذلك ما يشق على النفس مشقة عظيمة، وأطلق لفظ المحال على كل واحد من هذه الأقسام حقيقة ومطابقة في بعضها، والتزاما في البعض ومجازا في البعض.
وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الامكان وعلى الامكان للحكمة، وعلى الوقوع، فكان ذلك منشأ الاختلاف الذي ملأ الفضاء حتى جاء من فتح إغلاق الاشكال بمفاتيح التحرير، فتبين أن الجواز الامكاني ثابت لأن يفعل ما يشاء لو شاء، وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عند الطائفتين وإن اختلفتا في تفسير الحكمة، لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع، وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازا ووقوعا، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك، وثبت ما هو أخص وهو رفع الحرج الخارجي عن الحد المتعارف تفضلا من الله تعالى لقوله:
وما جعل عليكم في الدين من حرج
[الحج: 78]، وقوله:
علم أن لن تحصوه فتاب عليكم
[المزمل: 20]، أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في الأحكام. انتهى المراد من كلامه بتصرف.
ولا يماري عاقل في أن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأن جميع أفعاله عدل لا يوصف شيء منها بالظلم والجور، ولكنه سبحانه أخبرنا بعدم تكليفه إلا بما في وسع المكلفين، فليس لنا أن نتجاوز عن ذلك فنصفه بما يخالفه.
ومن المعلوم أن الله هدى كل أحد السبيل وفتح لكل من شاء أبواب الرشاد، فانحراف الانسان إلى مسالك الغواية ليس بسبب حيلولة القدر بينه وبين الرشد، وإنما هو باستحباب نفسه، كما أخبر الله عن ثمود بقوله:
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت: 17]، والله يعلم ما اشتملت عليه طوايا الأنفس وحنايا الضمائر، فلا غرو في إخباره عمن أخبر عنه بعدم الايمان مع دعوته إليه، إذ الخبر إنما هو عما علمه الله من هوى نفسه وميلولة رغبته.
وبهذا يندفع الاعتراض الذي تصوره الامام ابن عاشور في دعوة أمثال هؤلاء إلى الحق مع العلم بعدم استجابتهم، ولا داعي إلى ما أجاب به من أن الرسول صلى الله عليه لم يقصد أحدا بعينه من هؤلاء الذين ماتوا مصرين على الكفر فيخصه بالدعوة إلى الايمان كما صنع مع عمر بن الخطاب حين جاءه، إذ قال له: أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول: لا إله إلا الله؟ وكما صنع مع غيره ممن أسلم.
وكلامه هذا دعوى لم تنهض بها حجة، ومن أين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدا بعينه ممن لم يسلموا إلى الاسلام، مع قوله تعالى:
لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم فهم غافلون..
[يس: 6] إلى قوله:
..لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون
[يس: 7].
ودعوته صلى الله عليه وسلم لم تختلف عن دعوات النبيين من قبله في حيثية الاتجاه بها إلى جميع من أرسل إليهم، سواء من وفق لقبولها منهم ومن لم يوفق، وقد أرسل الله موسى وهارون - عليهما السلام - برسالة الحق إلى فرعون الكافر العنيد، الذي سبق في علم الله أنه سيموت على كفره وضلاله، وأمرهما أن يقولا له قولا لينا، وبين هذا القول اللين قوله تعالى:
فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى
[النازعات: 18 - 19].
وهكذا كانت رسالات جميع المرسلين إلى أقوامهم كما هو واضح لمن تدبر القرآن، وليت شعري ما هو الفارق بين دعوة الأعيان ودعوة المجموعة، على أن الدعوة هي تكليف إلهي للرسل يجب عليهم القيام بها مع غض النظر عما يكون من عاقبة أمرها.
ولأجل ذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحط عن صدره أثقال الهموم التي كان ينوء بها بسبب ما كان يلقاه من قومه من صدود، وقال له تعالى:
إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب
[الرعد: 40].
هذا وقد شدد الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده النكير على القائلين بالتكليف بالمحال، وذكر أن الصحابة - رضي الله عنهم - ما كان ذلك يخطر على بال أحد منهم، ثم قال: إن الاتفاق واقع بين الأئمة، بل بين الأمة على أن التكليف بالمحال غير واقع وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما صرح به الكتاب وتضافرت عليه الأحاديث النبوية.
وقس كلامه هذا إلى ما قاله الفخر الرازي من أن القول بجوازه هو قول أهل السنة، والقول بعدم جوازه هو قول المعتزلة.
[2.7]
تمكن الضلال من نفوس الكافرين:
حال هؤلاء الذين كفروا تدعو إلى الاستغراب وتبعث الحيرة في نفوس السامعين، ما بالهم لا يؤمنون، وقد توفرت دواعي الايمان، فهو سبب سلامة الدنيا وسعادة العقبى، وقد برزت معالمه ووضحت مسالكه، وتبرأ من كل أسباب الشك ودواعي اللبس، ليس فيه ما لا تستسيغه العقول المبصرة وتميل إليه الطبائع السليمة، فإذا طرق مسامع الناس ما تقدم في الآية السابقة من استواء الانذار وعدمه عليهم، حاروا من ذلك ولم يدركوا السبب الذي أدى بهم إلى هذه الحالة، حيث استولى الضلال على عقولهم وهيمن العناد على نفوسهم، فلذلك عقبت تلك الآية بهذه ليكون ما فيها كالتعليل لما تقدم، فهي مع تقريرها لسابقتها كاشفة عن علة ما فيها، ولا ينافي ذلك ما قيل إن جملة ختم الله على قلوبهم استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون.
ومن ناحية أخرى هي مقابلة لجملة { أولئك على هدى من ربهم } ، فتلك مشعرة بتمكن المؤمنين من الهدى والثناء عليهم بارتقائهم في درجاته، وهذه مشعرة بتمكن الضلال من نفوس الكافرين وإحاطته بها حتى لم يعد للحق سبيل إليها، كما أنها مشعرة بذمهم على انحطاطهم في دركات الضلال.
والختم والكتم أخوان، كما قال الزمخشري، لأن تقاربهما اللفظي يشعر بالتقائهما في المعنى، وحقيقته في المحسوسات كالختم على الاناء بمعنى سده، والختم على الكتاب بوضع علامة - مرسومة في خاتم - عليه ليمنع ذلك من فتحه.
واختلف في المراد بالختم هنا:
فذهبت طائفة من مفسري السلف إلى أن الختم واقع حقيقة على القلوب، ومن ذلك ما رواه ابن جرير عن الأعمش، قال: أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بإصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى، فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى - هكذا حتى ضم أصابعه كلها، قال: ثم يطبع عليه بطابع. قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرين.
واختار هذا القول ابن جرير والقرطبي، وعضداه بما رواه الترمذي - وصححه - والنسائي وابن ماجة وابن جرير نفسه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن المذنب إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يغلف قلبه وذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [المطففين: 14] ".
ووجه الاستدلال بالحديث أنه يفيد أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للايمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص.
وعضده القرطبي أيضا بما رواه مسلم عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا
" أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة "
، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال:
" ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله - فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا ".
وعضده كذلك بحديث حذيفة عند البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه.. "
" الحديث ".
وذهب أكثر مفسري الخلف إلى أن ذلك من باب المجاز، فإن عدم وعي القلوب للحق ونبوها عن قبوله جعلها كأنها مختوم عليها بسداد يحول بينها وبين وصول الحق إليها، ويقال مثال ذلك في ختم الأسماع، ومثله في تغشية الأبصار، وإيضاح ذلك، أن يصور رفض عقولهم لما أنزل الله من هدى - بسبب كفرهم بالله الذي ملأ تفكيرهم وسيطر على نفوسهم ومج أسماعهم لأصوات الحق - في صورة الاستيثاق بالختم، ويصور إعراضهم عن النظر في آيات الله الدالة على وحدانيته، في صورة تغشية الأبصار بغشاوة حائلة بينها وبين الإبصار، فيكون المجاز استعاريا ويصح أن يكون من باب المجاز التمثيلي، بأن تشبه هيئة منتزعة من تصميمهم على الكفر، وإعراضهم عن داعي الحق الصادع بقواطع البراهين، بهيئة الختم المنتزعة من فعله وفاعله، وهو الخاتم، والواقع عليه الفعل، وهو المختوم عليه، وتشبه حالة أبصارهم في عدم تأمل دلائل وحدانية الله وصدق رسوله بهيئة الغشاوة، ويجوز أيضا أن يكون من باب المجاز الارسالي، فإن لازم الختم والغشاوة عدم العقل والحس، فيراد هذا اللازم بذكر ملزومه وأنكر أصحاب هذا القول على أصحاب القول الأول ووصفوهم بالظاهرية، وقد ظهر لي بعد إمعان النظر في القولين أن الثاني هو الراجح، فإن اقتران القلوب بالأسماع، واشتراكهما في الختم، وذكر غشاوة الأبصار من بعد، قرائن كافية لصرف لفظ الختم عن حقيقته إلى مجازه، فإن الأسماع يتعذر أن يكون ختمها حقيقيا، فإذا حمل ختم القلوب على الحقيقة، كان ذلك من باب حمل اللفظ على حقيقته ومجازه في إطلاق واحد، وذلك ما لا يصح، على أن ختم الأسماع لو كان حقيقيا ما وصل إلى مسامعهم صوت، وكذلك يتعذر حمل الغشاوة التي في الإبصار على معناها الحقيقي، إذ لا غشاوة حسية تشاهد، ولو أن عليها غشاوة حسية لامتنع عليها الابصار رأسا، وذلك لا ينافي أن تتأثر القلوب تأثرا محسوسا بمعصية الله، كما يقيده ظاهر حديث أبي هريرة، وحديثي حذيفة - رضي الله عنهما - على انني أميل إلى أن المراد من هذه الأحاديث تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يعرو القلوب بسبب المعصية من الانقباض عن الحق، واستثقاله والانبساط للباطل، والارتياح له، في صورة الأمر المحسوس تيسيرا للأفهام، وتقريبا للأذهان، كما هو شأنه صلى الله عليه وسلم في غالب كلامه.
والغشاوة ما يغشى العين من موانع الابصار، كما قال الشاعر:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة
فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
وأصلها بمعنى الغطاء، وإنما قصرت الغشاوة على الأبصار، وألحقت الأسماع بالقلوب في الختم ليتفق ما في هذه الآية مع ما في قوله تعالى:
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة
[الجاثية: 23]، ولأن الغشاوة أنسب بالأبصار، والختم بالقلوب والأسماع، لأن الختم من شأنه أن يكون على المستور المكنون، وهكذا موضع حس السمع، وموضع إدراك العقل، أما حاسة البصر فهي منكشفة ظاهرة، فلذلك كانت الغشاوة هي المناسبة لها.
هذا، وما أصاب هؤلاء من الختم على قلوبهم، وعلى أسماعهم، وغشاوة أبصارهم، ليس إلا نتيجة إصرارهم على الكفر، وإخلادهم إلى الضلال، كما يدل عليه قوله سبحانه:
فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبيآء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
[النساء: 155]، وقوله:
ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم
[المنافقون: 3].
وهذا لأن الاسترسال في العصيان، والاستسلام لمطالب الشيطان، يؤديان إلى الهبوط في دركات المعاصي، وحضيض الضلال، حتى يحرم صاحب ذلك من عناية الله التي تفك عنه أغلال الغواية، وتخلصه من حبائل الهوى.
ومهما يكن المراد بالختم في الآية، فإن إسناده إلى الله حقيقي، لأن القلوب كسائر مخلوقاته واقعة في قبضته، يصرفها كما يشاء، وما الهداية إلا محض فضل منه، كما أن الخذلان ليس هو إلا عدلا منه سبحانه
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
[الأنبياء: 23].
الافراط والتفريط في نسبة الأفعال:
وبهذا تعلم أن معصية العبد لربه لها صلة بقدرة الله وإرادته، فهو سبحانه الخالق لها عندما تتجه إرادة العبد إلى اكتسابها، ومثل ذلك يقال في طاعته، وهذه مسألة اضطربت فيها الأفهام، وكثر فيها الجدل منذ القرن الأول الهجري، وقد ضلت فيها طائفتان؛ طائفة تطاولت على الله عز وجل، فادعت اشتراكها معه في الايجاد، ويمثل هذه الطائفة المعتزلة، أصحاب واصل بن عطاء، الذين نفوا تعلق قدرة الله وإرادته بأفعال العبد، وزعموا أن العبد يستقل استقلالا تاما بخلق أفعاله. وطائفة ما قدرت الله حق قدره، إذ نسبت إليه معاصي العباد، وزعمت أن العبد ليست له إرادة فيما يفعل، وإنما هو مصرف في ذلك تصريفا إجباريا كالخيط في الهواء الذي تحركه الرياح، ويمثل هذه الطائفة الجبرية، أصحاب جهم ابن صفوان، وإذا كانت الطائفة الأولى فرطت في نسبة القدر والمقدور إلى الله حتى سلبته تعالى الارادة والقدرة في أفعال العباد، فإن هذه الطائفة أفرطت في نسبة ما يصدر من العبد إليه عز وجل، حتى زعمت أنه يجبر العباد على المعاصي التي يرتكبونها ثم يعاقبهم عليها، وليس قولهم هذا إلا صريحا في نسبة الظلم إليه تعالى، والقضية مزلة للأقدام، ومزلقة للأفهام، فيجب على من رام الهدى والسلامة أن يتبصر فيها، ولا ينسب إلى الله ما هو برريء منه، ولا يسلبه ما هو حقيق به، والقول الفصل الذي هدى الله إليه أهل البصائر فاعتقدوه دينا، هو أن الفعل تتعلق به قدرتان وإرادتان؛ قدرة العبد وإرادته، وهما متعلقتان بكسبه ولا تستقلان بإيجاده، وقدرة الله وإرادته وهما اللتان تهيئان أسباب الكسب للعبد، وتخلقان له الفعل عندما يريد اكتسابه، سواء كان حقا أو باطلا، من غير إكراه للعبد عليه، وبهذا ندرك أن الله لا يعصى مكرها، ولا يؤاخذ العباد بما لم يجعل لهم محيصا عنه، ولا مخلصا منه، وبهذا يجمع بين الآيات التي قد يحسبها الغبي متناقضة بسبب قلة تدبره وسوء فهمه، فكل ما دل على نسبة أفعال العباد إلى الله، فهو يعني به خلق هذه الأفعال، وكل ما دل على إسناده إلى العباد فيقصد به الكسب دون الخلق، وثواب الله وعقابه متعلقهما كسب العباد، كما قال عز من قائل:
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
[البقرة: 286]، وقد علم الله تعالى في الأزل ما سيختاره كل أحد من أعمال الخير والشر، فكان قدره تعالى في ذلك بحسب ما سبق من علمه، وقد أمر سبحانه بالخير، ونهى عن الشر، وأثنى على من عمل خيرا، وذم من عمل سوءا، وذلك لأنه سبحانه وهب الجميع القدرة على الأمرين، فكان الثناء والذم على اختيار الناس بأنفسهم، ولا شك أنها مسألة دقيقة، ولذلك كان جل الذين بحثوها لم يرووا ببحثهم غليلا، ولم يشفوا علة، بل كثيرا ما أدت بحوثهم إلى التعقيد، وقد تردد بعض العلماء بين المذهبين، مذهب الجبر ومذهب القدر، ولم يستقر رأيه على أحدهما، ومن هؤلاء الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب، فبعد أن أتى بأدلة الطائفتين صرح أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله، وعلو كبريائه، وإنما وقع نظر فريق منهم على العظمة، ونظر فريق آخر إلى الحكمة، وروي مثل هذا القول عن أبي القاسم الأنصاري، ولم ير الفخر القطع بما تفيده الأدلة السمعية في المسألة بناء على أصله أن الدلالة السمعية لا تتجاوز الظن إلى القطع، ولم ير كذلك القطع بمفاد الأدلة العقلية، نظرا إلى ما توهمه من التعارض بينها، والأدلة إذا تعارضت تساقطت.
وبما أن المعتزلة ومن حذا حذوهم يفرون من نسبة إيجاد أفعال العباد إلى الله، هاموا في مثل هذه الآية وسلكوا طرائق قددا في تأويلها، كما ترى ذلك في الكشاف وغيره مما دبجته أقلامهم، فقالوا تارة إن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله حتى صارت المعصية مألوفة لهم، كانوا كأنما طبعوا عليها، فأشبهت حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه، فلذلك أضيف إلى الله تعالى ما حل بهم، لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي، وتارة قالوا إن الشيطان هو الخاتم في الحقيقة، أو الكافر نفسه، وإنما إسناد ذلك إلى الله لأن إقدار الشيطان والكافر منه عز وجل، وقالوا تارة أخرى إنه لما اتفق أن يكون كفرهم عند ورود دلائل الله عليهم، كان ورود هذه الدلائل كالسبب لما حصل منهم من الكفر، فلذلك أسند إليه تعالى الختم المذكور، وذلك على غرار قوله سبحانه:
وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم
[التوبة: 125]، ومرة قالوا إن القوم لما بلغوا من الكفر مبلغا لا يمكن معه إيمانهم إلا بالقسر والالجاء من الله، ولما لم يفعل ذلك بهم ناسب ذلك إسناد الختم إليه عز وجل، إلى غير ذلك من التأويلات المتشابهة في التكلف والهروب من الحقيقة، ولعمري لو أنصفوا لرأوا الحق جليا، ولما أدى بهم اللجاج إلى الهروب من الواضح إلى المشكل، ومن الحقيقة إلى الوهم، ومن الصواب إلى الخطأ، ولسنا نشك في كونهم أرادوا تنزيه الله تعالى من نسبة المعاصي إليه، ولكنهم وقعوا فيما هو أعظم منها، وهو نسبة العجز إليه سبحانه، إذ لو كانت المعصية الصادرة من العبد وقعت على كره منه تعالى، لما كان لذلك تفسير، إلا أنه تعالى يحدث في ملكه ما ليس من مقدوره ضده، وبالجملة فإن علينا أن نتقيد في ذلك بدلائل النص، وأن لا نطلق لأنفسنا عنان الفكر الشارد الذي كثيرا ما يهوي بصاحبه في مهاوي الأوهام، وللعقل البشري حدود مرسومة، لو حاول تجاوزها تردى في المخاطر والعياذ بالله، وهذه المسألة ترتبط بقاعدتين اعتزاليتين؛ أولاهما: تحكيم العقل، فإن المعتزلة يبنون معتقداتهم وسائر آرائهم على العقل، ويرون الشرع لا يكون إلا مؤكدا للعقل أو مبينا له، وإذا تصادما وجب الاستمساك بالعقل لأنه الأصل.
ثانيتهما: وجوب مراعاة الأصلحية والصلاحية على الله، ومن تأمل هذه الأصول الثلاثة التي هي أمهات الاعتزال، رآها لا ينفك بعضها عن بعض، فالقول بنفي خلق الأفعال عن الله فيه التفات إلى كل واحد من الأصلين الآخرين، فهو من ناحية ناشئ عن كون العقل يستقبح أن يخلق الله للعبد ما يعذبه به، وبما أن ذلك مستقبح عقلا فهو غير سائغ فعلا.
ومن ناحية أخرى فإن ذلك يتنافى مع ما يتبادر من مصلحة العباد، ويجب على الله - في زعمهم - أن لا يفعل إلا ما فيه مصلحتهم، وسيأتي إن شاء الله بحث كل واحد من هذه الأصول بما فيه مقنع لمن وفقه الله للهدى.
وبالجملة فإن إسناد الختم إلى الله حقيقي ولا داعي إلى تكلف الاجابات المتنوعة التي جاء بها الزمخشري، إذ لا يصار إلى المجاز إلا مع تعذر الحقيقة، والشواهد قائمة - بحمد الله - على أن الحقيقة هنا مقصودة.
والمراد بالقلب هنا العقل، فإن العرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية المعروفة في الجسم بهذا الاسم، وتطلقه على العقل والادراك، ومن هذا الاطلاق قوله عز وجل:
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق: 37].
وهذا الاطلاق ناشئ عما بين العقل والقلب من الترابط، فإن العقل وإن كان سلطانه في الدماغ أو هو نفسه في الدماغ، كما يرى المتأخرون، فإن للقلب تأثيرا عليه لأنه مصدر الانفعالات، ومنبع العواطف ومحل الوجدان باتفاق الجميع، ولكل ذلك تأثير على العقل ولا يبعد أن يكون للقلب أثر في تكوين الفكر في الدماغ.
وسمي بهذا الاسم لما يطرأ عليه من التقلب، وهو ما يشير إليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "
، وما هو إلا كناية عن تصريف الله تعالى له بحكمته ولطفه. ومن ثم قال الشاعر:
ما سمي القلب إلا من تقلبه
فاحذر على القلب من قلب وتحويل
والسمع: مصدر سمع، ويطلق على القوة المدركة للأصوات المودعة في الجارحة، ويطلق على نفس الجارحة وهي الأذن.
والبصر: هو القوة المدركة للصور، ويطلق على الجارحة التي يحل فيها، كما يطلق على الابصار فيكون اسم مصدر.
واختلف في إفراد السمع مع جمع القلوب والأبصار، فقيل: هو لأجل لمح أصله وهو المصدر، فإن من شأن المصادر أن لا تثنى ولا تجمع، ومن ثم جمع عندما أبدل لفظه بالأذن كما في قوله تعالى:
يجعلون أصابعهم في آذانهم
[البقرة: 19]، وقوله:
وفي آذانهم وقرا
[الأنعام: 25]، أما القلوب فهي متعددة.
والأبصار جمع بصر ، وهو اسم وليس بمصدر، وقيل هو على تقدير محذوف نحو وعلى حواس سمعهم أو على جوارح سمعهم، وهذا ضعيف، فإن التقدير لا يصار إليه إلا مع الضرورة، والمعنى هنا تام بدون مقدر.
وقيل إن في إفراد السمع لطيفة من لطائف التعبير القرآني، وهي جديرة بأن تعد من مزاياه التي لا يرقى إليها سائر الكلام، فإن السمع مصدر من مصادر العلم والناس متساوون فيه، فإن تلقي المعلومات السمعية لا يختلف فيه سامع عن سامع، فهو بمثابة الينبوع الواحد المتدفق بما يعم جميع الواردين.
أما القلوب فهي تتفاوت في استقبالها المعلومات بتفاوت استعدادها واشتغالها بما تتلقاه، وبتفاوت ما يلمح لها من الأدلة والبراهين، واختلاف ما يرد عليها من الأفكار، قلة وكثرة، وكذلك الأبصار متفاوتة في مشاهدة المبصرات التي توحي إلى النفس أنواعا من العلوم، فلكل بصر حظه من النظر في آيات الله في الأنفس وفي الآفاق الشاهدة بوحدانيته، واتصافه بكل كمال ذاتي والدالة على صدق رسله فيما يدعون إليه الناس، ولذا كان الأنسب بالقلوب والأبصار الجمع، وبالسمع الإفراد، وأجيز بأن يكون الإفراد هنا لأمن اللبس، كما في قول الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
فإن زمانكم زمن خمص
وقول الآخر:
كأنه وجه تركيين قد غضبا
مستهدف لطعان غير تذبيب
وهو شائع في الشعر العربي، ولكني لا أرى تخريج ما في القرآن عليه لسمو القرآن عن درجات الشعر.
وإذا كان النثر البليغ يستعصي أحيانا تخريجه على ما يباح في الأشعار، فما بالك بكلام الله تعالى الذي لا يعدل فيه عن لفظة إلى أخرى إلا وفي طي هذا العدول معنى بليغ يشار به إليه.
وبعد أن بين سبحانه حال هؤلاء، في الدار الدنيا بأنهم لا يهتدون سبيلا ولا يسمعون للحق قيلا، لما على قلوبهم وسمعهم من الختم، وعلى أبصارهم من الغشاوة، أتبعه ببيان مآلهم في الدار الآخرة، بما يوعدهم به من العذاب العظيم، هذا إن قلنا إن العذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة، وهو المتبادر، وأجاز بعض المفسرين أن يقصد به إما عذاب النار في الآخرة، وإما عذاب القتل والسغب في الدنيا.
والعذاب كالنكال لفظا ومعنى مأخوذ من أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما يقال فيه نكل عنه.
أو من قولهم عذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب، وبناء على ذلك فالتعذيب أصله حمل الانسان على أن يعذب أي يجوع ويسهر.
وقيل: هو مأخوذ من العذب والعذوبة، وعليه فمعنى التعذيب إزالة عذوبة حياة المعذب، كما يقال مرضته أي أزلت مرضه، وقذيته أي أزلت قذاه.
وقيل: أصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط، أي طرفه، وبناء على ما تقدم فالعذاب رديف النكال ويراد بهما العقاب.
وقيل: إن العذاب أعم منهما، فهو يشمل ما يلم بالنفس أو الجسم من الألم سواء كان رادعا عن العصيان أم غير رادع.
أما النكال والعقاب، فلا يكادان يطلقان إلا على ما يردع.
والعظيم قيل هو كالكبير، وقيل فوقه لأنه يقابله الحقير، ويقابل الكبير الصغير، والحقير أدنى من الصغير، فيلزم أن يكون العظيم أعلى من الكبير.
واستشكل ذلك مع قوله تعالى في الحديث القدسي:
" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري "
حيث جعل تعالى الكبرياء في مقام الرداء والعظمة في مقام الازار، مع أن الرداء أرفع من الازار، ويترتب عليه كون الكبرياء أرفع من العظمة، ويندرىء هذا الاشكال باعتبار أن المراد من هذا الحديث القدسي بيان اختصاص الله تعالى بالكبرياء والعظمة، كاختصاص أحدنا بردائه وإزاره، وليس المراد منه بيان التفاضل بين الصفتين، ولو قلنا بالتفاضل لاعتبرنا ما كان في محل الازار أكثر اختصاصا لأن ملابسة الازار لصاحبه أكثر من ملابسة الرداء عادة، ويغنيك هذا الجواب عما ساقه الألوسي من الأجوبة كقوله بأن ما ذكر خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى، أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس، أو أنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان إذا ما قيسوا إلى عارفيه بعنوان الكبرياء: فلقلة أولئك كانت إزارا، ولكثرة هؤلاء كانت رداء، ولا يخلو جواب مما ذكره من التكلف والتعسف الظاهرين، ولا يستند شيء منها إلى دليل عقلي أو نقلي.
والعظمة تكون حسية، وذلك إذا وصفت بها الأجسام، ومعنوية إذا وصفت بها الأسماء الدالة على المعاني.
وتنكير عذاب للدلالة على أنه نوع غريب من أنواع جنسه، وذهب بعضهم إلى أن التنكير للتعظيم، وما وليه من وصفه بأنه عظيم إنما هو لتأكيد هذا التعظيم المستفاد من التنكير، ورده الامام ابن عاشور بأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية والدلائل غير الوضعية يستغنى عنها مع وجود ما يدل على المراد وضعا.
[2.8]
ذكر صفات المنافقين:
بعدما ذكر الله تعالى فريق الكفار المصارحين بما تنطوي عليه نفوسهم من الضلال وما تغلي به صدورهم من عداوة الحق وأهله، عطف على قصتهم قصة فريق آخر، لا يقل عن ذلك الفريق خطورة على الاسلام وأهله، بل هو أشد منه خطرا، وأبلغ منه ضررا - كما سيأتي بيانه - وهو فريق يرتدي أردية الاسلام ليغطي بها خفايا الكفر وبواطن الضلال، وهذه الصفة سميت في العرف الشرعي بالنفاق.
وقصة المنافقين هنا جاءت في جمل متتابعة منتظمة في سلك من الآي، معطوفة على ما سبق وقد كان هذا العطف مثار اهتمام الباحثين من المفسرين وغيرهم، وقد ظل أكثرهم يتخبط في قيود الاشكال حتى جاء من أزاح الستار عن وجهه وكشف ما خفي من حقيقته، وهو العلامة جار الله الزمخشري، في تفسيره المشهور " الكشاف " فقد بين فيه أنه عطف قصة على قصة أخرى وكل واحدة من القصتين تحتوي على مجموعة من الجمل، وبهذا تندفع الحاجة إلى مناسبة للعطف كالتي تكون بين الجملتين إن عطفت إحداهما على الأخرى، وإنما يكفي في مثل هذا الموضع التناسب بين الغرضين من القصتين دون احاد الجمل الواقعة فيهما.
ولم تفصل هذه القصة عما قبلها كما في قوله تعالى: { إن الذين كفروا.. } (الآية)، لأن الفصل هناك لأجل تطلع السامعين بعد ذكر فريق المؤمنين إلى خبر ذلك الفريق الآخر الذي ظاهر قوله عقيدته الضالة الفاسدة، فكان السامع كالسائل عنه، فجاء الفصل لاستئناف بيانه.
أما هذا الفريق فلالتوائه في معاملته وستره قبائح طواياه بمحاسن ظاهره، كان أغمض حالا وأندر وصفا، وأغرب تصورا، بحيث لا يخطر بالبال وجود مثله، فلم يكن داع إلى استئناف بيانه لأن السامعين - لفراغ بالهم منه - لم يكونوا يتطلعون إلى خبره، ومن ثم كان هذا العطف.
وقبل الكلام عن تفاصيل ما تحتويه الآية الكريمة جملة وإفرادا أرى من المناسب أن أذكر النفاق ومدلوله اللغوي والعرفي.
مدلول النفاق ومعناه:
أما لغة: فهو من نفق اليربوع تنفيقا، ونافق نفاقا إذا دخل في نافقائه، وذلك أن لبيت اليربوع بابين؛ ظاهرا وخفيا، فإذا أراد أحد اصطياده وترصد له في بابه الظاهر، خرج من بابه الخفي، وفات المصطاد. ويسمى الظاهر قاصعاء، والخفي نافقاء. ويقال إذا خرج من النافقاء نفق - بكسر الفاء وفتحها - وانتفق ونفق.
وأما اصطلاحا فهو الدخول في الاسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر، وهو بهذا المعنى اسم جديد جاء به القرآن ولم تكن العرب تعرفه في جاهليتها، وهو مأخوذ من المعنى اللغوي المتقدم.
فإن المنافق بصنيعه هذا يشبه اليربوع في مخادعته لمن يحاول اصطياده بدخوله من باب ظاهر وخروجه من باب خفي.
وكما يطلق النفاق شرعا على مخالفة العقيدة للقول، يطلق كذلك على عدم التزام واجبات الاسلام العملية، والتلبس بالأعمال والأخلاق المنافية لصفاء الدين وطهارته، والدلائل على ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال صحابته - رضي الله عنهم - كثيرة يشد بعضها بعضا، منها ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا أئتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر "
، وفي رواية للنسائي:
" إذا وعد أخلف "
بدلا من " إذا ائتمن خان "
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر "
وفي رواية مسلم :
" وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم "
بعد قوله " آية المنافق ثلاث ". وفي رواية لهما وللترمذي والنسائي مثل ما تقدم ولكن بإبدال
" إذا ائتمن خان "
من قوله " إذا عاهد غدر ". وأخرج النسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:
" ثلاث من كن فيه فهو منافق؛ إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف فمن كانت فيه واحدة منهن لم تزل فيه خصلة من النفاق حتى يتركها ".
وأخرج البخاري عن زيد بن عبدالله بن عمر قال: قال ناس لابن عمر: إنا لندخل إلى سلطاننا وأمرائنا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نص في أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يعدون مخالفة الحق في العمل من النفاق، وهذا هو قول أصحابنا - رحمهم الله - وهو الذي اعتمده الحافظ بن حجر في شرحه لأحاديث النفاق من صحيح البخاري، وعزاه كل من ابن حجر والعيني في شرحيهما على البخاري إلى القرطبي، وعزاه العيني إلى الخطابي ونسبه الترمذي في جامعه إلى أهل العلم.
قسما النفاق:
وبهذا يتبين لك أن النفاق ينقسم إلى: نفاق عقيدة، ونفاق عمل.
وبما أن كثيرا من علماء المذاهب ينكرون نفاق العمل ولا يرون النفاق إلا في إبطان خلاف الظاهر من الاعتقاد، أشكلت عليهم هذه الأحاديث، وجرهم ذلك إلى تأويلها بما يتفق مع رأيهم، وإن خالف ظاهر مدلولها. والحق أن الكتاب والسنة فوق الآراء والمذاهب، فيجب أن تخضع لهما الآراء دون العكس، وليس في نسبة ثلاث خصال أو أربع إلى النفاق ما يمنع من كون النفاق العملي ينسحب حكمه على كل ما خالف الدين من الأعمال، فإن ذكر هذه الخصال لا يقتضي الحصر، وإنما هو من باب التمثيل والتقريب للأذهان، ومما هو ظاهر بداهة أن التمثيل بها دال على خطورتها، ومقتض للتحذير منها والعدد هنا ليس له مفهوم.
والنوع الأول من النفاق هو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلى المدينة، ولم يكن في عهد الدعوة المكي وجود للمنافقين، إذ لم يكن ثم مناخ ملائم لنبت النفاق، فقد كان السلطان بأيدي المشركين وكان المسلمون معرضين للأذى من قبلهم، فلم يكن داع لأن يتملق أحد إلى المسلمين بإعلان الاسلام مع استسرار ضده كما ألمحت إلى ذلك في مقدمة تفسير هذه السورة.
وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتلبس دار الهجرة بادىء الأمر بالنفاق، إذ كان الناس فيها بين مؤمن صادق الايمان، وكافر يجاهر بكفره، سواء كان يهوديا أو وثنيا، حتى تحقق للاسلام النصر المؤزر في غزوة بدر الكبرى التي كانت إيذانا بظهور الحق واكتساحه الباطل، فرجفت القلوب المريضة ممن تخلف عن ركب الايمان من الأوس والخزرج وأحلافهم من اليهود، وكان بنو قينقاع أحلاف الخزرج، وبنو قريظة والنضير أحلاف الأوس.
واليهود من طبعهم الحقد الأسود، والكراهة المتأصلة للحق والعداء المستحكم لأهله، وقد شعروا أن دعوة الحق التي اتخذت من المدينة مركزا لها سوف تبتز منهم سلطانهم الروحي وسوف تكشف ما كانوا يطوونه عن الناس من قبائح صنعهم عبر تاريخهم الطويل، كقتلهم الأنبياء بغير حق وافترائهم على الله بتحريف ما أنزل، فكان ذلك الشعور نارا حامية تتأجج بين جوانحهم فتلهب صدورهم بإوار الحسد للدعوة ورجالها.
ومن بين أفراد الأوس والخزرج من كان لم ترق له هذه الدعوة، كعبد الله بن أبي ابن سلول، الذي فكر أن الايمان والهجرة قد اختطفا من يديه أعز ما كان يطمح إليه؛ وهو تتويجه ملكا على يثرب بعد التناحر الطويل بين قبيلتيها، وكان ذلك على وشك أن يتم لولا إكرام الله المدينة ومن فيها بإبدالهم ما فيه عز الدنيا وسعادة الآخرة، وهو إشراق أنوار النبوة في ربوعها، وتحول أهلها من الضلالة إلى الهدى، ومن التشتت إلى الوئام، فلا عجب إذا وقف عبدالله بن أبي موقف الخصم اللدود من هذه الدعوة لهذا السبب، مع ما كان متلبسا به من خبث الطوية وانحراف الطبع وفساد الفطرة، وعندما هزت أصداء الانتصار الحاسم الذي أحرزه الاسلام في غزوة بدر أركان المشركين والمفسدين، أخذ يحسب يهود المدينة والذين بقوا على الكفر من الأوس والخزرج ألف حساب لمستقبل هذا الدين، فدلتهم خسة طباعهم على إظهار - هذه المجموعة المتخلفة عن الايمان من الأوس والخزرج مع ثلة من اليهود - الاسلام بألسنتهم مع بقائهم على عقيدة الكفر وشرور الأعمال وخبث النوايا، وكانوا يهدفون من ذلك إلى أمرين:
أولهما: الأمن على أنفسهم وأموالهم من سطوة الاسلام مع ما في ذلك من مشاركة المسلمين في منافع الحياة الدنيا.
ثانيهما: انتهاز الفرص المواتية لطعن الاسلام من الخلف وإثارة الاضطراب بين المسلمين من الداخل.
فتم بهذا ميلاد عهد المواجهة بين الاسلام وعدو ماكر خبيث يرتدي ملابس الأصدقاء، ذلكم العدو هو النفاق الذي كان يعد أخطر من الكفر الصريح، غير أن الوحي كان واقفا لهؤلاء المنافقين بالمرصاد، فكان ينزل بين حين وآخر ببيانه البليغ ليفضح طواياهم، ويعري دخائلهم، ويكشف مؤامراتهم.
وبما أن هذه الطائفة جمعت بين الكفر بالله الذي أخلدت إليه في سريرتها وبين الهزء بالمؤمنين، ومعاملتهم بالكذب والخداع كانت بحق أشد وأنكى وأدهى وأمر من الطائفة السالفة الذكر وهي طائفة الكفار، ولذلك خصت تلك بآيتين فقط، بينما تتابعت في هذه إحدى عشرة آية تصمهم بقوارع إنكارها، وتمطرهم بصيب وعيدها.
ومما يجب أن لا يعزب عن فهم اللبيب أن هذه الطائفة لم تنته بانتهاء عهد النبوة، ولم تنعدم بانعدام أولئك الأفراد، فما أكثر المنافقين في عصور ما بعد النبوة الذين يتمسحون بالدين لقصد نقض عراه، ودك قواعده، ومن بين هؤلاء من يخدع الناس بمظهر عنايته بالدين.
فيجب على المسلمين أن يكونوا من أمثالهم على بصيرة، وكفى بالقرآن كاشفا عن سماتهم التي يتميزون بها وأحوالهم التي يختصون بها دون غيرهم.
ولعمري ليست هذه العناية البالغة بهتك أستار المنافقين وإعلان أسرارهم على الملأ لأجل حفنة منهم كانت تندس بين صفوف الاسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي لأجل تنبيه الأمة بمخاطر أعقابهم الذين لا يخلو منهم عصر ولا يسلم منهم جيل.
وأكثر المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معروفين بأعيانهم، وإنما يهتدى إليهم بهذه السمات الخاصة بهم، خلافا لمن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيط بجميعهم علما، فإننا إذا تصفحنا آيات القرآن وجدنا ما يدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى:
وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم
[التوبة: 101]. وقوله:
لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا
[الأحزاب: 60]، وقوله:
ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول
[القتال: 30].
وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستدل عليهم بفلتات ألسنتهم وسائر بوادرهم، كما يستدل عليهم بما يبدو على قسمات وجوههم من شارات المكر وإشارات الزور، ولا يمنع ذلك أن تكون منهم جماعة مكشوفة بأعيانها كما يدل على ذلك حديث حذيفة - رضي الله عنه - ومن هؤلاء الذين تآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم على رأس العقبة عند عودته من تبوك بمحاولة إثارة دابته حتى يسقط عنها، وقد أخبر الله نبيه بشأنهم وكانوا أربعة عشر كما جاء به حديث حذيفة عند مسلم.
وقوله تعالى: { ومن الناس } شروع في الاخبار عن هذه الطائفة المتلوية والكشف عن صفاتها، وهو خبر مقدم على المبتدأ، وهو من، سواء قلنا إنها موصولة أو موصوفة، وقد استشكل اعتبار من الناس خبرا لأن الخبر ما تحصل به الفائدة، وكون هؤلاء من الناس ليس أمرا عازبا عن الأفهام حتى يحتاج إلى البيان، والكل يعرف أنهم ليسوا من الملائكة ولا الجن ولا البهائم، والنظر إلى ما بعد المبتدأ يقضي على هذا الاشكال، إذ ليس القصد الاخبار عن إنسانيتهم وإنما الاخبار عن وجود طائفة من الناس تتلون في حالاتها وتتلوى في معاملاتها تدعي الايمان بألسنتها وتهدم ما تدعيه بأفعالها لأن أفئدتها فارغة من جوهر الايمان، ويغنيكم هذا النظر عن كثير من التأويلات التي لجأ إليها المفسرون، كقول السيد الجرجاني بأن مضمون الجار والمجرور هنا مبتدأ على معنى وبعض الناس وخبره من موصولة كانت أو موصوفة، وقول بعضهم بأن صفات هؤلاء لما كانت تنافي الانسانية كانت حالهم جديرة بالاستغراب، وحسن أن يخبر عنهم بأنهم من الناس، ويرده وقوع مثل هذا التركيب حيث لا يتأتى مثل هذا الاعتبار كقوله تعالى:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
[الأحزاب: 23]، وكقول بعض المفسرين بأن هؤلاء لسوء حالهم وفساد أخلاقهم حقيقون بأن يستحيى من ذكر أشخاصهم، فلذلك اكتفى سبحانه في الاخبار عنهم بقوله { ومن الناس } ، ونحو ذلك ما جاء في الأخبار
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد التعريض ببعض الناس قال: " ما بال رجال يفعلون كذا.. " "
والناس جمع إنسي - بكسر الهمزة وياء النسب - عوضا عن أناسي، وهو الجمع القياسي له، ولا يبعد أن يكون اسم جمع وليس بجمع لخروجه عن أقيسة الجموع المطردة.
ويرى بعض أئمة العربية أن (أل) فيه عوض عن همزة أناس، ويرد ذلك قول عبيد بن الأبرص:
إن المنايا يطلعن على الأناس الامنينا
حيث جمع بينهما مع عدم اجتماع العوض والمعوض عنه. و(أل) فيه للجنس لأنه المتبادر عند الاطلاق، وجوز بعضهم أن تكون للعهد والمعهود هم الناس المومى إليهم بقوله: { إن الذين كفروا } أو الناس المعهودون عند النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم متصفون بهذا الشأن، والعهد ذكري على الأول. ذهني على الثاني، والراجح كونها للجنس؛ لأن اعتبارها للعهد والمعهود الذين كفروا ينافي ما تقدم ذكره؛ من أن هؤلاء قسم برأسه لاختلافهم عن الكفار في غموض حالهم والتواء مسلكهم.
أما اعتبار المعهودين قوما يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الشأن، فهو ينافي أن هذه الآيات هي التي جاءت لتعريف أحوالهم وتعرية صفاتهم وكشف بواطنهم، كما ينافي ما رجحناه من قبل واستدللنا له من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحيط بأعيانهم علما فما بالكم بالمؤمنين.
وقولهم: آمنا بالله واليوم الآخر إيهام للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم أمسكوا من الايمان بطرفيه وأحاطوا من اليقين بقطريه، ذلك لأن الايمان بالله يعني الايمان بصفاته وأفعاله؛ بما في ذلك بعث الرسل وإنزال الكتب، فيدخل فيه ضمنا الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، والايمان باليوم الآخر يستلزم العمل الصالح الذي هو عدة المؤمنين وزادهم لذلك اليوم، فهم بقولهم هذا يوهمون المؤمنين بأنهم جمعوا بين رسوخ العقيدة وصلاح العمل، ومما يتبادر أيضا أن الايمان بالله المعبود يقتضي الوفاء بحق عبادته على أنه في الحقيقة مبدأ للاعتقادات الحقة جميعها، لأن من لم يؤمن بإله واحد لا يصل إلى الايمان بالرسول ولا غيره من سائر أركان الايمان، كما أن الايمان باليوم الآخر هو الباعث على صالح الأعمال، والوازع عن سيئها.
وجوز بعض أئمة التفسير أن يكون اقتصارهم على ذكر هذين الركنين من أركان الايمان لأمر في نفوسهم، وهو أنهم يأنفون من ذكر الايمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه ما وجدوا إلى ترك ذكرهما سبيلا، ويوهمون من يسمعهم من المؤمنين بقولهم هذا أنهم أرادوا به الاكتفاء وليس الأمر كذلك. ومن حيث أن جلهم أو جل قادتهم من اليهود وهم عندهم بقية من التصديق باليوم الآخر كما يصدقون بوجود الله لم يجدوا في ذكر هذين الركنين ما يخل بما استقروا عليه من الاعتقاد.
وما جوزه مدفوع بما في صدر سورة المنافقين وهو قوله تعالى:
إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
[المنافقون: 1]، فإنه نص على أنهم كانوا يؤكدون له صلى الله عليه وسلم تصديقهم برسالته بأوضح بيان، ولا أدل على ذلك من تصدير كلامهم المحكي بالشهادة التي هي - في حقيقتها - اعتراف باللسان بما اطمأن إليه القلب وصدق به العقل، مع تأكيد ذلك باللام المقوية لما في إن من التوكيد، وذلك يدل على أنهم كانوا يجهدون في إيهام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنهم مصدقون برسالته عليه أفضل الصلاة والسلام، ومنخرطون في سلك الذين أخلصوا الايمان بها، وحرضوا على الوفاء بحقها، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في نفس سورة المنافقون { اتخذوا أيمانهم جنة }.
وبهذا تدركون أن الوجه في الاقتصار على ذكر الايمان بالله واليوم الآخر هو ما أسلفناه من قبل.
واليوم الآخر بدايته قيام الساعة، ونهايته استقرار السعداء في الجنة، والأشقياء في النار.
والايمان به يشمل الايمان بالبعث والحساب، والثواب والعقاب، وقيل بدايته قيام الساعة وليست له نهاية، فإن اليوم المحدد هو ما اكتنفه الليل في أوله وآخره، واليوم الآخر لا ليل بعده ولذلك كان آخرا.
ومهما يكن المراد به فإنه لا بد في تحقق الايمان به من الايمان بما أسلفناه.
وهؤلاء المنافقون ليسوا من الايمان في شيء وإنما تستروا بظواهر الايمان حفاظا على سلامة حياتهم، وحرصا على تأمين مصالحهم الدنيوية، فلذلك كشف الله ما ستروا، وأبطل ما ادعوه بقوله { وما هم بمؤمنين } ، وجاء نفي الايمان عنهم بصيغة تختلف عن صيغة ادعائهم له، فهم ادعوه بقولهم { آمنا } وهو جملة فعلية تنبىء عن حدوث الايمان، ورد عليهم بقوله { وما هم بمؤمنين } وهو جملة إسمية دالة على الاستمرار والدوام، وهي أبلغ في الدلالة على نفي ما ادعوه، لأن انتظامهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم أقوى دليل على انتفاء الملزوم، واستمرار النفي أدل على انتفاء حدوث الواقع المزعوم مطلقا، ويتأكد ذلك النفي بدخول الباء وهذا هو سبب العدول في الرد عما يطابق قولهم، نحو { وما آمنوا } وفي هذا الرد ما يدل على بطلان قول من زعم من المرجئة أن الايمان هو مجرد القول، ولو لم يقترن به اعتقاد فإن المنافقين كانوا يزعمون بملء أفواههم أنهم آمنوا وينطقون بالشهادتين أمام جماهير المؤمنين، ولم يغنهم ذلك شيئا عند الله لخلو بواطنهم من أصل الايمان.
[2.9]
جملة يخادعون مبدلة من جملة يقول آمنا بالله.. الخ، لأنهم ما قصدوا بهذا القول إلا الخداع، ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا أو حالا من فاعل يقول.
ويخادعون من خادع الدال على الاشتراك في الخدع، وهو أن يوهم أحد غيره بقوله أو فعله عكس ما يريده به من المكروه، من خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يريد الخروج من الجهة التي أدخل الحارش فيها يده، ثم يخرج من جهة أخرى لئلا يرقبه الحارش فيصطاده.
والاشتراك هنا شكل من وجهين:
أولهما: أنه إذا أمكن للمنافقين أن يخدعوا المؤمنين بإظهارهم جميل القول وحسن المعاملة وإعلانهم الايمان، فلا يمكنهم بحال أن يخدعوا قيوم السماوات والأرض، العليم بما تنطوي عليه حنايا الضمائر، وما تكتنفه أعماق النفوس.
ثانيهما: إذا كان الخدع من ديدن المنافقين فليس هو من شأن المؤمنين، لأنه صفة مذمومة، اللهم إلا ما استثنى من خدع العدو في الحرب لأجل إحراز النصر. وقد يحمد من المؤمن التغاضي والصفح اللذان قد يتوهم أنهما ناشئان عن البله، كما جاء في الحديث
" المؤمن غر كريم "
وهو معنى قول الفرزدق:
استمطروا من قريش كل منخدع
إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وقول ذي الرمة:
تلك الفتاة التي علقتها عرضا
إن الحليم وذا الاسلام يختلب
فلا عجب إن كانوا مخدوعين بظواهر أعمال المنافقين؛ لأن من شأنهم إحسان الظن وغض الطرف عن الهفوات، مع توقد فطنهم ونفاذ بصائرهم، غير أنه لا يحمد بحال أن يكون شأنهم شأن المنافقين في إظهار غير ما يبطنون وإعلان خلاف ما يسرون.
وإذا كان صدور الخدع من المؤمنين ممتنعا فأحرى أن يمتنع من عالم الغيب والشهادة الذي هو على كل شيء قدير.
ومن الظاهر بداهة أن الخداع لا يكون إلا لضعف الخادع وقوة المخدوع، وإذا كان هذا في البشر فكيف يمكن صدور مثله ممن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وأجيب عن الأول بوجوه:
أولها: أن الخداع قد يصدر من أحد لغيره فيصادف غير مقصوده، كمن يخدع عامل الحاكم أو وكيله فينبه بأن صنيعه هذا يتجه إلى الحاكم، وهكذا شأن المنافقين، فهم قصدوا بخداعهم المؤمنين الذين صنعوا على عين الله وأحيطوا بكلاءته وشملوا برعايته، فنبه أولئك المنافقون المخادعون بأن خداعهم للمؤمنين هو في حقيقته خداع لله سبحانه، إذ هو الكفيل بنصر عباده ودفع المكاره والأذى عنهم.
ثانيها: أن صورة صنيعهم مع الله سبحانه صورة صنيع المخادع، فهم يظهرون الايمان ويبطنون خلافه، ويدعون الانخراط في سلك المؤمنين وهم أكثر ما يكونون بعدا عنهم وكيدا لهم، على أنه لا يبعد أن يكون هذا التعبير بالنظر إلى معتقداتهم الفاسدة ونواياهم السيئة في حق الله تعالى، فإن كثيرا منهم كانوا من اليهود، واليهود لا يتورعون عن مثل هذا الاعتقاد، كيف وهم الذين حكى الله عنهم قولهم:
إن الله فقير ونحن أغنيآء
[آل عمران: 181] وقولهم:
يد الله مغلولة
[المائدة: 64].
وما بأيديهم من نسخ التوراة المحرفة شاهد على أنهم أضل الناس اعتقادا في الله، وأبعدهم عن أن يقدروه حق قدره، تعالى الله عما يقولون وعما يعتقدون علوا كبيرا، ومن كانت هذه عقيدته فليس ببعيد أن يعتقد أنه يخدع الله سبحانه فضلا عن اعتقاده مخادعة المؤمنين.
ثالثها: أن المراد بمخادعتهم لله مخادعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر اسم الله عز وجل بدلا من اسمه تشريفا له وإعلاء لقدره وإعلاما أنه محفوف بعصمة الله ومحاط بعنايته، فلا يخلص إليه شيء من كيد الكائدين، وذلك كما أخبر تعالى أن مبايعته صلى الله عليه وسلم هي مبايعة لله وذلك في قوله:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح: 10].
وهذا الوجه مع ما فيه من التنويه بقدره صلى الله عليه وسلم غير خال من الضعف، فإن إطلاق اسم الله مع قصد رسوله لا يصح إلا بقرينة كما في آية المبايعة.
وأجيب عن الثاني بوجوه أيضا:
أولها: أن وزن فاعل لا يستلزم المشاركة دائما، فقد يأتي خاليا من معناها، نحو عالج المريض، وناهز الاحتلام، فإن الفعل فيها جميعا صادر من جهة واحدة، فلا يبعد أن يأتي خادع بمعنى خدع، وكثيرا ما يكون ذلك لقصد المبالغة، ومن المعلوم أن المنافقين كانوا يجهدون أنفسهم في خدع المؤمنين وابتكار الحيل والأساليب المؤدية لهذا الغرض، فكان فعلهم كأنما يصدر من أكثر من جهة، وتؤيد هذا التأويل قراءة يخدعون الله وهو إنما يدفع هذا الاشكال دون الذي قبله.
ثانيها: أن المؤمنين أمروا من قبل الله بالاغضاء عن بوادر المنافقين وفلتات ألسنتهم وهفوات أفعالهم وكبوات تصرفاتهم التي يستشف من ورائها النفاق، كما أمروا أن يعاملوهم معاملة أنفسهم، فكان ذلك مما يجرئهم على الاسترسال في غيهم والانهماك في فسادهم، متخيلين أنهم قد أحرزوا أنفسهم من الخطر ووقوها المخاوف بهذا الصنيع، فكان هذا الأمر منه تعالى شبيها بخدعهم، لأن من ورائه ما ينتظرهم من العقاب الأليم والعذاب العظيم، فجاز أن يستعار لهذه المعاملة اسم الخداع، ولما كان صدور ذلك من المؤمنين بإذن منه تعالى، صح إسناد ذلك إليه وإليهم، ونحوه في إسناد الخدع إلى الله في قوله تعالى:
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم
[النساء: 142].
ثالثها: حمل هذا التعبير على الاستعارة التمثيلية، تشبيها لما يحصل - من إملاء الله لهم والابقاء عليهم ومعاملة المؤمنين إياهم معاملة أنفسهم في إجراء أحكام الاسلام عليهم - بفعل من يخدع غيره بمختلف الأساليب في المعاملة، كما تشبه بذلك أيضا حالتهم في معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ثم بين سبحانه ما يؤول إليه خداعهم بقوله: { وما يخدعون إلا أنفسهم } ، حيث نفى سبحانه أن تكون مغبة هذا الخداع واقعة إلا عليهم، لأنهم الذين يجنون ثمرتها المرة، ويكابدون غصصها المؤلمة، وقد يتبادر للسامع أو القارئ وجود تناقض بين ما في صدر الكلام وعجزه، حيث أثبت تعالى أولا أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، ثم نفى ما أثبته ضمن قوله: { وما يخدعون إلا أنفسهم }.
والجواب أن المنفي غير المثبت، فما عبر عنه بالخداع أولا هو تلك الأقوال والأعمال التي كانوا يبدونها مع انطوائهم على نقائضها، ثم أطلق اسم الخداع على لازم معاملتهم، وهو الضر الماحق والعاقبة الوخيمة، وذلك واقع بهم دون غيرهم كما علمت، وهذا من باب المجاز على المجاز، لأن المخادعة استعيرت أولا لما استعيرت له من معاملتهم للمؤمنين ودين الله، ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم ذلك المعنى الذي استعيرت له.
وهذه الجملة حال من فاعل { يخادعون } في الجملة التي قبلها، وفيها قراءتان مشهورتان:
الأولى: { وما يخدعون } وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، من السبعة، كما قرأ بها أبو جعفر ويعقوب، من سائر العشرة.
والثانية: { وما يخادعون } بزيادة ألف المفاعلة، وبها قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، من السبعة، وخلف من بقية العشرة. وثم قراءات أخرى من الشواذ غير المعول عليها، ولا إشكال في القراءة الأولى، وإنما الاشكال في الثانية لاقتضائها في المشاركة التي لا تصدر إلا عن جهتين فصاعدا، مع أن الجهة هنا متحدة ويندرئ الاشكال باعتبار أن من يقدم على جريرة من الجرائر لا بد له أن تتفاعل في نفسه خواطر متضادة منها ما ينشأ عن بصيرة العقل ووحي الضمير، ومنها ما ينشأ عن رعونة العواطف واضطراب الهواجس، فيتولد ما يشبه العداوة بين الجانبين، ويظل المرء في تردد بين إقدام وإحجام، حسب إصغائه تارة إلى صوت العقل، وأخرى إلى داعي الهوى.
ومن ثم جاءت هذه القراءة هنا مصورة لعداوة تنجم بين هؤلاء المنافقين ونفوسهم الداعية إلى الخير بطبيعة الفطرة، وصورت ما يصدر منهم من شغلها بالأماني واقتيادها إلى الشر بالمخادعة، وفي كلام العرب ما ينحو هذا المنحى في التعبير، كقول عمرو بن معد يكرب:
فجاشت علي النفس أول مرة
فردت على مكروهها فاستقرت
وقول عروة بن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
وربما جعلوا هذه النوازع المتباينة نفسين مختلفين في شخص واحد، كقول بعض الأعراب:
لم تدر ما (لا) ولست قائلها
عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر نفسيك ممتريا
فيها وفي أختها ولم تكد
وقول الآخر:
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة
أيستوبع الذوبان أم لا يطورها
وقول غيره:
وكنت كذات الضنى لم تدر إذ بغت
تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني؟
ويحتمل أن يكون خادع هنا بمعنى خدع مع قصد المبالغة كما تقدم في تفسير صدر الآية، وبناء على ذلك يكون معنى القراءتين واحدا.
وانتقد ابن جرير قراءة { وما يخادعون } فعدها غير صحيحة، وقد بنى هذا الانتقاد على أن فعل هو الذي يكشف عاقبة المفاعلة دون فاعل، كما يقال قاتل فلان فلانا، وما قتل إلا نفسه، إذا كانت عاقبة المقاتلة رجعت عليه دون صاحبه، وعزز ذلك بأن مخادعتهم لله وللمؤمنين مثبتة في صدر الآية، فإذا حصرت المخادعة بعد في أنفسهم انتفى ما كان مثبتا، وهو تناقض لا يحوم حول ساحة القرآن.
وقد علمت أن هذه القراءة هي قراءة ثلاثة من السبعة المشهورين، وقراءة كل واحد من القراء السبعة معدودة في المتواتر الذي لا يصح إنكاره أو رفضه، فرد أية قراءة من السبع عثرة لا تقال، وقد تكرر وقوع ابن جرير في هذه الورطة على إمامته في التفسير، كما سنبين ذلك إن شاء الله كلا في موضعه.
وكما اتفق الجمهور على تواتر قراءتي " ملك ومالك " اتفقوا على تواتر قراءتي " يخدعون ويخادعون " ، ذلك لأن الاختلاف فيهما عائد إلى جوهر القراءة، وهو مما يعد من المتواتر عندهم، وإنما اختلفوا فيما كان من قبيل الأداء، كالامالة والمد والترقيق والتفخيم والغنة، فقيل بتواتره في السبع، وقيل بعدمه.
وبما ذكرته من توجيه هذه القراءة يندفع الاشكال الذي زعمه ابن جرير، وما ذكره من لزوم نفي ما أثبت عليها، مدفوع بأن جهتي الاثبات والنفي مختلفتان، وبذلك يندفع المحذور، ونحوه ما في قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال: 17]، ففي صدر الآية نفي الرمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي وسطها إثباته، وفي آخرها إسناده إلى الله تعالى، فلو أخذ بظاهر اللفظ لقيل بالتناقض، غير أن الرمي المنفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثبت لله هو غير الذي أثبت للرسول، والقرآن نزل بلسان العرب الذي يستعمل الكلمات في حقيقتها تارة وفي مجازها أخرى، والقرائن هي الكفيلة ببيان المراد.
وذكر أبو حيان في البحر أن بعضهم ادعى بأن في عبارة هذه الآية قلبا، وأن الأصل وما يخادعهم إلا أنفسهم، لأن الانسان لا يخدع نفسه، بل هي التي تخدعه وتسول له وتأمره بالسوء، وأورد أشياء مما قلبته العرب، وذكر أبو حيان أن للنحويين مذهبين في القلب:
أحدهما: جوازه في النثر والشعر اتساعا واتكالا على فهم المعنى.
ثانيهما: عدم جوازه إلا في الشعر في حالة الاضطرار.
قال: وهذا الذي صححه أصحابنا ثم أتبع ذلك بأن هذا المدعي للقلب نظر إلى قوله تعالى:
بل سولت لكم أنفسكم أمرا
[يوسف: 18].
وقولهم: منتك نفسك، فتخيل أن الممني والمسول غير الممنى والمسول له، ثم عكر عليه بأن الأمر ليس كما تخيل، فالفاعل هنا هو المفعول كما يقال أحب زيد نفسه وعظم نفسه، فلا يتصور تباين بين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ مع وحدة المدلول، وإذا صح المعنى دون القلب فلا داعي إليه، مع أن الصحيح عدم جوازه إلا في الشعر، فما أجدر كتاب الله عز وجل أن ينزه عنه.
والنفس: حقيقة الشيء وذاته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى:
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك
[المائدة: 116]، وقوله:
كتب على نفسه الرحمة
[الأنعام: 12]، وقوله:
ويحذركم الله نفسه
[آل عمران: 30]. هذا هو المعنى اللغوي للنفس، أما ما عدا ذلك من المعاني فهو من اصطلاح الحكماء الذي لا داعي إليه في فهم مقاصد القرآن.
وجملة { وما يشعرون } إما مستأنفة وإما معطوفة على جملة { وما يخدعون } ، والشعور: يطلق على العلم بدقائق الأشياء الخفية، ويرى بعض أهل اللسان أنه مأخوذ من إصابة الشعر فإنه لدقته مما يستصعب، وكذلك الشعور هو إصابة ما دق من المعاني، والتفطن لما خفي من الأمور.
وأصل الشعر العلم بهذه الدقائق، ومنه قولهم: ليت شعري، ثم نقل إلى الكلام الموزون المقفى لما في تركيبه من الدقة وما يحتويه من خفي المعاني ودقيق المقاصد التي لا يتفطن لها إلا أصحاب الاحساس المرهف، ومن هنا قيل إن الشعور لا يستعمل إلا فيما دق من حسي وعقلي، فلا يقال: شعرت بحلاوة العسل، وبصوت الصاعقة، وبألم كية النار، وإنما يقال: شعرت بملوحة في الماء أو مرارة - إذا كانت قليلة - وبهينمة وراء الجدار، وبحرارة في بدني.
وهذا الوصف في المنافقين مشعر بتحجر عقولهم وخبو فطنهم، وهو - كما قيل - أبلغ في الذم من وصفهم بعدم الاحساس، لأن الذم على أمر يمكن حصوله ألذع وأنكى من الذم بما يتحقق عدمه، وإحساسهم أمر معلوم لهم وللناس، فلا يغيظهم أن يوصفوا بعدمه، بخلاف وصفهم بعدم الشعور المتضمن لمعنى البلادة.
ومن حيث أن الشعور يتميز عن العلم باختصاصه بدقائق الأمور المحسوسة والمعقولة أوثر في التعبير هنا على العلم نظرا إلى أن مخادعتهم لأنفسهم مما لا يظهر إلا لذوي الفطن المتوقدة، والمدارك المتفتحة، والمنافقون بما ران على قلوبهم من النفاق واستحكم في عقولهم من الضلال ليسوا من الذين يراقبون الله عز وجل، فهم إن وجد بينهم من يؤمن بوجود الله سبحانه فإيمانه سطحي لم يتغلغل في أعماق نفسه، ولم يلامس شغاف قلبه، فلذلك كانوا أبعد ما يكونون عن خشيته ومراقبته، والتفكر فيما يرضيه وما يغضبه، فكانت معاملتهم له معاملة الخب الخادع لمن يرجو أن تنطلي عليه حيلته، ويؤثر فيه مكره، وما كانوا يتفطنون أن عاقبة مكرهم ستعود عليهم بشر مما كانوا يتوقعون.
سر مخادعة المنافقين:
وفي تفسير المنار بحث نفيس للامام محمد عبده كشف فيه سر مخادعتهم بأسلوبه الأدبي الرفيع وتحليله المنطقي البديع، ولما في هذا البحث من فوائد جمة رأيت إيراده برمته، قال:
هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قام لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره، من أمل في الغفران أو تأويل إلى غير المراد، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء المغشاة بصور من العقائد الملونة؛ بما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا وما هم في الحقيقة بمؤمنين، وإنما هم خادعون مخدوعون، ولكنهم لما عمي عليهم من أمر أنفسهم لا يشعرون لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون.
وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الارادة باعثة لها على العمل، فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها على النحو الذي ذكرنا، فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال، وهو ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات، كالكرم والشجاعة ونحوهما، فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها، وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال، وربما يغفل الانسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل، وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره، وبين وجوده وتحققه في نفسه.
ومن العلوم ما يلاحظ الانسان أنه عنده، فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها، لأنه لم يشربه القلب، ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها، وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الاسلامي مثلا، وكعلم مزايا الفضيلة، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق، والنظار في كتب الأوائل والأواخر لتعزير مادة العلم وتوسيع مجال القول وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه، وتسميته علما لأنه يدخل في تعريفه العام (صورة من الشيء حاضرة عند النفس) وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي، فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر. فهؤلاء الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلا في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به، وجعله رسما مخزونا في الخيال لا أثر له في الأفعال يدعونه بألسنتهم وتكذبه في دعواه أعمالهم وأحوالهم، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون }.
فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفى عليه بذكر العمل الذي يشهد له، ومن هنا يعلم ما الايمان الذي يعتد به القرآن، وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرأه على أنه قصة تاريخية مات من يحكي عنها واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها، فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان، فكل مؤمن بالله واليوم الآخر وهو يصدر في عمله عن شهواته ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده إنما هو خيال لا يعدو عن لفظ في مقال، ودعوى عند جدال، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه مخادع لربه، يظن أن علام الغيوب لا ينظر إلى ما في القلوب. اه.
وبإمكاننا أن نستوحي من هذا البحث أن الامام يرى ما في هذه الآيات شاملا للصنفين من المنافقين، من كان نفاقه عقائديا ومن كان نفاقه عمليا، ولعله يرد ذلك إلى أن النفاق العملي لا ينشأ إلا عن ضعف العقيدة وعدم تمكنها في النفس، كتمكن عقيدة المؤمنين الذين كانت ظواهرهم شاهدة على سلامة بواطنهم وأعمالهم مصدقة لراسخ اعتقادهم.
[2.10]
ذكر العلامة ابن عاشور في تفسيره أن الآية استئناف محض لعد مساوئ المنافقين، وأجاز أن تكون استئنافا بيانيا لجواب سؤال متعجب مما سمع عن الأحوال التي وصفوا بها من قبل في قوله تعالى { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } ، فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله وتخادع المؤمنين - وهم قوم عديدون - وتطمع أن خداعها يبلغها فيهم ما تريد، ولا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها، يشعر بالعجب ويمتلئ بالاستغراب من شأن هذه الطائفة، وينشأ عن ذلك تساؤل منه كيف خطر ذلك بخواطرها؟ فجاء قوله في قلوبهم مرض بيانا منطويا على جواب هذا التساؤل، وهو أن قلوبهم انحرفت عن وضعها الطبيعي حتى بلغت إلى حد الأفن، ولهذا قدم الظرف وهو في قلوبهم، فإن في التقديم إيماء إلى الاهتمام وهي جديرة به، فإنها منشأ فكرة الخداع، ومن حيث أن المسؤول عنه ما نشأ عنها، كان انطواء الجواب على وصف حالها هو الأليق في مقام الخطاب.
والتعبير بالقلوب عن العقول معهود عند العرب كما تقدم، وتنكير مرض للدلالة على التعظيم.
والمرض: حالة تلم بالبدن فتخرجه عن اعتدال المزاج وصحة الأعضاء، وتؤدي بها إلى اختلال بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الألم لها، ويطلق على نفس الألم الذي هو أظهر آثاره، ويطلق على ما يلم بالنفس فيخل بكمالها ويخرج بها عن اعتدالها من الطبائع المذمومة والأخلاق الفاسدة، وهذا الاطلاق الأخير داخل في ضمن الاستعمال المجازي لهذا اللفظ بجامع أنه في استعماليه مؤد إلى الهلاك.
فالأمراض الجسمية مؤدية إلى هلاك الجسد وفوات المنفعة العاجلة، وهذا المرض النفسي مؤد إلى هلاك الروح وفوات المنفعة الآجلة، والبون بينهما كالبون بين قيمة الجسد والروح، وقدر الحياتين العاجلة والآجلة.
وفسر المرض هنا بالنفاق ابن عباس - رضي الله عنهما - كما رواه ابن جرير عنه. وأخرج عنه وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم فسروه بالشك، وروى مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد، وفي رواية عن عبدالرحمن قال هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد.
وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظها فهي متحدة المعاني، فإن شأن المنافق أن يكون أسير شكه متخبطا في أوهامه، ولا ريب أن الشك ظلمة تخيم على العقل فتحيط به من جوانبه فلا ينفذ له نور إلى ما وراء المشاهدات المحسوسة، ولا يمتد له شعاع إلى ما خلف التكاليف من أسرار وحكم.
وإذا كانت العرب تطلق اسم المرض على الظلمة الحسية كما في قول الشاعر:
في ليلة مرضت من كل ناحية
فما يحس بها نجم ولا قمر
فإن هذه الظلمة المعنوية التي تتراكم على العقل أجدر بهذا الاطلاق.
وإذا كانت للجسم وظائف لا يتوقف عنها إلا بإلمام المرض الجسدي به؛ فإن توقف العقل عن وظيفته التي هي اكتناه الحقائق، واكتشاف الأسرار من وراء المشاهدات لا ينتج إلا عن إلمام مرض خطير به، وهذا النوع من المرض لا يفقد العقل وظيفته فحسب، بل يجعل وظائف الحواس في حكم المعدوم أيضا لعدم الانتفاع بها، ولذلك يقول الله تعالى في المصابين بهذه الأمراض
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون
[الأعراف: 179].
ويرى الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده أن هذا النوع من المرض واقع فيه جميع أولئك الذين لا يتلقون العقيدة عن نظر وبصيرة، ولكن عن وراثة وتقليد، فإن إيمانهم لا يعدو أن يكون شكليا يجتثه أدنى ما يهب من العواصف، ويزلزله أقل ما يقع من الحركات، لأنه لم يطرق قلوبهم بقوة البرهان ولم يحل مذاقه منهم في الوجدان، فلا تصدر عنه تصرفاتهم في الأعمال لفقده قوة التأثير في نفوسهم.
وذكر أن علاج أمراض هؤلاء هو التمرن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص، حتى يحدث لقلوبهم الوجدان الصالح، وهذا لأن أهل اليقين يبعثهم يقينهم على العمل الصالح، وأهل التقليد يلحقهم دؤوبهم على صالحات الأعمال بأرباب اليقين في الانتفاع بإيمانهم، والفريق المعني بهذه الآيات، الموصوف بالكذب والخداع، قد فقد الأمرين معا، ولا صحة للقلوب إلا بهما، فمن فقدهما مرض، ولا يلبث مرضه أن يقتله.
ثم ذكر منشأ هذه العلة فقال: ولضعف العقل أسباب: منها ما هو فطري كما هو حال أهل البله والعته، وهو الذي لا يكلف صاحبه ولا يلام.
ومنها ما يكون من فساد التربية العقلية كما هو حال المقلدين الذين لا يستعملون عقولهم، وإنما يكتفون بما عليه قومهم من التقاليد والعادات ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه السحب للوقوف على ما وراءها من مخدرات العرفان، ونجوم الفرقان، وشموس الايمان، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله:
إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون
[الزخرف: 23]، حتى يجيء اليوم الذي يقولون فيه:
ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا
[الأحزاب: 67].
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة ظاهرة وتنبيه بين على خطورة هذا الصنف من المرض، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "
، فإن جميع منافع الجسد متوقفة على سلامة القلب من الأمراض، فإذا غشيته هذه الأدواء لم تلبث منافع البدن أن تتحول إلى مضار قاتلة، لأن الانحراف النفسي يأتي عليه فيحوله عن طبعه.
هذا وإذا كان جل المفسرين - من السلف والخلف - يرون أن هذا المرض معنوي، فإن طائفة خالفتهم في رأيهم هذا، حيث قالت: إنه كان مريضا حقيقيا ألم بقلوب أولئك المنافقين مما يشاهدونه من انتشار الاسلام وسرعة أثره في النفوس، واكتساح تياره جميع العقائد الزائغة، والمبادىء الجاهلية الفاسدة، فكانت هذه المشاهدات تعتصر قلوبهم، وتضاعف همومهم، والحسد من شأنه أن يجر الأمراض إلى قلب صاحبه؛ لأن الحسود لا يقر له قرار، وقد كانوا يظنون بالاسلام أنه طفرة سوف تهدأ، وأن تياره عاصفة سوف تتوقف، وأن سوقه مهددة بالكساد، غير أن هذا الظن قد خاب عندما شاهدوه يحرز الانتصارات المتتابعة، ويلحق بأعدائه الهزائم المتلاحقة، ويغرز أعلام النصر في كل مكان، فكان ذلك منشأ ما ألم بقلوبهم من الآلام.
وبعض المفسرين يرى أن جعل قلوبهم محل المرض من باب التعبير باسم المحل عن الحال، كما قال تعالى { واسأل القرية } ، إذ المرض هو في معتقداتهم التي لابست عقولهم، ومازجت قلوبهم، فإنهم كانوا ينطوون على الشرك وإن أبدوا خلافه.
وذكر الامام ابن عاشور في تفسيره أن النفاق منشأ لثلاثة أنواع من أصول الأمراض النفسانية، وكل أصل منها تنشأ عنه مجموعة من الأمراض الفرعية.
أولها: الكذب القولي، والشاهد عليه من القرآن قوله تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } ، وقوله: { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } ، وينشأ عنه الجهل، وإليه الاشارة بقوله تعالى: { ولكن لا يعلمون } ، والغباوة، وإليه الاشارة بقوله { وما يشعرون } ، ومن لازم هاتين العلتين قلة الذكاء، لأن الذكي يدرك أنه لو كذب على الناس فإن عقولهم لا تستسيغ كذبه، كما يعلم أن في الناس من هو مثله أو خير منه.
والكذب يعود فكر صاحبه الحقائق المحرفة، وإذا طال استرساله في ذلك اشتبهت عليه ولربما اعتقد ما اختلقه واقعا.
وينشأ كذلك عن هذين الداءين داء آخر وهو السفه، وهو خلل في الرأي وأفن في العقل، وإليه الاشارة بقوله تعالى { ألا إنهم هم السفهآء }.
كما يشير قوله سبحانه { في قلوبهم مرض } إلى فساد الرأي الناتج عن السفه.
والجهل من نتائجه الكفر، وإليه الاشارة بقوله تعالى: { وما هم بمؤمنين }.
والغباوة ينشأ عنها العجب والغرور ويشير إلى الأول قوله تعالى: { أنؤمن كمآ آمن السفهآء } ، وإلى الثاني قوله: { إنما نحن مصلحون }.
ثانيها: الكذب الفعلي؛ وهو الخداع، والشاهد عليه قوله سبحانه: { يخادعون الله والذين آمنوا } ، ويجر إلى أشياء، منها الفساد، وإليه الاشارة بقوله: { ألا إنهم هم المفسدون } ، وعداوة الناس، لأنهم عندما يشعرون بخداعه تتنكر له قلوبهم، وتستوحش منه نفوسهم، ومهما أظهر لهم من دلائل الاخلاص فإنهم لا ينفكون يتوجسون منه خيفة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى حاكيا عنهم ما يلقون به شياطينهم: { قالوا إنا معكم } ، وقوله في وصفهم: { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } ، ومنها نكاية الناس به، لأن الفريقين يتفقان على التوقي منه والنكاية به، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم } ، وعاقبة ذلك كله أمران:
أحدهما: في الدنيا، وهو صيرورته هزأة للناس.
ثانيهما: في الآخرة، وهو العقاب، وإلى الأول الاشارة بقوله سبحانه: { الله يستهزىء بهم }؛ أي يجعلهم موضع الهزء، وإلى الثاني الاشارة بقوله: { ولهم عذاب أليم }.
ثالثها: الخوف؛ لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره، وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي، وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات، والثقة بالنفس وبحسن السلوك، ويشير إلى هذه الخصلة قوله سبحانه فيهم:
لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله
[الحشر: 13].
وتتفرع عن الخوف أخلاق متنوعة منها اللؤم، ويشير إليه قوله تعالى: { ويقبضون أيديهم } ، والعزلة عن الناس، وإليها الاشارة بخطابه تعالى لهم: { آمنوا كمآ آمن الناس } ، والجبن؛ ويدل عليه قوله سبحانه فيهم: { يحسبون كل صيحة عليهم } ، وقوله: { ليولن الأدبار ثم لا ينصرون } ، والتستر، وإليه الاشارة بقوله عز وجل: { وإذا خلوا إلى شياطينهم.. } (الآية).
ويتفرع عن اللؤم خون الأمانة والشاهد عليه قوله تعالى فيهم: { إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما } ، ويتفرع عن العزلة جفاء الطبع، ويدل عليه قوله: { أنؤمن كمآ آمن السفهآء }.
وتتفرع عن الجبن المذلة، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين }.
وينشأ عن التستر دوام الضلال وازدياد النقائص، ويشير الى الأول قوله تعالى: { وما هم بمؤمنين } ، وإلى الثاني قوله: { فزادهم الله مرضا }.
هذه أمراض النفاق التي استظهرها ابن عاشور ممن نزل في المنافقين من الآيات، وما اعتيد تلبسهم به من الصفات، وقد رتبها في جدول حسب ترتب نشوئها في رأيه - تقريبا لفهم المطالع وتيسيرا لاحاطة القارئ - مع ما قرنه بها من الآيات المومئة إليها، ولست أرتاب - كما لا يرتاب أحد - أن النفاق منطو على هذه الأمراض كلها، بل وعلى أكثر منها، فهو مجمع كل رذيلة، ومنشأ كل فساد، وإنما أرى أن ابن عاشور تكلف في ترتيب نشوئها، فلو سردها سردا لكان أبعد عن التكلف.
كما أنني أرى أنه تجوز في حمل بعض الآيات على الاشارة إلى ما ذكره من هذه الأمراض، بل بعضها أقرب دلالة إلى ما لم يذكره من الصفات، فقوله تعالى - مثلا -: { ويقبضون أيديهم } أدل على البخل منه على اللؤم، وإنما دلالته على اللؤم من حيث أنه الأصل للبخل، إذ البخل لا ينشأ إلا عن لؤم الطبع وفساد الفطرة.
ومهما يكن فإن هذا الاستخراج مهم ومفيد في مجموعه، وبما أن النفاق يستر مساوئ صاحبه ويضفي عليها ثوبا مهلهلا من محاسن الأعمال والأقوال الظاهرة، كان مدعاة لنمو الرذائل وزيادة النقائص، لأنها تترعرع بعيدة عن أنظار المربين المصلحين، وتستمر في توالدها حتى تكون كل رذيلة منشأ لرذائل، وكل نقيصة محضنا لنقائص، فلذلك قال الله سبحانه: { فزادهم الله مرضا }.
النفاق سبب لزيادة المرض:
إن هذه الزيادة إنما هي نتيجة ما تلبسوا به من قبل، والشاهد عليه العطف بالفاء الموحية بالسببية، وإنما أسندت هذه الزيادة إلى الله لأنه خالق كل شيء، فالتوالد وأسبابه من مخلوقاته، وفي هذا الاسناد ما لا يخفى من التنبيه على خطورة الاسترسال في أعمال النفاق، والانطواء على أدواته الدفينة، فإن من شأن ذلك أن تزداد هذه الأمراض تمكنا في نفس المنافق حتى تستولي عليها وتكون كالشيء الجبلي فيها، فلا يمكنه الفكاك عنها والتخلص منها.
ومن ناحية أخرى فإن أعمال المنافق داعية لغضب الله عليه وحرمانه من التوفيق ورميه بسهم الخذلان، فيظل بذلك منهمكا في غيه، سادرا في غفلته، فيتعمق ضلاله ويستفحل داؤه، وفي ضمن هذا التنبيه على خطورة أدواء النفاق تحذير للمؤمنين من ملابسة المنافقين، ولعل في تنكير مرض في الموضعين ما يوحي بما تقدم، إذ ليس ببعيد أن يكون التنوين في الأول للاشعار بالتنويع والتكثير، وفي الثاني للاشعار باختلاف المرض المزيد على المزيد عليه.
وجملة { فزادهم الله مرضا } خبرية على الصحيح، معطوفة على قوله { في قلوبهم مرض } حالة محل الاستئناف للبيان، فلربما كان الحديث عنهم مدعاة للتساؤل عن سبب انهماكهم في الغي واسترسالهم في الفساد، وعدم إجداء الزواجر والنذر فيهم، فكان في هذه الجملة وفيما قبلها جواب عن ذلك يفيد أن حالتهم ناتجة عن مرض في قلوبهم يتضاعف بمرور الأيام تضاعفا مقدرا من الله فلا طمع في تخلصهم منه، وقيل هي جملة إنشائية أريد بها الدعاء عليهم نحو قول الشاعر:
تباعد عني فطحل إذ دعوته
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
والمراد بالدعاء هنا الايجاب، لأن الله القادر على كل شيء، المصرف لكل أمر يوجب ولا يدعو.
واعترض ذلك ابن عاشور بأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء - يعني عطف الجملة الاعتراضية - وبأن تصدي القرآن لشتمهم ليس من دأبه، وبأن الدعاء عليهم بزيادة الغي ينافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو " اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون ".
وللقائلين بأنها دعائية أن يدفعوا الاعتراض الأول بأن تصدير الجملة الاعتراضية بالفاء معهود عند العرب كما نص عليه صاحب التلويح، ومن شواهده قول الشاعر:
واعلم - فعلم المرء ينفعه -
أن سوف يأتي كل ما قدرا
كما أن لهم أن يدفعوا الاعتراضين الأخيرين بقوله تعالى:
ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم
[التوبة: 127]، وقد علمت أن الدعاء في كلام الله محمول على الايجاب فلا إشكال.
وفسر ابن مسعود وابن عباس وآخرون من الصحابة - رضوان الله عليهم - المرض الثاني بما فسروا به المرض الأول وهو الشك، وروي نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة، وفسره عبدالرحمن بن زيد بن أسلم بالرجس، واستدل بقوله تعالى:
وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم
[التوبة: 125]، وفسر الرجس بالشر والضلالة، واستحسن تفسيره ابن كثير وعده من باب (الجزاء من جنس العمل)، ونظره بقوله تعالى:
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم
[القتال: 17].
وهذا كله لا ينافي ما سبق تفصيله من الأمراض الخلقية الناشئة عن النفاق، فإنها جميعا من جنس الشر والضلالة ولا تتولد إلا في نفس خيمت عليها ظلمات الشك، وقد ح مل ابن جرير تفسير السلف بزيادة الشك على ما يستجد من شكوكهم كلما نزلت آية، واستشهد له بقوله تعالى: { فزادتهم رجسا إلى رجسهم }.
وأما على اعتبار المرض حقيقيا، فإن المراد بزيادته تضاعف همومهم، واكتظاظ صدورهم بالحسد الناشئ عن ظهور المؤمنين وارتفاع أعلام الدين وإقبال الناس عليه، وعلى هذا القول فإن إسناد الزيادة إلى الله حقيقي، لأنه هو الذي هيأ أسباب ظهور المؤمنين، ورفع مكانتهم بين العالمين، وأظهر دينهم على كل دين، فأمرض بذلك قلوب أعدائهم المنافقين.
وإنما قال سبحانه: { فزادهم الله مرضا } ولم يقل " فزاد قلوبهم مرضا " مع قوله من قبل { في قلوبهم مرض } الدال على أن القلوب هي وعاء هذا المرض، لأن مرض القلب مرض سائر الجسد كما يدل عليه حديث
" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله "
، أو لأن القلب من حيث إنه مصدر العواطف ومنبع الوجدان ومرتبط بالجنان كانت إنسانية الانسان لا تتحقق إلا به، فلذلك أعيد الضمير إليهم بدلا من إعادته إلى قلوبهم.
وبعد أن أخبر سبحانه بسوء حالهم في الدنيا بين شر مآلهم في الآخرة بقوله: { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } ، وهو معطوف على قوله { فزادهم الله مرضا } ، وبهذا العطف تكمل فائدة البيان عنهم بما فيه من الاخبار عما ينتظرهم في الدار الآخرة نتيجة ما قدموه في الدنيا، وهل يحصد الانسان إلا ما زرع؟
وقد تقدم معنى العذاب، ووصفه هنا بأنه أليم لأجل تأكيد مدلوله، فإن العذاب لا يكون إلا أليما، ولكن يتفاوت ألمه بتفاوت قدره، والأليم بمعنى المؤلم كالبصير بمعنى المبصر، وزنة فعلهما جميعا أفعل، وذهب الزمخشري إلى أن { أليما } مأخوذ من ألم اللازم لا من آلم المتعدي، فهو فعيل بمعنى فاعل، وحمل وصف العذاب به على نحو تحية بينهم ضرب وجيع، وهذا على طريقة قولهم جد جده، حيث أسند فيه الفعل إلى الجد - وهو مصدر - وحقيقته للجاد فإسناد الألم إلى العذاب وهو للمعذب، وإسناد الوجع إلى الضرب وهو للمضروب، كلاهما من هذا الباب، وتابع الزمخشري على رأيه هذا جماعة من المفسرين كالسيد الجرجاني وأبي السعود والقطب في الهيميان والتيسير.
والرأي الأول أبعد عن تكلف التأويل، على أنه حمل بعضهم (وجيع) في البيت على حقيقته وجعله بمعنى موجع على البناء للفاعل، ومجيء فعيل بمعنى مفعل مشهور في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع
يؤرقني وأصحابي هجوع
وجاء في شعر ذي الرمة أليم بمعنى مؤلم في قوله:
ونرفع من صدور شمردلات
يصك وجوهها وهج أليم
فإن كون الوهج أليما بمعنى مؤلم فيه مما لا يحتاج إلى بيان، وكذلك السميع بمعنى مسمع في البيت الذي قبله، إذ الداعي يوصف بأنه مسمع - على زنة اسم الفاعل - لا مسمع - على زنة اسم المفعول -، وبهذا يتضح لك أن إنكار الزمخشري في تفسير قوله تعالى { بديع السماوات والأرض } ، مجيء فعيل بمعنى مفعل - على وزن اسم الفاعل - ليس بشيء، وقد تكلف تأويل بديع السماوات بمعنى مبدعة سماواته، وتابعه السيد وأبو السعود، إذ أحالا ما هنا على ما جاء في تفسير { بديع السماوات والأرض }.
وأنت تدري أنه إذا جاز - ولو على بعد - حمل { بديع السماوات } على معنى مبدعة سماواته، فإن حمل حكيم على غير معنى محكم يكاد يكون متعذرا، وفي هذا ما يكفي دحضا لمقالة الزمخشري ومن تابعه بأن فعيلا لا يكون بمعنى مفعل بالكسر، وليت شعري ماذا عساهم يقولون في اتصاف الله بأنه بصير؟
ويؤيد الرأي الذي اخترته أنه قال به مفسرو السلف كالضحاك والربيع بن أنس، وعليه عول ابن جرير والقرطبي، وذكر ابن عاشور في تفسيره أن مجيء فعيل بمعنى مفعل كثير في الكلام البليغ، وإنما اختلف في جواز القياس عليه، واختار أن منع القياس عليه للمولدين لم يقصد منه إلا التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ، وأنه لا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه.
وإذا كان هذا الوعيد هنا منصبا على المنافقين بسبب نفاقهم، فلا مانع أن يكونوا داخلين أيضا في عموم وعيد الكفار بقوله تعالى { ولهم عذاب عظيم } ، فإن المنافقين جمعوا بين الكبيرتين، الكفر وخداع المؤمنين، فكانوا أحرياء بالوعيدين، فلهم عذاب عظيم على كفرهم، ولهم عذاب أليم على خداعهم.
صحة قراءتي " يكذبون ":
واختلف في قراءة " يكذبون " فحمزة والكسائي وعاصم قرأوها بالتخفيف من الكذب، ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر قرأوها بالتثقيل من التكذيب، وما أجدر المنافقين بوعيد الكاذبين والمكذبين لجمعهم بين صفتيهم واتصافهم بمساوئهم غير أن ابن جرير - كعادته في انتقاد ما لا يعجبه من القراءات - خطأ قراءة التثقيل ظانا أن الذين قرأوا بها لا يرون الكذب من غير تكذيب يوجب شيئا من العذاب فضلا عن كونه أليما، وأطال في الرد عليهم، واستدل لتصحيح قراءة التخفيف بأنها تتفق مع السياق، فإن قصة المنافقين صدرت بقول الله عز وجل { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } ، وهو دال على كذبهم، فالوعيد على ما سبق ذكره من الكذب أولى من أن يكون على التكذيب الذي لم يذكر، كما استدل لذلك بما وصف به المنافقون من الكذب في غير هذه الآيات، كقوله سبحانه في سورتهم:
إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون
[المنافقون: 1 - 2]، وقوله في سورة المجادلة:
اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين
[المجادلة: 16]، فإن ذلك كله يفيد اتصافهم بالكذب ووعيدهم عليه دون التكذيب.
ولا زلت أستغرب من جرأة ابن جرير على انتقاد ما تواتر من القراءات كأنها مجرد آراء لأصحابها، وليست روايات متواترة النقل عن المعصوم، على أن ابن جرير من أولي الخبرة في الروايات وما يتصل بها، فكيف سمحت له نفسه أن يخطىء قراءة ثبت نقلها بالتواتر عن إمام الهداة وأفصح العرب وأعلم الخلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ما احتج به صالحا للاستناد عليه؟!
أما ما قاله من أن قراءة التثقيل لا تقتضي الوعيد إلا على التكذيب دون الكذب، فما هو إلا وهم اصطبغ به ذهنه فحال بينه وبين درك المراد، فإن الوعيد على الشيء لا يعني عدم الوعيد على غيره، والمنافقون متلبسون بالكذب والتكذيب، فلا غرو إذا توعدوا على الكذب تارة، وعلى التكذيب أخرى، وليس في وعيدهم على أحد الأمرين ما ينافي الوعيد على الآخر، وأنت إذا تدبرت لم تجد فارقا معنويا بين كذبهم وتكذيبهم، فإن دعواهم الايمان بألسنتهم محض كذب وخلو قلوبهم منه هو عين التكذيب بما يجب الايمان به.
وأما ما ذكره من اقتضاء السياق وعيدهم على الكذب الذي سبق ذكره لا على التكذيب الذي لم يكن له ذكر، وتعزيز ذلك بأن المنافقين وصفوا بالكذب وتوعدوا عليه في سائر السور، فهو مدفوع بما علمت من أن كذبهم ينطوي على التكذيب، كيف والايمان نفسه أهم عناصر التصديق، بل هو حقيقته اللغوية؟ فقوله سبحانه { وما هم بمؤمنين } ، يفيد أنهم من المكذبين، وكذلك رده عليهم في سورة المنافقون ما حكاه عنهم من قولهم { نشهد إنك لرسول الله } ، بقوله: { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } ، يفيد أنهم مكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه، فأي غرابة مع ذلك إذا توعدوا على التكذيب .
وجوز الزمخشري أن يكون المشدد دالا على ما يدل عليه المخفف مع المبالغة، كما يقال بين الشيء بمعنى بان، وصدق بمعنى صدق، وموتت الإبل بمعنى ماتت، كما جوز أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حالة المتحير كما هو شأن المنافق الذي دل عليه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند مسلم والنسائي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة "
، وزاد النسائي
" لا تدري أيهما تتبع "
، ووافق الزمخشري على هذين التأويلين لقراءة التشديد السيد الجرجاني وأبو السعود والألوسي، ولست أرى ما يدعو إلى هذه التأويلات القاصية عن الأفهام مع وجود ما يغني عنها من المعنى القريب الذي يمكن أن تحمل عليه القراءة بدون تكلف.
عواقب الكذب وخيمة وهو مشتمل على الكفر:
ولعل تساؤلا يخطر لبعض الناس عن سبب توعدهم على الكذب دون الكفر مع أن الكفر بالله ورسله أكبر الكبائر، وأترك الإجابة عنه لفيلسوف الإسلام الإمام محمد عبده حيث قال: " إن الكفر داخل في هذا الكذب، وإنما اختير لفظ الكذب في التعبير للتحذير عنه وبيان فظاعته وعظم جرمه، ولبيان أن الكفر من مشتملاته وينتهي إليه في غاياته، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير، وتوعد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم إلا فشت فيهم كل جريمة وكبيرة، لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة، ومن كان كذلك لا يترك قبيحا إلا بالعجز عنه، نعوذ بالله تعالى من عمله ومنه ".
وما أحرى الكذب بالوعيد، وما أجدره بالتحذير منه، فإنه عش الرذيلة، وسم الفضيلة، وديدن الأنذال، وشعار الفجار، ولذلك تجد التحذير منه والتنفير عنه في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدا بالغا، من ذلك ما أخرجه الترمذي عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به "
، وأخرج أبو داود عن سفيان بن أسيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب "
، وأخرج مسلم وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع "
، وفي هذا ما لا يخفى على ذي بال من وجوب الحيطة في الحديث وعدم التسرع في نقل ما يسمع من الكلام؛ خشية الوقوف في الإفك والإسهام في نشره.
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم مما يدور في مجالس التسلية عند عوام الناس من أحاديث لا أصل لها، لقصد الإبداع في النكتة وإثارة استغراب السامعين وحملهم على الضحك، فقد أخرج أبو داود والترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له "
، ونفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤمن صفة الكذب، فقد أخرج مالك في الموطأ عن صفوان بن سليم - رضي الله عنه -، قال:
" " قلنا يا رسول الله؛ أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون بخيلا؟ قال: نعم. قيل: أيكون كذابا؟ قال: لا " "
، ذلك لأن الجبن خلقة جبلية في الجبان، فلذلك لم يناف الايمان، وحب المال أمر مركوز في نفس البخيل غير أن الإيمان يغلبه على هذا الطبع، فلا يحول بينه وبين إيتاء الزكاة، وأداء سائر الواجبات المالية، أما الكذب فإنه ينشأ عن اختيار صاحبه، وتعويد لسانه عليه، فلذلك لم يكن يجامع الايمان، وجاء في حديث مرفوع عند أحمد وغيره
" يطبع المؤمن على جميع الخلال ليس الخيانة والكذب "
، وقد تقدم ما يدل على أن الكذب من خصال النفاق وصفات المنافق في الأحاديث التي أوردناها عن ابن مسعود وأبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص في علامة المنافق وخصال النفاق.
والكذب إذا اعتاده الانسان لم يلبث أن يتحول إلى سجية لا ينفك عنها، كما هو شأن الكذابين الذين خبرناهم وعرفنا عنهم الكثير من مساوئ الأعمال وقبائح الخصال، وهو الذي يعنيه حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي رواه الشيخان من طريقه مرفوعا:
" إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ".
وقد جاء وعيد الكذابين في أحاديث متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حديث رؤيا منامه صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان الكذب لا ينشأ إلا عن فساد الفطرة، فإنه لا يجد له مناخا إلا في البيئة التي تسودها الرذيلة وتتقلص منها الفضيلة، وفي مثلها لا يكاد الانسان يثق بمحدث ولا يطمئن إلى حديث، بخلاف بيئة المؤمنين الصالحين، ففيها يطمئن الانسان إلى الحديث ويرتاح إليه، ويثق بمحدثه ويعول عليه.
تعريف الكذب:
وقبل أن أغادر هذا الموضوع أرى من الملائم أن أكمل الفائدة بذكر بعض ما قيل في تعريف الكذب:
فهو عند الجمهور الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع، وبناء على هذا الرأي فإن الكذب الملوم عليه هو ما صدر عن قصد ويمكن الخطأ فيه، وهو عند النظام الإخبار عن الشيء بخلاف معتقد القائل فيه، وعند الجاحظ ما خالف الواقع والاعتقاد.
سبب إمهال الرسول صلى الله عليه وسلم المنافقين:
هذا وقد يتساءل من يسمع قصة المنافقين ومعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عن السبب في إمهالهم وترك قتلهم مع ظهور أمرهم وانكشاف سرهم بشواهد حالهم، وما كان ينزل فيهم من آيات القرآن شارحا لأحوالهم ومشيرا إلى ما يشخصهم من الصفات؟ وقد أجيب عن هذا التساؤل بأربعة أجوبة:
أولها: أن حالهم لم يكن مكشوفا لعامة الناس، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده يعرف حقيقة أمرهم، وليس للحاكم أن يقتل بعلمه باتفاق، وإن أجاز له بعض العلماء الحكم بعلمه فيما دون القتل، واعترض هذا الجواب ابن العربي في أحكام القرآن بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل الحارث بن سويد بن الصامت لقتله المجذر بن زياد غيلة يوم أحد لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بأمره فقتله به، ورد القرطبي هذا الاعتراض بأن الإجماع إن ثبت لا ينقضه ما ذكر فإن انعقاد الإجماع لا يكون إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، ولا يبعد أن تكون هذه القضية واقعة حال أو منسوخة بالإجماع.
ثانيها: أن ترك قتلهم لأن الزنديق - وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان - يستتاب ولا يقتل، أجاب به بعض أصحاب الشافعي، ووهنه ابن العربي بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم إذ لم يرو ذلك أحد عنه، وكان يعرض عنهم ولا يتعرض لهم مع علمه بهم.
ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كف عنهم رعاية لمصلحة الأمة والدين، فقد كان يخشى لو تعرض لهم أن ينفر عنه قلوبا هو أحوج إلى تأليفها، وإلى ذلك يشير جوابه صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه - حيث قال له:
" معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي "
رواه الشيخان. ومثل ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم، ونسب هذه الاجابة القرطبي إلى علماء المالكية، وبمثله يوحي كلام ابن عطية، وذكر أنه ممن نص على ذلك من أصحاب مالك محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون، واستدل لذلك بقوله تعالى:
لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا
[الأحزاب: 60 - 61]، فإن ذلك منوط بإعلانهم النفاق كما قال قتادة.
وهذا ينافي ما روي عن مالك وبعض المالكية أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، إذ لم يشهد على المنافقين، وهذا يتفق مع الجواب الأول.
وذكر القاضي إسماعيل أن عبدالله بن أبي لم يشهد عليه إلا زيد بن أرقم، وكذلك لم يشهد على الجلاس بن سويد إلا ربيبه عمير بن سعد، ولو شهد على أحدهما رجلان بكفره ونفاقه لقتل، وروي عن مالك: " النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة " وهو أحد قولي الشافعي.
واحتج الشافعي للقول الآخر بأن السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن الايمان وتبرأ من كل دين سوى الاسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه، فإن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين لما كانوا يظهرونه من الاسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله، وبهذا القول قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وآخرون.
ولا يسلم للشافعي أن السنة فيمن شهد عليه بالنفاق فتبرأ مما نسب إليه أن يمسك عن قتله لأن المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم كانوا محتاطين لأنفسهم فلا يبوحون بما يقطع بكفرهم عند من تقوم عليهم بهم الحجة من المؤمنين، وإن استدل على طواياهم بفلتات ألسنتهم وقرائن أحوالهم، فليس في ذلك ما يعد بينة يصح بها القتل.
واستدل الطبري لما ذهبوا إليه بتكذيب الله تعالى ظواهر المنافقين في قوله: { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } ، وتعقبه ابن عطيه بأن للمالكية أن ينفصلوا عما ألزموا بهذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم، وإنما توبيخها يشمل كل مغموص عليه بالنفاق، وبقي لكل واحد منهم أن يتخلص بدعوى أنه لم يرد بها وأنه مؤمن، ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا، وتعقب القرطبي هذا التعقب بأن هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو يعلم كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة - رضي الله عنه - يعلم ذلك بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم له، حتى أن عمر - رضي الله تعالى عنه - كان يشفق أن يكون منهم، فيقول له: يا حذيفة؛ هل أنا منهم؟ فيقول له: لا.
هذا وقد سبق ما يدلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحيط علما بجميع المنافقين، وإنما يعرف بعضهم بإخبار الله عنهم أو بتشخيص الوحي لأحوالهم.
رابعها: أن ترك قتلهم للأمن من شرهم، فإن الله قد حفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من إفساد المنافقين دينهم، بخلاف الأجيال التي جاءت من بعدهم فلا يؤمن عليها من شر أهل النفاق ومكائدهم.
وفي هذا الجواب نظر لا يخفى على من أمعن في آي القرآن، ودرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكم حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن الجهاد، ويشيعوا فيهم روح الهزيمة، كما هو واضح فيما نزل في غزوة أحد من سورة آل عمران، وما نزل في غزوة تبوك من سورة التوبة، وبهذا يتضح أن أولى الأجوبة بالصواب هو الجواب الأول، ولا يمنع ذلك أن تضم إليه حكمة مراعاة المصلحة بتأليف القلوب، وتجنب ما ينفرها كما ذكر في الجواب الثالث.
[2.11-12]
هذا هو ديدن المنافقين، ومسلك المفسدين، فإن الغرور يتغلغل في نفوسهم فيعميها عن الحق، ويبعدها عن الحقيقة، فإذا طولبوا بالصلاح، والكف عن الفساد، استخفوا بهذه المطالبة ونظروا إلى صاحبها شزرا، وأعاروه أذنا صماء زاعمين أن ما هم فيه وعليه هو عين الصلاح، وروح الإصلاح، فكيف يطالبون بالكف عنه والتحول إلى نقيضه، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلت إليه قلوبهم من المرض، وانتهت إليه أفكارهم من الانحراف، وبلغت إليه فطرهم من التعفن، وهو الذي أدى إلى انقلاب موازين الأمور عندهم، وانعكاس مقاييسها، فهم يرون الباطل حقا، والحق باطلا، والصلاح فسادا، والفساد صلاحا، وهكذا.
وليس ذلك مقصورا على ذلك الجيل من المنافقين الذين عاصروا نزول الوحي وشاهدوا بزوغ شمس الاسلام، فشرقوا لانتشار ضيائها، وجزعوا من عموم هداها، بل هذه هي سمة أهل النفاق، وطريقة أهل الفساد في كل عصر خصوصا عندما يستشري داؤهما في مجتمع أو شعب أو أمة، فلا تستغرب إن وصفوا المعروف بصفة المنكر أو ألبسوا المنكر حلة المعروف، كما أشار إلى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لا يحتاج إلى أن يقام عليه برهان لوضوحه في مختلف العصور لا سيما هذا العصر الذي فتك فيه بالانسانية عامة، وبهذه الأمة خاصة داء الجاهلية العضال، تلك الجاهلية التي جليت للناس في ثوب مهلهل براق محبوك بخيوط من الزور ومصبوغ بألوان من الخداع، فغرقت في ظلمات الجهل والأوهام حتى لم تعد تبصر الحقيقة أو تفرق بين الحق والباطل، فكم من مأساة ارتكبت في هذا العصر باسم العلم أو التقدم أو الحرية، وكم تهمة وجهت فيه إلى الدين وأهله، وإذا خوطب أحد من هؤلاء المتشبثين بغروره، الغارقين في ضلاله، بآيات الله البينات ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا.
ومن أمثلة ذلك ما كان من أحد الطواغيت - الذين طواهم الزمن - عندما طولب بتطبيق شرع الله، فأجاب ساخرا من هذه المطالبة وممن صدرت منه: " إن زماننا هذا أوسع من أن تتسع له شريعة الله " كأنما شرع الله الذي وسع السماوات والأرض، والذي قام على موازينه الوجود، أضيق مجالا وأقل عطاء في نظره من تلك الأوهام الضالة التي أخرجت للناس في صورة قوانين لتبث في الأرض الفساد وتشيع الظلم بين الناس.
ومما شاع في أوساط كثير من أولئك الذين أصيبوا بهذا الداء الجاهلي الدفين، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل غاشم في شئون الناس الخاصة، ومصادرة لحرياتهم الشخصية ضاربين عرض الحائط بقوله عز وجل:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون
[آل عمران: 104]، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اعتبروا المحافظة على الدين من العيوب التي يستحيي منها الفرد الكيس، ويترفع عنها المجتمع الواعي، فلم يتورعوا أن يصفوا التمسك بالمبادئ الحقة تارة بالجمود، وتارة بالتحجر، ومرة بالرجعية، وأخرى بالتطرف، ولا أزال أذكر جواب أحد المغرورين عندما وجه إليه أحد دعاة الخير نصيحة بالكف عن مفسدة فقال له ساخرا منه ومن نصيحته: (ما أغلى نصحك وأحلى كلامك غير أنهما لم يأتيا في زمنهما المناسب، فقد تأخرا عن وقتهما قرنا من الزمن، وعجلة الأيام لا تعود إلى الخلف)، وهو كلام يدل على أن صاحبه يعتقد بأن الدين طواه الزمن وأبلاه الدهر، فلا يصلح اليوم لما كان يصلح له بالأمس، ولكن - بحمد الله - أصيب الذين يسودهم هذا التفكير بخيبة أمل عندما أثبتت الأيام أن الدين وحده هو القوة الغيبية التي تتلاشى بين يديها جميع القوى، وأنه - رغم محاربته والتآمر عليه بشتى المكائد - لا يزال في إقبال ونمو كما شرع أول مرة، فهذه الصحوة الإسلامية - والحمد لله - أخذت تقض على الجاهلية الحديثة مضجعها، وتثير في أعماق نفسها الخوف والرعب، وسوف يأتي اليوم الذي يسود فيه هذا الدين إن شاء الله، ويهد أركان هذه الجاهلية، ويجتث بنيانها كما فعل بسالفتها الجاهلية القديمة؛ عندما طوى ظلامها بإشراق نوره وسطوع هداه.
وكثيرا ما يتردد على ألسنة منافقي العصر الحديث التشدق بالاسلام، ودعوى الانتماء إليه، والاعتزاز به، ليواروا بذلك ما ينطوون عليه من الكفر والشر والفساد، غير أن طبيعتهم المنحرفة تجعلهم أحيانا تفيض ألسنتهم بما تطفح به صدورهم من الحقد الدفين والكراهية المتأصلة للاسلام والمسلمين.
وقوله تعالى: { وإذا قيل لهم.. } " الآية " ، وارد مورد تعداد مساوئ المنافقين، وهتك أستارهم والنعي عليهم، فلذلك لا أجد داعيا إلى السؤال هل هو معطوف على جملة " يكذبون " من الآية السابقة كما رجحه الزمخشري، أو معطوف على { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } كما اختاره الألوسي، أو معطوف على { يقول آمنا } كما حكاه الزمخشري، أو على { في قلوبهم مرض } كما استظهره ابن عاشور؟ فإنه مع جواز عطف القصة على القصة - كما تقدم - لا يمنع أن تساق أحوال طائفة مخصوصة في نسق يتبع بعضها بعضا سواء كان الحديث عن بعضها في جملة أو أكثر، إذ المراد تجلية هذه الأحوال للسامعين ليكونوا منها على بصيرة ومن أصحابها على حذر.
ويرى بعض أهل التفسير أن إذا هنا عارية عن معنى الشرط، وإنما هي للظرفية وحدها، ويترتب على ذلك كونها للمضي وليست للاستقبال كما إذا كانت شرطية، وهو واضح لأن ذلك ديدنهم قبل الاخبار عنهم، ونحوها قوله تعالى:
حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر
[آل عمران: 152]، فإن دلالتها على المضي فيه واضحة.
وتقديم الظرف على { قالوا إنما نحن مصلحون } هو - كما يقول ابن عاشور - لايقاظ الأفكار وتنبيه العقول على ما وصلوا إليه من الفساد، وانتهوا إليه من الضلال، وفي ذلك تعجيب من حالهم، فإنه من شأن الفساد أن يكون باديا للأنظار السليمة ومتشخصا للأفكار المستقيمة، ولا تكون المكابرة بإنكاره ودعوى أنه عين الصلاح وروحه إلا ممن بلغ الفساد فيه غايته، خصوصا عندما يكون مثل هذا الجواب موجها إلى الناصح الأمين في مقام التوعية والتنبيه.
واختلف في قائلي { لا تفسدوا في الأرض } هل هو الله أو رسوله أو المؤمنون؟ ولا فارق بين أن يكون قائل ذلك هو الله أو الرسول، نظرا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، أما القول الثالث - وهو أن قائله المؤمنون - فهو محمول على أن طائفة من المؤمنين كانت تكتشف خبايا المنافقين بما يكون بينهم من الاتصال بسبب قرابة أو صحبة، ولا يألون جهدا - عندما يكتشفون نفاقهم - أن يوجهوا إليهم النصح، ويحاولوا تخليصهم مما هم فيه من الضلال راجين أن تجدي فيهم الموعظة ويؤثر فيهم التذكير، وهذا القول مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروي مثله عن مقاتل، واعتمده العلامة ابن عاشور نظرا إلى أنه لو كان قائل ذلك هو الله أو رسوله لانكشف أمرهم وانهتك سرهم ولم يعودوا في طوايا الخفاء، ولو كان هذا الخطاب موجها إليهم إجمالا كما تتنزل مواعظ القرآن، لم يستقم جوابهم { إنما نحن مصلحون } لأن مثل هذا الجواب المقرون بالتأكيد لا يصدر إلا ممن خص بالخطاب.
واستشكل كون طائفة من المؤمنين عرفت أشخاص المنافقين أو بعضهم، واكتشفت خبايا نفاقهم، ولا تكشف مع ذلك أمرهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولسائر المؤمنين.
وأجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن المكتشفين كانت بينهم وبين من اكتشفوهم صلة قربى تجعلهم يطمعون أن تجدي فيهم موعظتهم، ويؤثر فيهم تذكيرهم، فلذلك كانوا يؤثرون سترهم رجاء أن يتحولوا في يوم من الأيام عما هم فيه من الضلال، وإن كانوا أحيانا يشارفون اليأس من صلاحهم عندما يقرعونهم بمثل هذا الجواب الذي يستأصل كل طمع في ارعوائهم.
ثانيهما: أنه لا يبعد أن يكونوا قد كشفوا أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن المنافقين كانوا من الحذر على أنفسهم بحيث لا ينكشف أمرهم إلا مع الوحدان دون الجماعات، فلم تكن الحجة تقوم بهم عليهم، وهذا الجواب هو الذي يجب الاعتماد عليه - فيما أرى - لثلاثة أوجه:
أولها: أن المؤمنين لم يكونوا يرعون في جنب الحق قرابة قريب ولا صلة واصل، وما كانوا تأخذهم في الله لومة لائم، بل كانوا يؤثرون الحق على آبائهم وأبنائهم، وأحب الأحباب إليهم، كما يدل على ذلك موقف ابن رأس النفاق عبدالله بن أبي من أبيه حال رجوع المسلمين من غزوة بني المصطلق، فقد اعترض دخوله المدينة إلا بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورماه بألذع الكلمات انتصارا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقف أمره عند هذا الحد، بل استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله.
ثانيها: أنه سبق ذكر بعض من شهد على أهل النفاق من قرابتهم كربيب الجلاس الذي شهد عليه.
ثالثها: أن في القرآن الكريم تصريحا بأن المنافقين كانوا يتوقون بالأيمان، فقد قال تعالى عنهم:
اتخذوا أيمانهم جنة
[المجادلة: 16]، وقال:
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر
[التوبة: 74]، وكفى بذلك شاهدا على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أخلصوا لله إيمانهم ومحضوه ولاءهم كانوا يفضحون كل من بدرت منه بادرة سوء من المنافقين أمام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وذلك الذي يلجئ المنافقين إلى تكرار الأيمان اتقاء لما عسى أن يترتب على ما نسب إليهم من الأحكام.
واستظهر بعض المفسرين أن قائل { لا تفسدوا في الأرض } هو من نفس المنافقين، إذ لا يبعد أن يلمع لبعضهم بريق من الفطرة فيدرك أن المغبة السيئة لما هم فيه لن تعود إلا عليهم، وأن إغراق رؤسائهم في النفاق، ومحاربة الاسلام وأتباعه، وتأليب المشركين على المسلمين من خلف الأستار فتنة عمياء قد يكونون هم الذين يصطلون نارها، فلعل المشركين إن تمكنوا من المسلمين ينقلبون عليهم ويتخلصون منهم كما تخلصوا من المسلمين، غير أن رؤساءهم يرون أن خطتهم هي عين الصواب، فقد سبق للمشركين أن جاوروهم زمنا طويلا فلم ينتزعوا منهم سلطانهم الروحي ولم يهددوهم في مصالحهم المادية، بل كانوا ينظرون إليهم نظر إعظام وإكبار لتميزهم عليهم بما عندهم من علم الكتاب، وانفرادهم بينهم بمعارف النبوات حتى أنهم كانوا يدفعون إليهم أفلاذ أكبادهم لينشأوا على دينهم ويتغذوا بمعارفهم، فرعبهم إنما هو من المسلمين دون غيرهم، وهذا مبني على أن المنافقين كانوا من اليهود كما تقدم.
والفساد خروج الشيء عن الاعتدال اللائق به الذي تتوقف عليه منفعته، وإفساده إخراجه عن ذلك، وقسم بعضهم الفساد إلى قسمين، فساد طارئ وفساد أصيل، فالفساد الطارئ تحول الشيء من المنفعة إلى المضرة، والفساد الأصيل وجوده ضارا من أول الأمر، وعليه فالافساد يكون إما باستخدام ما ينفع فيما يضر، وإما إيجاد ما يكون منه ضرر من غير منفعة، واستظهر ابن عاشور أن الفساد موضوع للقدر المشترك من هذين المعنيين، فيتناولهما مع إطلاقه، وليس من الوضع المشترك بحيث يستقل كل واحد من المعنيين بدلالة اللفظ عليه فيكون إطلاقه عليهما من باب إطلاق المشترك على معنييه.
والإفساد في الأرض يكون بتحويل المنافع إلى مضار كالغش في البضائع، وبالقضاء على منافعها، كالاحراق، وقتل من لا يستحق، وبإثارة الفتن بين أهلها لما يترتب عليها من الأحقاد التي تقطع العلاقات وتحل الوشائج، والحروب التي تهلك الحرث والنسل.
ومن أنواع الإفساد، تحسين المنكرات، وتزيين الباطل، والتنفير عن الحق، وتقبيحه بدعايات الزور، والمنافقون قد أخذوا بحظ وافر من أنواع الفساد جميعها، ولا يبعد أن يكون حذف معمول تفسدوا لأجل تأكيد العموم المستفاد من وقوع الفعل في حيز النفي كما نبه عليه المحقق ابن عاشور، على أن ذكر مكان الافساد وهو الأرض من أدلة قصد العموم، فكأن كل جزء منها مصاب بأثر إفسادهم، وهذا لأن ما يقع في أي رقعة من هذه الأرض من المنكرات ينعكس أثره على جميعها.
واختلف أهل التفسير في المراد بالافساد هنا، قيل إنه الكفر، رواه ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو المعصية، رواه ابن جرير عن الربيع بن أنس، ونسبه الفخر الرازي إلى ابن عباس والحسن وقتادة والسدي، وحكى تقريره عن القفال بأن معصية الله في الأرض إنما كانت فسادا، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان، ولزم كل أحد شأنه، وحقنت الدماء، وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه، لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى:
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض
[القتال: 22]، نبههم على أنهم إن أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الافساد في الأرض، وقيل هو ما يكون من المنافقين من مداراة للكفرة والاختلاط بهم، لما في ميلولتهم إلى الكفر مع تظاهرهم بالايمان من إيهام بضعف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وما يترتب عليه من تجرؤ الكفرة على إظهار عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيقاد نار الحرب له وطمعهم في الانتصار عليه، وقيل إنهم كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه صلى الله عليه وسلم وجحد الاسلام، وإثارة الشبه حوله.
وذكر المحقق ابن عاشور أن إيقاعهم الفساد ينقسم إلى مراتب:
أولها: إفسادهم أنفسهم بإصرارهم على تلك الأمراض النفسية الناشئة عن النفاق التي سلف ذكرها، وما يتولد منها من مفاسد، ويترتب عليها من مذام.
ثانيها: إفسادهم أولادهم وحواشيهم، لأنهم يقتدون بهم في مساوئهم، وإفسادهم الناس ببث تلك الصفات الذميمة بينهم ودعوتهم إليها، وهذا ما حكى الله عن نوح - عليه السلام - أنه قال:
إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا
[نوح: 27].
ثالثها: إفسادهم مجتمعهم بأفعالهم التي يستشري داؤها في أوساط الناس، كإلقاء النميمة، وإثارة العداوة، وتسعير الفتن، وتأليب الأحزاب على المسلمين، وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
والافساد يعم ذلك كله، كما يعم كل ما ينشأ عنه من مضرة في الدين أو الدنيا، كانتشار الجهل، وحصول الانحراف الفكري أو السلوكي، وقتل الأنفس، وغصب الأموال وإتلافها، وانتهاك الأعراض، وهو مما يترتب على أعمال المنافقين من إثارة الأحقاد، وتأليب الأحزاب، وإلقاء الشبه، وإغراء العداوات والبغضاء بين الناس.
واختلف في المراد بالأرض هنا، فقيل أرض المدينة، وعليه ف (أل) للعهد الذهني، للعلم بأن القرآن كان يتحدث عن المنافقين الموجودين في عصر النبوة، وكانوا منبثين في أنحاء المدينة المنورة وما حولها، وقيل بل المراد بالأرض الكرة الأرضية وما فيها من الناس والحيوانات والنبات والجماد والنواميس والأنظمة، لانعكاس أثر الفساد على ذلك كله، فإن الأرض جزء من مملكة الله الواسعة تربطها بسائر الأجزاء نواميس وأنظمة، وسنن وطبائع، وفي خروج الانسان عن منهج الله إخلال بهذه الرابطة، ونقض لعرى هذه الوحدة.
وأنت إذا تدبرت ما أسلفناه من أن الحديث عن المنافقين في القرآن لا ينحصر في تلك الطائفة التي كانت في عهد النبوة، وأنه يتجه إلى كل من شاكلهم في أي عصر، أدركت رجحان الرأي الأخير، على أنه مما ينبغي ألا يغفل عنه أن في ذكر الأرض تنبيها لأولئك المفسدين المخاطبين بأن عاقبة فسادهم تنقلب عليهم بالمضرة، وتعود عليهم بالخسران، فالأرض مهادهم في حياتهم، عليها يستقرون، ومثواهم بعد مماتهم إليها يرجعون، ومصدر كثير من نعم الله عليهم، وقد أعدت بما جهزت به من مختلف الطبائع لأن تكون صالحة للاستقرار، ومتلائمة مع سنن الكون ونواميس الوجود، ففساد المفسدين فيها ينعكس أثره السلبي عليها، ولذلك تكرر تحذير الانسان من الافساد في الأرض، وتوبيخ المفسدين فيها في آي القرآن، نحو قوله عز وجل:
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
[الأعراف: 56]، وجاء في القرآن ما يدل على أن الاستقامة على منهج الله من أسباب استمرار الخير، وحصول المنافع، وتتابع النعمة، فالله تعالى يقول:
وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقا
[الجن: 16]، ويحكي عن نوح - عليه السلام - قوله لقومه:
استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السمآء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا
[نوح: 10 - 12]، وكثيرا ما تكرر في القرآن تذكير الانسان بنعمة الله عليه بخلق الأرض وما فيها لأجله، وبتهيئة أسباب عيشه وراحته فيها، ومنه قوله تعالى:
والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم
[النازعات: 30 - 33]، وقوله:
فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا المآء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدآئق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم
[عبس: 24 - 32]، وفي طي هذا التذكير تحذير من كفران هذه النعم واستخدامها في غير ما خلقت لأجله.
وقولهم: { إنما نحن مصلحون } رد على نسبة الافساد إليهم، بما يفيد أنهم أبعد ما يكونون عن الحوم حول الفساد أو الإفساد، حيث نسبوا في هذا الرد إلى أنفسهم الإصلاح الذي هو نقيض الإفساد، وأتوا بالجملة الاسمية في مقابل الفعلية التي خوطبوا بها، لتأكيد استمرارهم على منهج الإصلاح، وهذا لأن شأن الجملة الاسمية إفادة الثبوت والدوام، وأكدوا مرادهم بإنما المفيدة للقصر، كل ذلك لدرء ما وجه إليهم من تهمة الإفساد، والتنصل مما رموا به بسبب ما ينكشف منهم من بوادر السوء، ويفيض على ألسنتهم أحيانا من عبارات تكن الحقد والكراهية، وهو معنى ما رواه ابن جرير في تفسير الآية عن مجاهد أن مرادهم بهذه الإجابة أنهم على الهدى مصلحون، وثم أقوال أخرى للمفسرين:
منها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن مرادهم بهذا القول إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب، ومعنى ذلك أنهم يريدون إرضاء الطائفتين، والتقريب بين معتقداتهما، وقيل إن الجواب يتضمن الاعتراض بما اتهموا به من موالاة الكفار وممالأتهم، ولكنهم نفوا عن ذلك صفة الفساد زاعمين أنهم بما يأتون مصلحون، لأنهم يرعون به قرابة ذوي القربى من الكفار المعاندين.
ويتبادر أن أصحاب هذا القول والذي قبله يستندون فيهما إلى ما يوحي به قوله عز وجل:
فكيف إذآ أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جآءوك يحلفون بالله إن أردنآ إلا إحسانا وتوفيقا
[النساء: 62]، ولعل أكثر المفسرين أميل إلى القول الأول، ويعتضد رأيهم بقوله سبحانه:
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشآء ويهدي من يشآء
[فاطر: 8]، وقوله:
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف: 103 - 104].
وفي تصدير جوابهم بأداة القصر تأكيد لما يزعمونه من الإصلاح، فإنهم أرادوا معاكسة متهميهم بالإفساد بهذا القصر القلبي، بحيث يوهمونهم أن الإصلاح متمحض فيهم، وأن شائبة من الإفساد لم تحم حولهم، فإن الذين اتهموهم إما أن يريدوا بقولهم لهم { لا تفسدوا في الأرض } لا يكن عملهم إفسادا من غير إصلاح، وإما أن يريدوا به لا تخلطوا بين الصالح والفاسد من الأعمال، فإن الفاسد يؤثر على الصالح فيفقده منفعته، فكان جوابهم يفيد أن أعمالهم كلها مقصورة على الاصلاح، وهو ناتج عن ضلال فكرهم، وفساد فطرهم، وقد رد الله عليهم بقوله: { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } لاستئصال ما تشبثوا به من دعوى فارغة بأنهم لم يتعدوا حدود الاصلاح.
وقد صدر هذا الرد بأداة الاستفتاح المفيدة للتأكيد، ووليت ذلك " إن " المختصة به، وجيء بالمسند معرفا لإفادة قصره على المسند إليه، ووسط بينهما ضمير الفصل المؤكد لهذه الإفادة، ليكون ذلك أبلغ في نقض دعواهم وكبح غرورهم وفضح سرائرهم، فظاهر الرد يقضي أن الافساد منحصر فيهم، وأنه صفتهم الوحيدة التي يتميزون بها، وذلك لا ينافي أن يكون في الأرض من لا يحصى عددا من المفسدين غيرهم، كالمشركين المجاهرين بشركهم، لأن القصر في الرد هو قصر قلب كما سبق بيانه في تفسير جوابهم، وهو من ضروب تأكيد الكلام.
وحصر الافساد في هؤلاء لأنهم بمسلكهم الملتوي وسلوكهم المتلون أخطر ما يكونون بين الناس، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأن تتفشى العداوة بين الناس، وأن تتقطع الصلات بين الأقربين، وأن تتحول أسباب الخير، والرحمة، والمودة، إلى أضدادها، وإنما يحول بينهم وبين إدراك خطأ ما هم فيه وضرر ما هم عليه؛ تبلد أذهانهم وانطماس بصائرهم حتى صاروا لا يشعرون فظنوا الشر خيرا، وسموا الإفساد إصلاحا.
ونفي الشعور عنهم يعم نفي شعورهم بسوء حالهم في الدنيا، وشر مآلهم في الآخرة، فإنهم لو رزقوا شيئا من نور العقل لأدركوا أن ما يزعمونه إصلاحا ويعتقدونه صلاحا، هو مفتاح كل شر على أنفسهم، ولأدركوا أن عاقبة مكرهم ستحيق بهم { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } ، ولو فكروا قليلا فيما بعد هذه الحياة لبادروا إلى الإقلاع عن حالتهم والرجوع عن غيهم.
والظاهر أن الشعور المنفي هنا هو شعور مقيد، وهو إدراك خطأ ما يأتونه من الأعمال التي يعاكسون بها دعوة المصلحين، أو إدراكهم شر ما ينتظرهم من العذاب في الآخرة ومن المهانة في الدنيا كما أشرنا إليه من قبل، وقيل هو مطلق الشعور؛ للإيغال في ذمهم والمبالغة في تسفيههم، فقد أنزلوا منزلة البهائم العجماء التي لا تميز بين الخير والشر، ولا تفرق بين النافع والضار، وعليه ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين حتى لا يبالوا بما يلقونه من عنت هؤلاء المنافقين، ومن نظرائهم في كل عصر، وذلك أن مسلك أهل النفاق لا يكاد يختلف بين زمان وآخر، وما يلقاه منهم المؤمنون الصالحون صورة متكررة مما صدر من أسلافهم الذين كانوا مصدر عنت وبلاء في عهد النبوة، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ورفعة قدره ع ند الله قد لاقى الذي لاقاه منهم، فلا عجب إن لقي أتباعه صلى الله عليه وسلم في العصور المتتابعة من سفه الضالين وعنت المنافقين ما يكاد يزهق النفوس ويطير العقول؛ لولا صلتها بالله وثقتها بوعده.
وروى ابن جرير عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن المذكورين في الآية لم يأتوا بعد، وحمله ابن جرير على أن أكثر المتصفين بهذه الصفات إنما يأتون بعد عهد النبوة، ما عدا طائفة منهم كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، وهي قليلة إذا ما قيست بمن يأتي من بعدها ممن هو على شاكلتها، وفي هذا ما يؤيد ما ذكرته من قبل من تكرر صورة النفاق والمنافقين في كل عصر، خصوصا عندما يشعرون بدنو قوة الاسلام ويتوجسون خيفة من سلطانه، فإنهم لا مفر لهم في هذه الحالة من أن يلبسوا لبوسه، ويمشوا في ركاب أهله، وليس مرادهم من ذلك إلا انتهاز الفرصة المواتية ليطعنوه من الخلف، مع ما ينالونه بهذا المسلك من أغراض دنيوية ومنافع عاجلة
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
[التوبة: 32 - 33].
هذا ويرى بعض المفسرين عدم اشتراط وقوع ما ذكر من القول والجواب في الآية، فقد جوز أن يكون من باب التصوير لحالهم، فكان شأنهم شأن من إذا طولب بالكف عن الفساد ونصح بلزوم مسلك الصلاح ازدرى بناصحه، وزعم أن ما يأتيه هو عين الصلاح، وهذا كما لو أردت أن تكشف سجية أحد فقلت لمن تحدثه عنه إن قلت له كذا أجابك بكذا، ويبعد هذا القول مكان " إذا " المفيدة لتحقق الوقوع.
[2.13]
يسوغ هنا ما سبق في قوله { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } أن يعتبر قائل ذلك هو الله أو رسوله أو المؤمنون أو المنافقون أنفسهم، عندما يفكر بعضهم في عاقبة هذا النفاق وما يكلفهم من ابتكار الحيل وانتحال الأكاذيب لأجل درء التهم، وتحسين المظهر، فتكون إجابة أولئك الذين مردوا على النفاق وغرقوا فيه إلى الأذقان ما حكي عنهم هنا وهناك، والمراد بالناس الذين جمعوا صفات الانسانية الكاملة، فلذلك اعتبرت محصورة فيهم، وكأن من عداهم ليس من الانسانية في شيء، وروى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المهاجرين والأنصار، الذين رسخت أقدامهم في الإيمان، وانشرحت صدورهم باليقين، وعليه عول كثير من المفسرين، وقيل: المراد بهم من آمن من أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام - رضي الله عنه -، وهو مبني على ما سبق ذكره من أن الخطاب لمنافقي اليهود، وقيل: المراد بهم الناس الذين يعتقدون فيهم كمال الانسانية ورقي الأفكار وإشراق العقول، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين الذين يفخرون بالانتماء إليهم.
النفاق يزين الباطل ويقبح الحق:
وعلى أي حال فإن هذا الوصف يصور لنا ما يصل إليه النفاق بأهله من تزيين الباطل وتمجيد ذويه، وتقبيح الحق وتسفيه أتباعه، وإعراضهم عن الناصح واستخفافهم بنصيحته، ولا عجب فإن الحق من دلائل صدقه استهانة المبطلين به، وإن من علامات كمال الفضيلة في الانسان، واتصافه بأرقى الصفات الانسانية؛ استخفاف سفهاء الأحلام به، ورميهم إياه بالمذام والنقائص، كما قال المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
وليس ما نشاهده ونسمعه في هذا العصر من سخرية المفسدين بالمصلحين واستخفافهم بحلومهم، ونبزهم بالألقاب الشائنة، ولمزهم بالعبارات الجارحة، إلا امتداد لأحوال قديمة دأب عليها أولو الفساد، فكانت من علاماتهم التي بها يعرفون.
ومجيء هذه النصيحة بعد ما قبلها لما في تلك من الحض على توقي الفساد، وما في هذه من الدعوة إلى التلبس بضده، وهو معنى ما قيل " التخلي قبل التحلي " فالنفس لا تتأهل لأن تكون وعاء للخير حتى تتطهر من أدران الشر، ولا يمكنها أن تتحلى بالفضائل المحمودة حتى تتخلى عن الرذائل المذمومة، وكيف يقر الإيمان في نفس لوثها الفساد، وألفت الشقاق والنفاق؟ اللهم إلا أن يتغير مسلكها، وتتبدل عاداتها، فتكون كأنما أنشئت نشأة جديدة بعيدة عن تلك الطباع التي كانت عليها، والمفاسد التي أحاطت بها.
ويرى ابن عاشور في تفسيره أن ذكر الناس هنا جار على سنن كلام العرب عندما يريدون إغراء المخاطب بشيء، وحضه على المسارعة إليه، فإنهم يستخدمون كلمة الناس وسيلة لتنبيه المخاطب بأن من عداه من هذا الجنس قد سبقوه إلى هذا الفعل، فجدير به أن لا يتوانى في اللحاق بهم، ومثل ذلك استخدامهم لها إذا ما قصدوا التسلية إو الإئتساء كما في قول النهمي:
وننصر مولانا ونعلم أنه
كما الناس مجروم عليه وجارم
ويرى صاحب المنار أن الشرط والجزاء مفروضان هنا وفيما تقدم فرضا لأجل كشف ما ينطوون عليه، وإحضار حقيقة أمرهم في صورة المحسوس جريا على أساليب الكلام المألوفة عند العرب إذا أريد تنبيه الأذهان وتوجيهها إلى الاحاطة بمعاني الكلام، ولأجل ذلك استخدم العلماء الباحثون هذا الأسلوب عندما يرومون الكشف عن مخدرات المسائل وحل عويصات المشكلات، فإنهم كثيرا ما يقولون إن قيل كذا أجبنا بكذا؛ وبناء على رأيه هذا فلا داعي إلى البحث عن الداعي إلى الايمان، هل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون أو جماعة من المنافقين أنفسهم، بحسب ما تقدم، وهو رأي وجيه، وقد ألمحت إليه وعزوته إلى بعض المفسرين في آخر تفسير الآيتين السابقتين.
ويرى جمهور المفسرين أن مرادهم بقولهم في الرد على داعي الايمان { أنؤمن كمآ آمن السفهآء } التبرؤ مما دعوا إليه من الحق على أبلغ وجه، فقد اعتبروا ذلك من شأن السفهاء الذين طاشت حلومهم وزاغت أفكارهم، وذلك ما لا يتفق مع ما يرون عليه أنفسهم من رجاحة العقل، واتقاد الذهن، ونفاذ البصيرة، وينطوي - مع ذلك - جوابهم على قصد التعريض بالمؤمنين بأن السفه هو الذي قادهم إلى الايمان، والتخلي عما كانوا عليه من العقائد والعبادات، ولا يبعد أن يقصدوا التعريض بالسابقين الأولين من المهاجرين، فإن جلهم كانوا من المستضعفين، كصهيب وبلال، ومن عادة المتكبرين في الأرض احتقار طبقة الضعفاء ووصفهم إياهم بالسفه، ولمزهم بقبيح الكلام، كما أن من شأنهم تهجين الدخول في مداخلهم والشموخ عن التأسي بهم في مواردهم ومصادرهم.
ولا يرد على ذلك كون ضعفهم تحول إلى قوة بعد الهجرة وقيام الدولة الاسلامية التي أظلت الجميع بظلها الوارف، وآوتهم في حصنها الحصين، وتآزر المؤمنون على القيام بواجباتها بحيث صاروا كالبنيان يشد بعضه بعضا، وكالجسد يشتكي كل عضو منه إذا ما تألم عضو واحد، ونعم في حماها المستضعفون كغيرهم بالمنعة والاطمئنان، ذلك لأن اللامزين بهذا الوصف إنما كانوا يعيرونهم بما كانوا عليه من قبل من الذلة والضعف والفقر.
ويحتمل أن يريدوا بالسفهاء المهاجرين والأنصار جميعا لاعتبارهم ما أتوه سفها يربأون بأنفسهم عنه، فالمهاجرون خرجوا من ديارهم وقد تركوا وراءهم الموطن والأولاد والأموال بعدما تقطعت الصلات بينهم وبين عشائرهم الأدنين، وحلت محلها العداوات والإحن بسبب اعتناق هذا الدين والقيام بالدعوة إليه، والأنصار آووا المهاجرين في بلادهم وأشركوهم في أموالهم وآثروهم على أنفسهم وعيالهم وكلا الأمرين في نظر المنافقين سفه وضلال، لأنهم ينظرون إلى الأمور بالمنظار المادي، ومن شأن الناس أن يعدوا المال قوام الحياة، وأن يعتبروا الأهل والعشيرة معقل العز، كما أن من شأنهم أن يضيقوا ذرعا بالمهاجرين إليهم إذا ما شاركوهم في معايشهم، وضايقوهم في مساكنهم، فلا غرو إذا نظر المنافقون إلى طائفتي المهاجرين والأنصار نظر الاستخفاف والازدراء، ونسبوهم إلى السفه، وحكموا عليهم بالضلال.
وبناء على ما تقدم رأى أكثر المفسرين أنه لا يتأتى صدور هذا القول منهم إلا فيما بينهم، أو أنهم كانوا يقولونه في سرائرهم من غير أن يبوحوا به؛ وإلى الاحتمال الأول ذهب الواحدي حيث قال: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك عنهم.
وهذا لأنهم لو كانوا يعلنون تسفيه الحق وتضليل المحقين أمام المؤمنين لكانوا مجاهرين بالكفر وعدوا من الكفرة الصرحاء لا من المنافقين المتكتمين، فإن النفاق يقتضي أن يطوي صاحبه سريرته عن الناس ويبدي لهم خلافها.
وضعف أبو السعود في تفسيره رأي الجمهور؛ نظرا إلى أن الذي تقتضيه جزالة عبارات التنزيل أن يكون صدور هذا الجواب بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم، لأن السياق يدل على حوار بين طائفتي الايمان والنفاق، وتدافع بين كتلتي الوفاق والشقاق، واختار أن قولهم هذا - وإن صدر عنهم بحضور الناصحين - لا يقتضي كونهم مجاهرين وإنما هو أسلوب من أساليب الخداع، وفن من فنون النفاق وارد مورد قولهم
واسمع غير مسمع
[النساء: 46]، من احتمال الأمرين بحسب تقدير المعمول إذ يمكن أن يحمل على الدعاء بالخير إن قدر غير مسمع مكروها، وبعكسه إن قدر غير مسمع خيرا، وكانوا يلقون هذا الكلام على النبي صلى الله عليه وسلم استخفافا وسخرية، فقد كانوا يوهمونه قصد الدعاء بالخير وهم يبطنون ضده، فنزل القرآن هاتكا سترهم كاشفا سرهم، حتى لا يتطاولوا على حضرة صاحب الرسالة بعبارات الهزء والسخرية.
وجعل أبي السعود ما في هذه الآية نظير ما في تلك يعني أنهم كانوا يواجهون نصحاءهم بمثل هذا الجواب استنكارا منهم لدعوتهم إلى الإيمان كما آمن الناس، زاعمين أنهم على ذروة الإيمان، فإذا لم يكن إيمانهم كإيمان الناس الذين بهم الإعتداد، وفيهم الأسوة، فهل إيمانهم كإيمان السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بهم ولا بعقائدهم، وهكذا يوهمون النصحاء الدعاة إلى الإيمان مع انطواء جوابهم على مغزى آخر من مغازي الكلام، وهو لمز المؤمنين بالسفه والطيش، وإلى ذلك كانوا يهدفون.
وقد مر بكم في تفسير الآيتين السالفتين بيان احتمال أن تكون هذه الفلتات من المنافقين بمحضر وحدان المؤمنين دون جماعاتهم بحيث يمكنهم التخلص منهم، ومما يترتب على رفائعهم - لو كشفوا أمرهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين - بالمعاذير التي ينتحلونها والأيمان التي يكررونها، وبهذا ينحل كل ما تصوروه من إشكال في هذا التقاول، ويستغنى عما جاء به أبو السعود زاعما أنه الحق الذي لا محيد عنه، وبحسبكم ما ذكرته ثم - من شواهد الآيات الدالة على أن المنافقين كانوا يجهدون في اختلاق المعاذير وانتحال الأكاذيب وإغلاظ الأيمان لأجل درء التهم عنهم وتخلصهم مما ينسبه إليهم المطلعون على أمرهم من المؤمنين - دليلا على صحة كون هذا التقاول بينهم وبين المؤمنين.
هذا وقد عزا الألوسي ما ذكره أبو السعود إلى الشهاب الخفاجي، وذكر أنه ادعى أن ذلك من بنات أفكاره، ورد عليه الألوسي بأن قولهم { أنؤمن } إنكار للفعل في الحال، وقولهم { كمآ آمن السفهآء } بصيغة الماضي صريح في نسبة السفاهة إلى المؤمنين بسبب الإيمان، فلا تورية في خطابهم، ولم ير الألوسي مانعا أن يصدر عن أحد المتحاورين في الخلاء ما هو حري أن يكون في مقام التحاور بينهما.
وإذا تأملتم ما حررته لكم هنا وفيما تقدم كنتم في غنى عن جميع هذه التكلفات.
وأصل السفه عند العرب الرقة والخفة، ولذا يوصف به الثوب الرديء النسج، ومن عادة الخفيف الاضطراب وعدم الاستقرار، ولذا أطلقوا السفه على هذه الحالة كما قال ذو الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت
أعاليها مر الرياح النواسم
وأطلق على الطيش، واضطراب الرأي، وسوء التدبير لما يستلزم ذلك من خفة النفس وعدم استقرار أفكارها، ولذلك وصف القرآن المبذرين للأموال بالسفه لفقدانهم الضبط، ومنه قوله تعالى:
ولا تؤتوا السفهآء أموالكم
[النساء: 5]، وقوله:
فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا
[البقرة: 282]، ويطلق السفه في الاسلام على تفويت المنفعة العاجلة أو الآجلة، ومنه قوله سبحانه وتعالى:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه
[البقرة: 130].
وقد انتصر الله سبحانه لعباده المؤمنين وحزبه المفلحين من أعدائهم المنافقين بأن سجل عليهم صفة السفه التي رموهم بها ووسمهم مع ذلك بالجهل، وما أضل من حكم الله عليه بالسفه، وما أحير من رماه تعالى بالجهل.
وجاء الرد مصدرا بأداة الاستفتاح ومؤكدا بحرف التأكيد، ومعرفا طرفاه - وهما المسند والمسند إليه مع توسيط ضمير الفصل بينهما - كل ذلك لتأكيد الدلالة على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين الذين وسموهم بها، وقد جعل سفههم من الظهور بحيث لا يخفى على متأمل، ولكن جهلهم بالأمور هو الذي حال بينهم وبين إدراكه ولذلك ذيلت الآية بقوله { ولكن لا يعلمون }.
وجاءت هذه الفاصلة مغايرة لما قبلها، ففي تلك نفي عنهم الشعور، وفي هذه نفي العلم اعتبارا لما وصفوا به في المقامين، فثم وصفوا بالفساد، والفساد أمر محسوس يتجلى لكل من له نظر؛ لما يترتب عليه من إهاجة الفتن وسفك الدماء وتقطيع الصلات وإثارة الأضغان وتأجيج الأحقاد، وما من شيء من ذلك إلا وضرره معلوم، وخطره محسوس، فإيثار التلبس به لا يكون إلا ممن بلغت به البلادة وانطماس الفكر إلى فقدان الإحساس، وهنا وصفوا بالسفه المنافي للعلم، فاقتضى المقام أن ينفى عنهم العلم ليتم الطباق بين ما أثبت لهم ونفي عنهم.
وأيضا فإنهم هنا مخاطبون بالإيمان، وأمر الإيمان لا يتضح إلا لمن كان على علم به؛ لأنه يقتضي فهم عاقبة المؤمنين وعاقبة أضدادهم الكفار، كما أن للايمان مسالك ومبادئ وغايات، قد تكون من الدقة بحيث تخفى على من لم ينور الله بصيرته بالعلم، ويشرح صدره بالعرفان، وهؤلاء المنافقون بسبب إخلادهم إلى العناد وإصرارهم على نهج المسالك الملتوية لم يكونوا على استعداد ذهني لادراك هذه الحقائق، فكانوا أحرياء بأن يوصفوا في هذا الموقف بعدم العلم.
هذا وقد علمتم مما أسلفته غير مرة أن هذه الصفات الدنية لا تنحصر في ذلك الفريق المحدود العدد من منافقي المدينة في عهد النبوة، وإنما تنجر إلى كل من كان على شاكلتهم في جميع العصور، فالذين يسفهون الحق، ويزينون الباطل، ويحتقرون المحقين، ويجلون المبطلين، هم أحقاء بكل هذه الأوصاف من الفساد وفقدان الإحساس والوعي، وعدم المعرفة بحقائق الأمور وعواقبها.
[2.14-15]
يبين لنا الله تعالى هنا نمطا من أنماط معاملتهم لغيرهم، وأسلوبا من أساليب الخداع التي يلجأون إليها، هروبا من الفضيحة، وركونا إلى السلامة مما يترتب على انهتاك سترهم وظهور أمرهم، فهم يلقون الناس بوجهين، ويتحدثون إليهم بلسانين لأجل إرضاء كل طائفة والتوقي من كل فريق، وهو شر ما يكون في الانسان، ولذلك ترتب عليه أعظم الوعيد، كما جاء في الحديث:
" من كان له وجهان في الدنيا كان له وجهان من النار يوم القيامة، ومن كان له لسانان في الدنيا كان له لسانان من النار يوم القيامة ".
طريقة المنافقين في التعامل:
هذه الطريقة متبعة عند منافقي جميع العصور على اختلافها، فهم عندما يحسون بقوة الحق، وظهور المحقين لجأوا إلى هذا المسلك، فلقوا المحقين بوجه، والمبطلين بآخر، متصورين أن هذه براعة وفطنة وذكاء، وما هي إلا غباوة ونذالة وانحطاط وسفاهة، لا يرضاها إلا الأدنياء، فلذلك عدوا أسوأ حالا ممن أعلن باطله وجاهر بكفره، فإنهم مع ما اشتركوا فيه مع الكفار من عقيدة الكفر، تميزوا بهذا الأسلوب الذي يسخرون به من المؤمنين ويستخفون به بما أنزل الله من الحق، وتلك هي الحقيقة التي يبدونها لشياطينهم حتى يطمئنوا إليهم ويثقوا فيهم.
وإنما قلت إن هذا هو ديدن أهل النفاق عندما يشعرون بسلطان الحق، ويرون آثار مده، لأن استشراء النفاق إنما بدأ بعد ما أخذ الاسلام يهز قواعد الكفر ويزلزل أركان الجاهلية، وقد علمت مما تقدم أن النفاق إنما عهد بعد غزوة بدر التي جعلت شياطين الكفر يحسبون كل حساب لهذا الدين، ولم يكن الذين لجأوا إلى النفاق من الشهامة والرجولة بحيث يتمكنون من المنابذة الصريحة والمقاومة المكشوفة، فلم يجدوا أمامهم إلا هذه الطريقة الملتوية فصاروا مذبذبين بين الطائفتين.
وقوله عز من قائل { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } توطئة لما بعده، فلا يعد تكرارا لما في قوله { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر }.
وأرى أن هذا العطف والذي قبله جيء بهما لتعداد مساوئ أهل النفاق كما سبق ذكره.
وذكر كثير من المفسرين في سبب نزول هاتين الآيتين قصة أخرجها الثعلبي والواحدي في أسباب النزول من رواية السدي الصغير، ومحمد بن مروان عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وملخصها أن عبدالله بن أبي وأصحابه خرجوا يوما فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبدالله: أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم. فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الاسلام وثاني رسول الله في الغار، الباذل ماله ونفسه لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله، ثم افترقوا فقال لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا، فنزلت الآيتان فيهم.
وإسناد هذه القصة من الضعف بمكان، فقد ذكر الحافظ في تخريجه أحاديث الكشاف أن محمد بن مروان متروك متهم بوضع الحديث، وقال عن هذا الحديث إنه في غاية النكارة، وذكر الألوسي أن سلسلة هذه الرواية سلسلة الكذب وليست بسلسلة الذهب.
وأنتم إذا نظرتهم إلى سياق الآيات رأيتموها متناسقة، آخذا بعضها بحجزة بعض، كل آية منها كاشفة عن جانب مهم من مساوئ أهل النفاق، وذلك يقتضي عدم انفصال بعضها عن بعض بالاستقلال بالسببية، وإنما مجموع أعمال المنافقين في مجملها سبب رئيسي لنزول جميع هذه الآيات.
ولقاؤهم الذين آمنوا الذي يترتب عليه قولهم آمنا هو عند اجتماعهم بهم في مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، وخلوهم إلى شياطينهم عودهم إليهم في مجامعهم التي هي محل استقرارهم ومظان طمأنينتهم.
والأصل تعدى خلا بالباء أو بمع، يقال خلوت به أو خلوت معه، وتعديه هنا بإلى لتضمنه معنى آب ورجع، فإنهم منقلبهم الذي يعودون إليه، لأن لقاءهم بالمؤمنين لا يكون إلا عرضا بخلاف لقائهم بشياطينهم.
والشياطين جمع شيطان وهو جنس من المخلوقات، ذو روح شريرة، طبعه الحرارة النارية، لأن النار عنصر تكوينه، بدليل قوله تعالى - حكاية عن إبليس لعنه الله -:
خلقتني من نار وخلقته من طين
[الأعراف: 12]، وقوله:
والجآن خلقناه من قبل من نار السموم
[الحجر: 27]، وهم من جنس الجن لقوله تعالى:
كان من الجن..
[الكهف: 50]، وأطلقت العرب اسم الشيطان على كل عات متمرد من أي جنس كان، فقد جاء في القاموس واللسان: " الشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن والدواب " ، وهذا لأن طبيعة الشياطين التمرد والعتو، فأطلق اسمهم على كل ما شابههم في وصفهم على طريق الاستعارة، ومن هذا الباب قوله عز وجل:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
[الأنعام: 112]، وفي الحديث:
" الكلب الأسود شيطان "
، وقال جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزلي
وهن يهوينني إذ كنت شيطانا
وقد أطال علماء العربية وتبعهم المفسرون في بيان اشتقاق هذه الكلمة، وقد ذهبوا فيها مذاهب؛ منهم من عدها من شطن بمعنى بعد، ومنهم من قال هي من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل، ولا أجد داعيا إلى حشو التفسير بمثل هذه الأمور التي هي أخص بفنون أخرى، وذهب ابن عاشور إلى أن الشيطان اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة، ودخل في العربية من لغة سابقة، لأنه من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، ولم يأت بدليل يقضي بصحة قوله.
واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، قيل هم اليهود، وهو مقتضى ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إنا على دينكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم - وهم إخوانهم - قالوا إنا معكم على مثل ما أنتم عليه.. الخ " ، وأخرج نحوه البيهقي في الأسماء والصفات، وقيل: هم رؤساؤهم في الكفر، روى ذلك ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ورواه هو وعبد بن حميد عن قتادة، وروي مثله عن ابن عباس والسدي، وعزي إلى الكلبي أنهم شياطين الجن، وهو مشكل، وقيل هم الكهان، وعزاه القرطبي إلى جمع من المفسرين، والأظهر أنهم قادة اليهود، فإنهم الذين ديدنهم تأجيج الفتنة، وتمزيق الشمل، والتشكيك في الحق، وقد كانوا يستغلون المنافقين لهذا الغرض، على أن كثيرا من أهل النفاق كانوا من العنصر اليهودي.
والمراد بمعيتهم في قوله { إنا معكم } مجامعتهم لهم على الكفر بالإسلام، ومناوأة المسلمين، وعدم تأثر نفوسهم بالإيمان، وهو معنى ما روي عن ابن عباس " إنا معكم على مثل ما أنتم عليه ".
وفي مثل هذا الموقف قد تثور خواطر الشكوك في نفوس أولئك الشياطين؛ لما يعرفونه عن أهل النفاق من التملق للمسلمين وإبداعهم في مجاملتهم، ومحاولة التنصل أمامهم من كل العقائد المغايرة للاسلام، وقد تؤدي هذه الشكوك إلى مساءلتهم؛ ما بالكم تتملقون لدى المسلمين وتتوددون إليهم بالكلمات الطيبة والعبارات المليئة بالتقدير والاحترام؟ فيدفع المنافقون عن أنفسهم التهم، ويتنصلون إلى شياطينهم بقولهم { إنما نحن مستهزئون } ليستأصلوا منهم الشك، وليغرسوا في أنفسهم الثقة بهم والطمأنينة إليهم، أي إنما نأتي الذي نأتيه مع المؤمنين استخفافا بهم وسخرية منهم.
ويبحث في وجه تأكيدهم لخطاب الشياطين دون خطاب المؤمنين، مع أن المتبادر أنهم أحوج إلى التأكيد في خطاب أولي الإيمان ليدرأوا عن أنفسهم تهمة النفاق، وأجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن خطابهم لأهل الإيمان لم يصدر عن باعث في نفوسهم فلذلك اختصروا؛ لأن ألسنتهم لا تطاوعهم على التأكيد لما وقر في قلوبهم من الكراهة المتأصلة للحق ولأهل الحق، على أنهم لا يدعون عندهم أنهم على ذروة الإيمان لعدم رجائهم رواج ذلك بين من يخاطبونهم، كيف وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والانجيل، وإنما يقنعون بادعاء أنهم منتظمون في سلك عامة أهل الإيمان، وبعكس ذلك خطابهم للشياطين، فإنه خطاب ناشئ من أعماق نفوسهم وصادر عن أقصى رغبتهم، وتأكيد الخطاب يراعى فيه تارة جانب المتكلم، وتارة جانب المخاطب، وأخرى جانبهما معا.
ثانيهما: أن العدول عن مقتضى الظاهر في خطابهم للمؤمنين ولشياطينهم؛ لأنهم لا يريدون أن يضعوا أنفسهم موضع من يتطرق ساحته الشك في صدقه، إذ لو خاطبوا المؤمنين بالتأكيد لكان من خطابهم ما يشكك المؤمنين فيما يقولون، وهذا من إتقان نفاقهم، على أن المؤمنين قد يكونون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم، فتعبيرهم عن إيمانهم جدير بأن يكون تعبيرا عاديا خاليا من المؤكدات، وذلك بخلاف مخاطبتهم لقومهم، فإن إبداعهم في النفاق واختراع أساليب الخداع عند لقائهم بالمؤمنين قد يثير شكوك كبرائهم في بقائهم على دينهم، فلذلك احتاجوا إلى التأكيد في مخاطبتهم ليتقرر في نفوسهم بقاؤهم على الكفر.
أساليب المنافقين في الخطاب:
وأنتم إذا أمعنتم النظر فيما ورد من آي الكتاب حاكيا أقوال المنافقين، أدركتم أن خطابهم للمؤمنين كان يتلون بحسب المقامات، فتارة يكون مؤكدا، وتارة خاليا من التأكيد، وكثيرا ما يقترن بتغليظ الأيمان، وهذا يرجع - حسبما أرى - إلى اختلاف أحوال المؤمنين المخاطبين أو أحوال المنافقين المتكلمين، فخطابهم للذين يتفطنون لأحوالهم ويتنبهون لغاياتهم ليس كخطاب غيرهم ممن يكون خالي الذهن من تصور عمق النفاق وإدراك ملامح أهله، ولذا عندما يحكى خطابهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه مقرونا بمؤكدات أكثر مما إذا حكي خطابهم لغيره، كما تجد ذلك في نحو { نشهد إنك لرسول الله } ، وذلك لما يعرفونه عنه صلى الله عليه وسلم من عمق إدراكه وسرعة تفطنه لمكائدهم، كيف وهو الذي يتلقى عن الله تعالى وحيه الكاشف لخفايا الأمور، وكذا يستدعي حال الذين شهروا بالنفاق عند المؤمنين أن يكون كلامهم أكثر تأكيدا من كلام غيرهم، محاولة منهم لتبرئة ساحتهم وتغطية مساوئهم.
والفرق بين خطابهم للمؤمنين الذي جاء جملة فعلية، وخطابهم لغيرهم الذي صيغ من الجملة الإسمية، لأنهم عند المؤمنين يدعون حدوث الايمان في نفوسهم بعد أن كانوا على ملة الكفر، والجملة الفعلية من شأنها الدلالة على الحدوث والتجدد، بينما يؤكدون لشياطينهم بقاءهم على ما كانوا عليه من عقيدة الكفر، وذلك يستفاد من كون الجملة الدالة عليه اسمية؛ فإنها من شأنها الدلالة على الثبوت والدوام، ويتضح مما قررناه سابقا أن جملة { إنما نحن مستهزئون } مستأنفة استئنافا بيانيا، جوابا لتساؤل شياطينهم عما يكون منهم في خطابهم للمؤمنين من دعوى الايمان مع أنهم على مثل ما كانوا عليه من الكفر، فيجيبونهم بأن ذلك ناشئ عن استهزائهم بهم، ليس غير، وقال بعض أهل التفسير هو بدل من { إنا معكم } ، واختلفوا هل هو بدل اشتمال أو كل أو بعض، وذهب الفخر إلى أنه تأكيد له، والصحيح ما أسلفناه.
والاستهزاء: الاستخفاف، ومادته دالة عليه، فإنهم يقولون تهزأ به ناقته إذا أسرعت وخفت، وذكر الامام الغزالي أنه الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وذكر الفخر أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، وأتبع ذلك بقوله: فعلى هذا قولهم { إنما نحن مستهزئون } يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم، ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم ".
ورده الألوسي بأنه مخالف للغة والعرف.
وبعد أن حكى الله سبحانه عن أولئك السفهاء ما حكاه من استخفافهم بأولي الحلوم الراجحة، والايمان الراسخ، رد على مقالتهم السيئة بقوله { الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون } ليكون في هذا الرد الصريح تسلية للمؤمنين في ذلك العصر، وفيما يتبعه من العصور؛ بأن الله تعالى كافيهم مكائد خصومهم الذين يلقونهم بوجوه الخير ويخفون وراءها قلوبا طافحة بالشر، غاصة بالأحقاد، ومثله قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم:
إنا كفيناك المستهزئين
[الحجر: 95]، وفي هذا تثبيت لعزائم أهل الحق، وبعث لهم لأن يشقوا طريقهم، لا يلوون على أحد من مناوئيهم، ما دام الله سبحانه هو المتكفل بأن يجزيهم جزاء من جنس عملهم.
والآية الكريمة وإن نزلت في المنافقين الذين كانوا في عهد الرسالة، فمدلولها يشمل كل من كان على شاكلتهم، وما أكثر أولي الاستخفاف بالحق والاستهزاء بأهله الذين يلقون المؤمنين بالألسنة الكاذبة، والقلوب الحاقدة والنوايا السيئة، وإنما سلو المؤمنين في هذه الكفاية الربانية
وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا
[النساء: 45].
وقطع هذه الجملة عما قبلها لأن عطفها قد يوهم أنها من مقول المنافقين، وأنهم يدعون أن الله تعالى يؤيدهم ويعزز جانبهم، إذ يستهزئ بالمؤمنين كما يستهزئون، فكان فصلها دالا على استقلالها عن كلامهم، وأنها من كلام الله تعالى تبكيتا لهم وانتصارا لعباده المؤمنين، وثم سبب آخر، وهو أن حكاية ما كان من المنافقين في معاملتهم أهل الإيمان، ومصارحتهم قومهم بأنهم يستهزئون بهم بما يلقونهم به من الكلم الطيب، يجعل الأعناق تشرئب، والعيون تتطلع إلى ما يحدث من رد فعل من جانب المؤمنين، فرب قائل يقول ماذا عسى أن يفعل الذين آمنوا، وقد اصطبغوا بخديعة أهل النفاق، ووقعوا في فخ كيدهم، وشراك مكرهم؟ فجاء هذا الرد من قبل الله بأن ذلك ليس موكولا إليهم، وإنما الله الذي هداهم إلى الحق هو المتكفل بخصومهم، وفي القطع في هذا المقام من الجزالة ما لا يخفى.
ومن ناحية أخرى فإن العطف يقتضي أن يكون استهزاؤهم مما يعتد به، وتركه يشعر أنه لا شيء بجانب استهزاء الله بهم، فهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى شيء من مرادهم في الذين آمنوا لأن الله بهم محيط، وبكيدهم خبير.
ومما يؤكد اعتبار الاستئناف تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي الذي وليه، إذ لم يقل يستهزئ الله بهم، لأنه مما يجول في خواطر السامعين السؤال عن من يتولى جزاء صنيعهم، وفي هذا الجواب تنبيه على أن الله تعالى وحده هو الذي يتولى ذلك، وفيه ما لا يخفى من رفعة قدر المؤمنين عنده، ونحوه قوله سبحانه:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا
[الحج: 38]، على أن بعض أهل البلاغة يرى أن تقديم المسند إليه هنا قاض بقصر المسند عليه، وهو مقتضى مذهب إمامي البلاغة عبدالقاهر الجرجاني وجارالله الزمخشري.
وقد كان مقتضى الظاهر أن يقال: الله مستهزئ بهم ليوافق قولهم { إنما نحن مستهزئون } غير أنه عدل عن الاسم إلى الفعل للدلالة على تجدد الاستهزاء من الله بهم، حتى لا يغتر أحد بما يراهم فيه من نعمة ظاهرة، فإن البلاء بهم متلاحق، والجزاء فيهم متنوع، والمحن عليهم مسترسلة،
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين
[التوبة: 126]، وكان الخوف يساورهم، يحذرون دائما من تهتك أستارهم، وانتشار أسرارهم، وبدو أمرهم، وكانوا وجلين من كل ما ينزل من الآيات
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون
[التوبة: 64].
وقد سبق معنى الاستهزاء وهو في حقيقته لا ينشأ إلا عن الجهل، ولذلك أجاب موسى - عليه السلام - عندما قيل له: { أتتخذنا هزوا } بقوله
أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
[البقرة: 67]، وبهذا تعلم أن حقيقته مستحيلة على الله عز وجل، ولذا اختلف المفسرون فيما يراد به هنا، فمن قائل هو بمعنى الانتقام، وقد ورد نحوه في كلام العرب ومنه قوله:
قد استهزأوا منهم بألفي مدجج
سراتهم وسط الصحاصح جثم
وهو معنى ما أخرجه ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في معنى ذلك: يسخر بهم للنقمة منهم. ومن قائل: أطلق الاستهزاء على جزائه لما عرف من إطلاق اسم الشيء على ما يترتب عليه، نحو قوله تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40]، وقوله:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
[البقرة: 194]، وقوله:
يخادعون الله وهو خادعهم
[النساء: 142]، وقوله:
ومكروا ومكر الله والله
[آل عمران: 54]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" اللهم إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه اللهم، والعنه عدد ما هجاني "
، أي اجزه جزاء هجائه، وهذا من باب ما يسمى بالمشاكلة اللفظية، وهي أسلوب من أساليب كلام العرب، كما قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وعزا ابن عطية هذا القول إلى جمهور العلماء.
وأرى أنه لا يختلف عما قبله، فإن إطلاق الاستهزاء على الانتقام لا يعني إلا العقوبة على ما صدر من المنتقم منه من الاستهزاء والاستخفاف.
وذهب آخرون إلى أن إسناد الاستهزاء هنا إلى الله إنما هو من حيث كونه سبحانه يصرف عن عباده المؤمنين ضرر استهزاء خصومهم، وينزله بالمستهزئين، وفي هذا ما يشبه الاستهزاء بهم، فلذلك استعير له اسمه، وقيل: لما كان الاستهزاء من لازمه حقارة المستهزأ به وهوانه، والمنافقون من الحقارة والهوان بمكان، أطلق اسم الملزوم على اللازم على طريقة المجاز الإرسالي، وقيل: إن الاستهزاء هنا عبارة عما شرعه الله من أحكام في الدنيا تجعل المنافقين يطمئنون إلى أنهم لا يختلفون عن الذين آمنوا، مع أنه تعالى أعد لهم في الآخرة عذاب الهون، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أمرا يبطنون ضده.
وضعف الفخر الرازي هذا القول؛ لأنه تعالى عندما شرع لهم هذه الأحكام في الدنيا لم يكتم عنهم مصيرهم في الآخرة.
وقيل: إن الله سبحانه عاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فمن حيث أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه، وأما في الآخرة فقد روي أنه يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال هلم هلم فما يأتيه، عزي ذلك إلى ابن عباس والحسن، وقال قوم: إن النار تجمد كما تجمد الإهالة، فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم، وحمل ابن جرير هذا الاستهزاء على ما أخبر الله تعالى به في قوله:
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
[الحديد: 13].
ومهما يكن فإن حقيقة الاستهزاء منتفية عن الله سبحانه، ولا معنى لما يقوله البعض من امتناع التأويل وحمل هذا اللفظ على حقيقته مع مراعاة التنزيه في جانب الله تعالى، فإن من لازم الحمل على الحقيقة التشبيه، وهو لا يمكن أن يجامع التنزيه، على أن المتأولين هم أرسخ قدما في العربية، كما أنهم أعمق فهما لمقاصد القرآن، وإن أطال ابن جرير في الانتصار للفريق الآخر، ولم يبعد الألوسي رأيهم عن الصواب.
والمد الزيادة مأخوذ من مده، وفي معناه أمده، وفرق بينهما بعضهم بأن المجرد يستخدم في معنى زيادة الشر، والمزيد في زيادة الخير، وهي في الحقيقة قاعدة أغلبية كما أفاد القطب رحمه الله وغيره، ويدل على عدم التفرقة قراءة ابن محيصن وشبل بضم الياء من أمد الرباعي، ونسبت هذه القراءة إلى ابن كثير، كما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى:
والبحر يمده من بعده سبعة أبحر
[لقمان: 27]، ويطلق المد على زيادة العمر غير أنه يتعدى باللام، وادعى بعض المفسرين أنه هو المراد هنا، وأن انتصاب الضمير إنما هو باب الانتصاب بنزع الخافض، ويرده أن نزع الخافض ليس قياسيا، ولا يكون إلا مع أمن اللبس، واللبس هنا حاصل.
والطغيان مصدر كالشكران والكفران، وهو دال على المبالغة في الطغي وأصله من طغى الماء إذا جاوز حده المألوف، واستعمل عرفا في مجاوزة الحد في العصيان.
ولا إشكال في إسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى لما علمته من أن العقيدة الحقة أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى، وأن كل ما يحدث إنما هو بإرادته.
ومن حيث إن المعتزلة ينفون عن الله سبحانه خلق أفعال العباد حملوا المد هنا على خذلانهم، ومنعهم الألطاف التي يهبها تعالى عباده المؤمنين، أو على عدم قسرهم وإلجائهم إلى الطاعة، أو على أنه سبحانه خلى بينهم وبين الشيطان فتمكن من إغوائهم.
وذهب العلامة ابن عاشور إلى أن إسناد المد إلى الله عز وجل هنا هو من باب إسناد ما خفي فاعله إليه تعالى لأنه الموجد للأسباب الأصلية والمرتب لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها، من غير مشاهدة من تسند إليه على الحقيقة غيره، وذلك أن النفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره عدم انقطاعه عنها، ولما كان من شأنه أن تنمى عنه الرذائل المتنوعة، كان تكونه في نفوسهم ناشئا عن شتى الأسباب في طباعهم، متسلسلا بحسب ارتباط المسببات بأسبابها، وهي أسباب شتى، وقد حرمهم الله توفيقه الذي يباعدهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم، فكان هذا الحرمان مقتضيا استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ، ومن حيث إن الله سبحانه هو الذي خلق النظم التي هي أسباب ازدياده أسند هذا المد إليه، وهذا الاسناد معدود من الحقيقة العقلية، هذا ما ذهب إليه، وهو في جوهره يتفق مع مذهب المعتزلة وإن اختلف المذهبان من حيث إن المعتزلة يعدون هذا الاسناد من باب المجاز العقلي كما هو واضح من كلام الزمخشري.
وتعريف الطغيان بالاضافة إلى الضمير العائد إليهم، إما للاشعار بأنه حاصل بسبب إخلادهم إلى النفاق من تلقاء أنفسهم من غير أن يجبروا عليه، وإما للاشعار بأنه نوع غريب من الطغيان اختصوا به ولم يشاركهم فيه غيرهم.
وفسر ابن عباس الطغيان هنا بالكفر، أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي، وأخرج مثله ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -، وروي عنه تفسير مدهم بالاملاء لهم، وروي عن أبي العالية وقتادة، والربيع ابن أنس، ومجاهد، وأبي مالك وعبدالرحمن بن زيد نحو ما تقدم في تفسير الطغيان.
والعمه فسر بالتردد والتحير، وروى ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنه فسر يعمهون بيتمادون، وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - مثله، وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، أنه فسره بيلعبون ويترددون.
وأصله انطماس البصيرة، فهو كالعمى، إلا أن بعضهم قال بأن العمى مختص بالبصر، والعمه بالبصيرة، وذهب الزمخشري إلى أن العمى عام، والعمه خاص بالقلب، وهذا أولى لقوله تعالى:
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب
[الحج: 46]، وهو نص صريح في إطلاق العمى على انطماس البصيرة.
وإذا تأملت مفهوم الكلمة اللغوي أدركت أن المأثور من تفسيرها إنما هو تفسير باللازم، فإن من تعمق في الطغيان لا بد أن يبقى حائرا مترددا متماديا في ضلالته، نسأل الله تعالى العافية.
[2.16]
هذا الكلام يفيد تقرير ما تقدم من أوصاف أهل النفاق وما يترتب عليها، ومن حيث إن التقرير في مضمونه التأكيد قطع عما قبله، وقد يقتضي الحال أن يسأل السامع لأوصافهم المتلوة فيما تقدم عن منشأ تلك العجرفة وسبب ذلك الغرور، فيجاب { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } وهذا يعني أنه استؤنف استئنافا بيانيا، وهو من دواعي عدم العطف أيضا، ومن ناحية أخرى فإن هذه فذلكة لما سبق، ومن عادة الفذلكة أن تكون مقطوعة كما في قوله تعالى: { تلك عشرة كاملة }.
والأصل في الاشارة أن تكون إلى متعين إما بحضور شخصه، أو بتعين وصفه، كما تقدم في قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } ، والمشار إليهم هنا ليست شخوصهم كلها معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه قوله تعالى { لا تعلمهم نحن نعلمهم } ، وثم الكثير من الأحاديث الدالة على أن جمهرة من المنافقين لم يكونوا متعينين بشخوصهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وإنما جازت الاشارة إليهم لما تقدم من الآيات الكاشفة لأحوالهم، المحددة لأوصافهم، التي جعلتهم كأنما يشاهدون رأي العين.
والاشارة هنا لا تفيد قربا ولا بعدا لعدم الاشارة إلى مكان المشار إليه.
والاشتراء هو أخذ المثمن ودفع الثمن، فهو كالابتياع، وذهب بعض أئمة اللغة إلى أن فعل وافتعل يتعاقبان في مادة الشراء، ولعلهم يستدلون لذلك بقول الشاعر:
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
وانتقد ابن عاشور التسوية بينهما، وذكر أن الذي جرأهم عليه سوء التأمل في قوله تعالى:
وشروه بثمن بخس دراهم معدودة
[يوسف: 20]، فتوهموا أن الضمير عائد إلى المصريين، مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى:
وجاءت سيارة
[يوسف: 19]، أي باعوه، ثم قال: " وحسبك شاهدا على ذلك قوله "
وكانوا فيه من الزاهدين
[يوسف: 20] أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين، ألا ترى قوله لامرأته
أكرمي مثواه
[يوسف: 21].
وللغويين أن يستدلوا لقولهم بقول الشاعر:
إن الشباب رابح من باعه
فإنه من المعلوم أن آخذ الشباب هو الرابح وليس باذله، ومن الواضح أن البائعين كلاهما آخذ ومعط، فما المانع من جواز تعاقب الفعل والافتعال من كلتا الكلمتين في كل منهما.
وبما أن البيع والشراء يقتضيان استبدال شيء بآخر، أطلقت العرب الاشتراء على مطلق الاستبدال، ومنه قول الشاعر:
أخذت بالجمة رأسا أزعرا
وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا حيدرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
وقول الآخر:
إنا بني نهشل لا ندعى لأب
عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
ونحوه في البيع كقول الحماسي:
وما إن بعت منزلة بأخرى
حللت بأمره وبه تسير
وحمل جماعة من المفسرين الاشتراء هنا على هذا المعنى، ورأى آخرون أن إطلاق الاشتراء على اختيارهم الضلالة على الهدى، لأن من اشترى شيئا لا يشتريه إلا وهو فيه راغب، وفي ثمنه زاهد، ومن حيث إن هؤلاء زهدوا في الهدى ورغبوا في الضلالة، أطلق على فعلهم الاشتراء، وهو من المجاز المرسل بعلاقة اللزوم.
وانتقد الامام محمد عبده تفسير الاشتراء بالاستبدال لما بين اللفظين من فارق، والقرآن الكريم لا يؤثر لفظا على لفظ إلا لمزية فيه، ولخص الفارق بينهما في وجهين:
أحدهما: أن الشراء لا يكون إلا لفائدة يطلبها كل من البائع والمشتري، سواء كانت حقيقية أو وهمية، والاستبدال أعم من ذلك.
ثانيهما: أن الشراء يكون بين طرفين ولا يلزم ذلك في الاستبدال، فقد يستبدل أحد ثوبا من ثيابه بثوب من غير أن يكون في مقابله أحد، ولا يصدق على ذلك أنه بيع أو شراء، وفي هذا ما يدل على أن معنى الآية أن أولئك القوم اختاروا الضلالة على الهدى لفائدة يتوهمونها، فهو معاوضة بين طرفين يقصد بها الربح.
ثم أوضح الامام ذلك بما معناه أنهم كانت عندهم كتب سماوية فيها مواعظ وأحكام وتبشير بمبعث نبي يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ويغمر الأرض نوره، ويشمل الأمم هداه، فيعطي العقول حقها من الاستقلال، ويجعل لكل فرد حرية في الأفكار، فكان عندهم بذلك حظ من هداية العقل، والمشاعر، وهداية الدين والكتاب، غير أنهم تفشت منهم الأحداث والبدع ، واستولت عليهم الانحرافات والضلالات، فعلا سلطان ذلك على سلطان الدين، ونتج عنه ضلال الرؤساء في فهمه بإخلادهم إلى تحكيم تقاليدهم الموروثة ونبذهم الكتاب بطرق من التحريف والتأويل، كما نتج عنه إهمال المرؤوسين التفكر والنظر في الكتاب بسبب حظر الرؤساء ذلك عليهم، ومن هنا ضل الفريقان في استخدام العقل، وفي فهم الوحي بعد أن كان ذلك ميسرا لهما، واستعاضا عنه المنافع العاجلة، فللرؤساء المال والجاه والتفخيم باسم الدين، وللمرؤوسين الاستعانة بجاه الرؤساء على مصالحهم ومنافعهم، ورفع أثقال التكاليف بالفتاوى الباطلة، والتأويل المحرف، هكذا استحبوا العمى على الهدى، وهو العقل والدين رغبة في الحطام، وطمعا في الجاه الكاذب.
هذا معنى كلامه، وهو مبني على ما تقدم ذكره عنه أنه يرى أن المنافقين المعنيين في الآيات كانوا من اليهود وحدهم، ولغيره أن يتعقب تفسيره للاشتراء بأن المعاوضة التي تكون بين طرفي المبايعة اللغوية غير موجودة هنا، إذ لم يكن فريق آخر دفعوا إليه ما كان عندهم من الهدى وأخذوا ما عنده من الضلال، على أن العرب يطلقون هذا اللفظ أحيانا على مطلق الاستبدال من غير مراعاة للقيود التي ذكرها، كالشاهد المتقدم:
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
إذ لم يكن في ذلك طرفان، بائع ومشتر، ولا فائدة في هذا الشراء حقيقية أو وهمية، وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: " أخذوا الضلالة وتركوا الهدى " ، ومثله عن ابن عباس، وأناس من الصحابة - رضوان الله عليهم -، وأخرج هو وابن أبي حاتم، وعبدالرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال: " استحبوا الضلالة على الهدى " ، ويعضده قول الله سبحانه:
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت: 17].
وفسر ابن عباس - رضي الله عنهما - الضلالة هنا بالكفر، والهدى بالايمان، وقد تقدم معنى الكلمتين في تفسير الفاتحة الشريفة.
ولسائل أن يسأل، كيف استعاضوا الضلالة بالهدى مع أنهم لم يكونوا مهتدين من قبل، على أن قطب الأئمة - رحمه الله - فسر في هيميانه اشتراءهم الضلالة بالهدى ببقائهم على الضلالة وإعراضهم عن الهدى.
والجواب أنهم كانوا متمكنين من الهدى، إذ لم يكونوا مكرهين على الضلالة، وقد لاحت لهم أعلام الحق، وأشرقت بين أيديهم أنوار الحقيقة، وإنما رفضوه من تلقاء أنفسهم على أن الدين القويم هو نفسه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما من أحد إلا وهو مفطور عليه، غير أن البيئات الفاسدة، والتربيات المنحرفة، وإيثار العاجلة على الآجلة، هي السبب في انتزاع هداية الدين، والحاجز بين النفس والانتفاع بهذه الهداية.
ومن المفسرين من يحمل هذا الوصف على قوم آمنوا من قبل ثم ارتدوا في سريرتهم، وهم المعنيون بقوله تعالى
كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم
[آل عمران: 86]، وقوله
ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون
[المنافقون: 3]، وهو معنى ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد عن مجاهد، قال آمنوا ثم كفروا، وهو مقتضى قول قتادة: قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
وانتقد ابن جرير من قال إن هذا الوصف فيمن آمن ثم كفر، لأن السياق يأبى ذلك، فإن كل ما في سورة البقرة من وصف المنافقين دال على أن الايمان لم يصل إلى سويداء قلوبهم في وقت من الأوقات وإن ادعوه بأطراف ألسنتهم، وهذا يعني أن فريق المنافقين المذكور هنا غير الذين ذكروا في قوله { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } ، وقوله { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم }.
ولما كان كل من المتبايعين يسعى إلى الربح، إذ هي ثمرة التجارة ومطمح التجار، عقب ما تقدم ببيان أن هؤلاء المنافقين فشلوا في سعيهم، وخابوا في أملهم، ومن المعلوم قطعا أن من آثر الضلال على الهدى، واختار الكفر على الايمان، فقد بذل ما ينفع في مقابل ما يضر، وتلك هي الخسارة العظمى، وإنما عدل عن التنصيص على خسرانهم إلى نفي ربحهم للتنبيه على أنهم كانوا بصنيعهم يهدفون إلى مكاسب يبتغونها، ومنافع يتصورونها أجدى لهم من هداية الدين، ولما كانت تلك المنافع لا توازي شيئا بجانب ما افتقدوه من الهدى مع ما كان ينغصها عليهم من الخوف والحذر، نفي عنهم الربح لعدم الاعتداد بها، ومن المعلوم أنهم أضاعوا رأسمالهم بهذا العسف، ففقدوا الطلبتين بقاء رأس المال وحصول الربح، ولما كان انتفاء الربح مترتبا على الاشتراء عطف عليه بالفاء.
والتجارة هي صنعة التاجر، والربح طلبته منها.
وبما أن إيثار الضلالة على الهدى ليس من الاهتداء في شيء، اختار بعض المفسرين أن يكون قوله عز وجل من بعد { وما كانوا مهتدين } نفيا للهدى اللغوي حتى لا يكون ذلك تكرارا مع ما في قوله { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } ، وهو معنى قول بعضهم وما كانوا مهتدين في هذا الخداع لأنهم رجوا فلاحهم، فخاب رجاؤهم بما تفشى من فضيحتهم عند الناس، ويحتمل أن يكون المراد بنفي الاهتداء أنهم ليسوا أهلا له بسبب ما طرأ على فطرتهم من الفساد، وهذا أولى من حمل الألفاظ الشرعية على المفاهيم اللغوية التي نقلها عنها الشارع.
هذا ويرى بعضهم أن ما كان عليه المنافقون في الظاهر من نطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والتحلي بسائر خصال الاسلام ضرب من الهدى، فإذا رجحوا عليه ما في قرارة نفوسهم من عقيدة الكفر، فقد اشتروا الضلالة بالهدى، وهو رأي مردود إذ لا وزن للأعمال الظاهرة مع خلو الباطن من أصلها، وهو الايمان بها، والاخلاص فيها، فالنطق بالشهادتين إن لم يكن صادرا عن عقيدة راسخة في النفس، لا زنة له عند الله، ومثل ذلك جميع الأعمال كإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وانتقد بعض المفسرين تفسير الهدى هنا بالفطرة، لأن المنافقين كانوا مشتركين مع غيرهم في أصل هذه الفطرة، ثم اشتركوا مع المشركين الصرحاء في الانسلاخ منها، وإيثار الضلال عليها، ولقائل أن يقول بأن ذلك لا يمنع من وصف المنافقين بما وصفوا به؛ لأن القصر هنا ادعائي ليس إلا.
والأصل في الربح أن يسند إلى التاجر، ولكنه أسند هنا إلى التجارة لأجل الملابسة، وهذا من باب ما يسمى عند أهل المعاني بالمجاز العقلي، وهو ضرب من ضروب البلاغة، وذكر الربح والتجارة بعد ذكر الاشتراء ترشيح للاستعارة بما يلائم المستعار منه، وهو أسلوب من أساليب البلاغة الشائعة عند البلغاء.
وهذه الآية مرتبطة بسابقاتها، فهي في المنافقين كما هو بدهي ولا معنى لقول من يقول إنها في أهل الكتاب أو المشركين، أو إنها شاملة للمنافقين وأهل الكتاب، لأنه يفضي إلى خروجها عن نسق ما تقدم وما يأتي، ولا دليل عليه.
[2.17]
هذه الآية مسبوقة بتسع آيات هاتكة أستار أهل النفاق، كاشفة خباياهم، سواء كانوا من اليهود أو من العرب الوثنيين، وجاءت بعدها هذه الآية لترسم صورة محسوسة للنفاق وأحوال المنافقين بما فيها من ضرب المثل، وقد تلي هذا المثل بمثل آخر في آية ثالثة لهذه الآية.
الأمثال ترسخ المعاني وتقرب الحقائق:
وضرب الأمثال أسلوب معروف عند العرب وعند غيرهم، ولكتاب الله سبحانه الحظ الأوفر منه، كيف لا وهو أعلى قدحا وأسمى غاية من أي كلام، فلذلك كانت أمثال القرآن أعرق الأمثال في البلاغة، وأدقها في التصوير، وأدلها على المقاصد، وقد قال تعالى
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت: 43]، وقال:
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون
[الحشر: 21]، ومن فوائد الأمثال ترسيخ المعاني في الأذهان، وتقريب الحقائق حتى تكون كالصور البارزة للعيان، ومع ذلك ففيها إيجاز للقول بعد الاطناب، وإجمال بعد التفصيل، فإن المعاني إذا تقدمت في عبارات متفرقة ربما تتشتت في الذهن، فإذا جمعت في الأمثال كان ذلك أدعى لأن تعيها الأذهان وترتسم في الأدمغة، على أن الوهم قد يكابر العقل في المعقولات، ولكنه أضعف من المكابرة في المحسوسات، فإذا ما أبرزت الحقائق المعنوية في معرض الصور المحسوسة كان ذلك أدعى لأن تتضاءل الأوهام، وتتبدد الشبه، فتستسيغ العقول تلك الحقائق المجلوة بدون تردد، ولذلك كثر ضرب الأمثال في معرض التفخيم والتحقير، والتكثير والتقليل، والتهويل والتهوين، والترغيب والترهيب.
وأصل المثل - بالتحريك - والمثل - بكسر فسكون - والمثيل كالشبه والشبه والشبيه، دال على تشابه أمرين في وصف، ومأخذه من مثل الشيء مثولا إذا انتصب، وإنما شاع المثل فيما إذا كانت المماثلة بين محسوس ومعقول، أو بين محسوسين مركبين ، ولفظة المثل موحية بالاستدلال على الممثل له بالممثل به، فإن نفس التمثيل دليل إمكان وجود المثل.
وما ذكرته من أن المثل إنما هو في المنافقين هو الذي يقتضيه السياق، وذهب قطب الأئمة - رحمه الله - إلى جواز أن يشمل معهم اليهود والمشركين، لأنهم طمسوا نور الفطرة بكفرهم، وذهب فريق من السلف إلى أن المثل في اليهود كما سيأتي، والأول هو الذي عليه الجمهور، وبه قال ترجمانا القرآن؛ ابن مسعود وابن عباس - رضي الله تعالى عنهم -.
وذهب الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده إلى أن هذا المثل والذي بعده ليس مضربهما واحدا، وإنما كل واحد منهما لفريق من اليهود والمنافقين، وحاصل ما يقوله أن هذا المثل في قوم أكرمهم الله تعالى بهداية الدين، ودرج عليها سلفهم، فجنوا ثمارها وصلحت أحوالهم، إذ استقاموا على طريقتها عندما كانوا يبصرون بنور من الوحي ويقفون عند حدود الشريعة، ثم جاء من بعدهم هؤلاء الأخلاف فانحرفوا عن تلك الطريقة إذ لم يبصروا الحقيقة، بل ظنوا أن ما كان عليه السلف من نعمة وسعادة أمر اختصوا به أو خير سيق إليهم لسبب امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ما استحقوا به هذه المزية أمرا شكليا لم يصل إلى سرائرهم فعدلوا عن الدين إلى تقاليد وعادات تمكنت في نفوسهم فلم تدع مجالا لغيرها، ولذلك لم يفكروا في الاعتصام بما اعتصم به سلفهم، ولم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اهتدى به من قبلهم لدعواهم أن فهمه خصت به طائفة من رؤساء الدين يؤخذ بأقوالهم إذا وجدوا وبكتبهم اذا فقدوا، فمثل هذا الفريق المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الانتفاع بها بالمرة، وانطماس الصوى بينها وبينه مثل من استوقد نارا.
. الخ، ووجه التمثيل أن من يدعي الايمان بكتاب نزل من عند الله طالب بإيمانه أن توقد له نار يهتدي بها في سره ويستضيء بها في ظلمات اللبس، ويبصر بضوئها ما يصادفه من مخاطر الأهواء والشهوات، فلما أضاءت ما حوله بنور الهدى والرشاد ، وكاد بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد، عادت إليه ظلمة التقليد، وعصب عينيه شيطان الباطل لئلا يبصر ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة فانطفأ فيه نور الفطرة، وتعطلت مداركه فلم يبصر ما بين يديه، فإذا هو بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.
وأما المثل الثاني وهو قوله { أو كصيب من السمآء } ، فيراد به فريق آخر بقيت له نظرات إلى الهدى بين آونة وأخرى، وأنوار التنزيل تسطع بين يديه فيرى الحقيقة ماثلة أمام عينيه، وفطرته بقي لها شيء من هدايتها غير أن التقاليد والبدع تطغى ظلماتها على ذلك كله، فلذلك يتخبط في المهالك مع سماعه قوارع النذر الالهية، وإبصاره بوارق البراهين الفرقانية، فإذا أضاء له ذلك البرق سار، وإذا اختفى بشبه الضلالات والغرور قام وتحير، لا يدري أين يذهب، وكثيرا ما يعرض عن سماع النذر وأصوات الحق، كما يضع أصبعيه في أذنيه لئلا يسمع إرشاد المرشد، ولا نصح الناصح، يخاف إن أصغى إلى تلك القوارع أن تقتله، ويحذر من صواعق النذر أن تهلكه.
هذا حاصل رأيه في المثلين، ويظهر منه أن المثل الأول في قوم استحكم في نفوسهم الهوى، واستولى على أفكارهم الباطل، وأحاطت بهم الضلالة من كل جانب، فلا يسمعون للحق نداء، ولا يبصرون له ضياء، وليس في نفوسهم عزم على البحث عنه، أو الرجوع إليه إن انكشف لهم، لأنهم مخلدون إلى ما هم فيه من الضلال، ومستمسكون بما ورثوه من آبائهم المحرفين، وقادتهم الدجالين، وهم مغترون بذلك، فلا يرون أن شيئا أفضل مما هم عليه، وأما المثل الثاني فهو مضروب فيمن تردد بين الهدى والضلال، والرشد والغي، لا يستقرون على حال، وإنما ضلالهم أبلغ من هداهم، وعماهم أعمق من بصيرتهم، قد يبصرون للحق نورا فتنكشف لهم حقيقته إلا أنهم بسبب طغيان الهوى على نفوسهم لا يمكنهم الانفلات من قيود الباطل، والانطلاق من أغلال التقاليد.
هذا، والذي أراه أن ما ذكره من صفات أصحاب المثل الأول لا ينطبق على المنافقين، وإنما ينطبق على اليهود المتمسكين بيهوديتهم، المستعلين على الناس بغرورهم، فإنهم يرون أنهم أولى الناس بالهدى، وأن النبوة لا تخرج عنهم إلى غيرهم، بل أفرطوا في الغرور حتى ادعوا - زورا وبهتانا - أنهم أبناء الله وأحباؤه، ومن المعلوم أن أحبارهم حرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وجعلوا من تلك الضلالات التي لفقوها، والافك الذي اصطنعوه دينا لهم ولأتباعهم، فلذلك لا يصغون لصوت ناصح، ولا يقبلون عذل عاذل، وقد سلبوا هداية أنبيائهم، وانطفأت أنوار ما كان بأيديهم من الكتاب.
وإذا ألقينا نظرة إلى سياق هذه الآيات لم نجدها إلا في المنافقين سواء كانوا من منافقي اليهود أو منافقي العرب، والمثلان مضروبان فيهم لا في غيرهم، ولا مانع من الانتقال من مثل إلى آخر مع كون الممثل له واحدا، فإن ذلك معروف عند العرب، وستأتي له شواهد إن شاء الله عندما نصل إلى المثل الثاني.
ووجه ضرب هذا المثل في المنافقين أنهم استضاءوا بشيء من نور الاسلام حال اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، وسماعهم ما يدور في مجالسهم من مواعظ وأمثال، ومشاركتهم في الأعمال الدينية الظاهرة، ولكن سرعان ما تنطفئ هذه الشعلة عندما يفارقونهم، فتتراكم في نفوسهم ظلمات العقيدة التي يبطنونها، وهذا هو المروي عن مجاهد؛ وقال عطاء الخراساني: هذا مثل المنافق يبصر أحيانا، ويعرف أحيانا، ثم يدركه عمى القلب، وعزا ذلك ابن أبي حاتم إلى عكرمة، والحسن، والسدي، والربيع بن أنس، وروي عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم.
وما ذكروه من إبصارهم أحيانا يحتمل أن يكون عند لقائهم بالمؤمنين وسماعهم منهم، وأن يكون بمجرد تفكرهم في الأمور، فإن الفطرة داعية إلى الحق لولا ما يضعفها من الهوى والضلال.
وروى ابن جرير عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية في قوم دخلوا في الاسلام عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق، كان في ظلمة الشرك فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر؛ وروي عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم مثله.
وأنكر ابن جرير أن يكون هؤلاء أسلموا في وقت من الأوقات لقوله تعالى فيهم { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } ، وتعقبه ابن كثير بأن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهو لا ينافي أن يكونوا آمنوا من قبل ثم سلبوا الايمان، وطبع على قلوبهم، واستدل بقوله تعالى: { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }.
ولابن جرير أن يتخلص بما ذكرته من قبل، وهو أن المنافقين أصناف، منهم من آمن ثم ارتد، ومنهم من لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه ولكنه ادعاه بلسانه.
وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم رأيا آخر في الآية لابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا يعتزون بالاسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه، وروي مثله عن قتادة، وهو الذي مال إليه ابن جرير مستدلا بقوله تعالى:
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
[الحديد: 13]، فإن فيها ما يدل على أن المنافقين يطلبون المؤمنين يوم القيامة أن يختلطوا بهم ليستمدوا منهم المنافع كما كانوا يستمدون في دار الدنيا، ولكن لا يجديهم النفاق يومئذ شيئا، فيفصلون عن المؤمنين إلى الذين كانوا معهم في سرائرهم.
وذهب سعيد بن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب، ويمان ابن رئاب إلى أن الآية في أهل الكتاب الذين كانوا على علم بمبعث النبي الخاتم، فلما بعث وانكشفت لهم آياته، وبهرتهم معجزاته كفروا به ، فكان ما عندهم من علم الكتاب كالنار المستوقدة للإضاءة، وما كان منهم من كفر بمثابة انطفاء تلك النار، لعدم استفادتهم من الضوء، وهذا لا يتفق مع السياق كما سبق.
و " الذي " يستعمل للمفرد غالبا لوجود صيغة جمع له وهي " الذين " ، وقد يستعمل للجمع تشبيها بمن وما، وعليه قول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
وحمل عليه قوله تعالى:
وخضتم كالذي خاضوا
[التوبة: 69]، وهذا أولى أن يحمل عليه هنا من دعوى بعضهم أنه وصف لموصوف محذوف دال على الجمع تقديره كالفوج الذي استوقد، أو كالجمع الذي استوقد لأن الأصل عدم الحذف، وفي مثل هذا الحال يجوز في الضمائر أن تفرد مراعاة للفظ، وأن تجمع مراعاة للمعنى، وكذا الصفات والأحوال، ويجوز أن ينظر إلى اللفظ أولا ثم إلى المعنى ثانيا كما في قوله تعالى:
ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا
[الجن: 23]، وهذا من باب التفنن المحمود في البلاغة، وعليه يحمل اختلاف الضمائر هنا، فقد روعي لفظ { الذي } في { استوقد } ومعناه في { ذهب الله بنورهم }.
واستوقد بمعنى أوقد لترادف استفعل وأفعل أحيانا، ومنه استجاب وأجاب، واستنار وأنار، ويجوز أن يكون بمعنى طلب الوقود كاستعان بمعنى طلب الإعانة، واستغاث بمعنى طلب الاغاثة، نظرا إلى أنه بمباشرة الأسباب والأخذ في الوسائل طالب لما تفضي إليه هذه الوسائل والأسباب، أو أن المراد طلب من غيره الايقاد والأول أظهر.
والإضاءة فرط الإنارة، ويستعمل فعل أضاء لازما ومتعديا، لتجرده تارة عن الهمزة كقول العباس - رضي الله عنه - في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأنت لما ظهرت أشرقت الأر
ض وضاءت بنورك الأفق
واقترانه بها تارة مع كونه بمعنى المجرد، وأخرى للتعدية، ويحتمل أن يكون هنا لازما ومتعديا، فإن حمل على اللزوم (فما) هي الفاعل، وجاز تأنيث الفعل لاعتبار التعدد في معنى { ما حوله } ، لأن المراد به الأماكن المحيطة بالمستوقد، وهي متعددة، فإن الخلف غير الأمام، واليمين غير الشمال، وعضد الزمخشري هذا التأويل بقراءة ابن أبي عبله " ضاءت " بالتجريد، وذكر الزمخشري وجها آخر وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار، ويجعل الحول ظرفا و(ما) إما مزيدة أو موصولة، بمعنى الأمكنة، وإن حمل على التعدي (فما) موصول مفعول به، و(حوله) صلته ويراد تصييرها الأماكن التي حول المستوقد منحسرا عنها الظلام.
والحول يراد به المكان القريب لما أضيف إليه، ويرى الزمخشري أن تأليفه للدوران والإطافة، ومنه تسمية العام حولا لأنه يدور، ولم ير لزوم ذلك ابن عاشور، والأظهر أن النظر إلى الدوران فيه حكم غالب وليس لازما.
والمراد بذهاب الله بنورهم إطفاء النار التي هي مصدر النور، وإنما ذكر النور دون الضياء إما لأن ذهابه يستلزم ذهاب الضياء بناء على ما تقدم من أن الإضاءة فرط الإنارة، وهو يعني أن النور أعم من الضوء، ولا بقاء للأخص مع ذهاب الأعم، وإما لأن المراد تلاشي فائدة تلك المظاهر الاسلامية التي كان المنافقون يخدعون بها المؤمنين، وقد شاع التعبير بالنور عن الاسلام في القرآن، فصار اختيار لفظه أنسب.
وإنما عبر بالذهاب بالنور دون إذهاب النور لما في ذلك من المبالغة، فإن أصل استعماله أن يكون مع استصحاب الفاعل للمفعول به، نحو قوله تعالى:
فلما ذهبوا به
[يوسف: 15]، وهو آكد فيما يراد ذهابه من مجرد الاذهاب لوقوعه تحت رقابة الفاعل نفسه، بخلاف ما لو قيل أذهبه، إذ لا يلزم منه أن يكون ذهاب المفعول تحت إشراف الفاعل وحراسته، ثم استعمل هذا اللفظ حال قصد المبالغة، ولو لم تكن مصاحبة، ولم تتصور الحراسة، نحو قول القائل " ذهب بماله الدين ".
وجملة { ذهب الله بنورهم } جواب للشرط الذي تقتضيه لما على الصحيح، وهو الذي عليه الجمهور، ولا داعي إلى تكلف الزمخشري تقدير جواب قبله نحو (فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار)، وهو مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه، وبناء على قوله هذا يكون قوله { ذهب الله بنورهم } كلاما مستأنفا استئنافا بيانيا جوابا لما ينشأ عن هذا الوصف من السؤال عن حال هذا المستوقد بعد خمود النار، وعلى هذا فهو داخل في التمثيل، أو يكون بدلا من جملة التمثيل بأسرها على البيان، فيكون مرجع الضمير فيه إلى المنافقين لعدم اتحاد البدل والمبدل منه، ويقرب من هذا الوجه الأخير ما ارتآه الإمام ابن عاشور، وهو أن يكون الضمير في التمثيل يعود تارة إلى المشبه وهو المنافقون، لأن الغرض الأصلي الاخبار عن انطفاء نور الايمان منهم، وشبهه بتجريد الاستعارة المفردة، وعد من محسناته جمع التمثيل بين ذكر المشبه وذكر المشبه به، فالمتكلم بالخيار في مراعاة ما شاء منهما، لأن الوصف لهما، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه، ومن مراعاة الأمرين إفراد الضمير تارة وجمعه أخرى، ولأجل ذلك اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به تنبيها على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة، للدلالة على أن الله أذهب نور الايمان من قلوب المنافقين.
وعد ابن عاشور هذا من الإيجاز البديع لإفادته ذهاب نور الايمان من قلوب المنافقين كما تنطفئ النار بعد اتقادها، وذكر أنه أسلوب لم تكن العرب تعهده، فهو من أساليب الإعجاز، وجعل قريبا منه قوله تعالى:
بل قالوا إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون
[الزخرف: 22 - 24]. حيث جمع ضمير الخطاب في { أرسلتم } حكاية لخطاب أقوام الرسل بمعرض جواب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الموجه إلى قومه بقوله { أولو جئتكم } وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في التشبيه الآتي من قوله { يجعلون أصابعهم في آذانهم } فإنه يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه.
والذي يقوله ابن عاشور لا يبعد مما قاله الزمخشري على الوجه الأخير، وإنما الفارق بينهما أن جملة " ذهب الله بنورهم.. الخ " خارجة عن التمثيل عند الزمخشري، على هذا الوجه، وداخلة فيه عند ابن عاشور، ولكن التفت فيها إلى المشبه كما يفرق بينهما أنها جواب " لما " عند ابن عاشور، وجوابها عند الزمخشري مقدر كما ذكرت من قبل، وما ذكره الزمخشري من الجواب المقدر ينكشف للفهم على ما ذهب إليه ابن عاشور ولو بدون تقدير.
وإذا رجعت تتأمل ما أوردته من آراء السلف في الآية الكريمة علمت احتمال أن يكون ذهاب هذا النور ممن ضرب فيهم المثل - وهم المنافقون - في الدنيا والآخرة معا، فأما ذهابه في الدنيا فما يعتريهم من الشكوك فيما أدركوا حقه من عقيدة التوحيد، وعلموا صدقه من رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وما يتبع هذه الشكوك من رسوخ الكفر في نفوسهم واستحكام الضلال، وأما في الآخرة فإن المنافق بمجرد موته أو إشرافه عليه تنكشف له حقيقة الأمر ولا يعود ينفعه ما كان يتشبث به في الدنيا عند الناس من تدين ظاهري، وهو معنى ما سبقت روايته عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وبما أن الامام محمد عبده يرى أن هذا المثل في اليهود ومن كان على شاكلتهم كما سبق، ذهب في تطبيقه عليهم إلى أنهم استوقدوا نار الهداية الالهية بفطرتهم السليمة عندما صدقوا رسله، فلما أشرقت لهم، واستنارت لهم الطريق، انحرفت بهم التقاليد والعادات وصرفتهم عنها المنافع التي يتوهمونها والفوائد العاجلة التي يقصدونها، فحرموا الانتفاع بذلك النور واستبدلوا به ظلمات الليل البهيم.
ومهما قيل في معنى المثل فليس فيه ما يدل على أنهم أجبروا على الزيغ عن الهدى إلى الضلال، وعن النور إلى الظلمات، وإنما كان ذلك باختيار أنفسهم، وعندما يركن أحد إلى الضلال، وينحرف عن طريق الاستقامة، يتوالى عليه خذلان الله سبحانه فيسلبه نور الفطرة باستحبابه العمى على الهدى.
وفسر ابن عباس - رضي الله عنهما - النور بالإيمان، رواه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد نحوه عن مجاهد وقتادة، ورواه ابن أبي حاتم عن عكرمة، والحسن، والسدي، والربيع بن أنس، وروى مثله عن الضحاك.
ومادة الترك تستعمل في الطرح والاهمال، ومفارقة الشيء لغيره، وكثيرا ما تذكر معها الحال التي باين التارك المتروك عليها، وفي مثل هذا الاستعمال يضمن الترك معنى الجعل والتصيير فينصب مفعولين، وغالبا ما يدل ذلك على الزهد في الشيء أو تحقيره، ويراعى إذا اعتبر المنصوب الثاني مفعولا به كونه هو محل الفائدة المقصودة بالإخبار.
والظلمات جمع ظلمة، وهي نقيض النور، وكثيرا ما يفرد النور وتجمع الظلمة في كلام العرب، ولم يأتيا في القرآن إلا كذلك، وفسر ابن عباس الظلمات بالكفر، وروي عنه تفسيرها بالضلال وهو غير بعيد مما قبله، وروي عنه أيضا تفسيرها بالعذاب، وهو مبني على ما سبق نقله من أن انحسار هذا النور إنما يكون بعد مفارقة الحياة، وروي مثل ذلك عن الحسن البصري، وعن السدي أنه فسر الظلمات بالنفاق.
ولا فارق بين هذه الأقوال، فإن الضلال يصدق على الكفر والنفاق، والنفاق في حقيقته كفر، وإنما يزيد عليه بما يكون عليه المنافق من الخداع لله ورسوله وللمؤمنين، فالخلاف ما بين هذه الآراء لا يعدو أن يكون لفظيا، وإنما الخلاف المعنوي بينها وبين قول من يرى أنها العذاب، وإن كان كل من الكفر والنفاق والضلال مفضيا إلى العذاب، ذلك لأن من فسر الظلمات بها اعتبر أن ذهاب النور حاصل في الدنيا قبل الآخرة، ومن فسرها بالعذاب ذهب إلى أن النور ما يتمتع به المنافق في الدنيا بسبب كلمة التوحيد، وأن الظلمات ذهاب ذلك بعد مفارقته لها كما تقدم.
أحوال المنافقين كلها ظلمات:
ذهب ابن عاشور أن جمع الظلمات في هذه الآية يشار به إلى أحوال المنافقين التي يصلح تشبيه كل منها بالظلمة، وهي الكفر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبعها من آثار النفاق المتنوعة، وذكر أن طي وجه الشبه في هذا التشبيه لأجل الاعتماد على فطنة السامع، فإنه يمكنه أن يستظهره من مجموع ما تقدم من شرح أحوالهم؛ ابتداء من قوله: { ومن الناس من يقول آمنا.. } الخ، وما يتضمنه المثلان من الاشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة التي شبهوا بها، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم { آمنا بالله } ، وقولهم { إنما نحن مصلحون } ، وقولهم عند لقاء المؤمنين { آمنا } ، أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما يتظاهرون بالاسلام، ويأتون بواجباته؛ كالصلاة والصدقة والصيام، ويصدر منهم طيب القول، وقويم السلوك، وتشرق عليهم الأنوار النبوية، فيكاد نور الايمان يخترق إلى قلوبهم، ولكن سرعان ما تنقلب تلك الحالة إلى نقيضها عندما ينفضون عن تلك المجالس، ويجتمعون ببطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم، فتعاودهم الأحوال الذميمة؛ من مزاولة الكفر، وخداع المؤمنين، والحقد عليهم والاستهزاء بهم، ووصفهم بالسفه، فهذا التظاهر وما تبعه من الإنقلاب مثلا بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.
وأتبع ذلك ابن عاشور أن من بدائع هذا التمثيل كونه - مع ما فيه من تركيب الهيئة المشبه بها ومقابلتها للهيئة المركبة من حالهم - قابلا لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيئة أحوالهم بجزء مفرد من الهيئة المشبه بها، فيشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين، ويشبه رجوعهم إلى كفرهم بالظلمات، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم.
ولم يذكر مفعول { لا يبصرون } لقصد عموم المبصرات، لأن الفعل المتعدي قد ينزل في مثل هذه الحالة منزلة اللازم لافادة تأكيد العموم، فكأنه قيل ليس من شأنهم الابصار رأسا، وجملة " وتركهم في ظلمات.. الخ " جاءت تقريرا لمضمون ما تقدمها؛ لأن من شأن من ذهب نوره أن يكون في ظلمة لا يبصر، والجملة التقريرية وإن كان مدلولها تتضمنه الجملة المقررة قبلها؛ فإن فيها من الفائدة إيقاظ الذهن الخامل لما قد يعزب عنه من هذا المدلول، وذلك أن الذهن قد لا يتصور النتيجة المترتبة على ذهاب الله بنورهم إلا عندما يوقظ، بأنها كانت تخبطهم في ظلماتهم بعدم إبصارهم.
ولا يخلو إما أن يكون ترك هنا متعديا إلى مفعول واحد أو إلى مفعولين؛ إن ضمن معنى صير وجعل كما تقدم، وعلى الأول فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من المفعول، وجملة { لا يبصرون } حال مرادفة، ويجوز أن يكون { في ظلمات } متعلقا بترك، و { لا يبصرون } حال، وعلى الثاني فالمفعول الثاني { في ظلمات } و { لا يبصرون } جملة حالية من المفعول أيضا، ولا يجوز أن تكون جملة { لا يبصرون } هي المفعول الثاني، و { في ظلمات } في موضع الحال، لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والأخبار لا تساق للتأكيد، ومن المعلوم أن من ترك في الظلمات لا يبصر، فإذا صرح بعدم إبصاره كان في هذا التصريح تأكيد لما سبقه.
[2.18]
اختلف في هذه الآية هل هي من ضمن التمثيل، أو هي خارجة عنه ويعود ما فيها من الوصف إلى المقصودين بالتمثيل وهم المنافقون؟ وعلى الأول فوجه علاقتها بالمثل أن مستوقدي النار لافتقارهم إلى الضوء تشتد حسرتهم، وتتضاعف مصيبتهم، إذا ما أتى عليها عاصف من الريح فأطفأها بعد إشراق ضوئها، وبدو منفعتها، كيف وقد فاتهم ما يأملون مما هم في أمس الحاجة إليه من الانتفاع بها؛ مع ضياع جهدهم الجهيد في إيقادها، فإذا ولي ذلك إلمام حادث فظيع ذهب بسمعهم ونطقهم، وإبصارهم، كان ذلك أنكى لهم، وأبلغ في حيرتهم، إذ لا أمل لهم يبقى في الاهتداء بصوت يسمع، ولا بشبح يرى، ولا بسؤال يجاب، فلا مناص لهم عن الاستسلام للأمر الواقع حيث لا داعي ولا مجيب.
وهذا شأن الذين ضرب فيهم المثل، فهم بعد أن طفئت نار هدايتهم لم تعد لهم وسيلة إلى الخير بعد ما قطعوا جميع الوسائل باستحبابهم العمى على الهدى، فطبع الله على قلوبهم، وطمس حواسهم ومشاعرهم.
وعلى الثاني فإن في الآية عودا إلى المشبه بعد التشبيه بتجلية بعض صفاته لا عن طريق التمثيل، ويؤيد هذا الرأي الأخير أن ذكر الاستيقاد يدل على إبصار المستوقد، فإذا ما وصف بعد بالعمى وسائر العاهات المذكورة، كان في هذا الوصف منافاة لما تقدم من قبل.
حواس المنافقين فقدت منافعها:
وإنما وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى - مع اكتمال حواسهم - لأجل فقدانهم منافعها، فأسماعهم لا تصغي إلى الحق، وإن أصغت إليه لم تعقله لعدم تقبلها إياه، وألسنتهم لا تتحدث به ولا تدعو إليه، وأبصارهم لا تتوصل إليه؛ لأنها معرضة عنه، فهم لا يختلفون عمن فقد هذه الحواس رأسا.
واختلف في هذه الطريقة؛ هل هي من باب الاستعارة أو الحقيقة؟ فذهب الزمخشري وأكثر علماء التفسير من المتقدمين والمتأخرين؛ إلى أن ذلك من باب التشبيه البليغ، وهو ضرب من الحقيقة؛ لأن الاستعارة لا تكون إلا مع طي ذكر المشبه - وهو المستعار له - بحيث يكون تركيب الكلام صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا القرينة المعينة للمراد، والمشبه هنا في حكم المذكور لأجل بناء الكلام على تقديره، وتعقب ذلك السيد الجرجاني في حواشيه على الكشاف بما معناه: أنه لم يقصد هنا تشبيه ذوات بذوات، وإنما قصد تشبيه صفات بصفات، والصفات المشبهة مطوية، فلا مانع من عد ذلك من باب الاستعارة التصريحية التبعية، ورد عليه بأن تشبيه الصفات بالصفات يتعدى إلى تشبيه الذوات بالذوات، فلذلك كان هذا الاستعمال معدودا من التشبيه البليغ الذي تحذف منه آلة التشبيه مع جواز ذكرها، إذ لا مانع من أن يقال هم كالصم البكم العمي، وإنما في التشبيه البليغ من الفائدة ما لا يوجد فيما لو ذكرت آلة التشبيه، فإن المراد هنا الإيغال في وصفهم بفقدان منافع حواسهم؛ حتى اعتبروا كأن ذواتهم ذوات صم بكم عمي.
وأجاز الألوسي أن يكون الضمير المنوي المسند إليه يرمز إلى ذوات هؤلاء مع استحضار ما سبق من أوصافهم، ككونهم لا يشعرون ولا يعلمون، فيكون ذلك دليلا على المراد بصممهم وبكمهم وعماهم، ولا يخرج عن دائرة التشبيه البليغ.
والذي يتبادر لي أن نية المسند إليه لا تمنع من عد هذه الطريقة من باب الاستعارة؛ فإن للمشتقات أحكاما تختلف عن أحكام الجوامد، ألا ترى أن قول القائل:
" أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى " معدود في الاستعارة التمثيلية باتفاق البلغاء، مع ذكر الضمير المنصوب العائد إلى ذات المستعار له هذا الوصف، ومثله قول القائل: " فلان يوقد النار " والقصد إثارة الفتنة والبغضاء، فإن ذكر اسمه صريحا لا يمنع من عد هذا الأسلوب من باب الاستعارة، وقد عدوا قول الشاعر:
ويصعد حتى يظن الجهول
بأن له حاجة في السماء
من أبلغ أنواع الاستعارة مع نية ضمير الموصوف.
ولا أرى فارقا بين الفعل وسائر المشتقات، وتشبيه الصفات بالصفات لا يتعدى إلى تشبيه الذوات بالذوات، ففي هذه الآية مثلا لم يرد التشبيه بذوات معينة متصفة بالصمم والبكم والعمى، وإنما الملاحظ في التشبيه نفس هذه الأحوال ولو لم توجد في الخارج.
وما تقدم من صفات هؤلاء المنافقين لا يصرف هذه الصورة عن حكم الاستعارة، وإفهامها للمراد لا يعدو أن يكون من باب القرينة المشخصة للمراد من اللفظ، وهو مما يفتقر إليه كل مجاز، على أنهم اتفقوا بأن ذكر المشبه في غير جملة الاستعارة لا يؤثر شيئا على حكمها، نحو قول الشاعر:
قامت تظللني من الشمس
نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب
شمس تظللني من الشمس
فقد اتفقوا على أن لفظة شمس في البيت الثاني استعارة، مع أن المراد بها منصوص عليه في البيت الذي قبله، وإذا كان هذا مع التقارب بين الحقيقة والاستعارة، فكيف إذا كانت بينهما آيات متعددة، وأقرب مما في البيتين قول الآخر:
لا تعجبوا من بلى غلالته
قد زر أزراره على القمر
والصمم هو عدم السمع ممن من شأنه أن يسمع، ولفظه دال على السداد، فإنهم يسمون السداد صماما لحيلولته دون دخول ما كان خارجه إلى داخله، ومن هذا الباب قولهم " صخرة صماء " ، فإن تلاحم ذراتها مانع من وصول الهواء أو غيره إلى داخلها، وبما أن العروق السمعية إذا أصيبت انسدت، فلا يصلها الأثير المتموج الناقل للأصوات، سميت هذه الاصابة بالصمم.
والبكم هو عدم النطق ممن من شأنه أن ينطق، وقيل عدم النطق والفهم، وفرق بينه وبين الخرس؛ بأن البكم ما كان بالطبع، والخرس ما كان بحدوث آفة، وقيل الخرس عدم النطق، والبكم عدم النطق والسمع.
والعمى هو عدم البصر ممن من شأنه الإبصار، ولذلك لا توصف به الأشجار والأحجار، فلا يقال شجرة عمياء، ولا صخرة عمياء، وهكذا فيما ماثلهما.
ومن إيف بما تقدم تعذر عليه الاهتداء، واستحالت عليه النجاة، فإن الحواس والنطق وسائل لتسيير الانسان نفسه وتبصيرها بخيرها وشرها، فإذا ما فقدها وهو في صحراء قاحلة بحيث لا يجد من يأخذ بيده، فإما أن يهلكه السغب والظمأ، وإما أن تفترسه السباع الكاسرة، وليس له عن ذلك مناص.
وفصل الآية بقوله { لا يرجعون } دون غيره نحو { لا يهتدون }؛ لأن من اهتدى بعد ضلاله، ورشد بعد غيه، هو آئب إلى الفطرة التي نشز عنها.
وقد حمل بعض المفسرين هذا الوصف الشنيع في الآية على طائفة من المنافقين علم الله عدم ارعوائها، وهم الذين قال الله فيهم:
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم
[التوبة: 80]، وحملها آخرون على جميعهم حال إخلادهم إلى النفاق وعدم تأثرهم بالوعظ.
[2.19-20]
هذا انتقال من تمثيل إلى آخر لتعرية أحوالهم وبيان أوصافهم، والانتقال من مثل إلى آخر مألوف في القرآن الكريم، وفي كلام بلغاء العرب منظومه ومنثوره، وهو لا يأتي إلا مع قصد التأكيد على الشيء لأجل مزيد العناية به، سواء كان لقصد تحبيبه إلى النفوس وتأليفها عليه، أو لقصد تكريهه إليها وتنفيرها منه، ومن أمثلة ما ورد منه في القرآن قوله تعالى:
والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذآ أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 39 - 40]، ومن أمثلة ما ورد من ذلك في كلام العرب قول امرئ القيس:
أصاح ترى برقا أريك وميضه
كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب
أمال السليط بالذبال المفتل
فقوله " أو مصابيح راهب.. الخ " معطوف على التشبيه في قوله " كلمع اليدين "؛ وقول لبيد في وصف ناقته:
فلها هباب في الزمام كأنه
صهباء خف مع الجنوب جهامها
أو ملمع وسقت لأحقب لاحه
طرد الفحول وضربها وكدامها
أفتلك أم وحشية مسبوعة
خذلت وهادية الصواري قوامها
ونحوه قول ذي الرمة:
وثب المسحج من عانات معقلة
كأنه مستبان الشك أو جنب
ثم قال:
أذاك أم نمش بالوشي أكرعه
مسفع الخد غاد ناشع شبب
ثم قال:
أذاك أم خاضب بالسي مرتعه
أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب
ويجوز أن يكون العطف في مثل ذلك بأو وبغيرها كما علمت، وأصل أو لتساوي الأمرين في الشك، ثم استعملت في مطلق التسوية، وهي هنا دالة على جواز التمثيل بما سبقها وما وليها.
ولا إشكال في ورود مثلين، أو تعاقب عدة أمثال لحالة واحدة كما عرفت من الشواهد، وهذا ينبئك أن المقصود بضرب هذا المثل هو نفس الفريق الذي ضرب له المثل السابق، وهو فريق المنافقين، وهذا هو المأثور عن السلف كما سيأتي إن شاء الله، وعليه أكثر المفسرين، وقد تقدم أن الامام محمد عبده يرى أن تنوع المثلين لاختلاف المراد بكل منهما، وقد سبقه إلى مثل رأيه هذا الإمام ابن كثير في تفسيره، ورأيهما وإن اختلف في بعض الوجوه فهو متقارب، وذلك أن ابن كثير يتفق مع الامام محمد عبده على أن أصحاب المثل الأول أسوأ حالا من أصحاب المثل الثاني، فعنده أن الفريق الأول أعمق في النفاق وأنأى عن الحق، أما الفريق الثاني فهم منافقون يترددون بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فتارة يلمع لهم نور الايمان فيبصرون، وتارة يخبو فيبقون في ضلالهم يعمهون، وحمل على مثل ذلك مثلي سورة النور في الذين كفروا، فخص أولهما بأولي الجهل المركب، وثانيهما بأصحاب الجهل البسيط.
وقد سبق ملخص تفسير الأستاذ الامام لأحوال أصحاب المثلين، وحصره كلتا الطائفتين في اليهود، غير أننا نجده في تفسيره للمثل الثاني يجعل أصحابه فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، وحجة على الدين في جميع العصور، لأنهم يصارعون بهواهم عقولهم، ويقاومون بشهواتهم مشاعرهم ومداركهم، ويستطرد في تبيان أحوالهم بأسلوبه البليغ حتى ينتهي به المطاف إلى أنهم نبذوا كتاب الله إذ لم يدرسوه على حقيقته، بل درسوه بجدليات النحو والكلام، فطمسوا أنواره الهادية إلى الحق، وقرأوه بالتجويد والأنغام مع إهمالهم حكمه وأحكامه، ولم يقصدوا من دراسته إلا جمع حطام الدنيا ، والاستكثار من منافعها، ولم يعنوا بما فيه من تفاصيل الحلال والحرام، وعدلوا عن إصلاح القلوب به، ومعالجة النفوس بهداه إلى معالجة الأبدان من الأسقام بكتابته، إلى آخر ما وصفهم به.
وأنتم ترون أن ما ذكره هنا ينافي ما حدده أولا من أن الفريقين من اليهود، فإن هذه الصفات التي ذكرها إنما تنطبق على ضلال هذه الأمة؛ الذين اكتفوا من القرآن الكريم بتلاوته بالأنغام الشجية والألحان المطربة في الحفلات والمؤتمرات، ولم يعنوا بإصلاح نفوسهم به، وتنشئة أولادهم عليه، كأنما القرآن أنزل للاطراب والتسلية، لا للاصلاح والعمل والهداية، اللهم إلا أن يكون الأستاذ أراد مما أورده هنا، أن المثل وإن كان مضروبا في اليهود الذين استبدلوا الضلالة بالهدى، واستحبوا العمى على البصيرة بإهمالهم ما أنزل عليهم، وإطفائهم أنوار الفطرة في نفوسهم بعواصف الأهواء، فإنه ينطبق على من سلك مسلكهم من هذه الأمة، كأولئك الذين وصفهم بما وصفهم به.
وقد علمتم مما سبق أن الذي يقتضيه السياق، ويدل عليه اللفظ، هو أن هذه الأوصاف شاملة لمنافقي هذه الأمة، بغض النظر عن كونهم من العنصر اليهودي، أو من العرب، كما علمتم أن هذه العناية بشرح أوصافهم، وتجلية حالاتهم النفسية، وإماطة الستار عن طواياهم دليل على أنهم لم يكونوا محصورين في زمن الرسالة، وأنهم لم يكونوا مصدر خطر على هذه الأمة ودينها في ذلك العصر فحسب، بل هم مصدر بلاء وعنت وشقاق في كل عصر، فإنهم بالتواء مسالكهم واختلاف مداخلهم ومخارجهم، وتعدد وجوههم، يعسر الحذر منهم، ويقل الانتباه لمكرهم.
والصيب؛ المطر، مأخوذ من صاب يصوب إذا نزل، ومنه قول علقمة:
فلا تعدلي بيني وبين معمر
سقتك روايا المزن حيث تصوب
وأصله صيوب - بإسكان الياء وكسر الواو - ولكن أبدلت الواو ياء وأدغمت، ونحوه ميت وسيد وهين، وتفسيره بالمطر هو رأي الأكثرين، وعزي إلى ابن مسعود وابن عباس، وآخرين من الصحابة، وأبي العالية ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، وروي عن الضحاك أنه السحاب، واستدل له بقول الشاعر :
وأسحم دان صادق الرعد صيب
وهو في هذا المثل مشبه به القرآن، روى ذلك ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم:
" مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث أصاب أرضا فكانت منها نقية.. الخ ".
والسماء ما كان أعلى الأرض، وسنتكلم إن شاء الله عنها فيما يأتي، والصيب لا ينزل إلا من جهة السماء، فالاخبار عنه أنه من السماء؛ إما لمزيد الكشف والبيان لأجل التهويل والتعظيم، نحو قول امرئ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من عل
مع العلم أن الحط لا يكون إلا من أعلى، ومنه قوله تعالى:
فأمطر علينا حجارة من السمآء
[الأنفال: 32]، وإما للدلالة على غزارة الصيب لانحداره من جميع جهات السماء، بناء على اعتبار كل أفق سماء، وأن التعريف للجنس، وهو قاض بعموم جميع مدلولاته، وهذا هو توجيه الزمخشري، وفيه نظر لأن دلالة التعريف الجنسي على العموم إنما هي في جزئيات الكلي لا في أجزاء الكل، وإما للاشعار بأنه أمر لا يملكون دفعه، وليس ملاكه في أيديهم، وقد اشتهر عند العرب التعبير عما ألم بالناس ولم يكونوا يملكون دفعه بأنه نازل من السماء، وهو توجيه الإمام محمد عبده، وبناه على أن المقصود بالصيب في المثل الإرشادات الإلهية التي تسنح للأفكار عندما ينقدح ضوء الفطرة، وهو أمر وهبي واقع ما له من دافع، ولا يخلو هذا الوجه من النظر أيضا، فإن المتبادر هنا من كون الصيب من السماء أمر حسي مشاهد؛ وليس حقيقة معنوية معقولة، والأصل أن لا يعدل عن المتبادر إلى غيره، وبهذا يتضح أن التوجيه الأول هو الذي ينبغي أن لا يعدل عنه.
والظلمات جمع ظلمة، وقد تقدم معناها، فإن أريد بالصيب المطر - كما هو رأي الجمهور - فالمراد بالظلمات ظلمة تتابع قطره، وظلمة تطبيق غمامه مع ظلمة الليل الساجي، وتكون " في " هنا بمعنى مع، وإن كان المراد به السحاب - كما هو رأي الضحاك - فالمراد بالظلمات ظلمة سحمته، وظلمة الليل، وظلمة غزارة قطره .
والرعد هو الصوت الذي يصدر من السحاب، والبرق هو اللمعان المضيء في الأفق، وغالبا ما يكون في السحاب، وقد هام أكثر المفسرين في تفسيرهما، وكانت أقوالهم تدور بين ما تلقوه من الأكاذيب الإسرائيلية والأوهام الإغريقية؛ فمنهم من قال: إن الرعد ملك يزجر السحاب بصوته، ومنهم من قال: هو ملك يسبح، والصوت المسموع هو من تسبيحه، وذهب آخرون إلى أنه اسم لصوت الملك، وذهبوا إلى أن البرق مخراق من حديد يسوق به الملك السحاب، ومنهم من قال: إنه سوط من نور، إلى ما وراء ذلك من الأقوال العارية عن الدليل، وقد عزاها جماعة من المفسرين إلى جماعة من الصحابة والتابعين، وذكر بعضهم - كابن جرير - أسانيد إلى من رويت عنهم من الصحابة والتابعين، وهي أسانيد كلها معلولة، لم يثبت شيء منها، ولم يعز شيء من ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال:
" سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: " ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار؛ يسوق بها السحاب حيث شاء الله. قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ " قال: " زجره بالسحاب إذا زجره، حتى ينتهى إلى حيث أمره ". قالت: صدقت "
وهو حديث ضعيف اتفق على ضفعه أئمة الحديث، وإن تعجب فاعجب لأولئك الذين ينصون على ضعف هذا الحديث، ثم يعولون عليه في تفسير الرعد والبرق في القرآن، ويبطلون به سائر الأقوال.
الأدلة على منشأ الرعد والبرق:
والأدلة العلمية تدل على أن منشأ الرعد والبرق؛ ما يكون من التماس بين السالب والموجب من الكهرباء التي هي في السحاب بجانب كهرباء الأثير، فإن الطاقة الكهربائية منبثة في كل هذه المخلوقات، فإذا حصل هذا التماس انقدح هذا النور اللامع ونتج عنه هذا الصوت الهادر، وإذا ما ازداد هذا التماس نزلت هذه الصواعق المهلكة والعياذ بالله، وعندما أدرك الناس هذه الحقيقة وانجلت عنها ستر الأوهام، أخذوا يتوقون وقع الصواعق بما يرفعونه على مبانيهم الشاهقة من عمد، يسمونها عمد الصاعقة، على أنه لو كان ما يروونه صحيحا، وثبتت نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في ذلك منافاة للحقيقة العلمية الثابتة، إذ غاية ما كانت تدل عليه هذه الروايات أن وراء هذه الظواهر الطبيعية ملائكة يسيرونها، ومع عدم صحة تلك الروايات، لا داعي إلى تكلف هذا التأويل، هذا مع إيماننا الجازم بأن كل شيء مسخر بأمر الله.
ولم يجمع الرعد والبرق كما جمعت الظلمات؛ إما لأن المراد بالرعد والبرق مصدر رعد وبرق، والأصل في المصادر أن لا تجمع، وإما لأجل النظر إلى هذا الأصل، وإن كان المراد به هو عينهما، وتنكير صيب ورعد وبرق لأجل النوعية، فكأنه قيل صيب غدق، ورعد قاصف، وبرق وامض.
والتمثيل بأصحاب الصيب - وإن لم يذكروا - لاقتضاء المقام ذلك، فالضمائر لا بد لها من مرجع، وفي قوله: { يجعلون أصابعهم في آذانهم } ثلاثة ضمائر جمعية، فلذلك قدروا أو كذوي صيب، أو أصحاب صيب.
وذهب الأكثرون من المفسرين والبلغاء إلى أن الأصابع عنا مجاز عن الأنامل لعلاقة الجزئية والكلية، والداعي إلى التجوز المبالغة في وصف حالهم وما أصابهم من الهلع، حتى يكاد أحدهم أن يغرز جميع أصبعه في أذنه، ولا داعي إلى ما ذهبوا إليه، فإن جعل الأصبع في الأذن يصدق حقيقة على إدخال بعضها أو كلها، كما لو قال قائل: لمست بدن فلان، فلا يلزم منه أن يحيط اللمس بجميع بدنه، ومثله يقال في أي عضو، فإن الاخبار عنه بشيء لا يقتضي الاحاطة حتى لا يخرج جزء منه عن مدلول ذلك الخبر، ألا ترون أن الأمة أجمعت على حمل قوله تعالى:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
[المائدة: 38] على القطع من الرسغ، مع أن لفظ اليد يصدق على الكف والساعد والعضد إلى المنكب.
وجملة " يجعلون أصابعهم.. الخ " قيل: إنها حالية لايضاح المقصود من الهيئة المشبه بها؛ لأنها كانت مجملة، ولا أدري ما هو العامل فيها عند هذا القائل، على أن المعهود في الأحوال أن تأتي للكشف عن المفردات لا الجمل، وقد قالوا إن للجمل حكم النكرات ولا تأتي حال من نكرة إلا إذا تقدمتها نحو " لمية موحشا طلل ".
وقيل إنها استئناف بياني لأنه لما ذكر الصيب ورعده وبرقه تبادر سؤال سائل، كيف كانوا يفعلون مع ذلك؟ فأجيب بها.
وقد سبق الكلام عن الصواعق وهي مأخوذة من الصعق؛ وهو الصوت الشديد، ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، كما يقال صعق إذا مات، وقوله { من الصواعق } تعليل قوله { يجعلون أصابعهم في آذانهم } ، فهو ساد مسد المفعول لأجله، وقوله: { حذر الموت } تعليل للمعلول مع علته فلا يرد عليه أنه لا يترادف تعليلان لمعلول واحد، أفاد ذلك ابن هشام وقطب الأئمة، وذلك أن التعليل الأول بمثابة القيد والمقيد غير المطلق.
والتمثيل يدل على حماقة أصحاب هذه الصورة الممثل بها واستيلاء الحيرة عليهم، فهم عندما انهمر الصيب، وطبق سحابه الأرجاء، وتوالى قصف رعده، ولمعان برقه، كانوا يلجأون إلى سداد آذانهم خشية أن يلج إلى مسامعهم هذا الصوت المزعج فيهلكهم، ظانين أن عدم وصوله إلى مسامعهم مظنة لسلامتهم مما يحذرون، مع أن الموت إنما يكون بمفارقة الأرواح الأجساد، فلا يقي منه اتقاء شيء من الأصوات بسد الآذان دونه، ولكن ذلك شأن الحماقة والجبن إذا استحكما في النفس، ولذلك أردف الله سبحانه بقوله { والله محيط بالكافرين } للتنبيه على أن ما يفعلونه لم يكن ليقيهم شيئا من أمر الله الذي خلق الموت والحياة.
واختلف في هذا التذييل؛ هل هو داخل في التمثيل أو هو خارج عنه جاء معترضا لبيان أن ما استحقه المنافقون إنما كان بسبب كفرهم الذي يوارونه بخداعهم، وفي هذا تقرير لحال الذين ضرب فيهم المثل لئلا يشتغل السامع بالمثل عن الممثل له، كما أنه يتضمن وعيدا لأصحاب هذه الحالة، وتحذيرا لهم بأن الله تعالى لا تخفى عنه طواياهم.
وإحاطة الله يمكن أن تكون إحاطة علمية كما في قوله:
أحاط بكل شيء علما
[الطلاق: 12]، أو إحاطة قدرة كما في قوله:
والله من ورآئهم محيط
[البروج: 20]، أو بمعنى الاهلاك كما في قوله:
إلا أن يحاط بكم
[يوسف: 66]، فإن المقام قابل لكل معنى من هذه المعاني، والتعبير بالاحاطة من باب الاستعارة، إما على طريقة التمثيلية وإما على طريقة التبعية.
وقوله { يكاد البرق } يصح أن يكون استئنافا بيانيا لجواز التساؤل عن حالهم مع البرق بعد الاخبار عن حالهم مع الرعد، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في { يجعلون }.
والخطف؛ الأخذ بسرعة، والتعبير بكلما في جانب الاضاءة، وبإذا في جانب الإظلام، يفيد أنهم حريصون على المشي، فلا يترددون - إذا ما أبصروا الطريق من لمعان البرق - في الإسراع فيه، وقد تقدم أن " أضاء " يصح أن يكون لازما وأن يكون متعديا، وكذلك " أظلم " غير أن اللزوم في هذا الأخير أكثر، وإنما يترجح التعدي هنا لمقارنته " أضاء " مع قرائن الحال الدالة على أنهم كانوا ينتفعون بإضاءة الطريق فيحرصون عليها، وعليه فيقدر المفعول - وهو الطريق أو الممشى - في الموضعين، والمراد بقيامهم إمساكهم عن المشي.
واختلف في أفراد هذه الصورة التمثيلية، هل كل فرد منها واقع إزاء نظير له في الصورة الممثلة؛ بحيث يصح أن يستقل بالتشبيه، أو هي مندمجة بالتركيب، ولا داعي إلى الالتفات إلى ما بين كل فرد وآخر من التناسب؟
أقوال في مفردات هذا التمثيل:
وعلى القول الأول فلا محيص عن البحث عما يقابل كل فرد من الهيئة المشبه بها من أفراد الهيئة المشبهة، وهو الذي عليه جمهور أهل التفسير من السلف والخلف، وقد سبق أن جماعة من الصحابة فمن بعدهم قالوا: إن المراد بالصيب القرآن؛ بجامع أن كلا منهما سبب للمنفعة والحياة، وإليكم بعض ما قيل في المراد بهذه المفردات من التمثيل:
1- الصيب هو القرآن، وما فيه من الاشكال عليهم والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج التي تبهر عقولهم هي البرق، وتخوفهم وروعهم وحذرهم هي جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم واشتهار كفرهم وما يكرهونه من تكاليف الشرع كالجهاد والزكاة هي الصواعق، وعزا ذلك ابن عطية إلى الجمهور، وحمل عليه ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله المثل لهم.
2- أن الصيب مثل الاسلام، والظلمات مثل لما في قلوبهم من النفاق والبرق والرعد مثلان لما يخوفون به.
3- أخرج ابن جرير وابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الصيب هو المطر، وهو مثل للمنافق في ضوئه يتكلم بما معه من القرآن مراءاة للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك، وأما الظلمات فالضلالات، وأما البرق فالايمان.
4- البرق مثل للاسلام، والظلمات مثل للفتنة والبلاء.
5- أن الصيب هو القرآن وهدى الاسلام، والظلمات ما يعتريهم من الوحشة عند سماعه؛ كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم، والرعد قوارع القرآن وزواجره، والبرق ظهور أنوار هديه من خلال الزواجر.
6- أن الصيب هو القرآن، وأن الظلمات هي الكفر؛ بجامع أن كلا منهما مهلك، وسبب للحيرة، والرعد هو الوعيد، والبراهين الساطعة هي البرق، وإعراضهم عن القرآن هو سداد آذانهم عن الصواعق، وتركهم دينهم هو الموت عندهم.
وثم أقوال أخرى كثير منها قريب مما ذكرنا، وبعضها بعيد عن مدلول الآية، ليس على صحته من دليل.
والقول الثاني: هو الذي ذهب إليه الزمخشري وعزاه إلى علماء البيان، وتابعه عليه السيد الجرجاني وأبو السعود وأبو حيان، وحاصله أنه لا داعي إلى تكلف البحث عن وجه الشبه بين مفرد وآخر، لأن القصد من التمثيل تشبيه هيئة مركبة من عدة أفراد، تضامت حتى صارت شيئا واحدا بهيئة أخرى مثلها، والصورة المشبه بها إذا ما اندمجت أفرادها كانت ذات أثر نفسي بالغ، بخلاف ما إذا عزل بعضها عن بعض، فتشبيه المنافقين بالساري في ظلمات الليل، إذا انهمرت عليه السماء بودقها، وأحاط به رعدها وبرقها، وهو في صحراء لا يجد مأوى ولا واقيا، أدل على حيرتهم مما لو فكك التشبيه فشبه كل فرد بآخر، وكذلك تشبيههم في المثل الأول بمن طفئت ناره - بعد إيقادها وإضاءتها ما حوله - فتخبط في ظلمته، وهام في حيرته أبلغ في تصوير حالتهم النفسية وما يعتريهم من الاضطراب مما لو روعي في التمثيل التشابه بين كل فرد في الهيئة المشبهة ونظير له في الهيئة المشبه بها، وهذا يعني تناسي الأفراد رأسا في التشبيه المركب، ووصف الزمخشري هذا الرأي بأنه القول الفحل، والمذهب الجزل، وبناء عليه لا داعي إلى تقدير مضاف قبل لفظة صيب، لولا ما يقتضيه من ضرورة وجود معاد للضمائر في قوله { يجعلون أصابعهم في آذانهم } ، وما في الآية الثانية من الضمائر.
والمراد بمشيهم فيه مشيهم حيث يشرق نوره، واختلف في قوله { ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } ، قيل: هو داخل في التمثيل، وعليه فمعاد ضمائره إلى أصحاب الصيب، وقيل: هو عائد إلى المنافقين الذين ضرب لهم المثل؛ وعلى الأول فالمراد؛ ولو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق، وهو يدل على هول ما لقوا، فقد كان الرعد من قوة الصوت بحيث يذهب بالأسماع؛ لولا أن الله لم يشأ ذلك، وهكذا كان لمعان البرق من الشدة بحيث يذهب بالأبصار؛ لولا مشيئة الله غير ذلك، وذهب بعضهم إلى أن ذهاب السمع والأبصار كناية عن الموت، لأن من مات فقد سمعه وبصره؛ وعلى الثاني فالمقصود أن الله عز وجل لو شاء لأتى على جميع وسائل الهداية عند المنافقين حتى لا يجدي فيهم وعظ واعظ، ولا يفيدهم إرشاد مرشد، غير أنه تعالى أبقى عليهم هذه الأسباب لتكون حجة على من أصر على كفره، وطريقا إلى رشد من عدل عن غيه.
وبناء على الرأي الأول يعد هذا الوصف ساريا من الصورة المشبه بها إلى الصورة المشبهة، ويقصد بذلك ما أشرنا إليه من أن الله تعالى أمهل لأولئك المنافقين ليتوب من تاب منهم، وليزداد المصرون ضلال وإثما، وهو يتضمن وعيدا لهم إن لم يبادروا بالاقلاع عن غيهم، والتخلص من النفاق الذي مردوا عليه، ويتأكد ذلك بقوله من بعد { إن الله على كل شيء قدير } ، فمن خلق السماوات والأرض، وبيده ملكوت كل شيء، لا يعجزه إتلاف حواس من شاء من خلقه بما شاء من الأسباب، بل لا يعجزه القضاء على حياة من شاء متى شاء.
وهذا التذييل يتلاءم كل الملاءمة مع ما تقدم من تهديد أهل النفاق، وكل ما سبق في وصف المنافقين من بداية قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا } إلى خاتمة هذه الآية، ينطبق على المنافقين في كل عصر، وكذا ما تجدونه هنا وفيما سبق من الوعيد يشمل منافقي جميع العصور، فلا يغرن أحد نفسه بأن هذا الوعيد خاص بطائفة مخصوصة في عصر معين، فالنفاق هو النفاق في أي عصر كان، ولا أثر لاختلاف الأزمان في اختلاف وعيده، نسأل الله تعالى العافية وحسن الخاتمة.
[2.21-22]
الآيات السابقة قسمت الناس إلى طوائف ثلاث، مؤمنة ظاهرا وباطنا، وكافرة ظاهرا وباطنا، ومذبذبة بين الطائفتين، مؤمنة في الظاهر وكافرة في الباطن، وبينت صفات كل طائفة، وما يؤول إليه أمرها، وجاء عقبها هذا النداء العام الموجه الى عموم الناس على انقسام طوائفهم، يدعوهم إلى عبادة الله، ويذكرهم بمختلف آلائه وفي هذا النداء إيناس للنافر المستوحش مما سبق من قوارع الإنكار، وتذكير للغافل بما تستوجبه نعم الله عليه من أداء شكرها بإخلاص العبادة لمن أسبغها عليه، وهو في حقيقته نداء موجه الى الفطرة الانسانية لايقاظها من نومها، وتنبيهها من غفلتها.
نداء الفطرة أنجح طرق التربية النفسية:
ونداء الفطرة يعد أنجح طريقة في التربية النفسية، ففيما تقدم من قواصف الانكار وصوادع الوعيد؛ كفكفة للنفس الطائشة عن غلوائها في الشر، وفي النداء الذي يتبع ذلك تذكير لها بأنها لم تزل - مع سوابق إعراضها وبعد شططها في الصدود - يراد لها الخير، ولا يطلب منها إلا ما فيه مصلحتها، وبهذا الذي ذكرته ينكشف ما بين الآيات السابقة وبين هذه الآية وما بعدها من رباط.
ولطف الخطاب هنا بعد شدته هناك - للحكمة التي ذكرتها - لا ينافي اندراج الطائفة الأولى في عموم هذا الخطاب، فإن سلاسة القول كما تتألف النافر، وتقرب البعيد، تزيد الأليف ألفة، والقريب قربا، وتمنحهما باعثا نفسيا على إتيان ما يراد منهما من الخير، وتزيد همتهما نشاطا، وفكرتهما اتقادا، ورؤيتهما وضوحا، على أن تلك الطائفة المؤمنة نفسها لا تخلو عادة من تأثر بالوعيد الموجه إلى غيرها، لأن من شأن المؤمن أن يكون شديد الحذر، مشفقا على نفسه من انزلاق قدمه فيكون في عداد أهل الضلال.
وإذا كانت الآيات السابقة تثير الوجل وتبعث القلق في نفس المؤمن بهذا السبب، فإن هذا الخطاب يفيض عليه الأنس والطمأنينة، فتتعادل في نفسه كفتا الخوف والرجاء.
وهذا الذي قلته هو الذي يقتضيه اللفظ، فإن تعريف الناس تعريف جنسي - إذ لا عهد - فيشمل جميع الناس على اختلاف طوائفهم.
ومن المفسرين من يخص هذا الخطاب بطائفتي الكفر والنفاق، وهو الذي رجحه ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، ومنهم من يرى أنه خاص بالمنافقين وحدهم، وعزي إلى ابن عباس أيضا، ومنهم من يقول إنه خاص بكفار العرب، ومنهم من يقول إنه لليهود وحدهم، والتخصيص بغير مخصص تحكم، ويقوي العموم جواز التأكيد بما يفيد العموم في مثل هذا اللفظ، وجواز الاستثناء، وصدر الخطاب ب " يا " وهي أصل حروف النداء فيه، ولذلك ينادى بها القريب والبعيد على الراجح، خلافا لمن قال: إنها مخصوصة بالبعيد، وإن نودي بها القريب فلتنزيله منزلة البعيد، إما لسهوه وغفلته، وإما لاعتقاد البعد المعنوي بين المنادي والمنادى، ولذلك ينادى بها الله سبحانه وتعالى لأجل تنزيل المنادي نفسه منزلة البعد لضعفه وعجزه وقصوره هضما لنفسه، واعترافا بما هو متلبس به مما يبعد عن مقامات الزلفى ودرجات المقربين.
و " أي " وصلة لنداء ما دخل عليه الألف واللام، ومخاطبة الناس هنا بعد الاخبار عنهم فيما سبق، التفات كالذي تقدم شرحه في قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، والذي يحسنه هنا - بجانب النكتة العامة وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط سامعه - أن توصيف كل طائفة من تلك الطوائف الثلاث وبيان أحوالها، جعلها في حكم الحضور، فحسن نداؤها وتعميمها بالخطاب، مع ما ذكرته من أن أنس هذا الخطاب يجدد نشاط الصالح، ويكف من شطط المفسد.
والعبادة سبق تفسيرها في الفاتحة، واختيار لفظة الرب دون سائر أسمائه تعالى؛ لما في مدلوله من معنى التربية بمختلف الآلاء الظاهرة والباطنة، وفي هذا حفز للمسارعة إلى ما أمر به من العبادة، لأن الخطاب صادر من الرب والعبادة المأمور بها له، وفيه نوع تعليل للأمر؛ لأن من القواعد المعروفة أن الحكم على المشتق يؤذن بعليته، ويقوي ذلك ما ولي اسم الموصول من ذكر الخلق وما بعده، وهذا لا ينافي أن يكون الله تعالى حقيقا بالعبادة، وجديرا بالطاعة المطلقة بنفس علو ذاته وكمال صفاته، مع قطع النظر عما أفاضه على عباده من صنوف النعم؛ أهمها إخراجهم من العدم إلى الوجود، الذي ترتبت عليه بقية الآلاء، إذ لا مانع أن يراعى في العبادة الكمال الذاتي للمعبود، وما صدر عنه من فيض هباته للعابدين، بل هذا هو المطلوب.
والخلق أصله التقدير والتهيئة، يقال خلق الأديم إذا هيأه للقطع، وخلق الأمر إذا قدره، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبع
ض الناس يخلق ثم لا يفري
يعني أن الممدوح يتبع التقدير العمل بخلاف بعض الناس، وإذا نسب الخلق إلى الله سبحانه فهو بمعنى الانشاء والاختراع على غير سبق مثال، وأقرب ذلك أن يقال: هو الاخراج من العدم إلى الوجود، وبهذا المعنى فهو من اختصاص الله سبحانه وتعالى فلا يصح إسناده إلى غيره، فلا يوصف مخلوق بالخالقية، وأما ما جاء في سورة آل عمران من قوله حكاية عن عيسى عليه السلام:
أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير
[آل عمران: 49] ومثله ما في سورة المائدة - فهو محمول على مطلق الصنع، ولم يرد به اختراع على غير سبق مثال، وكان ذلك قبل تخصيصه في العرف الاسلامي بالله عز وجل، ونحوه قوله تعالى:
فتبارك الله أحسن الخالقين
[المؤمنون: 14]، ولا مسوغ لقول أبي عبدالله البصري المعتزلي إن إطلاق الخالق على الله محال لمصادمته وصف الله نفسه بالخالقية في نحو قوله:
هو الله الخالق البارىء
[الحشر: 24]، وإن علل رأيه بأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان؛ إذ لا قيمة للنظر مع ورود النص، على أن قياس الغائب على الشاهد لا يصح، فالله سبحانه يخلق ويقدر بدون احتياج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الوسائل.
وبما أن أقرب شيء إلى الانسان نفسه ذكر المخاطبون أولا بخلق أنفسهم، ثم أتبع ذلك تذكيرهم بخلق أصولهم التي ترتب وجودهم على وجودها، ومن المعلوم أن من لم تجده الموعظة من نفسه لم تجده من غيره، والخلق هو أصل النعم جميعا، وكما أن خلق الإنسان نفسه نعمة جلى فخلق أصوله يعد من كبريات النعم، لترتب وجوده على وجودها كما تقدم.
واستشكل القائلون بعدم خطاب المشرك بفروع الشريعة، توجيه هذا النداء إلى عموم الناس من مؤمن ومشرك وتضمنه الأمر بالعبادة، وتكلفوا الاجابة عن ذلك بالعديد من الأجوبة هروبا من الواضح إلى المشكل، وبما أنني أرى أن الخطاب بفروع الشريعة شامل للمسلمين والمشركين - كما سيأتي بيانه إن شاء الله في موضعه - لا أجد ما يدعوني إلى ذكر هذه التكلفات والحمد لله.
ولعل تفيد التوقع المشترك بين الرجاء والإشفاق، فإن كان المتوقع محبوبا فهي للرجاء، وإن كان مرهوبا فهي للإشفاق، مثال الأول قول التائب: " لعل الله يرحمني " ، ومثال الثاني قول الخائف: " لعل العدو يدهمني " ، وكلا الأمرين مستحيل على الله سبحانه، فمن بيده ملكوت السماوات والأرض وهو بكل شيء عليم، يستحيل عليه الرجاء والاشفاق، ومن ثم كان مجيء لعل في كلامه تعالى داعيا إلى إمعان النظر فيما يراد بها.
وقبل الحديث في هذا الموضوع ينبغي النظر فيما ترتبط به هنا، فقد تقدمها الأمر بالعبادة في قوله: { اعبدوا } ، وذكر الخلق في قوله: { خلقكم } ، وكل منهما يسوغ ارتباطها به - فيما يتبادر لي - وإن زعم القرطبي بأن تعلقها بخلقكم لا يجوز؛ لأن من ذرأه الله تعالى لجهنم لم يخلقه للتقوى، وقد عزا ذلك أبو حيان في البحر المحيط إلى المهدوي، وهو قول مرفوض لأن الله تعالى يقول:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56]، وهو نص صريح على أنهم مخلوقون للعبادة، ولا ينافي ذرء كثير منهم لجهنم كما أخبر الله، فإن استحقاقهم العذاب إنما هو بسبب إعراضهم عما خلقوا له من العبادة والتوحيد، وذلك لم ينشأ إلا عن اختيارهم بأنفسهم، واستجابتهم لدعاء الشيطان، ولم يجبروا على شيء منه وإن مضى القلم بحسب ما علم الله ما يكون منهم، وإذا جاز كونهم مخلوقين للعبادة فأي مانع من أن يكونوا مخلوقين للتقوى مع أن التقوى هي الغاية من العبادة، وما منعه المهدوي والقرطبي هو الذي عول عليه الزمخشري واقتصر عليه في كشافه، وسوغه ابن عطية، وإنما قلت بصحة كلا المذهبين لأن قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ظاهر في جواز تعلقها بخلق كما ذكرت، والرأي الآخر يعززه اقتران ذكر العبادات بذكر التقوى في مواضع من القرآن، كآيات الحج، وبداية آيات الصوم، وهي قوله:
يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
[البقرة: 183]، وفي معنى ذلك قوله سبحانه:
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت: 45]، وهذه هي عين التقوى، وقوله:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها
[التوبة: 103]، وقد تقدم - والحمد لله - بيان حكمة مشروعية الصلاة، وأنها من أسباب الصلاح الظاهر والباطن، وسيأتي الحديث عن سائر العبادات في مواضعها إن شاء الله.
وإذا عرفت الاختلاف فيما ترتبط به " لعل " في هذه الآية فلنعد إلى بيان معناها هنا لعدم جواز معناها الحقيقي - وهو التوقع - عليه سبحانه، وللعلماء في ذلك مذاهب:
أولها: لسيبويه وجمهرة من أئمة العربية والتفسير، وهو أنها على حقيقتها من معنى الرجاء، غير أن هذا الرجاء ليس متلبسا بالله سبحانه، وإنما هو متلبس بالمخاطبين وهم الناس، ومعنى ذلك أنهم مأمورون بأن يعبدوا الله وهم راجون أن تفضي بهم عبادتهم إلى التقوى، وهو صلاح الظاهر والباطن كما هو شأن العبادة، وعليه " فلعل " متعلقة ب { اعبدوا } دون { خلقكم } لتعذر ان يكونوا حال خلقهم راجين أن يتقوا، إذ لم يكونوا آن ذاك أهلا للتفكير أو الرجاء.
ثانيها: لبعض المفسرين، وهو أن الرجاء لا يلزم أن يكون من المخاطب أو المخاطب، وإنما يكون حسب الواقع؛ وذلك أن يكون الأمر مئنة لرجاء كل من أمعن فيه النظر لتوفر أسباب الرجاء، والباعث عليه هنا أن الله عز وجل خلق الناس في أحسن تقويم، وهداهم النجدين، وأفاض عليهم نعمه ، وأرسل إليهم رسله وأنزل إليهم كتبه، فكانوا مئنة لأن يرجى منهم التقوى.
ثالثها: أن لعل هنا محمولة على التعليل؛ وهو قول طائفة من النحويين، منهم الكسائي، وقطرب، وأبو علي الفارسي، وابن كيسان، وابن الأنباري، ونحا نحوهم بعض المفسرين وفي مقدمتهم ابن جرير، واستدلوا له بقول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا
نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
كلمع سراب في الملا متألق
فإنه يتعذر كون " لعل " للترجي في البيت مع قوله: " ووثقتم لنا كل موثق " ، وقوله في البيت الثاني: " كانت عهودكم " إذ لا معنى لكونها دالة على الترجي مع بذل الناطقين بها العهود والمواثيق على الكف، وإذا تعذر حملها على الترجي فلا معنى تحمل عليه إلا التعليل، لجواز أن تحل محلها اللام أو كي التعليليتان، والذي آراه أن كثيرا من الآيات شاهدة بصحة هذا المذهب، كقوله عز وجل:
ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون
[المؤمنون: 49] إذ لا مساغ للترجي هنا إلا على ما تقدم في المذهب الثاني وهو لا دليل عليه، وبالغ الزمخشري في إنكار مجيئها للتعليل، وتابعه الجرجاني، وأبو حيان، وجماعة من المفسرين وغيرهم، وما ذكرته من الشواهد قاض بصحة ما أنكروه، والأولى أن يصار إلى الدليل، وذكر ابن أبي حاتم أن لعل في القرآن تعليلية إلا في موضع واحد، وهو مروي عن بعض المتقدمين من أئمة التفسير، ولا يخلو من مبالغة.
رابعها: أنها للإطماع، وذكر الزمخشري أنها جاءت للاطماع في مواضع من القرآن، وعد قول من قال بأنها تأتي بمعنى كي ساريا إلى أدمغة الذين قالوه من حيث إن إطماع الله لعباده جار مجرى وعده المحتوم، ونظره بما يكون من الملوك في مقابل مطالب الرعايا من الاقتصار على الرمزة، أو الإبتسامة، أو النظرة الحلوة، أو الكلمات المؤشرة إلى الفوز بالمطلوب، وإذا ما حصل ذلك منهم لم يبق للطالب شك في نجاح مطلوبه والفوز بمرغوبه، وعلى هذا السنن جرى خطاب ملك الملوك.
خامسها: أن الاتيان بلعل لأجل النظر إلى أن الله سبحانه خلق الناس واختصهم من بين خلقه بالعديد من المزايا، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وأقام عليهم حجته بإرسال رسله وإنزال كتبه، وأمرهم بالاستقامة على الخير، ونهاهم عن الانحراف إلى جانب الشر، ووعدهم وتوعدهم، وهي حالة مرجحة لاستمساكهم بحبل التقوى عند كل من يفكر في أمرهم، فعبر بلعل الدالة على الرجاء عن طلب التقوى الصادر من الله تعالى إليهم، على طريقة الاستعارة التبعية، ويحتمل أن تكون الاستعارة تمثيلية إذا شبهت حالة بحالة، وذلك أن ينظر إلى جانب الخالق والخلق والمخلوقين، وطلب التقوى منه، فيقابل ذلك بما إذا حصل رجاء من راج في مرجو منه، وقد طويت أركان هذا التشبيه ما عدا لعل لأنها العمدة فيه وإن لم يقتضها سياق الكلام، والذي يتبادر لي أن هذا المذهب لا يختلف عن المذهب الثاني إلا في اسلوب العرض، وعلى كلا المذهبين فهي مرتبطة بخلق، وأما المذهب الأول فهو مبني على ارتباطها ب { اعبدوا } كما علمت، وأما على المذهبين الثالث والرابع فيجوز الأمران، والصحيح عندي المذهب الثالث لبعده عن التكلف وظهور أدلته، وان أنكره من أنكر.
وقد سبق الكلام على التقوى في قوله تعالى: { هدى للمتقين } فلا داعي إلى تكراره.
هذا وقد جعل ابن جرير من الآية الكريمة سندا لمذهبه في جواز التكليف بما لا يطاق حيث أمر الله عز وجل عباده بعبادته مع علمه بأن كثيرا منهم لا يؤمنون، وتابعه على ذلك جماعة من المفسرين ولا مستند لهم في الآية، فإن إعراضهم عن الهدى ليس بإجبار من الله وإنما كان بمحض اختيارهم، وما كتبه الله عز وجل عليهم إنما هو بحسب ما علم من هذا الاختيار.
ولا إشكال في دخول المؤمنين في عموم هذا الخطاب الداعي إلى عبادة الله، وإن كانوا من قبل يعبدونه لا يشركون به شيئا، لأن الأمر بالعبادة أعم من أن يحصر في إنشائها أو المواظبة عليها والاستزادة منها، فيحمل خطاب كل فريق على ما يلائم حاله.
والخطاب كما أنه موجه إلى المعاصرين لنزوله، يتوجه إلى من بعدهم من أجيال البشر المتعاقبة بطريق النص لا القياس، فإنه خطاب صادر من الخالق العظيم إلى هذا الجنس من المخلوقين، وليس خطاب الحق كخطاب الخلق، إذ لم يكن خطاب مشافهة حتى يقال كيف يخاطب من هم في أصلاب الآباء أو أرحام الأمهات؟ وإنما هو خطاب لا تعتبر فيه مقاييس الخلق، فهو نداء سرمدي يواجه كل من سمعه أو تلاه من جديد، وبهذا يستغنى عما قاله أكثر المفسرين في هذا الموضوع.
وبعد تذكير الناس بنعمة الله عليهم المتمثلة في إيجادهم وإيجاد أصولهم، ينتقل بهم الخطاب إلى تذكيرهم بنعم الله في الكائنات من حولهم، وفي هذا تبصير لهم بآياته الكبرى الدالة على وحدانيته، والقاضية بوجوب الإنقياد له والإذعان لأمره ونهيه، فهو مرتبط بما أمروا به من عبادته.
ومعنى جعل الأرض فراشا؛ تهيئتها لأن تكون مستقرا ومستودعا للمخلوقين فيها، فهي كالفراش من حيث أنهم يتقلبون عليها حسبما أرادوا، فعلى ظهرها يمشون ويقعدون وينامون، ومن حكمته سبحانه لم يجعلها رخوة كالوحل والدقيق، ولا لطيفة كالماء والهواء، ولا صلبة كالصلد، بل جعلها مهيأة لراحة الانسان كما يقتضيه حاله، وتقديم ذكرها على ذكر السماء لأنها إلى الإنسان أقرب وحاجته إليها أمس.
والأصل في لفظة السماء أن تطلق على كل ما علا، كسقف البيت والخيمة، لأنها مأخوذة من سما يسمو إذا ارتفع، وخصصت في العرف بهذا الفضاء المحيط بالكرة الأرضية الذي نرى أبعاده شبيهة بقبة زرقاء مضروبة على الأرض، ولذلك تعتقد العامة أنها جسم أزرق مبني كالقبة، وما هي إلا فضاء واسع يسبح في عبابه ما لا يحصى من الأجرام الفلكية، وهذا لا ينافي كونها طبقات، لما عرف من أن الفضاء يتكون من طباق، كما أخبر الله سبحانه وفسره الاكتشاف العلمي، ومن الأدلة البارزة أن المراد بالسماء هو هذا الفضاء، قوله سبحانه في الشجرة الطيبة:
أصلها ثابت وفرعها في السمآء
[إبراهيم: 24]، مع العلم أن فرعها لا يمتد إلى الأجرام الفلكية، ومثله قوله هنا: { وأنزل من السمآء مآء } مع كون الماء ينزل من طبقة قريبة جدا من الأرض ينشأ فيها السحاب ويشبه في تراكمه الجبال ، وهو المراد بقوله:
وينزل من السمآء من جبال فيها من برد
[النور: 43]، والراكب على الطائرة يخترق هذه الطبقة ويتجاوز هذا السحاب.
والمراد من جعل السماء بناء الربط بين أجرامها بسنة الجاذبية، التي هي أشبه بوضع لبنة على لبنة في البناء، فإنها يشد بعضها بعضا بما أودع الله سبحانه في كل منها من طبائع تتلاءم كما يشد اللبن بعضه بعضا، وذلك من أسباب تمكن الإنسان من الإستقرار على الأرض حتى يأتي وعد الله بانحلال هذا الرباط وتداعي هذا البناء، كما أخبر تعالى في قوله:
إذا السمآء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت
[الانفطار: 1 - 2]، وبجانب ذلك فإن الغلاف الهوائي المحيط بالكرة الأرضية أشبه ما يكون بالسقف المبني الواقي، فالشهب التي تتقاذف في أرجاء الفضاء لا تكاد تصلنا بسبب هذا الحاجز الطبيعي، وكذلك الأهوية المنبعثة من الأجرام السماوية ذات الطبائع المهلكة أو المؤذية، فإنها باتصالها بهذا الحاجز يصدها عن الوصول إلينا إلا بعد أن تلطف وتتكيف مع طبيعة هذه الكرة الأثيرية الملائمة لطبيعة الأرض ومن فيها، وعلى كلا المعنيين يتضح معنى جعل السماء بناء لنا، وهو يعد من الإعجاز العلمي الذي سبق القول فيه في الجزء الأول، إذ لم تكن هذه الحقائق واضحة للناس في عهد نزول القرآن، خصوصا أولئك الأميين الذين نزل بينهم، وبجانب هذا فإن التعبير عن هذه الحقائق بهذا الأسلوب الغريب يعد نمطا من أنماط الإعجاز البياني الذي تحدثنا عنه، وذلك أن القرآن واجه عصورا مختلفة تنوعت فيها الثقافات، وتباينت فيها التصورات باختلاف أطوار البشر، واختلاف علومهم وآدابهم، ومع ذلك فقد وسع هذا التعبير جميع هذه الأحوال، ولم يصطدم مع مفاهيم أي جيل من هذه الأجيال، فالبدوي البدائي الذي لم يكن يدرك شيئا مما سبق الحديث عنه؛ من ترابط الأجرام الفلكية، وإحاطة الأرض بمظلة هوائية، إذا تلا هذه الآية أو تليت عليه فهم من معناها ما وصل إليه فهمه، ولم تصطدم بشيء من تصوراته حول الكون، والعالم الفلكي في هذا العصر الذي توفرت لديه وسائل الاكتشاف التي لم تكن في الحسبان من قبل يرى أن الآية الكريمة ما جاءت إلا لتخاطب أمثاله، فسبحان من وسع كلامه جميع خلقه، وهو بكل شيء عليم.
والمراد بإنزال الماء من السماء؛ إنزاله من هذا الفضاء الذي يعلو الأرض بعد أن تتصاعد إليه الأبخرة - بتأثير حرارة الشمس - من المحيطات والبحار والأنهار فتتجمد في الفضاء لتأثير البرودة، ويتكون منها السحاب فتذوبه الطاقة الحرارية، وينهمر منه هذا الودق النافع للعباد، وذلك كله بمشيئة الله، ولو شاء لخلق الماء في هذه الأرض نفسها من غير أن يتنزل من السماء، ومن غير أن يمر بأي طور من هذه الأطوار، كما أنه سبحانه لو شاء أن يخلق الناس والبهائم من غير لقاء بين الذكر والأنثى، ومن غير مرور بأطوار الحمل لكان ذلك، ولكنه - جلت حكمته - أراد بتنقل الأشياء من طور إلى آخر، وتقلبها من حال إلى أخرى تذكيرا للعباد، وتبصيرا بحكمة المبدأ وإمكان المعاد.
هذا وقد جمد كثير من المفسرين على ظاهر الآية، وزعموا أن المطر يتنزل من السماوات العالية حيث الأجرام الفلكية وادعوا أن السحاب ليس هو إلا غربالا له، ومنهم من قال إن القطرات التي تتنزل من السماوات هي في حجم الجمال ثم تتفرق عندما تقع على هذا الغربال فتنزل بحسب حالها الذي نشاهده، وبالغ بعضهم فادعى أن المطر ينزل من تحت شجرة من أشجار الجنة، وقد بالغوا في رد الرأي الصحيح وعدوه من الأوهام الفلسفية، وما دروا أنهم هم الذين أسرتهم الأوهام بسبب ركونهم إلى الروايات الكاذبة التي راجت في أوساط الناس بعد ما مهد اليهود لرواجها، وليس لشيء منها سند يعول عليه، إذ لم يثبت أي شيء منها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه - رضي الله تعالى عنهم -، ولا يصح الآن بعد ما وضح الصبح لذي عينين أن يتعلق أحد بهذه الأوهام، فقد دلت المشاهدة على كذبها، فكثيرا ما يخترق الراكبون على الطائرات طبقات السحاب الماطر، حتى إذا جاوزوه وكانوا أعلاه لم يروا للمطر أثرا، فأين هذه القطرات التي هي في حجم الجمال؟
والعجب من أولئك الذين صدقوا هذه الأوهام؛ فعولوا عليها في تفسير كلام ربهم، كيف عزب عنهم وصف الله تعالى في القرآن لإنشاء السحاب نحو قوله:
ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله
[النور:43]، وقوله:
الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السمآء كيف يشآء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله
[الروم: 48]، وقوله:
والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها
[فاطر: 9]، وهذه الآية نص صريح على أن المطر من نفس السحاب لأن الإحياء إنما يكون به، والضمير في قوله: { فأحيينا به الأرض } عائد إلى السحاب.
وكذلك نجد من الناس من يتعلق بقوله تعالى: { والأرض فراشا } في إنكار كروية الأرض، مع أن كونها فراشا لا ينافي كرويتها بحال، كما نص عليه الزمخشري وهو من المفسرين القدامى، ونبه عليه كثير من المتقدمين، وذلك أن صلاحها للإستقرار عليها هو معنى كونها فراشا.
ومن حكمة الله تعالى أن جعل في الماء خاصية الإنبات، وجعل في الأرض مثلها، وعندما تلتقي الخاصيتان وتتفاعلان يتولد النبات بمشيئته تعالى كما يكون اللقاح باجتماع ماء الذكر والأنثى في الرحم، وذلك هو المقصود بقوله: { فأخرج به من الثمرات رزقا لكم }.
واختلف فيما عطف عليه قوله: { فلا تجعلوا لله أندادا } ، فذهب فريق إلى أنه معطوف على اعبدوا ربكم، لأن العبادة المطلوبة هي العبادة الماحضة التي لا يشوبها شرك، وجعل الأنداد لله مناف لها، فلا غرو إذا كان الأمر بها يتضمن النهي عن اتخاذ الأنداد بطريق اللزوم، غير أنه قد يخفى على الكثير ممن تربوا على الجاهلية واعتادوا اتخاذ الأنداد له سبحانه، فمن ثم صرح بهذا اللازم معطوفا على ملزومه بالفاء الرابطة بين معطوفيها، وذهب آخرون إلى أنه معطوف على { تتقون } ، ونظروه { فأطلع } من قوله سبحانه:
لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى
[فاطر: 36 - 37]، وعليه فهو من ضمن ما يتعلق بلعل؛ سواء قيل إنها تعليلية أو للترجي على حسب الاختلاف الذي أوردته من قبل، وقيل: هو مرتبط بجملة { الذي جعل لكم الأرض فراشا } ، وعليه فالموصول مقطوع عما قبله، وإنما هو خبر لمبتدأ محذوف ولا يخلو من تكلف، والذي يظهر لي أنه مرتبط بجميع ما تقدم من تعداد الآلاء المتنوعة التي تبدأ بخلقهم وخلق من قبلهم، وما ذكر بعده من جعل الأرض فراشا لهم، والسماء بناء، وإنزال الماء من السماء، وما يتبعه من إخراج رزقهم من الأرض، فإن جميع ذلك باعث على إخلاص العبادة لله الذي أغدق عليهم هذه النعم، فكان نهيهم عن اتخاذ الأنداد له سبحانه - بعد تذكيرهم بنعمه التي تقتضي منهم الشكر المنافي للاشراك - من الملاءمة لما تقدمه بمكان.
والند هو المثل المعارض، وقيل: ولو لم يكن معارضا وإنما الغالب في الأنداد التنافس والتعارض بينها، فلذا خصه الأولون بالمعارض، وهؤلاء المخاطبون لم يكونوا يعتقدون في معبوداتهم أنها معارضة لله تعالى، وإنما كانوا يعتقدونها وسيلة توصلهم إلى مقامات الزلفى منه، غير أنهم عدوا بمنزلة من اعتبرها معارضا له نظرا إلى أن العبادة من خصوصيات الخالق، فإشراك غيره فيها يعني اعتبار ذلك الغير في مقام الند له.
والنهي عن جعل الأنداد لله يعم جميع أنواع الجعل، سواء كان بالتوجه إليها بالعبادات المعروفة؛ كالتقرب إليها بالركوع والسجود، والقرابين والنذور، أم كان بالضراعة والابتهال وطلب قضاء الحاجات التي لا يمكن لمخلوق قضاؤها، أم كان باعتقاد قدرتها على التصرف في هذا الوجود، أم كان بالطاعة المطلقة التي تخرج بالصادرة منه عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وقد روي عن سلف الأمة ما يدل على ذلك كله، والاختلاف فيما روي عنهم لا يتجاوز أن يكون من باب الاختلاف في مراعاة الأحوال بحسب اختلاف المقامات، وإلا فالنهي شامل لذلك كله، ومن ذلك ما أخرجه ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: { فلا تجعلوا لله أندادا } أنه قال: " أي لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضر ولا تنفع، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره " ، وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم قال: " أندادا أي أشباها " ، وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب المفرد؛ والنسائي، وابن ماجة، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال:
" قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: " ما شاء الله وشئت " فقال له صلى الله عليه وسلم: " أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده " "
، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: " أندادا أي شركاء " ، وأخرج أحمد وأبو داود، وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان "
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: " الأنداد الشرك اخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول لولا كلب هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، هذا كله شرك " ، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن المراد من قوله: { فلا تجعلوا لله أندادا } فلا تجعلوا من الرجال أكفاء لله تطيعونهم في معصية الله.
وما أدق هذه التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله عنهم في معنى الأنداد، وما أعزب فهم كثير من الناس عنها، فلعلهم يتصورون ان اتخاذهم الأنداد لا يعدو عبادة الأصنام المنحوتة من الأحجار، ولا يدركون أن الأمر أعم منه، فقد تكون أصنام البشر أضر من أصنام الحجر إذا ما عظم الطواغيت وانقادت لهم الناس، وخضعوا لأحكامهم الجائرة، وآثروا ضلالهم على هدى الله، ورددوا شعاراتهم الزائفة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يقصد بها إلا نقض عرى الدين وهدم صرح التوحيد، وإذا كان من شأن عقيدة التوحيد تطهير النفوس من الأوهام، وتزكية الأعمال بإخلاصها لله، فإن من شأنها أيضا تحرير الإنسانية حتى لا تخضع لغير الله ولا تتحاكم إلى غير شرعه ولا تنقاد إلا لحكمه ، ولا تذعن لغير طاعته، فلله الخلق ولله الأمر، وكل من تطاول فأمر بما يخالف أمره تعالى فهو متطاول على سلطان الله.
وتذييل الآية بقوله: { وأنتم تعلمون } لأجل حفزهم على النظر في ملكوت الله الدال على ملكه القاهر وسلطانه الباهر، لينشأ عن هذا النظر إخلاص العبادة لوجهه والاستسلام لأمره ونهيه، والمراد بكونهم يعلمون أن الله خلقهم مهيئين للعلم بما آتاهم من أسبابه ومنح كلا منهم من القوة الفكرية ما يمكنه من التفرقة بين الحق والباطل، والتمييز بين الهدى والضلال، لولا اتباع الشهوات، وتحكيم العادات، والتأثر بالبيئات فإن هذه هي عوامل إطفاء نور الفطرة وإخماد جذوة الفكر، فإذا لم يبصر أحد الهدى فما هو إلا من تقصيره في النظر والملامة لا تعود إلا عليه، فالخلقة كاملة والفطرة سليمة.
وكونهم من شأنهم العلم لا ينافي ما سبق من وصف المنافقين بعدم العلم وعدم الشعور، فإن العلم والشعور المنفيين هناك علم خاص وشعور خاص لا مطلق العلم والشعور، وقد علمت أن منشأ عدم شعورهم وعلمهم تقصيرهم في النظر بسبب هوى نفوسهم واتباع شياطينهم، وليس ذلك فيهم جبليا.
هذا وفي تذكيرهم بأنهم يعلمون في مقام التقريع والزجر، تربية نفسية بالغة، فإن تذكير الانسان بأسباب الكمال في نفسه حافز له على استخدام هذه الأسباب في تغطية جوانب نقصه، وهو مسلك تربوي قرآني جاء ممن يعلم خفايا النفوس، ويحيط بأسرار طبائعها.
ولا داعي إلى تقدير مفعول ل { تعلمون } لأن المراد به أنهم متصفون بالعلم، وليس المراد تذكيرهم بمعرفتهم بشيء معين، خلافا لبعض المفسرين الذي قدر بعضهم؛ وأنتم تعلمون أن أولئك الأنداد ليسوا أهلا لأن يعبدوا، وقدر آخرون منهم؛ وأنتم تعلمون أن الله وحده هو الخالق، وآخرون؛ وأنتم تعلمون أن الله لا ند له في التوراة، وهذا مبني على أن الخطاب موجه إلى اليهود فحسب، وقد علمت أن الصحيح غير ذلك.
واستدل الفخر الرازي - بما جاء في هاتين الآيتين من الاستدلال على وجود الله، وعظمته، وعلو شأنه، وانفراده باستحقاق العبادة بأنواع مخلوقاته - على صحة المنهج الكلامي وأسلوب علماء الكلام، وأطال في الاستدلال لرأيه هذا، وساق له العديد من الأمثلة في القرآن، وشنع على الذين ينكرون على علماء الكلام هذا المسلك، وبين شبههم التي يتعلقون بها، وأطال في تفنيدها ودحضها شبهة شبهة، والقول الفصل في هذا أن علم الكلام إن سلك مسلك القرآن في إثبات المعتقدات الصحيحة بدلائل الفطرة والبيئة، فذلك مسلك سليم وطريقة ناجحة، وإنما يعاب على المتكلمين اتباعهم أسلوب فلاسفة اليونان القدامى، وحشر مصطلحاتهم في البحث والجدل، وهي طريقة عقيمة ليست من ورائها فائدة إلا كثرة الكلام، وما لنا وللجدل الإغريقي وقد أغنانا الله بكتابه الكريم الذي يخاطب الانسان بمنطق الفطرة، ويقيم عليه الحجة مما انطوت عليه نفسه، واشتمل عليه خلقه من آيات الله، ويفتح عينيه ليتأمل الآيات الكبرى في فسيح الكون من حوله، ويبين له بدلائله الصادقة وبراهينه الصادعة أن الله سبحانه ميزه عن سائر المخلوقات بما اختصه به من المواهب، وبخلق الأرض وما فيها له، وتسخير منافع الكون لأجله حتى صار القطب الذي تدور عليه رحى هذا الوجود.
ولعمري إن هذه الطريقة هي أنجح طريقة في إيقاظ الفطرة من سباتها، وتنبيهها من غفلتها، وكانت هي الوسيلة لاقناع الناس بهذا الدين، من غير تعمق في الجدل ولا غلو في البحث، بخلاف المنطق الإغريقي الذي لا يمت بصلة إلى الفطرة الانسانية، ولو قدرنا أنه صالح للإقناع في عصر ما فإنه لا يصلح لأغلب العصور، ومما يؤسف له أن ينساق علماء الكلام وراء هذا المنطق، ويحشروا جل مؤلفاتهم أو كلها بجدلياته العقيمة حتى خرجوا بعلم الكلام إلى متاهات شتى، فلم يكن قاصرا على تنزيه الله سبحانه، بل أصبح أشبه بالعلوم الفلسفية منه بالعلوم الشرعية.
والذي أراه - واقترحه على المفكرين المسلمين - تجريد مباحث علم التوحيد عن هذه الفلسفات والسير بها في منهاج القرآن، ولست أنحي باللائمة على المتكلمين وحدهم، فالذين يتعامون عن دلائل العقل، ويتصاممون عن حججه ليسوا من هدي القرآن في شيء، فالله تعالى يقول:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت: 43]، ويقول:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السمآء والأرض لآيات لقوم يعقلون
[البقرة: 164] ويقول:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب
[آل عمران: 190]، ويقول:
كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون
[يونس: 24]، فشحذ الفكرة واستخدام العقل أمران لا بد منهما في فهم مقاصد الوحي.
وفي هاتين الآيتين تنبيه لأولي الألباب على الوحدة الكونية القاضية بوحدة المكون الذي لا إله إلا هو وإليه المصير.
[2.23-24]
هذا انتقال من إثبات وحدانية الله سبحانه إلى تقرير نبوة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومجيئه بعده لأن الإيمان بالألوهية والايمان بالنبوة لا يفترقان إذ لا يتم أحدهما إلا بالآخر، والخطاب موجه إلى الناس المأمورين بالعبادة فيما تقدم وما كان هناك من اختلاف، هل هم جميع الناس، أو المنافقون والمشركون، أو اليهود أو العرب الجاهليون، أو المشركون والمنافقون واليهود؟ فهو هنا كذلك، والصحيح ما صححته ثم من ان الخطاب شامل لجميع الناس، ولا إشكال في شموله للمؤمنين وإن لم يكونوا على شك في شيء مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يراد به تقرير إيمانهم ومضاعفة يقينهم، على أن مثل هذا الخطاب كان للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ في قوله تعالى:
فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك
[يونس: 94].
ولم يعلق هذا الشرط بإذا المفيدة للجزم بالوقوع، بل علق بإن المفيدة للشك في مشروطها، مع القطع بأن المشركين والمنافقين واليهود كانوا في ريب مما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم نظرا إلى أن ريبهم كان مستضعفا، ولم ينشأ إلا عن مكابرتهم للحق وتعاميهم عن الحقيقة، وإلا فالقرآن من وضوح الحجة ونصوع البرهان بمكان لا يرقى إليه شك، ممن استنار فكره واتقد ذهنه وانجلت بصيرته، وذهب بعضهم إلى أن إن هنا بمعنى إذا، وهو لا يصح لعدم ثبوته عن أحد ممن يعتد به.
وقد سبق تفسير الريب والمراد به هنا الشك، وبه قال أئمة التفسير من الصحابة فمن بعدهم، والتعبير بالتنزيل دون الانزال - قيل - لدلالة التفعيل على الكثرة، وقد كان من بواعث شكوك هؤلاء الشكاك في القرآن أن إنزاله لم يكن دفعة، وإنما كان نجوما بحسب الوقائع والأحداث، وهو لم يختلف - حسبما كانوا يرون - عن عادة الناس في كلامهم، فالشاعر لا يلقي بقصائده دفعة واحدة، والخطيب لا يجمع جميع خطبه في مقام واحد، وإنما ينظر كل منهما إلى المناسبات التي تستوجب الحديث عنها نظما أو نثرا، ومثل ذلك شأن الكتاب والقصاص، وقد رأى أولئك الذين شككوا في صحة نزول القرآن من عند الله، أنه لو كان حقا منه تعالى لكان له شأن من هذه الناحية مغاير لأحوال الناس، وقد حكى الله عنهم ذلك في قوله:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة
[الفرقان: 32]، وقد قيل لهم هنا: إن كنتم في شك منه بسبب ما ذكرتموه فلتأتوا أنتم بمثل نوبة واحدة من نوبه وهي سورة من قصار سوره، أفاد ذلك الزمخشري، وتعقبه أبو حيان بأن دلالة التفعيل على الكثرة لا تخرج بالفعل عن اللزوم إلى التعدي، فالفعل اللازم إذا ضعف يبقى على لزومه، والمتعدي يبقى كذلك متعديا، وإنما يفهم من الفعلين وقوعه بالكثرة، مثال ذلك جرح وجرح، فإن الفعلين متعديان وإنما يمتاز المضعف عن المجرد بالدلالة على كثرة الوقوع، وإذا انتقل الفعل بالتضعيف عن اللزوم إلى التعدي نحو بان وبين لم يدل تضعيفه على الكثرة، ومن هذا الباب نزل ونزل، فإن نزل - بالتضعيف - لا يختلف عن أنزل في شيء، ويؤيد ذلك قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } حيث ضعف الفعل ولم يقصد به إلا المرة، وبهذا يتبين ان التعبير بالإنزال تارة وبالتنزيل أخرى ليس لفارق بينهما، وإنما هو من باب التفنن في الكلام، وكثيرا ما يأتي لفظ التنزيل في القرآن فيما لا يحتمل التكثير إلا بضرب من التأويل البعيد، كقوله تعالى :
لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا
[الإسراء: 95]، وقوله:
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه
[الأنعام: 37]، هذه خلاصة رد أبي حيان على الزمخشري، وهو في منتهى القوة والوضوح.
العبودية لله أرقى درجات التكريم:
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بلقب العبودية في مقام الدفاع عنه مؤذن بأن عبودية الانسان لله شرف له إذ هي أرقى الدرجات الروحية التي يصلها العبد بجهاده وبعناية الله، وفي هذه الإضافة إلى الضمير العائد إليه تعالى تشريف له صلى الله عليه وسلم، وتنويه بأنه تحت رعاية الله وفي حمى عنايته.
وفي قوله: { فأتوا بسورة من مثله } تحد لهم واستفزاز لنخواتهم، واستنفار لعزائمهم، أي إن كنتم صادقين بأن ما أنزل على عبدنا مما يحوم حوله الريب ويرقى إلى عليائه الشك أو أنه تعلمه من غيره؛ أو افتراه بنفسه، أو أنه أساطير الأولين اكتتبها، فما عليكم إلا أن تصدقوا مقالتكم فتأتوا بجزء قصير من الكلام الذي يشبه ما جاء به أسلوبا، وبلاغة، وغزارة معنى.
والسورة معروفة وهي آيات مستقلة تشتمل على غرض أو أغراض لها فاتحة وخاتمة، ولكل سورة ترجمة في المصحف الشريف، وتقدم في مقدمة تفسير الفاتحة بيان معنى السورة لغة واصطلاحا، وذكر الاختلاف في كونها مأخوذة من السور أو من السؤر - بالهمز - وهو ضعيف جدا لدلالته على الاحتقار - او من السورة بمعنى المنزلة، وفيما ذكرته هناك غنى عن تكراره، والمثل كالشبه لفظا ومعنى.
واختلف في الضمير الذي أضيف إليه " مثل " هل هو عائد إلى الموصول وهو " ما " أو هو عائد إلى عبد؟ والأول هو الذي عليه الاكثرون، ونسب إلى عمر وابن مسعود وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم، وإلى الحسن البصري ومجاهد وقتادة من التابعين، واختاره ابن جرير والزمخشري والرازي وأبو حيان والألوسي والقطب في التيسير، ورجح بكثير من المرجحات منها أن سياق الكلام فيما نزل عليه صلوات الله وسلامه عليه لا في شخصه ولا في نبوته، وإن ارتبطت نبوته بما أنزل عليه، ومنها مراعاة التواؤم بين صدر الكلام وعجزه، وشرطه وجزائه، ومنها موافقة ما في بقية السور، نحو قوله تعالى:
أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين
[الطور: 33 - 34]، وقوله:
أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين
[هود: 13]، وقوله:
أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين
[يونس: 38]، وقوله:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
[الاسراء: 88]، ومنها ان عود الضمير على المنزل لا المنزل عليه أدل على كمال التحدي لما فيه من إرخاء العنان وتوسيع المجال للخصوم، بحيث طلب منهم جميعا على اختلاف طبقاتهم الفكرية وتباين ملكاتهم البيانية أن يأتوا بجزء يسير من مثل ما هم شاكون فيه، بخلاف ما إذا حصرت المطالبة فيمن كان مثل النبي صلى الله عليه وسلم في الأمية، ويؤيد ذلك قوله: { وادعوا شهدآءكم من دون الله } ، وقوله: { وادعوا من استطعتم من دون الله } في آيتي يونس وهود، وقوله: { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } في آية الاسراء.
والمراد بالمثلية أن تكون مثل سورة من القرآن في تلاؤم ألفاظها وتواؤم معانيها، وتناسق حروفها، وتآخي كلماتها، وسلاسة أسلوبها، كما سبق بيان ذلك في الإعجاز البياني؛ وقيل المراد بالمثلية أن تكون كسورة من القرآن فيما تشتمل عليه من أوامر ونواه، ووعد ووعيد، وقصص وحكم، ومواعظ وأمثال، وقيل: المراد أن تكون منطوية على مثل ما في القرآن من أخبار الغيوب التي لم تكن العرب تحيط بها علما، وقيل: كونها كالقرآن في عدم فناء عجائبه وانقضاء غرائبه، وأنه لا يمحوه الماء ولا تمله الأسماع، ولا يزداد إلا تجددا ما تجدد الجديدان. والقول الأول هو الصحيح لأن العرب بهروا بأسلوب القرآن الراقي، مع غض النظر عن عجائب محتوياته، وهم كانوا يكذبون بوعده ووعيده، وقصصه وأخباره، ومواعظه وأمثاله، وأوامره ونواهيه.
وعلى أي حال فالمثلية مفروضة - كما قال الزمخشري - وليست واقعة، ولا معنى لما يقوله البعض من أن لفظة مثل زائدة كزيادتها في
ليس كمثله شيء
[الشورى: 11]، على رأي بعضهم، لأن ذلك يفضي إلى أن المراد فأتوا بسورة منه، مع أن المطلوب منهم أن يعارضوا القرآن بشيء يشبهه، كما كانوا يدعون بقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا، وإنما قلنا بفرض المثلية دون حصولها، ليتفق ما هنا مع ما في قوله تعالى من بعد: { ولن تفعلوا } ، وقوله: { لا يأتون بمثله } ، وفرضها مبني على اعتقاد المخاطبين، وما كانوا يمنون به أنفسهم في دحض حجة القرآن، وسوق الكلام مساق التعجيز والتحدي شاهد على عدم وجود المثل، وانتقد أبو حيان الزمخشري في جعله المثلية مفروضة، مع أن ذلك لا يتأتى إن أعيد الضمير في { مثله } على المنزل عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، لوجود عدد كبير في العرب ممن يشبهه في الأمية، وكذلك إن أعيد الضمير على المنزل، لوجود الكلام البليغ فيما تنطق به العرب، وهو بجعل المماثلة حاصلة له من بعض الوجوه.
وليس فيما قاله الزمخشري موضع للنقد: إما أولا فقد بنى مذهبه على ما اختاره سابقا من عود الضمير في مثله إلى المنزل، وهذا الذي اختاره أبو حيان نفسه وعزاه إلى الأكثرين، ومن المعلوم أن التفريع يجب أن لا يخرج عن منهج التأصيل.
وإما ثانيا فلأن البلاغة وحدها لا تكفي لعد سائر الكلام العربي البليغ مماثلا للقرآن، لما علمته من اختصاص القرآن بروح بيانية غيبية لا توجد في أي كلام آخر، ولولاها لم يكن لفرسان البلاغة العربية أن يقفوا مشدوهين أمام معجزته، متحيرين من ترتيب حروفه، ورصف كلماته بطريقة تجعل كل حرف وكل كلمة ينبضان بحياة لا توجد في سائر الكلام، وقد سبق شرح ذلك في الإعجاز البياني، وهو يعني أن البلاغة المتيسرة للكلام العربي لا تكفي لأن ترفع ذلك الكلام إلى هذا المستوى الرفيع.
وبناء على القول بعود الضمير على " عبد " فالمراد بالمثلية أن يكون مثله في صفة الأمية التي من شأنها عدم اتساع الأفق العلمي والمعرفة بأحوال الأمم، وأخبار النبيين، والأمور التشريعية، والأوضاع الاجتماعية، إلى غير ذلك مما حواه القرآن الكريم، وعلى هذا مشى الإمامان محمد عبده ومحمد رشيد في المنار، واستدل له الاستاذ الامام بدخول " من " الدالة على النشوء على لفظة " مثل " ، وفرق السيد محمد رشيد بين هذه الآية وسائر آيات التحدي في الاسراء ويونس وهود؛ بأن التحدي في سورتي يونس وهود خاص ببعض أنواع الإعجاز، وهو ما يتعلق بالأخبار، كقصص الرسل مع أقوامهم التي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قومه يحيطون بها علما من قبل، وجوز أن يكون التحدي بعشر سور مفتريات دون سورة واحدة لإرادة نوع خاص من أنواع الإعجاز، وهو تعديد الأساليب في الاخبار بالشيء الواحد مع عدم تفاوتها في البلاغة، كما يظهر ذلك في بعض القصص التي ترد في القرآن بعبارات مختلفة الأسلوب والنظم من مختصر ومطول، والتحدي بمثله لا يظهر في قصة مخترعة مفتراة، بل لا بد من التعدد الذي يظهر فيه التعبير عن المعنى الواحد، والقصة الواحدة، بأساليب مختلفة، وتراكيب متعددة، كما هو واضح في سوره، ومن هنا أباح لهم أن تكون هذه السورة التي طولبوا بها مفتراة كما وصفوا بذلك القرآن.
وأما في سورة يونس فقد اكتفى بالتحدي بسورة واحدة؛ في مقام الرد على قولهم افتراه لعدم التقييد بكونها مفتراة، لا لأجل التخفيف عنهم بالواحدة بعد عجزهم عن العشر، وعليه فيقتضي ذلك انطواءها على خبر الغيب والتزامها بالصدق، وفي هذه السورة التي أعادت هذا التحدي في مواجهة اليهود بالمدينة المنورة بعدما تكرر بمكة المكرمة، كان التقييد في المطالبة بالإتيان بسورة مشتملة على ما تشتمل عليه سور القرآن من مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في أميته لأجل أن اليهود لم يكونوا يعدون التحدث عما جاءت به الرسل من الغيوب، فكأنهم طولبوا بالإتيان بذلك من رجل أمي كالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
هذه خلاصة تفرقته، ورأي الجمهور أوضح حجة وأقوى دليلا، لما علمته من ان المقصود بيان عجز الناس - ولو تضافرت جهودهم وتظاهرت قواهم - عن محاكاة القرآن، وقد سبق لك ان الاسلوب القرآني وحده كان كافيا في تبكيت العرب وإقامة الحجة عليهم بأن البيان الذي تحدوا به لم ينشأ عن ملكة بشرية، وإنما هو نداء غيبي يخرس صوت كل معاند، ويستأصل شبهة كل مشاقق، ويهدي أولي البصائر الى سواء السبيل، وذلك مع غض النظر عن محتواه من الغيوب وغيرها، وأخبار النبوات وإن كانت هي من ضروب إعجازه فإنها لم تكن هي المبكتة لطواغيت الجاهلية الذين لم يكونوا يؤمنون بالنبوات، ولا يصفون هذه الأخبار إلا بكونها أساطير الأولين، ولو كان التحدي في مكة المكرمة بمضمون القرآن دون لفظه لكان في ذلك مجال للكفار بأن يلفقوا بعض الأساطير الكاذبة، ويوهموا أتباعهم بأنها نظيرة ما في القرآن، إذ لا حكم يحتكم إليه في مثل هذه الأمور عندهم، بخلاف البلاغة فإن الحكم فيها الذوق والوجدان، والكل مشتركون فيهما، وعدم التقييد في المطالبة بالاتيان بكون الآتي مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمية أبلغ في التحدي وأوغل في التبكيت لما فيه من إفساح المجال للمعارضة وإرخاء العناء للمعارضين، وليست في " من " دلالة على ما قاله الأستاذ الامام، لأنها موضوعة لابتداء الغاية غالبا، وإذا كانت السورة المطلوبة منهم مؤلفة من كلام مثيل لما في القرآن لم تخرج " من " عن هذا المعنى الذي وضعت له.
والشهداء جمع شهيد، وهو الذي يقتضيه القياس، وحمله بعضهم على أنه جمع شاهد كعالم وعلماء، وهو مأخوذ من شهد إذا حضر، كما في قوله تعالى:
ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا
[البقرة: 282]، واستعمل بمعنى النصير لأن الشاهد يناصر المشهود له بشهادته، والمراد بالشهداء هنا نصراؤهم من الذين اتخذوهم آلهة من دون الله، والمراد بدعوتهم استحضارهم لأجل مناصرتهم كما هو شأنهم في اللجوء إليهم من دون الله تعالى.
وأفاد الإمام ابن عاشور بأن في الآية إدماجا لأنها جمعت بين تعجيزهم عن المعارضة، وتوبيخهم على الشرك، وهو من أفانين البلاغة، ويحتمل أن يراد بالشهداء نصراؤهم من أهل البلاغة، وهو أبلغ في التعجيز، لما في ذلك من حضهم على استنفار جميع أصحاب الملكات البيانية، ويعضده قوله تعالى: { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }.
وروي عن ابن عباس والسدي، ومقاتل والفراء؛ أن المراد بهم الذين يشهدون لهم عند الله في زعمهم، وهو كالقول الأول لأن اتخاذهم الآلهة من دون الله إنما هو لأجل تقريبهم إليه كما يقتضيه قوله تعالى حاكيا عنهم:
ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى
[الزمر: 3]، وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بهم الذين يشهدون لهم بمماثلة ما جاءوا به للقرآن، فإنهم لو احتكموا إلى أرباب الصناعة البيانية ممن هم على مثل اعتقادهم، وجاءوا بما يزعمون أنه مثل القرآن ما كانوا ليشهدوا لهم، فإن من شأن البارعين في الصناعة الأنفة من ان يسجل عليهم تصحيح فاسدها أو تزييف صحيحها، وقد جرت العادة عند العرب إذا ما تنافرت أن تحتكم إلى عقلائها، وكان المحتكم إليهم يحرصون على تنزيه ساحتهم من نسبة الجور أو الغلط إليهم فيما يحكمون، ولذلك قال السموأل:
إنا إذا مالت دواعي الهوى
وأنصت السامع للقائل
لا نجعل الباطل حقا ولا
نلظ دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا
فنخمل الدهر مع الخامل
و { من دون الله } متعلق ب { ادعوا } أي استنصروا بشهدائكم ولا تستنصروا بالله، فإنه لن ينصركم، وهو مبني على أن المراد بالشهداء المناصرون، أما إن قيل إن المراد بهم الذين يشهدون لهم بمضارعة ما جاءوا به للقرآن، فيكون المعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بذلك ولا تدعوا الله إن كنتم تتصورون أن من أعوانكم ونصرائكم من تطاوعه لسانه فينطق بالتسوية بين القرآن وما جئتم به، وهذا يعني أن يجعلوا جانب الله تعالى كالمشهود عليه، وهو أيضا من باب توسعة ميدان المعارضة لهم بحيث سمح لهم أن يأتوا بمن شاءوا من دون الله، ممن يطمعون أن يميلوا إلى جانبهم فيرفعوا ما يلفقونه من القول إلى مقام القرآن.
ويصح أن يكون متعلقا بشهداء، وعليه فالمراد استحضروا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله زاعمين أنهم يشهدون لكم يوم القيامة، و { دون } على هذا القول مستعملة في التجاوز، وجوز بعضهم أن تكون بمعنى أمام أخذا من قول الشاعر:
تريك القذى من دونها وهي دونه
ومعنى ذلك ادعوا الذين يزعمون أنهم يشهدون لكم بين يدي الله، أما إن قيل إن الشهداء الذين يشهدون لهم بأن ما يأتون به كالقرآن ف { دون } دالة على التجاوز لا غير، وجوز بعضهم تقدير مضاف، أي من دون حزب الله ويراد بهم المؤمنون توسعة لهم أن يأتوا بمن شاءوا من الحكام الذين هم على ملتهم كما تقدم.
وقوله: { إن كنتم صادقين } تذييل لما تقدم بما يثير حماسهم من تكرار التحدي وتأكيده، والمراد به إن كنتم صادقين أنه كلام بشر، أو أنه مظنة للريب، أو أن الاتيان بمثله أمر مقدور عليه، وجىء ب " إن " دون إذا لأن صدقهم لا مكان له هنا، وقد تقدم الكلام على الصدق في معرض الحديث عن نقيضه وهو الكذب فلا داعي لتكراره.
وإيثار " إن " على إذا - في قوله: { فإن لم تفعلوا } مع القطع بأنهم لا يفعلون - لأجل ملاينتهم وإطماعهم في القدرة على الإتيان بالمطلوب، بعد إثارة نعراتهم بما تقدم من التعريض بهم أنهم كاذبون، وهم أحرص ما يكونون على إلقاء هذه الوصمة الشائنة، ودرء هذا العار البغيض عن أنفسهم، وقد كانوا أصحاب الحمية المتوقدة، والعصبية الثائرة، فلا يمكن مع ما سبق من تكرار التحدي وتتابع التقريع إلا أن يفكروا في استعراض ملكاتهم، والمقارنة بين ما تحدوا به من القول وما هو من مقدور ألسنتهم، فكأنه قيل لهم قدروا أنكم عاجزون عن فعل ما طولبتم به، ثم أتبعت هذه الملاينة المطمعة بالشدة المؤيسة في قوله: { ولن تفعلوا } لئلا يبقى لهم عذر أو دعوى يتشبثون بها في تركهم المعارضة، فقد أغروا بها بأنواع القول.
وفي قوله: { فإن لم تفعلوا } اختصار، لأنه بمعنى فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وكذا في قوله: { ولن تفعلوا } لأن مؤداه ولن تأتوا بسورة من مثله، و " لن " لا تأتي إلا مع قصد تأكيد النفي أو تأبيده أو لأجلهما معا، وهي هنا مفيدة للتأكيد والتأبيد كما في قوله تعالى:
لن يخلقوا ذبابا
[الحج: 73] لتعذر أن يأتي أحد بمثل القرآن أو بمثل سورة منه في أي عصر كان.
وجملة { ولن تفعلوا } معترضة بين الشرط وجوابه، وهي تفيد خبرا غيبيا صدقه الواقع، فقد تعاقبت عند العرب منذ نزول هذه الآية مدارس بيانية متنوعة، وكان من بين تلامذتها كثير ممن أوغل في الإلحاد، وبالغ في محاربة القرآن، غير أنهم لم تحدثهم أنفسهم أن يخوضوا تجربة فيحاولوا إنشاء سورة واحدة من مثل قصار سوره لتثبيت عقيدتهم وتأييد نزعتهم، بل قصرت عزائمهم جميعا عن الطموح إلى ذلك، على أن الوقت الذي نزل فيه القرآن كان زاخرا بأرباب ملكات البيان، فقد بلغت فيه اللغة العربية أوج ارتفاعها، وانتهى طوفان الكلام عند العرب إلى أقصى حده، وكانت عداوة الحق وكره الرسالة الجديدة، والتكذيب بها قد جمعت بين فئاتهم، والتقى عليها كتابيهم ووثنيهم، وقد تعاقدوا بالخناصر، وتشادوا بالعهود على محاربة الله ورسوله، إلا من رحم ربك ممن شرح الله صدره للاسلام، وقليل ما هم في بداية الأمر وكانت آيات التحدي تقرع مسامعهم جميعا، ومع ذلك رضوا لأنفسهم الذلة والخنوع من آثار هزيمتهم في هذا المجال، لأنهم شعروا من أعماق نفوسهم أنهم لو نزلوا حلبة المعارضة لما جاءوا بشيء ما عدا السخ افات التي يربأون بأنفسهم عنها، وسجل التاريخ عليهم هزيمة نكراء لا يعرفون لها نظيرا، ويتضح بهذا أن هذه الجملة الإعتراضية - بجانب إعجاز بيانها - تحتوي على إعجاز خبري أقره التأريخ، وسلم له الحميم والعدو.
وجملة: " فإن لم تفعلوا.. إلى آخره "؛ مفرعة على الشرط وجوابه على الصحيح، وليست فذلكة لما تقدم كما قال الألوسي، فإن المراد فإن عجزتم عن الاتيان بسورة مماثلة لما فيه القرآن، أو حاولتم المعارضة، ولم يمكن لشهدائكم أن يسجلوا لكم بأنكم بلغتم بما أتيتم به شأو القرآن، فأيقنوا أن ما جاءكم حق نازل من عند الله، وأنكم اجترأتم عليه بتكذيب رسوله المؤيد بهذه المعجزة الخالدة، فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم من الكفار المكذبين.
وعزا القرطبي إلى جماعة من المفسرين أن في الآية تقديما وتأخيرا، وأن الأصل وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، ولن تفعلوا فإن لم تفعلوا فاتقوا النار، وفرع عليه عدم تمام الوقف على صادقين، وهو قول مرفوض، لما علمته من أن جملة { ولن تفعلوا } جاءت معترضة في موضع حسن فيه مثل هذا الاعتراض، والتجرؤ على القول بأن في القرآن تقديم ما حقه التأخير أو العكس اجتراء عظيم على من أنزله بحسب هذا الترتيب، لأن تقديم ما حقه التأخير لا يصدر إلا ممن يعييه ترتيب الكلمات أو الجمل بحسب ما تقتضيه معانيها، وهو عجز لا تصح نسبته إلى الله، ومن نسبه إليه فقد كفر والعياذ بالله، وما أشبه هذا الذي عزاه القرطبي إلى جماعة من المفسرين - في الغرابة والبعد - بما ذكره ابن عطية والقرطبي أيضا أن بعضهم ذهب إلى أن الضمير في قوله { من مثله } عائد إلى ما نزل من قبل من كتب الله، وفساد هذا الرأي ظاهر بداهة لمخالفته ما يتبادر من معنى الآية ومعاني نظائرها، ولأن التحدي إنما هو بالقرآن وليس بما تقدمه من الكتب.
والمراد باتقائهم النار اتقاؤهم الأسباب الموصلة إليها، وأهمها ركوب متن العناد، والإخلاد إلى الكفر والشقاق كرها للحق وتعاميا عن الحقيقة مع سطوع حجتهما وإشراق براهينهما، وهو من التعبير بالمسبب عن السبب.
والوقود ما تشتعل به النار من زيت أو حطب أو ما أشبهها، وهو بفتح الواو في قراءة العشرة وقرأ الحسن بن أبي الحسن، ومجاهد، وطلحة بن مصرف، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر الهمداني بضم الواو، وهي محمولة على أنه مصدر للمبالغة كما قال الشاعر:
فإنما هي إقبال وإدبار
وذلك بأن يجعل ذلك عين اتقادها، ولا معنى لتقدير بعضهم مضافا - وهو ذوو - قبل وقود لأنه مما ينفر عنه الطبع السليم، ويأباه الذوق المستقيم، فضلا عن كون هذا المحذوف ليس إليه من داع فالمعنى واضح حسب التأويل الذي سبق، على أن المضموم من هذه اللفظة يأتي بمعنى المفتوح، والعكس كما ذكره بعض من يعول عليهم من أئمة العربية.
والمراد بالناس الكفار المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه، وهو مبني على أنها نار مخصوصة بالكفار، وثم نيران أخرى لغيرهم من أصحاب الكبائر، ويدل عليه تذييل الآية بقوله: { أعدت للكافرين } ، وذهب جماعة إلى أن إعدادها للكفار لا ينافي اشتراك سائر أهل الكبائر معهم في دخولها.
والمراد بالحجارة التماثيل المنحوتة التي عبدوها من دون الله وعلقوا على عبادتها أمل نجاتهم، فإنهم يعذبون بها يوم القيامة لمضاعفة حسرتهم على تأليهها، وبيان حقارتها عند الله عندما تنقلب أداة ضر، بعدما عدوها وسيلة نفع، وسببا للسحق بعدما كانوا يطمعون أن تكون لهم سبيلا إلى الزلفى، وهناك يكتشفون ضلال عقولهم وخيبة سعيهم إذ عدلوا عن عبادة الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن إلى عبادة أحجار نحتوها بأيديهم، وصوروها بحسب رغبتهم، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تحسب، ولا تفكر، ولا تأتي بخير، ولا تدفع ضيرا، ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون
[الأنبياء: 98]، وقيل هي حجارة الكبريت لتميزها بين الأحجار بسرعة الاشتعال، وشدة الحرارة، وكثرة الدخان، ونتن الرائحة والالتصاق بالأبدان، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه ابن جرير، واخرج هو وعبدالرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه مثله عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وعول عليه جماعة من أهل التفسير بناء على ما تقدم من أن بعضهم يرى أن قول الصحابي في التفسير له حكم الرفع، وهذان الصحابيان الجليلان معدودان في مقدمة الصحابة في فن التفسير، رواية ودراية، وقد سبق أن كثيرا من العلماء يرون مثل هذا القول لا يعدو أن يكون موقوفا على الصحابي المنسوب إليه، ومن ثم عول أصحاب الرأي الأول على ما دلت عليه آية الأنبياء من معنى، وتعضده النصوص الدالة على أن المجرم يعذب يوم القيامة بآلة إجرامه، كقوله تعالى:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
[التوبة: 34 - 35]، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا.. "
، ويمكن الجمع بين الرأيين بان تلك الحجارة نفسها تتحول إلى حجارة ذات طبع كبريتي، وذكر الناس والحجارة لا ينافي أن يكون لهذه النار وقود غيرهما، فالشياطين ومردة الجن تشتعل بهم كما تشتعل بكفار البشر والعياذ بالله.
وهذه النار إن كانت خاصة بالكفار المشركين فلسائر أهل الكبائر نيران أخرى يعذبون بها، وإن كانت عامة لهم ولغيرهم فقوله: { أعدت للكافرين } ما هو إلا لمزيد التنفير من الكفر والتحذير من الدنو منه، وأي كفر أعظم من كفر الذي يتعامى عن آيات الله، ويتصامم عن دعوته مع ظهور حجتها وإشراق نورها، وإن أعظم حجة على صدق هذا القرآن المنزل من عند الله هذا العجز البشري طوال القرون الخالية عن الإتيان بشيء من مثله، لا سيما في ذلك العصر عندما كان المسلمون قلة مضطهدين، ولم تكن لدى الكفار حيلة لإسكات هذا الصوت إلا اللجوء إلى العنف والارهاب دون معارضته بصوت من مثله.
ولرب قائل يقول: لا يبعد أن يكونوا قاموا بالمعارضة وأتوا بمثل القرآن في روعة بيانه وجمال أسلوبه، وإنما نفوذ المسلمين في العرب هو الذي قضى على ما جاءوا به، وقد سجل التأريخ محاولة مسيلمة وغيره للقيام بهذه المعارضة؛ والجواب عن ذلك أن هذا التحدي لم يكن بعدما كانت أزمة الأمور في جزيرة العرب بأيدي المسلمين، وإنما بدأ بمكة المكرمة والجاهلية في أوج قوتها وعنفوان جبروتها، وكان العرب على اتصال ببعض ممالك الفرس والروم، فلو أنهم جاءوا بشيء مما طولبوا به لطاروا بذلك فرحا ونشروا خبره في الآفاق وسجله التاريخ، وبقي محفوظا لدى الأمم التي كانت تكيد للاسلام وتناوئ القرآن، ولكن شيئا من ذلك لم يكن، أما ما جاء به مسيلمة ونظراؤه فقد كان من السخف بحيث يربأ اللبيب بنفسه عن نسبته إليه، وإذا كانت المعارضة قد تعذرت على قريش وهي ذؤابة العرب، ومنبع البيان، وأساتذة البلاغة، فأحرى بغيرهم أن تتعذر عليه.
وإعداد الشيء تهيئته، والنار مهيأة للكفار بما أعد فيها من صنوف العذاب، وبنفس الإضرام الذي هو أكبر سبب لتعذيبهم، واستدل بالآية على أن النار قد خلقت وهيئت لاستقبال أهلها وكذا الجنة وهو قول جمهور الأمة، وذهب أكثر المعتزلة وبعض أصحابنا كأبي المؤثر وأبي سهل الفارسي وابن أبي نبهان إلى أنهما لم تخلقا إلى الآن وإنما تخلقان يوم القيامة، وعزا ابن عطية هذا القول إلى المنذر بن سعيد البلوطي الأندلسي، وعده سقوطا منه، والمسألة ليست من مسائل الدين القطعية لاحتمال أن يكون قوله: { أعدت للكافرين } ، ومثله في الجنة { أعدت للمتقين } محمولا على الإخبار عن المستقبل بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه، نحو قوله تعالى:
ونفخ في الصور
[يس: 51] وآيات أخرى.
وإنما يترجح القول بأن الجنة والنار قد خلقتا بالأحاديث الصحيحة الناصة على ذلك، وإنما جعلتها مرجحة ولم أجعلها قاطعة لأنها لم تبلغ مبلغ التواتر اليقيني الذي يفيد العلم القطعي لأن قصة آدم عليه السلام وإسكانه الجنة ثم إخراجه عنها؛ لا تفيد إلا الترجيح فقط للخلاف الموجود بين علماء الأمة، هل تلك الجنة هي جنة الخلد أو غيرها؟
وجملة أعدت للكافرين مستأنفة لبيان شأن هذه النار.
[2.25]
مضت سنة الله في خطابه لعباده أن يشفع الترهيب بالترغيب، ويجمع بين الوعد والوعيد لتربية النفس الإنسانية وإيقاظ أحاسيسها بالتشويق تارة، وبالتخويف تارة أخرى، لأن كلا الأمرين حافز إلى فعل الخير، وواق من ارتكاب ضده، والناس متباينون في طبائعهم، فمنهم من هو أسرع تأثرا بالتشويق، ومنهم من يتأثر بالتخويف، ومنهم من يدفعه التشويق إلى المسارعة إلى الخيرات، ويمنعه التخويف من ارتكاب الموبقات، وإصلاح النفس الإنسانية هو المقصد الأساسي للقرآن، فلذلك جاء خطابه بما يتسع لأحوال الناس جميعا.
هذا وذكر إمام المعاني جار الله الزمخشري أن هذا العطف هو عطف جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين، والتبس كلامه على أبي حيان الأندلسي فحمله في تفسيره " البحر المحيط " على أن مراده به عطف الجملة على الجملة، وهذا الذي دعا أبا حيان إلى تبرير التعاطف بين الجملتين مع كون المعطوفة إنشائية، والمعطوف عليها خبرية، وبناه على رأي من لا يشترط اتحاد الجملتين في الإنشاء أو الخبر لجواز عطف إحداهما على الأخرى، وأورد شواهده القاضية بصحته، والزمخشري لم يقصد ما فهمه أبو حيان، ولم يرد بالجملة الجملة الإصطلاحية عند علماء العربية، وإنما أراد بها مجموعة من الكلام مشتملة على جمل، وقصده واضح، وقد فصل كلامه تفصيلا السيد الجرجاني بحيث لم يترك أي لبس حوله، فالمعطوف هنا جملة الكلام الخاصة بثواب المؤمنين، والمعطوف عليه جملة الكلام الخاصة بعقاب الكافرين مع غض النظر عما اشتمل عليه كل من المعطوف والمعطوف عليه مما يسمى جملة في الإصطلاح، والتناسب بين المتعاطفين ما بينهما من التقابل، وسمى السيد هذا العطف عطف قصة على قصة، وسبق الحديث عنه في قوله عز وجل: { ومن الناس من يقول آمنا بالله.. } " الآية ".
واختلف من أين تبدأ القصة المعطوف عليها، فذهب السيد الجرجاني إلى أن بدايتها قوله: { وإن كنتم.. } وذكر الألوسي عن بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وأدعى لتلاؤم النظم لأن بداية الكلام وهي: { ياأيها الناس اعبدوا } شاملة لفريقي المؤمنين وغيرهم، ثم خوطب غير المؤمنين بقوله { وإن كنتم } وهو خطاب يتضمن الإنذار وعطف عليه خطاب المؤمنين بقوله: { وبشر.. } ومعناه البشارة المقابلة لما في خطاب الطائفة الأولى من الإنذار، ومعنى ذلك أن الله سبحانه أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس جميعا إلى عبادة الله، ثم أمره أن ينذر المعاندين ويبشر المؤمنين، وذهب السعد التفتازاني إلى أن بدايتها من قوله: { فإن لم تفعلوا } لأن السياق لوصف حال الكفار وبيان منقلبهم، وهذا هو الذي يتلاءم مع ما اخترته من قبل وهو أن الخطاب في قوله: { وإن كنتم } يتوجه إلى جميع الفئات المخاطبة بقوله: { ياأيها الناس } ، وجوز الزمخشري أن يكون العطف على: { اتقوا } واعترض من وجهين:
أولهما: أن العطف يقتضي جواز حلول كل من المعطوف والمعطوف عليه محل الآخر، ولا يجوز حلول بشر مكان اتقوا.
ثانيهما: أن الأمر لا يعطف على أمر آخر مع عدم اتحاد المأمور إلا مصحوبا بالنداء كما نص عليه النحويون.
ويدفع الأول أن المتعاطفين لا يشترط جواز تعاقبهما بحيث يحل المعطوف مكان المعطوف عليه، والدليل عليه قوله تعالى: { الذي خلقكم والذين من قبلكم } ، حيث عطف الاسم البارز - وهو الموصول - على الضمير المتصل، ولا يصح تقديم الموصول وعطف الضمير عليه بالإجماع، وقد ورد نحوه كثيرا في القرآن، وكذا في الكلام العربي الفصيح منثوره ومنظومه، كما يدل عليه قولهم: " رب رجل وأخيه لقيتهما " مع عدم جواز تقديم أخيه على رجل بالإجماع في هذا المثال، لما يترتب عليه من عدم وجود معاد للضمير، ودخول رب على المعرفة وهي لا تدخل إلا على النكرات، وهذا الذي ذكرته يغني عما أجاب به بعضهم من أن كلا من { اتقوا } و { بشر } مترتبان على أمر واحد وهو ظهور معجزة القرآن، وتكذيب المعاندين بها، وتصديق المؤمنين، والتكذيب هو الذي ترتب عليه الوعيد، كما أن التصديق هو الذي ترتب عليه الوعد.
وأجيب عن الثاني بأن جواز عطف أمر على أمر مع اختلاف المأمورين حال النداء؛ لظهور المراد بكلا الأمرين بقرينة النداء، دليل على جواز ذلك عند وضوح المراد بأية قرينة أخرى، ويدل عليه قوله تعالى:
يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك
[يوسف: 29]، فإن القرينة هنا ما دخل على الأمر الثاني من علامة التأنيث، ومثله التفاوت بين الأمرين هنا، فأولهما جاء بصيغة الجمع، وثانيهما بصيغة الإفراد، وذلك كاف في الدلالة على ما يراد بكل منهما.
ومن التكلف الظاهر تجويز السكاكي في المفتاح كون { بشر } معطوفا على قل مقدر قبل { ياأيها الناس اعبدوا } ، ومثله قول القزويني في الإيضاح أنه معطوف على أنذر مقدر بعد { أعدت للكافرين } أي فأنذر الذين كفروا، وبشر الذين آمنوا، ولست أدري ما الداعي إلى حمل القرآن على هذه المسالك الملتوية مع وضوح الوجه الأول الذي قاله الزمخشري، وعدم تعذر الوجه الثاني وإن ذهب السيد الجرجاني إلى أن مذهب القزويني أصح المذاهب بعد الوجه الأول مما في الكشاف.
والتبشير الإخبار عن المحبوب، فهو مضاد للإنذار، واشترط بعضهم عدم علم المبشر بالنبأ السار الذي يبشر به، وهو الذي اعتمده الزمخشري، وعليه فمن حدث أحدا حديثا يسره، والمحدث عارف به فهو إخبار وليس بتبشير، والصحيح أنه تبشير على كلا الحالين، لأن الله سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم هنا أن يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنات ونعيمها، مع أنه تقدم في القرآن المكي تبشيرهم بذلك، فهم ليسوا على جهل بما به يبشرون، وإنما يزدادون بتجديد التبشير نشاطا في السعي إلى الخير، وتوقيا من الوقوع في المهلكات.
وقد سبق الكلام في الإيمان وبيان أن ماهيته الشرعية تشمل الأعمال الصالحة التي يقتضيها توحيد الله تعالى، وهو الذي حكى العلامة ابن تيمية - كغيره - إجماع السلف عليه، وروى أبو القاسم اللالكائي عن البخاري أنه اجتمع بنحو ألف من أئمة السلف فلم يكونوا يختلفون في ذلك، ومع هذا فإن جل المفسرين استدلوا بعطف العمل الصالح على الإيمان على تغايرهما، لعدم جواز عطف الشيء على نفسه، وأرى أن الأقرب إلى ما تقتضيه الأدلة القرآنية والحديثية ما أفاده الإمام ابن تيمية، وهو أن الإيمان إذا أطلق فمدلوله العقيدة والعمل معا، وإذا عطف عليه العمل كما في هذه الآية فيحتمل أن يكون من باب عطف الخاص على العام، وأن يكون المراد به العقيدة وحدها، كما أن المسكين والفقير إذا أفرد أحدهما كانا صنفا واحدا، وإذا عطف أحدهما على الآخر كانا صنفين، ومثله يقال في الألفاظ التي تتحد مدلولاتها كالبر والتقوى والمعروف، وكالإثم والعدوان والمنكر، وهذا لا ينافي أن يكون مقر الإيمان القلب لأن صلاح الجسد متوقف على صلاح القلب، كما في حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه البخاري:
" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ".
والأمر بتبشير المؤمنين يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لكل من يصلح للتبشير، وهذا إذا لم يقصد بالخطاب معين، نحو قوله عليه أفضل الصلاة والسلام:
" بشر المشائين في الظلم الى المساجد بالنور التام يوم القيامة "
، والوجهان جائزان في كل ما كان مثله في القرآن، كقوله تعالى:
نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم
[الحجر: 49]، وقوله: { واضرب لهم مثلا رجلين } وقوله: { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } وقوله: { واضرب لهم مثلا أصحاب القرية }.
والأعمال جمع عمل وهو ما يزاوله العامل، واختلف في شموله للترك، وبناء على الشمول يكون اجتناب المعاصي داخلا في الأعمال الصالحة، وعلى عدمه فاجتنابها يفهم قصده بذكر الأعمال الصالحة بحسب ما تقتضيه القرائن، والصحيح عدم الشمول، لأن تفسير العمل بالمزاولة ينافي أن يراد به الترك، هذا من حيث مدلول لفظ العمل اللغوي، وأما من الناحية الشرعية فالقرائن هي التي تدل عند إطلاق العمل الصالح على قصد فعل الحسنات واجتناب السيئات معا لأن تقبل الأعمال موقوف شرعا على اجتناب محبطاتها من الكبائر، بدليل قوله تعالى:
إنما يتقبل الله من المتقين
[المائدة: 27]، وقوله:
يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم
[الحجرات: 2]، وقوله:
يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى
[البقرة: 264].
شمولية الصالحات لعمل الخير:
والصالحات جمع صالحة، والأصل أنها صفة لموصوف؛ ولكن أجريت مجرى الأسماء، فلذلك أطلقت من غير تقدير محذوف قبلها، ولعل التاء فيها لنقلها من الوصفية إلى الإسمية، ومثلها الحسنة والسيئة، فإن كلا منهما تطلق على ذات العمل من غير تقدير موصوف وقد ورد في الكلام العربي إطلاق الصالحة على حقيقة العمل، ومنه قول الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة
من آل لام بظهر الغيب تأتيني
وتصدق الصالحات على كل ما يطلب فعله سواء كان طلبه جازما - وهو الواجب - أو غير جازم - وهو المندوب - وكذلك اجتناب المنهيات - إذا عد من عمل الصالحات - يدخل فيه ما كان النهي عنه جازما - وهو المحرم - أو غير جازم - وهو المكروه - ودخول المندوبات والمكروهات في ذلك بطريق التبعية.
والتعريف في الصالحات للجنس لعدم قصد صالحات معينة، اللهم إلا أن يراد بها ما سبق التنويه به من صفات المؤمنين فيما أنزل قبل من السور، كقوله تعالى في سورة المؤمنون: { قد أفلح المؤمنون.. } إلى {.. أولئك هم الوارثون } ، وقوله في سورة المعارج { إلا المصلين.. } إلى {.. أولئك في جنات مكرمون } ، وقوله في سورة الفرقان { وعباد الرحمن.. } إلى {.. أولئك يجزون الغرفة } ، وبناء على أنه للجنس فالمراد بها ماهية الأعمال الصالحة، وتصدق على الواحد فصاعدا إن كان اللفظ الدال عليها مفردا، وعلى الثلاثة فأكثر إن كان جمعا كما في هذه الآية، وليس من المعقول أن يستوعب الإنسان الواحد صالحات الأعمال على اختلافها؛ لعجز الطاقة البشرية عن استيعابها، كما أنه ليس من المعقول أن يكتفي منها بثلاثة أعمال فحسب، وإنما تختلف الواجبات باختلاف أحوال المكلفين، فمن البدهي أن تراعى الفوارق بين حالات الغنى والفقر، والسعة والضيق، والسفر والحضر كما تراعى فوارق الذكورة والأنوثة، فالتكاليف تختلف باختلاف هذه الأحوال جميعها، فالغني ينوء بما لا ينوء به الفقير منها، وكل من الرجل والمرأة مخصوص بتكاليف معينة بحسب نوعهما، فوق التكاليف العامة التي يشتركان فيها، وهكذا يقال في الحاضر والمسافر، وهلم جرا، وإنما مصدر بيان هذا كله الشريعة الغراء التي نزل بها الكتاب العزيز، ووردت بها السنة المطهرة، ولا يحكم على العمل بالصلاح أو غيره إلا بمقاييسها، وهي بحمد الله جامعة لحكم كل شيء إما تفصيلا وإما إجمالا، والجزئيات غير المنصوص عليها تستفاد أحكامها بالرجوع إلى القواعد العامة، ولا دخل للعقول والعادات والأعراف في شيء من ذلك.
الشريعة ميزان الأعمال:
ولا ريب أن الفطرة السليمة تهدي إلى الخير وتدعو إلى الصالحات غير أنها لا تكفي لأن تكون مصدر الأحكام، وموئل الاحتكام، لأنها كثيرا ما تتأثر بالمؤثرات المختلفة، ومن هنا كان اتصال الإنسان بخالقه تعالى لا يكون إلا بطريق ما شرعه من الأحكام بوحيه المنزل، ولذا لم يوكل الناس إلى عقولهم في تمييز الخير من الشر، والنفع من الضر، فقد يستحسن عقل ما يستهجنه آخر، وتستسيغ فطرة ما تأباه فطرة أخرى، وهذا لتأثير العوامل التربوية والاجتماعية والشخصية على نفوس الناس، وكثيرا ما تكون البيئة عاملا مهما من هذه العوامل، ومن ثم تختلف أحوال مجتمعات الناس في استحسان الأمور واستقباحها، ولأجل ذلك كان ميزان الأعمال الذي يفرز الصالح من غيره هو كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
ورويت عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ومن بعدهم من مفسري التابعين أقوال في المراد بالصالحات، منهم من قال إنها الإخلاص، ومنهم من ذهب إلى أنها الجمع بين العلم والنية، والصبر والإخلاص، وذهب بعضهم إلى أنها الصلوات الخمس، وقال آخرون هي الأمانة، وذهبت طائفة إلى أنها التوبة، ولا تعد هذه آراء مختلفة، وإنما ذلك كله من أمثلة الأعمال الصالحة، وقد تكرر في هذا التفسير عدم اعتبار مثل هذا خلافا، وإنما كانت تختلف إجابات الصحابة وغيرهم باختلاف أحوال السائلين أو السامعين، فتارة يكون اللائق بالمقام الحض على الصلوات الخمس لتهاون السائل أو المستمع بها، وتارة يكون الأجدر الحث على الأمانة للتقصير فيها، وتارة تدعو الحال إلى التذكير بالإخلاص أو بالتوبة، وتفسيرنا للصالحات بأنها ما وافق الكتاب والسنة يجمع جميع ما قالوه.
وهذا التبشير إنما هو للمؤمنين حقا الذين انعكس إيمانهم على أعمالهم، فلا يأتون شيئا ولا يذرونه إلا بحسب تعاليم الحق التي نزل بها الكتاب المبين، وفصلها الرسول الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وبيان استحقاقهم هذا الثواب لم يكن إلا من طريق الوحي، إذ لا دخل للعقول في مثل ذلك خلافا للمعتزلة القائلين بأن الوحي لا يكون إلا مؤكدا لما يدل عليه العقل، وأن مثوبة الله لعباده واجبة عليه لهم إن قاموا بما فرضه عليهم من الأعمال، والحق أن المثوبة ليست إلا محض فضل من الله، وأن طاعة العبد لربه واجبة على أي حال، ولو لم تكن تترتب عليها مثوبة، وليست موجبة على الله تعالى شيئا، فالله يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وبحسب الإنسان هذه الآلاء التي يسبح في خضمها منذ بداية نشأته وإلى انتقاله إلى الدار الآخرة، داعيا ملحا إلى استنفاد الجهد واستفراغ الطاقة في طاعته تعالى، ولو أن نعمة من أبسط هذه النعم قوبلت بأعمال الناسك الأواب الذي وقف حياته كلها على عبادة ربه، ولم يترك شيئا مما في وسعه من الطاعات إلا فعله، ولا شيئا من المنهيات إلا جانبه لذهبت تلك النعمة بهذه الأعمال كلها، فما بالك بهذا البحر الواسع من النعم، مع أن التوفيق لصالحات الأعمال هو نفسه من أجل الآلاء وأوسع المنن بحيث لا يمكن لإنسان أن يفي بشكره على أي حال.
والجنات جمع جنة وهي الحديقة ذات الشجر الملتف بعضه على بعض مأخوذة من جن بمعنى ستر، لأن شجرها ساتر لأرضها ولمن كان داخله، واشتقاقات هذه الكلمة كلها دالة على الستر كالجنون والجنين والجن والجنان، فالجنون ساتر للعقل، وسائرها مستورة، وتطلق الجنة على الشجر نفسه، كقول زهير:
كأن عيني في غربي مقتلة
من النواضح تسقي جنة سحقا
فإن مراده بالجنة النخل، ومن العلماء من ذهب إلى أن اسم الجنة لنفس الشجر لا للأرض ذات الشجر.
وفي تشويق الله سبحانه وتعالى إلى الدار التي أعدها للأبرار يوم القيامة، وتسميتها جنات تنويه بقيمة النباتات وعظم نفعها، ففي تلك الدار قصور شامخة لا يتصور العقل علوها، غير أن الله سبحانه لم يسمها المدينة أو نحوه من الأسماء الدالة على المباني، وإنما سماها جنة، وهذا لأن كل شيء يألف ما كان إلى جنسه أقرب، ويشتاق ما كان إلى وصفه أدنى، والإنسان والنبات مشتركان في الحياة وإن اختلف نوع الحياتين، بعكس المباني فإنها وإن راقت للعين بزخرفها وأبهجت النفس بتشكيلها لا تجامعهما في صفة الحياة، وبجانب ذلك فإن تنوع النباتات واختلاف صنوف الشجر مما يزيد النفس سرورا والعين قرارا، فلذلك خصت دار الثواب بهذا الاسم، وهي ذات مراتب متفاوتة تفاوت أصحابها في الأعمال.
والجريان سرعة سيلان الماء ويطلق على العدو السريع من الإنسان وغيره، ورأي العلامة ابن عاشور أنه موضوع للعدو السريع، وأن إطلاقه على سيلان الماء مجاز، والشائع خلاف ما قال.
والأنهار جمع نهر - بالتحريك - وهي اللغة الفصحى، وقد تسكن الهاء، ويدل على فصاحة التحريك، قوله تعالى:
في جنات ونهر
[القمر: 54]، ويلائمه الجمع على أنهار، لأن أفعالا جمع لكل اسم ثلاثي إلا ما كان مفتوح الفاء ساكن العين، فيجمع على أفعل كأنهر، ولم تأت هذه الصيغة في القرآن، وكفى بذلك دليلا على رجحان التحريك.
وأصل النهر السعة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" ما أنهر الدم "
أي وسع الجرح حتى أسال الدم، وسمي به المجرى الواسع للماء، وهو فوق الجدول ودون البحر، ومنهم من يرى أنه الماء الجاري نفسه، وعلى الأول فإسناد الجريان إليه من باب المجاز العقلي للملابسة بين الماء ومجراه، ويجوز أن يكون من باب المجاز اللغوي والعلاقة إطلاق اسم المحل على الحال، وعلى الثاني فالإسناد حقيقي.
وقد تردد ابن عطية بين هذين القولين، فبينما هو يقول: " والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة " ، إذا به يقول بعد بضعة أسطر " ونسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده تجوزا " كما قال: { واسأل القرية.. } فتراه بنى كلامه الأول على رأي والأخير على آخر، وقد تعجب أبو حيان من هذا التعارض بين عبارتيه، وهو حري بأن يتعجب منه.
وجريان الماء بين المروج الخضراء مما يضاعف بهجة النفس وقرة العين، وسرور الخاطر، فما بالك إذا كانت المروج - من حسن الشكل وبديع المنظر - بحيث لم تر مثل حسنها عين، ولا يتصور جمالها خيال، وكانت المياه تنساب على تراب المسك والكافور، وتتدفق على أحجار الدر والياقوت، فإنها دار الخلود التي يصف الله تعالى ما فيها بقوله: { فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون } ، وفي الحديث القدسي:
" أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
، وذكر أن أنهار الجنة تجري مطردة في غير أخاديد، وذلك مما يضاعف بهجة النفوس بها، وسرور الخاطر برونقها.
ومما يستغرب منه توقف الإمام محمد عبده عن تفسير حقيقتي الجنة والنار؛ هل هما بمعناهما المفهوم عند الناس، أو أن لهما حقيقة غير ما يتصور، وبنى عليه جواز أن يكون ذكر الأنهار ترشيحا للجنات التي أريد بها التشبيه، وحاصل كلامه أنه من المحتمل أن يكون المراد بالأنهار غير المعنى المتبادر، وأن لا تكون هناك جنات ولا أنهار بحسب معناها المفهوم عندنا ، وأن يكون ما هناك حقيقة أخرى شبهت بالجنات والأنهار، وتعقبه السيد رشيد رضا بأنه لو لم يرد في هذا المقام إلا ذكر الجنة أو الجنات لوجب التفويض وامتنع الترجيح، أما وقد ذكر في آيات أخرى أنواع من الشجر المثمر والثمرات فقد تعين ترجيح الشق الثاني وإلا كنا هربنا فيما يتعلق بعالم الغيب من معاني الألفاظ إلى تأويلات الباطنية المعطلين للحقائق الظاهرة التي تدل عليها الألفاظ.
ومن فضل الله على عباده أن جعل مثوبتهم في الدار الآخرة من جنس ما ألفوه في الدنيا من صنوف النعم وأنواع الملذات، فإن النفس البشرية إلى مألوفها أميل، وفي معروفها أرغب، والإنسان بمروره بالدنيا يكتسب معارف جمة تتعلق بشئون الحياة، فإذا شوق إلى ما عهده فيها مما يميل إليه طبعه، وترغب فيه نفسه كان ذلك أسرع في التأثير عليه مما لو كان تشويقه إلى ما لم يعهد له مثيلا. هذا مع التفاوت الكبير والبون الشاسع بين نعيم الدنيا وملذاتها، وما أعده الله سبحانه في الدار الآخرة للمتقين من جنس هذا النعيم وصنوف تلك الملذات، فما في الدنيا لا يعد شيئا بجانب ما في الآخرة { وما عند الله خير وأبقى }.
وجريان الأنهار من تحتها هو انسيابها تحت تلك الأشجار الباسقة الزاهية، وتدفقها تحت قصورها البهية العالية.
والظاهر أن " أل " في الأنهار للجنس، وقيل إنها للعهد، والمعهود ما سبق من وصفها في سورة القتال، وذلك قوله تعالى:
فيهآ أنهار من مآء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى
[القتال: 15]، وهو مبني على أن آية القتال نزلت بمكة، ولست أدري ما هو دليلهم على ذلك، فإن جل أئمة التفسير يقولون إن سورة القتال نزلت بالمدينة، وذلك واضح من نفس السورة، على أن أكثر الآيات المكية الواصفة للجنة وأنهارها ذكرت فيها الأنهار معرفة، وجوز الزمخشري أن تكون " أل " سادة مسد الإضافة، فيراد بها أنهارها، وأورد عليه بأنه مذهب كوفي، وتعقب ابن عاشور هذا الإيراد بأن الزمخشري لم يرد أن " أل " عوض عن المضاف إليه، فإنه بنفسه قد أباه في تفسير قوله تعالى:
فإن الجحيم هي المأوى
[النازعات: 39]، وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا، وليس ذلك صالحا في كل موضع، ورأى ابن عاشور أن مذهب الكوفيين مقبول، وأنهم لم يريدوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف، فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود، فأدخلت عليه لام التعريف العهدي، غير أنه اختار كون الداعي إلى تعريف الأنهار التفنن لسبق تنكير جنات.
وجملة { تجري من تحتها الأنهار } وصف لجنات، و { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا } وصف ثان، ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لبيان حالهم في هذه الجنات، لأن ذكر الجنات مشعر بالثمار، فيمكن للسامعين أن يتساءلوا كيف طريقة انتفاعهم بثمارها؟ فيجابوا بذلك، وجوز الزمخشري وعدد كبير من المفسرين أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هم كلما رزقوا منها.. الخ، أو هي، وضعف قطب الأئمة رحمه الله في الهيميان تقدير المبتدأ لتمام المعنى بدونه، ولأن الزمان لا يخبر به عن اسم العين، فلا يقال محمد يوم الجمعة، بخلاف اسم المعنى نحو الصوم يوم الجمعة مثلا، ومن الواضح أن ل { كلما } حكم ظرف الزمان لأن إضافة " كل " الدالة على العموم إلى " ما " المصدرية الظرفية يقتضي استغراق الأزمان المقيدة بصلة " ما " ، وذلك لا ينافي شرطية كلما، ككثير من الظروف التي تستمد الشرطية بإضافتها إلى " ما " نحو " حيثما " ، وأجاز القطب أن تكون هذه الجملة حالا من جنات، وهو ضعيف جدا لما تقرر عند علماء الإعراب من أن الجمل بعد النكرات صفات، وإنما تكون أحوالا بعد المعارف.
وللقائلين بتقدير المبتدأ أن يقولوا إن الظرف ليس وحده هو الخبر وإنما الخبر هو الجملة بتمامها، وفيها ما يصلح وحده - لو أفرد - أن يكون خبرا وهو { قالوا }.
و " من " في الموضعين لابتداء الغاية وجوز أن تكون للبيان فيهما، وجوز الزمخشري أن تكون في قوله { من ثمرة } واردة على طريق قولهم رأيت منك أسدا، وهو من باب التجريد.
والظاهر أن { من ثمرة } بدل من قوله { منها } لجواز قول القائل: أكلت من حديقة فلان من تفاحها أو من رمانها، وهو بدل بعض من كل، ويجوز أن يكون بدل اشتمال و { رزقا } مفعول ثان لرزقوا وليس مفعولا مطلقا كما قال بعض المفسرين.
و { قالوا } جواب للشرط المفهوم من { كلما } ومعنى ذلك أنهم إذا جيئوا بشيء من فاكهتها ظنوه هو عين ما رزقوه من قبل؛ لما بين شكليهما من التشابه، ومرادهم ما رزقوه من قبل في الحياة الدنيا، حسبما روى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ورواه عبد بن حميد عن علي بن زيد وقتادة ورجحه ابن جرير والزمخشري ويعني ذلك أن ثمار الجنة شبيهة بثمار الدنيا من حيث الأشكال وإن تباينت في لذاتها.
وعلل الزمخشري هذا التشابه بأن الإنسان آنس بمألوفه وأميل إلى معهوده، فإذا رأى ما لم يألف ربما نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه ربما إذا رزق شيئا من جنس ما كان له به عهد، ورأى فيه مزية ظاهرة بالتفاوت بينه وبين ما سبق له به العهد، ضاعف ذلك ابتهاجه واستثار استغرابه واستعجابه، وأدرك حقيقة النعمة فيه، وتحقق مقدار النعمة به، بخلاف ما إذا كان جنسا غير معهود له فإنه ربما يحسبه أن ذلك الجنس لا يكون إلا بذلك المقدار، فلا يدرك عظم النعمة به تمام الإدراك، فإذا رأى أحدا رمانة في الجنة تشبع السكن وقد عهد جنسها في الدنيا لا يتجاوز أكبره حد البطيخة الصغيرة، ورأى النبق في دار الجزاء كقلال هجر، وقد عهد جنسه في الدنيا لا يتجاوز حجمه الفلكة، ونحو ذلك إذا ما رأى الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام وهو لا يقطعه مع ما عهده من مقادير أشجار الدنيا، كان ذلك أعمق لسروره وأبلغ في استغرابه مما لو لم يتقدم له بجنس ذلك عهد.
واستدل ابن جرير لصحة هذا المذهب بما يدل عليه قوله: { كلما رزقوا منها } من تكرار هذا القول منهم بتكرر رزقهم، وصدقه على أول مرة يؤتون فيها بهذا الرزق، إذ لو كان المراد بقولهم { هذا الذي رزقنا من قبل } ما تقدم لهم من رزقهم بثمار الجنة لم يصدق ذلك على المرة الأولى، فإنهم فيها غير عاهدين شيئا من ثمارها، وإنما عهدهم بثمار الدنيا، وعليه فالمضاف إليه الذي قطعت عنه { قبل } هو دخول الجنة، وأما تكرر هذا القول منهم بعد المرة الأولى من دخولها؛ فقد حمله الزمخشري على فرط استغرابهم مما يرون.
وذهب فريق إلى أن المراد بقولهم { هذا الذي رزقنا من قبل } قبل تلك المدة منذ دخولهم الجنة، وهو يعني تشابه ثمار الجنة، وقد أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي كثير وعضد بقوله تعالى: { وأتوا به متشابها } وقد روى معنى ذلك ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، إذ فسروه أنه متشابه في اللون والمرأى مع اختلافه في الطعم، وأيد بأن السعيد الذي يرزق من ثمار الجنة لا يلزم - بل لا يمكن عادة - أن يكون على علم في الدنيا بجميع صنوف فواكهها، مع أن الله تعالى يقول في وصف الجنتين: { فيهما من كل فاكهة زوجان }.
ووجه ابن عاشور هذا الاتحاد في أشكال فواكه الجنة مع اختلافها في الدنيا؛ بأن الاختلاف في هذه الدار ناشئ من اختلاف الأمزجة والتراكيب بخلاف موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري ويحتمل أن ذلك لتعجيبهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر ثم قال: " وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق ".
وأصحاب هذا القول يضعفون القول الأول لبعد أن يقصدوا بقولهم { هذا الذي رزقنا من قبل } ثمار الدنيا كلما تكرر رزقهم وأن لا يعتادوا هذا النعيم الأخروي بحيث ينظرونه بما تقدم في الدنيا ويحملون هذا التكرار على ما بعد المرة الأولى من دخولهم الجنة، وتخصيص تلك المرة مفهوم من القرائن.
تنوع نعيم الجنة:
والظاهر أن ثمار الجنة متنوعة كما تفيده الأحاديث وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: { فيهما من كل فاكهة زوجان } وإنما كل جنس من الفاكهة يختلف طعمه بين مرة وأخرى، فإن اختلاف طعوم الفاكهة الواحدة أدعى إلى الاستغراب وأكثر متعة من اتحاد جميع الفواكه في الشكل مع اختلافها في المذاق، وبهذا يتبين المراد من قولهم: هذا الذي رزقنا من قبل فإنهم كلما أتوا بفاكهة وجدوها من حيث الشكل قريبة مما رزقوه من نوعها من قبل فإذا أكلوها وجدوا لها طعما آخر أما أن يرددوا في كل مرة تشبيه ما يؤتونه بما رزقوه في الدنيا فبعيد، لما تقدم من عدم إحاطة أحد بجميع فواكه الدنيا، لأن الله لم يجعل كل جزء من أرضها صالحا لنبت كل الفواكه، وإنما جعل أجزاءها مختلفة النباتات بحسب اختلاف المناخ ولأنهم إذا حسبوا - أول مرة يرزقون فيها من فاكهة الجنة - أنها مثل فاكهة الدنيا ثم أدركوا ما بينهما من تفاوت فليس من المعقول أن يعودوا فيما بعدها إلى ترداد هذا القول، فإذا أعيدت إليهم تلك الفاكهة نفسها علموا التفاوت بتجربتهم السابقة وان أوتوا غيرها علموه بالقياس على ما سبق من تجربة.
وقيل: مرادهم بقولهم { هذا الذي رزقنا من قبل } هذا الذي وعدنا في دار الدنيا بأن نرزقه في الآخرة، وهو بعيد، وقيل: مرادهم به ما وفقوا له من الأعمال الصالحة في الدنيا فكانت سببا لهذا الجزاء في الجنة، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وقد عده قطب الأئمة رحمه الله من غلو المتصوفة الذين يحملون ألفاظ القرآن ما لا تتحمله من المعاني.
وفسر الحسن وقتادة التشابه بكونه خيار لا رذل فيه، رواه عنهما ابن جرير وعبد بن حميد، ومعنى ذلك أن ما يكون في فواكه الدنيا من التفاوت بين جيدها ورديئها لا يكون مثله في فواكه الجنة، فهي كلها جيدة لا رديء فيها، وهو ظاهر، وقيل: يراد بالتشابه تشابه أسماء فواكه الجنة وفواكه الدنيا دون مسمياتها، لما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء " ويبعده أن الظاهر من التشابه في الآية تشابه الذوات لا الأسماء، وذهب الزمخشري إلى أن المراد به تشابه المرزوق في الدارين، وبه قال الفخر الرازي، وأبو السعود، والألوسي، وقطب الأئمة، واستشكل ذلك أبو حيان لأن الحديث عن رزق الجنة، ولأن الضمير في قوله " به " مفرد فلا يصح أن يكون عائدا إلى المرزوقين، وأجاب عن ذلك الألوسي في روح المعاني، وقطب الأئمة في الهيميان بأنه من باب الكناية الإيمائية، ويعنيان بذلك أن الحديث وإن كان خاصا برزق الجنة إلا أن اقترانه بعروض الإشارة إلى رزق الدنيا هو الذي سوغ رجوع الضمير إليهما معا، وقولهم هذا مبني على ما تقدم، من أن المراد بما رزقوه من قبل ما أوتوه في الدنيا، وقد علمت ما فيه من الضعف، ولو سلم أن ذلك صحيح فيستبعد جدا - كما قال أبو حيان - أن يعود الضمير إلى رزقي الدنيا والآخرة مع أن الحديث عن رزق الآخرة.
ولسائر المفسرين أقوال أخرى في هذا التشابه، منهم من قال هو في اللون فقط، ومنهم من قال هو في الشكل، ومنهم من قال في أحدهما وفي الطعم، ومنهم من قال هو فيهما معا، وهي أقوال ليس عليها من دليل، وقد علمت ما هو الراجح.
والظاهر أن جملة { وأتوا به متشابها } حال من { قالوا } مفيدة لسبب هذا القول، واعتبارها حالية يستلزم إضمار قد، ونحوه كثير في القرآن، نحو
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا
[البقرة: 28] أي وقد كنتم، وقوله:
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا
[آل عمران: 168]، أي وقد قعدوا، وقيل: هي للتذييل الذي يراد به التقرير والتأكيد، كما في قوله عز وجل:
وكذلك يفعلون
[النمل: 34] بعد أن حكى عن بلقيس قولها:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة
[النمل: 34]، وقيل هي صفة ثالثة لجنات، ويضعفه عدم وجود الرابط بين الصفة والموصوف.
ومن حيث إن الطبيعة الإنسانية لذتها في المسكن البهي، والمطعم الشهي، والمنكح الوضي، وقد ذكر الأول في قوله: { جنات تجري من تحتها الأنهار } والثاني في قوله: { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها } جيء بعدهما بوصف الثالث في قوله: { ولهم فيهآ أزواج مطهرة } ، ويراد به أنهن منزهات من جميع الأدناس الحسية والمعنوية مما يكون في الدنيا خاصا بالنساء أو مشتركا بينهن وبين الرجال، فجميع الأقذار التي تفرزها الطبيعة في نساء الدنيا، أو فيهن وفي رجالها نزهت منها نساء الآخرة، وكذلك ما يكون من لؤم الطباع مما تعد قذارته معنوية كالغل والكيد والحسد، نزه الله تعالى منه نساء الآخرة، سواء كن من الصالحات في الدنيا كما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في تفسير الأزواج هنا، أو كن من الحور العين كما قال غيره، والظاهر أن المراد بالأزواج هنا ما يعم النوعين لكمال أنس المؤمنين بهما معا، ولتبرئة الله سبحانه الصالحات من نساء الدنيا في الجنة من كل العيوب الجسدية والنفسية، وذلك تطهير لهن مما كن متلوثات به في الدنيا.
وأما اللاتي ينشأن هناك فتنشئتهن من أول الأمر مطبوعة طبع السلامة من هذه العيوب، وجاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحوال نساء الجنة منها الصحيح ومنها الحسن، ومنها دون ذلك، وهي صريحة في أن الاتصال بين الزوجين يتم يوم القيامة على نحو ما يكون في الدنيا، وإن كان أكمل في اللذة وأبعد من الأذى.
وتوقف الإمام محمد عبده - كعادته في الأمور الغيبية - عن تفسير الحكمة المطلوبة من الحياة الزوجية في الآخرة، نظرا إلى أن الحكمة المطلوبة من الزواج في الدنيا هي التناسل وإنماء النوع؛ مع عدم ورود أن في الآخرة تناسلا، وبناء على ذلك يرى أن لذة المصاحبة الزوجية هناك أعلى، وحكمتها أسمى يؤمن بها ولا يبحث عن حقيقتها.
والحق أن الحكمة في ذلك معروفة، وهي لذة الاتصال بين الجنسين كما صرحت به الأحاديث النبوية، وأومت إليه الآيات القرآنية، والإنسان يوم القيامة لا يتحول عن إنسانيته، وقد وفر الله لعباده المؤمنين في دار كرامته جميع ما تتوق إليه أنفسهم في الدنيا من متع الحياة ونعيمها، فما يؤتونه في الدنيا إنما هو بقدر هذه الحياة المحدودة، وبقدر طبيعتها المقيدة التي تختلف تمام الاختلاف عن طبيعة الحياة الأخروية المطلقة، فالفارق بين لذات الدارين كالفارق بين البقاء فيهما.
الخلود أبدي في الحياة الأخروية:
وبما أن النعمة وإن كملت، واللذة وإن تناهت - إن لم يأمن صاحبهما زوالهما كان ذلك من أشد المنغصات عليه - جيء هنا بما يستأصل هذا الخوف وهو إثبات خلودهم في الجنة ونعيمها، فالحياة الأخروية لا انقطاع لها، ولا يكدر أمنها خوف، ولا يهدد شبابها هرم، ولا صحتها سقم، ولا غناها فقر، ولا نعيمها بؤس، والخلد يطلق على المكث الدائم الذي لا ينقطع، وهو معنى قوله تعالى:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون
[الأنبياء: 34]، وهو المراد في هذه الآية ونظائرها من آيات الوعد والوعيد، روى ابن جرير وابن اسحاق، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وهم فيها خالدون } أي خالدون أبدا، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { وهم فيها خالدون } يعني لا يموتون، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، كل هو خالد فيما هو فيه "
، ومثله عن أبي هريرة عند البخاري، وعن معا ذ عند الطبراني والحاكم وصححه، وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد ".
ويطلق الخلد على المكث الطويل من غير دوام، وهو وارد في كلام العرب نثره وشعره، واختلف فيم هو الأصل؟
فذهب الزمخشري، وابن عطية، والقرطبي، والشوكاني إلى أن الخلد موضوع للدوام الأبدي، واستعماله في غيره مجاز، وذهب الفخر الرازي وأبو حيان، وأبو السعود، وقطب الأئمة إلى أنه موضوع للمكث الطويل مع غض النظر عن دوامه أو انقطاعه، وعليه فهو من باب المشترك الذي يتعين ما يراد به بالقرينة الدالة عليه، وجعل هؤلاء دوام الثواب والعقاب بالدلائل الأخرى من الكتاب والسنة غير لفظة الخلود، نحو قوله تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات:
جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا
[البينة: 8]، وقوله:
ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا
[الجن: 23] حيث قرن الخلود بالتأبيد في الموضعين، ومثل ذلك ما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في خلود أهل الدارين فيهما، ومهما يكن الأصل في معنى الخلد فإن خلود الأبرار في الجنة والفجار في النار خلود أبدي للإجماع على بقاء الدارين، والأدلة القاضية على أن حياة سكانهما حياة أبدية، وخالفت في هذا طائفتان:
أولاهما الجهمية، مستندين في ذلك إلى شبهتين:
الأولى أن دوام المخلوقين مناف لاتصاف الله بالآخرية، فإن من أسماء الله الأول والآخر، ومعنى أوليته سبقه على كل موجود، وهكذا يلزم أن يكون معنى آخريته بقاؤه بعد كل موجود.
الثانية: أن أنفاس أهل الدارين إما أن تكون معلومة له تعالى وذلك يعني أنها محصورة، وحصرها لا يتفق مع دوامهم، وإما أن تكون غير معلومة وهو لا يتفق مع وصفه أنه بكل شيء عليم.
وأجيب عن الأولى بأن دوام حياة المخلوقين في الدار الآخرة لا ينافي آخريته تعالى، لاختلاف دوامهم عن دوامه، فإن دوامه ذاتي، ودوامهم بإدامته إياهم، فلذلك كان حقيقا بصفة الآخرية دونهم؛ وعن الثانية أن استمرار أنفاسهم لا ينافي إحاطة علمه سبحانه بها، فإن علمه علم ذاتي ليس كعلم المخلوقين ولا يصح أن يقاس عليه.
ثانيتهما: أصحاب النظرة المادية القائلون بتعذر بقاء الأجسام، لأنها مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية، فهي معرضة للاستحالات المؤدية إلى الإنحلال.
وأجيب: بأن كونه تعالى قديرا على كل شيء ينفي هذا الإشكال من أصله، إذ ليس ببعيد أن يعيد الأبدان بطبيعة أخرى لا تتحلل معها، أو أن يجعلها كلما تحلل منها شيء عوضت عنه ببديل عنه.
ومن أيقن أن الله قدير على كل شيء تضاءلت هذه الشبهة أمام ناظريه حتى تتلاشى، فإن الله الذي ركب الأجسام في هذه الدنيا من الأجزاء المتضادة قادر على تركيبها يوم القيامة غير متضادة، ولا يقاس ما في عالم الغيب على ما في عالم الشهود، ولا البقاء المطلق على البقاء المحدود، فإن الله يطبع كل شيء بما يتلاءم مع ما أراده له، وللدار الآخرة طبائع تكوينية تختلف تمام الاختلاف عن الطبائع المشاهدة المألوفة وما يدرينا لعل المتضاد في الدنيا يكون غير متضاد يوم القيامة.
[2.26-27]
كان المشركون واليهود والمنافقون لا يفتأون عن إثارة الشبه حول القرآن الكريم؛ بغية أن يحولوا بين هدايته وبين الناس، وكان الله تعالى ينزل فيه من الآيات ما يبدد الشبه التي ينسجونها، ويفند المزاعم التي يفترونها، ومن ذلك استنكارهم ضرب الأمثال، فقد جعلوا منه تكأة لزعمهم أن القرآن ليس هو من عند الله، مع إدراكهم أنه نزل بلسانهم يخاطبهم بما كانوا به يتخاطبون.
الأمثال تزيد المعاني رسوخا:
وضرب الأمثال مما اشتهر عند العرب، سواء فيما صغر أو كبر، ومن ذلك قولهم " أجمع من ذرة " و " أضعف من فراشة " ، و " آكل من السوس " و " أسمع من قراد " ، واختلف في السبب الذي نزلت من أجله الآية.
روى الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى لما أنزل قوله:
إن الذين تدعون من دون الله...
[الحج: 73]، وقوله:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت...
[العنكبوت: 41]، قال المشركون أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله: { إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها }.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من الصحابة أن الآية وما بعدها نزلتا ردا على المنافقين الذين استنكروا ضرب المثلين السابقين في السورة، فقالوا: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، وهذا الذي رجحه ابن جرير لأنه أمس بالسورة وأنسب مع السياق.
وروى عبدالرزاق عن قتادة نحو ما رواه الواحدي عن ابن عباس وروى عنه وعن الحسن أنه لما ذكر الذباب والعنكبوت في القرآن ضحك اليهود، وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله، فأنزل الله تعالى الآية ردا عليهم.
واستغرب ابن كثير ما أخرجه عبدالرزاق عن قتادة لأنه يقتضي أن تكون الآية مكية وهي بخلاف ذلك، ويمكن الجمع ما بين هذه الروايات جميعا، فاستنكار المشركين بمكة كان عند سماعهم في سورة العنكبوت ذكرها وذكر الذباب في سورة الحج، على أن الصحيح أن سورة الحج مدنية وإن قيل بمكيتها - وأن اليهود استنكروا ذلك عندما تليت عليهم السورتان بالمدينة بعد نزولهما بزمن، بناء على أن السورتين جميعا مكيتان، وأن المنافقين استنكروا ضرب المثلين السابقين في هذه السورة، فجاء الرد مبكتا لهذه الطوائف الثلاث في هذا الموضع، بعد ذكر جانب مما استنكروه من الأمثال.
ومن المعلوم أن اليهود والمنافقين كانوا يشكلون بالمدينة جبهة واحدة، بل جل المنافقين هم من العنصر اليهودي، فلعل الطائفتين جميعا شرقتا عندما أنزل الله المثلين في المنافقين، فأخذوا يتلمسون ما يتصورونه عيبا لا يليق بكلام الله في القرآن، وقد كانت الطائفتان على اتصال بمشركي قريش وغيرهم من المناوئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمحاربين لدعوته، وقوله تعالى في وصف الذين يضلون بالأمثال: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } يرجح أن استنكار المثل كان من اليهود لأنهم هم المعروفون بهذه الأوصاف، وأضاف إلى ذلك ابن عاشور أنهم كانوا لا حظ لهم في البلاغة، وكانوا من شأنهم التشاؤم من مدلولات الألفاظ.
وفيما أضافه نظر، فإن اليهود بسكناهم بين العرب تعربوا، فأخذوا حظا من البلاغة العربية، كما تدل على ذلك أشعارهم المنقولة، وضرب الأمثال ليس محصورا في العرب بل هو مشترك بينهم وبين غيرهم كما بينه الفخر الرازي.
وبناء على أن الآية رد على استنكار المشركين ما ضرب من الأمثال في السور المكية، فإن المجيء بالرد بعد ضرب تلك الأمثال بفترة من الزمن إنما هو لأجل رعاية المناسبة، وذكر ابن عاشور أن ذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة منه فيظنها ناس جبنا، فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه، فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها، وهي قوله: { مثلهم كمثل الذي استوقد... أو كصيب.. } ، (الآيات)، وقوله: { صم بكم عمي... } أتى إثر ذلك بالرد عليهم ثم قال: " فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي بعدها وقد غفل عن بيانه المفسرون.. ".
وما عزاه إلى المفسرين من الغفلة عن ذكر مناسبة الآية غير صحيح، فالفخر الرازي ذكر مناسبة أخرى هي أقوى في الدلالة على ارتباط ما في هذه الآية بما في التي قبلها مباشرة، وهي أن الله تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزا، أورد بعده شبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك، وأجاب عنها، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل، وذكر هذه الأشياء لا يليق بكلام الفصحاء، فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلا عن كونه معجزا، فأجاب الله تعالى عنه بأنه صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة، إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة، ثم قال: " فهذا هو الإشارة إلى تعلق هذه الآية بما قبلها.. " ، وقد أتى ابن عاشور نفسه بمعنى ما قاله الفخر.
وبالجملة فإن الآية رادة على استنكارهم ضرب الأمثال في القرآن سواء كان استنكارهم لمطلق الأمثال، أم للتمثيل بالمحقرات، فإن القرآن جار على سنن الكلام العربي، وضرب الأمثال شائع عند العرب، وهو مما يزيد المعاني رسوخا في الأذهان وانكشافا حتى تتجسد كالصور الماثلة للعيان، ومثل كل شيء بحسب حاله، فالعظائم تمثل بالعظائم، والمحقرات بالمحقرات وذلك لا يشين الكلام، ولا يحط من قدره، وإنما استنكر أمثال القرآن من استنكرها من الحاقدين لأن شأن المبهوت الحائر الذي انقطعت به الأسباب واستعصت عليه الحيل أن يتشبث بأي شيء، شأن الغريق في البحر الذي يمد يده لا إلى شيء غير الأمواج التي ترديه، وأولئك أغرقهم القرآن في خضم بيانه، وأصماهم ببوارق حججه، فلم يجدوا إلا أن يستعوجوا المستقيم، كمن ينكر ضياء الشمس في رابعة النهار، ويحاول أن يلبسها بوهمه رداء أسود ليخفي نورها عن الأبصار:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن المفسرين من يقول: إن الآية مرتبطة بقوله: { فلا تجعلوا لله أندادا } وعليه فمعني { إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا } لهذه الأنداد بما كان من المحقرات، وسأذكر لكم إن شاء الله رأي صاحب المنار في المثل وارتباط الآية بما قبلها حسب رأيه.
والحياء عارض نفسي يحدث للإنسان لصدور ما يعاب منه أو وقوعه عليه، ويظهر أثره على الوجه، وفعله حيي أو حي " بالإدغام " والأصل فيه إصابة الحياة، كما يقال حشى إذا أصيب حشاه، ونسى إذا أصيب نساه، وشظى الفرس إذا أصيب شظاه، وهذا لأن القوة الحيوانية تتضاءل في الإنسان إذا وقع منه أو عليه ما يستلزم الحياء.
والعوارض مستحيلة على الله سبحانه؛ فلذلك لزم تفسيره هنا بلازمه وهو الترك، فإن من شأن المستحيي أن يترك ما يستحيى منه، وفسره ابن جرير بالخشية، وعزا إلى بعض من سبقوه أن الحياء والخشية يتعاقبان بدليل قوله تعالى:
وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه
[الأحزاب: 37]، أي وتستحيي الناس والله أحق أن تستحييه، وتفسيره بالامتناع أولى.
وذهبت طائفة إلى أنه لا داعي إلى تأويله هنا، نظرا إلى أنه منفي عن الله وليس مثبتا له، ورد بأن المنفي هو استحياء مقيد بضرب البعوضة فما فوقها مثلا، وليس الإستحياء المطلق، على أن هذا التقييد قد يوهم إذا فسر الإستحياء بحقيقة معناه؛ أن الله يستحيي مما عداه، فلذلك دعت الضرورة إلى تأويله، ويؤيده ما جاءت به الأحاديث من وصف الله بالحياء بمعنى الامتناع، ومنه ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي بإسناد حسن عن يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا "
، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم من حديث سلمان رضي الله تعالى عنه، ومعنى الإستحياء في الحديث الإمتناع من تخييب العبد الداعي.
ومما يستغرب أن ممن قال بعدم الداعي إلى تأويل الإستحياء في الآية لكونه منفيا من قال في موضع آخر من تفسيره: إن القاعدة أن ينظر إلى إثبات الفعل لمن أسند إليه هل يحمل على الحقيقة أو المجاز؟ فإن كان إثباته من باب المجاز فكذلك نفيه.
وضرب المثل هو صوغه مأخوذ من ضرب الخاتم ونحوه، وقيل هو تطبيقه مأخوذ من ضرب الطين في الجدار، ومنه قولهم ضربة لازب، ولم يكن ضرب الأمثال خاصا بالقرآن من بين الكتب السماوية، فالتوراة والإنجيل والزبور وردت فيها أمثال مختلفة منها بأشياء مهينة كالنخالة والقملة، كما بينه الواقفون عليها.
ولفظة " ما " كثيرا ما تلي الاسم النكرة لتأكيد تنكيره وإشاعة إبهامه وهي مزيدة عند ابن هشام لهذا الغرض، وعزاه الزجاج إلى البصريين، ووصفها بالزيادة اصطلاحي، وإلا فالمزيد ما أمكن الإستغناء عنه من غير خلل في المعنى، وهي هنا تفيد فائدة ظاهرة لا يمكن حصولها بدونها، إذ التنكير وحده لا يسد مسدها، وذهب آخرون إلى أنها صفة للنكرة لإفادتها مفاد المشتق، وقيل: هي بدل من النكرة وهو { مثلا } هنا، وقيل: هي عطف بيان بناء على القول بجوازه بعد النكرة، وذهب ابن جرير وآخرون إلى أنها اسم موصول، واستشكل بأن صلتها منصوبة، وأجاب عنه ابن جرير بأنها كمن في قول حسان:
كفى بنا فخرا على من غيرنا
حب النبي محمد إيانا
فإن الرواية بجر غير مع أنها صلة للموصول - حسب رأيه - وسوغ ذلك كون " من " و " ما " مبنيتين وهو رأي ضعيف، فإن زيادة " من " في بيت حسان ظاهرة لحصول الفائدة دونها وإنما ألجأه إليها إضطراره إلى محافظته على الوزن، وقد صرح بزيادتها غير واحد من علماء الإعراب، ولا يصح أن يحمل عليه كلام الله تعالى المنزه عن الضرورات التي تعتور كلام البشر.
والراجح من هذه الأقوال الأول؛ لأن إسميتها مفتقرة إلى دليل ولا دليل، إذ لا تلابس شيئا من علامات الاسم ولا ينطبق عليها حده بل انطباق حد الحرف عليها هو الظاهر فيها، فإنها دالة على مزيد الشيوع والإبهام في غيرها.
وفسر بعضهم ضرب هنا بجعل على طريق التضمين فعداها إلى مفعولين، وهما مثلا وبعوضة وجعلها آخرون بمعنى بين، وعليه فمفعولها واحد وهو بعوضة، و { مثلا } حال منها، وإنما سوغ مجيء الحال من النكرة تقدمه عليها كقوله:
لمية موحشا طلل
وللنحويين في جملة { إن الله لا يستحى.. } الخ أعاريب مختلفة ليس من غرضنا ذكرها، ومن شاء الإطلاع عليها فليرجع إلى هيميان الزاد لقطب الأئمة رحمه الله.
وهذا كله على القراءة المشهورة وهي نصب بعوضة، وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج بعوضة بالرفع؛ وحملت قراءتهم على موصولية " ما " وحذف العائد كما قرأ بعضهم " تماما على الذي أحسن " برفع أحسن، وجوز الزمخشري أن تكون استفهامية؛ وذلك أنهم لما استنكروا ضرب الله الأمثال لأصنامهم بالمحقرات قيل لهم: إن الله لا يستحيي أن يمثلها بما شاء من الأشياء المهينة، دعوا البعوضة فما فوقها، كما يقال: إن فلانا يهب المئين والألوف ما دينار وديناران، والبعوضة واحدة البعوض وهو معروف عند أهل عمان باسمه العربي فلا يحتاج إلى تفسير، وذكر ابن عاشور أنه يعرف في لغة هذيل بالخموش، وأن أهل تونس يسمونه الناموس واحدته ناموسة، وهذه التسمية معروفة الآن في كثير من البلاد العربية، وهو مأخوذ من بعض اللحم بمعنى قطعه، وأنشد:
لنعم البيت بيت أبي دثار
إذا ما خاف بعض الناس بعضا
ويحتمل قوله { فما فوقها } وجهين:
أولهما: الفوقية في الوصف الذي ضرب به المثل؛ وهو الحقارة والمهانة، وذلك كما لو وصف أحد غيره ممن يعرف بسقوط القدر وخمول الهمة ورداءة الطبع بالصفات الدالة على المهانة، فقال له آخر ممن خبر أحوال الموصوف وأحاط بدناياه هو فوق ذلك، أي هو أبلغ مما وصفت في الضعة والإنحدار، وبناء عليه فالمعنى أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا بالبعوضة فما هو أحقر منها؛ كجناحها الذي أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن الدنيا لا تسواه عند الله فجعله مثلا لها، وكالميكروبات التي لا تتسلط عليها العين إلا إن استعانت بأشعة المجهر، وهذا الوجه هو الذي اعتمده الفخر في مفاتيح الغيب والقطب في الهيميان ونسباه إلى المحققين.
ثانيهما: أن يكون المراد به ما هو أكبر منها حجما وأعظم منها قوة؛ كالحشرات التي تفوقها في ذلك، وهذا هو الذي عول عليه ابن جرير في تفسيره وبالغ في تضعيف الوجه الأول.
ومثل الآية في جواز الوجهين حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم:
" ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت بها عنه خطيئة "
فيجوز أن يراد بالفوق فيه مجاوزتها في القلة كنخبة النملة أو في الكثرة كالسقوط من السقف ولدغة الأفعى. ومن غريب التفسير قول الربيع بن أنس الذي رواه عنه ابن جرير؛ وهو أن الله ضرب البعوضة مثلا للدنيا فإنها تحيا إذا ما جاعت فإذا سمنت ماتت، وهكذا شأن الذين يغترون بالدنيا فيركنون إليها إذا ما امتلأوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ثم تلا:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون
[الأنعام: 44]، وهو أقرب إلى الوعظ والتذكير منه إلى تفهيم معاني التنزيل.
الأمثال يعقلها العالمون:
هذا وإذا كانت سنة الله في كلامه أن يضرب الأمثال لعباده؛ فإن الناس يختلفون في تلقي هذه الأمثال باختلاف استعدادهم الذهني وصفائهم الفطري، فالذين اتقدت أذهانهم بوقود الإيمان، وصفت فطرهم بعامل اليقين، يتلقون هذه الأمثلة بالوعي التام والإدراك الشامل، فهم العالمون بحقائقها، المدركون لغاياتها، كما قال تعالى: { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون } ، بخلاف أولئك الذين أظلمت أفكارهم وتلوثت فطرهم وانسدت أذهانهم، فإنهم لا أثر لهذه الأمثال على نفوسهم، بل يزدادون بها كفرا وضلالا، إذ لا يواجهونها إلا بالعتو والاستكبار، والسخرية والاستخفاف، وقد بين ذلك تعالى في قوله: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا } فهو تصوير لحال الطائفتين، وموقفهما من ضرب الله المثل.
والفاء هنا تفيد الترتيب الذكري لا الوقوعي، لأنها عاطفة للتفصيل على الإجمال، ومن شأن المفصل أن يذكر بعد المجمل، وهذا التفصيل بعدما تقدم، لأن الناس بعد سماعهم أن الله لا يستحيي من ضرب الأمثال بأي شيء كان، تستشرف نفوسهم على ما يترتب على ضربها من قبل المخاطبين بها، فكان هذا التفصيل بمثابة الإجابة على تساؤلهم.
ويستفاد ما ذكرته من التفصيل من أداته الموضوعة له وهي " أما " كما يستفاد منها التأكيد فإنها مقترنة به دائما مع التفصيل وعدمه، فقد يفارقها التفصيل ولكن لا يفارقها التأكيد، كما إذا أردت أن تؤكد اتصاف محمد بالعلم فقلت أما محمد فعالم؛ فهي هنا خالصة للتأكيد.
والحق من حق يحق إذا ثبت، ومنه قوله تعالى:
كذلك حقت كلمت ربك
[يونس: 33]، وأصله المطابقة والموافقة، وهو شرعا ما طابق حكم الله من قول أو فعل أو اعتقاد، فهو أعم من الصدق، لأن الصدق ينحصر في القول وحده، ويطلق على ذات الله سبحانه، كما في قوله:
ويعلمون أن الله هو الحق المبين
[النور: 25]، لأن معرفة الحق لا تكون إلا به، وحقيقته لا تصدر إلا عنه، ولأنه لا تصدر أفعاله إلا عن حكمة سواء علمها الناس أو جهلوها.
وعلم الذين آمنوا أن هذه الأمثال حق من عند ربهم يعني معرفتهم بأنها مطابقة للواقع والحكمة، وأنها صادرة عن الله سبحانه، فهي تزيد إيمانهم قوة، ويقينهم رسوخا، وفي هذا تنويه بهم أنهم أصحاب البصائر وأولو العلم، وتيئيس للذين يحاولون غرس بذور الشك في نفوسهم، ومن ناحية أخرى فإن في ذلك تنبيها على أن عقيدتهم قائمة على العلم، وليست تقليدية كعقائد الكفار التي ليس لها أساس من المعرفة، ولا تنبني إلا على التقليد الأعمى.
وفي قوله: { وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا } تسجيل عليهم بالغباوة والعناد، فقد غلب على عقولهم الهوى، واستولى على نفوسهم العناد، فمعرفتهم بالحق كعدمها من حيث إنهم لا يستفيدون منها شيئا، ولا يزدادون بها إلا عتوا واستكبارا، ولم يقل سبحانه فيهم وأما الذين كفروا فيجهلون أنه الحق من ربهم، فيقابل وصفهم بالجهل وصف المؤمنين بالعلم، لأنهم وإن كانوا لا ينتفعون بشيء من العلم، فهم ليسوا من الجهل بحيث تخفى عليهم حقيقة الأمر، بل هم مدركون أنه لا مطعن لطاعن في هذه الأمثال، فإنهم إن كانوا من كفار قريش فهم أعلى العرب كعبا في البلاغة، وأوسعهم ميدانا في الفصاحة، ولذلك كانت العرب في جاهليتها تحتكم إليهم في مساجلات بيانها شعرا ونثرا، وتقر لهم بإحرازهم القدح المعلى، وإن كانوا من اليهود فهم باحتكاكهم بالعرب - بحكم الجوار - استمدوا من فصاحتهم، ومرنت على العربية ألسنتهم، فصاروا كالعرب في التفريق بين جيد الكلام ورديئه، وإن كانوا من المنافقين فهم أيضا إما أن يكونوا منحدرين من سلالات عربية ذات عراقة في الفصاحة والبيان، وإما أن يكونوا منحدرين من السلالات اليهودية التي تعربت بجوارها للعرب.
وللمفسرين في الذين كفروا اختلاف بحسب هذه الأوجه التي ذكرتها، والكفر ينتظم هذه الطوائف الثلاث، فلا غموض في كفر مشركي العرب الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى، وكذلك كفر اليهود الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وقتلوا النبيين بغير حق، وكذبوا خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه، وحاولوا قتله، وبذلوا جهدهم في وقف دعوته وتشويه دينه، وأما المنافقون فهم وإن جرت عليهم أحكام الإسلام الظاهرية لتحليهم بمظاهر الإسلام فإن طواياهم طوايا الكفر، ولهم عند الله حكم الكافرين، فقد قال تعالى فيهم: { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا }.
وفي { ماذا } وجهان:
أولهما: أن تكون كلمة واحدة يراد بها الاستفهام، وعليه فهي مفعولة لأراد.
ثانيهما: أن تكون " ما " اسما دالا على الاستفهام، و " ذا " اسما موصولا؛ لما عهد أنها تكون موصولة بعد من وما الاستفهاميتين إذا كانت صلتها معلومة، وعليه فما مبتدأ والموصول خبره، و " أراد " وما بعدها صلة للموصول، ولا خلاف بين أئمة العربية - حسبما أعلم - في جواز هذين الوجهين في مثل هذا الموضع، وهذا الذي درج عليه المفسرون، ووهم ابن عطية فزعم أنهما قولان، وتابعه القرطبي والشوكاني في تفسيريهما، ونصوص أئمة العربية ترد عليهم، وفي { ماذا } أوجه أخرى لا داعي إلى ذكرها لضعفها.
وإرادة الشيء ضد كراهته، وهي مأخوذة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء، وجعلوها اسما لنزوع النفس إلى الشيء مع الحكم بأنه ينبغي فعله أو عدم فعله، وذكروا أنها في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وهي بحسب ما ذكروه مستحيلة على الله تعالى، ومن هنا احتيج إلى تعريف آخر للإرادة الربانية، وقد سلك علماء الكلام في ذلك طرائق قددا، والأسلم أن يقال " إن إرادته تعالى هي صفة ذاتية له تنتفي بها صفة الإكراه كما ينتفي بالحياة الموت، وبالقدرة العجز، وبالعلم الجهل، وتنشأ عنها أفعاله تعالى في الوجود " ، ولا يرد عليه كون أفعال غيره مرادة له سبحانه لأنها مخلوقة له تعالى، والخلق فعل له فهي ناشئة عن أفعاله الناشئة عن إرادته.
والإشارة هنا تفيد التحقير على حد قولهم فيما حكى الله عنهم:
أهذا الذي بعث الله رسولا
[الفرقان: 41]، ومثلا تمييز من هذا لأنه مبهم فيحق له التمييز، وجوز أن يكون حالا من اسم الجلالة أو من هذا على تأويله باسم الفاعل على الأول، وباسم المفعول على الثاني، أي ممثلا أو ممثلا به.
واختلف في قوله: { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } هل هو من مقول الله تعالى، أو من مقول الذين كفروا؟
والأول هو الأرجح نظرا إلى قوله من بعد { وما يضل به إلا الفاسقين } إذ ليس من المعقول أن يقول ذلك الكفار، وعليه فهاتان الجملتان مبنيتان على الجملتين المصدرتين بأما، لتفسير ما فيهما على طريقة النشر المعكوس، فإن الذين آمنوا هم المهديون، وقد تقدم ذكرهم هناك، وتأخر هنا، والعكس في الذين كفروا، وقيل: هما جواب للاستفهام في قولهم: { ماذآ أراد الله بهذا مثلا } فكأنهم أجيبوا أن الله سبحانه أراد به ازدياد هداية المؤمنين فيغنموا، وضلال الكافرين فيخسروا، وإنما ذكر المراد - وهو الهداية والإضلال - بدلا من الإرادة لأنه الغاية منها، ولم ير ابن عاشور جعله جوابا للاستفهام، لأنه ليس استفهاما حقيقيا بل هو إنكاري، ولا جواب لاستفهام الإنكار اللهم إلا أن يخرج الكلام على الأسلوب الحكيم بأن يحمل الاستفهام على ظاهره، تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن الحكمة في ذلك فيكون قوله: { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } جوابا عنه.
ووصف الله المهديين وغيرهم بالكثرة - مع أن الصالحين أقل من غيرهم في جميع العصور - وهو الذي تقتضيه المشاهدة، ويدل عليه قوله تعالى:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13]، وقوله:
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم
[ص: 24]، لأن كثرتهم معنوية وليست عددية، ولذلك أمر الله بادئ الأمر أن يثبت الواحد منهم للعشرة من أعدائهم، ثم خفف عنهم فأمرهم أن يثبتوا لضعف عددهم أو لأنهم كثيرون في حقيقتهم وإن كانوا قلة بالنسبة لأعدائهم، ومن أمثلة الوجه الأول قول الشاعر:
إن الكرام كثير في البلاد وإن
قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
وقول الآخر:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وبناء على رأي من يقول إن هاتين الجملتين من قول الكفار فهما داخلتان في ضمن ما استنكروه، ومعنى ذلك أنهم استنكروا ما في المثل من تفريق الناس إلى طائفتين ونسبة الهداية إلى طائفة والضلالة إلى أخرى.
وقد أبعد ابن عطية النجعة حيث أجاز أن يكون { يضل به كثيرا } من قول الذين كفروا، و { ويهدي به كثيرا } من قول الله ردا عليهم، واستبعد ذلك غيره من المفسرين، وما أحراه بالاستبعاد.
والباء في الموضعين للسببية، ومعنى كون المثل سببا للهداية والضلال أن أصحاب النفوس الصافية والفطرة السليمة لا يرون فيه ما يعاب ويستنكر فيتلقونه بالقبول ويدركون أبعاده، فإن كانوا على إيمان من قبل ازدادوا فيه رسوخا، وإن لم يكونوا على هدى فإنهم بتأملهم في الغاية المرادة من المثل ينجذبون إلى الهدى فيكونون في عداد المؤمنين، فهو على كلا الحالين سبب للهدى بالنظر إلى هذه الطائفة، وأما الذين في قلوبهم مرض فلا يكاد يقرع مسامعهم حتى تستنكره قلوبهم المأفونة، وترفضه عقولهم المريضة، فيزدادون به غيا إلى غيهم، ولذا كان سببا لضلالهم.
وتفسير المثل الذي ذكرته هو الذي عول عليه جمهور أهل التفسير، ولم أجد خلافا في ذلك عن أحد منهم إلا ما ذكره صاحب المنار عن بعضهم - ولم يسمه - وهو أن المثل في الآية ليس مثلا يقال بل هو مثل يحتذى، أي القدوة الذي يؤتم به ويهتدى بهديه، وعليه فالمراد بقولهم { بهذا } رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم استنكروا أن يرسله الله من بينهم إليهم وإلى الناس، لعدم تميزه عنهم بكونه من جنس آخر غير جنس البشر، كما يستفاد من قولهم فيما حكى الله عنهم:
أأنزل عليه الذكر من بيننا
[ص: 8]، وقولهم:
لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا
[الفرقان: 7]، وقد أيد صاحب المنار هذا التفسير للمثل بوروده بهذا المعنى في القرآن، في قوله تعالى:
فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين
[الزخرف: 56]، وقوله:
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون
[الزخرف: 57]، وقوله:
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل
[الزخرف: 59]، فمن هذه الآيات انتزع الشاهد بصحة تفسير المثل بالذي ذهب إليه، وحمل هذه الآية على دحض شبهة الذين أنكروا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاحيته لأن يكون مثلا يقتدى به، وهي أنه بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق - وهم مشركو العرب - والذين أنكروا أن يكون نبيا مع كونه عربيا - وهم اليهود -.
وقد أقام الله عليهم الحجة بقوله: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } ، وأتبعه بوعيد من أعرض عن الإيمان بعد قيام البرهان - وهم الكافرون - وبشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات - وهم المؤمنون - وبعد أن قرر عليهم حجته - وهي تحديهم بسورة من مثله - كر على شبهتهم بالنقض وهي استبعاد أن يكون بشرا رسولا من عنده.
ومحصل ذلك - على هذا التفسير - أن الله تعالى خالق كل شيء فله أن يجعل ما شاء من الفوائد والمنافع والعبر فيما يشاء من خلقه ومن يشاء، ويضربه مثلا للناس يهتدون به، وليس هذا نقصا في جانب الألوهية، فيستحيى منه، بل من الكمال والفضل أن يجعل في المخلوقات الضعيفة والمحتقرة في العرف كالبعوض فوائد ومنافع، فكيف يستنكر أن يجعل من الإنسان الكامل - الذي خلقه في أحسن تقويم ورفع قدره بما اختصه به من المزايا والتكريم - مثلا لأمته به يهتدون، وإماما لهم بهديه يقتدون؟
وبناء على هذا التوجيه في المثل فيراعى توجيه بقية معاني الألفاظ بما يتفق مع هذا المعنى؛ وهو أن الذين آمنوا يعلمون أن هذا الإمام أرادته عناية الله بأن يتبوأ هذه المنزلة مهما كان ضعيفا في نفسه، فإن الله هو الذي يعضده ببرهانه، ويمده بتوفيقه، وأما الكافرون فيستنكرون ذلك لأن غيره - في رأيهم - أجدر بهذه المنزلة.
وقفى صاحب المنار ما ذكره في تسويغ هذا الرأي وترجيحه بذكر أن أصحاب البصائر لا يفوتون الاستفادة الحاصلة من الإقتداء بالحيوانات في أعمالها، ومن ذلك أن أحد كبار الصوفية قال: " تعلمت المراقبة من القط " ، وأن بعض حكماء المسلمين قرأ كتابا نحوا من ثلاثين مرة فلم يفهمه فيئس منه، ثم رأى خنفسة تتسلق جدارا وتقع فعد عليها الوقوع فزاد على ثلاثين مرة ولم يصبها اليأس حتى تمكنت من مرادها، فقال: لن أرضى أن تكون هذه الخنفساء أثبت مني وأقوى عزيمة، فرجع إلى الكتاب فقرأه حتى فهمه، وذكر عن تيمور لنك أنه كان طموحا إلى الملك من أول نشأته مع ما كان عليه من الفقر والمهانة، وكان لصا، فسرق مرة غنما وفطن له الراعي فرماه بسهمين أصابا كتفه ورجله فعطلاهما، فآوى إلى خربة وأخذ يفكر في مهانته ويوبخ نفسه على طمعها في الملك، ولكنه رأى نملة تحمل تبنة وتصعد إلى السقف وعندما تبلغه تقع ثم تعود، وظلت على ذلك عامة الليل حتى نجحت في الصباح، فقال في نفسه: والله لا أرضى بأن أكون أضعف عزيمة وأقل ثباتا من هذه النملة، وأصر على عزمه حتى صار ملكا، وكان من أمره ما كان.
هذا معنى كلامه، وهو تفسير ذو رونق براق ولكن ما ثبت عن سلف هذه الأمة من سبب نزول الآية يخالفه، وقد روي ذلك في أسباب النزول عن جماعة من الصحابة؛ منهم إماما التفسير ابن مسعود وابن عباس، وتعاقب المفسرون على حمل المثل على ما تقتضيه الروايات، ولو كان المراد بالمثل ما ذهب إليه صاحب المنار لما كان للسلف جميعا أن يعدلوا عنه حتى لا يكون له وجود فيما أثر عنهم، ومع ذلك فليس احتماله ببعيد.
وأصل الفسق الخروج، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، ولذا سميت فويسقة، وأطلق في الشرع على الخروج عن أمر الله بارتكاب ما حظر أو ترك ما فرض، سواء كان خروجا يؤدي إلى الانسلاخ من الملة أم لا، وهذا الذي تدل عليه الآيات القرآنية نحو قوله تعالى:
وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون
[السجدة: 20]، فإن تكذيبهم بعذاب الله المدلول عليه بالنصوص القاطعة مخرج لهم عن ملة الإسلام، ومثله ما في هذه الآية بدليل أنها سيقت لوصف الذين يكفرون بما يضر به الله من الأمثال، وقد واطأ الفسق النفاق في قوله تعالى:
إن المنافقين هم الفاسقون
[التوبة: 67] وجاء مقابلا للإيمان في قوله سبحانه:
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا
[السجدة: 18]، وقوله
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22].
وخصته المعتزلة بما دون الشرك من الكبائر، وهو اصطلاح خاص بهم كالمنزلة بين المنزلتين وهي منزلة الفسق بين الإيمان والكفر، لأنهم لا يقولون بكفر النعمة، وأول من حد له هذا الحد منهم إمامهم واصل بن عطاء حسبما ذكر الزمخشري، ولا مشاحة في الاصطلاح غير أنه لا ينبغي أن يقصر مفهوم لفظ عما أطلقه فيه القرآن.
وإسناد الهدى والضلال إلى الله إسناد حقيقي، لأنه تعالى الخالق للضلال والهدى، خلافا للمعتزلة، ولذلك اضطروا إلى التأويل فعدوه من باب المجاز العقلي، فمن حيث إن الله تعالى هو ضارب المثل الذي ضل به قوم واهتدى به آخرون كان السبب لضلالهم وهداهم، فصح إسناد الفعلين إليه.
والنقض حل ما أبرم بطريقة معاكسة للإبرام، وأصله في المحسوس كنقض الحبل لفسخ فتله، ونقض الجدار لهدم بنائه، واستعمل في الأمور المعقولة كنقض العهود للجامع بين المحسوس والمعقول كالحبل والعهد فإن كلا منهما موصل بين طرفين، وفي استعارة النقض لترك العهد وعدم الاكتراث بميثاقه كما في هذه الآية الكريمة إيماء إلى أن الحبل يستعار للعهد، كما في قول مالك بن التيهان رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية: " إن بيننا وبين القوم حبالا وإنا لقاطعوها " فإن مراده بالحبال ما كان بينهم وبين غيرهم من العهود السابقة في الجاهلية، وبهذا تدرك أن الاستعارة هنا مرموز بها إلى استعارة مطوية لم تذكر في الكلام؛ ولكن يقتضيها المعنى.
والعهد يطلق على الإدراك، كعهدت فلانا بمعنى أدركته، ويطلق على الوصية كعهد إليه بكذا بمعنى وصاه، ويطلق على معان فيها ملاحظة التوثيق والربط، واختلف في المراد بعهد الله في هذه الآية قيل هو عهد فطري، وهو ما أودعه الله في فطرة كل إنسان من معرفة أن لهذا الكون مكونا، وقاهرا يدبره، وأن الإنسان مفتقر إلى الصلة بهذا الكون من طريق العبادة والطاعة والإذعان، فإذا ما عكس هذه الفطرة فهو ناقض لعهده تعالى، وقيل: هو ما أخذه الله على الأمم من طريق أنبيائهم من عهد الإيمان بالنبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام، وذلك قوله تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون
[آل عمران: 81 - 82].
وقيل: هو العهد المأخوذ على أهل الكتاب بأن يبينوا الحق ولا يكتموه؛ وهو المراد بقوله تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون
[آل عمران: 187]، وعلى ذلك فالمقصودون اليهود الذين كانوا يشككون الناس في القرآن وفي نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بما كانوا يلقونه من الشبه ويلفقونه من الأكاذيب، وقيل: العهود ثلاثة؛ عهد خاص بالنبيين ، وعهد خاص بالعلماء، وعهد لجميع الناس، فالأول هو المراد بقوله تعالى:
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا
[الأحزاب: 7]، والثاني هو المعنى بقوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } ، والثالث ما دل عليه قوله:
وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، وقيل: المراد في الآية هو هذا العهد البشري العام الذي أخذه الله على جميع بني آدم.
ولصاحب المنار في معنى العهد كلام خلاصته أن العهد هنا مجمل لم يسبقه ولم يتله ما يبينه، لأن الواقع هو الذي يكشف عن المراد به، وفي ذلك غنى عن التفصيل القولي، ويرشد إلى فهم العهد الإلهي هنا معنى الفسوق المتقدم بيانه، فإن الفاسقين هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وقد سبق أن الفسوق - على رأي صاحب المنار - هو الخروج عن سنن الله تعالى في خلقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وعن هداية الدين بالنسبة إلى الذين أوتوه خاصة، فعهد الله تعالى هو ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس للنظر والاعتبار، والتجربة والاختبار، أو العقل والحواس المرشدة إليها وهي عامة والحجة بها قائمة، على كل من وهب نعمة العقل، وبلغ سن الرشد سليم الحواس، ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالا صحيحا، حتى كأنهم فقدوها وخرجوا من حكمها، كما قال تعالى:
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون
[الأعراف: 179]، وكما قال فيهم أيضا:
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171]، هذا هو القسم الأول من العهد الإلهي وهو العام الشامل، والأساس للقسم الثاني الذي هو الدين، فالعهد فطري خلقي وديني شرعي، فالمشركون نقضوا الأول وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقه نقضوا الأول والثاني جميعا، ومن هذا النقض إنكارهم ضرب المثل.
هذا رأيه في العهد ونقضه وهو صادر عن فرط تقديره لمواهب الإنسان كالعقل والوجدان، ومأخذه قوي غير أني لا أجد داعيا إلى التفرقة بين العهد الفطري والعهد الديني، فالدين ما هو إلا توجيه إلهي لهذه الفطرة، ولذلك يأتلف معها ولا يختلف، وصدق الله
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم
[الروم: 30]، ومهما يكن فإن الدين هو الصلة بين الخلق وربهم، والعقل البشري لا يصدر عنه في الأحكام التعبدية وإن جاز استلهام بعض الحقائق منه فإن مصدر الأحكام وحي الله تعالى، لذلك أجنح إلى رأي من رأى أن المراد بالعهد دين الله سبحانه، وأن نقضه كل مخالفة له، وفي هذا ما يدل على عموم الذين كفروا، وشموله أهل الكتاب وغيرهم ممن كذب برسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وخرج عن دعوته، ولا داعي إلى التفريق بين أهل الكتاب والمشركين باعتبار الأولين ناقضين لعهدين والآخرين لعهد واحد، فإن حجة الله بما أبدع وما شرع قائمة على كلا الفريقين، ومع ذلك فإن أهل الكتاب أولى بالحفاظ على هذا العهد لتأكده عليهم بتكراره على ألسنة رسلهم، وقد حكى الله ذلك في قوله: { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله.. } (الآية)، وقوله بعدها: { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم.. } (الآية)، وقوله: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } ، وقوله:
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا
[المائدة: 12]، وغيرها من الآيات الدالة على أن بني إسرائيل كانوا أثقل حملا وأعظم مسئولية لتكرر النبوات فيهم، وتعدد المواثيق عليهم.
والميثاق إما مصدر كالميعاد والميلاد، وإما اسم مصدر بمعنى الوثق أو الإيثاق أو التوثيق، والمؤدى واحد، ويراد به توثيق عهد الله الذي جاءهم على ألسنة رسله بما أيد به الرسل من المعجزات، ويصح أن يكون ما بثه الله تعالى في هذا الكون من آياته الباهرة داخلا في هذا التوثيق لدلالته على وحدانية الله، وقدرته وإحسانه.
والأمر هنا واحد الأوامر لا الأمور، وهو طلب فعل من غيره تعالى، واشترط بعضهم علو الطالب، وآخرون استعلاءه ولم يشترط ذلك آخرون، ويخرج بقيد كون الطلب من غير الله الدعاء فإنه وإن اتفق مع الأمر في صيغة الطلب فلا يجوز أن يسمى أمرا لتعذر أن يكون المخلوق آمرا للخالق تعالى، ويطلق الأمر على واحد الأمور لأنها لا تكون إلا لداع وهو شبيه بالآمر، فلذا أطلق عليه المصدر من هذا اللفظ، وهو من باب إطلاق المصدر على المفعول فإنه مأمور به، ومثله الشأن لأنه مأخوذ من شأنت شأنه بمعنى قصدت قصده.
واختلف في المراد بقوله { مآ أمر الله به أن يوصل } قيل: هو الأرحام التي قطعوها، ورجحه ابن جرير ورواه عن قتادة، وقال به جماعة من العلماء، واستدلوا له بقوله تعالى:
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم
[القتال: 22]، وعليه فالمراد قطعهم صلة رحمهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بإيذائه وإلجائه إلى الهجرة، وهو مبني على أن المعنيين هم كفار قريش الذين لم يرعوا قرابته صلى الله عليه وسلم، أو قطع اليهود لأرحامهم كما يدل عليه قوله تعالى:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى..
[البقرة: 83] إلى قوله:
.. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم
[البقرة: 85]، أو قطع المنافقين لأولي القربى منهم من المؤمنين إذ لم يبالوا بالدس عليهم والمكر بهم، أو أن المراد ما يشمل كل ذلك.
وقيل هو التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه إذ آمنوا ببعض وكفروا ببعض، واستدل له بقوله تعالى فيهم:
ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا
[النساء: 150]، وعليه فهو خاص باليهود، وقيل: هو القول والعمل أمروا بوصلهما فقالوا ولم يعملوا، وعليه فهو خاص بالمنافقين.
وذهب السيد محمد رشيد رضا إلى أن الأمر هنا شامل لأمر التكوين وهو ما عليه الخلق من النظام والسنن المحكمة، لأن الله سمى التكوين أمرا حيث عبر عنه ب " كن " في قوله:
إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
[يس: 82]، وأمر التشريع وهو ما أوحاه إلى أنبيائه وأمر الناس بالأخذ به، ومن النوع الأول ترتيب النتائج على المقدمات، ووصل الأدلة بالمدلولات، وإفضاء الأسباب إلى المسببات ومعرفة المنافع والمضار بالغايات، فمن أنكر نبوة النبي بعد ما قام الدليل على صدقه أو أنكر سلطان الله على عباده بعد ما شهدت له به آثاره في خلقه، فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى التكوين الفطري، وكذلك من أنكر شيئا مما علم أنه جاء به الرسول لأنه إن كان من الأصول الاعتقادية ففيه القطع بين الدليل والمدلول، وإن كان من الأحكام العملية ففيه القطع بين المبادئ والغايات، لأن ما أمر به الدين قطعا فهو نافع، ومنفعته تثبتها التجربة والدليل، وكل ما نهى عنه حتما فلا بد أن تكون المضرة عاقبته، فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه هم الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل بغايته، أما بالنسبة إلى الإيمان بالله تعالى وبالنبوة فيقطعون ما أمر الله به في كتبه أمر تشريع وتكليف، وصلة الأرحام تدخل في كلا القسمين.
وذهب قطب الأئمة - رحمه الله تعالى - في التيسير إلى أن المقصود به هو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء وعدم التفرقة بين رسول وآخر، وكتاب وآخر، وأداء حق الرحم والمؤمنين، والجهاد وسائر الدين. قال: " وما ذكر من العموم أولى من تفسير { مآ أمر الله به } بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإطلاق (ما) عليه، ومن تفسيره بالقرآن أو الرحم ومن تفسيره بوصل القول بالعمل، ومن تفسيره بالأنبياء ".
وقال في الهيميان بعد حكايته الخلاف " والذي عندي أن المعنى أنهم يتركون ما أمر الله به أن لا يترك فيدخل فيه الإيمان بالأنبياء كلهم، والكتب، وصلة الرحم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وقراءة القرآن، ونحو ذلك من أحكام الدين، ووصل كل شيء من ذلك هو فعله، وقطعه هو تركه، وأما فعل المحرمات فداخل في قوله بعد ذلك { ويفسدون في الأرض } ، وإن شئت فقل يدخل في قوله: { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } ، فالوصلة بين المكلف والنهي عن المحرمات أن يتبع النهي فيترك المحرمات، فإذا طرح النهي وراء ظهره واقتحم المحرمات فقد قطعه ".
والتماس الترجيح في ذلك إنما يكون بالرجوع إلى طبيعة الإنسان والتأمل في علاقاته مع بني جنسه وغيرهم، فحياته حياة اجتماعية بحيث لا يمكن لأي فرد من أفراد نوعه أن يستقل في حياته بمنافعه ومصالحه، وبهذا يتضح أن ما أمر الله به أن يوصل يراد به كل علاقة بين شخص وآخر، أو بين فرد ومجموعة، فالعلاقات البشرية يجب أن تكون قائمة على أسس تعاليم الله عز وجل، ومراعاة هذه التعاليم هو وصل لها، والإنحراف عنها هو قطع لها، فتدخل في ذلك العلاقات بين الأصول والفروع، وهي صلات الآباء والأمهات من جهة بالأبناء والبنات من جهة أخرى، وما لكل من الجهتين من حقوق على غيرها، والعلاقات التي تكون بين شركاء الحياة وهم الأزواج والزوجات، وعلاقات الفروع الباسقة من دوحة واحدة، وهم الإخوة والأخوات، وعلاقات الجنس البشري، وعلاقة الإنسان بسائر الكائنات، فهي جميعا يجب وصلها حسب تعاليم الله سبحانه التي أنزلها في كتبه أو لقنها رسله فتلقيت عنهم، ويدل على شمول ذلك كله التعبير ب " ما " التي هي من صيغ العموم.
المعاصي تسبب الفساد العام:
واختلف في المراد بالإفساد في الأرض، ذهب فريق إلى أنه قطعهم الطرق على المهاجرين إلى الله ورسوله، وذهب آخرون إلى أنه مطلق ارتكاب المعاصي لأنها أعظم أسباب الفساد في الأرض، وأمحق لخيراتها، وأسحق لبركاتها:
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس
[الروم: 41]، فالمعصية لا تلبث أن تحول المنافع إلى مضار والمصالح إلى مفاسد خصوصا عندما تتفشى في أوساط الناس ولا تجد لها مقاوما، فلا تقف آثارها عند الراكبين لها بل تشمل الساكتين عنها، فيعم الجميع سخط الله المؤدي إلى هوان الدنيا وعذاب الآخرة والعياذ بالله، أولم تسمعوا إلى قوله تعالى:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون
[المائدة: 78 - 79].
وإن من أخطر المعاصي على الناس، وأعمها ضررا، وأشدها بلاء هجران الأمة لكتاب ربها الذي ينير لها البصائر، ويوضح لها المسالك، ويقف بها على أسباب الخير، ويبين لها أسباب الشر، فإن هذا الإعراض عنه واستبدال تعاليم الطاغوت بتعاليمه، وأحكامه بأحكامه هو أقطع المدى لأوصال الأمة، وأخطر الأسباب المؤدية بها إلى المهانة والذلة، وهذا الذي وقع فيه المسلمون عندما هجروا القرآن وصدقت عليهم شكوى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام:
يرب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا
[الفرقان: 30]، فما أحراهم بالخسران إلا إذا ارعووا عن غيهم وثابوا إلى رشدهم، وأنابوا إلى ربهم، وحطموا أغلال الجاهلية وقيودها، فصاروا بدينهم أحرارا أعزة. أسأل الله أن يكون ذلك قريبا.
وقوله { أولئك هم الخاسرون } بيان لعاقبة فسقهم ونقضهم العهد وقطعهم ما أمر الله بوصله وإفسادهم في الأرض، فإن مآل أمرهم خسران الدنيا والآخرة: { ذلك هو الخسران المبين } ، أما خسران الآخرة فبين، كيف وهم المحرومون من رضوان الله سبحانه ورحمته في جنة عرضها السماوات والأرض، وليس لهم في الآخرة إلا النار؟
وما أعظم خسارة من لم تسعه جنة عرضها السماوات والأرض وكان قراره في عذاب لا ينتهى في نار حامية ليست لأحد طاقة بعذابها، وأما في الدنيا فإنهم لا يبارحهم فيها القلق ولا يفارقهم الاضطراب، فلا يذوقون فيها طعم الطمأنينة ولا يعرفون راحة الإستقرار بخلاف المؤمنين المتقين المطمئنة قلوبهم بذكر الله:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28].
[2.28-29]
الآيتان مرتبطتان بما قبلهما ارتباطا وثيقا، وإنما جاء الكلام فيهما على أسلوب الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب، لما في مواجهة الذين كفروا - بعد تعداد مثالبهم وتقرير كفرهم - بالتوبيخ والتقريع على ما صدر منهم من الكفر مع توفر دواعي الايمان من أثر على نفوسهم، فإن للخطاب تأثيرا في نفس المخاطب أعمق وأبلغ من تأثير حديث الغيبة على الغائب، فلعل هذه النفوس المخاطبة تنزجر عن قبائحها وترتفع عن غيها، هذا بجانب الحكمة العامة في الإلتفات وهي تجديد النشاط بتطرية الكلام، ونقله من أسلوب إلى آخر.
وذهب ابن عاشور إلى أن الخطاب هنا للناس الذين خوطبوا من قبل بقوله: { ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } ، وعد الجمل من قوله: { وبشر الذين آمنوا.. } إلى قوله: {.. الخاسرون } معترضات بين هذا الخطاب، وأنكر أن يكون تناسب بين قوله هنا: { كيف تكفرون } وقوله من قبل: { إن الله لا يستحى.. } إلى آخره، وبنى عليه إنكار تخريج هذا الخطاب على أسلوب الإلتفات وإنما رأى الرابط بين الخطابين مناسبة اتحاد الغرض بعد استيفاء ما تخلل واعترض، وذكر من بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات اتحاد العلل التي قرن الله بها الأمر بعبادته في قوله: { ياأيها الناس اعبدوا ربكم.. } إلى آخره، وقرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر في قوله هنا: { كيف تكفرون بالله } حيث قال هناك: { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بنآء وأنزل من السمآء مآء.. } (الآية)، وقال هنا: { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السمآء.. } (الآية). وبالغ في إنكار أن يكون اليهود هم المخاطبين هنا نظرا إلى أنهم لم يكفروا بالله ولم ينكروا الإحياء الثاني، ولذلك رأى تعين أن يكون الخطاب للناس وهم قريش.
ولم يتضح لي وجه قوله، فإن عود الخطاب في قوله: { كيف تكفرون } إلى الناس المخاطبين في قوله: { ياأيها الناس } بعد العديد من الآيات التي خرجت عن الموضوع لا يتلاءم مع ما عهد من انسجام عبارات القرآن، وترتب كلماته وتناسب آياته، وما الداعي للمصير إليه مع إمكان خلافه، فإن التقريع موجه إلى الكفار في الآية بعد ما ذكر عنهم من إنكار ضرب المثل، والتسجيل عليهم بالفسوق، ووصفهم بنقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقطع الصلات التي أمر بها، والإفساد في الأرض، وكل من ذلك ناشئ عن كفرهم بالله واليوم الآخر، فكيف يستغرب إذا وبخوا بعد تعداد هذه المثالب على الكفر، أوليسوا هم المكذبين بما أنزل الله، والمناوئين لمن أرسل، والناكثين لعهده؟ وقد سجل عليهم بالكفر بصريح العبارة في قوله {.
. وأما الذين كفروا } ولا معنى لما يقوله ابن عاشور من أن اليهود لا يكفرون بالله ولا بالمعاد، وإني لأعجب كيف ينفي عنهم الكفر بالله مع وصفهم له سبحانه بما لا يليق بعظمة الربوبية وجلالها، وأي كفر أعظم من قولهم:
إن الله فقير ونحن أغنيآء
[آل عمران: 181]، وقولهم:
يد الله مغلولة
[المائدة: 64]، وقولهم:
نحن أبناء الله
[المائدة: 18]، وهم وإن آمنوا باليوم الآخر فإنهم يعتقدونه حسب تصوراتهم الخاطئة التي لا تتفق مع ما وصفه الله به، وقد قال الله فيهم:
قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور
[الممتحنة: 13].
وقد علمتم مما سبق أن الخطاب في { ياأيها الناس.. } موجه إلى عموم الطوائف الثلاث المذكورة من قبل، وهي المؤمنون والكفار والمنافقون، وهذا هو الذي درج عليه ابن عاشور نفسه، كما علمتم أن الصحيح أن المنكرين للمثل هم كل الذين كفروا بما أنزل الله، ولم يكن ذلك محصورا في اليهود كما ذهب إليه ابن عاشور، مستدلا بوصفهم أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه إلى آخره. لأن هذا الوصف ينطبق على جميع الكفار، فقد وصف الله به قريشا في سورة الرعد حيث قال:
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار
[الرعد: 25].
أما مناسبة اتحاد العلل التي اقترن بها الأمر بالعبادة في قوله: { ياأيها الناس } وإنكار ضدها وهو الكفر في قوله هنا { كيف تكفرون } فهي لا تدل على ترابط الخطابين لأن هذه العلل صالحة لأن يقرن بها كل كلام يدعو إلى العبادة والإيمان، أو يحذر من الكفر والعصيان.
و { كيف } موضوعة للإستفهام وهو طلب الفهم غير أنه هنا متعذر لأن العليم بخفيات الأمور ليس من شأنه الإستفهام، وإنما هي بمعنى الإنكار والتوبيخ والتعجيب، وذلك أن المنكر عندما يطلب الجواب من المنكر عليه في أمر بين فساده إنما يريد بذلك قطع عذره، وكثير من المفسرين تسامحوا فقالوا إنها هنا بمعنى التعجب، وحقيقة التعجب مستحيلة على الله تعالى لأنه لا ينشأ إلا عن الجهل، واللائق بالتأدب مع الله أن يقال إنها للتعجيب؛ أي لحمل السامعين على التعجب، اللهم إلا إن قصدوا بالتعجب التعجيب لما يكون أحيانا من التعاقب بين التفعل والتفعيل لما بينهما من رباط السببية.
والأصل في الإستفهام بكيف أن يكون عن الحال، وكذا إن استعملت في الإنكار ونحوه إلا أن إنكار الحال يقتضي إنكار ما تلبس بها بطريق البرهان، فالمنكر هنا نفس الكفر لأنه لا بد أن يكون على حال من الأحوال، وهو منكر على أي حال، لأن الدواعي متضافرة على خلافه، وقد سبق الحديث عنه وعن نقيضه - الإيمان - فلا داعي إلى التكرار.
نعم الله توجب شكره:
وقد أثير الاستغراب من كفر هؤلاء بالله تعالى مع تضافر الأدلة على وحدانيته، وتوفر الدواعي إلى شكره، وأبرز ذلك إخراج الإنسان من العدم إلى الوجود، ونقله من الموت إلى الحياة، فقد كان ميتا لأن عناصره كانت منبثة في طبقات الأرض الجامدة والسائلة والغازية، ثم أخذت تتدرج في الأطوار، وتتنقل إلى أن كون الله منها الغذاء الذي تكون منه الدم فحول الله منه ما يشاء إلى مني دافق يتدرج هو أيضا بعد استقراره في الرحم من طور إلى آخر حتى يخرج منه هذا الكائن الذي نفخ الله فيه من روحه، وأفاض عليه من نعمه، وأكمل حواسه ومشاعره، وبوأه - بما اختصه به من مزية العقل والعلم - مكان الخلافة في الأرض والسيادة في الكون، فإن تفكيره في أمره داع إلى الإيمان والشكر، فجدير بالإستغراب منه إخلاده إلى الكفر واتباعه مسالك الضلال، وهو معنى ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من الصحابة - رضوان الله عليهم - أنهم قالوا في تفسير الآية: { كنتم أمواتا } أي ترابا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم، فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه حياة أخرى.
وقالوا مثل ذلك في قوله تعالى: { ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } وهو مروي عن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني.
وإطلاق الموت على ما لم تسبق له الحياة قيل هو حقيقة، وقيل مجاز، وفرق آخرون بين ما كان من شأنه الحياة كالحيوان والنبات، وما كان بخلاف ذلك كالجماد، وعلى هذا الإختلاف يتخرج الاختلاف هنا. وللحكماء في تفسير الموت نظريات عول عليها بعض المفسرين، ولا أرى التعويل عليها لأن الله هو الذي خلق الموت والحياة، وهما من أسرار غيبه التي لم يعرفنا بها، ولم يكن قول الحكماء صادرا عن قواعد ثابتة، وإنما عولوا على مجرد أنظار تخطئ وتصيب.
واختلف في ترتيب هاتين الموتتين، وهاتين الحياتين، وقد علمت ما قاله المفسران الصحابيان الجليلان وتابعهما عليه جماعة من مفسري التابعين فمن بعدهم، وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم أن المراد بالإحياء الأول إخراجهم من ظهر آدم كأمثال الذر حين أخذه الميثاق منهم، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة - وهو كما قال ابن جرير - يلزمه تكرر كل من الإحياء والإماتة ثلاث مرات مع أن المنصوص عليه مرتان، وروي عن ابن عباس: كنتم أمواتا فأحياكم؛ أمواتا في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم، وذهب بعضهم إلى أن الموتة الأولى هي عبارة عن انفصال النطفة من أجسام الآباء لأن ما انفصل من حي فهو ميت، وذهب جماعة إلى أن الموت هنا عبارة عن الغفلة، والحياة هي النباهة بعدها، أي كنتم غافلين فنبهكم، وهو مردود لأمرين: أولهما أن المخاطبين لم ينفكوا عن غفلتهم ما داموا لم يبرحوا كفرهم.
ثانيهما: أنهم وعدوا بالإماتة والإحياء كرة أخرى، وهو شاهد على أن الحياة والموت المذكورين حسيان وليسا بعقليين، وقيل: إن الحياة الثانية هي حياة القبر عندما يحيى الميت لسؤال الملكين.
والصحيح من هذه الأقوال أولها، وهو الذي صححه كل من ابن جرير وابن كثير، وجنح إليه جم غفير من المفسرين، وهو لا ينافي سؤال الملكين في القبر، فإن تلك حياة تختلف عن التي سبقتها في الدنيا والتي تليها في الآخرة، كما لا ينافي ذلك تكرار الإحياء والإماتة في بعض الناس أكثر من ذلك كالسبعين الذين اصطحبهم موسى إلى الميقات، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فأماته الله مائة عام ثم بعثه، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، فإن الخطاب للعامة ولهؤلاء حكم خاص، ومن ناحية أخرى فإن هؤلاء كانوا قبل نزول الآية، والمخاطبون فيها هم المعاصرون لنزولها، والذين يأتون من بعدهم.
والعطف بالفاء في قوله { فأحياكم } لعدم الفاصل بين كونهم أمواتا وإحيائهم، أما العطف بثم بعد ذلك فللمهلة بين الإحياء والإماتة بعده، وبين الإماتة والإحياء الثاني.
والمراد بالرجوع إما الاجتماع في الموقف، أو الاستقرار في إحدى الدارين، لأن في كلا الأمرين رجوعا إلى الله تعالى، وكل ما ذكر هنا شاهد على عظمة الخالق وقدرته، وإحاطته بكل شيء، فهو حقيق بأن يعبد ولا يكفر، وأن يطاع ولا يعصى.
ولا يقال إن مشركي العرب كانوا ينكرون البعث، فكيف يحتج عليهم بما ينكرون لأن توفر الدلائل وقيام الشواهد - من خلق الناس أنفسهم وخلق الكون - على إمكان النشأة الثانية - إذ ليست أعجب من النشأة الأولى - كاف في دحض الشبه التي يتشبثون بها في إنكار البعث.
وجملة { كنتم أمواتا } حال من تكفرون، وقدر بعضهم " قد " قبلها لتسويغ حاليتها، ولم ير ذلك الزمخشري، لأن الواو لم تدخل على { كنتم أمواتا } وحده، وإنما دخلت عليه وعلى ما بعده إلى قوله: {.. ترجعون } كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وهذه قصتكم، ثم بحث في كون بعض القصة ماضيا وهو كونهم أمواتا وإحياؤهم، وبعضها مستقبلا، وهو إماتتهم وما بعده، والماضي والمستقبل منافيان للحالية، وأجاب بأن الإنكار عليهم إنما كان مع علمهم بهذه القصة، والعلم حالي ليس ماضيا ولا مستقبلا، ويكفي في كونهم عالمين وجود الدلائل على ما يتجاهلونه من ذلك بحيث تمكنهم أن لو أرادوا من الوصول إلى العلم.
ولا أرى داعيا إلى تقدير العلم، فإن كون هذه هي قصتهم أمر لا ينفكون عنه مع قطع النظر عن تقدم بعض القصة وتأخر بعضها.
الإنسان سيد الأكوان وخليفة في الأرض:
وبعد تقرير مبدأ الإنسان ومصيره، ينتقل السياق إلى بيان منزلته وإعلان قيمته في موازين الله تعالى، فهو بمقتضاها ليس عبدا للمادة، بل هو سيد لها، لأنها خلقت له وسخرت لمصالحه، ومن هنا تختلف قيمته في الإسلام عن قيمته بحسب معايير العالم المادي؛ شرقيه وغربيه، وبموجب نظاميه الرأسمالي والإشتراكي، إذ قيمته بحسب النظرة المادية قيمة هابطة ليس له فيها أدنى تكريم، كيف وعجلة تطوره مربوطة بالتطور المادي، فلا يقاس تقدمه أو تأخره، ولا رقيه أو انحطاطه إلا بالمقاييس الترابية المضطربة، فهو بموجب ذلك لا يختلف عن الآلات الصماء التي إذا استهلكت ألقيت مع الحطام والنفايات.
والإسلام في نظرته إلى الإنسان لا يختلف مع النظرة المادية إليه من هذه الناحية فحسب، بل يرفع قدره فوق ذلك كله؛ باعتباره خليفة في الأرض وسيدا في الكون، ولذلك خص بأن خلق الله له ما في الأرض وسخر له ما في الوجود، وذكر هذه النعم عليه في هاتين الآيتين هو توطئة لما تأتي به الآيات من بعدها من قصة هذا الاستخلاف.
وفصل هذه الآية عن التي قبلها إما لأنها أريد بها تأكيد ما تقدم، والتوكيد لا يعطف على المؤكد، وذلك باعتبار أن خلق ما في الأرض لهم هو إكمال لإيجادهم المعبر عنه ب { أحياكم } لضرورتهم إلى ما يكون مددا لهذه الحياة، وإما أن يكون امتنانا عليهم بالنعم لدمج التسجيل عليهم بكفر النعمة مع سرد الأدلة الداحضة لكفرهم بالله تعالى.
وقد سبق معنى الخلق وحمله بعض المفسرين هنا على التسخير، وهو الذي أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة، وأخرجاه مع عبدالرزاق وابن أبي حاتم عن مجاهد.
وخلق جميع ما في الأرض للناس، أي لينتفعوا به إما منفعة عاجلة وإما منفعة آجلة، ولله تعالى أسرار في تكوين الأشياء حتى التي تتبادر إلى الأذهان مضرتها؛ فإنها قد تنطوي على منافع تتكشف للناس ولو بعد حين، ولو لم تكن منها منفعة عاجلة فبحسبها منفعة ما يترتب على الاعتبار بها من تذكر عذاب الآخرة المؤدي إلى الإزدجار عن معاصي الله، والمسابقة إلى طاعته، وفي كل شيء عبرة لمن اعتبر، وموعظة لمن ادكر.
هذا وقد أخذت أسرار هذا البيان الإلهي تتجلى للناس حينا بعد آخر، إذ أخذت تتكشف لهم - مع التطورات العلمية - منافع جمة في مخلوقات شتى لم يكونوا يتصورون إلا مضرتها، فهذه الجراثيم أصبحت في عداد المنافع بعد أن كان الناس لا يتصورون منها نفعا، فقد استعين بها في كثير من ضرورات الحياة المعاصرة كاستخدامها وقودا للآلات، وإصلاحا للأغذية وهي - لا ريب - منافع هامة داخلة في عموم ما في الأرض، وقبل بضع سنين ألقيت في أحد المساجد درسا حول الجراثيم ومنافعها، واعتبرت هذه المنافع المكتشفة فيها من دلائل الإعجاز العلمي في القرآن بدخولها في مدلول هذه الآية الكريمة.
واستدل بهذه الآية على حكم مسألة مهمة شغلت بال الأصوليين والفقهاء، وهي الأصل في الانتفاع بالأشياء حسب ما يلائم طبيعتها، هل هو معدود قبل ورود الشرع في حكم المباح أو غيره؟ فالقائلون بالإباحة استندوا - فيما استندوا إليه - إلى هذه الآية الكريمة لأن الله لم يكن ليخلق الأشياء للناس ثم يعاقبهم على استعمالها فيما يتلاءم مع طبيعتها، وهذا هو الذي ذهب إليه جل أئمة المذهب، ونص عليه قطب الأئمة - رحمه الله - في تفسيريه الهيميان والتيسير، وبه قال الزمخشري والرازي والبيضاوي، ونسب إلى الشافعي وجماعة من الشافعية والحنفية، كما نسب إلى المعتزلة، وذهب آخرون إلى أن الأصل فيها الحظر حتى يرد الشرع بإباحتها، وعليه عول قطب الأئمة - حسب حفظي - في شرحه على شرح البدر الشماخي على مختصر العدل، ونسب إلى بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة، وذهب آخرون إلى الوقف، وهو المحكي عن أبي الحسن الأشعري وعن المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة حسب نقل ابن عرفة، وهو الذي يقتضيه كلام ابن العربي في أحكامه، والقرطبي في تفسيره.
وأصحاب القولين الأخيرين يرون أن الآية الكريمة لم ترد لتشريع حكم، وإنما نزلت للإمتنان وبيان تكريم الله تعالى للإنسان، وأنت تدري أن الإمتنان بما تعود مغبته بالمضرة على الممتن عليه لا يكون من الحكيم تعالى، لأن عقوبة الحرام لا يوازيها الإنتفاع به.
واستدل فريق من العلماء بالآية على تحريم أكل الطين لأن الله لم يقل أنه خلق لنا الأرض، بل قال: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض } وهو استدلال في منتهى السفسطة، فإن الخلق ليس هو لأجل الانتفاع بالأكل فقط، وإنما هو لأجل المنافع المتنوعة، فمن المخلوقات ما يكون صالحا للأكل، ومنها ما يكون صالحا للبس، ومنها ما يكون صالحا للتداوي، ومنها ما يكون صالحا للركوب، ومنها ما يصلح للبناء به، إلى غير ذلك من المنافع المتنوعة التي لا يكاد الإنسان يحصيها، ولو كانت المنافع محصورة في الأكل لما كانت نعمة في اللباس، ولا في الافتراش ولا في غيرهما، وهل يبني الناس مساكنهم، ويغرسون بساتينهم، ويحرثون زروعهم إلا على ظهر الأرض؟ أوليس في ذلك كله نعمة بها على الإنسان؟ وأعظم منه تهيئة الأرض لأن تكون قرارا للناس. والعجب من هؤلاء كيف يتصاممون ويتعامون عن قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فراشا }؟ وقد يكون الشيء نافعا في أمر ضارا في غيره؛ فتحل منفعته وتحرم مضرته، ويكفي من منفعة الطين كونه مادة البناء غالبا في كل العصور، أما تحريم أكله فهو بدلائل أخرى، وقد رويت فيه أحاديث، ومضرته كافية في التحريم.
وجوز الزمخشري أن يكون المراد بالأرض الجهة السفلية كما تطلق السماء على الجهة العلوية، فتدخل الكرة الأرضية نفسها فيما خلق للناس، ووافقه على ذلك جماعة، منهم أبو السعود، والألوسي، وقطب الأئمة، وصاحب المنار، واستبعده ابن عاشور من وجهين:
أحدهما: أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازا كما قال الشاعر:
الناس أرض بكل أرض
وأنت من فوقهم سماء
أما السماء فقد أطلقت على كل ما علا فأظل، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد، والسماء لا يتعقل إلا بكونه شيئا مرتفعا.
ثانيهما: لو سلم هذا القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا نفسها حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى، وإنما تطلق السماء على شيء عال.
والذي دعاهم إلى هذا التأويل حرصهم على اعتبار الأرض مما خلق للناس، وأنتم تدرون أن ما فيها كله إذا كان مخلوقا لهم فأحرى أن تكون الأرض كذلك لأن المظروف لا يستقل عن ظرفه، وفي هذا غنى عن قول من قال إن كل جزء من الأرض هو معدود مما فيها، فتكون ذات الأرض داخلة في عموم " ما " ، وقول آخرين: " إن الامتنان بخلق الأرض سابق في قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فراشا } ، والامتنان هنا إنما هو بخلق محتوياتها من منافع الناس فيها.
والتعبير بما في الأرض يصدق على ما كان فوقها من الأشجار والتراب والأحجار والبحار والأنهار، وعلى ما كان داخل بطنها سواء كان من الجوامد كأنواع المعادن، أو من السوائل كالنفط، كما تدخل في ذلك أنواع الغاز، فهي جميعها مخلوقة لمنافع البشر، ومهيأة للانتفاع بها.
ولم يقف تكريم الله لهذا الإنسان عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى تسخير منافع الكون لأجله، كما يدل عليه قوله تعالى:
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه
[الجاثية: 13]، وإذا كان كتاب ربنا الذي بأيدي المسلمين ينادي بهذا التكريم، ويعلن هذا الإمتنان، فإن المسلمين - وهم أبناء هذا القرآن - أحق الناس بتقبل هذا التكريم، وذلك باستغلال هذه المنافع واستخدامها في طاعة الله مستشعرين نعمة الله عليهم، وهذا لا يتم إلا بوسائل العلم، لذلك كانت دراسة العلوم المؤدية إلى استغلال ثروات الطبيعة فرضا كفائيا على المسلمين، لما يترتب عليها من قوام شأن الأمة الإسلامية، واستغنائها عن الآخرين، واستغلالها في أمورها المعاشية، وإنما انحراف الأمة عن طريق القرآن واستهانتهم بهذا الواجب هو الذي أدى بهم إلى التفريط وما تبعه من الذل والهوان، ولو أنهم أخذوا بتعاليم دينهم ومراشد كتابهم لكانوا أسبق الأمم في ميادين العلم والعمل.
ودخول ما ذكرته من منافع الأرض في مدلول الآية حاصل من لفظة " ما " لأنها من أدوات العموم كما تقرر في الأصول.
وأصل الإستواء الاستقامة، وهو مطاوع للتسوية، يقال سواه فاستوى، وأطلق على القصد إلى الشيء بسرعة كأنه يسير إليه من غير أن ينحرف أو يلوي على أمر، وهو إطلاق مجازي ، واستواء الله إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها وتسويتها، و " إلى " قرينة التجوز.
وقد عرضت هنا مشكلة لعلماء التفسير؛ وهي ما يدل عليه ظاهر هذه الآية وظاهر قوله تعالى في سورة فصلت:
قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا..
[فصلت: 9] إلى قوله:
.. ثم استوى إلى السمآء وهي دخان
[فصلت: 11]، من أن خلق الأرض سابق على خلق السماء، بينما يدل ظاهر قوله في النازعات:
أأنتم أشد خلقا أم السمآء..
[النازعات: 27] إلى قوله:
.. والأرض بعد ذلك دحاها
[النازعات: 30]، على سبق خلق السماء على خلق الأرض، فلذا احتاجوا إلى الجمع بين هذين الظاهرين، وقد اختلفوا في طريقة الجمع، فذهب فريق إلى أن الأرض مخلوقة قبل السماء، وسويت السماوات من بعدها، غير أن دحي الأرض متأخر على خلق السماوات، وذلك أنها عندما خلقت قبل السماوات لم تكن مدحوة صالحة للإستقرار عليها حتى تم ذلك بعد تسوية السماوات السبع، وذهب فريق آخر إلى عدم القبلية والبعدية على تقدم الزمان أو تأخره، وإنما هما حسب التفاوت المعنوي المشبه بالبعد المكاني أو الزماني، ومنه قوله تعالى:
ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشآء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم
[القلم: 10 - 13]، فإن كونه عتلا وزنيما أسبق وجودا مما تقدمهما من الصفات، وقد ذكر إثر كلمة بعد لأجل لفت الانتباه إلى معناهما، ونحوه قوله سبحانه:
فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير
[التحريم: 4]، وهذا يأتي فيما يستدعي استحضاره ودرك أبعاده استجماع الفكر، فكأن الفكر يقطع مسافة من المعنى السابق إليه لما بينهما من التفاوت كما علمت، ونحوه في العطف بثم، فإنها في الأصل موضوعة للمهلة الزمنية غير أنها تستخدم في المهلة المعنوية للتفاوت الرتبي بين المعطوف بها والمعطوف عليه، فكأن العقل يتمهل في الانتقال من المعنى السابق إلى المعنى اللاحق، ولا يراعى في ذلك الترتيب الزمني، فقد يكون المعطوف أسبق زمنا من المعطوف عليه، ومنه قوله تعالى: { فلا اقتحم العقبة ومآ أدراك ما العقبة فك رقبة.. } إلى قوله : {.. ثم كان من الذين آمنوا.. } (الآية)، وهو يقتضي أن المعطوف آكد وأهم مما تقدمه، وهذا شائع في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد:
جنوح رفاق عندل ثم أفرعت
لها كتفاها في معالى مصعد
وقول الآخر:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة
يرى غمرات الموت ثم يزورها
ويسمى هذا بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار، ولأجل شيوعه صار كالحقيقة حتى قال من قال بأنه هو الأصل في عطف الجمل بثم، ومن الذين اعتمدوا على هذه القاعدة في الجمع بين ظواهر هذه الآيات المذكورة الإمام ابن عاشور، وقد أطال في تحريرها وإيضاح مبهمها، وتفصيل مجملها بما لم يسبق إليه، ومن يرد إحراز هذه الفوائد فليرجع إلى تفسيره.
وبالجملة فإن العطف بثم في هذه الآية إما لأن المعطوف عليه أجدر بعناية السامع، فإن تسوية السماوات على عظمها أعظم من خلق الأرض، فإنها لو قيست بسعة الفضاء الفسيح وما يسبح في خضمه من الأجرام الهائلة لما كانت إلا كالذرة المهينة العائمة في عباب الهواء، وإما للانتقال من التذكير بنعمة معلومة بدهيا، وآية شاهدة للعيان، وهي خلق الأرض لنا إلى نعمة وآية يحتاج العقل إلى التدبر فيها حتى يدرك قبح الكفر بالخالق العظيم، فإن الإنسان يدرك بدون أي تفكير حاجته إلى الأرض واضطراره إلى ما أوجد فيها من المنافع لقوام حياته وسد ضروراته، أما ضرورته إلى ما في الكون الأعلى من مخلوقات الله فتتوقف معرفته بها على الإمعان والنظر حتى يتوصل إلى إدراك الإرتباط بين الأجرام الفضائية وبين الأرض التي هي قراره بسنة الجاذبية التي جعلها الله تعالى سببا للاستقرار على هذه الأرض وإمكان الحياة فيها.
ومما يؤكد أن " ثم " هنا لا تدل على المهلة الزمنية - حتى يستدل بالآية على أن الأرض مخلوقة قبل السماء - عدم عطف خلق السماوات على خلق الأرض، وإنما عطفت خلق السماوات على خلق ما في الأرض، ومن المعلوم أن خلق المنافع الأرضية يتجدد دائما ولا يتوقف في وقت من الأوقات، فمن الضرورة أن يكون خلقها مسبوقا بخلق السماوات، وإن قيل بتقدم خلق الأرض قبل خلق السماوات.
والذي أختاره عدم الجزم بشيء في ذلك أو ترجيح رأي على آخر لعدم توفر دليل سمعي على صحة أي رأي - كما علمت - أما النظريات الحديثة فلا وجه للإستناد عليها في مثل هذه الأمور لما يعتريها من الاضطراب، ويدخل عليها من التناسخ حتى لم تعد منها نظرية مستقرة، وإنما بإمكاننا أن نقول إن الأرض والأجرام السماوية كانت متصلا بعضها ببعض حتى تم الانفصال بينها؛ كما يدل عليه قوله تعالى:
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما
[الأنبياء: 30]، ولا أستطيع أن أقول إن الأرض انفصلت عن الشمس ذاتها أو عن المجموعة الشمسية ثم تقلبت في مدرجات الأطوار حتى وصلت إلى وضعها الحالي، لأن هذه النظرية معارضة بغيرها، وهي أن هذه الأجرام كانت كلها سديما ثم انفصلت وتطورت حتى استقرت على ما هي عليه، ولعل هذه النظرية أقرب إلى مدلول قول الله تعالى { وهي دخان }.
وقد أجاد الأستاذ الشهيد سيد قطب في قوله: " ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء، يتحدثون عن القبلية والبعدية، ويتحدثون عن الاستواء والتسوية، وينسون أن قبل وبعد اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى، وينسون أن الإستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود ولا يزيدان، وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية، وللعقلية الإسلامية الناصعة، وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام ".
والسماء مأخوذ من السمو بمعنى الإرتفاع، ولذا يطلق على كل مرتفع، وقد مر ذلك، وإذا أريد به الجنس فهو السماوات السبع، ولذا جاز عود الضمير إليه مجموعا عند بعض المفسرين في قوله: { فسواهن } ، وقال بعضهم هو اسم جنس جمعي واحده سماءة، وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالسماء هنا جهة العلو، وأن الضمير مبهم فسره من بعد سبع سماوات، كما يقال ربه رجلا، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك ليس من المواضع التي يجوز فيها عود الضمير على المتأخر، وقال فريق بأن سبع حال من الضمير، وذهب آخرون إلى أنه تمييز.
والذي يتجه لي أن { سبع سماوات } مفعول ثان لسوى، والضمير راجع إلى السماء، وإنما جمع لرعاية ما تبعه من الجمع المخبر به عن مرجع الضمير، كما في قول امرئ القيس:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة
فيالك من نعمى تحولن أبؤسا
والقول بانتصاب سبع على الحالية هو أضعف الأقوال؛ لأن الحال لا تكون إلا مشتقة أو مؤولة بمشتق.
وقد أخبر الله في هذه الآية - وفي كثير من الآي - أن السماوات سبع، ولا محيص لنا عن التسليم لما أخبر به العليم الخبير، غير أن من شأن الإنسان حب الإطلاع، واكتناه ما لم يصل إليه علمه، فلذا أطلق المفسرون لأفكارهم العنان في البحث عن المراد بالسماوات السبع، وقد هاموا في ذلك، وكثير منهم عول على أكاذيب أهل الكتاب فجاءت كتب التفسير مشحونة بما يجب أن ينزه كلام الله عن تبيانه به، خصوصا بعد اتضاح الدلائل وقيام الشواهد على كذب تلك الروايات التي عولوا عليها، والمرتبطون منهم بعلم الفلك - في القديم والحديث - فسروا السماوات السبع بما وصلوا إليه من علم الهيئة الكونية، وياللأسف فإنهم ضيعوا مدلولها بما لا يتفق مع مراد الله سبحانه من بيان آياته للناس في عظائم مخلوقاته، فنجد المتقدمين منهم زعموا أن المراد بالسماء الأولى القمر، وبالثانية عطارد، وبالثالثة الزهرة، وبالرابعة الشمس، وبالخامسة المريخ، وبالسادسة المشترى، وبالسابعة زحل، ويفهم من ذلك أنهم يعنون أن السماوات هي المجموعة الشمسية، ومن حيث إن بعض هذه المجموعة لم يكن منكشفا لهم، وما عرفوه منها لم يصل إلى هذا العدد ضموا إليها القمر - وهو تابع للأرض - وضموا إليها الشمس نفسها لتكون سبعا، وممن نحا هذا المنحى الفخر الرازي، وقد أطال في الاستدلال لهذا القول بما كان معروفا عند علماء الهيأة في عصره.
ونجد المتأخرين يوافقون أسلافهم في تفسير السماوات بالمجموعة الشمسية السيارة غير أنهم يخالفونهم في عد الشمس والقمر منها، أما القمر فمن حيث كونه تابعا للأرض وليس مستقلا، وأما الشمس فلأجل كونها المركز الذي تدور حوله المجموعة، وعوضوا عنهما السيارين المكتشفين من بعد؛ وهما أورانوس ونبتون، وعدوا اكتشافهما بعد اثني عشر قرنا من نزول القرآن من معالم إعجازه حيث عد السماوات سبعا، ولاحظ بعضهم وصف السماء الدنيا في القرآن بأنها مزينة بمصابيح، وذلك في قوله تعالى:
ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح
[الملك: 5]، ومثله قوله:
إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب
[الصافات: 6]، فحمل ذلك على المجموعة التابعة لأقرب سيار من الأرض - وهو عطارد - وهذا يعني أن السماوات هي هذه السيارات مع مجاميعها التابعة لها، والمتقدمون والمتأخرون متفقون على إخراج الأرض من هذا العدد، وذلك لأن المخاطبين مستقرون عليها، ومنها ينظرون إلى بقية السيارات.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالسماوات السبع السبعة الأفلاك، ورد بأنها خطوط فرضية تجري فيها السيارات، وليست لها حقيقة قائمة.
وأرى هذه الأقوال كلها ليست في شيء من الصواب، وإنما أجنح إلى التعويل في معرفة السماوات على مدلول لفظها اللغوي، وما تحقق اكتشافه بالوسائل العلمية، فالسماء لغة كل عال، وقد ثبت علميا أن المجموعة الشمسية ليست إلا واحدة من المجاميع التي لا تحصى في هذه المجرة التي تنتسب إليها هذه المجموعة، ويقدر قطر هذه المجرة بمائة ألف سنة ضوئية، وهي واحدة من سبع عشرة مجرة متآخية يقدر قطرها بمليوني سنة ضوئية، وهي تشتمل على ما لا يحصى عددا من الأجرام الفلكية، وإنما يقدر بالتعادل النسبي مع ما في كل المجرات مائة مليار نجم في كل مجرة، وجميع المجرات المكتشفة إلى الآن خمسمائة مليون مجرة مضروبة في خمسين ألف مليار من الملايين - وقد سبق ذلك في الإعجاز العلمي - فيبعد جدا أن ينوه القرآن دائما بالمجموعة الشمسية وحدها دون سائر ما في هذا الكون الفسيح لا سيما وأن مجموعتنا الشمسية - بما فيها الأرض - مرتبطة ارتباطا وثيقا بسائر الأجرام الفلكية في جميع المجرات برباط الجاذبية التي تتوقف على الدقة المحكمة في مقاييس هذه الأجرام بحسب أحجامها وحركاتها وطبائعها، وفي كل ذلك نعم جلى من الله أسبغها على هذا الإنسان المستخلف في الأرض.
ومن المعلوم أن خطاب القرآن ليس قاصرا على جيل معين، بل هو موجه إلى جميع الأجيال المتعاقبة على عمارة الأرض منذ نزوله مع اختلاف أطوارها العلمية، وقد علم الله أنه سيكشف لعباده هذه الأسرار الكونية، بل وعدهم بذلك في كتابه وجعله من دلائل كونه الحق، وذلك في قوله:
قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 52 - 53]، كما أشار إلى انطواء القرآن على أسرار الكون في قوله:
قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض
[الفرقان: 6]، فليس من المعقول مع ذلك كله أن يسكت القرآن عما عدا المجموعة الشمسية
من هنا يتضح أن السماء كل ما كان أعلانا من الفضاء المشتمل على هذه المجرات الهائلة التي تعوم فيها هذه الأجرام، وعلينا أن نؤمن بأنها سبع طباق كما أخبرنا تعالى، ولا يلزم أن نكون محيطين بكيفية انقسامها إلى سبع، فإن ذلك مما لم يجعله الله تعالى في حيطة علم الناس، اللهم إلا أن يخص به أحدا من رسله المصطفين الأخيار، على أني لا أستبعد أن تكون هذه المجرات المذكورة - مع كل ما فيها من أجرام - هي في طبقة السماء الدنيا، وأن تكون نجومها هي المرادة بالمصابيح في قوله تعالى: { ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح } ، وبالكواكب في قوله: { إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب }.
فإن قيل ما للأرض وذكرها بجانب السماوات إن كانت السماوات كما وصفت من العظم؟ فإن الأرض لا تعد بجانبها إلا شيئا تافها. كيف وقد قيل إن الشمس أكبر منها بنحو مليون ضعف، وفي النجوم ما هو أكبر من الشمس بأضعاف مضاعفة؟
فالجواب أن الأرض ليست شيئا تافها لأنها مركز استقرار الإنسان الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وفوق ذلك فهي مقر النبوات، ومهبط الرسالات ، فلا غرو إن حصلت لها هذه العناية في كلام الله، ومن ناحية أخرى فإن القرآن إنما يخاطب البشر، فلا ينبغي أن يخلو من تذكيرهم بنعمة الله تعالى عليهم بها وبما فيها، وفتح أبصارهم على آياته العظام التي تتجلى في كل شيء منها أو عليها، كيف وهي أول ما يفتحون عليه أبصارهم من آياته تعالى.
وذهب بعض المفسرين إلى أنه لا مفهوم للعدد وأن المقصود بالسبع المبالغة، وهو تفسير مرفوض تأباه شواهد القرآن في وصف السماوات.
بدائع الكون دليل القدرة والعلم:
وبما أن هذا الخلق البديع وترتيبه المحكم دليل قاطع على الصانع الخبير الذي نظم دقائقه بما يتلاءم مع الحكمة البالغة، ذيلت هذه الآية بقوله سبحانه: { وهو بكل شيء عليم } ، ولفظة شيء هي أعم العمومات لإطلاقها على كل ما يخبر عنه كما قال سيبويه وغيره، وما أدل هذا الكون الفسيح، ونظامه الرتيب، وجماله الباهر على علم موجده بكل شيء، وقدرته على ما يشاء، وما على الإنسان - وهو جزء من هذا الكون - إلا أن يقرأ في صفحات هذا الوجود آيات الله الناطقة بإحاطة علمه وسعة قدرته، وعظم شأنه، وجلال سلطانه، لا إله إلا هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، منه المبدأ وإليه الرجعى وله الحمد في الآخرة والأولى، سبحانه عما يقول الظالمون، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
[2.30]
في هذه الآية وما بعدها يحكي الله سبحانه وتعالى لنا قصة خلق الإنسان ليتحمل أمانة الله على عاتقه. وتبدأ هذه القصة بإعلان منزلة هذا الكائن من مخلوقات الله في الملأ الأعلى، والقرآن ليس كتابا تاريخيا يعني بسرد أحداث التاريخ وقضاياه، كما أنه ليس كتاب هندسة، ولا كتاب طب وما إلى ذلك، وإنما هو كتاب رسالة إلهية موجهة إلى الفطرة الإنسانية، وفي إطار هذه الرسالة تلتقي الدعوة إلى الله مع التعليم والتشريع، والأمر والنهي، والوعظ والإرشاد، والترغيب والترهيب، ولذلك فإنه عندما يتعرض للتاريخ أو لأي ناحية أخرى يكون تعرضه بقدر ما يعزز جانب هذه الرسالة ويجلي برهانها كما تجد ذلك واضحا فيما يقصه من أنباء النبوات وأحوال الأمم، وأحداث الزمن، ولم تأت فيه قصة لقصد التسلية أو الفكاهة، فهو أرفع شأنا من ذلك، وأجل قدرا، وقد أخبر الله جل شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم أن قصص القرآن هو أحسن القصص كما أن حديثه هو أصدق الحديث في قوله:
نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين
[يوسف: 3].
وقد يتبادر لقارئ القرآن أول مرة عندما يجد القصة الواحدة مذكورة في العديد من السور أن ذلك تكرار، ولكن إذا عاد إلى السور ومحتوياتها، ومقاصدها، والمعروض من القصة فيها، وأسلوب العرض، أدرك أن ذلك بعيد عن التكرار. فإن السورة لا تعرض القصص بطريق السرد كما هو شأن القصاصين، وإنما تأتي منها بقدر ما يخدم الموضوع الذي ذكرت خلاله القصة، وبحسب ما يتلاءم مع هذا الجو، فقصة موسى عليه السلام مثلا عرضت في سور شتى ولكن هذا العرض لم يأت على وتيرة واحدة، فتجدها تارة مطولة، وتارة مختصرة، وفي كل مرة يتميز العرض بفوائد شتى من جوانب القصة نفسها، ومن جانب العبر والعظات التي تمليها، وإذا علمت أن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة واجه فيها تحديات المشركين العرب ومكر أهل الكتاب، ودسائس المنافقين، ومؤامرات الشعوب المختلفة أدركت السر في تعدد المقامات التي تستوجب ذكر القصة الواحدة إما للتذكير وإما لتفنيد المزاعم أو لغير ذلك من الأغراض.
وجميع القصص القرآنية تحكي أحداثا واقعة، وأحوالا متقدمة، وليست مسوقة لغرض التمثيل فحسب - كما يجنح إلى ذلك بعض المتأخرين - فإن باب التمثيل معروف، وعندما يأتي في القرآن يأتي مقرونا بالقرائن اللفظية الدالة على قصده لتعميق المفاهيم في النفس، وترسيخ المعاني في الأذهان، فإن النفس - كما سبق - هي للمحسوس أألف وبماهيته أعلم.
ولا توجد وثيقة تاريخية بشرية تحكي قصة بداية خلق الإنسان، وتمكينه في الأرض، ولذلك كان الذين يعتمدون على أنفسهم في استلهام ذلك متخبطين في متاهات حائرة سالكين طرائق قددا، لم تقم على مزاعمهم حجة، ولم تعززها قرينة، بل كثيرا ما يكشف الواقع العلمي عكس ما يقولون، وإنما المستند في ذلك إلى خبر الله تعالى الذي خلق الإنسان فسواه، ومن عليه فأعطاه، وهو العليم بكل شيء.
مظاهر تكريم الله للإنسان
وطبيعة هذا الكائن وفطرته مغايرتان لطبائع وفطر جميع المخلوقات الأرضية وغيرها، فقد اختصه الله بمزايا متنوعة وفواضل مختلفة، ويشير إليها قوله تعالى:
ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
[الإسراء: 70].
ومن مظاهر هذا التكريم وأنواع هذه المزايا اختصاص الإنسان بقدرات متنوعة وملكات مختلفة هيأته للسيادة في الأرض ومكنته مما فيها من أنواع مخلوقات الله تعالى، ومن المعلوم أن من الحيوانات الأرضية ما هو أطول عمرا من الإنسان، وأقوى جسما، وأعظم حجما، وأكثر إقداما، غير أنها لم تستطع أن تسخره كما سخرها، وأن تنال منه ما نال منها، فقد سخر هو الفيل وغيره من الحيوانات الضخمة الجريئة، واستخدمها في مصالحه، وانتفاع أي حيوان بالأرض وما فيها انتفاع نسبي محدود بينما انتفاع الإنسان مطلق لا حدود له فهو ينتفع بالحيوانات البرية والبحرية، والنباتات المختلفة، والجمادات المتنوعة، والمعادن التي لا تحصى انتفاعا متنوعا، بحيث يستخدم الشيء الواحد في مصالح شتى.
ومن مظاهر هذا التكريم أيضا سنة التطور التي اختص الله بها الجنس البشري دون غيره، فسائر المخلوقات - وإن تعاقبت عليها القرون وتوالت عليها الأحقاب - لا تتبدل أحوالها ولا تتغير أوضاعها، بخلاف الناس الذين أودع الله سبحانه وتعالى في طبائعهم ملكات التطور حتى صاروا ينتقلون من وضع إلى غيره ويرتقون من حال إلى أخرى كما هو ظاهر في حياة الناس الفكرية، والإدارية، والصناعية، وغيرها... فقد كان الناس يستخدمون في أسفارهم الدواب وأرماث البحر إذا أرادوا أن يريحوا أقدامهم من جهد السير، وكواهلهم من عناء الحمل، ويكلفهم ذلك جهدا جسميا، كما ينتهب منهم جانبا من أعمارهم، ثم أخذوا ينتقلون من طور إلى آخر حتى بلغوا الآن في طي المسافات واختصار مراحل الأسفار إلى الاستغناء ببضع ساعات فيما كان يكلفهم شهورا وأعواما حتى ليظن الظان أنهم طويت لهم الأرض وزوى لهم الفضاء، وقس على بقية مطالب الحياة، وقل مثل ذلك في الانتفاع بما أودع الله تعالى هذه الأرض من مصالح لناس لم تكتشفها إلا الأجيال المتأخرة بفضل ما آتاهم الله تعالى من علم، فكم من معدن يعد في وقتنا هذا من أكبر الثروات وأنفس المنتوجات لم يكن يزن شيئا في عهود الآباء والأجداد، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الله سبحانه هيأ هذا الإنسان لمنصب كبير لا يرقى إليه غيره، وهو الخلافة في الأرض كما تقص علينا هذه الآية الكريمة.
وبجانب هذا التكريم الإلهي لهذا الكائن البشري فإن الله ابتلاه بنقص ذاتي لئلا يذهب به الغرور إلى أنه أوتي ما أوتي باستحقاقه، وأنه مستغن بذاته عن غيره، ومن مظاهر هذا النقص الضعف الجسمي، فإن كل ما يصيبه يؤلمه أكثر من إيلام غيره من المخلوقات الحية، وجسده أضعف من أجساد الحيوانات في احتمال حرارة الصيف وبرودة الشتاء.
ومن مظاهر نقصه ضرورته إلى النظافة والزينة، فهو دائم بحاجة إلى الماء للاستنجاء والاستحمام، وإلى السواك وإزالة التفث عنه، فلو لم يستنج ويستحم لنتن، ولو لم يستك لبخر، ولو لم يلق التفث عنه لتشوه، كما أنه بحاجة إلى ما يستر سوأته من اللباس، وبدون ذلك يكون أقبح منظرا وأسوأ حالة من أي حيوان، وهو أيضا بحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الشر من السلاح، بينما بقية الحيوانات جعل الله لها في نفسها وسائل للدفاع تقاوم بها عدوها.
والمولود البشري يمر بمراحل متطاولة حتى تكتمل قواه بخلاف المولود من الحيوانات فإنه سرعان ما يصل إلى غايته من القوة، ولذلك كان المولود البشري بحاجة زائدة إلى عناية بالغة ممن يقوم بتربيته، وثم كثير من النواقص المختلفة يكتشفها الإنسان في نفسه إذا أمعن النظر فيها، وحسبنا أن الله سبحانه قال فيه:
وخلق الإنسان ضعيفا
[النساء: 28].
ومن الظواهر الغريبة في الجنس البشري التفاوت الذي لا يحد بمقياس بين أفراده وهي ظاهرة إن وجدت في غيره فهي نسبية، فبينما ترى إنسانا لا ترتفع همته فوق موطئ قدميه شبرا واحدا إذا بآخر تعلو هممه حتى تسبح مع النجوم في أفلاكها، وبينما تشاهد جماعات من الناس هم أشبه ما يكونون بالحشرات المؤذية والزواحف السامة، إذا بك ترى آخرين كأنما هم طائفة من ملائكة الرحمة، وبينما تجد أحدا من الناس لا يعلو تفكيره شهوته البهيمية، وغريزته السبعية إذا بك تجد غيره يمشي على الأرض، وهو يعيش بفكره، وبصيرته مع الملأ الأعلى، وكم تجد إنسانا أضيق صدرا من سم الخياط، وآخر أوسع صدرا من رحاب الفضاء، وهذه الظاهرة إن دلت على شيء فإنما تدل على اختصاص الله سبحانه هذا الجنس من مخلوقاته بما لا يكتنه من مواهبه، وعلى أن تكوينه يتميز بطابع الاستعداد للترقي في مدارج الكمال، وإنما انحطاط الذين سفلوا يكون غالبا بسبب إيثار الدنيا والإخلاد إليها من قبل أنفسهم، وهذا الاختصاص الرباني لهذ النوع الإنساني بهذه المزية العظمى ما هو إلا مظهر من مظاهر ترشيحه لمنصب الخلافة الذي تحدثت عنه هذه الآية.
الإنسان خليفة الله في الأرض
وارتباط الكلام هنا بما سبقه واضح، ذلك لأن فيما تقدم تذكيرا للإنسان بمختلف نعم الله الجلى التي أفاضها على النوع الإنساني، ومنها خلق جميع ما في الأرض له، ثم الاستواء إلى السماء وتسويتهن سبع سماوات، وفي ذلك أيضا نعم لا تحصى لأن الأرض مرتبطة بالأجرام السماوية برباط الجاذبية كما تقدم، وبهذه التسوية أمكن للإنسان أن يستقر على الأرض، وأن يستمتع بمنافعها التي على ظهرها والتي في أعماق بطنها، وهذا التكريم الإلهي يترتب عليه ما ذكر هنا من تبوئة الإنسان لهذا المنصب الجليل، منصب الخلافة في الأرض الذي تحدثت عنه هذه الآية، وبعد هذه التوطئة الإجمالية لتفسيرها نأتي إلى تفصيل ألفاظها ومعانيها:-
(إذ) ظرف زماني دال على وقوع نسبة في الزمن الماضي مع وقوع نسبة أخرى ماضية أيضا، وذهب ابن قتيبة وأبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أنها في هذا الموضع وما يشبهه زائدة، وهي مجازفة من القول يجب أن لا يصغى إليها في تفسير كتاب الله تعالى المنزه عن كل حشو، فإن الزيادة لا تكون إلا في كلام الذين يعييهم ترتيب الألفاظ بحسب ترتيب المعاني، فيأتون بالدخيل من القول لقصد تنميق الكلام وتزويقه، وهذا ما لا ينطبق أبدا على كلام الله تعالى الذي هو أبلغ الكلام وأصدقه، وأحسن الحديث وأصحه، وقد أجاد إمام المفسرين ابن جرير الطبري في رد هذا الزعم وتفنيد جميع شبهه، وقد حذا حذوه معظم المفسرين حتى أن القرطبي حكى اتفاقهم عليه، كما أن جماعة من أئمة العربية قاموا بدورهم في الرد على هذه الدعوى، منهم الزجاج والنحاس غير أن مما يثير الاستغراب أن ينبري أحد أئمة التفسير في العصر الحديث يعد في مقدمة مفسري هذا العصر معرفة بعلوم القرآن وأساليب البيان - وهو الإمام ابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير - فيؤيد هذه الفكرة الواهية واقفا مع القائلين بزيادة " إذ " ، وهو أمر يدعو حقا إلى الحيرة والاستغراب، فإن عد أي كلمة مما في القرآن زائدة يعني فراعها من المعنى، وهو ينافي الإحكام الذي وصف الله به كتابه المبين، وإذا كانت زيادة الألفاظ لغير أي معنى يترفع عنها كلام بلغاء البشر فما بالكم بكلام خالق البشر الذي وهبهم ملكات البيان، والذي يبدو أن القول بزيادة " إذ " هنا ناشئ عن الحيرة، واضطراب الأفهام فيما ترتبط به صناعة ومعنى، ومثل هذا القول في الغرابة والبعد عن الصواب قول من زعم أنها بمعنى " قد ".
والقائلون بعدم زيادتها اختلفوا في إعرابها، فمنهم من جعلها على بابها - وهو الظرفية الزمانية - وجعلها متعلقة بقالوا، جوز ذلك الزمخشري، واختاره أكثر أهل التفسير حتى أن منهم - كأبي حيان - من عده الوجه الوجيه الذي لا يعدل عنه، ورده كل من أبي السعود وابن عاشور من حيث أنه يؤدي إلى أن يكون قول الملائكة المحكى هو المقصود الأساسي من القصة وذلك مستبعد لأن العبرة المستفادة منها كامنة في إعلام الله لهم أنه جاعل في الأرض خليفة، وما أجابوا به إنما هو مترتب على هذا الخطاب، وأضاف ابن عاشور إلى ذلك بأن هذا الإعراب لا يتأتى في كل موضع كما في قوله تعالى:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا
[البقرة: 34] فإن فاء التعقيب مانعة من جعل الظرف متعلقا بمدخولها، وأن الأظهر أن قوله: { قالوا } حكاية للمراجعة والمحاورة، على طريقة أمثاله كما سيأتي بيانه. وذهب بعضهم إلى أنها متعلقة بمحذوف تقديره ابتداء خلقكم إذ قال ربك، أو ابتدأ خلقكم إذ قال ربك، فعلى الأولى هي في موضع رفع على الخبرية، وعلى الثاني فهي في موضع نصب، وثم أقوال أخرى موغلة في الضعف، وأضعفها القول بأنها متعلقة ببشر من قوله تعالى:
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[البقرة: 25].
وضعف هذا القول باد للعيان فإن المعنى والصناعة يرفضانه، وأما المعنى فلأن التبشير لم يحصل عندما قال الله ذلك للملائكة، وأما الصناعة فلأنه لا يعقل أن يحصل في كلام البلغاء، ارتباط كملة بأخرى بينهما مسافات من الكلام الخارج عن إطار الموضوع القاضي بالارتباط، فكيف يحصل ذلك في القرآن؟ أما قول من زعم أنها متعلقة بخلقكم من قوله تعالى:
الذي خلقكم والذين من قبلكم
[البقرة: 21] فهو أوهن من أن يكترث به فيرد عليه وكفى بمجيء حرف العطف قبل إذ شاهدا على بطلان هذا القول والذي قبله فإن الظرف لا يتخلل بينه وبين متعلقة عاطف.
وذهب آخرون إلى أنها وإن كانت ظرفا بحسب وضعها فهي في إعرابها هنا خارجة عن الظرفية إلى المفعولية، والعامل فيها محذوف تقديره اذكر، وهذا كما يتصرف في كثير من الظروف فتنصب نصب المفاعيل نحو: اذكر يوم قلت كذا، وهذا القول هو الذي صدر به الزمخشري، واختاره ابن هشام وصححه قطب الأئمة - رحمه الله - في الهيميان مستدلا له بصرف " إذ " إلى الإضافة في نحو يومئذ، وحينئذ، وساعتئذ، وإذا جاز صرفها إلى الإضافة فلم لا يجوز أن تصرف إلى المفعول، وهذا الرأي هو الذي أختاره لبعده عن الكلفة، وإن رده من رده من المفسرين وغيرهم زاعمين أن فيه إخراج " إذ " عما وضعت له وهو الظرفية من غير مسوغ، وإني لأعجب من هؤلاء كيف يأبون ذلك مع قيام الشواهد على صحته من الكتاب نحو قوله تعالى:
واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم
[الأعراف: 86]. وقوله:
واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح
[الأعراف: 69]، وقوله:
واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد
[الأعراف: 74]، فإن مفعوليتها في جميع ذلك واضحة، إذ من المستبعد أن تكون ظرفا للذكر المطلوب مع سبق ما أضيفت إليه على طلب الذكر، والمطلوب لا يأتي إلا بعد الطلب، والمراد بذكر الزمان، ذكر ما يحتويه من الأحداث لأن العرب اعتادت أن تسند الأحداث إلى أزمنتها، ودلالة الزمان المذكور على أحداثه إنما تكون بالطريق البرهاني وذلك أبلغ.
والعطف هنا من باب عطف القصة على القصة كما تقدم، والمعطوف عليه قصة خلق منافع الأرض للإنسان، وما تبع ذلك من ذكر تسوية السماوات، وبناء على ما ختاره ابن عاشور من كون " إذ " مزيدة ذهب إلى أن هذا العطف من باب عطف الجملة على الجملة، فجملة { قال ربك } معطوفة على جملة { خلق لكم } وقد علمت ما في القول بزيادة " إذ " من الضعف، على أن ابن عاشور نفسه ذكر في بداية تفسير الآية أن العطف هو من باب عطف القصة على القصة، وعضد ذلك فيما بعد بكون إذ تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى، كما في قوله:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم
[البقرة: 34].
هذا وجعل " إذ " مفعولا لمحذوف تقديره " اذكر " ، مع كونها دالة على زمن مضى وقعت فيه نسبة - يقتضي أن المراد ذكر تلك النسبة الواقعة فيه، وقد اعتاد الناس إسناد الحوادث إلى الأزمان كما تقدم.
وصدور هذا القول من الله إلى الملائكة كان بحسب ما جعل الله لهم من طريقة لفهم مراده ويقول في هذا ابن عاشور: " وكلام الله تعالى للملائكة أطلق على ما يفهمون منه إرادته وهو المعبر عنه بالكلام النفسي فيحتمل أنه كلام سمعوه فإطلاق القول عليه حقيقة وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة، فإطلاق القول عليه مجاز، لأنه دلالة للعقلاء، والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" اشتكت النار إلى ربها "
وقوله تعالى: { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين } وقول أبي النجد:
" إذ قالت الآطال للبطن الحق.. ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين ".
والملائكة جمع ملك، ومن شأن الجموع أن تراعي فيها أصول المفردات وقد اتضح من هذا الجمع أن أصل ملأك، حذفت همزته تخفيفا وألقيت حركتها على اللام قبلها، وقد جاء على أصله في بعض الأشعار كقوله:
فلست لإنسى ولكن لملأك
تنزل في جو السماء يصوب
وقول الآخر:
.................
من نبي وملأك ورسول
وهو من لأك بمعنى أرسل، وهي لغة محكية، وقيل هو من ألك فقدمت عينه وأخرت لامه، وهو من الألوكة بمعنى الرسالة، ومنه قول الشاعر:
وغلام أرسلته أمه
بألوك فبذلنا ما سأل
والظاهر أن ألك ولأك يتعاقبان كتعاقب الجذب والجبذ، ولا داعي إلى القول بالتقديم والتأخير، وقيل هو من الملك بمعنى القوة، وعليه فإن الهمزة زائدة فيه، وهو غير واضح.
صفات الملائكة
والملائكة هم صنف من مخلوقات الله سبحانه خلقهم الله لطاعته وتنفيذ أمره في ملكوته، وسخرهم لذلك، فلا يخرجون عن طاعته في جميع الأحوال، كما وصفهم بقوله:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم: 6] وبقوله:
عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون
[الأنيباء: 26 -27] وقد آتاهم الله قوة على التشكل عندما يظهرون لبعض البشر حسب إرادته تعالى، وهم من عالم الغيب الذي يجب علينا أن نؤمن به كما أخبرنا تعالى، وهم من الكثرة بحيث يملأون ملكوت الله عز وجل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
" أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد "
وللعلماء فيهم أقوال بحسب ما فهمه كل منهم من صفاتهم، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.
والجعل يصح أن يكون بمعنى الخلق فيتعدى لمفعول واحد، وبمعنى التصيير فيتعدى لمفعولين، وعلى الثاني فالمفعول الأول خليفة وهو مؤخر، والمفعول الثاني ما يتعلق به قوله { في الأرض } ، وقد قدم على الأول، وعلى الأول فالمفعول خليفة و { في الأرض } متعلق بجاعل، وانتصر بعض المفسرين له بأنه أبعد عن التكليف في تأويل ما حكاه الله عن الملائكة وهو قولهم: { أتجعل فيها من يفسد فيها } [البقرة: 30]، فإن تأويله بالتصيير يقتضي تقدير مفعول ثان محذوف وهو خليفة، والأصل عدم الحذف.
خلافة آدم
والخليفة يكون بمعنى الفاعل أي الذي يخلف غيره، وبمعنى المفعول أي الذي يخلفه غيره، ومن هنا اختلف المفسرون في المراد بالخليفة هنا، هل هو الخالف أو المخلوف؟ كما اختلفوا فيه، هل هو آدم وحده أو هو الجنس البشري كله؟
ذهب فريق من المفسرين إلى أن المراد بخلافة آدم كونه خلف مخلوقات عمرت الأرض من قبله ثم أبادها الله بسبب إفسادها، واستند هؤلاء إلى جواب الملائكة لله تعالى حيث قالوا: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } [البقرة: 30] وذلك أنهم - حسب زعم هؤلاء القائلين - قاسوا آدم وذريته على تلك المخلوقات التي سفك بعضها دم بعض، وأشاعت الفساد في الأرض فكان هذا الجواب منهم، وقد قيل إن هذا القول سرى إلى المسلمين من أساطير الفرس، وليس ذلك ببعيد فإن الفرس كانوا يزعمون أن الجنس البشري مسبوق في عمارة الأرض بخلائق كانت تمسى الطم والرم، ولهذين الاسمين وجود في بعض المؤلفات القصصية في الإسلام، وهو دليل هذا السريان، ولا يبعد أن يكون ساريا إليهم من خرافات اليونان الذين كانوا يزعمون وجود خلائق في الأرض قبل البشر تدعى التيتان.
وقالت طائفة أريد بخلافته أنه يخلف الملائكة الذين كانوا في الأرض بعد أن حاربوا الجن فيها وألجأوهم إلى جزائر البحر وقلل الجبال، وذلك أنهم زعموا أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فأرسل الله إليهم إبليس مع مجموعة من الملائكة يدعون الجن أيضا فقاتلوهم حتى ألجأوهم ألى جزائر البحر وأطراف الجبال، وسكنت هذه المجموعة من الملائكة الأرض إلى آخر ما جاء في القصة، وقد نسب هذا التفسير إلى جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم كما أورده ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما، ويظهر لي ان هذه القصة مما تلقاه المفسرون عن أهل الكتاب من أساطير التي اختلطت بخرافات اليونان، وقد راقت لبعضهم فعزاها إلى من عزاها إليه من الصحابة.
وقيل هي خلافة آدم لمن كان قبله من الجن في الأرض، وقيل هي خلافته عن الله سبحانه من حيث القيام بتدبير شئون الحياة على هذه الأرض وسيأتي إن شاء الله مزيد إيضاح لهذا المعنى.
وقيل إن هذا الخلافة ليست لآدم وحده بل له ولذريته، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض
[الأنعام: 165] وقوله:
ويجعلكم خلفآء الأرض
[النمل: 62] وقوله لداود:
يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض
[ص: 26] وعليه فهل المراد بهذه الخلافة ما تقدم ذكره من خلافة الجنس البشري عن الجن، أو الملائكة فيها، أو خلافتهم عن الله سبحانه بتدبير شئون الحياة الأرضية، أو كونهم يخلف بعضهم بعضا، فكل قرن خالف لما قبله؟ وعلى هذا الأخير يتوجه في الخليفة أن يكون بمعنى الخالف وبمعنى المخلوف، فإن كل جيل يعمر الأرض خالف لمن قبله، ومخلوف بمن بعده، والذين قالوا إنها خلافة الله في أرضه اختلفوا في خصوص هذه الخلافة بالصالحين من البشر أو عمومها للبر والفاجر منهم، واستأنس القائلون بأنها خاصة بالصالحين بقوله تعالى:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
[النور: 55] وما يماثلها من الآيات.
وأظهر هذه الأقوال ان الخلافة ليست لأدم وحده بل هو ذريته مشتركون فيها، وليس المراد بالخليفة الفرد بل أريد به الجنس، وقتدل على ذلك الآيات التي أسلفنا ذكرها في الخلفاء وتشمل هذه الخلافة البر والفاجر من ذريته لأن الجميع مؤتمنون من قبل الله سبحانه في الأرض ومسؤولون عن القيام بالواجب فيها، وما هذه الخلافة إلا ابتلاء واختبار منه تعالى، كما يدل على قوله:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في مآ آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم
[الأنعام: 165] فإن ذكر الابتلاء فيه وقرنه بالوعد والوعيد دليل على أن هذه الخلافة هي مسؤولية وأمانة يتحمل الإنسان ثقلها ويبوء بوزرها أو أجرها، ومما هو صريح في شمولها للبر والفاجر قوله سبحانه:
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفآء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون
[النمل: 62] فإنه جاء في سياق إقامة الحجة على المشركين بوحدانية الله تعالى مع اتخاذهم آلهة أخرى، وقوله تعالى حاكيا نداء هود لعاد:
واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح
[الأعراف: 69] ومثله في حكاية خطاب صالح لثمود:
واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد
[الأعراف: 74] وقوله عز وجل بعد أن ذكر إهلاك القرون من قبل بظلمهم وتكذيبهم رسلهم:
ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون
[يونس: 14].
وقد أشكل على كثير من الناس جعل جميع الجنس البشري خلفاء في الأرض عن الله سبحانه مع كثرة الكفار والفجار فيهم، وندرة الصالحين الأبرار بينهم، وهذا الإشكال ناتج عن عدم فهم المراد بالخلافة، فالخلافة ليست جزاء على عمل يعمله الإنسان فحسب كما يجازى المؤمنون بالتمكين في الأرض، بل كثيرا ما تكون ابتلاء من الله سبحانه لينظر ما يقوم به هذا المستخلف، ولا فارق بين الخلافة والأمانة، فإن أمانة الله في رقاب جميع عباده برهم وفاجرهم.
كما يقتضيه قوله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب: 72] وبهذا يتضح أن مسؤولية هذه الخلافة هي في أعناق جميع المكلفين، وإنما اختلافها في الخفة والثقل بحسب ما يكون للإنسان من تمكين، فمن كان أكثر تمكينا كان أثقل حملا وأفظع مسؤولية.
مظاهر الاستخلاف
ومن مظاهر هذا الاستخلاف ما أوتيه الناس في هذه الدنيا من قوة التسخير لما في الأرض حسب منافعهم، وتطورهم في ابتكار الصناعات العجيبة، واستخدام الآلات الغريبة فيما يعود عليهم بالمنفعة ويزيد الأرض عمارة، وليس ذلك محصورا في المؤمنين وحدهم، بل نجد في عصرنا غيرهم أكثر براعة فيه وأرسخ قدما وأقوى يدا بسبب تخلف المسلمين عن اتباع مراشد دينهم، وتنفيذ أوامر ربهم، وهل من الممكن أن يقال مع ما نراه من التمكين لغير المسلمين إن الخلافة محصورة في المتقين الأبرار وحدهم؟ ومما يزيد ما قلته وضوحا أن هذا الرأي هو الذي يقتضي التناسب بين هذه الآية وما مر قبلها من تذكير الناس بأن الله خلق لهم ما في الأرض جميعا، والخطاب فيما مر لم يكن للمؤمنين وحدهم، بل هو موجه بالأصالة إلى الكفار الذين نعى الله عليهم كفرهم مع وفرة آلائه عليهم وظهور آياته لهم.
ولا يستلزم الاستخلاف حلول الخليفة مكان من استخلفه بعد فناد المستخلف أو انتقاله حتى شكل أن يكون آدم وذريته خلفاء الله في أرضه مع تعالي الله عن الزمان والمكان، وعن مشابهة خلقه في أي صفة من صفاتهم، بل يكفي في تحقق الاستخلاف تمكين المستخلف لخليفته من أمر لم يكن بإمكانه أن يتمكن منه بدونه، وإباحة التصرف له فيه تصرفا يستمد شرعيته من هذا التمكين.
وشعور الإنسان بأنه خليفة الله في أرضه يجعله يحس أولا بمكانته عند الله وعظم منته تعالى عليه، وثانيا بثقل حمله وعظم مسؤوليته، وهذا الشعور يستلزم تحري مرضاة الله تعالى في كل أمر واستلهام منهج الحياة منه سبحانه في الفعل والترك، والأخذ والرد، والعطاء والمنع، فإن من شأن الاستخلاف أن لا يتجاوز الخليفة الحدود التي رسمها له من استخلفه، وأن لا يخرج عن إطار وظيفته، ولا ريب أن الأرض أرض الله، وما فيها هو ملكه، والناس المستخلفون ما هم إلا وكلاء وأمناء من قبله تعالى، لا يحق لهم أن يتصرفوا مطلق التصرف فيما وكلوا فيه وائتمنوا عليه بل يلزمهم أن يرجعوا كل شيء إلى حكم مالك الأمر الذي حملهم هذه الأمانة وشرفهم باختيارهم لها، وهذا الذي يوحيه قوله تعالى في المال:
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه
[الحديد: 7] وقوله:
وآتوهم من مال الله الذي آتاكم
[النور: 33].
ولئن قيل ما هي الفائدة من إعلام الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة مع أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا تبديل لكلماته، وهو غني بواسع علمه عن آراء خلقه؟
فالجواب عن هذا السؤال انه سبحانه أراد أولا تعريفهم بقيمة هذا النوع من الخلق، وفضله على من عداه بما اختصه الله تعالى به، ورفع ما عسى أن يحدث في صدورهم من الحيرة والاستغراب بسبب تكريم الله لهذا النوع بتبوئته هذا المقام، فإنهم لو فوجئوا بوجود الإنسان على عرش الخلافة مع ما يعلمونه في طبعه من النقص لكان ذلك داعيا إلى تراكم الاستغراب في صدورهم، واستيلاء الحيرة على عقولهم، فكان هذا الإعلام طريقا إلى دركهم حقيقة الأمر بعدما يحدث بينهم وبينه تعالى من سؤال وجواب، وأراد ثانيا تكريم ملائكته بعرض هذا الخبر عليهم في صورة الاستشارة منه لهم، فهو تعليم في إطار التكريم، وفي هذا الإنباء سن للاستشارة بين الخلق، فإن الله جل شأنه - وهو العليم بطوايا الخفايا، والغني بكماله عن كل شيء - وجه هذا الخطاب إلى ملائكته كالمستشير لهم، فما بالكم بالمخلوقين، وكل أحد منهم متلبس بصفات النقص، لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها، كيف يستغنى بعضهم عن استشارة بعض؟ ولعله لا يستبعد أن يكون الأمر كما قال ابن عاشور، وإليكم نص كلامه:
" وعندي أن هذه الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته، لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء ما تؤثر تآلفا بين ذلك الكائن وبين المقارن، ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعا لذوات مقام أمر التكوين في الذوات، فكما أن أمره إذا أراد شيئا أي إنشاء ذات أن يقول له كن فيكون، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس، أو عند تكوين الذات، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قبول العلم من خصائص الإنسان علم آدم الأسماء عندما خلقه.
وهذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضا للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل، ولهذا طلبت منا الشريعة تخير أكمل الحالات وأفضل الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب ".
وإيراد هذه القصة ينطوي على فوائد أخرى، ذكر منها الإمام محمد عبده أربع فوائد:
الأولى: أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسرار خلقه، ولا سيما عند الحيرة، والسؤال يكون بالمقال ويكون بالحال، والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها (كالبحث العملي والاستدلال العقلي، والإلهام الإلهي)، وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروف لأحد من البشر، فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
الثانية: إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة، فنحن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
الثالثة: أن الله هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم، وذلك أنه بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون علم آدم الأسماء ثم عرضهم على الملائكة كما سيأتي بيانه.
الرابعة: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس ومحاجتهم في النبوة بغير برهان على إنكار ما أنكروا، وبطلان ما جحدوا، فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان في ما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، أي فعليك أيها الرسول أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين. وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها، وكون الكلام لا يزال في موضع الكتاب وكونه لا ريب فيه، وفي الرسول وكونه يبلغ وحي الله تعالى ويهدي به عباده، وفي اختلاف الناس فيهما.
وقد سبق ذكر وجه ارتباط هذه القصة بما سبقها من الآيات، وهو أن تكريم الانسان بمنصب الخلافة في الأرض ينسجم ذكره مع ما سلف من تذكير الإنسان بآلاء الله الواسعة التي من بينها خلق جميع ما في الأرض له، وتسوية السماوات السبع بما أودع الله فيها من نظام يربط بها الأرض، وهذا الوجه في نظري أجدر بأن يعتد به في مراعاة التناسب بين الآيات مما ذكره الإمام لوضوحه، وهو لا ينافي ما ذكره من كون الكلام لا يزال يدور حول رسالة الرسول وصدق الكتاب الذي أنزل عليه. وبعدما حكى الله قوله للملائكة حكى جوابهم له، ومن المعلوم أن قولهم مترتب على قوله لهم غير أنه لم يوصل به بالفاء الترتيبية، وهذا الفصل - عند أكثر علماء التفسير - لأجل ملاحظة تساؤل من السامع، فعندما يسمع أحد حكاية هذا الإعلان الإلهي الموجه إلى عباده المكرمين فإن من شأنه أن يتطلع إلى ما يكون من جوابهم، فلسان حاله يقول كيف أجابوا ربهم، فيقال له: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } [البقرة: 30] وخالفهم في ذلك ابن عاشور حيث قال: " فصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جريا على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات، وهي طريقة عربية، قال زهير:
قيل لهم ألا اركبوا ألاتا
قالوا جميعا كلهم ألافا
أي فاركبوا، ولم يقل فقالوا، وقال رؤبة بن العجاج:
قالت بنات العم يا سلمى وإن
كان فقيرا معدما قالت وإن
وإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العطف بتكرير أفعال القول، فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب، فطردوا الباب، فحذفوا العاطف في الجميع، وهو كثير في التنزيل، وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكته تقتضي مخالفة الاستعمال، وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر، والأصل وهذا مما لم أسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي.
وما ذكره ابن عاشور واضح لمن تدبر الأسلوب القرآني في حكاية المحاروات، ألا ترى الى العطف بالفاء في قوله تعالى:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا
[البقرة: 34] مع عدم الفارق إلا من حيث إن في قوله تعالى: { فسجدوا } إخبارا عن فعل، وفي قوله: { قالوا } حكاية قول، غير أنه لا يسلم لابن عاشور أن هذا مما لم يسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي، فهناك من سبقوه إلى ذكر ذلك منهم الإمام أبو حيان في البحر المحيط، وإليكم نص كلامه: " والجملة المفتتحة بالقول إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى فالأصح في لسان العرب أنها لا يؤتى فيها بحرف ترتيب اكتفاء بالترتيب المعنوي، نحو قوله تعالى: { قالوا أتجعل فيها } أتى بعده { قال إني أعلم } ونحو { قالوا سبحانك } { قال يآءادم أنبئهم } ، ونحو
قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله
[المائدة: 27]،
قال أنى يحيي هذه الله
[البقرة: 259]
قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام
[البقرة: 259]
قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير
[البقرة: 260] وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك عشرون موضعا في قصة موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام في إرساله إلى فرعون ومحاورته معه، ومحاورة السحرة إلى آخر القصة دون ثلاثة جاء منها اثنان جوابا وواحد كالجواب، ونحو هذا في القرآن كثير ".
واختلف في هذا الاستفهام في قولهم: { أتجعل فيها } الآية، قيل هو تعجبي محض، وذلك أنهم عجبوا من جعل الله في الأرض خليفة يمكن فيها وهو يفسد فيها ويسفك الدماء مع ما هم عليه من ملازمة عبادته تعالى بالتسبيح بحمده والتقديس له، وذلك أنهم عليهم السلام تبادر لهم أن الحكمة تقتضي استخلاف من طبع بطبعهم لا النوع الذي ركز في طبعة من الأسباب ما يدعوه إلى الفساد وأعطى من القوة في خلقه ما يمكنه منه، وقيل إن الاستفهام على حقيقته، وأنهم أرادوا به استجلاء ما خفي عليهم من حكمة الله سبحانه في هذا الأمر، واستبعاد الشبهة التي خطرت لهم، وذلك أنهم علموا أن أفعال الله كلها لا تخلو من الحكم، فتطلعوا إلى حكمته في هذا الخبر الذي ألقاه إليهم، ويبعد هذا القول قولهم من بعد { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } ، وقيل هو على بابه غير أنه أشرب معنى التعجب والاستبعاد من أن تتعلق حكمة الله بذلك، وعليه فقد كنوا بالاستفهام عما هم متلبسون به من الدهشة والاستغراب طالبين بذلك إزالتهما بما لا يدع لبسا في نفوسهم ، وقيل: إن الاستفهام على بابه والمراد به اكتناه حقيقة المجعول في الأرض خليفة هل هو من جنس الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، أو من جنس المصلحين، وعليه فالمعادل محذوف تقديره أم من يصلح فيها، ويرد هذا القول أيضا ما حكاه الله عنهم من بعد من قولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [البقرة: 30] وقيل: إن الاستفهام واقع على قولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } أي هل نحن نبقى على هذا التسبيح والتقديس مع وجود خليفة في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء، أو ننتقل عن حالتنا هذه إلى حالة أخرى، والتكلف فيه ظاهر، ودخول الاستفهام على الجعل دليل على أنه هو المستفهم عنه دون غيره، وأعدل هذه الأقوال أن الاستفهام على بابه وإنما أشرب معنى التعجب، ومثله وارد في كلام العرب وهو لا ينافي عصمة الملائكة من الزلل، فإنما كان هذا الاستفهام منهم بعد خطاب الله لهم الذي آذنهم فيه بأنه جاعل في الأرض خليفة ولا ريب أنهم كانوا مدركين لما سوف يصدر من هذا الجنس المستخلف من أنواع الفساد في الأرض وهم قد فطروا على صفاء السرائر وسلامة النفوس.
وصدق الحديث، وقد فهموا من توجيه هذا الخطاب إليهم أنهم مطالبون بأن يبدوا ما في طوايا نفوسهم تجاه هذا الخبر وهم قد خامرهم منه العجب فلا غرو أن أجابوا بما أجابوا به مما ينم عن استغرابهم لهذا الأمر وطلب كشف الحكمة لهم من ورائه.
واختلف في سبب معرفتهم أن من شأن هذا الجنس المستخلف الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها؛ قيل: إنهم علموا ذلك بإعلام الله لهم، وهو مروى عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، فقد أخرج ابن جرير عنهما وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة: { إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30] قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة، قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا، وقيل: إنهم عرفوا ذلك بعد أن قرأوه مكتوبا في اللوح المحفوظ، وقيل: عرفوه بقياس الجنس البشري على الأجناس التي كانت تعمر الأرض من قبل فأفسدت فيها وسفكت الدماء، وقيل إنهم فهموا ذلك بنظرهم إلى أحوال الإنسان الفطرية، فهو ذو إرادة واسعة واختيار واسع، وعلمه لا يحيط بجميع وجوه المصالح والمنافع فإذا ما عنت له أعمال متعارضة واحتاج إلى الترجيح بينهما ربما انساق في ترجيحه إلى غير الصالح النافع لقصور علمه.
ولم يأت في الباب شيء مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وغالب ما قيل مبني على التخمين، والأولى أن يوكل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه مع احتمال كبير لأن يكونوا فهموا ذلك من طبيعة فطرة الإنسان، فهو كما قيل ذو إرادة تمكنه من الخروج عن الجبلة إلى الاكتساب، وفي نفسه قوى متعارضة أهمها العقل والشهوة والغضب، وقد تدعو الشهوة - كما هو شأنها - إلى الانسياق وراء الفساد وعدم المبالاة بما يترتب على هذا الإنسياق من مضار بالغة بالنفس أو الغير، كما يدفع الغضب إلى الانتقام من الغير انتقاما لا حدود له، والعقل وإن كان له سلطان على صاحبه فإن سرعان ما يضعف ويتزلزل أمام عواصف الشهوة والغضب فهما قوتان مؤثرتان على النفس المجبولة على الرغبة فيما تتطلبانه، وماذا عسى أن يصنع العقل وإذا عشيته غواشيهما من كل جانب فصار كنور الذبالة بين الزوابع الهوجاء، ولا غرو في معرفة الملائكة بذلك، فإنهم ذوو نفوس زكية، وأرواح قدسية لا يستغرب معها أن يعرفوا طبيعة الشيء باطلاعهم على طريقة تكوينه غير أنهم مع ما جبلوا عليه من الصفاء النفسي لا يحيطون بشيء من علم الله إلا بما شاء، فقد فاتهم أن الله عز وجل سيستصفى من هذا الجنس المستخلف عبادا متقين أخيارا يعملون بأمره، ويقفون عند حكمه، ويسخرون ما آتاهم الله تعالى من قوى جسمية وروحية في طاعته التي يقتضيها خلقهم واستخلافهم في الأرض، وأن مواهبهم العقلية ستقوى - بهداية الله - فتسخر قواهم الغضبية والشهوانية فيما تتطلبه هذه الخلافة.
وقد سبق معنى الإفساد وهو هنا شامل لجميع المعاصي فإنها إما مضرة بالنفس أو بالغير، وذلك مناف لما تتطلبه الخلافة من التعمير الحسي والمعنوي للأرض، وعطف سفك الدماء عليها من باب عطف الخصوص على العموم لبيان جدارته بالاهتمام والعناية، كما في قوله تعالى:
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
[البقرة: 238] وهذا أولى من تفسير بعضهم الإفساد بالشرك، وجعل سفك الدماء رمزا إلى المعاصي العملية لأنه أفحشها، والسفك الصب والإراقة كالسفح، وإنما يستعمل السفك في إراقة الدم دائما، والسفح يكون غالبا في الدم، وقد يكون في غيره، ولا يدل قولهم هذا على عدم عصمتهم من الذنوب، فإنهم كما علمت ما أرادوا إلا الإطلاع على حكمة الله من وراء هذا الأمر، وقد فهموا أنهم مطالبون بأن يفصحوا عما في قرارة نفوسهم والمستشار مؤتمن فلم يجدوا مناصا عن القول الذي قالوه.
والواو في قولهم { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } للحال، وقد صدرت هذه الجملة من كل الملائكة الذين قالوا: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } [البقرة: 30] خلافا لما حكاه أبو حيان في البحر عن صفي الدين أبي عبد الله الحسين ابن الوزير علي بن أبي منصور الخزرجي أنه قال في كتاب فك الأزرار " ظاهر كلام الملائكة يشعر بنوع من الاعتراض وهم منزهون عن ذلك، والبيان أن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين، وكان إبليس مندرجا في جملتهم، فورد منهم الجواب مجملا، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهور إبليسيته واستكباره انفصل الجواب إلى نوعين، فنوع الاعتراض منه كان عن إبليس، وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه ". وقد اعجب هذا الكلام أبا حيان فقال فيه: " وهو تأويل حسن، وشبهه بقوله تعالى:
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا
[البقرة: 135] لأن الجملة كلها مقولة والقائل نوعان، فرد كل قول لمن ناسبه ".
وقد حكاه أيضا الألوسي في تفسيره ولم يتعقبه إلا بقوله: " وهو تأويل لا تفسير " بعدما نسبه إلى الغرابة.
وما أجدر هذا الكلام بالاستغراب! فإن الجملة الحالية مرتبطة بما قبلها بحيث لا يصح استقلالها دونها لفظا ولا معنى، فلا يتأتى أن تكون وحدها جوابا ممن صدرت عنه لقوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة } ، وقد حكاها الله مع ما قبلها عازيا ذلك كله إلى الملائكة فكيف يصح لنا أن نعزو بعضه إلى طائفة وبعضه إلى طائفة أخرى؟ وانفصال طائفة عن طائفة بعدما كانت مندرجة فيها لا يسوغ فصل الكلام الصادر منهما معا قبل الانفصال، ولا يصح أن يناظر ما هنا بما في قوله تعالى: { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } لجواز استقلال كل واحد من طائفتي اليهود والنصارى بالدعوة إلى ملتها وذلك هو الواقع والمراد من هذا الحكي عنهم، ولم يكونوا مندمجين من قبل حال صدورهم هذا القول عنهم ثم استقل بعضهم عن بعض فأعطي كل فريق من الحكاية ما يلائمه.
وقولهم هذا ينطوي على تعريض بأنهم أجدر بالاستخلاف، فإن الدائب على التسبيح بحمد الله والتقديس له أنزه وأطهر ممن يتلوث بالفساد وتصدر منه المعاصي وانتهاك الحرمات، ومن المعلوم أن الحكمة من الاستخلاف عمارة الأرض وما ذكر من الافساد فيها وسفك الدماء أمر ظاهره مناف لهذه الحكمة واستظهر الفقهاء من هذا القول جواز ترشيح الإنسان نفسه لوظيفة يرى أنه أقدر على حمل أعبائها من غيره، واستدلوا لذلك أيضا بما حكاه الله عن يوسف الصديق عليه السلام من قوله لملك مصر:
اجعلني على خزآئن الأرض إني حفيظ عليم
[يوسف: 55].
وذكر الإمام ابن عاشور وجها آخر لقولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } وهو أن يكونوا أرادوا به تفويض الأمر إلى الله واتهام علمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسد منه رأيا وأرجح عقلا فليشير ثم يفوض، كما قال أهل مشورة بلقيس إذ قالت:
أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون
[النمل: 32] فأجابوها بقولهم:
نحن أولو قوة وأولو بأس شديد
[النمل: 33]، أي الرأي أن نحاربه ونصده عما يريد من قوله: { وأتوني مسلمين } ثم ردوا الأمر إليها في قولهم:
والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين
[النمل: 33].
وكما يفعل التلميذ مع الأستاذ في بحثه معه ثم يصرح بأن ذلك مبلغ علمه وأن القول الفصل للأستاذ أو أنهم أرادوا به إعلان التنزيه للخالق عن أن يخفى عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم. وبراءة نفوسهم من شائبة الاعتراض والله تعالى العليم ببراءتهم من ذلك غير أن كلامهم جرى على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير، أو لأن في هذا التصريح تبركا وعبادة، أو أرادوا به إعلان ذلك في الملأ الأعلى.
والظاهر أن ابن عاشور أميل إلى هذا الوجه بدليل أنه صدر به قبل ما سلف، وهو وجه وجيه وحمل قول الملائكة عليه أنسب بما عرف من نزاهتهم وعصمتهم ولكن رد الله تعالى عليهم بقوله: { إني أعلم ما لا تعلمون } الذي فصله من بعد قوله عز وجل:
ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون
[البقرة: 33]. يقتضي خلافه.
والتسبيح والتقديس مأخوذان - في رأي الزمخشري - من سبح في الأرض أو الماء، وقدس في الأرض، إذا ذهب فيهما وأبعد، وعليه فالتضعيف للتعدية، ويراد بهما تبعيد الله عن السوء أي تنزيهه عن كل الصفات غير اللائقة بجلاله وعلو شأنه سواء كان بالقول أو الاعتقاد أو العمل، واختار ابن عاشور كون التسبيح مأخوذا من كلمة " سبحان " بدليل أنه لم يستعمل إلا مضعفا، واختلف في مرادهم بالتسبيح هنا، فقيل هو الصلاة وعليه ابن عباس وابن معسود رضي الله عنهما، كما أخرجه عنهما ابن جرير وغيره، وقد شاع استعمال التسبيح بمعنى الصلاة ومنه قول عائشة رضي الله تعالى عنها: " ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى وإني لأسبحها " ، وحمل عليه قوله تعالى:
فلولا أنه كان من المسبحين
[الصافات: 143] وقيل هو التنزيه، وعليه قتادة، وقيل: الخضوع والتذلل، وبه قال ابن الأنباري، وقال المفضل هو رفع الصوت بذكر الله تعالى، وعن مجاهد أنه التعظيم، وقيل هو تسبيح خاص، وهو سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العظمة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، ويعرف بتسبيح الملائكة.
وأنت إذا دريت أن معنى التسبيح هو التنزيه لم يشكل عليك هذا الخلاف، فإنه خلاف لفظي، وكلمة العبادة كلمة عامة تنتظم جميع ما قيل، فأولى ما يقال في تفسير التسبيح أنه عبادة الله سبحانه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
وتسبيحهم بحمده تعالى يعني تلبسهم في حال تنزيهه عز وجل بالثناء عليه الثناء اللائق بعظمة شأنه وسعة احسانه، فالباء هنا للمصاحبة، وقيل: هو على غرار قولهم فعلت هذا بحمد الله، أي بتوفيقه الذي يستوجب به الحمد، فالباء للسببية.
وقد علمت تقارب معنى التسبيح والتقديس، وإنما يفرق بينهما من حيث أن التسبيح مختص به تعالى فلا يقال في شخص أو بلد أو أي مخلوق إنه مسبح بخلاف التقديس كما في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:
ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم
[المائدة: 21]، وفي الحديث
" لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها "
وقد استعمله العرب في جاهليتهم فيمن كان منزها عند أبناء ملته نحو قول امرئ القيس:
فأدركنه يأخذ بالساق والنسا
كما شبرق الولدان ثوب المقدس
وأصله بمعنى التطهير ولذلك سمى السطل قدسا لأنه يتوضأ به ويتطهر.
واحتيج لدفع التكرار الذي يوهمه اقتران التسبيح بالتقديس - مع ما علمته من التقارب بينهما - إلى التفرقة بين معنييها، فقيل: إن أحدهما باعتبار الاعتقادات، والثاني: باعتبار الطاعات البدنية، وقيل: التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ، ويشهد له أنه حيث جمع بينهما أخر نحو سبوح قدوس.
وفعل قدس يتعدى بنفسه وإنما اللام هنا لتأكيد وقوع النسبة كما في قولهم شكرت لك ونصحت لك، وقيل: إن التقديس بمعنى التطهير، ومرادهم به تطهيرهم لأنفسهم من معاصي الله لأجله تعالى، فكأنهم قابلوا الإفساد في الأرض المتوقع صدوره من البشر، والذي أفحشه الإشراك بالله سبحانه بتسبيحه تعالى الذي هو من مقتضيات توحيده، وقابلوا سفك الدماء الذي هو من أشنع المعاصي العملية بتقديس أنفسهم - أي تطهيرها من أكدار المعاصي - من أجله تعالى، فاللام على هذا أصلية مفيدة للتبيين ولا تخلو من التعليل، وعليه فلا إيهام للتكرار، ومجيء هذه الجملة إسمية لأجل إفادة الدوام والثبوت فهم - عليهم السلام - من شأنهم الاستمرار على هذه الحالة التي وصفوا بها أنفسهم بحيث لا ينفكون عنها.
واختلف في المراد بقوله: { إني أعلم ما لا تعلمون } ، فقيل: أراد به تعالى ما يعلمه من وجوه المصلحة في استخلاف هذا الجنس من خلقه في الأرض، وقيل: أراد علمه بذنبهم واستغفارهم، وقيل أراد به أنه عليم بمن يطيعه وهم الأنبياء والأولياء والصالحون، وبمن يعصيه وهو إبليس وحزبه، وقيل: أراد به الرد على قولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } فقد كان من بينهم إبليس وهو منطو على ما ظهر من بعد من الكفر والشقاق وهم لايعلمون ذلك، والله به عليم، وجوز القطب - رحمه الله - أن يكون المراد به أنه تعالى عليم بما لا يعلمونه من غلبة القوة العقلية على القوة الشهوية والغضبية بحيث تضمحلان فيها اضمحلال الظلمة عند النور حتى تكونان مسخرتين لها فيقوى الإنسان على استعمال الغضبية في جهاد المشركين والمنافقين وفي قهر النفس والشيطان، وفي الأمر والنهي غضبا لله تعالى وعلى استعمال الشهوية فيما يشتهيه من أمر الآخرة والدين وإعزازه وإقامته.
وأرى أن جميع هذه الأقوال غير وافية بالمقصود من المعنى فإن ما لا يعلمونه غير منحصر فيما ذكر، و(ما) من أدوات العموم، والأصل فيها وفيما أشبهها إبقاؤها على عمومها حتى يقوم دليل التخصيص ولا مخصص هنا، وقد أوضح المراد قوله تعالى فيما بعد: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } وجميع ما ذكر مندرج في هذا المفهوم العام، والقرآن أولى بتفسير بعضه بعضا.
وهذا وقد استظهر القرطبي من هذه الآية الكريمة وجوب وجود خليفة للمسلمين يرجعون إليه فيما يعنيهم من أمور الدين والدنيا، وذكر في تفسيرها جانبا من أحكام الإمامة وتابعه على ذلك الإمام ابن كثير في تفسيره كما تابعه الإمام العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وأسهب في بيان الأحكام المتعلقة بالموضوع، وأرى أن غير هذا الموضع من التفسير أنسب بما ذكروه هنا.
الملائكة عباد معصومون
والمحكي عن الملائكة لا ينافي عصمتهم لما سبق من أنهم لم يقولوه على سبيل الاعتراض، ومما يستغرب ما نقله الألوسي عن الشعراني أنه نقل عن شيخه الخواص أن العصمة خاصة بملائكة السماء، وعلله بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة بخلاف ملائكة الأرض فهم عنده غير معصومين، ولذلك وقع إبليس فيما وقع فيه، وهذا القول إنما هو صادر من ملائكة الأرض، وهذه دعوى واهية، إما أولا فإن الله عز وجل أثنى على ملائكته جميعا بقوله:
بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون
[الأنبياء: 26-27]، وقوله:
يسبحون الليل والنهار لا يفترون
[الأنبياء: 20]، فدعوى خروج طائفة منهم عما يقتضيه هذا الوصف من العصمة ليس عليها شاهد ولا دليل، وما هي إلا تحكم لعدم المخصص؛ وإما ثانيا فإن الذي يقتضيه سياق قصة آدم أن الخطاب ليس مقصورا على بعض الملائكة دون بعض فإن الله سبحانه ذكرهم بلفظ التعريف الدال على قصد الجنس وهو يوحي بالشمول، ويتأكد ذلك بقوله سبحانه من بعد:
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
[الحجر: 30] حيث أكد الشمول الذي يفيده الجنس بمؤكدين وهما " كل وأجمعون " ، ومن الظاهر جدا أن الملائكة المأمورين بالسجود لآدم هم المخاطبون أولا بنبأ الاستخلاف لأن السجود هو تكريم من الله له بعد أن أثبت سبحانه تفوق قدره على الملائكة بمعرفته الأسماء التي لم يعرفوها، والأمر به مترتب على ما سبق من مقاولة في شأنه، والقول بأن الملائكة الذي آذنهم الله بخبر الاستخلاف هم جميع أفراد الجنس الملكي هو قول أكثر المفسرين، وقد خالفهم في ذلك جماعة منهم قطب الأئمة - رحمه الله - في الهيميان، فقالوا إنهم ملائكة الأرض وحدهم، وذكر الألوسي عن الصوفية أنهم خصوا هذا الخطاب بمن عدا العالين منهم، وهم الذين استودعوا أسماء الله وصفاته فهاموا بها وحدها ولم يشعروا بما سواها، وحملوا على ذلك قوله تعالى لإبليس:
أستكبرت أم كنت من العالين
[ص: 75] وذلك لأن العالين عندهم غير داخلين في هذا الخطاب ولا مكلفين بالسجود وهو تأويل بعيد عن الصواب لا يصح أن يحمل عليه كلام الله تعالى الذي أنزله بلسان عربي مبين، وقول الجمهور هو الصحيح لأنه المفهوم من صيغة الكلام.
ويستفاد من رد الله على الملائكة بقوله: { إني أعلم ما لا تعلمون } وجوب الانقياد التام لجميع أوامر الله من غير أن تعرض على العقول المخلوقة، فإن علم الله محيط بكل شيء وحكمته تسمو على أفكار الخلق، والعقل لا يمكن له أن يحيط بدقائق الأمور، فإن مثله مثل البصر الذي تحول الحوائل بينه وبين إبصار ما وراءها، وإذا كانت الحواجز الحسية تمنع العين عن إدراك المبصرات فإن الحواجز المعنوية الكثيفة هي أيضا مانعة للعقل عن الوصول إلى فهم كثير من الحقائق، وكل طاقة في المخلوق محدودة بقدره بما في ذلك الطاقة العقلية على أن العقل كثيرا ما يتأثر بالمؤثرات النفسية والاجتماعية فتكدر صفوه وتحجب شعاعه، فمن المؤثرات النفسية ما جبلت عليه النفس من الغضب والشهوة، فكم من عاقل تأجج في نفسه الغضب فدفعه إلى ارتكاب ما يجعله يعض من بعد على بنان الندم طول حياته، وكم من عقل كبل بأسر شهوات النفس فلم يستطع الفكاك منها، ومن أهم المؤثرات الاجتماعية البيئة فإنها ذات أثر كبير على من ينشأ فيها ويتربى في محيطها، ولذلك تختلف أفكار الناس استحسانا واستهجانا بحسب اختلاف بيئاتهم، بحيث تجد أمرا يعد عند أهل بيئة من أحسن الأمور، بينما يعد عند غيرهم من أقبحها، والكل معدودون في العقلاء، ولذلك كان الواجب الاحتكام إلى الشرع المنزل من السماء لا إلى عقول الناس المتغيرة الأطوار المختلفة الأحوال.
والمؤمن عندما يسمع خطاب الله الموجه إليه بأمر أو نهي لا يملك إلا أن يسلم تسليما ويتهم عقله إن وجده رافضا لهذا الخطاب أو لشيء منه:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا
[الأحزاب: 36].
أما الذين يتطاولون على أحكام الله بالنقد فهم ليسوا من الإيمان في شيء بل هم ليسوا من العقل في شيء لأن العقل السليم هو الذي يدرك أن المصلحة فيما أمر الله به، وأن المفسدة فيما نهى عنه، ويدرك قصوره عن استيعاب حكم الله في أحكامه كما يدرك عجزه عن احتواء اسرار الله في خلقه، ولذلك ذكر الله عن أصحاب النار أنهم يقولون بعدما يصلونها:
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
[الملك: 10] وفقنا الله للهدى وجنبنا مسالك الردى إنه ولي التوفيق...
[2.31-32]
بعد أن ذكر الله الجواب الإجمالي للملائكة وهو قوله: { إني أعلم ما لا تعلمون } عطف عليه هذا الجواب التفصيلي، ولم يكن جوابا قوليا فحسب بل يتضمن القول والفعل معا لأن من شأن المخلوق أن يكون ما يشاهده ويحسه أعمق أثرا في نفسه مما يسمعه، بل المشاهدات تنزل منزلة الأدلة والحجج للمسموعات، وهذا العطف من باب عطف المحكي التفصلي على الحكاية الإجمالية، وفي هذه الإجابة التفصيلية شاهد على أن حياة النوع الإنساني المستخلف في الأرض تدور على العلم، فعليه تتوقف حركتها ونموها وتجددها، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى طبع هذه الحياة الإنسانية بطابع التطور، والتطور هو قائم على كسب الإنسان نفسه وتصرفه، وقد جعل الله سبحانه في طبيعة تكوين الإنسان وطبيعة الموجودات التي تيعامل معها في الأرض ما يدفعه إلى هذا التطور، فلذلك كان بحاجة إلى معارف استنباطية يستفيدها من تجاربه، ويستلهمها من مشاهداته، وذلك بخلاف الحياة الملكية فإنها في غنى عن ذلك كله؛ ومن ناحية أخرى فإن الإنسان واقع بين تجاذب وتدافع مستمرين من قبل قوى وطبائع شتى في نفسه، فهو متكون من روح وجسم، ومنطو على عقل وقلب وغرائز وضمير، ولهذه كلها مطالب شتى، والتنسيق بين متطلباتها يدعو إلى العلم والمعرفة حتى لا يؤدي الأمر إلى ضرر نفسي أو اجتماعي؛ ومن ناحية ثالثة فإن الانتفاع بهذه الموجودات اليت يتعامل معها الجنس البشري مشترك بين أفراد هذا الجنس، فلذلك كانوا بحاجة ماسة إلى معرفة أجناسها وأسمائها التي تتميز بها كما أنهم بحاجة إلى معرفة خواصها حتى يكون التعامل معها سليما.
قيمة العلم في موازين الاسلام
وفي هذه القصة تنويه بشأن العلم والعلماء، وبيان لقيمته في موازين الإسلام، فإن الله إنما شرف الإنسان قبوأه منصب الخلافة في الأرض بما آتاه من العلم، وقد رفع قدره به على أقدار ملائكته المعصومين من الزلل الدائبين على الطاعة، الذين وصفهم بقوله:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم: 6].
وبقوله:
يسبحون الليل والنهار لا يفترون
[الأنبياء: 20] وذلك حيث أمره بتعليمهم الأسماء، ثم أمرهم بالسجود له اعترافا بفضل العلم وتكريما لأهله، والإسلام بهذا يختلف عن اليهودية والنصرانية اللتين تجعلان من العلم عدوا مبينا للإنسان؛ فاليهودية ترى أن العلم هو سبب إبعاد الإنسان من رحمة الله وطرده من جنته واستحقاقه اللعنة والغضب، والنصرانية ترى أن الهداية لا تكون إلا مع الجهل وذلك بأن يغلف الإنسان عقله، ويغمض عينيه، ويسد أذنيه لئلا تتصور له الحقيقة فتضله عن الدين، وذلك بأن يتلقى كل ما يلقى إليه من تعاليم الدين تلقي الأعمى والأصم الذي لا يبصر شيئا ولا يسمع شيئا، غير ذلك الذي يلقى إليه، وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات الدالة على أن هذا الدين لا يقوم إلا على أساس العلم والفهم، منها قوله تعالى:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت: 43]، وقوله:
كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون
[يونس: 24].
والتعليم تحويل الغير من الجهل بالشيء إلى المعرفة به، ويكون في آن واحد، وفي آنات متعددة، وذكر صاحب المنار أن الذي يتبادر إلى الفهم من صيغة التعليم هو التدريج، ثم ذكر قوله تعالى:
ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
[البقرة: 151]، وقوله:
وعلمك ما لم تكن تعلم
[النساء: 113]، وقوله:
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
[آل عمران: 48] وقال: وما كان ذلك إلا تدريجا... غير أنه أتبع ذلك قوله: "... ولكن المتبادر من تعليم آدم الأسماء أنه كان دفعة واحدة إذا أريد بآدم شخصه بالفعل أو بالقوة ".
ونحن نؤمن بأن الله علم آدم الأسماء كما أخبر تعالى ونسكت عما وراء ذلك من كيفية هذا التعليم، وإن تكلف جماعة من المفسرين استظهار الطريقة التي علمه الله بها، فذهب بعضهم إلى أن ذلك إنما تم بإلهام رباني بحيث ألقى الله في روعه هذه الأسماء من غير واسطة، وقيل: ان الله خلق صوتا في الهواء، أو فيما شاء تعالى فوعاه آدم وحفظ منه هذه الأسماء، وقيل: إنه تعالى أرسل إليه ملكا من غير المخاطبين بقوله سبحانه: { أنبئوني } ، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شيء من هذه الأقوال، فالسكوت عن ذلك أولى وقوفا عند قوله تعالى:
ولا تقف ما ليس لك به علم
[الاسراء: 36]، ولعل أقربها إلى الصواب القول الأول فإن المقصود من هذا المحكى إظهار شرف آدم وفضله بما أوتي من مزية الاستعداد الفطري لدلك المعلومات وتنميتها، ومن المعلوم أن سماع الصوت المنبىء بالأسماء من الهواء أو غيره أو من نطق الملك يمكن معه فهم المراد للملائكة كما يمكن لآدم، فالقول الأول أظهر في بيان مزيته.
وعطف ذكر آدم وتعليمه الأسماء غب ما تقدم من إيذان الملائكة بجعل خليفة في الأرض شاهد على أن الخليفة المعني هو آدم وهو ضرب من التفصيل بعد الإجمال.
وآدم اسم لأبي البشر واختلف في أصله، فذهب طائفة إلى أنه من الأدمة وهي السمرة، وقيل: البياض، كما يقال ناقة أدماء أي بيضاء، وقيل: سمي بذلك لخلقه من أديم الأرض وهو محكي عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وعول على ذلك جل الذي يفسرون القرآن بالمأثور، وعلى ما تقدم فهو عربي ووزنه أفعل وإنما لينت الهمزة الساكنة التي هي فاؤه فصارت ألفا، وخالف في ذلك الزمخشري وتبعه النظار من المفسرين، فقالوا إنه اسم أعجمي على وزن فاعل بفتح العين كآزر وشالخ، واستدلوا لذلك بجمعة على أوادم أآدم، وتصغيره على أويدم لا على أأيدم، والتكسير والتصغير يردان الألفاظ إلى أصولها، ولم يكن هذا الاسم محصورا عند العرب وحدهم بل نص عليه في التوراة، ولا يبعد أن يكون انتقاله إلى ألسنة العرب بسبب احتكاكهم بأهل الكتاب ودخول طائفة منهم في دينهم.
الأسماء التي علمها آدم
والأسماء جمع اسم وهو ما دل على ذات أو معنى، وللناس أقوال فيما علمه آدم من الأسماء، فبعضهم يرى أن علم اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب بعضهم إلى أنه علم أسماء أجناس الأشياء دون مفرداتها، وقيل: إنه علم اسماء ما تحتاج إليه ذريته مما يستنفعون به في حياتهم، وقد غالى أبو علي الفارسي فزعم أنه علم كل شيء حتى نحو سيبويه، والمغالاة في ذلك ظاهرة، وقيل: إنه علم أسماء الملائكة، وقيل: أسماء الملائكة والبشر، واختاره ابن جرير وأيده بقوله تعالى: { ثم عرضهم } حيث جاء بضمير جمع الذكور وهو لا يستعمل غالبا إلا في العقلاء، ورد عليه بأنه استعمل في القرآن لغير العقلاء مع العقلاء وذلك في قوله تعالى:
والله خلق كل دآبة من مآء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع
[النور: 45]، وذهب طائفة إلى أن المراد بالأسماء اللغات وذلك أنه تعالى علمه جميع اللغات التي تدور على ألسنة ذريته، وقد تلقى كل واحد من أولاده لغة منها ثم تفرقوا فورثها كل أحد منهم ذريته، وبطلان هذا القول ظاهر، فإن اللغات أكثر بكثير من عدد أولاد صلب آدم، على أن كثيرا منها قد تولد من لغات سابقة ولا تزال تتولد إلى عصرنا هذا.
وحكى الفخر الرازي عن بعض الناس أن المراد من الأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، واستدل له الفخر بأن الاسم إما أن يكون مشتقا من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة فهو بمعنى العلامة، وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ما هياتها، فصح أن يطلق الاسم عليها، وإن كان من السمو فكذلك لأن الدليل يرتفع بمدلوله وهو أسمى منه لتقدمه عليه، وبحث في تخصيص النحويين الاسم بما هو معروف عندهم، وأجاب أن ذلك عرف حادث لا اعتبار به، ولصحة هذا التفسير لغة يرى الفخر وجوب التعويل عليه هنا لوجهين:
أولهما ان الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر منها في معرفة أسمائها، والقصة المحكية هنا إنما تحكى فضيلة آدم على الملائكة.
ثانيهما: أن التحدي يتوقف جوازه على ما كان ممكنا للمتحدي في الجملة، فللعربي أن يتحدى من كان مثله بأن يأتي بمثل كلامه في البلاغة العربية دون أن يقول لزنجي مثلا آت بمثل هذا الكلام وذلك لأن العقل ليس هو طريق تعلم اللغات، وإنما طريق ذلك الممارسة، أما العلم بحقائق الأشياء فالعقل يتمكن منه مع التجارب التي تتولد منها المعلومات.
ورأي الامام محمد عبده يتفق مع رأي الفخر في المعنى وإن يكن بينهما خلاف لفظي، ففي المنار بعد إيراد قوله تعالى { وعلم ءادم الأسمآء كلها } ما نصه " أودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين، فالمراد بالأسماء المسميات، عبر عن المدلول بالدليل لشدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، والعلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات أنفسها، والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح، فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغيير فيه ولا اختلاف ".
قال الأستاذ: ".... ثم إن الاسم قد يطلق إطلاقا صحيحا على ما يصل إلى الذهن من المعلوم أي صورة المعلوم في الذهن، وبعبارة أخرى هو ما به يعلم الشيء عند العالم، فاسم الله مثلا هو ما به عرفناه في أذهاننا، بحيث يقال إننا نؤمن بوجوده ونسند إليه صفاته، فالأسماء هي ما به تعلم الأشياء، وهي العلوم المطابقة للحقائق ".
" والاسم بهذا الاطلاق هو الذي جرى الخلاف في أنه عين المسمى أو غيره، وقد كان اليونانيون يطلقون على ما في الذهن من المعلوم لفظ الاسم، والخلاف في أن ما في الذهن من الحقائق هو عينها أو صورتها مشهور كالخلاف في أن العلم عين المعلوم أو غير المعلوم، وأما الخلاف في أن الاسم الذي هو اللفظ عين المسمى أو غيره، فهو ما أخطأ فيه الناظرون لعدم الدقة في التمييز بين الاطلاقات لبداهة أن اللفظ غير معناه بالضرورة، والاسم بذلك الاطلاق الذي ذكرناه هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى
سبح اسم ربك الأعلى
[الأعلى: 1]
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
[الرحمن: 78] فاسمه جل شانه ما يمكننا أن نعلم من صفاته وما يشرق في أنفسنا من بهائه وجلاله، ولا مانع من أن نريد من الأسماء هذا المعنى، وهو لا يختلف في التأويل عما قالوه من إرادة المسميات، ولكنه على ما نقول أظهر وأبين.
وقد أحال السيد محمد رشيد رضا القارئ إلى ما تقدم نقله عنه في تفسير البسملة، وهو أن اسم الله يسبح ويعظم، ومنه اسناد التسبيح اليه قولا وكتابة، وتسبيحه وتعظيمه بدون ذكر اسم خاص بالقلب، وان من تعمد اهانة اسم الله تعالى يكفر كمن يتعمد إهانة كتابه.
والتحقيق أن الأسماء هي الالفاظ الدالة على الحقائق سواء كانت هذه الحقائق ذوات أو معاني، فإن القرآن نزل باللسان العربي، ومن المعلوم أن العرب يطلقون الاسم على اللفظ الموضوع إزاء المعنى المدلول عليه به، ولا ينبغي أن يفسر القرآن بما تواضع عليه فلاسفة اليونان فان ذلك خارج عن الوضع العربي الذي نزل به، ولا يمنع هذا أن يكون آدم عليه السلام علم خواص الاشياء كما علم أسماءها.
ولا ريب أن معرفة هذه الخواص تتوقف على معرفة الألفاظ التي تعبر عنها، وحياة الناس من الضرورة فيها بمكان معرفة أسماء ما تتوقف عليها من المنافع فإنها حياة اجتماعية لا يستقل فيها أحد بنفسه، ولذلك احتاج الناس إلى وضع اسماء للك ما يحدث أو يكتشف من الأشياء التي لم تكن معهودة من قبل، وهذا شيء معهود في جميع اللغات خصوصا فيما تتوقف عليه مصالحهم، ومن الذي يستغنى في عصرنا هذا عن معرفة اسم الكهرباء، والمذياع، والسيارة، والطائرة مثلا، وقد كان سلفنا في غنى عن معرفة جميع ذلك لعدم تعاملهم مع هذه الأشياء وعدم تصورهم إياها.
وبهذا التحرير يتبين لك أن الصحيح هو ما عليه الجمهور من أن المراد بالأسماء الألفاظ الدالة على المعاني وقد أجاد الشهابان الخفاجي والألوسي حيث قالا إن في ماحكاه الفخر الرازي نظرا، ويتبين لك ايضا إن أصح الأقوال هو أن المراد بالأسماء أسماء الأجناس وهو قول وسط بين إفراط الغالين وتفريط المصرين، إذ دعوى أن الله علمه جميع اللغات التي تتحدث بها ذريته إلى يوم القيامة أو علمه كل ما يكون في المحيط الإنساني إلى أن يرث الله الأرض إفراط لا يستند إلا إلى الوهم، وقول من قال إن المراد بالأسماء أسماء الملائكة فحسب أو أسماء النجوم، أو أسماؤه تعالى الحسنى ليس بشيء، فان حاجة البشر إلى معرفة الأشياء الأرضية التي تشتد ضرورتهم إليها ابلغ من حاجتهم إلى معرفة أسماء الملائكة والنجوم، ومن ناحية أخرى فإن قوله تعالى من بعد: { ثم عرضهم على الملائكة } يدل على أنه سبحانه جاء بمسميات هذه الأسماء فعرضها على الملائكة وطالبهم بأن يخبروه بأسمائها، وإذا كانت هذه الأسماء للملائكة فيكف يكون هذا العرض على الملائكة أنفسهم، والقول بأنه عرض على كل طائفة منهم طوائف أخرى، وطالب الطائفة المعروض عليها أن تخبر بأسماء الطائفة المعروضة هو في منتهى التكلف وليس له حظ من الدليل، وأبعد من ذلك عن الصواب القول بأنها أسماء الله الحسنى فإن عرض مسماها مستحيل عقلا ونقلا.
ومن الظاهر بداهة أن المراد بقوله: { ثم عرضهم على الملائكة } [البقرة: 31] عرض مسميات هذه الأسماء لا الأسماء نفسها فإنها أعراض تتعذر مشاهدتها، وعود الضمير على المسميات وإن لم يسبق لها ذكر لأجل قرينة ذكر أسمائها، والرباط بين الاسم ومسماه رباط قوي فالأسماء إنما وضعت لأجل استحضار ماهيات مسمياتها بحيث تكون مجلوة للأذهان، وهذه الصلة بين الاسم ومسماه هي التي أدت بالكثيرين إلى القول بأنهما شيء واحد، وقد سبق الكلام على ذلك في أول تفسير الفاتحة، وقد جعل ابن المنير الاسكندري - في الانتصاف من صاحب الكشاف - من هذه الآية دليلا على أن الاسم هو المسمى، وانتقد فيه الزمخشري بشده حيث أشار إلى التفرقة بينهما، وزعم أن ذلك من الزمخشري بشده حيث أشار إلى التفرقة بينهما، وزعم أن ذلك من الزمخشري فرار عن معتقد أهل السنة وإخلاد إلى ما عليه المعتزلة، وفي ما قاله نظر لما سبق لك في تفسير البسملة من أن كثيرا من المحققين من أصحاب المذاهب الأربعة قالوا بالتفرقة بين الاسم والمسمى، فليس القول بذلك من معتقد المعتزلة وحدهم.
وهذا العرض على الملائكة من الأمور الغيبية المسلمة، ومن العسير تحديد طريقته لعدم قيام دليل على ذلك، ومن المحتمل أن يكون الله سبحانه عرض صور هذه المسميات للملائكة كأنما يشاهدون حقائقها عن كثب وهو أمر هين بالنسبة إلى قدرته عز وجل، وفيما نشاهده الآن من عرض لأجسام غير حاضرة بكل حركاتها وأحوالها مع مصاحبة ذلك بنقل حديثها شاهد على ما ذكرته، فإن الله سبحانه الذي منح خلقه القدرة على ذلك هو أجل وأقدر على كل ما يشاء، فمن الهين عنده تعالى عرض صورة ما لم يخلق بعد من مصنوعاته، ويمكن أن يكون ذلك بإحضار هذه المسميات في أذهان الملائكة، وفيما يراه النائم من المشاهد غير الحاضر شاهد على جواز ذلك، وليس ببعيد أن يكون تعالى قد خلق حالتئذ أفرادا من أجناس هذه المسميات حتى يشاهدها آدم والملائكة ويتصوروها.
وجمهور المفسرين يقولون بحصول مهلة بين تعليم الله آدم الأسماء وعرضها على الملائكة معولين على ما تدل عليه " ثم " من الترتيب والمهلة، ولا مهلة عندهم بين العرض عليهم ومطالبتهم بأن يخبروا بأسمائها بدليل العطف بالفاء التعقيبية في قوله: { فقال } ومرد ذلك - حسبما قالوا - إلى قصد تبكيت الملائكة، وخالفهم في ذلك الإمام ابن عاشور معولا على أن " ثم " هنا للمهلة الرتبية لا للمهلة الزمنية، كما هو شأنها في عطف الجمل، وقد سبق بيان ذلك في قوله تعالى:
ثم استوى إلى السمآء
[البقرة: 29] والذي يقتضيها هنا أن هذا العرض وما ترتب عليه من ظهور عدم علم الملائكة، وظهور علم آدم، وظهور ما خفي من علم الله تعالى وحكمته كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة من رتبة مجرد تعليمه الأسماء لو لم يتصل بما ذكر.
ولما كانت مطالبته تعالى للملائكة أن ينبئوه بالأسماء متفرعة عن الغرض المكذور عطفت قصتها عليه بالفاء التفريعية.
والإنباء هو الإخبار بالنبأ وهو ما تميز من الأخبار بالفائدة العظيمة والأهمية البالغة بحيث يكون حريا أن يحرص على استفادته كل سامع، وبهذا يكون أخص من الإخبار.
وأولاء من أسماء الإشارة كما تقدم، و " ها " للتنبيه وهي مألوفة الدخول على أسماء الإشارة، والإشارة بأولاء تستعمل فيها إذا كان المشار إليه من جنس العقلاء، وقد تستعمل في غير العاقل كما أشير بها إلى السمع والبصر والفؤاد في قوله تعالى:
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا
[الإسراء: 36]، فليس في الإشارة به في هذه الآية دليل على أن الأجناس المعروضة لم تكن إلا من العقلاء.
وهذا الأمر منه سبحانه لم يقصد به التكليف وإنما أريد به التبكيت وإظهار عجز الملائكة عما لم يجعل الله لهم إليه سبيلا، فلا دليل في الآية لمن قال بتكليف ما لا يطاق.
والمراد بقوله: { إن كنتم صادقين } إن كنتم صادقين في أحقيتكم بالخلافة من آدم، وهو ما يفهم من قولهم:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
[البقرة: 30] وإن لم يأتوا به صريحا، وقيل المراد به إن كنتم واثقين أن قولكم في هذه الأسماء لن يخرج عن إطار الصدق، وفي هذا منع لهم عن الاجتهاد، فلذلك توقفوا عن الإجابة بخلاف الذي ابتلاه الله بأن أماته مائة عام ثم بعثه فسأله: { كم لبثت } فإنه لم يقيد في الاجابة المطلوبة منه بمثل ما قيدوا به، فلذلك ساغ له الاجتهاد وإن جاز عليه الخطأ، وقال بعضهم إن المراد بالصدق هنا العلم وهو غريب إذ لم تؤلف تسمية العلم بالصدق، وفسره بعضهم بالإصابة نظرا إلى أن الصدق كما يكون في القول يكون في العمل، وحكى ابن جرير وأبو عبيد عن بعضهم أنهم حملوا إن هنا على معنى " إذ " ، ورده كل منهما، وأطال ابن جرير في هذا الرد وبين أن الذي يكون بمعنى " إذ " هو أن المفتوحة لا المكسورة، لأن المكسورة خاصة بالاستقبال، و " إذ " دالة على المضي فلا يصح حلول إحداهما محل الأخرى.
ومما يرمي إليه هذا الخطاب الموجه إلى الملائكة تنبيههم على خطئهم ليراجعوا أنفسهم وينيبوا إلى ربهم وإن كانوا هم في جميع أحوالهم منيبين وقد أدركوا هذه الغاية المطلوبة منهم فسارعوا قبل كل شيء إلى تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وعظم شأنه وذلك بقولهم: { سبحانك } وسبحان هو اسم مصدر بمعنى التسبيح، وقد تقدم أن التسبيح هو تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به، وفي تصدير جوابهم بالتنزيه اعتذار منهم إليه تعالى، ثم صرحوا بالعجز في قولهم: { لا علم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم } [البقرة: 32] وفيما صدروا به جوابهم من تسبيحه تعالى إقرار بأن أفعاله عز وجل تجل عن العبث، فهي جميعها منطوية على حكم شتى ظهرت للخلق أو لم تظهر، وإنما على المخلوق أن يقف عند حده وأن لا يتجاوز في شيء طوره، فإذا عزب عنه علم شيء من أسرار الله في خلقه أو حكمه في أحكامه فما عليه إلا ان يقدسه تعالى ويبرئ أفعاله من أي عبث وويعترف بالعجز عن الإحاطة بحكمه تعالى في أحكامه أو أسراره في خليقته، وبهذا كانت الملائكة قدوة لسائر الخلق في مثل هذه المواقف، ويتضمن جوابهم هذا الإعتذار عن الإنباء بالأسماء، فكأنهم قالوا ربنا إنك لم تعلمنا هذه الأسماء فلا سبيل لنا إلى معرفتها حتى نقدر على الجواب، ثم ردوا علم كل شيء إليه تعالى حيث قالوا: { إنك أنت العليم الحكيم } [البقرة: 32] وهذه الجملة هي تذييل وتعليل لما تقدم، فإن من شأن الجمل المصدرة بأن إذا عقبت حكما أن تكون تعليلا له كما يتضح ذلك لمن استقرأ ما جاء من مثله في القرآن وفي الكلام العربي منثوره ومنظومه.
وعليم بوزن فعيل وهو من أوزان المبالغة، ولذلك يطلق في المخلوقات على ما يكون كالطبائع والسجايا من صفاتها، فإذا وصف أحد بأنه عليم أدركت أن العلم صفة ملازمة له، وهكذا يقال في صفتي السميع والبصير ونحوهما، ومن هنا لا يطلقون هذه الصيغة على ما يحدث عرضا، فلا يقال فيمن علم مرة إنه عليه وإنما يخصون ذلك بمن كان العلم ملكة راسخة في نفسه.
وفي تعريف المسند والمسند إليه مع توسيط ضمير الفصل بينهما ما لا يخفى من تأكيد وصفه تعالى بالعلم بحيث لا يعد غيره جديرا بوصف العلم لأنه تعالى وحده المحيط بكل شيء علما، وعلم كل من عداه لا يوازي شيئا بجانب علمه الأزلي الذي لا يخرج شيء عن حيطته، دقيقا كان أو جليلا، ولهذا كان هذا القصر حقيقيا ولم يكن ادعائيا، فإن كل من عدا الله وإن علم شيئا فإن علمه مسبوق بالجهل، وعلمه بذلك الشيء نسبي فإن ما يجهله من أحواله أكثر بكثير مما يعلمه بخلاف علمه تعالى الذي لا تخفى عنه خافية.
والحكيم بمعنى المحكم على الصحيح، وقد سبق ذكر اختلاف العلماء في إتيان فعيل بمعنى مفعل ومن أنكر ذلك يضطر في مثل هذه المواطن إلى التأويل فيحمل الحكيم هنا على معنى المفعول، ويتأول ذلك بأنه تعالى محكمة أفعاله، والتكلف باد على هذا التأويل، وإحكام الشيء هو اتقانه ووضع كل جزء منه موضعه، فالمراد من وصفه تعالى بأنه حكيم أنه متقن صنع كل شيء من خلقه، والأصل في الحكمة أن تكون من نتائج العلم، إذ لا يعقل أن يكون الحكيم غير عالم، فلذلك أتوا بصفة الحكيم بعد صفة العليم.
العلم لله وحده
وفي هذا الجواب من الملائكة تعليم لغيرهم أن يقفوا عما أشكل عليهم، ولا يدعوا علم ما لا يعلمون، وأن يردوا علم كل شيء إليه سبحانه وتعالى، فإن العلم له وحده ولا يصل إلى الناس شيء من علمه إلا ما أفاضه عليهم بمشيئته ولطفه، وإذا كان الملائكة - وهم في الملأ الأعلى يطلعون على ما لا يطلع عليه البشر من أسرار خلق الله تعالى - قد تبرأوا من العلم إلا ما علمهم الله ولم يقتحموا على الاجابة فيقولوا من تلقاء أنفسهم ما لم يأذن به الله، فما بالكم بالإنسان الجاهل الذي خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا؟ أنى يسوغ له أن يتسور على أحكام الله فيفتي فيها بجهله آتيا فيها لما لم يأذن به الله؟ أليس الأولى له أن يقتدي بملائكة الله فيجيب بلا أدرى فيما لا يدري فيحرز أجر الاعتراف بالحق؟ ويقف في الحد الذي أمره الله أن يقف عنده حيث قال: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وناهيكم تحذيرا بالغا من التقول على الله بغير علم أن الله قرنه بالشرك في قوله:
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
[الأعراف: 33]، وروى الإمام الربيع عن جابر رضي الله عنهما إرسالا عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال:
" من أفتى مسألة أو فسر رؤيا بغير علم كان كمن خر من السماء إلى الأرض فصاد بئرا لا قعر لها ولو أنه وافق الحق "
وقد سبق في مقدمة التفسير ذكر توقف الخليفتين رضي الله عنهما عن تفسير الأب وتحرجهما من أن يقولا على الله ما لم يرده، وهكذا كان مسلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتدافعون الفتيا، ومن بلي بها ولم يستطع الفكاك منها كان شديد اليقظة والحذر من أن يأتي فيها بما لم يأذن به الله، وقد سلك مسلكهم جهابذة العلماء المحققين، فكان أحدهم يسأل عن المسائل الكثيرة ولا يجيب إلا عن القليل منها، ويقتصر فيما بقى على قول لا أدري، حتى فشا الجهل وكثر الادعاء، وتجرأ الناس على الخوض في مسائل الدين بدون معرفة، فاختلط الحابل بالنابل، والتبس الحق بالباطل فإنا لله وإنا إليه راجعون.
[2.33]
بعد أن عرض الله أجناس المسميات على الملائكة وأمرهم أن ينبئوه بأسمائها فاستعصى ذلك عليهم فلجأوا إلى تسبيحه تعالى معلنين أنهم لا علم لهم إلا ما علمهم إياه، وجه تعالى هذا الخطاب إلى آدم حتى يتبين لهم ما اختصه الله تعالى به من العلم ومنحه إياه من الفهم إذا ما جاء بما ند عن أفهامهم، واستعصى على مداركهم ووجه إليه هذا الخطاب مصدرا بندائه بإسمه لما في ذلك من الإيناس والتكريم، كيف والمقام مقام دهشة واضطراب فإن المخاطب هو الله الذي له ملك السماوات والأرض وهو بكل شيء محيط؟ وهذه سنته تعالى في خطابه لأنبيائه نحو: يا نوح... يا هود... يا صالح.. يا شعيب.. يا موسى.. يا عيسى بن مريم.. وانما اختص عز وجل عبده ورسوله محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام فلم يناده باسمه العلم، بل كان غالب ندائه له بلقب النبوة أو الرسالة، وذلك لأجل الإعلان عن قدرة والإشعار بمكانته، وفي ذلك تعليم ضمني بكيفية مخاطبة الناس له صلى الله عليه وسلم.
آدم ينبئ الملائكة
وقد أمر سبحانه آدم عليه السلام أن ينبئ الملائكة بالأسماء التي لم يفهمونها ولم يأمره أن ينبئه هو كما سبق في أمره إياهم للفارق بين الأمرين فإن أمره سبحانه للملائكة كان امتحانا لهم بخلاف أمره لآدم، فإنه أمر تشريف وتكريم أراد تعالى به إظهار مزيته وبيان ما تنطوي عليه فطرته من الخصائص التكوينية لدرك المعارف التي لم تكن فيهم، ومثل ذلك - والله المثل الأعلى - أن يمتحن أستاذ تلامذته في درس من الدروس التي أملاها عليهم ويطالبهم بتحليل معانيه واستنتاج فوائده، وهو واثق أن أفهامهم لم تستوعب ذلك، ومداركهم لم تستجله، وإنما يريد منهم معرفة قصورهم، فإذا تبين لهم فشلهم قال لتلميذ آخر أيقن منه توقد الفطنة وسعة الإدراك، قم يا فلان وأخبرهم بما لم يفهموه، وفصل هم ما عزب عن مداركهم وأفهامهم.
وقد قام آدم بهذه المهمة التي نيطت به خير قيام فأوضح ما انبهم من أسماء هذه الأجناس التي عرضت على الملائكة كما يدل عليه قوله سبحانه: { فلمآ أنبأهم بأسمآئهم } وعندئذ نودي عليهم من قبله تعالى بأن أسراره في خلقه، وحكمه في أفعاله لا يحيط بها غيره سبحانه، فليس لأحد بأن يعترضه في أمره، إذ له سبحانه الخلق والأمر، وهذا مطوى تحت إجابته لهم بقوله: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } ولم يذكر سبحانه في سالف القصة نص هذا القول وإنما ذكر ما يتضمن معناه وهو قوله لهم : { إني أعلم ما لا تعلمون } وفي هذا دليل على أن المراد بما لا يعلمون هناك هو ما فصله هنا بأنه غيب السماوات والأرض فما حكي هنا تقرير وتفصيل لما حكي هنالك.
والأولى إجراء غيب السماوات والأرض على العموم فيدخل في ذلك كل ما انطوى عليه هذا الوجود من حقائق لم تكتنهها أفهام الخلق، وكل ما حدث أو سيحدث في الكون من أمور لم تحط بها المخلوقات علما، ومن كان محيطا بهذه الخفايا كلها لم يخرج شيء من أفعاله عن الحكمة، ولم يكن شيء من أمره محلا للنقد أو الإعتراض.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بغيب السماوات أكل آدم وحواء من الشجرة، والمراد بغيب الأرض قتل قابيل لأخيه هابيل، وهو تفسير ضعيف جدا فإن غيب السماوات والأرض أوسع من ذلك بكثير، ومن ناحية أخرى فإن كلا من الأكل أو القتل لم يكن حاصلا عندما وجه الله إلى الملائكة هذا الخطاب.
وذهب بعضهم إلى أن غيب السماوات هو ما قضاه من أمور خلقه، وغيب الأرض هو ما فعلوه فيها بعد القضاء.
وذهب آخرون إلى أن المراد بهذا الغيب أحوال آدم التي علمها الله سبحانه قبل خلقه، وهذا من باب قصر عموم اللفظ على خصوص السبب، والمعول على ما صححه الأصوليون من أنه لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ وإنما دخول السبب الخاص في المراد من اللفظ العام أولوي لأنه مقطوع به، وإبقاء اللفظ هنا على عمومه أليق بكمال الله الذي أحاط بكل شيء علما.
والاستفهام في قوله: { ألم أقل لكم... } تقريري، فإن ذلك القول لا ريب في وقوعه، والملائكة يعلمون وقوعه ولا ينكرونه، ومن شأن الاستفهام التقريري إذا أريد به إثبات شيء أن يدخل عليه منفيا نحو قوله تعالى:
ألم نشرح لك صدرك
[الانشراح: 1]، وقوله:
ألم نخلقكم من مآء مهين
[المرسلات: 20]، وما في هذه الآية، وهذا لأن في الاستفهام معنى النفي، ونفي النفي اثبات ولذلك إذا أدخل على ما يراد نفيه لم يقترن بحرف النفي نحو قوله عز وجل:
أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون
[الواقعة: 59]، وقوله:
ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون
[يونس: 59]، وقوله:
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
[المائدة: 116]، ولا داعي إلى ما قاله ابن عاشور من أن أداة النفي مقحمة وأن ذلك غالبي في الإستفهام التقريري لقصد التوسيع على المقرر حتى يخيل إليه أنه يسأل عن نفي وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسع المقرر عليه ذلك ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره، فلذلك يقرره على نفيه، فإذا أقر كان إقراره لازما له لا مناص له منه، وأخرج ابن عاشور من هذا الغالب نحو { أأنت قلت للناس } ، وقوله:
قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يإبراهيم
[الأنبياء: 62]، وفي كلامه ما لا يخفى من الخلط بين ما يراد به الإثبات وما يراد به النفي، وقد علمت الفرق بينهما.
ماذا يبدي الملائكة ويكتمون؟
واختلف في المراد بما يبدون وما كانوا يكتمون، قيل ما يبدونه هو قولهم:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30] وما كانوا يكتمونه هو ما كان ابليس ينطوي عليه من العجب والكبر، أخرج هذا القول ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة رضي الله عنهم، وهو مروي عن سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري، واختاره ابن جرير وحمل اسناد ما كان ينطوي عليه إبليس إليهم على مثل ما تقول العرب قتل الجيش وهزموا، وإن كان المقتول أو المهزوم واحد منهم، ومثله في القرآن:
إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات
[الحجرات: 4] مع أن المنادي لم يكن إلا واحدا من بني تميم، وروى ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس أن المراد به أن الله يعلم السر كما يعلم العلانية، وقد علم من أمر إبليس ما لم يعلموا إذ قالوا:
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
[البقرة: 30].
وروى عن أبي العالية والربيع ابن أنس والحسن وقتادة: أن المراد بما يكتمونه هو قولهم فيما بينهم لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه وذلك عندما رأوا خلقه آدم حسبما روى ابن جرير وغيره، وإنما عد ذلك مما يكتمونه مع إفضاء بعضهم به إلى بعض لأن هذا الإفضاء لم يكن إلى عموم الملائكة بل كان افضاءا محدودا حسبما قيل، وفي المنار عن الإمام محمد عبده أن الذي يبدونه هو ما يظهر أثره في نفوسهم وأما ما يكتمون فهو ما يوجد في غرائزهم وتنطوي عليه طبائعهم، وقد جيء بكان الدالة على المضي مع ذكر الكتمان دون الإبداء، قيل لأن كتمانهم كان فيما سبق أما بعد أن كشف الله أمرهم فلم يكن كتمان، والأظهر أنها أريد بها تعميق مفهوم خبرها وهو ضرب من التأكيد كثيرا ما يجيء في القرآن نحو قوله تعالى:
وكان الله غفورا رحيما
[الفتح: 14]، ففائدتها في هذا الكلام تأكيد أنهم كتموا ما كتموه حرصا منهم على أن لا يبدو شيء منه لغيرهم.
ومما يستفاد من هذا الدرس وجوب مراقبة النفس في كل ما يلم بها من الخواطر وينتابها من الأفكار فإن الله سبحانه عليم بطوايا الصدور وخفايا الأمور فلا يخفى عليه شيء مما يتلجلج في صدر أحد، وبحصول هذه المراقبة من الانسان لنفسه يكون يقظا في أمره، بصيرا بما يأتي وما يذر.
[2.34]
أسند القول فيما تقدم إلى الرب مضافا إلى الضمير المخاطب المقصود به الرسول صلوات الله وسلامه عليه لما في ذلك من التنبيه بأن مراد الله بهذا الاستخلاف تربية هذا الجنس المستخلف في هذه الأرض بما يمنحه من مواهب وينمي فيه من قدرات ويودع في تكونيه من طاقات حسية ومعنوية، وذلك مفهوم من لفظة الرب فإنها بمعنى المربي والمصلح كما تقدم في الفاتحة، وإضافته إلى ضمير الخطاب العائد إليه صلوات الله وسلامه عليه لما في ذلك من إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم بلغ أرفع رتبة يصل إليها أفراد هذا الجنس فإنه نال من التربية الإلهية الظاهرة والباطنة ما لم ينله أحد من الخلق، وأحاطت به عنايته تعالى في كل شيء فخرج لهذا الوجود وقد اجتمعت فيه جميع صفات الكمال التي وهبها الله هذا الجنس الإنساني من بين مخلوقاته.
وقد عدل عن هذا الأسلوب هنا إلى أسلوب آخر حيث أسند القول إلى ضمير المتكلم الآتي بصيغة الجمع لإظهار عظمته، وهذا العدول مما يسمى في عرف علماء البلاغة بالالتفات، وقد سبق ذكره في سورة الفاتحة، وأنه يأتي لنكتة عامة وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط سامعه، وقد تكون مع هذه النكتة نكت خاصة بحسب ملاءمات مقام الخطاب، والنكتة الخاصة هنا أن الأمر بسجود الملائكة لأدم معاكس لما كانوا يتصورونه من فضلهم عليه وأحقيتهم بالخلافة دونه، فكأنما أراد به تعالى تأديبهم بعد أن أظهر لهم مزيته، فلذلك حكى هذا الجانب من القصة بهذا الاسلوب، وفي هذا السجود ما يشبه الاعتذار منهم إليه مما قالوه في شأنه.
قصة الأمر بالسجود لآدم
والعطف هنا من باب عطف القصة على القصة كما تقدم، وما قيل في " إذ " هناك قيل هنا، وإعادتها بعد العاطف المغنى عن إعادة الظرف للتنبيه على أن هذه القصة مقصودة بذاتها، فكانت حرية بالاستقلال والاهتمام، ومن هنا لم تعطف بالفاء الدالة على الترتيب والتفريع مع أن هذه القصة متفرعة عن سابقتها غير أن مراعاة استقلالها والعناية بها كانت أولى من مراعات التفرع المذكور، ويتضح لكم مما ذكرته من أن هذه القصة متفرعة عن سابقتها أن الأمر بالسجود كان على أثر ظهور مزية آدم بعلمه الأسماء وتعليمه إياها للملائكة، وذهب الفخر الرازي إلى أن الأمر بالسجود سابق على تلك المقاولة المتعلقة بالأسماء لقوله تعالى:
وإذ قال ربك للملآئكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[الحجر: 28 - 29]، وقوله:
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص: 71 -72]، فإن الظاهر من ذلك أنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود عندما آذنهم بخلق آدم، والمجيء بفاء الترتيب في جواب الشرط مؤذن بأن السجود كان مطلوبا عند حصول نفخ الروح وهو بلا ريب سابق على تعلميه الأسماء وما ترتب عليه، ولا بد هنا من وقفة تأمل فيما تدل عليه آيات (الحجر) و(ص)، وما تدل عليه سائر الآيات، فإن من المعلوم أن الأصل في ترتب الحكايات أن يكون بحسب ترتب المحكيات، وقد سردت هنا قصة آدم مبتدأة بإيذان الله الملائكة أنه مستخلفه في الأرض مع ذكر المراحل التي مر بها إلى أن أهبط من الجنة إلى الأرض. والظاهر أن كل ما ذكر في القصة كان مرتبا بحسب ترتبها الزمني، وهذا يعني أن أمر الملائكة بالسجود كان إثر ما تقدم ذكره من ظهور تفوق آدم على الملائكة في معرفة الأسماء، ومقدرته على تعليمها لهم، ويرجح ذلك المناسبة التي ذكرتها وهو أن يكون في هذا السجود اعتذار منهم إليه عما قالوه في شأنه، أما ما في سورة (الحجر) و(ص) فهو يشعر بأن الله تعالى عندما أخبر الملائكة بخلقه آدم تضمن إخباره أمرا تعليقيا بأن يسجدوا له عندما يكتمل خلقه ويتجلى فيه السر الإلهي وهو ما عبر عنه بالنفخ فيه من روحه ويجمع بين ما ذكر في تينك السورتين وما ذكر في هذه السورة وسائر السور المشتملة على قصته من الأمر التنجيزي بالسجود بأن ذلك الأمر ظل معلقا إلى أن تم وجود ما تعلق عليه فأكد لهم بالصيغة التنجيزية، هذا ما ظهر لي من الجمع بين ما ورد في هذه القصة وأنا أستغفر الله مما خالفت فيه الحق.
معنى السجود لآدم
ولا يبعد أن يكون الأمر بالسجود ما كان إلا مرة وإنما حكي تارة معلقا وأخرج منجزا بحسب اختلاف المقامات، فإذا أورد حالة ذكر الإعلام بخلقه ذكر معلقا نظرا إلى عدم وقوع ما علق عليه عندئذ، وإذا ذكر مع ذكر هذا المعلق عليه ذكر منجزا، ويرجح ما ذكرته من قبل قوله تعالى:
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم
[الأعراف: 11] اللهم إلا (أن) تحمل (ثم) على المهلة الرتبية كما هو شأنها اذا عطفت الجمل، وهذا الذي استقر عليه رأيي أخيرا وسأزيده بيانا في سورة الأعراف إن شاء الله.
ولعله مما يستشكل أن يكون السجود لآدم بعد تلك المقاولة في الأسماء مع قوله سبحانه:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص: 72] فإن الظاهر من الآية أن السجود مطلوب عقب نفخ الروح وذلك لمكان الفاء التي يقترن عطفها بالتعقيب غالبا وتوسط الكلام في الأسماء بين نفخ الروح والسجود مناف لهذا التعقيب.
والجواب أن الفاء هنا رابطة وليست عاطفة حتى تكون دالة على التعقيب وإنما دلالتها على السببية وحدها.
والملائكة الموجه إليهم هذا هم جميع ملائكة الله كما يفيده التعريف والتأكيد بكلهم وأجمعون في قوله سبحانه:
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
[ص: 73] وهو يدل على رجحانية ما رجحته من قبل من أن الملائكة الذين قال لهم الله إني جاعل في الأرض خليفة هم جميع ملائكته تعالى خلافا لمن قال إنهم ملائكة الأرض وحدهم كقطب الأئمة في الهيميان، ووجه هذه الدلالة أن الأصل في الاسم إذا أعيد معرفة أن يكون مدلوله نفس المدلول السابق، ومما يستغرب أن قطب الأئمة - رحمه الله - اختار في هيميانه وتيسيره أن لفظ الملائكة هنا صادق على جميع أفراده مع ما سبق نقله عنه من أن الملائكة الذين خوطبوا أولا هم ملائكة الأرض وحدهم.
وقد سبق أن ذكرت أن الألوسي نقل عن الصوفية أن المأمورين بالسجود من عدا العالين من الملائكة، وأن العالين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وحملوا على ذلك قوله تعالى:
أستكبرت أم كنت من العالين
[ص: 75]، ولا يجوز التعويل على هذا الرأي إذ هو من شطحاتهم المألوفة، وسيأتي إن شاء الله بيان المراد من العالين عندما نصل إلى تفسير الآية من سورة (ص) بعون الله وتوفيقه.
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله خلق خلقا فقال اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق خلقا آخر فقال: إني خالق بشرا من طين - اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال: { اسجدوا لأدم } ، قالوا نعم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم، وهذه رواية باطلة إذ في اسنادها مبهم، وهي مصادمة لنصوص القرآن الدالة على عصمة الملائكة عن مخالفة أوامر الله، ومن ناحية أخرى فإنها تقتضي أن خلق آدم سابق على خلق الملائكة، والآيات دالة على أنهم أوذنوا بخلقه قبل أن يخلق، وهو يقتضي أن يكون وجودهم سابقا على وجوده، ومن التناقض البين في هذه الرواية زعم راويها أن إبليس كان مندرجا في تلك المجموعة التي رفضت السجود فأحرقت بالنار، ويلزم من هذا أن يكون إبليس ممن أتت عليه النار، وبالجملة فلولا خشية أن تكون هذه الرواية سببا للبس الحق بالباطل لكان الأولى عدم ذكرها رأسا.
وسجودهم لآدم لم يكن عبادة له فإن العبادة لا تكون إلا لله رب العالمين، ولم تشرع عبادة غير الله عند أية طائفة من الخلق ولا في أية رسالة جاءت من عند الله
ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
[الأنبياء: 25]، وإنما هو سجود إجلال وتكريم أذن به الله تعالى لإعلاء شأن الجنس البشري في الملأ الأعلى، وامتثال الملائكة لأمر الله به معدود من عبادة الله سبحانه التي لا يفتأون عنها، واختلف في نوعه، فقيل كان سجودا شرعيا وهو عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، وقيل: لم يكن الا سجودا لغويا وهو عبارة عن تواضعهم وتطامنهم بين يديه، ولا يشكل مجيء ألفاظ في القرآن والسنة مستخدمة في معانيها اللغوية الأصيلة مع أن الشرع حولها إلى معان أخرى، وذلك كالصوم في قوله تعالى:
إني نذرت للرحمن صوما
[مريم: 26] فإنه بمعنى الإمساك مع أن الصوم منقول في الشرع إلى إمساك خاص ليس هو المراد هنا، والكفر المدلول عليه بقوله عز وجل:
أعجب الكفار نباته
[الحديد: 20] فإنه مستعمل في معناه اللغوي - وهو التغطية - مع أن الشرع نقله إلى مفهوم آخر، ومن العلماء من يرى الوقوف عن تحديد كيفية هذا السجود، وهو أولى لعدم قيام حجة على تعين أحد القولين.
واختلف أيضا هل كان مقصودا بهذا السجود آدم نفسه أو أنه كان سجودا لله، وكان آدم قبلة للساجدين كما هو شان الكعبة المشرفة؛ ويرجح الرأي الأول تعدية فعل السجود باللام الدالة على أن مدخولها هو المقصود به، ولا يستشكل سجود مخلوق لمثله مع الأمر بذلك ممن له الخلق والأمر على أن سجود بعض الناس لبعض كان مباحا في بعض عهود النبوات السابقة، كيف وقد حكى الله عن أبوي يوسف عليه السلام وإخوته أنهم خروا له سجدا، ومهما يكن فليس في ذلك ما يلمح منه قصد عبادة مخلوق لمخلوق مثله، وإنما حرم السجود لغير الله في رسالة خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه حتى لا يكون في هذه الأمة تعظيم لغير الله عز وجل، فلا تخر جبهة على الأرض ولا يتطأطأ رأس ولا ينحني ظهرا لغير جلاله تعالى، ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من هم بالسجود له.
وتأول القائلون بالقول الثاني " اللام " بمعنى " إلى " واستشهدوا لذلك بقول حسان:
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعلم الناس بالقرآن والسنن
ومنهم من حمل اللام على معنى " عند " مستدلا بقوله سبحانه:
أقم الصلاة لدلوك الشمس
[الإسراء: 78]، والأكثرون ضعفوا ذلك.
أصل إبليس
واختلف في استثناء إبليس هل هو متصل أو منقطع؟ وعلى الأول فإبليس من جنس الملائكة غير أنه شذ عنهم بغروره وكفره لما سبق في علم الله من شقائه، وعلى الثاني فهو خارج من جنسهم وإنما شمله الأمر بالسجود معهم لدخوله ضمنهم بعبادته وطاعته من قبل؛ والقول الأول مروي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما كما في تفسير ابن جرير وغيره ونسب إلى الجمهور، والقول الثاني روي عن ابن عباس أيضا ورواه ابن جرير باسناد صحيح عن الحسن ونص ما رواه عنه " ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس " ، ومثله روي عن عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم وشهر ابن حوشب وعليه أصحابنا - رحمهم الله - حتى بالغ بعضهم فقال بإشراك من زعم أنه من الملائكة لمنافاة ذلك قوله تعالى:
كان من الجن
[الكهف: 50] ورده القطب - رحمه الله - لأن قائله تأوله من الاستثناء، والاتصال هو الاصل فيه، وحجة هؤلاء هذا النص الصريح في سورة الكهف الدال على أنه من جنس الجن وليس من جنس الملائكة، وما ثبت بالنصوص القرآنية من عصمة الملائكة المنافية لما صدر من إبليس، وقوله تعالى:
أفتتخذونه وذريته أوليآء
[الكهف: 50]، حيث أثبت له ذرية والملائكة لا يتوالدون إذ لا يتصفون بذكورية ولا بأنوثية وبأنه مخلوق من نار كما خلقت الجن منها حسب ما صرحت نصوص الكتاب العزيز، والملائكة خلقوا من نور كما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم.
وتكلف أصحاب القول الأول رد هذه الأدلة بضروب من التأويل كقولهم إن الجن المعنيين هنا طائفة من الملائكة لأن لفظه مأخوذ من الاجتنان وهو الاستتار واستأنسوا لذلك بقوله تعالى:
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا
[الصافات: 158] مع أن العرب كانت تزعم أن الملائكة بنات الله فاستظهروا من ذلك أنهم المقصودون بالجنة، وجوز بعضهم أن تكون كان بمعنى صار وهو يعني انتقاله بعد الطرد والمسخ من الصفات الملكية إلى صفات الجن الشيطانية فلذلك جاز عليه ما لم يجز على الملائكة، وأما خلقته من نار فلا تنافي - عندهم - أن يكون كالملائكة مخلوقا من النور لأن النار من طبيعتها الإنارة.
وما أوهى هذه الردود وأخفى حجتها فإن الأدلة ظاهرة في كون الجن جنسا موازيا للإنس وليس من الملائكة، ولا يبعد أن يكون مشركو العرب قالوا فيهم ما قالوه في الملائكة من وجود النسب بينهم وبين الله تعالى عما يقولون، فلا يدل قوله تعالى: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } على قصد الملائكة بذلك، وقد قال غير واحد من المفسرين: إن المراد بالجنة هنا الجان لا الملائكة، والنار وأن كان من شأنها الإنارة فإن خاصيتها المعروفة هي الإحراق، فالجن خلقوا منها متلبسين بهذه الخاصية المزعجة، أما الملائكة فهم مخلوقون من النور والنور لا يلزم تلبسه بالإحراق كما هو معروف على أن قوله تعالى في سورة الكهف:
كان من الجن ففسق عن أمر ربه
واضح في أن فسقه ناشئ عن كونه من الجن.
والقول الفصل في هذا المسألة هو ما قاله الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو أن إبليس كان مع الملائكة بصورته مع اختلاف عنصره عنهم فهو من نار وهم من نور، وأن النافي لكونه من الملائكة، والمثبت لم يتواردا على محل واحد، وبهذا يرجع القولان إلى قول واحد.
وجمل { أبى واستكبر وكان من الكافرين } مستأنفة استئنافا بيانيا لتبيان سبب خروجه عن الملائكة بعصيانه أمر الله واعتراضه عليه وذلك أن من شأن مثل هذا الخبر أن يثير تساؤلا في نفوس سامعيه، كيف لم يمتثل إبليس أم ربه مع الحاقه إياه بالملأ الأعلى وتأثره بالصفات الملكية وإن لم يكن منهم؟ وتوجيه الخطاب إليه ضمن خطاب الملائكة في قوله: { اسجدوا } على أن من طبيعة المخلوق التأثير بالمقارن، وكراهة شذوذ الفرد عن الجماعة، وفي هذه الجمل الإجابة عن هذه التساؤلات كلها.
معنى الإباء والاستكبار
والإباء الامتناع عن الشيء لكراهته، ويستعمل فيما اذا كان الامتناع والكراهة لترفع الأبي عن المأبى عنه، والاستكبار والتكبر بمعنى غير أن الاستكبار يشعر لفظه بالمبالغة في طلب الكبر وهو جبلة ذميمة تدع النفس تركن إلى اعتقادها أنها أرفع من المتكبر عليه وهذا يعين أن الكبر لا يكون إلا مع وجود المتكبر والتكبر والمتكبر عليه مع داعية الكبر وإن كانت وهمية، ومن هنا يختلف عن العجب فإنه يتوقف على المعجب وداعية العجب فقط.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المعطوفات هنا لم تأت على نسق ترتبها الواقعي، فإن الكفر سابق على الاستكبار، والاستكبار سابق على الإباء، فكان من حق الترتيب أن يقال كان من الكافرين واستكبر وأبى، ورده الإمام محمد عبده بأن نظم الآية جاء على مقتضى الطبيعة في الذكر، فإنه يفيد أن الله تعالى أراد أن يبين الفعل أولا لأنه المقصود بالذات وهو الإباء، ثم يذكر سببه وعلته وهو الإستبكار، ثم يأتي بالأصل في العلة والمعلول والسبب والمسبب وهو الكفر.
وذهب بعضهم إلى أن " كان " هنا بمعنى " صار " ، وقائل ذلك نظر إلى أن صيرورته إلى الكفر إنما كانت بسبب إبائه واستكباره، ورده ابن فورك قائلا: إن الأصول ترده، وانتصر له ابن عاشور بأن استعمال كان بمعنى صار نوع من أنواع استعمالها كما في قوله تعالى:
وحال بينهما الموج فكان من المغرقين
[هود: 43] وقوله:
وبست الجبال بسا فكانت هبآء منبثا
[الواقعة: 5، 6] وقول ابن أحمر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها
قطا الحزم قد كانت فراخا بيوضها
وقال كثير منهم: إن المراد بقوله: { وكان من الكافرين } أنه كان كافرا في علم الله عز وجل، والداعي إلى هذا القول عند قائليه ان إبليس قبل هذا الإباء لم يكن في ذاته كافرا وإنما كان كفره مما طواه الغيب في علم الله وحده، وذهب آخرون إلى أنه كان كافرا في سره وإن ظهر خلاف ذلك من علانيته، وجميع هذه الأقوال غير صادرة إلا عن التكلف الذي ألجأ قائليها إليه نظرهم إلى أن دلالة كان على المضي، وإبليس لم يكن في ماضي أمره حسب علانيته كافرا، والصحيح ما استحسنه ابن عاشور وهو أن " كان " هنا دالة على رسوخ معنى خبرها في اسمها وإلا فالأصل أبى واستبكر وكفر، ولما أريد تعميق مفهوم الكفر الذي انطوى عليه إبليس ليكون سامعوا خبره على بينة من أمره جيء بكان كما فعل في قوله عز وجل:
إلا امرأته كانت من الغابرين
[الأعراف: 83]، وقوله:
ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون
[النمل: 41]، وعدل عن نحو وكان كافرا إلى { وكان من الكافرين } مع أنه لم يكن له ثان في الكفر يومئذ فضلا عن وجود مجموعة من الكافرين ينضم إليها لأن التعبير المعدول إليه أدل على تعمق الكفر فيه وتمكنه منه، فإن الواحد يزداد تمسكه بمبدئه وإصراره عليه إذا علم ان له شركاء يساندون رأيه ويقفون معه، فإبليس وإن كان هو الإمام للكافرين ورفضه لما أمره الله به هو الخطوة الأولى إلى الكفر، فإن استشعاره أنه سيكون له أتباع وأعوان وشركاء فيما اختاره لنفسه من الكفر كان له حافزا إلى الإصرار على ما أخلد إليه والعياذ بالله، وقد ذكر الاستكبار هنا مجملا وبين في قوله تعالى حاكيا عنه:
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
[ص: 76، الأعراف: 12] وفيه دليل على أن منشأ استكباره نظره إلى العنصر الذي خلق منه، والعنصر الآخر الذي خلق منه آدم، ولم يدر بباله أن قيمة كل أحد عمله وليست عنصره، وفي هذا عبرة للذين يتفاخرون بالأنساب ويتكلون على الأحساب تاركين العمل الصالح جانبا عنهم كأنما يجازي الناس يوم القيامة بأنسابهم.
المفهوم الخاطئ عن الملائكة
هذا وقد سبق لي أن أشرت في مقدمة التفسير إلى ما ذهب إليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتابعه عليه تلميذه العلامة السيد محمد رشيد رضا في تفسير قصة آدم عليه السلام وقد رأيت أن اورد هنا ما قالاه في تفسير هذه الآية الكريمة وذلك بإيراد نص كلامهما تارة ومضمونه تارة اخرى ثم أتبع ذلك كشف الستار عن هذه المسألة وبيان مخالفة رأيهما لمدلولات النصوص القرآنية وما اتفقت عليه هذه الأمة جيلا بعد جيل مع شرح الأسباب التي دفعت بهما إلى اتباع هذا المسلك الملتوي في تأويل كتاب الله.
سبق أن أشار الأستاذ الإمام في الآيات السابقة أن الناس وقفوا من هذه القصة موقفين: موقف التفويض وعدم الخوض في بيان تفاصيلها وعزا ذلك إلى السلف، وموقف التأويل وأمثل وجوهه عنده أن يكون المراد بهذه القصة مجرد التمثيل، وقد سبق أن ذكرت في بداية تفسيرها بطلان حمل القصص القرآنية على التمثيل فحسب، فإن للتمثيل طرقا في القرآن ليست هذه القصة منها ولا إليها.
وفي حمل الأستاذ هذه القصة على التمثيل توطئة لما سيقوله بعد فإنه تدرج في تأويلها وتأويل ما انطوت عليه من أسماء الأجناس الغيبية حتى انتهى إلى النقطة النهائية التي لم يبرحها وهي ذلك التأويل البعيد الذي أشرت إليه في المقدمة.
ولنبدأ هنا بنقل كلامه حسب تلخيص السيد رشيد رضا له. قال:
" تقدم أن الملائكة خلق غيبي لا نعرف حقيقته وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه، وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صنف وظيفة وعمل، ونقول الآن إن إلهام الخير والوسوسة بالشر مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم وقد أسند إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهاما، وخواطر الشر التي تسمى وسوسة كل منهما محله الروح، فالملائكة والشياطين إذن أرواح تتصل بأرواح الناس فلا يصح أن تمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة لنا لأن هذه لو اتصلت بأرواحنا فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا ونحن لا نحس بشيء يتصل بأبداننا، لا عند الوسوسة، ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس، فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان قطعا، والواجب على المسلم في مثل هذه الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنها حكاية تمثيل ثم الإعتبار بها بالنظر في الحكم التي سيقت لها القصة ".
وبعد إيراد هذه الفقرة من كلام الإمام في المنار قال السيد رشيد رضا: " إن إسناد الوسوسة إلى الشياطين معروف في الكتاب والسنة، وأما إسناد الحق والخير إلى الملائكة فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها السلام، ومن حديث الشيخين في المحدثين وكون عمر منهم - والمحدثون بفتح الدال وتشديدها الملهمون - ومن حديث الترمذي والنسائي وابن حبان وهو " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان " ثم قرأ:
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء
[البقرة: 268].
وكانت هذه خطوة يخطوها الإمام إلى إيضاح رأيه الذي اقتنع به، ثم جاءت ال خطوة الثانية في قوله: " وذهب بعض المفسرين مذهبا آخر في فهم معنى الملائكة وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخة الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهي سمى في لسان الشرع ملكا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمى هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرا هو مناطها وبه قوامها ونظامها لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكا وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموسا طبيعيا لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات، وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، فلا يعلم إلى الله علام يختلف الناس؟ وكل يقر بوجود شيء غير ما يرى ويحس، ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه، وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما أجيب عنه لو قال أصدق بغيب أعرف أثره وإن كنت لا أقدره قدره، فيتفق مع المؤنمين بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي، ويحظى بما يحظى به المؤمنون ".
وخلاصة ما ذكره هنا أن المراد بالملائكة هذه القوى الغيبية التي تكمن وراء الكائنات الإنسانية والحيوانية والنباتية، وهي ما تسمى بالأرواح عند المتدينين وفقا لنصوص الوحي، وبالقوى الطبيعية عند غيرهم وهو كما تراه يعزو ذلك إلى بعض المفسرين ولم يحدده، وقد فتشت فيما وصلت إليه يدي من كتب التفسير عن هذا الرأي فلم أجد معزوا إلى أحد الإسلاميين سواءك ان من المفسرين أم من سائر العلماء، وإنما وجدت رأيا قريبا منه معزوا إلى النصارى، وآخر إلى فلاسفة اليونان، كما سيأتي إن شاء الله، ولست أدري هل يقصد الأستاذ بالبعض الذي ذكره هؤلاء؛ أو أنه يريد به نفسه فورى عنها بكلمة بعض المفسرين؟ ويتضح لمن قرأ كلامه هذا أنه أراد بهذه المحاولة التقريب بين عقائد المسلمين وأفكار الماديين الذين ران الباطل على قلوبهم فلم تتمكن من إبصار الحقيقة وإدراك الحق، وهيهات أن يلز الحق والباطل، أو الهدى والضلال في قرن.
ثم ذكر عقب ما تقدم ما يحس به كل أحد عندما يهم بأمر حق أو باطل من تنازع في نفسه بين دواعي الخير ودواعي الشر - وهي خواطره المترددة - إلى أن يترجح أحد الجانبين فيقدم على الفعل أو الترك في الأمرين، وأجاز أن تسمى الخواطر الخيرية باسم الملائكة لأن التسميات لا حجر فيها على الناس، فكيف يحجر على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ، والعلم الواسع؟ وذكر السيد رشيد رضا عقب كلامه هذا أن الإمام الغزالي سبق إلى بيان هذا المعنى وعبر عنه بالسبب، وقال إنه سمي ملكا، وذلك أنه بعدما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم قال: " ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة ثم أن كل حادث فلا بد له من محدث، ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب، فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار، وأظلم سقفه بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة، وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا، والذي يتهيأ به لقبول الشر يسمى إغواء وخذلانا، فإن المعاني المختلفة تحتاج إلى أسامي مختلفة ".
والفرق واضح بين كلام الغزالي هذا وكلام الإمام محمد عبده، فإن الغزالي لم يزد على أن خواطر الخير تكون بإلهام الملائكة فإنهم يتولون بأمر الله إلقاءها في نفس الإنسان، وخواطر الشر من أمر الشيطان، وهذا هو الذي تفيده دلائل القرآن والسنة، ولا يدل كلامه من قريب ولا بعيد أن خواطر الخير هي نفسها الملائكة، وخواطر الشر هي الشياطين كما يقتضيه كلام الإمام محمد عبده، وإن عد كلاميهما صاحب المنار من باب واحد.
وبعد هذه التوطئة الطويلة من الإمام محمد عبده لغرضه المقصود أتى ببيت قصيده حيث قال: " فإذا صح الجري على هذا التفسير فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به، خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعدا للتصرف بجميع هذه القوى، وتسخيرها في عمارة الأرض وعبر عن تسخير هذه القوى له بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حد له والتصرف الذي لم يعط لغيره، خليفة الله في أرضه، لأنه أكمل الموجودات في هذه الأرض، واستثنى من هذه القوى قوة واحدة عبر عنها بإبليس، وهي القوة التي لزها الله بهذا العالم لزا وهي التي تميل بالمستعد للكمال أو بالكامل إلى النقص، وتعارض مبدأ الوجود لترده إلى العدم أو تقطع سبيل البقاء، وتعود بالموجود إلى الفناء أو التي تعارض في اتباع الحق، وتصد عن عمل الخير وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته، فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خلق مستعدا للوصول إليها، تلك القوة التي ضللت آثارها قوما فزعموا أن في العالم إلها يسمى إله الشر، وما هي بإله ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته الا هو - قال - ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق ".
واذا كان الإمام قال هنا بجواز هذا التأويل ورد الأمر فيه إلى اطمئنان القلب وسكون النفس، فإنه تجاوز ذلك إلى القول بوجوبه بعد أن طمت عليه موجة من الاستنكار من العلماء الذين لم يألفوا مثل هذا التأويل البعيد عن مدلولات ألفاظ القرآن بحسب وضعها اللغوي والاصطلاحي فأصر على قوله إصرارا ولم يعر عاذليه إلا أذنا صماء، وقد وقف بجانبه تلميذه السيد رشيد رضا الذي بين هدف الإمام من هذا التأويل، ومهد لنقل ما رد به الإمام على خصومه بقوله: " إن غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة اقناع منكري الملائكة بوجودهم بتعبير مألوف عندهم تقبله عقولهم وقد اهتدى به كثيرون وضل به آخرون فأنكروه عليه وزعموا أن جعل الملائكة قوى لا يعقل فرد عليهم كتابة بما نصبه بحروفه " ولست أحيط علما بما فعلت العادة والتقاليد في أنفس بعض من يظنون أنهم من المتشددين في الدين إذ ينفرون من هذه المعاني كما ينفر المرضى أو المخرجون من جيد الأطعمة التي لا تضرهم، وقد يتوقف عليها قوام بنيتهم، ويتشبثون بأوهام مألوفة لهم تشبث أولئك المرضى والمخدجين بأضر طعام يفسد الأجساد ويزيد السقام، لا أعرف ما الذي فهموه من لفظ روح أو ملك؟ وما الذي يتخيلونه من مفهوم لفظ قوة؟ أليس الروح في الآدمي مثلا هذا الذي يظهر لنا في افراد هذا النوع، بالعقل والحس، والوجدان والإرادة والعمل، وإذا سلبوه سلبوا ما يسمى بالحياة؟ أو ليست القوة هي ما تصدر عنه الآثار فيمن وهبت له، فإذا سمي الروح لظهور أثر قوة، أو سميت القوة لخفاء حقيقتها روحا، فهل يضر ذلك بالدين أو ينقص معتقده شيئا من اليقين؟ ".
" ألا لا يسمى الإيمان إيمانا حتى يكون إذعانا، ولا يكون كذلك حتى يستسلم الوجدان وتخشع الأركان لذلك السلطان الذي تعلق به الإيمان، ولا يكون كذلك، حتى يلقي الوهم سلاحه، ويبلغ العقل فلاحه، وهل يستكمل ذلك لمن لا يفهم ما يمكنه فهمه، ولا يعلم ما يتيسر له علمه؟ كلا إنما يعرف الحق أهله ولا يضل سبله، ولا يعرف أهل الغفلة لو أن مسكينا من عبدة الألفاظ من أشدهم ذكاء وأذربهم لسانا أخذ بما قيل له إن الملائكة أجسام نورانية قابلة للتشكل، ثم تطلع عقله إلى أن يفهم معنى نورانية الأجسام، وهل النور وحده له قوام يكون به شخصا ممتازا بدون أن يقوم بجرم آخر كثيف، ثم ينعكس عنه كذبالة المصباح أو سلك الكهرباء؟ ومعنى قابلية التشكل وهل يمكن للشيء الواحد أن يتقلب في أشكال من الصور مختلفة حسبما يريد، وكيف يكون ذلك؟ ألا يقع في حيرة، ولو سئل عما يعتقده من ذلك ألا يحدث في لسانه من العقد ما لا يستطيع حله؟ أليس مثل هذه الحيرة يعد شكا؟ نعم ليست هذه الحيرة حيرة من وقف دون أبواب الغيب يطرف لما لا يستطيع النظر إليه، لكنها حيرة من أخذ بقول لا يفهمه، وكلف نفسه علم ما لا تعلمه، فلا يعد مثله ممن آمن بالملائكة إيمانا صحيحا واطمأنت بإيمانه نفسه، وأذعن له قلبه، ولم يبق لوهمه سلاح ينازع به عقله كما هو شأن صاحب الإيمان الصحيح ".
" فليرجع هؤلاء إلى أنفسهم ليعلموا أن الذي وقر فيها تقاليد حفت بالمخاوف لا علوم حفت بالسكينة والطمأنينة، هؤلاء لم يشرق في نفوسهم ذلك السر الذي يعبر عنه بالنور الإلهي، والضياء الملكوتي، واللألاء القدسي، أو ما يماثل ذلك من العبارات، لم يسبق لنفوسهم عهد بملاحظة جانب الحق، ولم تكتحل أعين بصائرهم بنظرة إلى مطلع الوجود منه على الخلق، ولو علموا أن العالم بأسره فان في نفسه، وأن ليس في الكون باق كان أو يكون إلا وجهه الكريم، وأن ما كثف من الكون وما لطف وما ظهر منه وما بطن إنما هو فيض من جوده، ونسبة إلى وجوده، وليس الشريف منه إلا ما أعلى بذكره منزلته، ولا الخسيس إلا ما بين لنا بالنظر إلى الأول نسبته، فإن كل مظهر من مظاهر الوجود في نفسه واقع موقعه ليس شيء أعلى ولا أحط منه، فإن كان كذلك - ولا بد أن يكون كما قدره - لو عرفوا ذلك كله لأطلقوا لأنفسهم أن تجول في تلك الشؤون حتى تصل الى مستقر الطمأنينة حيث لا ينزاع العقل شيء من وساوس الوهم، ولا تجد طائفة من الخوف، ثم لا يتحرجون من إطلاق لفظ مكان لفظ ".
" هذه القوى التي نرى آثارها في كل شيء يقع تحت حواسنا وقد خفيت حقائقها عنا، ولم يصل أدق الباحثين في بحثه عنها إلا إلى آثار تجل إذا كشفت، وتقل بل تضمحل إذ حجبت، وهي التي يدور عليها كمال الوجود، وبها ينشأ الناشئ، وبها ينتهي إلى غايته الكامل، كما لا يخفى على نبيه ولا خامل أليست أشعة من ضياء الحق؟ أليست أجل مظهر من مظاهر سلطانه؟ ألا تعد بنفسها من عالم الغيب وإن كانت آثارها من عالم الشهادة؟ ألا يجوز أن يشعر الشاعر منها بضرب من الحياة والإختيار خاص بها لا ندرك كنهه لاحتجابه بما نتصوره من حياتنا واختيارنا؟ ألا تراها توافي بأسرارها من ينظر في آثارها ويوفيها حق النظر في نظامها؟ يستكثر من الخير بما يقف عليه من شؤونها ومعرفة الطريق إلى استدرار منافعها "؟.
" أليس الوجود الإلهي الأعلى من عالم الغيب وآثاره في خلقه من عالم الشهادة؟ أليس هو الذي وهب تلك القوى خواصها وقدر لها آثارها؟ لم لا تقول أيها الغافل إنه بذلك وهبها حياتها الخاصة بها ولم قصرت معنى الحياة على ما تراه فيك وفي حيوان مثلك؟ مع أنك لو سئلت عن الذي تزعم أنك فهمته وسميته حياة لم تستطع له تعريفا ولا لفعله تصريفا؟ لم لا تقول كما قال الله وبه نقول:
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء: 44].
" أفلا تزعم أن لله ملائكة في الأرض وملائكة في السماء؟ هل عرفت أين تسكن ملائكة الأرض؟ وهل حددت أمكنتها ورسمت مساكنها؟ وهل عرفت أين يجلس من يكون منهم عن يمينك ومن يكون عن يسارك؟ هل ترى أجسامهم النوارنية تضيء لك في الظلام أو تؤنسك إذا هجمت عليك الأوهام؟ فلو ركنت إلى أنها قوى او أرواح منبثة فيما حولك أو ما بين يديك وما خلفك، وأن الله ذكرها لك بما كان يعرفها سلفك، وبالعبارة التي تلقفتها عنهم كي لا يوحشك بما يدهشك وترك لك النظر فيما تطمئن إليه نفسك من وجوه تعرفها، أفلا يكون ذلك أروح لنفسك وأدعى إلى طمأنينة عقلك؟ أفلا تكون قد أبصرت شيئا من وراء حجاب ووقفت على سر من أسرار الكتاب فإن لم تجد في نفسك استعدادا لقبول أشعة هذه الحقائق وكنت ممن يؤمن بالغيب ويفوض في إدراك الحقيقة ويقول:
آمنا به كل من عند ربنا
[آل عمران: 7] فلا ترم طلاب العرفان بالريب ما داموا يصدقون بالكتاب الذي آمنت به ويؤمنون بالرسول الذي صدقت برسالته وهم في إيمانهم أعلى منك كعبا وأرضى منك بربهم نفسا، ألا إن مؤمنا لو مالت نفسه إلى فهم ما أنزل إليه من ربه على النحو الذي يطمئن إليه قلبه كما قلنا كان من دينه في ثقة ومن فضل ربه في سعة ".
هذا ما قاله الإمام في هذا الموضوع، وأقره وتابعه عليه السيد رشيد رضا، ويتلخص رأيهما فيما يلي:
1) عدم التفرقة بين الملائكة والأرواح التي هي قوام أجساد الأحياء.
2) تفسير الملائكة والأرواح بالقوى الطبعية الكامنة وراء العالم البشري وغيره من المخلوقات.
3) تفسير إبليس والشياطين بقوى الشر الكامنة وراء هذه المخلوقات التي تدفع بالإنسان الى ما فيه ضرر نفسه وجنسه ومصيبة مجتمعة وأمته.
وقد جاء رد الإمام على خصومه في هذه المسألة مليئا بعارات التشنيع عليهم والاستخفاف بهم، خاليا من الحجج التي يمكن أن يعول عليها في اثبات أمر أو نفيه بل كان وحيا من عاطفته الجياشة الثائرة بعيدا عما يجب أن يكون عليه البحث الموضوعي، وقد حشر فيه ما لا صلة له بما يتحدث عنه، وسفه رأي من قال إن الملائكة أجسام نورانية قابلة للتشكل وعده من دواعي الحيرة والشك في العقيدة لعدم استيعاب الأفهام لهذا المنطق، ووافقه السيد رشيد رضا في تعليق له على كلامه في حاشية المنار ونصه: " هذا هو التعريف المشهور في كتب الكلام وغيرها وأول ما يعترض به عليه أنه لا يصح فيه معنى الجسم في اللغة، ولكنه صار مألوفا وإن لم يكن مفهوما ".
هذا وإذا كنت قد أعجبت بكثير من آراء هذين الإمامين في تفسيرهما لكتاب الله كما تجدون ذلك واضحا في هذا التفسير فإن ذلك لا يمنعني من التنبيه على خطئهما عندما يحيدان عن الصراط السوي في الرأي، وما من أحد إلا وفي كلامه ما هو مقبول وما هو مردود إلا المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، وبناء على هذا فإنني أقول:
الملائكة والشياطين من عالم الغيب
لا ريب أن الملائكة والشياطين من عالم الغيب الذي لا يمكن أن نفسره وفق المقاييس التي نعتمد عليها في فهم عالمنا المشهود، وإنما يجب استنادنا في اكتناه حقائقه على ما نفهمه من كتاب الله، وما ثبت عندنا من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم إذ ليس لنا أي اتصال بالغيب إلا من طريقهما، وإذا استقرينا نصوص الكتاب والسنة نجد أن هذا التفسير الذي قاله الإمام واعتمده تلميذه صاحب المنار ليس من الصحة في شيء بل هو بعيد من الصحة بعد تخوم الأرض عن الأفلاك المتناهية في العلو، فالله عز وجل يخبرنا عن الملائكة بقوله:
جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشآء
[فاطر: 1]، وقوله:
بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين
[الأنبياء: 26 -29]، فإن هذه الأوصاف - بحسب مقتضيات اللغة العربية - لا تكون إلا لأولي ذوات مستقلة، وهو يتنافى مع تفسيرهم بالطاقات الطبعية، فإنه من المعلوم أن الطاقة الطبعية لا توصف بأنها عاقلة، وكل من لفظتي " أولى " و " عباد " لا تطلق إلا على جنس العقلاء فضلا عن إطلاقهما على الحقائق المعنوية وحدها كالقوى الطبعية، ومثل ذلك وصف العباد بالصيغة الدالة على جمع العقلاء في قوله { لا يسبقونه } ، و { يعملون } ، و { بين أيديهم وما خلفهم } ، و { لا يشفعون } ، و { هم } ، و { مشفقون } ، و { منهم } ، ويقول تعالى:
والملائكة باسطوا أيديهم
[الأنعام: 93] وهو دال على استقلال ذواتهم كما قلت، ويقول في زبانية النار - والعياذ بالله -
عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم: 6]، وصيغة أوصافهم في هذه الآية دالة أيضا على أنهم من العقلاء كما سبق، ويقول في جبريل عليه السلام:
علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده مآ أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى
[النجم: 5 -13]، فبالله عليكم هل تنطبق هذه الأوصاف على القوى الطبعية؟ ويقول فيه أيضا:
رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين
[التكوير: 19 -21].
ومثل ذلك ثبت في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم المتواترة معنى، فقد أخرج الإمام الربيع والشيخان
" عن مسروق أنه سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: { ولقد رآه بالأفق المبين } ، وقوله: { ولقد رآه نزلة أخرى } فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عظيم خلقه ما بين السماء والأرض "
وثبت عند الشيخين أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حضور بين يديه في صورة رجل حسن الوجه والثياب طيب الرائحة وأخذ يسأله عن أركان الإيمان، وروى الربيع والشيخان
" عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ قال: " أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس وهو أشده على فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول "
ففي هذه الأحاديث الثابتة الصحيحة وأمثالها ما يكفي العاقل حجة على استقلال ذوات الملائكة وعدم كونهم قوى متلبسة بسائر الذوات، وهي صريحة في تشكلهم متى أرادوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدل قوله:
" لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين.. إلى أخره "
على أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يرى جبريل عليه السلام في سائر المرار في صورة أخرى يتمثل بها لتقوى نفس النبي صلى الله عليه وسلم على إبصارها، وهو الذي صرح به حديثا الإيمان والوحي، بل صرح القرآن بتمثل جبريل في صورة إنسان في قوله تعالى حاكيا قصة مريم:
فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا
[مريم: 17]، أما كونهم أجاسما نورانية فيمكن أن يستدل له بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند مسلم أن الملائكة مخلوقون من نور، ومثل ذلك مثل خلق إبليس والجان من نار المنصوص عليه في قوله تعالى حاكيا عن إبليس:
خلقتني من نار وخلقته من طين
[ص: 76]، وقوله:
والجآن خلقناه من قبل من نار السموم
[الحجر: 27]، وقوله:
وخلق الجآن من مارج من نار
[الرحمن: 15]، والنور مشتركان في عالمنا الأرضي المحسوس في كونهما لا يقوم أحدهما بنفسه، وإنما يتوقف وجودهما على وجود جرم آخر كثيف يتلبسان به، غير أن الله عز وجل الذي جعلهما في هذا العالم بهذه الصفة قادر على جعلهما في ما وراء العالم المحسوس بصفة أخرى، وعلينا أن نؤمن بما أخبر به أو أخبر به رسوله الأمين عليه افضل الصلاة والسلام.
ولا يلزم من تفسير جمهور الأمة للملائكة أن نعرف أين مساكن ملائكة الأرض وتحديد أمكنتها، وبيان موقع من يكون منهم عن اليمين ومن يكون عن اليسار، ورؤية أجسامهم النورانية تضيء في الظلام كما قال الإمام محمد عبده، فإننا مع تسليمنا بما جاء به الوحي نعترف بالعجز عما طوى الله علمه عنا، ونعلم أن طبيعة اتصال الملائكة بنا تختلف عن طبيعة اتصال بعضنا ببعض، وإذا كان الله عز وجل ميز طبائع بعض الموجودات في عالمنا عن بعض أفلا يكون ما أوجده وراء هذا العالم أجدر بأن تتميز طبيعته، وأن تختلف أحواله، فنحن هنا على ظهر الكرة الأرضية نسبح في خضم من الهواء يحيط بنا من أعلانا، وأمامنا، وخلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، غير أننا لا نشعر بملامسته لأجسادنا مع كونه جسما لطيفا، وإنما نحسن به في سرعة جرينا، وفي حالة اضطرابه، هذا مع العلم بأن الهواء أهم عنصر مادي في قوام أجسادنا، ولا يمكننا الاستغناء عنه لحظة واحدة.
واذا كنا نسلم أن للشيطان تأثيرا على البشر في الإغواء والإضلال ولا يحس أحد بحرارة أجسامهم مع خلقهم من نار، وإنما يحس بآثار وحيهم عندما تميل نفسه إلى جانب الشر وتنزع إلى الباطل والفساد، فما المانع من أن يكون اتصال الملائكة بالبشر لا تحس معه طبائعهم الخلقية على أننا نقول: إن تأثير كلا النوعين على الناس هو تأثير روحاني بما أودع الله فيهما من قوى لا يمكننا تصورها، واذا كان البشر مع كونهم أجساما كثيفة يمكن لبعضهم أن يؤثر على بعض تأثيرا نفسيا بما يسمى التنويم المغناطيسي حتى بمجرد حديث في الهاتف، فما بالك بالملائكة والشياطين مع ما اختصوا به من قدرات لم تعط للإنسان... وانت تعجب فاعجب للسيد رشيد رضا إذ قال - في تعليق له على المنار بعد إيراده انتقاد الإمام لتعريف الملائكة بأنهم أجسام نورانية قابلة للتشكل - ما نصه: " هذا هو التعريف المشهور في كتب الكلام، وأول ما يعترض به عليه أنه لا يصح فيه معنى الجسم في اللغة، ولكنه صار مألوفا وإن لم يكن مفهوما ". إذ تجده يستنكر هذا التعريف للملائكة ويقول بعدم صحته لغة بينما تجده في تعليقه على كتاب " الوحي المحمدي " يثبت خرافة لا يصدقها العقل السليم ولا يقرها النقل الصحيح إذ قال ما نصه: " قال بعض من شاهد في فرنسا روح امرأة تجسدت: إنها ظهرت أولا بشكل بخار أو ضباب، ثم تكاثف فكانت جسدا تام الجمال في ثوب أبيض فسألها أن تعطيه قطعة من ثوبها فسمحت له، فقصها فلم تلبث أن تكون مثلها في موضعها، ثم عرضها على معارض النسج في باريس وسألهم هل يود مثل هذا النسيج المهلهل؟ قالوا " لا " ولكن يمكن إيجاده إذا طلب ".
فانظر كيف أثبت تطور الروح مما هي عليه إلى بخار أو ضباب حتى صارت جسما تام الجمال... الخ ما ذكره، فبالله عليكم هل صاحبة الروح كانت حية أو ميتة؟ فإن كانت حية فكيف يمكن انفصال روحها عن جسدها مع استمرار حياتها؟ وإن كانت ميتة فأنى لأحد سلطان على الروح وهي من أمر ربي؟ وقد قال تعالى:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى
[الزمر: 42]، فكيف يمكن لأحد أن يسترد ما أمسكه الله؟ ويقول سبحانه:
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا
[مريم: 98]، ولم يقف السيد رشيد رضا عند هذا الحد بل أتبع هذه الخرافة الأوروبية بخرافة صوفية تحسب على الإسلام خصوصا عندما يقرها مثله في كتابه فقد قال عقب ما تقدم: " وهذا مثل ما يحكيه صوفيتنا عن الذين يتجردون من أجسادهم تارة ويتشكلون كابن عربي ومنهم قضيب البان الذي طلب مرة فوجد مالئا للبيت الذي كان فيه حتى يتعذر خروجه بجسده ذاك، ثم صغر فخرج، ومن لم يصدق هذا من علماء الكيمياء لأنه لم يشاهد مثله لا ينكر إمكانه ".
فانظر أليس ما نسبه إلى قضيب البان من هذا التحول هو التشكل الذي استبعده من الملائكة؟ فكيف يثبت لإنسان خلق مطبوعا بالطبائع البشرية ما ينفيه عن الملائكة الذين أوتوا من القوى الغيبية ما لم يؤته أحد سواهم. ونجده في الوحي المحمدي يصرح بثبوت التشكل للمؤمنين في الدار الآخرة إذ يقول: " ويؤخذ مما ورد في الآيات والأحاديث النبوية من صفة حياة الآخرة أن القوى الروحية تكون هي الغالبة والمتصرفة في الأجساد فتكون قادرة على التشكل بالصور اللطيفة وقطع المسافات البعيدة في المدة القريبة، والتخاطب بالكلام بين أهل الجنة وأهل النار ".
وأغرب من هذا كله أن يستسيغ السيد رشيد رضا مثل هذا التأويل في الملائكة والشياطين مع إصراره في تفسير الآيات المتشابهات على إجرائها بحسب ظاهرها تمسكا بمذهب السلف - حسبما يقول - مع أن ذلك يؤدي قطعا إلى تشبيه الله بمخلوقاته كما يؤدي إلى إقرار التناقض في القرآن وهو ما لا يصح عقلا ولا نقلا، وتأويل المتشابهات بحملها على ما تقتضيه القرائن من المعاني المقصودة بها هو الذي يتفق مع سنن الكلام العربي الذي يدل على المقصود تارة بطريق الحقيقة وأخرى بطريق المجاز وهو ضروري لإبعاد تهمة التناقض عن كلام الله، كما سنبينه إن شاء الله في موضعه.
هذا وكما لا يصح تفسير الملائكة بما ذكره الإمام من أنهم القوى الخيرية وراء هذه الكائنات يتعذر أيضا ما قاله من تفسير إبليس أو الشيطان بالقوة التي تأبت على الإنسان وهي القوة التي لزها الله بهذا العالم لزا، وهي التي تميل بالمستعد للكمال أو بالكامل إلى النقص - الخ. فإن ذلك مناف لما ذكره الله من صفات إبليس والشياطين في كتابه وما جاء من ذلك من حديث رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، وكفى بما ذكره الله في قصة آدم شأ، إبليس وتأبيه عن السجود لآدم،وما كان بينه وبين الله من مقاولة شاهدا على بطلان هذا التأويل، وقد ذكر الله أن إبليس من جنس الجن كما ذكر أن الجن جنس قسيم لجنس الإنس، وأنهم متعبدون كما تعبد الإنس، وذلك في قوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56] قوله:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
[الأنعام: 112]، وقوله:
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار
[الأعراف: 38]، وقال في سليمان الذي سخر له الجن كما سخر له الإنس:
وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون
[النمل: 17]، وحكى ما أجابه به عفريت من الجن في قصة عرش بلقيس إذ قال:
قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين
[النمل: 39]، وذكر تسخير الشياطين لسليمان وما كانوا يعملونه له في قوله:
ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين
[الأنبياء: 82]، وقوله:
والشياطين كل بنآء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد
[ص: 37-38] وقال فيهم:
ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشآء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين
[سبأ: 12-14]، وقد نص الله عز وجل على أن للشيطان ذرية في قوله:
أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني
[الكهف: 50]، وقد نصت الأحاديث على تناسل الشياطين كما نصت على أكلهم ومنه ما جاء في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ليأكل أحدكم بيمينه وليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ".
وإني أرى أن فتح هذا الباب في التأويل يوسع المجال لأصحاب الأهواء والأغراض بأن يتلاعبوا بكتاب الله كما تملي عليه أهواؤهم، حتى يتسع الخرق على الرقاع فيفقد بذلك القرآن ما اختصه الله به من هدى حيث تحجبه تأويلات الزنادقة وأقاويل المبتدعة إذ لا يبالون بلي أعناق الآيات حتى تتفق مع المفاهيم التي يهدفون إليها، وماذا يمنع - مع فتح هذا الباب - من أن يقول قائل: إن المراد بنعيم الجنة ما يخوله الإنسان في هذه الدنيا من خيراتها، وأن المراد بعقاب النار ما يكابده من عنتها وبلائها.
وبالجملة فإن تأويل الملائكة والشياطين بما ذكره الإمام محمد عبده من أبعد التأويلات عن مدلولات القرآن، بل هو مزيج من أقوال محكية عن طوائف من النصارى، وعن حكماء اليونان، فقد حكى الفخر والألوسي في تفسيريهما عن طوائف من النصارى قولهم: إن الملائكة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة، وإن الشياطين هي الأنفس الخبيثة، كما نسبا إلى الفلاسفة قولهم: إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وحكى القطب في الهيميان كلا القولين وشنع على من قال بقول النصارى حيث قال: " ومن اعتقد هذا حكمنا بإشراكه لقيام الأدلة القاطعة على أن الملائكة ليسوا كذلك - إلى أن قال - فإذا قلنا إن الملائكة، تبعث على حدة، فيلزم منه أن يكونوا بنوا آدم مبعوثين بلا روح آخر أو غير مبعوثين، أو مبعوثين بأرواح غير ما كان فيهم في الحياة الدنيا، وذلك كله شرك لأنه انكار للبعث الموصوف شرعا بأنه بأرواح وحياة وأنه لا يترك منه شيء مما كان فيه في الدنيا فكيف يبعثون بدون الروح التي كانت فيهم ".
وقد يدهش الإنسان من صدور هذا التأويل عن مثل هذين العالمين الجليلين اللذين طالما حملا لواء الدفاع عن الإسلام غير أن هذه الدهشة قد تتضاءل شيئا ما عندما يتصور الظروف الحرجة التي عايشاها ، وقد سبق أن أشرت في مقدمة التفسير إلى شيء من ذلك، ولأجل المناسبة أرى أن أوضح قليلا هنا ما أشرت إليه هناك.
من المعلوم أن الإمام محمد عبده كان هو الربان الذي يقود سفينة المدرسة الإصلاحية في مصر بعدما تولى إنشاءها السيد جمال الدين الأفغاني إبان زيارته لمصر في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري وقد سلم زمامها بعد أن أتم إنشاءها إلى تلميذه الكبير العملاق الإمام محمد عبده، فكان يجري بها بين تيارين متعاكسين كل منهما لا يقل خطورة على الدين الحنيف؛ ويتمثل التيار الأول في مشائخ الدين الدجالين الذين ما كانوا يعرفون من الدين إلا قشورا سخيفة تنطوي تحتها على ما الدين براء منه من الخرافات والأوهام والضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكانوا يلقون التأييد الكاسح من الجمهور الساذج الذي لا يعرف معنى للدين إلا أنه العادات الموروثة والتقاليد المألوفة ويتمثل التيار الثاني في الثقافة الأوربية التي وفد بها طائفة من الشباب الذين نهلوا من معارف أوروبا وهم خلو من تعاليم الإسلام فعادوا إلى بلادهم وهم ينظرون إلى الدين نظرة أساتذتهم الغربيين إليه، وهي أنه الحاجز الوحيد دون تقدم الأمم ورقي الشعوب، ويتصورونه مزيجا من التناقضات والأوهام التي يأباها العقل ويرفضها العلم، وقد رسخ في عقولهم هذه النظرة ما كانوا يسمعونه ويشاهدونه من أدعياء الدين الذين يلقبون شيوخه فكانوا يتطلعون بكل لهفة وشوق إلى اليوم الذي يقع فيه الدين الإسلامي تحت مطارق العلم الحديث والفكر الحر حتى يعود هباء منبثا كما سبق أن حل ذلك بالعقيدة النصرانية في الغرب إذ لم تلبث حتى ذابت تحت وهج العلم، وكان رجال الإصلاح يعانون من هؤلاء ومن هؤلاء، ولسان حالهم يقول: " وحسبي من أمرين أحلاهما مر " ، وقد أخذوا على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن الدين الإسلامي ودفع التهم التي يوجهها إليه الحاقدون والمغرضون، وإعادة الثقة به في نفوس أبنائه، كما أخذوا على عاتقهم مسؤولية تنقيته مما يشوبه من بدع المحرفين، وضلالات الدجالين، وخرافات المشعوذين، ونظرا إلى استنكار الماديين للقضايا الغيبية، ومسارعتهم إلى التكذيب بالدين بسببها، إذ لم تكن تستسيغها عقولهم القاصرة على الفكر المادي؛ كان القائمون بالإصلاح يواجهونهم في تفسير هذه القضايا بما لا يصطدم مع المفاهيم التي ألفوها، ولربما انزلقت أقدامهم في مثل هذه المسالك الصعبة كما تجده في تفسير قصة آدم هنا، ومن ناحية أخرى فإن أولئك المحسوبين على الدين الملقبين بمشائخه كانوا يتوجسون خيفة من الإصلاح وانتشاره في أوساط الناس، وكانوا يرشقون رجاله بمختلف التهم - من بينهما: الكفر المخرج عن الملة - ليثيروا عليهم الدهماء، ويقطعوا عليهم السبل فكانت نتيجة ذلك هذه الردة الفعلية التي تلمسها في رد الإمام عليهم في هذه المسألة، الذي تراه مصطبغا بصبغة انفعاله الشديد، وملتهبا بنار عاطفته المتوقدة بين جنبيه، ولو أن الطرفين اتفقا على البحث النزيه في المسألة والحوار الهادىء الهادف لم يصل الأمر - حسب رأيي - إلى ما وصل إليه.
ولست أستبعد أن يكون من دوافع الأستاذ الإمام إلى ما ذكرته عنه وما سوف أذكره إن شاء الله من التأويل البعيد لقصة آدم تفاديه للاصطدام مع النظرية الدراوينية المسماه بالنشوء والارتقاء والتي شاعت في أوساط الناس آن ذاك حتى تلقفوها بالقبول فكانت من المسلمات عندهم، ويقرب ذلك أن تمليذه السيد محمد فريد وجدي عندما أورد هذه النظرية في كتابه " دائرة معارف القرن العشرين " ذكر أنها إن ثبتت لا يتعذر التوفيق بينهما وبين ما في القرآن، ولعمري إن محاولة التوفيق بين هذا الهراء الباطل الذي أتى به الدجال اليهودي داروين وبين الحق الذي أنزله الله كمحاولة التوفيق بين الظلام والضياء، والجهل والعلم، والإفك والصدق.
وقد ثبت والحمد لله بطلان ما ادعاه داروين علميا بوسائل الحفريات وغيرها، وثبت الحق الذي أنزله الله عند خصومة الألداء الذين أصروا على محاربته، وبذلوا جهدهم لإطفاء نوره، وقد اعترف الداروينيون أنفسهم أن هذه النظرية من أساسها لم تقم على العلم، وأنها لا احتمال لها من الصحة إلا بمقدار الواحد في المليار، كما نقلت ذلك نصا عنهم مع إبطال زعمهم من كل وجه السيدة العالمة منيرة علي الغاياتي، في كتابها الذي سمته " النشوء والارتقاء ".
[2.35]
هذه مرحلة من المراحل التي مر بها أبو البشر صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قبل أن يتم استخلافه في الأرض وينوء بأثقاله، ويتعود على تكاليفه، وقد أراد الله بإمراره في هذه المرحلة أن يعده بتربيته على الأمر والنهي وتعويده على البلاء والصبر للتكيف حسب مقتضيات هذا الاستخلاف، فمن المعلوم أن توطين النفس على التكاليف مما يقوي صبرها على تحملها، ومن لطف الله به أنه لم يلقها على ظهره دفعة واحدة، بل درجه فيها ليبتليه، ويعرفه بضعفه، وليقر في نفسه أنه لا ملجأ له من مكائد الشيطان ووساوسه إلا إلى الله تعالى وحده، حتى يكون أسوة لذريته في ذلك.
ويتمثل ذلك كله في إسكان الله إياه الجنة، وإذاقته نعيمها، وإباحة متعها له، ما عدا شيئا واحدا وهو شجرة حجر الله عليه الأكل منها سواء كانت هذه الشجرة فردا من الأشجار معينا أو جنسا من أجناسها تدخل ضمنه أفراد شتى، وقد تبدو هذه المحنة هينة عند من لا يعلم طبيعة الإنسان ولا يحيط بمكائد الشيطان ولكنها في حقيقتها محنة صعبة، فإن النفس البشرية خلقت ميالة الى ما حجر عليها، ومتطلعة إلى ما خفي عنها، وللشيطان وسائل إليها وقد عقد العزم على إضلالها فكان في حجر الأكل على آدم وزوجه من هذه الشجرة اختبار لإرادته وتعريف له بعجزه، ومن ناحية أخرى فإن السلب بعد الوهب من أتعب ما يعانيه الإنسان، فلا غرو إذ اعيل صبر آدم على محنة الحرمان من هذا النعيم الذي كان يتفيأ ظلاله ويتقلب على لطفه الوثير، وضاق ذرعه من وحشة الإبعاد بعد أن التقريب، ولم يكن قذفه بهذه المصائب إلا لتمام أعداده للمهمة التي نيطت به، فإنه خلق لحياة الأرض التي يجد فيها العطاء والحرمان، والأنس الوحشة، والخير والشر، حتى يجتازها بسلام فينقلب إلى ما أعد له من النعيم الدائم جزاء عمله وصبره، وجهاده وكفاحه، فكان في كل ما مر به تربية نفسية له ولذريته الذين سينوؤن بما ناء به من التكاليف، وسيتحملون ما تحمله من مشاق حتى يعبروا طريق هذه الحياة، وينقلب كل منهم إلى حياة أخرى يجني فيها ما غرس، ويحصد ما زرع خيرا كان أو شرا.
وقد يقول قائل: إن آدم عليه السلام فشل في هذا الامتحان لأن الشيطان بلغ منه قصده، فقد تمكن من إنسائه عهد الله، وقدر على التأثير عليه حتى ارتكب ما نهي عنه.
والجواب أن هذا لا يعد فشلا مع تدارك الأمر بالتوبة والانقلاب من الغفلة والغي والمعصية إلى أضدادها من الذكر والرشد والطاعة، وقد أراد الله لآدم أن يكون إمام التائبين من ذريته فإنهم جميعا خطاؤون وخير الخطائين التوابون، ولهم في أبيهم آدم - الذي ثاب إليه رشده فتعجل التوبة إلى الله - أسوة حسنة، أما الذي يخلد إلى هواه ويصر على غيه ويركب رأسه في عناده لله فله في الشيطان - الذي أصر واستكبر استكبارا - أسوة سيئة.
وقد نادى الله آدم باسمه العلم إيناسا وتكريما له وإشعارا بمنزلته في ذلك العالم العلوي، والكلام معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة كما تقدم. وقيل هو من باب عطف الجملة على الجملة، والمعطوف عليه جملة
وإذ قلنا للملائكة
[البقرة: 34]، والتزم أصحاب هذا القول أن قبل الجملة المعطوفة " إذ " محذوفة لدلالة السياق عليها وهو ضعيف جدا لأن حذف ما ينبغي أن يثبت من القرآن لا يتفق مع ما يتميز به من علو البلاغة وسمو الفصاحة، وذهب بعضهم القولين إلى أن المعطوف عليه " قلنا " السابقة، واعترض بعدم اتحاد زمن القولين مع استلزام هذا الرأي أن يكون القول الثاني مظروفا ل " إذ " كالذي قبله؛ وأجيب بأن " إذ " ليس مدلولها زمنا قصيرا بحسب ما يسع القول الأول فحسب بل هو زمن ممتد فيدخل في مظروفها القولان جميعا، وبناء على هذا الرأي ففي الكلام تذكير للبشر بإحدى النعم الكبرى التي من الله بها عليهم بإضفائها على سلفهم وهو آدم عليه السلام الذي بوأه دار كرامته وأباح له صنوف النعم المتوفرة فيها.
وتصدير الكلام بالنداء دال على أهمية ما سيليه مع دلالته على ما سبق ذكره.
وقوله: { اسكن } من السكنى بمعنى الاستقرار في المسكن لا من السكون الذي هو ضد الحركة لمنافاة ذلك قوله تعالى لهما: { وكلا منها رغدا حيث شئتما } فإن الأكل من حيث شاءا من الجنة يقتضي حركتهما في أرجائها، وذهب القرطبي إلى أن الأمر بالسكنى يوحي بخروجهما منها، إذ ليس في السكنى تمليك الساكن للمسكن، فلو قال قائل لأحد اسكن هذه الدار لم يدل قوله هذا على تمليكه إياها، واستظهر القرطبي من ذلك تأييد الجمهور في قولهم بعدم انتقال المسكن من ملك صاحبه إلى ملك الساكن بالسكنى ورجوعه إلى صاحبه بانتهاء مدتها؛ وفي هذا الإستدلال نظر، ومسائل السكنى وما شابهها، كالعمرى، والرقبى، والإفقار، مبسوطة في كتب الفقه.
و " أنت " ضمير فصل جيء به لتهيئة عطف الاسم البارز على الضمير المستتر في " اسكن " لعدم جواز العطف عليه دونه، وفيه نوع من التأكيد له.
والزوج مفرد الأزواج، ويطلق على الذكر والأنثى، ولا يتميز إذا أريد به الأنثى بالتاء على لغة القرآن كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى:
أمسك عليك زوجك
[الأحزاب: 37]، وقوله:
وخلق منها زوجها
[النساء: 1]، وقوله:
إن هذا عدو لك ولزوجك
[طه: 117]، وعليه الفصيح من كلام العرب، وإنما ورد خلافه شاذا كما في قول الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتى
كساع إلى أسد الشرى يستميلها
وعد بعضهم ذلك لحنا، وفرق الفقهاء بين الذكر والأنثى بإدخال التاء على ما يراد به الأنثى كما هو شائع في كتب الفقه خصوصا حال التعرض لأحكام النكاح والمواريث، وقد نحوا هذا المنحى لما في هذا التفريق اللفظي من القرينة على التفريق المعنوي، وهو مسلك حسن - كما قيل - لدفع اللبس.
جنة آدم
والجنة مأخوذة من الجن بمعنى الستر، وتطلق على الأرض ذات الشجر الملتف لاجتنانها - أي استتارها - به، ومنهم من يرى أنها دالة على الشجر الملتف نفسه لأنه يجن ما كان داخله، واستعملت الجنة في عرف الوحي الشريف المنزل على النبيين في دار السعادة التي أعدت للمتقين، واختلف في جنة آدم هذه، هل هي دار السعادة نفسها أو أنها بقعة يصدق عليها هذا الوصف لكثرة ما فيها من الأشجار؟ فجمهور أصحابنا يرونها دار السعادة، وعليه المتقدمون من الأشعرية، وحكى القرطبي عن أبي الحسن بن بطال قوله: " وقد حكى بعض المشائخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم "؛ ونحوه كلام ابن تيمية حيث قال: " وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال أنها جنة في الأرض بالهند أو جدة أو غير ذلك، فهو من الملحدة المبتدعين، والكتاب والسنة يرد هذا القول " ، وذهب بعض أصحابنا كأبي المؤثر وأبي سهل الفارسي، وابن أبي نبهان إلى أن هذه الجنة لم تكن إلا حديقة في الأرض مليئة بالأشجار تجري من تحتها الأنهار أنشأها الله لآدم قبل أن يحمله عبء تكاليف الخلافة، وهذا هو قول المعتزلة، وعليه أبو مسلم الأصفهاني وأبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى " بالتأويلات " ، وعزى إلى أبي حنيفة، واختاره الإمام محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا، وعزاه الإمام إلى المحققين من أهل السنة، ثم قال على إثر ذلك: " وبهذا التفسير تنحل إشكالات كثيرة:
1- أن الله خلق آدم في الأرض ليكون هو ونسله خليفة فيها، فالخلافة مقصودة منهم بالذات، فلا يصح أن تكون عقوبة عارضة.
2- أنه لم يذكر أنه بعد خلقه في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم.
3- أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون فيكف دخلها الشيطان الكافر الملعون؟
4- أنها ليست محلا للتكليف.
5- أنه لا يمنع من فيها التمتع بما يريد.
6- أنه لا يقع فيها العصيان.
وبالجملة إن الأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على ما كان في جنة آدم، ومنه كون عطائها غير مجذوذ، ولا مقطوع، وغير ذلك ".
وأضاف السيد محمد رشيد رضا إلى ما قاله أستاذه أن القول بأن آدم أسكن جنة الآخرة يقتضي أن تكون الآخرة هي الدار الأولى والدنيا، فتكون تسمية الدارين غير صحيحة، وينافي أيضا كون الجنة دار ثواب يدخلها المتقون جزاء بما كانوا يعملون كما ورد في الآيات الكثيرة ".
وذهب أبو علي الجباني - وهو من أئمة المعتزلة - مذهبا ثالثا وهو أن جنة آدم ليست جنة الخلق ولكنها كانت في السماء ولم تكن في الأرض، وهو قول غريب لا سلف له فيه ولم يتابعه عليه أحد فيما أعلم إلا ما سمعته من أحد علماء العصر وهو أن جنة آدم كانت في أحد الكواكب العلوية وقد أنزل منها إلى الأرض.
والقائلون بأنها كانت في الأرض اختلفوا في تعيينها، منهم من قال كانت بستانا بين فارس وكرمان، وقيل: بفلسطين، وقيل: بأرض عدن، وقيل: غير معينة وبه قال أبو منصور الماتريدي وعزاه إلى السلف كما ذكره عنه الإمام محمد عبده.
واستدل أصحاب القول الأول بأن الله سماها الجنة - بالتعريف - وذلك ما لا يكون إلا لجنته التي أعدها للمتقين؛ وبأن الله أمر آدم وحواء بالهبوط منها وهو عبارة عن الإنتقال من العلو إلى السفل، وبما روى أن موسى عاتب آدم عليهما السلام بقوله: " أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة ".
وأجيب عن الأول بأن تعريف الجنة ليس دليلا قاطعا على أنها جنة الخلد، فقد قال الله تعالى:
إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة
[القلم: 17]، وهي جنة من جنان الأرض، وبأن الهبوط لا يلزم أن يكون إنتقالا من العلو إلى السفل، فقد قال الله:
اهبطوا مصرا
[البقرة: 61]، وبأن ما روي من قصة موسى مع آدم عليهما السلام حديث آحادي لا تنهض به حجة في أمور الاعتقاد فضلا عن كون هذا الكلام ينافيه أن الله سبحانه خلق آدم من أول الأمر ليكون خليفة في الأرض، لا ليكون في الجنة وتنشأ ذريته فيها.
وقد استدل أصحاب القول الثاني بما ذكره الإمام وبأن جنة الخلد وصفت في القرآن بقوله تعالى:
لا لغو فيها ولا تأثيم
[الطور: 23]، وقوله:
لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا
[النبأ: 35]، وقوله:
لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
[الواقعة: 25- 26] وأي لغو أشد عن الدعوة إلى معصية الله ، وقد كان ذلك من ابليس في جنة آدم، وبأن داخلها لا يخرج منها كما دل عليه قوله تعالى:
وما هم منها بمخرجين
[الحجر: 48]، فكيف يخرج منها آدم وحواء؟ وبأنها دار قدس فلا تقع فيها خطيئة، فكيف يمكن لإبليس أن يوقع آدم وحواء في معصية الله فيها؟
وقد أجيب بأن ما وصفت به الجنة من كونها لا لغو فيها ولا تأثيم إلى غيره من صفاتها إنما هو بعد دخول المؤمنين فيها جزاء، وبأن أمر الله لآدم وزوجه بأن يسكناها دليل على أنهما قد رفعا من الأرض إليها، وبأن كونها دار القدس لا ينافي أن تكون معصية وقعت فيها، فإن الله أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي أرض الشام التي قدست في جميع الشرائع، وقد شوهد فيها وقوع جميع المعاصي على اختلافها ولم يكن تقديسها مانعا منها.
أما وسوسة الشيطان لهما فقد رويت فيها أقوال عن السلف سوف نذكرها إن شاء الله في تفسير الآية الآتية، ولأجل تعارض أدلة ألقولين قال من قال بالتوقف عن تصحيح أحدهما أو ترجيحه، وعليه أبو السعود والألوسي في تفسيريهما وبه أقول، وإن قال نور الدين السالمي - رحمه الله - " والقول بأن الجنة التي كانا - أي آدم وحواء - فيها غير الجنة الموعود بها في الآخرة تحكم من قائله إذ لا دليل عليه ".
وإنما اخترت هذا القول لما فيه من السلامة من مغبة الخوض فيما لا علم لنا به، والأدلة التي استند إليها كلا الفريقين يعروها الاحتمال كما تقدم، والدليل إذا عراه الإحتمال سقط الإستدلال به، ولعل قوله تعالى:
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى
[طه: 118-119] يجوز أن يستأنس به للقول بأنها جنة النعيم لأن هذه الأوصاف أنسب بها غير أن الاستئناس لا يكفي وحده أن يكون دليلا خصوصا في الاعتقاديات التي يجب الاستناد فيها إلى القطعيات.
والأمر بسكنى آدم وزوجه الجنة وجه إليه ولم يوجه إليهما معا لأن المرأة تابعة للرجل، وقد سكت القرآن عن وقت خلق حواء فما لنا إلا أن نسكت عنه وإن كان في ذلك مجال رحب للذين يسوغون لأنفسهم أن يقولوا ما لا يعلمون، وقد اختلفوا؛ فقال بعضهم: خلقت في الجنة بعد أن كان آدم فيها وحيشا لعدم المؤانس، فألقى الله عليه نومه فخلقها من ضعله الأيمن ولما استفاق وجدها بجانبه فسألها عن نفسها فأجابته بأنها امرأة خلقت له ليسكن إليها؛ وقال آخرون خلقت قبل إسكانهما في الجنة ثم حملتهما الملائكة إليها على سرير من ذهب، وكانت ثيابهما من نور، وكلا القولين منسوبان إلى بعض الصحابة، والأسانيد التي تلقيا منها واهية جدا، والقضايا الغيبية لا يستند فيها إلا إلى ما نزل من عند الله أو حدث به المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، وصحت نسبته إليه، وما أكثر ما حشي به التفسير من أقاويل أهل الكتاب - مع عزوها إلى الصحابة رضي الله عنهم - في هذه القضايا، ويمكن أن يقال بأن قوله تعالى: { اسكن أنت وزوجك الجنة } [البقرة: 35] أدل على القول بأنها خلقت قبل سكناه فيها.
وقد شاع استدلال المفسرين وغيرهم للقول بأن حواء خلقت من ضلع آدم بقوله تعالى:
خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها
[الأعراف: 189] وبحديث أبي هريرة عند الشيخين " إن المرأة خلقت من ضلع " وليس في ذلك نص على ما قالوه فإنه يحتمله ويحتمل ما قاله الإمام محمد عبده من أن المراد بقوله تعالى: { منها } من جنسها، كما في قوله عز وجل:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها
[الروم: 21] فإنها لا يماري أحد في أن الله لم يخلق امرأة كل رجل من بدنه، وإنما المراد بقوله: { من أنفسكم } من جنسكم، وما قاله السيد رشيد رضا في الحديث أنه محمول على ما يحمل عليه قوله تعالى:
خلق الإنسان من عجل
[الأنبياء: 37].
وقد أباح الله لآدم وزوجه التنعيم بأكل ثمار هذه الجنة أكلا هنيئا لا يكدره شيء من التقتير بدلالة قوله { رغدا } ، فان الرغد هو الواسع عند العرب، ولا ينافيه النهي عن الاقتراب من شجرة ما سواء كانت شجرة معينة، أو جنسا معينا من الأشجار، فإن النهي عنها مع إباحة سواها لا يدخل عليهما شيئا من الكدر.
ونجد النهي عن تلك الشجرة لم يقتصر على الأكل منها بل شمل القرب منها لأجل سد ذرائع المعصية، فإن الدنو منها مفض إرتكابها، ونحوه قوله عز وجل:
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا
[الإسراء: 32]، ومن ثم حجر على الإنسان ممارسة أي سبب يفضي إلى معصية الله كما يدل عليه حديث النعمان بن بشير عند الشيخين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعرفهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه "
وفي ذلك داعية إلى نفرة المسلم العاقل من كل المعاصي بعدم الحوم حول حماها، والقرب من الأمر يهون خطبه ويدعو إلى ألفته، والنفس ميالة بطبعها إلى ما فيه مضرتها إن لم يتعهدها صاحبها بالرعاية ويستمد من الله التوفيق والعون.
ودأب النفوس السوء من حيث طبعها
إذا لم يصنها للبصائر نور
ومن باب النهي عن الدنو من المحرمات ما فصله الفقهاء من تحريم بيع الذرائع المسمى ببيع العينة، ونحوه من العقود التي يحتال بها المحتالون ليسوغوا لأنفسهم ارتكاب ما حرم الله من الربا.
وقرب يقرب كقرب يقرب في دلالتهما على الدنو، وقد نص على عدم التفرقة بينهما كل من الجوهري في صحاحه، والفيروز أبادي في قاموسه، وابن منظور في لسانه، وحكي عن ابن العربي أنه نقل عن الشاشي التفرقة بجعل قرب بالكسر بمعنى " الملابسة " ، وقرب بالضم بمعنى " الدنو " ، وذكر مثله الزبيدي في شرح القاموس ونسبه إلى أرباب الأفعال كما نسبه إلى شيخه - ويعني به الفاسي - والقول الأول هو المشهور، ولا معنى لهذه التفرقة فإن حمل القرب على التلبس بالشيء مجاز ولا يستقل المجاز عن الحقيقة بصيغة معينة.
وقد عطف قوله كلا في هذه السورة بالواو بخلاف ما في سورة الأعراف وهو قوله سبحانه:
ويآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما
[الأعراف: 19] فإن عطفه فيه بالفاء، ولا إشكال في ذلك فإن الواو المطلق الجمع فلا ينافي مدلولها مدلول الفاء، وذهب الفخر الرازي إلى التفرقة بين ما في السورتين، وخلاصة قوله أن المعطوف على الفعل إن كان ذلك الفعل كالشرط له وهو كالجزاء يعطف بالفاء دون الواو كقوله تعالى:
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا
[البقرة: 58]، فإن الأكل منها متعلق بدخولها فلذلك عطف بالفاء كأنه قال إن دخلتموها أكلتم منها، وعطف بالواو في قوله:
اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم
[الأعراف: 161] لأن الأكل لا يتوقف على السكنى فقد يأكل من البستان من كان مجتازا به، وعليه فإن الأمر بالسكنى في سورة البقرة يراد به الاستمرار في البقاء، وقد ورد بعد أن كان آدم في الجنة، وليس ذلك شرطا للأكل، فلذلك عطف بالواو، والأمر بها في سورة الأعراف ورد قبل دخوله الجنة، فهو محمول على دخولها، والأكل متعلق به فلذلك ورد بالفاء.
وما ذكره يستلزم أن يكون آدم خوطب بذلك مرتين، ولعدم الدليل عليه عدلت عن رأيه إلى ما ذكرته قبل.
وللناس أقوال في الشجرة التي نهيا عنها، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة، وأخرج ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي حميد عنه أنها الكرم وأخرجه ابن جرير عن ابن مسعود، وأخرج أبو الشيخ عنه أنها اللوز، وأخرج ابن جرير عن بعض الصحابة قال هي التينة، وروى عن قتادة، وروي عن أبي مالك أنها النخلة، وقيل غير ذلك، ولا فائدة وراء هذا الاختلاف، وهو ينبئ عن ضعف هذه الأقوال، ولا دليل يمكن به ترجيح أحدها، ومما يستغرب كثيرا تعليل بعضهم تحريم الخمر بكونها من العنب الذي نهى عنه، وما أسخف هذا القول، فإن الخمر إنما حرمت لإسكارها لا لكونها من العنب، ولو كان الأمر كما قال هذا القائل لكان العنب نفسه قبل استحالته خمرا أجدر بالتحريم، ولكان عصيره حراما ولو لم يسكر، ومن المعلوم أن الخمر ما خامر العقل، فيحرم كل مطعوم أو مشروب هذا شأنه مهما كان أصله، ولعمري إن هذا الإختلاف ليس منشؤه إلا تصديق أهل الكتاب في دعاواهم الكاذبة والثقة بأقوالهم في تفسير كتاب الله، وما عزى إلى الصحابة من ذلك لا يصح عنهم، وقد أغرب قطب الأئمة - رحمه الله - في قوله إن ما روي عن الصحابة في مثل هذا له حكم المرفوع إذا صح، وأني تثبت الصحة مع هذا الاختلاف، وقد علمت مما سلف في مقدمة التفسير أن أقوال أهل الكتاب كان لها أثر على آراء بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم في تفسير ما لا يتعلق بالعقيدة والأحكام من آي الكتاب، وإن كان أثر ذلك في تفسير التابعين أكثر بكثير، فيكف يصح مع ذلك أن نعطي ما يروى عنهم حكم الرفع وإن ثبتت نسبته إليهم، وقد أبعد بعض المفسرين النجعة فزعم أنها شجرة العلم والصبغة اليهودية بادية على هذا القول، فإن اليهود هم الذين يقولون بأن منشأ طرد الإنسان من رحمة الله، وإقصائه عن دار كرامته أكله من شجرة المعرفة التي ميز بها بين الخير والشر، وإن عجبت فإنني أعجب ممن يتقبل ذلك عنهم ويؤثره في تفسير كتاب الله والقرآن نفسه ينادي بأن فضل الإنسان إنما كان بالعلم الذي فضل به على الملائكة حتى أمروا بالسجود له.
وقد ذكر المفسرون تفصيل قصة الأكل من الشجرة، ومن ذلك أن آدم لم يأكل منها حتى كانت حواء هي البادئة بالأكل، وذلك لا يختلف عما قبله في كونه قولا لم يبن على دليل.
وقد أسرف القرطبي في الاستناد على هذه الحكايات الوهمية حتى أتى شيئا إمرا إذ ادعى أن المعصية لم تتحق بأكل حواء وحدها من الشجرة حتى تبعها آدم فتحققت معصيتهما فكان ما كان من عقاب الله لهما بإخراجهما من الجنة بعدما أريا سوآتهما، ومنشأ قوله بأن المعصية لم تقع حتى أكلا جميعا أن الخطاب بالنهي وجه إليهما معا ولم يخص كل واحد به، وبني على ذلك أن من قال لزوجتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو لأمتيه إن فعلتما فأنتما حرتان، بأن الطلاق والعتاق لا يقعان حتى يصدر ذلك منهما معا، وأنكر - تبعا لابن العربي - ما يعارض هذا القول لعدم وقوع الشرط وهو دخول الاثنتين كما أن آدم وحواء لم يكونا ظالمين حتى أكلا جميعا من الشجرة مع قوله عز وجل: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } [البقرة: 35].
وهو كلام جدير بأن يستوقف كل سامع، كيف لا يكون ارتكاب النهي معصية وظلما حتى يقع ذلك من كل من وجه إليهم الخطاب إذ لا فرق بين صيغة التثنية وصيغة الجمع في مثل هذا؟ ويترتب على هذا القول ان لا يصدق حكم المعصية على أحد حتى يرتكب الناس كلهم ما نهوا عنه ما دام الخطاب بالنهي موجها إليهم جميعا فيجوز لكل زان أن يعتذر عما ارتكب بأنه غير عاص ما لم يزن جميع الذين خوطبوا بقوله تعالى:
ولا تقربوا الزنى
[الإسراء: 32] كما يجوز لكل آكل ربا ان يعتذر بأنه غير عاص بأكله الربا حتى يأكله الذين خوطبوا بقوله تعالى:
لا تأكلوا الربا
[آل عمران: 130]، ومثل ذلك يقال في قتل النفس المحرمة بغير حق وسائر المعاصي الموبقات ما لم يخص مرتكبها بالنهي عنها في خطاب يخصه، وهو فاسد بالإجماع، وإذا فسد اللازم فسد الملزوم لعدم انفكاكه عنه.
وما أختاره - وفقا لابن العربي- من أن الطلاق والعتاق لا يقعان إن علقا على فعل المرأتين أو الأمتين اللائي خوطبن لأمر نيط به الطلاق أو العتاق إلا إن فعلتاه معا، مردود حسب رأيي لأن كل واحد يعتد بفعلها في الحكم فيترتب عليه طلاقها أو عتاقها وإن كان الخطاب للإثنتين، لعدم الفارق بين صيغة التثنية وصيغة الجمع في مثل هذه الأحوال، وأنت تدري أن تكفير السيئات المعلق على اجتناب الكبائر في قوله عز من قائل:
إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
[النساء: 31] لا يشترط أن يكون حاصلا من جميع المخاطبين، بل هذا الحكم يتجه إلى كل واحد منهم في خصوصه وإن لم يجتنب غيره الكبائر.
هذا وإني لأعجب ممن يقول إن إبليس لم يتسلط على آدم إلا من طريق حواء مع أن القرآن صريح بأنه - لعنه الله - كان خطابه لآدم فقد قال تعالى:
قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها
[طه: 120-121]، فإن ذلك واضح في أن أكلهما ناشئ عن هذا الخطاب الموجه إلى آدم، وهو لا ينافي أن يكون خاطبهما معا كما يدل عليه قوله سبحانه:
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
[الأعراف: 20] وإنما حكى الله تارة خطابه لهما معا، وتارة خطابه لآدم وحده لأن حواء تبع له كما سبق.
هذا وقد بين الله لهما عاقبة مخالفتهما أمره بقربهما من تلك الشجرة التي نهيا عنها حيث قال لهما: { فتكونا من الظالمين } وأصل الظلم وضع الشيء في غر موضعه، ومنه استحسان ما ليس بمستحسن، وقد استحسنا الأكل من تلك الشجرة بتزيين إبليس لهما ذلك مع ما فيه من مخالفة أمر الله.
وإطلاق الظلم على فعلهما لا يستلزم أن يكون من الكبائر لمنافاة ذلك عصمة النبوة، وللعلم بأنهما لم يأتيا ما أتياه لأجل الوقوع في مخالفة أمره سبحانه وتعالى، وإنما كان ذلك إما نسيانا وإما خطأ كما سيأتي قريبا إن شاء الله، وليس تهويل هذه المخالفة إلا لعلو قدرهما وعظم شأنهما، وما أحسن قول من قال: " حسنات الأبرار سيئات المقربين " ، ومن هذا الباب مضاعفة الوعيد بالعذاب لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن في قوله تعالى؛
ينسآء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين
[الأحزاب: 30] مع قوله:
ينسآء النبي لستن كأحد من النسآء إن اتقيتن
[الأحزاب: 32]، فلا غرابة في إطلاق اسم الظلم على صنيع صفي الله آدم عليه السلام وإن كان بالنسبة إلى غير صغيرا.
[2.36-37]
يحكي الله لنا في هاتين الآيتين وما بعدهما قصة مرحلة انتقالية مر بها أبو البشر عليه السلام وقد كابد منها المشقة وتجرع الغصص، وعانى عنتها ولا تزال ذريته تعاني من هذا العنت، ومرد ذلك كله إلى الخروج عن حدود أمر الله بتزيين الشيطان، وقد نتج عن ذلك انتقاله من مقر الطمأنينة والراحة إلى محل الاضطراب والتعب، وإذا كان عليه السلام استقبل الحياة على هذه الأرض التي هي مقر خلافته بهذه المحنة القاسية والملمة الفادحة، فإن لنا في ذلك دليلا وأي دليل على أن حياتنا على الأرض ليست حياة نعيم وهناء وراحة واستقرار، وإنما هي حياة مصائب ومتاعب، وجهد وبلاء، والشواهد على ذلك قائمة من طبيعة الحياة نفسها، فهي لا تكاد تحلو حتى تمر، ولا تزهر حتى تذبل، ولا تقبل حتى تدبر، ولا تمنح حتى تسلب.
جبلت على كدر وأنت تريدها
صفوا من الأقذار والأكدار
ومن أحسن وأبلغ وأصدق ما وصفت به الدنيا من قول شاعر كان غارقا في حب الدنيا الى الأذقان ولم يدع بابا من أبواب اللهو والمجون والخلاعة إلا طرقه وولجه وهو أبو نواس شاعر البلاط العباسي الماجن في عهد هارون الملقب بالرشيد فقد قال في وصف الدنيا:
إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
الشيطان عدو ماكر
وإذا كان هذا العدو الماكر الشيطان الرجيم عليه لعنة الله استطاع بأساليبه الخبيثة أن يوقع صفي الله آدم عليه السلام في حبائل المعصية حتى فكه الله منها، فما بالكم بذرية آدم الذين يندر منهم من يتفطن لمكائده ويتنبه لمداخله، وأحسن ما نستفيده من هذه القصة هذه العبرة البالغة التي تجعل اللبيب حذرا في جميع أوقاته، فطنا في كل حالاته، يراقب الشيطان بعيني الخائف الوجل، لا يدري من أي ثغرة يلج عليه، وفي أي حال يفضي إليه.
والهمزة في أزل لتعدية زل، والزلل كالزلق وزنا ومعنى، والأصل فيها استعمالها في انزلاق القدم، وتوسع فيهما فأطلقا فيما يؤدي إلى الهلاك أو إلى بلاء شديد حسيا كان أو معناويا، ومنه الإزلال المسند إلى الشيطان هنا فإنه بمعنى الإغواء، وذهب بعضهم إلى أن أزل هنا بمعنى أزال لأن القدم إذا زلت زالت من مكانها، ويؤيد هذا التفسير قراءة حمزة والحسن وأبي رجاء " فأزالهما " وانتقد هذه القراءة ابن جرير الطبري جريا على عادته في انتقاد القراءات المتواترة التي لا تروق له، وهو غلط شنيع كما ذكرت من قبل، والباعث له إلى هذا الإنتقاد ما توهمه من التكرار لمعنى الإزالة في قوله سبحانه: { فأخرجهما مما كانا فيه } لعدم الفارق عنده بين مدلول لفظي الإزالة والإخراج، والحقيقة عدم التكرار كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وتفسير الإزلال بالإزالة إنما هو من باب المجاز المبني على المجاز، وذلك أن الإزلال هو الايقاع في الزلة، والزلة هي سبب للإخراج، فإسناد الإزالة إلى المزل لا يكون إلا بهذا الأسلوب المجازي.
والمراد بالشيطان إبليس السالف الذكر، الذي كشر عن أنياب عداوته لآدم وذريته ساعة أمره الله بالسجود له.
والضمير المجرور في " عنها " عائد إلى الشجرة في قول جماعة من أهل التفسير، وقال غيرهم: إنه عائد إلى الجنة؛ وعلى الأول فعن في هذا الموضع كالتي في قوله تعالى:
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة
[التوبة: 114]، وقوله:
وما فعلته عن أمري
[الكهف: 82]، وقوله:
وما ينطق عن الهوى
[النجم: 3]، وهي في كل هذه المواضع دالة على النشوء والصدور، ويعني ذلك أن وقوعهما في المعصية نشأ أو صدر عن تلك الشجرة، أي كان بسببها، وحمل بعضهم (عن) فيما كان كذلك على السببية، وهو من باب التفسير بالمعنى؛ وعلى الثاني فعن على بابها؛ والرأي الأول روعي فيه عدم خلو القصة عن ذكر سبب الخروج.
واختلف في الوسيلة التي اتخذها - لعنه الله - حتى تمكن من إغوائهما، وأكثر ما قيل من مزاعم أهل الكتاب وإن عزى إلى بعض الصحابة والتابعين، والباعث الى التساؤل عن ذلك هو أن الله سبحانه طرد إبليس مذؤوما مدحورا من دار كرامته، فكيف تمكن من الدخول فيها حتى يفضي إليهما، ومما قيل أنه لجأ إلى حية كانت تخرج من الجنة وتعود إليها فطلب منها أن تخفيه بين أنيابها حتى تمكن من الإفضاء إليهما، فأخذ يوسوس لهما من بين الأنياب غير أنهما لم يصغيا إليه حتى خرج إليهما، فمناهما بما مناهما به من الخلد إن أكلا من تلك الشجرة كما قال تعالى:
قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى
[طه: 120]، وقال سبحانه:
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
[الأعراف: 20]، وهذا الرأي هو الذي درج عليه أكثر المفسرين لا سيما المفسرون بالمأثور، ورائحة الكذب اليهودي تشتم منه، وقد أشار إلى ذلك ابن كثير مع أنه من الذين يعتمدون على المأثور في تفسيرهم، وقال بعضهم إنه تحول إلى صورة دابة فدخل الجنة، وذهب آخرون بأنه استطاع أن يوسوس لهما من السماء، وبعضهم قال بأنه وقف على باب الجنة وكانا - علهيما السلام - يتجولان في نواحيها فوصلا إلى الباب فتمكن من الوسوسة لهما، إلى غير ذلك من الأقوال الفارغة من الدليل.
وأنتم تدرون أن للشياطين قوى روحية خارقة كالقوى التي وهبها الله الملائكة وإنما الفارق ما بين القوتين أن القوى الملكية خيرة والقوى الشيطانية شريرة، فلا عجب إذا تمكن الشيطان من إغواء آدم وزوجه بما ينفثه في أنفسهما من دواعي السوء، وتلك هي الوسوسة التي أخبر تعالى عنها بقوله:
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما
[الأعراف: 20]، وإنما عبر عنها بالقول في مواضع متعددة لأنها سدت مسده، ونحو ذلك قوله عز وجل:
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر
[الحشر: 16]، ومما يقرب ما قلته إلى العقول ما يجري في العصر الحديث من التأثير النفسير من إنسان على آخر، ولو بعدت المسافة بينهما بالمكالمة الهاتفية حتى ينام المؤثر عليه بخطاب المؤثر، وهو ما يسمى بالتنويم المغناطيسي.
واستشكل وقوع آدم في حبائل كيد إبليس بأكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عنها مع تحذير الله إياه من مكائد الشيطان وإيذانه أنه عدو له ولزوجه، وأنه يسعى إلى إخراجهما من الجنة وإشقائهما، وهذا كله من دواعي التفطن لمكائده والاحتراز من شروره، واتهامه في كل ما يصدر عنه مما يدعيه نصحا وإرشادا، وقد كان هذا الاستشكال منشأ اختلاف عريض بين المفسرين بحسب ما اتجه لكل من جواب، وقد بلغ الحال ببعضهم أن ادعى أن آدم عليه السلام لم يأكل من تلك الشجرة إلا بعدما سقته حواء الخمر فسكر، وهو منسوب إلى سعيد ابن المسيب، وروي عنه أنه كا يقسم عليه، وهو باطل من وجوه: أولها: أنه لم يثبت به نقل ولا مجال في اثبات مثل ذلك بمجرد النظر، ثانيها: أن الأنبياء عليهم السلام لا يصدر منهم ما يخل بعقولهم، كيف وهم أوفر الناس عقلا، وأسماهم فكرا، وأنورهم بصيرة.
ثالثا: أن خمر الجنة لسيت مسكرة فإن الله نعتها بقوله:
لا لغو فيها ولا تأثيم
[الطور: 23]، وقوله:
لا يصدعون عنها ولا ينزفون
[الواقعة: 19]، وهذا مبني على أن جنة آدم هي دار الخلد كما هو رأي من عزي اليه هذا الجواب.
وقيل: إنه عليه السلام لما نهي عن الشجرة ظن أن المنهي عنه عين الشجرة المشار إليها فأكل من جنسها لعدم حسبانه أنه ينطوي عليه النهي؛ وقيل: إن أكله كان في حالة نسيان لنهيه تعالى عن تلك الشجرة، ولم يقدم على صنيعه هذا في حالة الذكر، وهذا القول هو أصح الأقوال حسب رأيي لما يعضده من قوله تعالى:
ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد له عزما
[طه: 115].
وقد يشكل هذا القول إذا ما نظر الى ظاهر قوله تعالى:
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين
[الأعراف: 20-21]، وقوله سبحانه:
قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى
[طه: 120]، فإن ظاهر ما في هذه الآيات أن آدم وزوجه أكلا من تلك الشجرة وهما على ذكر من عهد الله لهما، ويندرئ هذا الإشكال مع التعويل على الرأي الذي اخترته من قبل، وهو أن إغواء الشيطان لهما كان بمجرد الوسوسة كما يدل عليه قوله عز وجل:
فوسوس لهما الشيطان...
[الأعراف: 20]، وأن ما ذكره تعالى من المقاولة والمقاسمة إنما هو لتصوير تلك الحالة النفسية الكائنة من هذه الوسوسة ونتائجها في صورة الجدل المسموع بين مخادع ومخادع، فإن نفس المؤمن عندما ينفث فيها الشيطان أمرا لا بد لها من أخذ ورد حتى تدركها العناية فتنجو أو تجتاحها الغواية فتردى.
وبيان ذلك أن الشيطان - لعنه الله - ألقى في نفس آدم وحواء عليهما السلام أن تلك الشجرة من أكل منها ظل خالدا في النعيم، ومن طبيعة النفس الإنسانية حب الخلد وكراهة الفناء، فلا عجب إذا تعلقا مع ذلك بها لولا أن عهد الله كان يحجزهما عنها، ثم سعى - لعنه الله - في إنسائهما العهد بما يلقيه في صدورهما من الوساوس التي تشغلهما عنه، وفي غمرة الغفلة ألجأهما الى الأكل منها بدافع حبهما للخلد فلم يراعا إلا وقد بدت لهما سوآتهما فتذكرا عهد الله فآبا إليه بالندم والحسرة على مقارفتهما معصيته، وهذا التأويل أحسن ما يجمع به بين الآي المتحدثة عن هذه القصة وإن لم أجده مأثورا عن أحد ما أحسن ما قيل:
لئن نسيت منك عهودا سالفة
فاغفر فأول ناس أول الناس
ويؤيد ما ذكرته أن الله سبحانه أراد بقصة آدم تنبيه ذريته إلى مكائد الشيطان ووجوب احتراسهم منها وتفطنهم لها، ومن المعلوم أن إغواءه لهم لا يكون ببروزه إليهم ومشافهته إياهم، وإنما يكون بوساوسه الخادعة التي يلقيها في صدورهم فناسب ذلك أن يكون شأنه مع أبيهم كشأنه معهم.
وإن اعترض معترض بأن الله تعالى وصف آدم بالمعصية والغواية في قوله:
وعصى ءادم ربه فغوى
[طه: 121]، وما ذكر في هذا التأويل يستلزم تبرئته من الغواية والعصيان لأن الجدير بحلم الله عز وجل أن لا يؤاخذ عبده بما قارفه نسيانا ، فإن النسيان ليس من كسب الناس وإنما هو أمر مفروض عليه، ومن المعلوم أنه تعالى آخذ آدم بصنيعه هذا إذا أبدى له سوأته وأخرجه من جنته.
فالجواب أن تسمية ما صدر من آدم غيا وعصيانا إنما هو بالنظر إلى علو قدره وسمو رتبته، كيف وقد اختاره الله خليفة في الأرض وعلمه الأسماء كلها وفضله بتعليمها للملائكة وإسجادهم له؟ فكان حريا أن يتفطن في كل حالاته لمكائد الشيطان العدو الأول له ولذريته - لا سيما وأن الله قد حذره منه وبين له عاقبة متابعته - وأن لا يسترسل مع أماني الخلد حتى ينسى عهد الله إليه، فأي غرابة مع ذلك إن سمى الله ما صدر منه في حالة سهوه غيا ومعصية؟ وما أحسن قول من قال: " حسنات الأبرار سيئات المقربين " وأي غرابة كذلك في تأديب الله إياه وابتلائه بإخراجه من الجنة لتكون في ذلك عبرة لذريته ورع عن العصيان وتحذير من مؤامرات الشيطان؟
وهذا الحديث يجرنا إلى الكلام في عصمة الأنبياء ولو بإيجاز.
عصمة الأنبياء
خلاصة القول فيها أن الأمة اختلفت، هل النبيون معصومون أو لا؟ وهل عصمتهم تبدأ مع بداية النبوة أو هي سابقة عليها؟ فذهب أصحابنا إلى أنهم معصومون عن الكبائر والصغائر في حال النبوة وقبلها وهو ويتفق مع ما نسب إلى أكثر المعتزلة من أن عصمتهم من وقت البلوغ، ونسب الفخر إلى الرافضة قولهم: إنهم معصومون منذ الميلاد، وهذا هو اللائق بمقام المختصين بالاصطفاء الإلهي، وذهبت الحشوية إلى عدم عصمتهم من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى بعد إكرامهم بالنبوة، وقيل بإجازة الصغيرة عليهم دون الكبيرة ونسب إلى المعتزلة، وذهب الجبائي منهم إلى أنهم لا يقارفون الصغائر ولا الكبائر على جهة العمد البتة، بل على جهة التأويل، وقيل بعدم صدور ذنب منهم صغيرا كان أم كبيرا إلا على جهة السهو والخطأ، ولكنهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان ذلك موضوعا عن أمتهم، وذلك لقوة معرفتم، وكثرة أدلتهم، وقدرتهم على ما لا يقدر عليه غيرهم من التحفظ، ذكر هذا القول الفخر في تفسيره ولم يعزه إلى أحد وهو يتفق مع القول الأول كما يتفق مع التحرير الذي ذكرته قبل قليل، ولا بد من تقييد أخذهم بما يقع منهم بأنه دنيوي وليس أخرويا، وذهب أكثر الأشاعرة إلى أنهم معصومون حال النبوة لا قبلها، ونسب هذا القول إلى أبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة. قال الفخر: " والمختار عندنا - أي الأشعرية - أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة البتة، لا الكبيرة ولا الصغيرة "؛ وقد أطال في استدلال لهذا الذي اختاروه بكثير من الأدلة العقلية والنقلية، ومن أراد علم ذلك فليرجع إليه في موضعه من تفسيره.
وبعض أصحاب هذا القول لا يمنعون أن يكون عصيان آدم عن عمد لأنه كان قبل النبوة بدليل قوله تعالى:
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
[طه: 122]، بناء على أن الاجتباء هو إلباسه رداء النبوة.
وأصح هذه الأقوال القول الأول، وأبعدها عن الصواب والحق قول الحشوية، فإن الذين اصطفاهم الله من بين خلقه بأن جعلهم وعاء لنوره وحمله لأمانته، وشهداء على خلقه هم أحق الخلق بالبعد عن سفاسف الأمور فضلا عن المعاصي، وقد دل القرآن أن طائفة من عباد الله ليست للشيطان عليها سلطان، وذلك في قوله تعالى في خطابه لإبليس:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الإسراء: 65]، وقوله فيما يحكيه عنه:
لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
[ص: 82-83]، وأي عباد أحق بهذه العناية الربانية التي تباعدهم عن مؤامرات الشيطان، من أولئك الذين اختصهم بكرامة النبوة وبوأهم منصب الرسالة.
إن كل عاقل ليدك أن الله لا يختار لهذا الأمر الجلل، ولا يرضى لهذه المهمة العالية إلا من كان من عباده أزكى عنصرا وأطيب فطرة، وأوفر عقلا، وأطهر سريرة، وأقوم سيرة، وأنور فكرا، وأخشى لله، وأكثر تحريا لمرضاته، ووقوفا عند حدوده، ويقظة في كل ما يأتي وما يذر.
أما ما تشبث به الذين رموهم بالعصيان ونسبوهم إلى الفساد فهو أوهى من نسج العنكبوت، فما لنا وللاشتغال به، وفي بطلانه ما يكفينا مؤونة إبطاله؟ ولعل أقوى ما تعلقوا به قصة آدم هذه، وقد علمت ما فيها والحمد لله.
هبوط آدم وحواء إلى الأرض
والعطف بالفاء في قوله: { فأخرجهما مما كانا فيه } [البقرة:36] لأن المعطوف فرع عن المعطوف عليه ومسبب له، إن فسر الإزلال بالإيقاع في المعصية، فإن اخراجهما من الجنة ناشئ عن ذلك، وإن فسر الإزلال بالإخراج فهو من باب عطف التفصيل على الإجمال، وجيء بالفاء لإفادتها الترتيب الذكري، كما في قوله تعالى:
وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا
[الأعراف: 4]، وقوله:
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا
[القمر: 9]، ومثله يقال في قراءة حمزة: { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } [البقرة: 36]، وبهذا يندفع ما قاله ابن جرير من لزوم التكرار على هذه القراءة فإن عطف التفصيل على الإجمال شائع في القرآن وغيره من الكلام العربي، ومن ناحية أخرى فإن " ما كانا فيه " ليس نصا في الجنة لاحتمال أن يفسر بنعيمها أو بما كانا عليه من طاعة الله وأنسها، فأخرجهما الشيطان عنه إلى نقيضه من المعصية ووحشتها.
ومهما يكن المراد " بما كانا فيه " من الجنة ونعيمها، أو من الطاعة وأنسها، فإن التعبير الموصول يفيد التفخيم كما هو في قوله تعالى:
فغشيهم من اليم ما غشيهم
[طه: 78]، وفيه تلويح إلى ما لحقهما من الخسران بسبب هذا الإخراج، وفي استحضار ذلك لمن تلا الآية أو تليت عليه موعظة وذكرى، وترسيخ لعداوة الشيطان في النفس، فإنه هو الذي جر على أصل الإنسانية هذه المصيبة فما أجدر الفروع أن تتأثر لأصلها بمعاداة الشيطان وحزبه، ومقاومة وساوسه، والحذر من إغرائه وإغوائه، والسعي الى تخييب سعيه في إضلال البشر، وقطع حبل أمانيه في إهلاكهم، وهذا أصل تربوي ناجح في إعداد النفوس لما يراد منها، إذ في تذكير الأولاد والأحفاد بمصائب الآباء والأجداد وتأصيل لكراهية من كان السبب في هذه المصائب، وقد اتبع القرآن هذه الطريقة التربوية في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله تعالى:
يابني ءادم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ
[الأعراف: 27].
هذا وقد استدل بأمرهما بالهبوط من قال أنها جنة الخلد - كما سبق ذكره - كما استدل به الجبائي القائل بأنها جنة في السماوات؛ والذين قالوا إنها كانت في الأرض حملوا هذا الهبوط على الانتقال من مكان إلى آخر كما في قوله تعالى:
اهبطوا مصرا
[البقرة: 61].
وقد حشر المفسرون أقوالا متعدد معزوة إلى الأسلاف في تحديد أماكن هبوط كل من آدم وحواء وعدوهما إبليس، وأضافوا إليهم الحية، ولست أراها إلا من أكاذيب أهل الكتاب التي علقت بأذهان كثير من المفسرين فشانوا بها جمال التفسير، وإن زعم بعض المحدثين كالحاكم صحة نسبة بعضها إلى بعض الصحابة.
والأمر بالهبوط موجه - في رأي أكثر المفسرين - إلى آدم وحواء وإبليس، وعليه فإن العداوة المقصودة هي ما بين آدم وحواء من جهة وإبليس من جهة أخرى، وزعم بعضهم دخول الحية معهم، وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومما ذكروه أنها كانت ذات قوائم وزينة فسلبها الله قوائمهما وزينتها ووحش منظرها بعد أن أعانت إبليس على إغواء آدم، وجعل بينها وبين الإنسان عداوة مستمرة، ولا يخفى ما فيه.
والصحيح أن الخطاب لآدم وحواء بدليل ما في سورة طه وهو قوله عز من قائل:
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا
[طه: 123-124]، إذ لا يمكن أن يكون الخطاب فيه شاملا لإبليس أو له وللحية مع وروده بصيغة التثنية، والقرآن يبين بعضه بضعا، ولا يشكل ورود الخطاب بصيغة الجمع هنا، وفيما بعد الجملة الأولى من سورة طه لأن الخطاب وإن كان لهما فإنه يشمل بفحواه من يأتي من ذريتهما فالعدول فيه إلى صيغة الجمع إنما هو لهذا الغرض.
أما ما قيل من المعدوم لا يخاطب لعدم إمكان أن يعقل الخطاب فهو ليس على إطلاقه، فقد خاطب الله تعالى جميع الأجيال إلى أن تقوم الساعة بأوامره ونواهيه التي أنزلها في القرآن نحو قوله:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
[البقرة : 43]، وقوله:
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق
[الأنعام: 151]، وقوله:
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا
[الاسراء: 32]، وليس من المعقول أن يكون هذا الخطاب محصورا في الجيل الذي عايش نزول القرآن، إذ لو كان كذلك لكان لمن يأتي بعده عذر في عدم التقيد بالأوامر والنواهي لعدم خطابه بها، والحق أنه لا مانع من خطاب المعدوم مع الموجود إن كان الخطاب صالحا لهما وكان المعدوم امتدادا للمجود كما في هذا الخطاب فإن ذرية آدم وحواء ليس وجودهم إلا امتدادا لوجودهما، فأي مانع من دخولهم في عموم الخطاب الموجه إليهما ومراعاة ذلك فيه بحيث يصاغ صيغة الجمع الشاملة لهم جميعا، ويدل على شمول الخطاب للذرية قوله تعالى في هذه السورة:
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[البقرة: 38 -39]، إذ لا يعقل إلا دخول ذرية آدم في هذه الخطاب وشمول ما فيه، من وعد ووعيد لهم، وإني لأعجب ممن ادعى دخول إبليس والحية في هذا الخطاب كيف ذهل عن كون الحية ليست من جنس المكلفين حتى توعد على اتباعها هدى الله وتتوعد على إعراضها عنه، وأن إبليس لا يمكن أن يكون مقصودا بهذا الخطاب لاستحالة صلاحه وتعذر فلاحه بعدما طرده الله من واسع رحمته وقضى عليه بالشقاء المستمر.
ولا يشكل أمر آدم وحواء بالهبوط من الجنة مع ذريتهما مع عدم وجود الذرية حينئذ ذلك لأنهما عليهما السلام كانا منطويين على عناصر هذه الذرية فهبوطهما هبوط للجميع ولو بقيا مكانهما لظهرت ثم ذريتهما ولكان ذلك المكان مستقرا لها.
وذهب ابن عاشور الى أن جمع الضمير مع إرادة التثنية به لكراهية توالي المثنيات بالإظهار والإظمار في قوله: { وكلا منها رغدا } والعرب يستثقلون ذلك قال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسا وتجمل
وإنما له صاحبان لقوله: " قفا نبك " ، وقال تعالى:
فقد صغت قلوبكما
[التحريم: 4].
وما قاله وإن ساغ عربية فإن القرائن دالة على القول الذي صححته. صححته.
والعداوة المقصودة في قوله تعالى: { بعضكم لبعض عدو } [البقرة: 36] هي عداوة الشيطان للإنسان عند من قال بدخول إبليس في الخطاب بقوله: { اهبطوا } ، ومن قال بدخول الحية أيضا قال بأن وصف العداوة شامل لها، فهي وإبليس عدوان لآدم وحواء، وهما عدوان لهما كذلك، وقد علمت أن الصحيح بأن الخطاب لآدم وحواء بالأصالة ولذريتهما بالتبعية، فالمقصود بالعداوة إذا ما يكون بين ذريتهما من تنازع وتقاتل على متاع الحياة الدنيا، وقد بدأت هذه العداوة تتجسد في سلوك الإنسان منذ أن قتل قابيل هابيل، ولا زالت مستعرة نارها والشيطان هو الذي يسعرها بمكائده، فلا يفتأ يوغر الصدور ويثير الأحقاد ويبعث الضغائن حتى تظل الإنسانية في شقاء مستمر، وتتقطع ما بينها الصلات التي أمر الله برعايتها، وغير خاف أن ذكر هذه العداوة في معرض الحديث عن إغواء إبليس لآدم وزوجه فيه إشارة إلى أن منشأها مكائد إبليس العدو الأول للإنسان، وفي ذلك تعريض بوجوب أخذ الحذر من سروره والتفطن لمكائده بين الناس.
وإفراد لفظ عدو - مع أن العداوة ليست بين فرد وفرد بل هي بين أكثر أفراد الجنس البشري غالبا - لوجهين:
أحدهما: أن بعضا وكلا مفردان لفظا وإن دلا على الجمعية، فيجوز فيهما رعاية لفظهما فيفردا، ورعاية معناهما فيجمعا.
ثانيهما: أن لفظ العدو يشترك فيه الواحد والجمع كما في قوله سبحانه:
هم العدو فاحذرهم
[المنافقون: 4].
والمستقر إما أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الاستقرار، أو ظرفا ميميا - أي مكان الاستقرار - وعلى هذا الأخير ففي العبارة تجريد كما في قوله تعالى:
لهم فيها دار الخلد
[فصلت: 28]، فإن الأرض نفسها هي مكان الاستقرار، واختلف في هذا المستقر هل هو خاص بالحياة أو هو في الحياة وبعد الممات؟ فالاستقرار في الحياة على ظهر الأرض، وبعد الممات في بطنها، وعطف المتاع عليه يدل على أن المراد بالمستقر ما كان في الحياة فإن الاستمتاع لا يكون إلا فيها.
وكلمة متاع تطلق على كل ما يستمتع به سواء كان نظرة سارة أو صوتا محبوبا، أو رائحة طيبة، أو لباسا، أو طعاما، أو سكى، أو أي شيء آخر مما فيه منفعة ظاهرة أو باطنة، ويشهد لذلك ما روي عن سليمان بن عبد الملك أنه وقف على قبر ابنه أيوب بعدما دفن فقال:
وقفت على قبر غريب بقفرة
متاع قليل من حبيب مفارق
ولمن قال إن المستقر في الأرض ليس خاصا بالحياة أن يقول بعموم المتاع لما بعد الموت من دفن الأجساد في باطن الأرض، فإن في ذلك سترا لها وهو من منافعها، ويستأنس له بقوله تعالى في سورة الأعراف:
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون
[الأعراف: 24-25].
والحين الزمن طويلا كان أو قصيرا ولا معنى لتقييده بالطول مع قوله تعالى:
أو تقول حين ترى العذاب
[الزمر: 58] لجواز إحلال ساعة محله، ويراد به هنا انتهاء أمد الدنيا، هذا بالنسبة إلى الجنس فإن الأرض مستقر للجنس البشري إلى انتهاء أمد حياتها أما الأفراد فإن كل فرد انتهاء حينه بابتداء حينه، فبالموت ينقطع أمد استقراره على ظهر الأرض، واستمتاعه بمنافعها، هذا كله على القول بأن الاستقرار والمتاع المقصودين هما في حال الحياة لا بعدها.
والتلقي الاستقبال وهو نفعل من اللقاء، وصيغته توحي أنه اكتساب اللقاء، وهو يعني المحاولة للوصول إليه، فلا يكون إلا في المحبوب بخلاف اللقاء نفسه والملاقاة، فقد يستعمل في المحبوب وغيره، يقال لقى فلان صديقه ولقى عدوه، ولاقى صديقه ولاقى عدوه، وذهب بعضهم إلى أن التلقي هنا بمعنى التلقن، وهو - وإن صح معنى - لا يصح لغة لأن قلب لام الفعل ياء إنما يصح إذا جانست العين نحو تسرى وتسرر، وأملي وأملل، وتقصي وتقصص، وتضني وتضنن، وليس تلقن من هذا الباب، وقرأ الجمهور: { فتلقى ءادم من ربه كلمات } [البقرة: 37] برفع آدم ونصب " كلمات " ، وعكس ابن كثير فنصب آدم، ورفع كلمات، وانتقد قراءته ابن جرير جريا على عادته في عدم الاحتراز في انتقاد القراءات المتواترة؛ وعلى قراءة الجمهور فإن آدم استقبل الكلمات من ربه إذ ألهمه إياها، وعلى قراءة ابن كثير فالكلمات هي التي استقبلته استقبال المحب لمحبوبه، وهذا من باب المجاز، والأصل في تلقي الشيء للشيء جواز كون كليهما فاعلا ومفعولا، فإن كلا منهما تلقي الآخر، فلذلك يجوز إسناد التلقي إلى كل منهما.
قبول التوبة من آدم
وهذه الكلمات إما أن تكون معبرة عن التوبة والندم ألهمها الله آدم وزوجه وعليه فهي ما ذكره الله عنهما في سورة الأعراف من قولهما:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23]، وإما ان تكون كلمات وجهها الله إليهما لإيقاظهما من غفلتهما، وتذكيرهما بعد نسيانهما، وعليه فهي ما ذكره الله من قوله لهما:
ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطآن لكما عدو مبين
[الأعراف: 22]، ويرجح الأول ذكر توبة الله على آدم في هذه الآية معطوفة على تلقي الكلمات بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب، ومن المعلوم أن التوبة حصلت له من غب إتيانه بهذه الكلمات المعبرة عن توبته إلى ربه، ولقائل أن يقول إن توبة الله عليه جاءت مع توبته هو إلى الله تعالى التي استلهمها من إدراكه لخطيئته وسماعه عتاب ربه، فلا إشكال في عطف توبته سبحانه عليه على عتابه الذي وجهه إليه بالفاء الترتيبية التعقيبية، على أن دلالة { تلقى من ربه } على ما صدر من ربه إليه أوضح منها على ما صدر منه إلى ربه.
ويرى ابن عاشور أن التعبير بتلقي هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له، فعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ، بل كلمات عفو ومغفرة ورضا، وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالبا المغفرة، وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة. قال: " ومما يدل أنها كلمات عفو عطف فتاب عليه بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب ".
ومن فهم أن الكلمات هي قوله تعالى: { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } الآية، يسوغ له أن يقول: إن هذا التوبيخ لما كان باعثا إلى التوبة وهاديا للنفس إلى صوابها بعد خطئها، فهو أمر نافع لأن المصلحة مترتبة عليه.
وقد أكثر الناس في الحديث عن هذه الكلمات وإيراد ما نسب إلى السلف عما يراد بها، ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا، وعبد بن حميد، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الكلمات هي قوله: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى. قال: أي رب ألم تسبق إلي رحمتك قبل غضبك؟ قال: بلى. قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم ".
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أنه قال في الكلمات هي لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، إني عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم؛ وأخرج نحوه البيهقي في الشعب وفي الزهد عن سعيد بن جبير، وكذا ابن عساكر عن ابن عباس والديلمي في مسند الفردوس من طريق علي كرم الله وجهه مرفوعا بسند ضعيف، وعبد بن حميد عن عبد الله بن زيد موقوفا، والروايات عن السلف في ذلك كثيرة متضاربة، وبعضها غير خارج عن كونه من شواذ التأويلات، والأولى الرجوع إلى القرآن نفسه، والتعويل على ما جاء فيه، ولذلك لا أرى العدول عن الوجهين السابقين، على أن الوجه الأول مروي عن جماعة من السلف، فقد أخرجه الثعلبي وابن المنذر عن ابن عباسن ورواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، وعبد بن حميد عن محمد بن كعب القرظي وروى مثله بعد بن حميد عن الحسن، والضحاك، ومجاهد، ورواه أيضا ابن أبي حاتم عن مجاهد.
ولم تذكر توبة حواء في هذه السورة اكتفاء بذكر توبة آدم لأن القصة سيقت من أجله، وقد ابتدئت به، ومن ناحية أخرى فإن المرأة كثيرا ما يطوى ذكرها ويقتصر على ذكر الرجل لأجل سترها وبيان تبعيتها له، وقد ذكرت توبتهما معا في سورة الأعراف.
ولفظة " تاب " ومشتقاتها دالة على الرجوع، وكذا أخواتها كآب وثاب، وتوبة العاصي إلى ربه رجوعه إلى طاعته واستقالته العثرة، واستغفاره مما وقع فيه، وتوبة الله عليه عوده بالمنة والإحسان إليه ولما في ذلك من معى العفو عديت التوبة الصادرة من الله تعالى بعلي بخلاف توبة العبد فإنها رجوع محض فلذك عديت بإلى الدالة على الغاية، فإن غاية ما يلتمسه العبد من ربه أن يحقق توبته ويكفر حوبته.
وقد كان آدم بتوبته هذه قدوة لكل من تاب من ذريته بخلاف إبليس فو قدوة للمصرين، ولينظر الإنسان لنفسه أي القدوتين يختار، هل يختار الاقتداء بأبيه الذي ينتمي إليه أو إلى الشيطان العدو المبين الذي لا يسعى إلا إلى إردائه في الجحيم؟ وكما وقع آدم في الخطيئة فإن ذلك أمر لا بد منه في ذريته، وإنما التلافي للأمر باتباع مسلكه في التوبة، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، والله تعالى ينادي عباده بأن يتوبوا ويبين لهم سعة فضله وعظيم رحمته ويحذرهم من الإصرار على العصيان، والاستخفاف بسوء عواقبه، ومن ذلك قوله:
قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يحسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين
[الزمر: 53 - 58].
وللتوبة أركان أهمها الندم وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" التوبة الندم "
وذكر بعض العلماء أن التائب لا بد له من علم وحال وفعل، فالعلم إدراكه وقوعه في المعصية ومضرة العصيان، والحال وجدانه في نفسه الألم الناشئ عن تحسره على ما وقع فيه، والفعل هجرانه ما كان عليه من المعصية إلى الطاعة، وأضاف بعضهم إلى ذلك إشفاقه، لأنه لا يدري هل وفى بشرائط توبته أولا؟ كما أنه لا يدري عن مستقبله هل سيوفق فيه للطاعة أو يصاب بسهم الخذلان فيتردى في مهاوي العصيان كما سبق عليه ذلك؟
وقوله: { إنه هو التواب الرحيم } تذييل منطو على التعليل فإن قوله: { إنه هو التواب } تعليل لقوله: { فتاب عليه } ، والتواب على وزن فعال بمعنى كثير التوبة، فهو مشعر بأن الله يتوب على عبده كلما تاب العبد إليه من أعماق قلبه، وبإخلاص سريرته وإن تكررت المعصية منه، ومن ناحية أخرى فإن التائبين بعد المعصية كثرة كاثرة، والله يتوب عليهم جميعا، فناسب ذلك لفظ " التواب " الدال على كثرة صدور التوبة منه تعالى، وفي " الرحيم " تعليل لمدلول التواب، فإن سبب كثرة توبة الله على عباده رحمته بهم، وفي هذا تنبيه على أن توبته تعالى على العاصين من خلقه هي محض فضل وإحسان منه سبحانه، وليست واجبة عليه كما يقول أهل الاعتزال.
هذا وقد شذ الإمام محمد عبده في تفسيره لهاتين الآيتين فقد صبغه بلون من تلك الأفكار التي تولدت في ذهنه نتيجة العراك بين نزعتي التجديد والتقليد، وقد بدأ أولا بتقرير المراد مما تقدم في هذه القصة على هذا المذهب الذي اختاره فقال: " إن إخبار الملائكة يجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره، ويعطي استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما، هو تصوير لما في استعداد الانسان لذلك، وتمهيد لبيانه أنه لا ينافي خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الانسان لعلم كل شيء في هذه الأرض واندفاعه في استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة، وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم، عبارة عن تسخير هذه الأراوح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك، وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثال التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري.
.. "
وقد بني على ذلك منهجه في تفسير ما هنا فقال: " وأما التمثيل فيما نحن فيه منها - أي القصة - فيصح عليه أن يراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ذات الشجر الملتف ما يلذ له من مرئي ومأكول ومشروب ومشموم في ظل ظليل وهواء عليل، وماء سلسبيل كما قال تعالى في القصة من سورة طه:
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى
[طه: 118-119] ويصح أن يعبر عن السعادة بالكون في الجنة وهو مستعمل، ويصح أن يراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم آب القبيلة الأكبر على القبيلة، فيقال كلب فعلت كذا، ويراد قبيلة كلب، وكان من قريش كذا، يعني القبيلة التي أبوها قريش، وفي كلام العرب كثير من هذا.
ويصح أن يراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وفسرت بكلمة الكفر، وفي الحديث تشبيه المؤمن بشجرة النخل.
ويصح أن يكون المراد بالأمر بسكنى الجنة، وبالهبوط منها أمر التكوين، فقد تقدم أن الأمر الإلهي قسمان، أمر تكوين، وأمر تكليف.
والمعنى على هذا أن الله تعالى كون النوع البشري على ما نشاهد في الأطوار التدريجية التي قال فيها سبحانه:
وقد خلقكم أطوارا
[نوح: 14]، فأولها طور الطفولية، وهي لا هم فيها ولا كدر، وإنما هي لعب ولهو، كأن الطفل دائما في جنة ملتفة الأشجار يانعة الثمار، جارية الأنهار، متناغية الأطيار، وهذا معنى: { اسكن أنت وزوجك الجنة } ، وذكر الزوجة مع أن المراد بآدم النوع الآدمي للتنبيه على الشمول وعلى أن استعداد المرأة كاستعداد الرجل في جميع الشؤون البشرية، فأمر آدم وحواء بالسكنى أمر تكوين، أي أنه تعالى خلق البشر ذكورا وإناثا هكذا، وأمرهما بالأكل حيث شاءا عبارة عن إباحة الطيبات وإلهام معرفة الخير، والنهي عن الشجرة عبارة عن إلهام معرفة الشر، وأن الفطرة تهدي إلى قبحه ووجوب اجتنابه، وهذان الإلهامان اللذان يكونان للإنسان في الطور الثاني - وهو طور التمييز - هما المراد بقوله تعالى:
وهديناه النجدين
[البلد: 10]، ووسوسة الشيطان وإذلاله لهما عبارة عن وظيفة تلك الروح الخبيثة التي تلابس النفوس البشرية فتقوى فيها داعية الشر، أي إن إلهام التقوى والخير أقوى في فطرة الإنسان أو هو الأصل، ولذلك لا يفعل الشر إلا بملابسة الشيطان له، ووسوسته إليه، والخروج من الجنة مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن الاعتدال الفطري.
وأما تلقي آدم الكلمات وتوبته فهو بيان لما عرف في الفطرة السليمة من الاعتبار بالعقوبات التي تعقب الأفعال السيئة، ورجوعه إلى الله تعالى عند الضيق، والتجائه إليه في الشدة، وتوبة الله عليه عبارة عن هدايته إياه الى المخرج من الضيق، والتفلت من شرك البلاء بعد ذلك الاعتبار والالتجاء ".
ثم قال: " فحاصل القول أن الأطوار الفطرية للبشر ثلاثة، طور الطفولية وهو طور نعيم وراحة، وطور التمييز الناقص، وفيه يكون الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان، وطور الرشد والاستواء، وهو الذي يعتبر فيه بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه عند الشدة إلى القوة الغيبية التي منها كل شيء وإليها يرجع الأمر كله، فهكذا كان الإنسان في أفراده مثلا للإنسان في مجموعه - قال - كأنه تدرج الإنسان في حياته الاجتماعية ابتدأ ساذجا سليم الفطرة قويم الوجهة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالذهبي.
ثم لم يكفه هذا النعيم المرفه فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم فثار النزاع وعظم الخلاف واستنزل الشقاء، وهذا هو الطور الثاني، وهو معروف في تأريخ الأمم، ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر وتحديد حدود للأعمال تنتهي إليها نزعات الشهوات ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله ".
هذا ما قاله هنا وهو لا يختلف عما قاله سابقا في الملائكة وإبليس، والدافع إلة كل ذلك واحد، وقد سبق بيانه، وإذا تأملت هذا الشرح الذي جاء به وعرضته على نصوص الكتاب في القصة وجدته بعيدا عن مدلولها؛ على أنه قد ناقض نفسه في بضع ما جاء به، كقوله: " إن الإنسان - لولا داعية الشر المعبر عنها بإبليس وامتناعه عن السجود - لآتى عليه زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، فإنه لا يتفق مع تفسيره للملائكة بما تقدم من كونهم قوى طبعية منبثة في كل شيء من هذا الكون، وإلا فما معنى تحول الإنسان إليها مع أنه نفسه منطو عليها؟ وهل يعد ذلك انتقالا إلى الأعلى أو إلى الأدنى؟
وبالجملة فإن كلامه - لعدم انبنائه على أسس ثابتة من مفاهيم الدين - كفيل بهدم بعضه بعضا، وهكذا كل ما كان ناشئا عن فكر الإنسان غير المستقر،
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
[النساء: 82]، وإني لأعجب كيف يمكن القول بأن المراد بآدم الجنس البشري مع تحذير الله لهذا الجنس من فتنة الشيطان - كما صنع مع آدم وزوجه - في قوله تعالى:
يابني ءادم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ
[الأعراف: 27]، ولعمري لئن ساغ مثل هذا التأويل لم تبق للألفاظ العربية مدلولات خاصة تستقر عليها الأفهام، وهذا يعني فتح باب الشك والاحتمال الواسع في كل ما جاء به القرآن من وعد ووعيد وأمر ونهي، وقصص وأخبار، هذا من ناحية اللفظ.
أما من ناحية المعنى فإنه يتعذر أن يكون المراد بآدم النوع الإنساني، وأن يكون أمره بسكنى الجنة عبارة عن مرحلة الطفولة البريئة التي يمر بها كل إنسان وهو خالي البال مطمئن النفس بعيد عما يعانيه الكبار من مشاق وأتعاب، ذلك لأن الناس مختلفون غير متفقي الحال في أي طور من أطوار الحياة، فتجد أحدهم وهو في صغره يتفيأ ظلال الراحة، ويتقلب على بساط النعيم حتى إذا ما بلغ طور الرشد لفحته الدنيا ببؤسها وكشرت له الأيام عن عصل أنيابها، وفرته الحوادث بأظفارها، بينما تجد غيره لا يذوق في طفولته الراحة وإن اشترك مع غيره من الأطفال في براءتهم الفطرية، فلا يكاد يفتح عينه على الدنيا إلا ويرى أيامها عابسة أمام ناظريه فيقضي مرحلة طفولته كلها في بؤس وفقر وعرى ومسغبة وذل وخوف، وكرب وبلاء حتى إذا ما ناهز الإحتلام وبلوغ سن الرشد تنفس الفرج فانزاحت الشدائد فتذوق لذة العيش، ولامس برد النعيم، وماذا عسى أن تكون حالة الأطفال الذين ينشأون في أزمنة الحروب الطاحنة التي تهلك الحرث والنسل، وتستلب الطارف والتليد، فلا يسمعون إلا أصوات الانفجار وقصف المدافع وهدير الطائرات، ولا يشاهدون إلا جثث القتلى المتمزعة أشلاؤها، وحطام المساكن المقفرة من أهلها، ولا يعرفون ما هو الأمن والاستقرار في الحياة ولا يقتاتون إلا بعد جهد ونصب، أفيقال إن طفولة هؤلاء جنة ونعيم؟ أولا يمكن أن يكون من بين هؤلاء من تبتسم له الدنيا وتغدق عليه عطاءها، وتوسع له فضاءها بعد اجتيازه مرحلة صباه؟
وقل مثل ذلك في الغي والرشد، فقد يرشد بعض الناس من أول أمرهم حتى إذا بلغوا سن النضج العقلي، والإتساع الفكري، والانتفاع بالعظات والعبر أضلهم الهوى فاقتادهم إلى أشراك الردى والعياذ بالله، بينما تجد آخرين لا تتسع قلوبهم لموعظة ولا تنشرح صدورهم لذكرى فيتخبطون في ضلالهم، وينهمكون في فسادهم، حتى إذا ما كاد المنون يختطف أرواحهم شملتهم عناية الله فأنقذتهم الهداية من الورطة التي وقعوا فيها فيما سبق، وهكذا تجد الناس متفاوتين في كل شيء، فلا يمكن أن يكونوا معنيين بهذه القصة بحسب أطوارهم.
[2.38-39]
أعيد الأمر بالهبوط ليترتب عليه غير ما ترتب على الأمر الأول، فالأمر السابق ذكر مقرونا ببيان الإنتقال من حياة الصفاء والنعيم إلى حياة الكدر والبؤس، ولبيان أن الحياة التي ينتقلون إليها ذات أمد محدود، ونهاية متحومة يتضح ذلك من قوله تعالى فيما تقدم:
بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
[البقرة: 36] وذلك أن آدم عليه السلام لم يكن يشعر هو ولا زوجه عندما كان في الجنة بما سيدور في هذه الحياة التي خلقها لأجلها بين ذريتهما من عداوات وأحقاد، وحسد وبغضاء، وكذب واحتيال، وغش وخداع، وتعالى بعضهم على بعض وما يتبع ذلك من التناحر والتفاني، فأراد الله أن يعرفهما طبيعة الحياة المنتقل إليها عندما أمرهما بالإنتقال حتى يكونا على بصيرة من أمرهما.
الجزاء من جنس العمل
والأمر بالهبوط يترتب عليه بيان أن الناس مجزيون في الآخرة بحسب أعمالهم في الدنيا، ومن المسلمات عند الجميع أن النفس البشرية مطبوعة على حب الحياة، فإذا ما أوذن الإنسان أن حياته على الأرض محدودة استحكم فيه القلق واستولى عليه الاضطراب إلا إذا علم ما يتبع مرحلة الفناء التي تلي الحياة، واطمأن إلى وجود حياة أخرى، وإذا لم يستبن الإنسان من طريق الوحي فإن القلق والاضطراب لن ينفكا عنه، إذ المصير مبهم، والمستقبل معمى لا يمكن اكتناهه بالعقل، ولا بوسائل العلوم التجريبية، وإنما الوحي وحده هو الذي يزيح ستره ويكشف سره، وقد أراد الله أن يرفع عن صدر آدم وزوجه هموم التفكير في هذا المستقبل الغامض فآذنهما بأن هذه الحياة المنصرمة تتبعها حياة سرمدية يلقي فيها كل عامل جزاءه، وفي ذلك طمأنينة لهما بأنهما لن يخسرا الخلود في النعيم إذا ما عملا صالحا وهما يرجوان من الله أن يوفقهما لصالحات العمل بعد تلك الورطة التي أوقعهما فيها الشيطان فكانت لهما درسا لا ينسيانه، كما أن في ذلك تبشيرا لهما بأن كل صالح من ذريتهما سينقلب إلى هذا المنقلب، وسيلقى هذا الجزاء الخالد، فإن كانت الجنة التي أهبطا منها هي جنة الخلد فإنهما سيعودان إليها بتوفيق الله مع عدد لا يحصى من ذريتهما، وإن كانت غيرها سيبدلان بها ما هو خير منها وأبقى.
وبجانب ذلك فإن في هذا التبشر والإنذار حفزا لهما ولكل لبيب من ذريتهما على المسارعة إلى البر والتوقي من الفجور، فإن المنقلب إما إلى جنة عالية وإما إلى نار حامية، والبقاء في كل منهما ليس له أمد، ولا مصير بين هذين المصيرين، فالرابح لا يوازي ربحه شيء والخاسر قد خسر كل شيء، وحسبهما وحسب ذريتهما عظة وعبرة تلك الهفوة التي صدرت منهما فتجرعا غصص عاقبتها.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الهبوط الأول هو الانتقال من الجنة إلى السماء، والهبوط الثاني هو الانتقال من السماء إلى الأرض، وهو قول مرفوض لأمرين:
أولهما: ان الله تعالى قال إثر الأمر بالهبوط الأول: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } والمستقر والمتاع إنما هما في الأرض دون السماء.
ثانيهما: أنه تعالى أمرهما هنا بالهبوط منها، والضمير في منها عائد إلى الجنة قطعا، لأن الضمائر السابقة لا تعود إلا إليها، فلا ينسجم البيان إذا ما فصل هذا الضمير عنها وأعيد الى السماء على أن السماء لم يسبق لها ذكر حتى يعاد إليها.
وذهب الفخر الرازي إلى أن إعادة الأمر بالهبوط لأن آدم وحواء تابا بعدما أمرهما الله بالهبوط فوقع في قلبهما انتساخ هذا المر لأنه كان بسبب الزلة وقد محتها التوبة فأعاد الله تعالى الأمر به ليعلم أنه ليس جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها وإنما هو لأجل تحقيق ما تقدم من وعده تعالى في قوله للملائكة:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30].
ومقتضى رأيه أن الأمر بالهبوط ليس عقوبة على ارتكاب الخطيئة، وهو يتنافى مع قوله عز وجل لآدم وحواء تحذيرا من الشيطان:
فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى
[طه: 117] فإنه صريح في أن إخراجهما من الجنة كان بسبب تلبسهما بالخطيئة التي أوقعهما فيها الشيطان، ولا ينافي ذلك تحقق الوعد الذي وعد الله به ملائكته بنفسه هذا الهبوط فإن لله أن يرتب ما شاء من أمره على ما يشاء، وله تعالى في كل شيء حكمة.
وذهب ابن عاشور إلى أن هذه حكاية أمر ثان لآدم بالهبوط كي لا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته، ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى، وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض، وهو ما أخبر به الملائكة، وفيه إشارة أخرى وهي العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات، وأما تحقيق آثار المخالفة - وهو العقوبة التأديبية - فإن العفو عنها فساد في العالم، لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل، فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة، فإن الصبي إذا لوث موضعا وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه، فالعفو يتعلق بالعقاب، وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه، ولذا لما تاب الله على آدم رضى عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا، ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته، وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه.
ورأيه يتفق مع رأي الفخر كما هو واضح من كلامه غير أنه أضاف إلى ذلك الإشارة التي ذكرها.
وذهب الزمخشري وجماعة إلى أن هذا تأكيد للأمر الأول وحمله ابن عاشور على أن تسميته تأكيدا ليست إلا لإعادة نفس الأمر الأول بلفظه، وإلا فقد ترتبت على هذه الإعادة فائدة لا تتم بدونها، وهي ارتباط البيان بعضه ببعض وتوضيح مراده للسامع فلو لم يعد هذا اللفظ نفسه لتوهم أن الخطاب في قوله فإما يأتينكم مني هدى للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن، فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام مع استقلاله في كل مرة بفائدة، ولذلك لم يعطف " قلنا " على ما قبله لما بينهما من شبه كمال الإتصال.
وبناء على هذا التوجيه، فالقول بالتأكيد لا يتنافى مع ما ذهبت إليه في المراد من إعادة الأمر.
المراد بالهدى بعد الهبوط
و " إما " مركبة من " إن " الشرطية و " ما " التأكيدية، والأصل في " إن " أن تكون في الشرط غير المقطوع به بخلاف " إذا " ، وقد أوثرت عليها للإيماء إلى أن إتيان الهدى ليس واجبا على الله وإنما هو مجرد فضل منه تعالى غير أن اقترانها ب " ما " ودخول نون التوكيد على فعلها ينفيان شك السامع في عدم تحقق شرطها.
وقد سبق معنى الهدى في تفسير الفاتحة وأول هذه السورة، واختلف في المراد به هنا، روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية أنه الأنبياء والرسل والبيان، وبنى عليه ابن جرير أن الخطاب هنا لغير آدم بل هو لذريته لأنه نفسه كان من الرسل، مع أن ابن جرير نفسه ذكر ان الرسل إلى الأنبياء هم الملائكة وإلى سائر الناس هم الأنبياء، وذهب قوم إلى أن المراد بالهدى الكتب، وقال آخرون هو القرآن خاصة، وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهذان القولان - وإن صححهما ابن كثير - يردهما أن الخطاب لآدم وحواء وجميع ذريتهما، وليس خاصا بهذه الأمة وحدها، وقد خلت رسل جاءت بكتب من عند الله تعبدت الأمم السالفة بما فيها من الهدى والبيان.
واستدل القطب - رحمه الله - في الهيميان للقول بأنه الرسل بقوله تعالى:
يابني ءادم إما يأتينكم رسل منكم
[الأعراف: 35]، ولا أرى وجها للاستدلال بالآية لأنها في بني آدم بينما الخطاب هنا لأدم وحواء وإنما تدخل فيه ذريتهما بالتبعية وقد علمتم أن آدم كان نفسه رسولا.
وأولى الأقوال بالصواب هو أن الهدى كل ما تقوم به حجة الله على خلقه سواء كان عقلا أو وحيا؛ فالعقل حجة في معرفة وجود الله، ومعرفة صفاته الذاتية، كالوحدانية، والقدم والبقاء، والعلم والقدرة؛ والوحي حجة في ذلك وفي سائر المعتقدات، وفي أحكام الله المتعلقة بأفعال العباد ولا يبعد أن يكون الهدى هو الدين الذي تعبد الله به خلقه، فإن المتمسك به آخذ بحجزة هدى الله، ومستمسك بالعروة الوثقى منه، والمفرط فيه أصفر الكفين من كل خير، وانتظام حياة الفرد والمجتمع تتوقف عليه، فللنفس الإنسانية مطالب شتى، منها روحية ومنها جسدية، ومنها قلبية ومنها عقلية، والتأليف بين هذه الجوانب، والتنسيق بين هذه المطالب لا يتم إلا بعقيدة روحية يسري أثرها على كل شيء في الإنسان، ومصالح أفراد هذا الجنس متشابكة وشؤونهم متداخلة، فإذا لم يهيمن عليهم وازع من الدين أدى بهم الأمر إلى النزاع والشقاق، والتدافع والتنافر، ومن هنا كان الدين ضرويا للسعادة والنظام، إذ العقل وحده لا يكفي لأن يسد مسده، فإن العقول متباينة باختلاف المؤثرات النفسية والإجتماعية على أصحابها، فالتربية والتثقيف، والبيئة والمحيط لها أثر في تكوين الفكر وتوجيه العقل، بينما الدين فوق ذلك كله لأنه تنزيل من حكيم حميد يخضع له العقل والقلب، ويستسلم له الروح والجسد.
وقد يتصور عبيد الشهوات أن في الدين حرمانا بسبب ردعه للإنسان عن الانطلاق وراء شهواته، والواقع أن تلك هي السعادة المطلوبة والغاية المحبوبة، فإن الإنسان أذا أطلق له العنان فاتبع هواه كان ذلك أخطر العوامل في تدمير الفرد والمجتمع، فقد تقوده شهواته الى ما فيه هلاك نفسه، وفساد مجتمعه، والله لم يحرم في دينه شيئا إلا لما علمه من مصحلة لعباده في هذا التحريم، خفية كانت أم ظاهرة، عاجلة أم آجلة، وكفى سعادة أن يفوز الإنسان برضوان الله وما يترتب عليه من حياة الخلد والنعيم المقيم
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55] في مقابل قيد نفسه عن بعض شهواتها في فترة قصيرة لا توازي شيئا بجانب حياة الأبد، ومن هنا كان تغابن الناس الحقيقي بحسب اختلاف حظهم من التمسك بالدين فهم وإن تفاوتوا في الغنى والفقر، وفي الراحة والبؤس، وفي طول الأعمار وقصرها، وفي امتداد الأفكار وانحصارها، وفي قوة الأبدان وضعفها، وفي الجاه والسلطان إلى غير ذلك مما يعد التفاوت فيه ربحا أو خسارة ، فإن ذلك لا يساوي شيئا بجانب التفاوت في التمسك بأهداب الدين، والاعتصام بحبل التقوى.
وفي إضافة الهدى إليه تعالى إيماء إلى أنه لا يأتي إلا منه، ولا يتلقى إلا عنه، سواء كان من كتبه التي أنزلها، أو من رسله الذين بعثهم، أو من العقل الذي نوره. واتباع الهدى سبب الأمان من الخوف، والوقاية من الحزن، فالمجتمع المتمسك بهدى الله مجتمع آمن مستقر لا خوف عليه مما يتهدد المجتمعات الضالة الفاسدة من عواقب سيئة، والفرد المتبع للهدى يبعث يوم القيامة آمنا مطمئنا تتلقاه الملائكة بالبشائر، وتطمئنه بالفوز والسعادة، فلذلك قال تعالى: { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة:38].
معنى الخوف والحزن
والخوف انزعاج النفس لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن تألمها لفوات محبوب أو لتوقع فواته، فهو يكون على ما وقع في الماضي، أو ما يتوقع في المستقبل، وهو مأخوذ من الحزن - أي ما غلظ من الأرض - فكأنه هم غليظ، وخصه الأكثرون بالواقع دون المتوقع، ويرده قوله تعالى حكاية عن عن يعقوب عليه السلام:
إني ليحزنني أن تذهبوا به
[يوسف: 13]، ولا داعي إلى تأويله، واختلف المفسرون فيما يراد من الخوف والحزن المنفيين هنا عن اتباع الهدى على أقوال أبلغها أبو حيان في البحر المحيط إلى اثني عشر قولا، وأكثرها متداخل، وهي كلها ترجع إلى أن أنهم لا يحزنون على فائت ولا يخشون مما يستقبلهم، وهذه الحالة إنما هي في الحياة الآخرة طبعا عندما تتلقاهم الملائكة،
ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أوليآؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون
[فصلت: 30-31]، أما في الدنيا فالمؤمنون أشد خوفا لعدم أمنهم من مكر الله، ولمعرفتهم بعظم الهول وجلل الخطب، فلذا كانوا أشد مراقبة للنفس ومحاسبة لها، ويدل على ذلك ما وصفهم الله به في كتابه كقوله:
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون
[المؤمنون: 57] إلى قوله:
والذين يؤتون مآ آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون
[المؤمنون: 60]، وقد وصف الله بالخوف الأنبياء - وهم صفوته من خلقه - ومن ذلك قوله في زكريا وآله
ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين
[الأنبياء: 90]، وكذا الحزن، فإن من شأن المؤمن أن يحزن في الدنيا بسبب شعوره بالتقصير في طاعة الله، وهو يرى نفسه دائما مسبوقا بالمجدين في الطاعة والمسارعة إلى الخيرات كما أنه يحزن - كما يحزن غيره - لما يعتريه من مصائب الدنيا ونوائبها.
وظاهر كلام الإمام محمد عبده في المنار أن الخوف والحزن منفيان عن أهل الهدى في الدنيا والآخرة ونصه: " فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، لأن اتباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة، ومن كانت هذه وجهته يسهل عليه كل ما يستقبله، ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الله يخلفه فيكون كالتعب في الكسب لا يلبث أن يزول بلذة الربح الذي يقع أو يتوقع ".
وقد علمتم أن المؤمن في الدنيا لا يبارحه الخوف لأنه الواقي من الخوف في الآخرة اذ لا يجمع الله على عبد خوفين، وفي الآيات القرآنية الواصفة للمؤمنين بالخوف والآمرة به، وفي أحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ما يكفي دليلا على أن الخوف من الله - كرجائه تعالى - من أهم واجبات الدين، فبهما يستقيم أود النفس، وتنزجر عن المعاصي، وتسابق إلى الخيرات، وإذا كان النبيون أشد خوفا من الله كما ثبت في الحديث، فما بالكم بسائر المؤمنين على أن خوف كل أحد إنما هو بقدر علمه وإيمانه، فكيف يقال إن المؤمنين لا يعتريهم الخوف في الدنيا؟ وأما الحزن فهو أمر فطري جبلت عليه نفوس البشر وإن تباينت فيه بحسب اختلاف أمزجتها، وهو يعتري البر والفاجر، كيف وقد أصاب الأنبياء، وهم أكمل البشر وصفا، وأعظمهم صبرا، وأشدهم جلدا، فقد وصف الله يعقوب عليه السلام بقوله:
وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم
[يوسف: 84]، وحكى عنه قوله:
إني ليحزنني أن تذهبوا به
[يوسف: 13]، وقال لصفوة الأنبياء وخاتم المرسلين:
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون
[الأنعام: 33]، وثبت في الحديث أنه صلوات الله وسلامه عليه قال - ودمعه ينسكب وقلبه يتألم على فراق قرة عينه وفلذة كبده إبراهيم الذي وهبه على الكبر - " وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون " فما قاله الإمام من أن المهتدين لا يعتريهم الخوف والحزن في الدنيا ترده النصوص والمشاهدات.
واستدل الفخر الرازي بهذه الآية على عدم خوف المؤمن بعد الموت لا في قبره، ولا عند بعثه ولا في الموقف، وعزز هذا الاستدلال بمدلول قوله تعالى:
لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون
[الأنبياء: 103].
وذهب الأكثرون إلى أن لا دليل في الآية على نفي الخوف يوم القيامة عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد ذلك اليوم إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا.
والظاهر ان هؤلاء نظروا إلى أن من طبع الإنسان أن يتأثر بالهول النازل وإن كان على ثقة بأنه في مأمن منه، وأنتم تدرون أن الطبيعة البشرية في الآخرة لا تبقى بحسب ما كانت في الدنيا، ومن الدليل على ذلك ما ذكره الله من التقاول الذي يكون بين أهل الجنة وأهل النار، واطلاع أهل الجنة على ما فيه أهل النار من العذاب - والعياذ بالله - مع عدت تكدير ذلك صفو نعيمهم ولا إثارة مشاعر الألم والحزن في نفوسهم، وذلك مخالف للطبع البشري المألوف في الدنيا؛ فما المانع أن يكون الحال كذلك في الموقف؟ وما أشاروا اليه من وصف الله ورسوله لأهوال ذلك اليوم لا يخلو إما أن يكون من العمومات القابلة للتخصيص أو الروايات الأحادية التي لا تقوى على معارضة النصوص القاطعة برفع الخوف عن المؤمنين الصالحين نحو قوله تعالى:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون
[فصلت: 30]، وقوله:
لا يحزنهم الفزع الأكبر
[الأنبياء: 103].
واتباع هدى الله الذي يترتب عليه الأمن من الخوف والسلامة من الحزن إنما هو باتباع مراشده أمرا ونهيا ومعرفة سننه في خلقه، وذلك ما جاءت به رسالاته التي بعث بها رسله واحتوته الرسالة الخالدة، رسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام المتمثلة في كتاب الله الكريم وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فالتمسك بهما أصل النجاة من كل مخوف والسلامة من كل محزن.
عقاب المنحرفين عن هدى الله
وبعد تقرير عاقبة المتبعين لهدى الله بين مآل أضدادهم الذين انحرفوا عن مسلك الهدى واتبعوا طرائق الضلال، بقوله: { والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 39]، ويلحظ إفراد الإسم الموصول في معرض الحديث عن المهتدين وجمعه عندما ذكر أعداؤهم الضالون، والحكمة في ذلك الإيماء الى قلة المهتدين بجانب الكثرة الكاثرة من الضلال، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى:
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم
[ص: 24]، وقوله:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13].
والكفر هنا إما أن يكون كفرا بالله أو كفرا بآياته، وعلى الأول فالمجرور متعلق " بكذبوا " وهو - على الأخير - متنازع بين " كفروا " و " كذبوا "؛ والكفر أعم من التكذيب لأنه يكون بالقلب وباللسان بينما التكذيب من عمل اللسان فالمكذب بلسانه كافر بما كذب به وان صدقه قلبه، ومن هذا الباب ما وصف الله به فرعون وقومه في قوله:
وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا
[النمل: 14]، فهم موقنون بصدق آيات الله وإنما دعاهم الظلم والعلو الى جحدها، ووصف الله بذلك كفار العرب في قوله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون
[الأنعام: 33]، فقد كانوا يكابرون أنفسهم في إنكار ما جاء به عليه أفضل الصلاة والسلام مع إيقانهم بصدقه، والمصدق بلسانه كافر إن لم يعتقد في قلبه صدق ما أقر لسانه بتصديقه، ومن هذا الباب كفر المنافقين الذي يدعون الإيمان بألسنتهم وقلوبهم فارغة منه، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: { آمنا بالله وباليوم الآخر } ، ويقولون:
نشهد إنك لرسول الله
[المنافقون: 1]، وهم في كل ذلك كاذبون.
وقد سبق بيان معنى الكفر وانقسامه الى كفر شرك وكفر نعمة، وأن كافر النعمة لا يخرجه كفره من الملة، فلا تمتنع موارثته ومناكحته، وكذلك جميع أحكام أهل الملة ما عدا الولاية التي هي حق المستقيمين على دين الله، وأما في الآخرة فمصيره - إن لم يتب - مصير سائر الكفار والعياذ بالله.
والآيات جمع آية وهي علامة ظاهرة على شيء خفي يعرف بها ويدرك بإدراكها سواء كانا حسيين، كمعلم الطريق، ومنارة السفينة، أو عقليين كالدلالة المؤلفة من مقدمات ونتيجتها، واختلف في مأخذها، فقيل من أي التفسيرية لأنها تبين أيا من أي، وقيل من التأيي وهو النظر والتؤدة، ومنه قول لبيد:
وتأييت عليه ثانيا
يتقيني بتليد ذي خصل
وقيل من تأييته أو تأييته بمعنى قصدت آيته أي شخصه، ومنه قول الشاعر:
الحصن أولى لو تأييته
من حثيك الترب على الراكب
وفي وزن آية أقوال، قيل هو فعلة - بالتحريك - وإنما أبدلت الياء ألفا لانفتاحها وتحرك ما قبلها، وقيل على وزن فعله - بكسر العين - وقيل على وزن فعله كسمرة وعلى هذين القولين فعله إبدالها ألفا هي نفس العلة السابقة، وقيل غير ذلك، ولا يخلو شيء في الوجود من آيات الله، فكل ذرة فيه منطوية على ما لا يحصى من الآيات الدالة على قدرة خالقها وعلمه وحكمته، وبجانب ذلك فقد مضت سنته تعالى في رسالاته أن يعززها بآيات دالة على صدق الرسول وصحة الرسالة لئلا تبقى للمرسل اليهم حجة بعدها، ومن أمثلة ذلك آياته تعالى التي قرن بها رسالة موسى عليه السلام، وقد وصفها بقوله:
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها
[الزخرف: 48]، وأعظم هذه الآيات دليلا وأظهرها حجة القرآن الكريم الذي أنزله الله على قلب خاتم النبيين ليكون آية على صدق رسالته تتحدى جميع المعارضين على اختلاف ملكاتهم البيانية ومواهبهم الفكرية إلى أن يطوي الله صفحة هذا الوجود، وأطلقت الآيات على الأقسام التي تتألف منها سور القرآن لدلالة ألفاظها على محتوياتها من العقائد والأحكام والآداب والمواعظ والحكم، ويجوز أن يكون تسميتها آيات لدلالة أوائلها وأواخرها على بدايتها ونهايتها، وتحديد هذه الآيات توفيقي لا مجال للإجتهاد فيه.
وإذا علمتم أن كل ما يفتح عليه الإنسان عينيه، بل كل ما يدركه بأي حاسة كانت هو من آيات الله أدركتم أن أولى ما تفسر به الآيات هنا هو كل ما كان شاهدا على معرفته تعالى ودليلا على وحدانيته، وتبيينا لأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، فتدخل في ذلك المخلوقات المحسوسة والمعقولة، وما أوحاه الله إلى أنبيائه من تعليم لخلقه، وتبيين لما خفي عنهم علمه، ولا وجه لحصر هذه الآيات في القرآن لأنه تخصيص بغير مخصص، ولأن الخطاب لم يكن لهذه الأمة وحدها.
والعدول عن الضمير الى الاسم الظاهر - في قوله: { فمن اتبع هداي } مع جواز أن يكون بدله فمن اتبعه لتقدم اسم الهدى - إنما هو لأجل التفخيم والإهتمام ليزداد المعنى رسوخا في أذهان المخاطبين، ولأجل استقلال هذه الجملة بنفسها بحيث لا تشتمل على ضمير يعود على ما ذكر فيما قبلها حتى يمكن اعتبارها مثلا سائرأ ونصيحة مشهورة ترددها الألسن فتتذكرها النفوس وتتأثر بها على حد قوله تعالى:
وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
[الإسراء: 81].
والمراد بكون الذين كفروا وكذبوا بآيات الله أصحاب النار أنهم يلزمونها كما يلزم الصاحب صاحبه غير أن الصحبة قد تكون دائمة وقد تكون مؤقتة، وقد نفي الإحتمال الثاني بقوله: { هم فيها خالدون } فلا مطمع لهم في الإنفكاك عنها والخروج منها.
[2.40-41]
بعد الحديث عن آدم وقصة استخلافه في الأرض وما تبع ذلك من بيان منقلب طائفتي المهتدين والضالين بعد حياتهم الدنيا بحسب حالهم فيها يوجه الله سبحانه هذا الخطاب الطويل إلى بني إسرائيل مقرونا بتذكيرهم النعمة التي أنعمها عليهم، وبيان عثراتهم وسوء معاملتهم لأنبيائهم، وغلظة طبائعهم، وقسوة قلوبهم، وإعراضهم عن آيات الله، وتحريفهم ما أنزل، وكفرهم بكثير من أحكام الكتاب الذي بأيديهم الى ما وراء ذلك مما دأبوا عليه في سلسلة تأريخهم عبر أحداث شتى، وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام ومعناه صفي الله، وفي ندائهم بهذا الاسم تذكير لهم بأنهم أحرياء بأن يكونوا أسبق الناس إلى الإيمان وأسرعهم إلى الإحسان، خصوصا، وأنهم قد تسلسلت فيهم النبوات وتتابعت في أجيالهم الرسالات، وبسط الله لهم صنوف نعمه، وكانت لديهم بقية من علم الكتاب يمكنهم بما التمييز بين الهدى والضلال، وكانوا بذلك على علم بمبعث خاتم النبيين، بل كانوا على انتظاره بفارغ الصبر ليرفع عنهم كابوس الذل، ويحطم عنهم قيود الهوان، وإنما صرفهم عنه الحسد الذي مردوا عليه، والأنانية التي عرفوا بها، فكانوا مصدر بلاء عليه وعلى أمته، وعقبة كؤودا في طريق دعوته، فكثيرا ما حاولوا صرف الناس عن الإيمان به، وشوهوا الحقيقة للذين ينشدونها، وظلوا على اتصال بكل الفئات المحاربة للإسلام، كما أظهر بعضهم الإسلام بقوله لأجل الوصول إلى ما يريدونه من إشعال نار الفتنة في صفوفه وبين أبنائه، وهؤلاء هم الذين عرفوا بالمنافقين.
وبنو إسرائيل الذين كانوا في ذلك الوقت مصدر هذا البلاء هم يهود المدينة وما حولها، وهم جزء من سائر اليهود، فطبائعهم هي طبائعهم، وسلوكهم هو سلوكهم، وقد انطوى خطابهم على الترغيب تارة، وعلى الترهيب تارة، وعلى التذكير أخرى ليكون ذلك أدعى إلى ارعوائهم وأرجى في إصلاح نفوسهم الفاسدة، وعلاج أدوائهم المتأصلة غير أن أمراضهم كانت أعصى على العلاج، وأبلغ من الدواء، فلم يؤمن منهم إلا قلة قليلة قدروا على مغالبة طبائعهم، ومقاومة نفوسهم، فكانوا للحق حجة وللاسلام قوة، وهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه ومن نهج نهجه.
وأما سائرهم فقد شرقوا عندما ظهر هذا النبي من ولد اسماعيل عليه السلام ولم يكن من ولد اسحاق، وهم كانوا يطمعون أن لا تخرج النبوة عنهم ما يرونه لأنفسهم من المزايا فأدى ذلك الى تكذيبهم بما كانا يرددونه من قبل من بشائر إظلال زمنه ودنو إشراق صبحه، وإلى تأويل نصوص التبشير به في أسفارهم من توارة وغيرها، رغم أن صفاته فيها واضحة جلية لا يماري فيها لبيب.
التناسب بين آيات القرآن وسوره
وقد يعرض هنا تساؤل عن وجود مناسبة رابطة بين ما تقدم من قصة آدم، وهذا الخطاب الموجه إلى بني إسرائيل.
وجوابه أن العلماء مختلفون في وجود التناسب بين آيات القرآن وسوره، وفي اجداء البحث عن ذلك، لأن القرآن نزل في ظروف مختلفة، ولأغراض شتى في أزمنة متطاولة، فقد نزل في ظرف ثلاث وعشرين سنة، منه ما نزل في السلم، ومنه ما نزل في الحرب، ومنه ما نزل في الحضر ومنه ما نزل في السفر، ومنه ما نزل في حال ضعف المسلمين، ومنه ما نزل بعد قوتهم، ومنه ما كان أمرا ونهيا، ومنه ما جاء تبشيرا وانذارا، ومنه ما هو ناسخ، ومنه ما هو تقرير، ومنها ما هو قصص وأخبار، إلى غيرها من الأغراض التي نزل لأجلها، ولم يراع في ترتيب سوره وآياته ترتب نزوله، ولا ترتب هذه الأغراض، فرأت طائفة تعذر وجود التناسب مع ذلك، وعدوا طلبه من باب طلب المناسبة بين الضب والنون، والماء والنار، والملاح والحادي، ومن أصحاب هذا الرأي الإمام الشوكاني في فتح القدير، وقد بالغ في الإنكار على القائلين بالتناسب بين آيات القرآن جميعها حتى عد ذلك فتحا لأبواب الشك، وتوسيعا لدائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور، وعلل ذلك بأن هذا الجاهل إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا الأمر لا بد منه وأن القرآن لا يكون بليغا معجزا إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للإرتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفا محضا، وتعسفا بينا انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة، وعد الشوكاني الاشتغال بأمثال هذه البحوث تضييعا للأوقات، وإنفاقا للساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس، وجعل مثله مثل الذي يعنى بكلام بليغ من البلغاء فيحاول إيجاد التناسب بين خطبه التي ألقاها في مقامات مختلفة، ولأغراض متباينة، ورسائله التي أنشأها لأسباب شتى، أو إلى شعر شاعر فيجتهد في البحث عن المناسبة بين قصائده التي تكون تارة مدحا، وتارة هجاء، وحينا نسيبا، وحينا رثاء، واذا كان طالب ذلك في كلام البشر يعد راكبا للأحموقة فأجدر من طلبه في كلام الله أن يكون - في رأي الشوكاني - أشد حماقة، وأكثر غباوة على أن كلام الله أنزله بلسان عربي مبين، لم يخرج به عن مسالكهم، ولم يتجاوز أساليبهم.
وذهب آخرون إلى القول بالتناسب، وقد عنوا عناية فائقة ببحثه حتى أن منهم من أفرد هذا الموضوع بالتأليف كالعلامة برهان الدين البقاعي الذي ألف في ذلك كتابا سماه " نظم الدرر في تناسب الآي والسور " ، وقد سلك هذا المسلك غير واحد من المحققين، منهم الإمام ابن العربي الذي ذكره أنه عني بشرح التناسب بين آي القرآن في تفسير كبير له يجد له أهلا فطواه عن الناس، والفخر الرازي في مفاتيح الغيب، وأبو حيان في البحر المحيط، والإمامان عبده، ومحمد رشيد رضا في المنار، والإمام ابن عاشور في التحرير والتنوير، وقد اختلف هؤلاء هل التناسب بين آيات كل سورة، أو انه حتى بين السور نفسها بحيث تكون فاتحة كل سورة مرتبطة بخاتمة ما قبلها؟ وهذا هو الذي درج عليه البقاعي، وبه قال أبو حيان ناقلا له عن أحد شيوخه في تفسيره لأول البقرة، وهو الذي يفهم مما ذكرته عن شيخنا العلامة الإمام أبي اسحاق اطفيش - رحمه الله - في تفسير فواتح السور؛ وممن قال بالتناسب بين آيات السورة من غير تعرض لتناسب السور نفسها الإمام ابن عاشور في التحرير والتنوير.
وقد أضاف بعض المتأخرين - كالعلامة الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه النبأ العظيم - إلى التناسب ما هو أدق منه وهو النظام بحيث تكون كل آية ليست مرتبطة بما قبلها وما بعدها فحسب، وإنما هي وقعت في مكانها الملائم بحيث يتخلخل البيان لو أنها قدمت عليه أو أخرت عنه.
وهؤلاء جميعا بنوا آراءهم على أن ترتيب القرآن توقيفي كما يفهم من بعض الروايات، وأنه كان مرتبا قبل نزوله وإنما كان ينزل ما ينزل منه على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الوقائع والأحداث، ومثل ذلك - ولله المثل الأعلى - مثل القصيدة الواحدة المشتملة على معان شتى، وأغراض متعددة غير أنها تلاحمت ألفاظها بترابط معانيها، ويمكن الاستشهاد ببيت أو شطر منها فيما يلائمه من المقامات .
وأرى أن التناسب بين أي القرآن أمر لا ينبغي إنكاره، فهو ماثل جلي لأولي البصائر، وإنما يجب على من بحث فيه أن يقنع بما انكشف منه له، وأن يقف عما غمض عليه،
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف: 76]، والتكلف فوق ما يسنح للفهم هو الذي لا يحمد، وبحسبنا أن نعتقد أن القرآن أبلغ ما وصل إلى الأسماع ووعته الألباب، وأن لطائف تعبيره أكثر من أن تحويها الأفهام، فإذا ما اتضح لنا تناسب بين بعض آياته أو أكثرها ولم يتضح لنا في البعض فما علينا إلا أن نقف عند حد ما وصلت إليه أفهامنا، وأن لا نتجاوز ذلك إلى تحمل ما لم نحمله، وادعاء ما لا نعلمه.
وإذا أدركتم ذلك اتضح لكم أن القائلين بعدم تناسب كل ما في القرآن لا يعنون بالنظر في وجه الربط ما بين هذا الخطاب الموجه إلى بني إسرائيل والقصة التي قبله، أما القائلون بالتناسب فلم يألوا جهدا في بيان وجه ذلك، وأظهر الوجوه هو أن الله تعالى دعا الناس أولا الى عبادته في قوله: { ياأيها الناس اعبدوا ربكم }.
..الخ، وذكرهم نعمته عليهم ولفت أنظارهم إلى آياته في خلقهم وخلق ما حولهم، وبين لهم آية صدق نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام الذي بعثه إليهم، وقرن تبشير الذين آمنوا بوعيد الذين كفروا، وكشف عن حالة كل طائفة في تلقي ما يأتي من قبله من الأمثال، ونعى عليهم كفرهم به مع سبحهم في خضم نعمه وإشراق آياته في كل شيء، ثم أورد عليهم قصة أصل البشر وأنهاهم ببيان مصيرهم في دار الجزاء حسبما يكون منهم في دار العمل، فكان جديرا بعد ذلك خطاب بني إسرائيل - وهم طائفة من الناس الذين خوطبوا أولا - لما عندهم من علم الكتاب الذي يميزهم عن سائر الناس ويمكنهم من التفرقة بين الحق والباطل، والتمييز بين الهدى والضلال، فهم بموجب ذلك أحرى بأن يسبقوا إلى الإيمان وأن يذعنوا للحق، ولأن الله نشر فيهم من الهدى وبسط عليهم من النعمة ما لم يكن في غيرهم ، فقد تتابعت فيهم الرسالات وتعاقبت بينهم النبوات، وكل ذلك يحفز أولي الفكر الثاقب والبصائر النيرة إلى الإيمان والطاعة.
وذهب صاحب المنار إلى أن هذا الكلام لا يزال في الكتاب، وكونه لا ريب فيه، وبيان أحوال الناس وأصنافهم في أمره، وبنى ذلك على أن التفنن في مسائل مختلفة منتظمة في سلك موضوع واحد هو من أنواع بلاغة القرآن وخصائصه المدهشة التي لم تسبق لبليغ، ولن يبلغ شأوه فيها بليغ، وخلاصة القول أنه تعالى ذكر الكتاب ووصفه أنه لا ريب فيه، ثم ذكر اختلاف الناس فيه، فابتدأ بالمستعدين للإيمان، المنتظرين للهدى الذي يضيء نوره منه، وثنى بالمؤمنين، وثلث بالكافرين، وقفى عليهم بالمنافقين، ثم ضرب الأمثال لهذا الصنف الأخير، ثم طالب الناس كلهم بعبادته، ثم أقام البرهان على كون الكتاب منزلا من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم، ثم حذر وأنذر، وبشر ووعد، ثم ذكر المثل والقدوة وهو الرسول، وذكر اختلاف الناس فيه كما ذكر اختلافهم في الكتاب، ثم حاج الكافرين، وجاءهم بأنصع البراهين وهو إحياؤهم مرتين، وإماتتهم مرتين، وخلق السماوات والأرض بمنافعهن، ثم ذكر خلق الإنسان وبين أطواره، ثم طفق يخاطب الأمم والشعوب الموجودة في البلاد التي ظهرت فيها النبوة تفصيلا، فبدأ في هذه الآيات بذكر اليهود للمزايا التي كانوا مختصين بها، والكلام لم يخرج بهذا التنويع عن انتظامه في سلكه وحسن اتساقه في سبكه، فهو دائر على قطب واحد في فلكه، وهو الكتاب، والمرسل به، وحاله مع المرسل إليهم.
وفي خطابهم ببني اسرائيل - مع إمكان خطابهم بغيره من الأسماء والألقاب - ما علمتم من بعث عزائم الخير في نفوسهم لو كانوا لذلك أهلا لأن من شأن الإنسان الرغبة في أن يحذو حذو أبيه فيما كان عليه من مجد وخير، ففي مواطن القتال يثار حماس المقاتلين بتذكيرهم ببطولات آبائهم الماضين، وفي مقام البذل والعطاء يذكر أصحاب الكرم بأيادي آبائهم الأسخياء فينادون منسوبين إليهم، وهكذا في مقام الدعوة إلى الخير والنداء إلى البر يحسن تذكير الأخلاف بالأسلاف ، ومن وسيلة ذلك نسبتهم إليهم في ندائهم.
والمراد بالنعمة التي أنعم الله بها عليهم جنس النعم، فتدخل فيها أصناف الأيادي التي بسطها الله لهم، ونعمه تعالى أكثر من أن تحصى، منها ما هو مشترك بين بني اسرائيل وغيرهم من الناس، ومنها ما هو خاص بهم، ومنها ما هو خاص بغيرهم، والجنسية مستفادة من الإضافة لأنها تأتي لما تأتي له " أل " من المعاني.
والنعم المشتركة ما بينهم وسائر الناس هي خلقهم وخلق أصولهم، وخلق الأرض ومنافعها لهم، وتسخير ما في السماوات لأجلهم، وإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم لتتبين لهم مسالك الرشد، وليحذروا طرائق الضلال، إلى غيرها من سائر النعم التي لم يخص الله بها طائفة دون أخرى من الناس، وأما النعم الخاصة ببني إسرائيل فهي إنجاؤهم من فرعون وآله بعدما كانوا يسثومونهم سوء العذاب، ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وفلق البحر لهم لينجوا من شر عدوهم فرعون، وإهلاكه وقومه بإغراقهم في البحر، وكثرة الأنبياء فيهم، وتظليل الغمام لهم، وإنزال المن والسلوى عليهم إلى غيرها من النعم التي ذكرت في هذه السورة وفي غيرها.
وفي تذكير بني اسرائيل بنعمة الله التي أنعمها عليهم - مع كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق، وإشاعتهم الفساد في الأرض - دليل على صحة قول المعتزلة ومن وافقهم كالباقلاني والرازي من الأشاعرة على أن نعمة الله غير محصورة في المؤمنين، وهذا الرأي الذي اعتمدته في تفسير الفاتحة الشريفة مع ذكر أدلته وأدلة الرأي الآخر، وحسبكم شاهدا على صحته هذا الامتنان وقوله تعالى:
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا
[إبراهيم: 28] وقوله:
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله
[النحل: 112]، وتذكير الله للأمم العاتية كقوم نوح وعاد وثمود بما آتاهم من نعمه.
ولما كانت النعمة داعية إلى وفاء المنعم عليه لمن أنعم بها قرن الله تعالى بين تذكيرهم بالنعمة ومطالبتهم بأن يفوا بعهده، وبنو إسرائيل مشتركون مع سائر الناس في العهد العام الذي يدل عليه قوله تعالى:
فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[البقرة: 38-39].
ولهم عهود خاصة ذكرها الله تعالى في العديد من آي الكتاب، منها قوله:
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتينكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
[البقرة: 63]، وقوله:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون
[البقرة: 83-84]، وقوله:
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار
[المائدة: 12].
وذكر بعضهم أن العهود ثلاثة عهد أخذه الله على جميع بني آدم، وهو العهد الفطري المراد بقوله:
وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، وعهد أخذه على الأنبياء وأممهم لهم فيه تبع وهو الذي دل عليه قوله:
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه
[آل عمران: 81]، وعهد آخذه الله على العلماء، وهو الذي دل عليه قوله:
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه
[آل عمران: 187]، وبنو إسرائيل داخلون في هذه العهود الثلاثة، فهم من بني آدم الذين أخذ عليهم العهد الفطري، ويدخلون في عهد النبيين لأن الأمم تبع لأنبيائها فيه، وهم من ضمن الذين أوتوا الكتاب، وقد كان بينهم كثير من الأحبار الذي لا مناص لهم عن تبيينه إلا بمخالفة أمر الله وقطع عهده.
وقد رويت عن السلف روايات شتى في تفسير عهد الله وعهدهم، والظاهر أنها من باب التمثيل لجنس العهدين، ولا تعد أقوالا مختلفة، وإن ذكرها أبو حيان على أنها أقوال وأوصلها إلى أربعة وعشرين قولا، منها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن عهده ما أمرهم به، وعهدهم ما وعدهم به، وروي عنه أن عهده ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة إلى غيرها من الأقوال التي لا يعد خلافها أو خلاف أكثرها إلا لفظيا فقط، والصحيح أن عهده تعالى عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه، وعهدهم هو إدخالهم الجنة إن وفوا بذلك، وهذا هو الذي صححه القرطبي وعزاه إلى جمهور العلماء، وهو مشتمل على أكثر الأقوال المروية. ويدل عليه قوله تعالى:
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار
[المائدة: 12].
وقد سبق تفسير العهد، وإضافته تصح أن تكون لآخذه ومعطيه، ويحتمل أن تكون كذلك في كلا العهدين في الآية.
وتقديم المعمول على العامل ثم اعادة ضمير المعمول في قوله: { وإياي فارهبون } لأجل تأكيد حصر الرهبة في الله وحده بحيث لا يكون غيره مرهوبا عندهم، وذلك من مقتضيات صدق الإيمان، واستشعار عظمة الخالق تعالى، وأمرهم برهبته سبحانه بعد أمرهم بذكر نعمته والإيفاء بعهده لأن النفوس مجبولة على التفريط ما لم تراقب بوازع من الإيمان، ومخافته تعالى هي أجدى ما يزعها عما فيه مضرتها، فهي سور العمل الصالح ووقاية الإنسان من التردي في المهالك.
مطالبة بني إسرائيل بالإيمان بالقرآن
ثم أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم، ويراد به القرآن كما يراد بما معهم التوراة والإنجيل وغيرهما من صحف أنبياء بني إسرائيل، ومن المعروف أنهم شوهوها جميعا بما أضافوه إليها من الأكاذيب وألصقوه بها من التأويلات الفاسدة غير أنهم كانوا لا يزالون يحتفظون بشيء من نصوصها غير محرف ولا مبدل وإن اختلط بالأكاذيب المفتراه التي أدخلوها فيها، ومن ذلك ما دل على توحيد الله عز وجل وعلى التبشير ببعثة خاتم النبيين وعلى مكارم الأخلاق، وقد جاء القرآن الكريم مصدقا لذلك مع تفنيده لكثير من مزاعمهم وتبيينه كثيرا مما أخفوه من محتويات كتبهم، وبشائر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بينة في تلك الصحف رغم ما تراكم عليها من غبار الأباطيل الذي أخذ يستر كثيرا مما فيها من الحقائق بتضاعفه عبر العصور، وسوف أذكر إن شاء الله جانبا من نصوص هذه البشائر في الموضع المناسب من التفسير.
وبعد مطالبتهم بالإيمان بما أنزل حذرهم من الكفر بقوله: { ولا تكونوا أول كافر به } وذلك لتأكيد هذه المطالبة، فإن مما تقرر عند أكثر الأصوليين أن الأمر المطلق لا يدل على الفور لا على التراخي، وقد يتعلل متعلل إذا ما أمر بأمر لم يقيد بالفورية ولا بزمن معين بأنه سيأتي بالمأمور به ولو بعد حين، فاستؤصلت شبهة الاعتذار عندهم بالنص على نهيهم عن ضد ما أمروا به، والنهي يقتضي الفورية، وعموم الأزمان والأحوال إذ لو أتى المنهى في أي وقت بما نهى عنه لعد ذلك خروجا عن طاعة الناهي وتحديا له، ويبحث هنا في أمرين:
أولهما: أنهم نهوا أن يكونوا أول كافر به ولم ينهوا عن مطلق الكفر به، وقد يظن من ذلك أنهم إذا كانوا مسبوقين بالكفر من قبل غيرهم فهم فيه معذورون.
ثانيهما: أنهم لم يكونوا أول كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فقد سبقهم إلى ذلك كفار العرب من قريش وغيرهم.
وأجيب عنهما بالعديد من الأجوبة، منها: أن المراد بقوله: { ولا تكونوا أول كافر به } تأكيد حثهم على السبق إلى الإيمان فإن الإيمان والكفر نقيضان، فإذا لم يكونوا كافرين كانوا مؤمنين، وقد دلت قرائن السياق على أن مطلق الكفر قبيح ولا يصح اقراره خصوصا عند من توفرت لديه دواعي الإيمان كبني إسرائيل، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب وكانوا يعرفون نعوت النبي الموعود به ويتطلعون إلى بعثته بكل لهفة وشوق، فهم أحق - لما اختصوا به - أن يكونوا سابقين إلى الإيمان به فور ما يصل اليهم علمه، وهذا من باب ما يسمى بالكناية التلويحية، وذلك لانطواء التركيب على غرضين، النهي عن الكفر والدعوة إلى الإيمان، إذ الجملة المعطوفة مقررة لمضمون الجملة المعطوفة عليها وهو طلب الإيمان بجانب مدلوها الصريح وهو النهي عن الكفر.
ومنها أنه يراد به التعريض بكفار قريش وغيرهم ممن بادر الدعوة بالتكذيب، ومعنى ذلك نهيهم أن يكونوا في عدادهم، وسوغ ابن عاشور أن يكون هذا هو مراد الزمخشري في تسويغه كون المعنى " ولا تكونوا مثل أو كافر به ". ومنها أنه أريد به النهي عن مبادرتهم بالتكذيب والكفر، لأن الأولية من لوازها السبق إلى الشيء كما في قوله تعالى:
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين
[الزخرف: 81] وعليه فالأولية ليست على حقيقتها، ونهيهم عن المبادرة إلى الكفر به يستدعي تأملهم فيه لأنهم لو تأملوه لأدركوا حقه بما سبق عندهم من علم الكتاب.
ومنها أن الأولية على حقيقتها وإنما نهوا أن يكونوا أول من يكفر من أهل الكتاب أو بعد الهجرة، لأن السورة أول ما نزل في المدينة.
وأقوى هذه الأجوبة أولها، ولا بأس بثالثها، لما عهد في الكلام البليغ من استعمال هذا الاسلوب للغرض المشار إليه فيه، والضمير في " به " عائد إلى الموصول في قوله: { مآ أنزلت } ، وأجيز عوده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الموصول في قوله: { لما معكم } ، والوجه الأول هو الصحيح لعدم سبق ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الكلام سيق لأجل ما أنزل إليه وهو القرآن لأجل ما معهم، وإن كان كفرهم بهذا المنزل يعد كفرا بما معهم لأنه مصدق له، فمحافظتهم على التصديق بما معهم تقتضي الإيمان بما أنزل إليه صلوات الله وسلامه عليه.
وقد سبق ذكر الإشتراء وإنما يعرض سؤالان في قوله: { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا }:-
أولهما: أن الأصل في البيع والشراء دخول الباء على الثمن دون المثمن، لأن المثمن هو الغاية والثمن وسيلة إليه، ومن شأن الباء أن تدخل على الآلة، كقول القائل ذبحت بالسكين، وكتبت بالقلم، واشتريت بالدراهم والدنانير .
ثانيهما: تسمية ما يأخذونه في مقابل الآيات ثمنا مع كونه المقصود الحقيقي عندهم، فيناسبه أن يكون مثمنا.
والجواب عن الأول أن ادخال الباء على الآيات لأنهم - لحماقتهم - عدوا الآيات أهون العوضين، فاتخذوها وسيلة لما يطمحون إليه من مكاسب الدنيا، سواء كانت أموالا يقتنونها أو مناصب يتبوأونها، وعن الثاني أن تسمية ما يأخذونه في مقابل الآيات ثمنا للتعريض بهم أنهم مغبونو الصفقة فقد بذلوا النفيس وأخذوا الرخيص، فالمال والجاه ومناصب الدنيا كل منها متاع فان وعارية مستردة، ويشترك فيها الناس أبرارا كانوا أو فجارا، أما آيات الله فهي الكنز الذي لا يفنى والثروة التي لا تبلى إذا ما حوفظ عليها بالإيمان والعمل، ولذلك وصف الثمن بالقلة ولا يستدل بذلك على جواز أخذ الثمن الكثير في مقابل آيات الله، أو بجانب نعيم الآخرة، فقد قال أصدق القائلين:
فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
[التوبة: 38]، فلو كانت الدنيا تبرا والآخرة ترابا لما كانت الدنيا - مع فنائها - شيئا يذكر بجانب الآخرة، التي لا انصرام لها، فكيف والدنيا نفسها أهون من التراب والآخرة أغلى من التبر.
علماء الأمة أحق بالاتباع
وليس هذا النهي خاصا ببني اسرائيل وإن كان الخطاب موجها إليهم، فعلماء هذه الأمة مطالبون كذلك بأن لا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، بل هم أحق بهذه المطالبة لأنهم شهداء على الناس، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم شهيد عليهم، وقد أكرموا بإنزال الكتاب المعجز الخالد المهيمن على ما قبله من كتاب على نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فكل منهم ضليع بأمانة هذا الكتاب ومسؤول عن القيام بأدائه رسالته والمحافظة عليه، وأن يكون ذلك خالصا لوجه الله سبحانه، وهو يعني أنهم مطالبون بأن يكونوا مخلصين في العلم والعمل معا، ولا يجتمع ذلك مع اتخاذ الكتاب وما فيه وسيلة لغرض شخصي ومنفعة عاجلة، وقد شدد العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، بل شددوا كذلك في أخذها على تعليم العلم، وعدوا ذلك من اشتراء الثمن القليل بآيات الله، وقد كانت هذه هي طريقة السلف غير أن من جاء بعدهم من الأخلاف رأوا أن هذا التشديد يفضي الى تعطيل تعليم القرآن وتعليم العلم لاستلزامهما تفرغ من يقوم بهما من الأعمال، فلذلك ترخصوا في أخذ الأجرة عليهما بالمعروف. والتشديد أولى في أخذ الأجور على العبادات كالأذان والإمامة لا سيما الامامة في الفروض، وقد كان السلف حريصين على أن تكون أعمالهم خالصة لوجه الله لا يشوبها قصد منفعة مادية ولا معنوية، وإنما تطلع الناس إلى الدنيا وكثرة اشتغالهم بها وتهاونهم بأمر الدين أفضت بهم إلى عدم المبالاة فتهافتوا على الأجور على العبادات حتى قل من يداوم على الأذان أو الإمامة من غير أن يكون له على ذلك أجر، وأفضى الحال ببعضهم إلى رفض الإمامة أو الأذان إذا علم بانقطاع المدد أو لم يكن مستوثقا من استمراره، وهذا إن دل على شيء فإنما دلالته على ضعف الوازع الديني، وانحسار مد الإيمان، فعلى الناس أن يراجعوا نفوسهم ويدركوا أن الدين ليس يصح اتخاذه وسيلة للدنيا، فهو أجل من ذلك، بل يجب أن تكون الدنيا سخرة لأجله.
الأمر بالتقوى
واختتمت هذه الآية بأمرهم بالتقوى في قوله: { وإياي فاتقون } كما اختتمت التي قبلها بقوله: { وإياي فارهبون } وليس في ذلك تكرار لأن التقوى وإن استلزمت الرهبة فهي مستلزمة معها تجنب ما يؤدي إلى الأمر المرهوب والإتيان بما يقي منه إذ الرهبة انفعال نفسي قد لا يصحبه عمل ولا يقترن به ترك بينما التقوى هي اجتناب لمساخط المرهوب بفعل مأموره وترك منهيه، وكل واحد من الفاصلتين أنسب بما تقدمها، ففي الآية السابقة ذكروا بنعمة الله وطولبوا بأن يفوا بعهده ليفي بعهدهم، وفي هذا ما يدعوا إلى رهبتهم من قطع النعمة عنهم وعدم الوفاء بعهدهم اذا لم يفوا بعهده؛ وأما في هذه الآية فقد طولبوا بالإيمان وحذروا من الكفر ونهو أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وذلك يستلزم فعلا وتركا، فكان فصلها بالأمر بالتقوى أنسب.
وقيل إن الخطاب في تلك الآية لعامتهم فلذلك فصلت بالأمر بالرهبة لأنها تكون في العوام كما تكون في الخواص، والخطاب في هذه الآية لخاصتهم وهم العلماء، فلذلك فصلت بالأمر بالتقوى، لأن التقوى لا تكون إلا مع العلم بما يتقى، وقيل: قدم الأمر بالرهبة لأنها وسيلة للتقوى، فمخافة الله في النفس طريق إلى اتقائه بإتيان أمره واجتناب نهيه.
[2.42]
هذه الآية - بما فيها من جمل - معطوفة على مجموع ما تقدم من قوله: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }...الخ، ففي الآيتين السابقتين خصوصا في قوله: { ولا تشتروا } تحذير من الضلال، وفي هذه تحذير من الإضلال، والإضلال لا ينشأ إلا عن الضلال، كما أن هدى الغير لا يكون إلا بعد هدى النفس.
واللبس الخلط بين الأشياء المتشابهة حتى يتعذر تمييز بعضها من بعض أو يتعسر، ويتعدى بالباء واللام وعلى، بحسب اختلاف مقتضى الكلام، والباء هنا للإلصاق لأنهم منهيون عن الخلط بين الحق الذي أنزله الله عليهم، والباطل الذي استوحوه من هوى أنفسهم فأضافوه إلى المنزل، وهذا كما يقال خلطت البر بالشعير، والماء باللبن؛ وذهب الفخر الرازي إلى أنها الباء الآلية المسماه بباء الاستعانة، كالتي في قولك كتبت بالقلم، وعليه فالمعنى لا تجعلوا الحق ملتبسا على الناس بسبب الباطل الذي تأتون به، وهو ما يوردونه من الشبه الحائلة دون وصول حقيقة الحق إلى أفهام عوامهم، وهذا الذي ذهب إليه الفخر جوزه الزمخشري من قبل، وقال باحتماله كثير من المفسرين، واستدل له الفخر بقوله تعالى:
وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق
[غافر: 5]، وكونها للإلصاق أقرب لأن متعلقها مشتق من اللبس، وهو دال على الخلط بين شيئين أو أشياء، بخلافها في آية الكهف فهي متعلقة فيها بما تصرف من المجادلة أولا، وما اشتق من الإدحاض ثانيا، والفرق بينهما وبين اللبس واضح.
والحق معروف وقد سبق الكلام فيه، والباطل نقيضه مأخوذ من بطل إذا فنى، ولذا قالوا إن أصدق الشعر قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل....
ومشتقاته دالة على الزوال، ومنها قولهم بطل الأمر إذا لم يكن صحيحا، ومعناه أنه ليس له بقاء، وكذا تمسية الشجاع بطلا لتلاشي شجاعات خصومه بين يديه، والمراد بلبسهم الحق بالباطل خلط ما أوتوه من الكتاب بما أضافه إليه الأحبار من إفكهم، أو ما ألصقوه به من التأويلات الباطلة، كما سبق قبل قليل، وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الحق بالصدق، والباطل بالكذب، وقال آخرون إن الحق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباطل إنكار أحبار اليهود أن تكون صفات النبي المنتظر منطبقة عليه، وقيل: الحق هو صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباطل صفات الدجال، وذلك أن في كتب بني إسرائيل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته، وذكر الدجالين الذين يدعون النبوات وهم كاذبون، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكشفت صفاته لأحبار اليهود اضطرمت في قلوبهم نار الغيظ لكونه من ولد إسماعيل فادعو أنه من الدجالين مع معرفتهم بنعوته التي تميزه عنهم، وذكر بعض السلف أنه آوى إلى المدينة المنورة - وكانت تسمى يثرب - جماعة من ذرية هارون عليه السلام فرارا من اضطهاد الدولة الرومية التي أذاقت بني إسرائيل ألوانا من العذاب، وكانت هذه الجماعة تحمل علم التوراة واختاروا المدينة لأنهم على يقين أنها دار هجرة الرسول المنتظر، فكانوا يتطلعون إلى بعثته، ويتدارسون صفاته، وتتوارث علم ذلك أجيالهم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر إليها ضاقت صدورهم لعدم كونه من بني إسرائيل فشوهوا الحقيقة وكتموا الحق.
فإن الحق ما طابق الواقع، والباطل ما خالفه، وحمل لفظيهما على العموم أولى، وما ذكروه يندرج تحت ذلك.
وكما نهوا عن لبس الحق بالباطل نهوا عن كتمانه لأن الحق أمانة عند عارفيه، فعليهم أن يبلغوه من لا يعرفه، والذين يضلون الناس عن سبيله لهم في ذلك نهجان بحسب اختلاف أحوال الذين يضلونهم، لأنهم إما أن يكونوا على معرفة به أو بشيء منه، وإما أن يكونوا غير عارفين به رأسا، فمسلكهم مع الطائفة الأولى خلطه بالباطل، وذلك بإثارة الشبهات من حوله، حتى تعمى حجته وينطمس دليله، ومسلكهم مع الطائفة الثانية حجبه عنهم حتى لا يلمع لهم شيء من نوره.
وجملة { تكتموا الحق } معطوفة على ما قبلها فهي داخلة في النهي، وهذا ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، إذ فسرها بقوله: (ولا تكتموا الحق)، وأجاز ابن جرير أن تكون الواو للمعية والفعل بعدها منصوبا، ووافقه أكثر المفسرين منهم الزمخشري وابن عطية، وخالفهم أبو حيان، وابن عاشور، فمنعا ذلك لأنه يلزمه أن يكون مناط النهي الجمع بين الأمرين، فيفهم منه عدم منعهما إن فرق بينهما، مع أن كلا منهما ممنوع لذاته، وهذا هو الصحيح وإن حمل اعتبار الواو للمعية على قصد التعريض بهم أن من شأنهم التلبس بكلتا الخصلتين لأن الكلام مسوق مساق النهي ولم يسق مساق تعديد مثالبهم وإن كان في هذا النهي إيماء إلى أنهم متلبسون بهذه الخصال المنهى عنها، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه " وتكتمون " ، وعلى هذه القراءة فالواو حالية، واستشكلها أبو حيان لأن من شأن الحال التقييد وهم منهيون عن لبس الحق بالباطل على أي حال، ويندرئ هذا الإشكال بالنظر إلى أن من فائدة الأحوال كونها كاشفة، ويستفاد من مجيئها هنا أن لبس الحق بالباطل من لازمه كتمان الحق، وهو مما يزيد النفس نفورا عن هذا المنهى عنه، وهذا كما يقال كيف تسيء إلى زيد وهو أخوك.
وأعيد ذكر الحق ثانية ولم يكتف بضميره إما للتأكيد وإما لأن الحق الثاني غير الأول، فالأول ما كان بأيديهم مما أنزل الله على أنبيائهم، والثاني هو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس ومجاهد، وقتادة، والسدى، وأبوالعالية، ومقاتل؛ أو الإسلام، قاله الحسن.
وقوله: { وأنتم تعلمون } جملة حالية كاشفة لما هم عليه من معرفة الحق الذي تركوه، والباطل الذي ارتكبوه، والمعصية من العالم أشد قبحا، وأسوأ عاقبة كما يدل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ويل لمن لم يعلم ولم يعمل مرة وويل لمن علم ولم يعمل مرتين "
وقيل ما كانوا يعلمونه هو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، وقد أخبر الله عنهم بذلك في قوله:
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
[البقرة: 146]، وقيل هو عموم رسالته للناس قاطبة، وقيل البعث والجزاء، وقيل: هو تلبسهم باللبس والكتمان، وقيل: ليس لتعلمون هنا مفعول لأنه مراد به إثبات صفة العلم لهم وهذا يعني أنه سلب صفة التعدي وعد من اللوازم، وذكر ابن عاشور عن الطيبي إنكار ذلك لمنافاته قوله تعالى فيهم:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم
[البقرة: 44] - إلى
أفلا تعقلون
[البقرة: 44] إذ نفى عنهم وصف العقل فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم، وهذا مبني على ما ذكره ابن عاشور في موضع آخر أن الاستفهام التقريري يقحم فيه النفي مع عدم الحاجة إليه، وخطأ ذلك ظاهر، فإن الاستفهام ذاته نفي، فإذا دخل على المنفي كان مثبتا، وإذا دخل المثبت كان منفيا، ألا ترون أن قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
ألم نشرح لك صدرك
[الشرح: 1]، إثبات لشرح صدره، فكذا قوله: { أفلا تعقلون } إثبات لوجود عقل فيهم، ولا ينافي ذلك قوله تعالى حاكيا عن أهل النار:
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
[الملك: 10]، فإن مرادهم به العقل الهادي إلى الخير، ويدل عليه قرنه بالسمع مع العلم أنهم لم يكونوا جميعا إيفوا في أسماعهم، والعقل المقصود بقوله: { أفلا تعقلون } هو مطلق العقل المشترك بين الأبرار والفجار، وهو الذي يترتب عليه التكليف، وتقوم به الحجة.
[2.43]
هذا الخطاب كالذي قبله موجه إلى بني إسرائيل في حال إعراضهم عن الإسلام، ومكابرتهم للحق وصدهم عن الإيمان، فهو دليل قاطع على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهم مطالبون بالعبادات وسائر الواجبات العملية، كما أنهم مطالبون بالإيمان، ويدل على ذلك قول الله تعالى:
كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتسآءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخآئضين وكنا نكذب بيوم الدين
[المدثر: 38-46]، فانظروا كيف جمعوا في إجابتهم بين تركهم الصلاة وعدم إطعامهم المسكين، وخوضهم مع الخائضين وتكذيبهم بيوم الدين، ومع هذه النصوص تجد الأشعرية ومن حذا حذوهم ينكرون مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، ويرون أنهم لا يعذبون إلى على عقيدة الكفر وحدها، وقد ركب كثير من علمائهم الشطط في هذه المسألة فشنعوا على القائلين بأن الواجبات العملية مشتركة بين المسلم والكافر، وأن كفر الكافر ليس عذرا في تركها، وتجد مفسريهم كثيرا ما يعنون بالدفاع عن فكرتهم هذه ويرجمون القائلين بخلافها بالتخطئة العنيفة، غير أن أكثرهم عندما وصلوا إلى هذه الآية فبهرتهم حجتها لجأوا إلى الصمت اللهم إلا ما كان من الشيخ أبي منصور الماتريدي الذي حكى عنه الألوسي أنه حمل الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هنا على مجرد الإيمان بهما، ولعمري إن صح تصريف القرآن بمثل هذا التأويل لم تنهض بشيء منه حجة، ولم يثبت بنص منه حكم لاحتمال أن تحمل جميع أوامره ونواهيه على مجرد الإيمان بها لا على تطبيقها والعمل بمقتضاها، وقد استبعد الألوسي نفسه هذا الجواب كما استبعد القول بأن الخطاب موجه إلى المسلمين وليس موجها إلى بني إسرائيل، لما يلزمه من تفكك الجمل وخروج الكلام عن نسقه، فما قبل الآية وما بعدها خطاب لبني إسرائيل فما الذي يقحم وسطه خطاب المسلمين، على أنه مما اتفق عليه أن الأمر لا يعطف على آخر إن كان المأمور في المعطوف غير المأمور في المعطوف عليه إلا مع القرينة نحو
يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك
[يوسف: 29] وقد حصر بعضهم القرينة في النداء كما تقدم، وما يقولونه - من أن المشرك لا يتأتى منه القيام بالعبادات ما دام متلبسا بالشرك فهو إذن غير مخاطب بها - باطل من أساسه، إذ الشرك لا يعدو أن يكون كسائر الموانع التي يمكن التخلص منها، فالحدث الأصغر والأكبر مانعان من الصلاة ولكن لا يعني ذلك أن المحدث غير مخاطب بها، وأنه مخاطب برفع الحدث وحده، بل هو مخاطب بها مع مخاطبته برفع الحدث، وكذا المشرك مطالب بالإيمان والعبادات معا، ولا تسقط عنه العبادات مع تركه الإسلام، لأن الاسلام شرط لصحتها وليس شرطا لوجوبها، ولعله التبس شرط الوجوب بشرط الصحة على إفهام القائلين بعدم تكليف المشركين بفروع الشريعة.
وقد تقدم معنى إقام الصلاة، وأما إيتاء الزكاة فهو إعطاؤها مستحقيها، وهي مأخوذة من زكا الزرع إذ انما، أو من زكا الشيء إذ طهر، فهي نماء للمال لأنها سبب لحلول البركة فيه كما أنها نماء لنفس المزكي لأنها توفر أخلاقه الحميدة، وتضاعف حسناته، وتقيه شرور الدنيا والآخرة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
ويربي الصدقات
[البقرة: 276]، وهي تطهير للمال وصاحبه، كما نص عليه قوله تعالى:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها
[التوبة: 103]، وذلك أن النفس البشرية جبلت على حب الاستزادة من الأموال، فإذا تركت وما جبلت عليه تأصلت هذه الجبلة فيها فاستعصى علاجها وتعذر استئصالها فتسعى إلى توفير المال ولو على حساب الغير، وقد جعل الله إيتاء الزكاة وسيلة من وسائل علاجها.
والزكاة فرضت في الإسلام في مرحلة مبكرة من تأريخ دعوته، وقد سبق شرح ذلك وبيان أدلته وهي الآيات المكية الآمرة بها، والمحذرة من التهاون فيها، والمادحة لمن حافظ عليها، ويعضد هذا أن في القرآن المدني ما يحكي أمر المؤمنين بها قبل مشروعية الجهاد - وذلك قبل الهجرة قطعا - وهو قوله تعالى:
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
[النساء: 77]، وإنما فصلت أحكامها في العهد المدني، وهذا الذي دعا كثيرا من الفقهاء وغيرهم إلى القول بأنها لم تفرض إلا في المدينة، وكثير منهم قالوا: إن فرضها كان في السنة الثانية للهجرة، وحدد بعضهم ميقات فرضها من تلك السنة، فقال: إنها فرضت بعد الصوم، وقال آخرون: إنها فرضت في السنة الرابعة للهجرة.
ولما أن مشروعية الزكاة لسد حاجات الفقراء - بجانب ما فيها من تطهير النفس والمال - فرضت فيما هو قوام للحياة من أنواع الزرع والماشية، كما أنها فرضت في التجارة لأجل ما فيها من تبادل المنافع، وفي النقدين لأنهما وسيلة قضاء الحاجات وجلب المنافع، ومن هنا لا نجد محيصا من القول بوجوبها في أي عملة تسد مسد النقدين كالأوراق المتعامل بها فإنها إن ألغيت فيها الزكاة أجحف حق الفقراء في أموال الأغنياء، ويؤكد وجوبها في الأوراق أنها تستمد قيمتها من النقد الذي ضمنت به سواء كان هذا الضمان حقيقيا أم اعتباريا، فلولاه لم تكن لها قيمة ولم تطمئن إليها النفس في المعاملة، ولم تسقط بها الحقوق ويثبت بها الوفاء، أرأيتم لو أن إنسانا وجب عليه لآخر ألف دينار من الذهب ضمانا لسبب من الأسباب ولم يجد الدنانير الذهبية فدفع اليه ما يسد مسد قيمتها من الأوراق النقدية ألا يسقط عنه الضمان؟ ومثل ذلك يقال في ديات القتلى، وأروش الجرحى، وصدقات النساء، أليس في سقوط الضمانات بها واستباحة الفروج ما يدل على أنها استمدت قيمتها من النقد الذي ضمنت به، أرأيتم لو دفع بدلا منها من الأوراق ما هو أجود نوعا، وأكثر عددا، وأثقل وزنا، وأحسن صنعة، ولم تكن مضمونة بنقد ضمانا حقيقيا ولا اعتباريا، هل تكون سادة مسدها في أداء الحقوق، ومع وضوح ذلك نسمع بعض الناس يمارون ويجادلون في وجوب الزكاة فيها، وينسبون القول بعدم وجوبها الى قطب الأئمة - رحمه الله - مع أن كلام القطب صريح في أن الزكاة واجبة فيها، فما قاله في بعض أجوبته، وتجب فيها الزكاة كصوالد النحاس.
والقول بعدم الزكاة في هذه الأوراق يسقط ركنا من أركان الإسلام لأنها أصبحت غالب ثروة الناس.
وفي القرآن الكريم والسنة النبوية من الوعيد على ترك الزكاة ما تقشعر منه الجلود وتتفطر منه القلوب، وقد سبق ذكر بعض آيات الوعيد على ذلك في الجزء الثاني، أما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها ما أخرجه الإمام الربيع - رحمه الله - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا صلاة لمانع الزكاة - قالها ثلاثا - والمتعدي فيها كمانعها "
قال الربيع: المتعدي فيها هو الذي يدفعها لغير أهلها.
وروي عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من كثر ماله ولم يزكه جاءه يوم القيامة في صورة شجاع أقرع له زبيبتان موكل بعذابه حتى يقضي الله بين الخلائق "
وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعا
" من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: { ولا يحسبن الذين يبخلون... } الآية "
وناهيكم دليلا على منزلة الزكاة في الإسلام قرنها بالصلاة غالبا في القرآن، وهي ليست خاصة بهذه الأمة، فقد ذكر الله ابراهيم وذريته الأنبياء الصالحين فقال:
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة وكانوا لنا عابدين
[الأنبياء: 73]، وقال في اسماعيل عليه السلام:
وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا
[مريم: 55]، وحكى عن المسيح عليه السلام قوله:
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا
[مريم: 31].
معنى الركوع
والركوع معروف وأصله طأطأة الرأس وحني الظهر، ويطلق على الذلة وخسة المنزلة كما في قول الشاعر:
ولا تعاد الضعيف علك أن
تركع يوما والدهر قد رفعه
وهو من أركان الصلاة، والركوع الشرعي هو وضع اليدين على الركبتين مع حني الظهر حتى يستوي مقدمه ومؤخره، وهو معنى ما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وفي حديث أبي حميد الساعدي " إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره " ، ورأى جماعة من المفسرين أن المراد بالركوع هنا الصلاة، وهو من باب تسمية الكل بالجزء كما تسمى بالقيام وبالسجود، وقيل: إن صلاة اليهود لا ركوع فيها فلذلك أمروا به لئلا يفهموا من قوله: { وأقيموا الصلاة } الأمر بإقامتها حسب عادتهم، ويرى صاحب المنار أن الأوامر الثلاثة مرتبة في الذكر حسب ترتيب مراتبها، فإقامة الصلاة في المرتبة الأولى من عبادة الله تعالى لأنها روح العبادة والإخلاص له، ويليها إيتاء الزكاة لأنها تدل على زكاة الروح وقوة الإيمان، وأما الركوع وهو صورة الصلاة البدنية أو بعض صورتها أشير به إليها فهو في المرتبة الثالثة فرض للتذكير بسابقيه، وما هو بعبادة لذاته وإنما كان عبادة لأنه يؤدى امتثالا لأمر الله تعالى، وإظهارا لخشيته، والخشوع لعظمته، ولكنه قد يصير عادة لا يلاحظ فيها امتثال ولا إخلاص فلا يعد عند الله شيئا وإن عدة أهل الرسوم كل شيء.
وذكر أبو حيان أن في هذه الجمل - وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا - ترتيبا عجيبا من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض، وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب طاعته ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم ثم رغبهم - بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم - في الإيفاء بالعهد ثم أمرهم بالخوف من نقماته، ان لم يوفوا، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان، وأمر بالخوف من العصيان، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص وهو ما أنزل من القرآن ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال الى المخالف، ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم تعالى باتقائه ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل وعن كتمان الحق فكان الأمر بالإيمان أمرا بترك الضلال، والنهي عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركا للإضلال، ولما كان الضلال ناشئا عن أمرين إما تمويه الباطل حقا إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين " بلا تلبسوا " و " تكتموا " ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهم بعد تحصل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة إذ الصلاة أأكد العبادات البدنية، والزكاة أأكد العبادات المالية، ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين، فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية، وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام.
الاستدلال على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان
قال جماعة من المفسرين إن أمرهم بأن يركعوا مع الراكعين يعني أن يصلوا مع المصلين في الجماعات، وهذا التفسير يناسب القول بوجوب صلاة الجماعة على الأعيان، وتكون الآية بحسبه حجة من حجج هذا القول، والأمة لم تختلف في مشروعية صلاة الجماعة ولا في فضلها وان اختلفت في حكمها، فهي شعيرة من شعائر هذا الدين التي تجمع قلوب المؤمنين في ظل عبوديتهم لله تعالى، وتطهرها من رجس الأحقاد والسخائم، وما أروع ذلك المشهد الذي يجمع الناس - على اختلاف أعمارهم، ومراكزهم الاجتماعية، وطبقاتهم المالية، ومكاناتهم النسبية والحسبية - في بيوت الله عندما يسمعون داعي الحق يدعوهم إلى الصلاة والفلاح فيتفاذفون الى المساجد شيبا وشبابا، كبارا وصغارا، قد خلفوا وراءهم أشغال الدنيا وهمومها، فلا يشغل قلوبهم إلا ذكر الله والحرص على مناجاته والشوق إلى رضوانه، وما أروع مشهدهم وهم مصطفون بين يدي الله، قد تحطمت بينهم الحواجز وذابت الفوارق وتلاشت النعرات، فالحاكم بجنب المحكوم، والغني بجانب الفقير، والقوي مع الضعيف، والأبيض مع الأسود لا يستعلي أحد على أحد بسلطانه ولا بجاهه، ولا بمنصبه، ولا بماله، ولا بحسبه ونسبه، وإنما يستشعر الكل سلطان الله وحده، ويؤمنون جميعا أنهم عباد الله لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، وقد انتظمت حركاتهم في الركوع والسجود والرفع منهما، لا ينتظر أحد غيره في شيء منها إلا الإمام الذي يصطفون خلفه ويتبون فعله.
(أ) فضل صلاة الجماعة
وقد تظافرت الراويات الدالة على فضل صلاة الجماعة، منها ما أخرجه الإمام الربيع - رحمه الله - بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الصلاة في الجماعة خير من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة "
وأخرج الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة "
وروى الإمام الربيع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:
" صلاة الجماعة تفضل على صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة "
وأخرج عنه أحمد والشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة "
ولا منافاة بين هذه الروايات بنص بعضها على خمس وعشرين درجة، وبعضها على سبع وعشرين، وأخرى على بضع وعشرين، لاختلاف الفضل باختلاف الأحوال، كالقرب من المسجد والبعد عنه، وانتظار الصلاة قبل حضورها، أو الوصول إلى المسجد عند إقامتها، وإدراكها كلها أو بعضها، وكثرة الجماعة وقلتهم، وتفاوت الأئمة في الفقه والورع والخشوع، وغيرها من الأمور التي تقتضي التفاوت في الأجور.
واختلفت الأمة في حكمها، قيل إنها فرض عين وهو مروي عن جم غفير من الصحابة رضوان الله عليهم حتى أني لم أجد رواية عن أحدهم بخلافه، ومما روي عنهم في ذلك ما أخرجه أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه قال: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " ، قيل: ومن جار المسجد؟ قال: من سمع الأذان " ، وأخرجه عنه عبدالرازق، ورواه الإمام الربيع - رحمه الله - من طريق ابن عباس مرفوعا ما عدا السؤال والجواب، وقد جاء مرفوعا في رواية عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان وجبار عند الدارقطني.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد جمعه ولا جماعة. فقال: إن مات على هذا فهو في النار؛ وذكر ذلك أصحابنا في كتبهم الفقهية كالوضع، وأضافوا إليه أن السائل بقى يتردد شهرا على ابن عباس يسأله عنه ويجيبه بأنه في النار.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لأن تمتلئ أذن ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع النداء ولا يجيب.
وروى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم - وفي رواية لكفرتم - وما من رجل يتظهر فيحسن الطهور ثم يعمد الى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنها بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.
وهذا القول من ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا يعكس رأيه الفردي في صلاة الجماعة وإنما يجسد موقف الصحابة رضي الله تعالى عنهم منها، فقد كانوا يدأبون عليها حتى أنهم كانوا يعدون التخلف عنها سمة من سمات النفاق الذي ينزهون عنه أنفسهم، وقد بلغ بهم الحرص على الجماعة والرغبة في التنزه عن سمات النفاق أن أحدهم كان - وهو مريض - يخرج إليها متوكئا على رجلين يتمايل بينهما، وهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على أنهم رضي الله تعالى عنهم قد استقر في نفوسهم وجوبها على الأعيان، وهذا هو قول أكثر سلف الأمة، وبه قال عطاء والأوزاعي وأحمد بن حنبل ومحدثوا الشافعية كابن خزيمة وابن المنذر وأبي ثور، وهو قول للشافعي نفسه كما في شرح المهذب وغيره، وحكى وجوبها الكاساني في بدائع الصنائع عن الحنفية من غير أن يفصل كونه وجوبا عينيا أو كفائيا غير أن الإطلاق يدل على العينية، وحكى العيني في شرحه على البخاري المسمى بعمدة القاري عن القدوري في شرحه على الهداية - وهو من أمهات الفقه الحنفي - أن مشايخ الحنفية يقولون بوجوبها، وهو متقضى ما حكاه العيني عن بعضهم أن تركها بغير عذر يوجب التعزير، ويأثم الجيران بالسكوت عن تاركها حتى قال بعضهم لا تقبل شهادته، وهذا القول هو الذي يفهم من كلام البخاري، حيث ترجم في صحيحه بقوله: (باب وجوب صلاة الجماعة)، وروى بعد ذلك من الحسن تعليقا أنه قال: ان منعته أمة عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها، وهذا الذي علقه عن الحسن رواه عنه الحسين بن الحسن المروزي بإسناد متصل صحيح، كما ذكره ابن حجر والعيني في شرحيهما على الصحيح ونص هذا المروي عن الحسن أنه قال في رجل يصوم - يعني تطوعا - فتأمره أمه أن يفطر قال فليفطر ولا قضاء عليه وله أجر الصوم وأجر البر، قيل فتنهاه أن يصلي العشاء بجماعة، قال ليس ذلك لها هذه فريضة.
والقول بوجوبها على الأعيان هو الذي اعتمده إمام المذهب أبو سعيد - رحمه الله تعالى - في زياداته على الاشراف لابن المنذر ويفهم من كلامه أنه قول أصحابنا أو أكثرهم. وهو الظاهر من كلام الإمام نور الدين السالمي - رحمه الله - في جوهره حيث قال:
لم يعذر المختار خير البشر
ابن أم مكتوم ضرير البصر
بل قال فيه أجب النداء
ولم يكن يعتبر العماء
فالفاتح البصير أولى وأحق
أن يلزمن فعلها إذا انطلق
وهو الذي يفهم مما قاله - في شرحه على المسند الصحيح - فيما روي من هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق المتخلفين عنها، وهو قول الحافظ الذهبي في كتاب الكبائر حيث نص على أن تركها كبيرة.
وبالغ داود الظاهري وأصحابه فعدوا الجماعة شرطا لصحة صلاة الرجل في الفرض، وقد فصل مذهبهم ابن حزم في قوله: " ولا تجزئ صلاة فرض أحدا من الرجال - إذا كان بحيث يسمع الأذان - أن يصليها إلا في المسجد مع الإمام، فإن تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلب صلاته، فإن كان بحيث لا يسمع الأذان ففرض عليه أن يصلي في جماعة مع واحد إليه فصاعدا، ولا بد، فإن لم يفعل فلا صلاة له إلا أن لا يجد أحدا يصليها معه فيجزئه حينئذ إلا من له عذر، فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة " ، وهذا القول هو أحد قولي الإمام أحمد كما ذكر ذلك صاحب الأزهار - وهو من فقهاء الزيدية - وحكاه ابن قدامة الحنبلي في المغني ينقله عن ابن عقيل، وذكره صاحب الشرح الكبير - وهو من الحنابلة أيضا - على أنه أحد وجهي مذهب الإمام أحمد - وعزا إلى ابن عقيل تصحيحه، والمشهور من مذهب أحمد وجوبها من غير أن تكون شرطا.
وقيل هي واجبة على الكفاية، وهو الذي نصت عليه أكثر مؤلفات أصحابنا كجامع ابن بركة والإيضاح، والنيل وشرحه، والمدارج والمعارج ونثار الجوهر؛ وذكر الحافظ في الفتح أنه ظاهر نص الشافعي ونسبه إلى جمهور المتقدمين من أصحابه، وإلى كثير من الحنفية والمالكية.
وقيل هي سنة مؤكدة وعزاه بعض المؤلفين إلى أكثر الأمة.
ومثار الخلاف ما عده كثير من الفقهاء، تعارضا بين الأحاديث التي وردت فيها.
(ب) ترجيح القول
على وجوب الجماعة على الأعيان وأدلته
والقول الأول - وهو وجوبها على الأعيان - هو الذي اطمأن إليه قلبي وسكنت إليه نفسي، واعتمدته في العمل والفتيا، واقتصرت عليه في مجال الدعوة، وذلك لإعتضاده بكثير من الأدلة، منها هذا الأمر في هذه الآية بأن يركعوا مع الراكعين، وقد علمتم أن كثيرا من المفسرين ذهبوا إلى أن المراد به إقامة الصلوات في الجماعات، والأمر للوجوب ما لم تصرفه عنه قرينة.
ومنها قول الله تعالى:
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون
[القلم: 42 -43]، فقد قال غير واحد من التابعين إنه خاص بالمتخلفين عن صلاة الجماعة من هذه الأمة، حتى أن بعضهم كان يقسم على ذلك.
ومنها قوله:
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم
[النساء: 102]، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التفسير العملي لما في الآية، ووجه الاستدلال بذلك على وجوب الجماعة أمران:
أولهما: أن مواقفة العدو مدعاة لتخفيف التكاليف واسقاط الواجبات أو تأخيرها لئلا تجتمع على المسلمين مشقة الجهاد والعمل ولذلك اشتد النبي صلى الله عليه وسلم على الذين لم يأخذوا برخصة الفطر عام الفتح حتى قال فيهم: " أولئك العصاة أولئك العصاة " ، فلولا أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان لما شرعت في هذا الموقف الحرج ولحصلت الكفاية بمن يقيمها من المسلمين في غير ميادين المعارك.
ثانيهما: مشروعية اكتفاء كل واحدة من الطائفتين ببعض الصلاة وترك جانب منها مع أن الجانب المتروك مشتمل على الكثير من الواجبات التي لا تتم دونها في سائر الأحوال، فلولا وجوب المحافظة على الجماعة لما كان لهم أن يتركوا ما هو فرض منها، فإن بإمكانهم أن يصلوا فرادى بالتناوب صلاة كاملة مع الاحتياط التام في مواجهة العدو.
ومنها هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بيوت المتخلفين عنها وهو مشهور، فقد أخرج الإمام الحافظ الحجة الربيع بن حبيب - رحمه الله - عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن بها، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم اخالف الى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء "
ورواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي بألفاظ مختلفة، ودلالة ذلك على وجوبها على الأعيان واضحة، فلو كان وجوبها كفائيا لكانت الكفاية حاصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن يقيمها معه من المهاجرين والأنصار ولم يكن داع إلى عقوبة المتخلف عنها، وقد كفى وجوبها بهم، وقد أجاد إمام المذهب أبو سعيد - رحمه الله - في قوله: " لا يجوز أن يكون أحد يقوم بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكثر منه ولا أولى منه، فإذا ثبت أنه لا عذر للمتخلف عنها مع قيام النبي صلى الله عليه وسلم بها وأصحابه لم يجز غير ذلك لأنه لا يكون أحد أقوم منه بها ".
ولو كانت سنة مؤكدة أو مرغبا فيها لما استدعى تركها مثل هذه العقوبة الصارمة التي قد يترتب عليها هلاك الأنفس مع الأموال، وللقائلين بخلاف هذا الرأي اعتراضات:
أولهما: أن التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية كمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية.
وأجيب بأن التحريق يفضي الى القتل وهو أخص من المقاتلة، وبأن المقاتلة، إنما تشرع فيها إذا تمالأ الجميع على الترك.
ثانيها: أنه يستنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها.
وأجيب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه، وأضاف إلى ذلك الحافظ ابن حجر بأنه لا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين، على أنه من المتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدعه أصحابه رضي الله عنهم يقوم بهذه المهمة منفردا، فما المانع من تدارك هذا الواجب بمن يكون معه من أصحابه؟
ثالثها: لو كانت فرضا لقال حين توعد بالإحراق من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته لأنه وقت البيان.
وأجيب بأن البيان كما يكون بالتنصيص يكون بالدلالة، وكفى بقوله صلى الله عليه وسلم
" لقد هممت "
دلالة على وجوب حضورها.
وتعقب العيني هذا الجواب بأن الحديث ليست فيه دلالة من الدلالات الثلاث، المطابقة والتضمن والالتزم، ولا فيه دلالة أصولية.
ومما يدعو إلى الاستغراب أن يقول العيني مثل هذا القول إذ ليس من المعقول أن يهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه العقوبة إلا على ترك واجب أو فعل محرم، وإذا لم يلزم من هذا الهم كون أولئك الذين هم بتحريق بيوتهم تاركين للواجب، فليس يصح في الأذهان شيء، ولم يكن في قوله تعالى:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا
[النساء: 10]، دليل على حرمة أكل أموال اليتامى الذي توعدوا عليه وكذا سائر الوعيد.
رابعها: أن الخبر وارد مورد الزجر وحقيقته غير مراده وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.
وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار ولم يكن ممنوعا من قبل بدليل ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
" أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في بعض وأمرهم بتحريق رجلين بالنار ثم نهاهم حين أرادوا الخروج وأمرهم بقتلهما وقال: " إن النار لا يعذب بها إلا الله " ".
هذا والحديث يفيد تحريم التعذيب بالنار للمسلم وغيره، فلا معنى لتقييد المنع بالمسلمين وحدهم فإن ظاهر حديث أبي هريرة أن الرجلين اللذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما ونهى عن إحراقهما بعدما أمر به لم يكونا مسلمين، ومع هذا فلا منافاة بين النهي عن التعذيب بالنار والهم بتحريق بيوت المتخلفين إذ لا يلزم أن يفضي تحريق البيوت الى تحريق الأنفس ولا يبعد أن يكون المراد بهذا التحريق إثارة الرعب في نفوسهم لينزجروا عن التهاون بالجماعة.
خامسها: أن عدم فعل ما هم به صلى الله عليه وسلم من التحريق دال على عدم وجوبها على الأعيان إذ لو كانت كذلك لما تركهم.
وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بحق، وتركه ما هم به لا يدل على عدم وجوبها لاحتمال كون الترك لسبب من الأسباب، وقد صرح بالسبب فيما رواه أحمد من طريق أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا: " لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون.. الحديث، ومن المعلوم أن النساء غير ملزمات بشهود الجماعة والذرية - ما داموا في طور الطفولة - ليسوا من التكليف في شيء:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام: 164]، ويؤيد ما ذكر من أن تركه صلى الله عليه وسلم ما هم به تحريق بيوتهم ليس دليلا على عدم وجوبها قوله عليه أفضل الصلاة والسلام في الذي ألم بجاريته وهي حبلى
" لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره "
فلو كان تركه ما هم به دليلا على عدم الوجوب أو الحظر لكان تركه اللعن في هذه القضية دليلا على جواز الإلمام بالحبالى وهو مخالف للنص والاجماع.
سادسها: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة.
وأجيب بأن في رواية مسلم " لا يشهدون الصلاة " ، أي لا يحضرونها، وفي رواية أحمد بن عجلان عن أبي هريرة " لا يشهدون العشاء في الجميع " ، اي في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجة مرفوعا " لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم ".
سابعها: أن الحديث ورد في الحث على مخالفة أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم.
وهو كالاعتراض الرابع والجواب هو الجواب ويضاف إليه أن ترك خصال أهل النفاق من واجب المسلم على أي حال.
ثامنها: أن الحديث خاص بالمنافقين فلا ينسحب حكمه على غيرهم.
وجوابه: أنه تخصيص بدون مخصص، وبقية الروايات في الباب دالة على عموم الوعيد لكل من تخلف عن الجماعة.
تاسعها: أن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخت، وقوى بعضهم النسخ بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم، وهو التحريق بالنار، وبورود الأحاديث في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، لأن الأفضلية تقتضي الإشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز.
وجوابه: ما علمته من عدم التنافي بين منع تحريق الأنفس بالنار، وتحريق بيوت المتخلفين عن الواجب أو الراكبين للمحجور، أما أحاديث تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ فلا تعارض بينهما وبين وجوب الجماعة على الأعيان.. أما أولا: فلأن أدلة الوجوب صريحة والاستدلال على جواز التخلف بأحاديث التفضيل إنما هو استدلال باللازم فحسب وهو من باب الاستدلال بالكنايات، والكناية لا تقوى على معارضة الصريح.. وأما ثانيا: فلأن هذا اللازم غير مسلم لاحتمال أن تكون المفاضلة بين الصلاة في الجماعة وصلاة المنفرد المعذور كالذي لا يسمع النداء أو المريض الذي يشق عليه الحضور أو الخائف.
عاشرها: أن ذلك خاص بالجمعة.
وأجيب بأنه قد صرح بما يفيد أنها غير الجمعة كما في حديث أحمد " لا يشهدون العشاء في الجميع " ، وحديث ابن أم مكتوم الآتي، وروى السراج هذا الحديث وذكر له سببا وهو انه صلى الله عليه وسلم أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب وذكر الحديث، ومن أين لهم أنها الجمعة؟ وقد أخرج الحديث أبو داود والطبراني في الأوسط من طريق يزيد ابن يزيد بن جابر، وفيه أن يزيد قال ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها، وأخرج أحمد والحاكم وابن خزيمة عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه
" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: " لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم " فقام ابن أم مكتوم فقال: إني كبير شاسع الدار، ليس لي قائد يلائمني فهل تجد لي من رخصة؟ قال: " تسمع النداء "؟ قلت: نعم، قال: " ما أجد لك رخصة "
وفي رواية عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم
" أتى المسجد فوجد في القوم رقة، فقال: " إني لأهم أن أجعل للناس إماما ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه " ، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ فقال: " أتسمع إقامة الصلاة؟ " ، قال: نعم. قال: " فأتها "
وفي رواية لابن حبان " فأتها ولو حبوا " ، وروى حديث ابن أم مكتوم أبوداود وابن ماجة والطبراني، وهو يستفاد منه أمران:
أولهما: أن الصلاة التي توعد من أجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما توعدهم به لم تكن جمعة.
ثانيهما: صحة القول بوجوب الجماعة على الأعيان وذلك من تصريح النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه لا يجد له رخصة أن يصلي في بيته مع ما اعتذر به من كبره وعماه، وعدم توفر القائد الملائم له، إلى غير ذلك من المعاذير التي تناقلتها الروايات المختلفة عنه، ولو كانت الجماعة وجوبها على الكفاية لما اشتد عليه النبي صلى الله عليه مسلم، وصرح له بعدم وجود الرخصة مع وفرة المؤمنين الذين كانوا يحضرونها، ولو كانت سنة لكان الأمر أهون من ذلك وقد أخرج قصته - من غير تصريح باسمه - مسلم والنسائي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.
ويعتضد القول بالوجوب بحديث ابن عباس عند ابن ماجه والدارقطني، وابن حبان والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر "
ولفظ ابن حبان: " لم يقبل الله صلاة غيرها " قيل، وما العذر؟ قال: الخوف أو المرض " ، قال الحافظ: وإسناده على شرط مسلم، وقال الذهبي: على شرط الشيخين؛ وبما رواه ابن ماجه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول على أعواده:
" لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم "
وبما أخرجه الجماعة من مالك بن الحويرث
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ولأخيه وهما يزمعان السفر: " إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما "
وفي رواية
" أفضلكما "
هذا مع أن السفر مظنة المشقة والخوف، ويناسبه التخفيف، فليس من المعقول أن يأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم - مع ذلك - بإقام الصلاة جماعة إلا لوجوبها.
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه مرفوعا
" لو أن رجلا دعا الناس إلى عرق أو مرماتين لأجابوه، وهم يدعون إلى هذه الصلاة في جماعة فلا يأتونها، لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس في جماعة فأضرمها عليهم نارا، فإنه لا يتخلف إلا منافق "
وروى ابو داود في سننه عن أبي الدرداء مرفوعا:
" ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية ".
وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ثلاثة لعنهم الله، رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب "
ومن المعلوم أنه لا يستحق اللعن إلا من أتى كبيرة أو ترك فريضة.
أما القائلون بأن وجوبها كفائي فقد استدلوا بالمفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة المنفرد كما سبقت الاشارة الى ذلك، وسبق الجواب عن هذا الاستدلال، وقد حاولوا جهدهم أن يلووا أعناق الأدلة الصريحة على وجوبها كما سبق بيانه، ومن ذلك أنهم حملوا الأمر في حديث ابن أم مكتوم ونحوه على الندب، وهذا مما يدعو إلى الاستغراب، فإن المندوب مرخص في تركه بالإجماع، والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام قد صرح لابن أم مكتوم بأنه لا يجد له رخصة في تركها مع توعده على تركها في غيره من الأحاديث.
واستدل الشوكاني لقوله الذي اختاره - وهو أنها سنة مؤكدة - بأنها لو لم تكن كذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من وفد إليه ممن أسلموا أن يقيموها جماعة كما أمرهم بالصلاة نفسها، ولم يثبت عنه ذلك مع عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
والعجب من الشوكاني - مع سعة علمه وكثرة اطلاعه على السنة أسانيد ومتونا - كيف ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر الوفود بإقامة الصلاة في الجماعات مع ثبوت ذلك في الصحاح والسنن وسائر كتب الحديث، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان
" عن مالك بن الحويرث، قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا وظن انا قد اشتقنا أهلنا فسألنا عن من تركنا من أهلنا فأخبرناه فقال: " ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم "
ونحوه عند أبي داود والترمذي والنسائي وأخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال: كنا بماء ممر لناس تمر الركبان نسألهم ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يغري في صدري وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كان وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا، فقال: " صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا... " الحديث، وأخرجه بمعناه أبو داود والنسائي، وفي هذا ما يكفي ردا على مقولة الشوكاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤثر عنه أنه يأمر الوافدين بصلاة الجماعة، على أن في قوله صلى الله عليه وسلم:
" صلوا كما رأيتموني أصلي "
ما يكفي دليلا على تبيين هذا الواجب لمواظبته عليه أفضل الصلاة والسلام على الصلوات في الجماعات.
ولو لم تكن الجماعة واجبا لا محيص عنه لتركها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أوقاته ليبين للناس عدم وجوبها أو أفصح عن ذلك بلسانه كما أخبرهم عن صلاة التهجد أنها واجبة عليه دونهم، أما وقد حافظ عليها سفرا وحضرا وخوفا وأمنا حتى مشى إليها في مرض موته وهو يتهادى بين اثنين من أصحابه، فلا مناص عن الوجوب، وقد عرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك العمل وهو من أحب الأعمال إليه لئلا يفرض على أمته، ومن ذلك عدم خروجه إلى أصحابه في المسجد لصلاة قيام رمضان بعدما صلى بهم ليلتين أو ثلاثا.
والأمة - مع اختلافها في حكم الجماعة - لم تختلف في أن تاركها منبوذ بينهم ولو دأب على الطاعات وبكى من خشية الله، وقد صرح العلماء بأن لا يرقى إلى مقام الولاية مهما كان حاله ما دام باقيا على تركها؛ كما اتفقت الأمة على أن القائم بالأمر عليه أن ينظر في عقوبته بما يراه رادعا له لئلا تسول لأحد نفسه أن يتهاون فيها، وهذه كلها أدلة على وجوبها، فيجدر بالمسلم أن يحمل عليها نفسه، ويحرص عليها جهده، ويربي عليها أولاده، ليقي نفسه وأهله نارا وقودها الناس والحجارة، أعاذنا الله منها.
[2.44]
الخطاب لبني اسرائيل ذكروا نعمة الله عليهم، وطولبوا بالوفاء بعهده، وخوطبوا بما خوطبوا به من الأوامر والنواهي، وهو اعتراض بين سابقه ولاحقه لأنه توبيخ توسط أو امر، ومن دلائل كونه اعتراضا عدم اقترانه بالعاطف كما هو الغالب في الجمل الاعتراضية، وفائدته لفت أنظارهم، وشد انتباههم إلى ما هم متلبسون به من العيوب التي يجدر بمن كان مثلهم - في معرفة الحق والدعوة إليه وتلاوة الكتاب - أن يكون أنأى عنها وأحذر، وهو من دواعي تدارك الأمر بامتثال ما وجه إليهم من الأوامر، واجتناب ما خوطبوا به من النواهي لتكفير سيئاتهم؛ وتغطية سوآتهم ، وبهذا تتضح مناسبة الآية لما قبلها.
والاستفهام إنكاري يتضمن التعجيب.
ولفظة البر دالة على السعة وضعا كالبر - بالفتح - وتستعمل في توسعة الخلق والإحسان في المعاملة، ومفهومها الشرعي يرادف التقوى بدليل قوله تعالى:
ولكن البر من اتقى
[البقرة: 189]، وقوله بعد ذكر خصال البر:
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
[البقرة: 177]، فتندرج تحته العقيدة الناصعة، والأعمال الصالحة، سواء كانت من شعائر الله، أو المعاملات الأسرية أو الاجتماعية، أو الأحوال النفسية كما هو واضح في قوله عز من قائل:
ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأسآء والضراء وحين البأس
[البقرة: 177]، وأحسن ما يقال إن البر شامل لكل ما فيه خير للإنسان عاجلا أو آجلا.
والنسيان خلو الذهب من أمر بعد الإلمام به، فمن لم يعرف شيئا من قبل لا يوصف بأنه ناسيه، ويطلق على الترك إطلاقا مجازيا لما فيه من إهمال المتروك كما هو الشأن في الناسي والمنسي، وعلى ذلك تحمل الآية كما يحمل قوله تعالى:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67]، فهؤلاء اشتغلوا بغيرهم فأمروه بالبر وأهملوا أنفسهم إذ لم يحملوها عليه.
وسوغ ابن عاشور أن يكون النسيان هنا حقيقيا لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا الى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم، أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه، وقد يرى الإنسان عيب غيب لأنه يشاهده، ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها، ولأن العادة تنسيه حاله، ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس.
والأنفس جمع نفس وهي ذات الشيء وحقيقته، وتطلق على الروح كما في قوله تعالى:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر: 42]، كما تطلق على الدم، ومنه قول الفقهاء: " كل ميتة ذات نفس سائلة نجسة " ، وحمل عليه قول الشاعر:
تسيل على حد الظبات نفوسنا
وليس على غير الظبات تسيل
والأقرب أن تكون النفوس في البيت بمعنى الأرواح، وسيلانها هو خروجها.
واختلف في البر الذي كانوا يأمرون به الناس وينسون أنفسهم، وقد رويت عن السلف في ذلك أقوال منها ما أخرجه الثعلبي والواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين أثبت على الدين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلون، وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن اسحاق قال تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي، وروى عنه ابن جرير وأيضا أنه قال في هذه الآية أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في هذه الآية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، وعن السدى أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وتقواه وينسون أنفسهم، وروى معنى ذلك عن قتادة، وقيل كانوا يأمرون بالصدقات ولا يتصدقون، وثم آراء أخرى، وهي كلها لا تخرج عن التمثيل حسب الظاهر لصدق معنى البر عليها جميعا، والأظهر أنهم كانوا يدعون إلى جميع ما تقتضيه الأوامر السابقة من ذكر نعمة الله والوفاء بعهده...الخ، وعليه فالخطاب خاص بأحبارهم وإن كان ما قبله شاملا لعامتهم لأن الخطاب العام قد يوجه إلى الجميع ثم يندرج فيه ما هو خاص بفريق منهم، وعلى هذا فالناس المأمورون هم سائرهم، ويجوز أن يكون الخطاب شاملا لجميع بني إسرائيل إذ لا يبعد من عامتهم أن يكونوا يأمرون غير بني جنسهم بشيء من البر مع إهمال أنفسهم فإنهم - وإن أوغلوا في الجهل - يدرون من صنوف البر ما لا يدريه غيرهم من أهل الجاهلية بسبب مخالطتهم للأحبار، وسماعهم منهم المواعظ والدروس، وعليه فالناس مشركوا العرب أو من عدا الآمر كما يقال قم فقد قام الناس.
وهذا التوبيخ الذي يشامله التعجيب من شأنهم إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلوا إليه من الاستخفاف بما أوتوه من العلم، وحملوه من الأمانة، وأورثوه من الكتاب، فقد نأوا بأنفسهم عن تعاليمه وإن دعوا إلى ذلك غيرهم كأنهم غير محاسبين بما فيه ولا مسؤولين عن تهذيب أنفسهم وتربية عقولهم ووجدانهم بهداه، وهذا الذي أدى بهم الى اتخاذ ما لديهم من علم الكتاب سلما للترقي الى المناصب، ووسيلة لكسب الحطام.
تبصير العلماء بمسالك السلام والخطر
وهذا التوبيخ وإن يكن خاصا ببني إسرائيل إذا ما اقتصر على النظر إلى ألفاظه فهو شامل من حيث المعنى لكل من مشى على نهجهم واقتفى أثرهم، فعلماء هذه الأمة غير مبرئين منه إذا لم يصونوا نفوسهم عن الأسباب التي استوجب بها بنو إسرائيل هذا التقريع، والقرآن الكريم أنزله الله ذكرا للعالمين وهدى للناس أجمعين، ففي كل ما يحكيه عن الأمم، وما يقصه من أحوالهم عظة بالغة، وعبرة نافعة لأولي الألباب إذ ليس المقصود من هذا التقريع أو نحوه مما يوجهه إلى أي طائفة من الناس هجاء تلك الطائفة، وإنما مقصوده تبصير الكل بمسالك السلامة والخطر، وطرائق الهدى والضلال.
وما أكثر علماء السوء وأحبار الضلال في هذه الأمة، وما أعظم بلاءهم وأشد فتنتهم على الناس، فهم يتقمصون الدين لأجل أن يأكلوا به أموال الناس، ويرتقوا على أكتافهم إلى المناصب التي يتطلعون إليها، يأمرون الناس بالخير ولا يأتمرون، وينهونهم عن الشر ولا ينتهون، يتباكون في مواعظهم ولا يبكون، كل همهم جمع حطام الدنيا ونيل ما يشتهونه من ملذاتها، والارتقاء إلى أوج مناصبها ليست في نفوسهم على حرمات الله غيرة، ولا لدينه حمية، يتجاذبون الدنيا كما تتجاذب الكلاب الجيف، ويغار بعضهم من بعض إذا نال منها نيلا كما تغار الضرة من ضرتها إذا استأثرت عليها بمودة الزوج أو عطائه، ويتقربون إلى الحكام بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، وإبطال الحق، وإحقاق الباطل، تتقلب فتاواهم بين عشية وضحاها بحسب ما يملي عليهم الهوى، ويقتضيه رضى ساداتهم الذين يؤثرون طاعتهم على طاعة الله.
وإن دعوا يوما الى الحق أو أرشدوا إلى الهدى ناقضت أعمالهم أقوالهم، وكذبت أحوالهم دعوتهم، ورأى الناس فجوة سحيقة بين ما هم فيه وما يدعون إليه، فبقوا حائرين بين اتباع القول أو الاقتداء بالعمل، فلا تلبث دعوتهم أن تتطاير هباء في الفضاء، ولا يكون لها أي أثر في نفوس ساميعها، بل كثيرا ما تكون دعوة هؤلاء الحق الى الحق أعمل المعاول في هدم صرحه لأن الفجوة بين القول والعمل تجعل الناس يستخفون بالدعوة من اساسها إذ لا تقف سخريتهم عند الداعية بل تتجاوزه إلى ما يدعو إليه فيصبح أثر دعوته عكسيا، فلربما ظن الناس أنه لم يرد بدعوته إلا شغلهم بما يأمرهم به والاستئثار بما ينهاهم عنه، كما لو نهى عن أكل الربا وكان آكله، أو حذرهم من الرشوة وعرف عنه الارتشاء، أو حض على ملازمة الجماعة وهو لا يأتي المساجد.
أما الدعوة النافعة التي تحول الناس من الضلال الى الهدى ومن الفساد إلى الصلاح، فهي الدعوة التي يصدقها فعل الداعية، ويترجمها واقعه، ويزكيها إخلاصه، واذا لم يتفاعل الداعية مع دعوته فكيف يتفاعل معها غيره؟ وهل أمكن لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أن يخرجوا الأمم الضالة الحائرة في أرجاء الأرض مما كانت فيه وعليه من الغي والإنحراف والفساد والظلمات، الى الرشد والاستقامة والصلاح والنور - في ذلك العصر الذي لم تكن توجد فيه وسائل إعلام ولا دور نشر - إلا بتجسيد ما كانوا يدعون إليه من الحق، ويبينونه من الهدى في واقع أنفسهم بحيث كانوا صورة حية ومثالا واقعيا للإيمان العميق والإسلام الخالص، وبهذا أخذ الناس يتسابقون إلى تلبية هذا النداء، واتباع هذه الحق.
لقد خبر أولئك الصحابة رضوان الله عليهم ومن كان على هديهم الدعوة فعرفوا أنها دين وعقيدة وتضحية وفداء وبذل وعطاء، ليست حرفة ولا صناعة، فبذلوا كل ما في وسعهم من جهد مال ووقت في سبيلها، وكانوا أحرص ما يكونون على دعوة أنفسهم أولا، فلم يكونوا يتساهلون فيها أو يتهاونون في محاسبتها.
وقد أدركوا قيمة الدعوة من خلال معرفتهم بقيمة ما يدعون إليه، والهدف المنشود منها، فرأوا الحياة بجانبها رخيصة، فلم يكن أحدهم يتردد في التضحية بحياته من أجلها، وقد سجل لنا التاريخ من مآثرها التابعين وتابعيهم - بله الصحابة - ما تتطأطأ أمامه الرؤوس وتخضع الرقاب، وتمتلئ به النفوس إعجابا كقصة سلمة بن سعد رضي الله عنه الذي خرج من موطنه بجنوبي الجزيرة العربية ليلتحق بمدرسة جابر وأبي عبيدة بالبصرة، وعندما عرض عليه أبو عبيدة - رحمه الله - الاتجاه نحو بلاد المغرب لنشر دعوة الحق لم يتردد في الاستجابة لذلك بل قال قولته المشهورة: " وددت لو ظهر هذا الأمر يوما واحدا بالمغرب ثم لا أبالي أن تضرب عنقي " ، ولم تكن هذه القولة مجرد كلمات يثرثر بها اللسان ولكنها كانت عقيدة راسخة متمكنة في نفسه وشعورا عميقا ينبض به قلبه، وقد صدقها عمله إذ خرج بين رصد عملاء بني أمية وتحت ضغط إرهابهم الرهيب، وما كاد يطأ تراب المغرب الأدنى حتى أخذ يغشى مجتمعات أقوام لا يعرف لغتهم، ولا يتصور عاداتهم يبث بينهم دعوة الحق ويشرح لهم حقيقة الإسلام، وأخذ يواصل سيره مضطلعا بهذه المهمة إلى أن وصل إلى المغرب الأقصى.
إن هذا المنهج هو منهج رجال الدعوة وحملة الرسالة الذين لا يجعلون من دعوتهم فخا يصطادون به المال، ولا سلما يرقون عليه إلى المناصب.
أما الدعاة الذين لا يهمهم من الدعوة إلى ما يكسبونه من المال وينالونه من الجاه، فهم أحرى بالمثل الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه عنه الخطيب والطبراني من طريق جندب ابن عبدالله رضي الله عنه
" مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه "
وضرب قطب الأئمة - رحمه الله - في هيميان الزاد لهؤلاء أمثالا عدة منها أنهم كمن يشفق على غيره أن يسقط في هوة أو يقع في نار ويغفل عن نفسه وهو مشرف على ذلك. ومثلهم صاحب المنار برجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام، وكلما لقى في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشي معه وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، وساغب يدعو الناس إلى المائدة الشهية ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم.
وإذا كان الباعث على دعوة الغير إلى الخير النصح له والإشفاق عليه فإن نفس الإنسان أولى بالنصح والإشفاق، فمن لم يبر نفسه لن يبر غيره، وكما جاء النعي على هذه الحالة في خطاب بني إسرائيل جاء في خطاب المؤمنين، فقد قال تعالى:
يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
[الصف: 2-3]، وفي قوله شعيب لقومه:
ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت
[هود: 88] دليل على أن النصح القولي وإن بلغ غايته إذا لم يصدقه العمل ليس من الإصلاح في شيء.
هذا وقد جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد البالغ على هذه الحالة الممقوتة ما فيه عظة لأولي الألباب من ذلك ما أخرجه أحمد والشيخان من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار، فيقولون يا فلان مالك؟ ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه "
وأخرج أحمد، وابن أبي شيبه، وابن المنذر، وعبد بن حميد والبزار، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي ، وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مررت لية أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار - قال - قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون "
وروي أنه يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم بم دخلتم النار وإنما دخلنا بتعليمكم؟ فيجيبونهم: إنا كنا نأمركم ولا نفعل.
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاءه فقال: يا ابن عباس إن أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني قوله تعالى: { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث قول العبد الصالح شعيب: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك. وهو يعني أن يجاهد العبد نفسه أولا فيقوم اعوجاجها ويصفي كدرها، ثم ينثني إلى غيره، وإلا كان كما قال الشاعر:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى
وريح الخطايا من ثيابك تسطع
وما أروع قول أبي الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم
وأراك تلقح بالرشاد عقولنا
أبدا وأنت من الرشاد عقيم
ابدأ بنفسك وانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهنالك يسمع ما تقول ويهتدى
بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وروى عن أحد الزهاد أنه قعد مقعد التذكير فأحجم عن الكلام، فقال له أحد المنصتين إليه ترى أن تقول في سكوتك شيئا؟ فأنشد:
وغير تقى يأمر بالتقى
طبيب يداوي والطبيب مريض
فما كاد من حوله يسمعون هذا البيت حتى ارتفعت أصواتهم بالبكاء لتأثير موعظته على نفوسهم.
وهذا التوبيخ لا يعني أن الفاجر غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهما فرضان لا يسقطهما الفجور، وقد وهم من زعم أن الفاجر ليس له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، فإن فجوره لا يسقط عنه واجبا، ولا يمنعه من احسان، وقد أجاد سعيد بن جبير في قوله: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن المنكر.
ومحل الاستنكار والتوبيخ في الآية هو نسيان أنفسهم مما يأمرون به غيرهم، وليس أمرهم الناس بالبر وإنما مثلها قول القائل: أتعرف الله وتعصيه؟ أو أتصوم ولا تصلي؟ فإن الإنكار واقع على المعصية، وترك الصلاة دون معرفة الله والصوم. وقد أجاد ابن عاشور في قوله:
" ليس المقصود نهي ولا تحريم، ويدل لذلك أنه قال في تذييلها { أفلا تعقلون } ولم يقل أفلا تتقون أو نحوه ".
وإنما كانت هذه الحالة فظيعة - وان كان إهمال الإنسان نفسه من عمل البر مذموما ولو لم يأمر به غيره - لأن أمر غيره به دليل انتباهه له ومعرفته بجدواه، ويلام العالم ما لا يلام الجاهل ويعنف الذاكر ما لا يعنف الغافل، وبهذا يتضح لك أن الواو في " وتنسون أنفسكم " للحال، كما يتضح لك بعد تجويز ابن عاشور أن تكون عاطفة وأن يكون معطوفها - وهو " تنسون أنفسكم " - هو المقصود من التوبيخ والتعجيب، والمعطوف عليه - وهو { أتأمرون الناس } - تمهيدا لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي مجموع الأمرين.
وإذا كان محط الإنكار والتعجيب قوله: { وتنسون أنفسكم } فإن في قوله: { وأنتم تتلون الكتاب } إضافة توبيخ الى توبيخ لأن الجدير بمن تلا كتاب الله فميز بنوره بين الحق والباطل، والرشد والضلال، أن يكون أسرع إلى الإستفادة بما فيه من خير، والاستنارة بما يحويه من الهدى، وذلك باتباع أوامره، والكف عن زواجره، والوقوف عند الحدود التي رسمها.
والتلاوة القراءة مأخوذة من تلا يتلو تلوا بمعنى تبع، وذلك أن التالي للكتاب يتبع آخره إثر أوله حتى يأتي على حروفه وكلماته فيستجمع ما فيه من المعاني، والمراد بالكتاب هنا التوراة التي حملوها فلم يحملوها، أي لم يأتمروا بأمرها، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، ومن عدم إتمارهم بما فيها إعراضهم عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم مع ما يتلونه في الكتاب من نعوته وأخباره.
وفي هذا التوبيخ تنبيه إلى أن التلاوة اللسانية إن لم يصحبها التأثير النفسي الذي يصدر عنه العمل بموجب ما يتلى ليست من ورائها جدوى إذ كل ما أنزله الله من كتاب إنما أنزله ليكون هدى للناس يقتادهم إلى صراط الله العزيز الحميد، فقراء القرآن من هذه الأمة الذين يقتصرون في تلاوتهم على تحسين الأنغام وتجويد الحروف - مع نسيانهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وإرشاداته - مندرجون فيمن يصدق عليهم هذا التقريع والإنكار.
وقوله: { أفلا تعقلون } تقريع آخر لأن من شأن العقل تبصرة صاحبه بما ينفع وما يضر، وما يحمد وما يذم، والعاقل يشفق على نفسه من كل ما يرديها فلا ينساها مما يأمر به غيرها من الصلاح والرشاد.
وأصل العقل الحبس، ومنه عقال البعير لأنه يعقله - أي يحبسه - عن الإنطلاق، وسمي به هذا النور الروحاني الذي أودعه الله في الإنسان فرفع به قدره، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا لأنه يعقل صاحبه عما فيه مضرته الحسية والمعنوية، ولولاه لكان الإنسان - لطغيان شهواته وتأجج غرائزه - أسوأ من السباع الفتاكة، وإنما جعله الله قيدا لما في الإنسان من طبائع مردية وقوى ذات خطر على صاحبها وعلى جنسه، فإذا ما استخدم العقل تحولت هذه الطبائع والقوى من الضر إلى النفع، ومن التدمير إلى التعمير، والنفس الإنسانية ذات مطامح شتى، فهي تطمح بطبعها الى وفرة المال، وقوة السطان والعلو على الغير، فلولا كفكفة العقل لها لسعت في الأرض فسادا، وأهلكت الحرث والنسل لأجل إشباع رغبتها وتوفير مطالبها، فإن العاقل عندما يحس بما يترتب على إيثار هوى النفس من مخاطر شخصية واجتماعية، وعواقب سيئة دنيوية وأخروية يركن إلى السلامة، ويميل إلى الموادعة.
وقد كان لهؤلاء المخاطبين من العقل ما يمكنهم به زجر أنفسهم عن الهوى، وردعها عن الفساد، غير أن عقولهم لم تقترن بتوفيق الله فآثروا ما يظنونه مصلحة ويتوهمونه منفعة على أوامر الله تعالى مع قيام حجة الحق عليهم بما أودعوه من عقل وأوتوه من كتاب، ولو لم تكن لهم عقول لما كان لتكليفهم معنى، ولا للإنكار عليهم موضع فإن خطاب الله مرفوع عن غير العقلاء.
أما ما حكاه الله عن أهل النار من قولهم:
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
[الملك: 10] فهو محمول على العقل الهادي إلى الحق، ويدل عليه اقترانه بالسمع في النفي مع أنهم كانوا ذوي سمع في الدنيا.
[2.45-46]
في هذا الخطاب عود على الأمر بعدما ولى الأوامر السابقة ذلك التأنيب اللاذع على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم وهو اسلوب عجيب في التربية النفسية إذ في هذا الأمر ما يشعرهم أنهم مظنة الطاعة والامتثال، وإن صدر ما صدر منهم من المعايب التي كانت منشأ ما لحقهم من الإنكار والتقريع.
ولم يخرج الخطاب عن مواجهة بني اسرائيل وإن قال من قال: انه هنا للمسلمين وهو القول الذي صدره قطب الأئمة - رحمه الله - في التيسير. ومنشؤه توهم قائليه أن الأمر بالصبر والصلاة يتنافى مع الحالة التي كان عليها بنو إسرائيل إذ لا فائدة لهم مما أمروا به مع إصرارهم على عدم الإيمان بنبوة النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد أنكر أكثر المفسرين - كالفخر الرازي في المتقدمين، وابن عاشور في المتأخرين - هذا القول لما يلزمه من تفكيك النظم الشريف، واستند ابن عاشور أيضا في انكاره إلى أن وجود حرف العطف ينادي على خلافه، وأن قوله: { إلا على الخاشعين } ، مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله: { الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم } الآية، اللهم إلا أن يكون من الإظهار في مقام الإضمار وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي، وأتبع ذلك قوله: والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد، وأي عجب في هذا وقريب منه آنفا قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين } خطابا لبني إسرائيل لا محالة ".
وقد صدق وأجاد الإمام ابن عاشور في نفيه العجب عن كون هذا الخطاب لبني اسرائيل، وإنما العجب من التعامي عما دلت عليه الآيتان وغيرهما من أن الكفار مخاطبون بالعبادات وسائر فروع الشريعة خطابهم بأصل الإيمان، وقد سبق تحرير هذه المسألة في الآية التي استدل بها بما يكشف اللثام عن وجه الحقيقة في المراد بالخطاب.
والتلاؤم بين هذه الآية وسوابقها واضح، فإن الله عز وجل عندما ابتدأ خطاب بني اسرائيل ذكرهم نعمه، وأمرهم أن يوفوا بعهده ليوفي بعهدهم، وطالبهم بالإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم، وحذرهم أن يكونوا أول كافر به، وأن يشتروا بآياته ثمنا قليلا، وأمرهم بتقواه، ونهاهم عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، ودعاهم إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين، ووبخهم على أمر الناس بالبر ونسيان أنفسهم، وهذه المطالب في جملتها شاقة على أمثال بني اسرائيل الذين توارثوا عادات مألوفة، وعقائد معينة تميز الشخصية الإسرائيلية من بين سائر الناس، ولا ترضى لها التبعية والانقياد مع ما جبلت عليه نفوسهم من الحرص على جمع المال والرغبة في الترقي إلى المناصب العالية، ومما يضاعف المشقة أن النبي الذي طولبوا أن يؤمنوا به ينتمي الى غير أصولهم النسبية، وقد بين سبحانه في هذه الآية لهم المخرج من مأزق هذه المشقة وهو استعانتهم بالصبر والصلاة.
وقد سبق تبيان الإستعانة والصلاة، وأما الصبر فأصله وضعا بمعنى الحبس، يقال صبرته إذا حبسته ومنه القتل صبرا أي في حالة حبس المقتول، ويسمى المحبوس مصبورا، ومنه قول عنترة:
فصبرت عارفة لذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
واشتهر في نقيض الجزع والتململ لما فيه من حبس النفس عما جبلت عليه من الاضطراب، وعرف بأنه حبس النفس على ما تكره، واشترط الإمام محمد عبده أن يكون معه رضى واختيار وتسليم، لأنه لو لم يكن كذلك لكان كما قال الشاعر:
صبرت ولا والله مالي طاقة
على الصبر لكني صبرت على الرغم
وما قاله الإمام إنما هو في الصبر المطلوب شرعا، وهو الذي عرفه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين بأنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة، ولا ريب أن الصبر اللغوي أعم منه فإنه قد يكون بباعث الأنفة والكبر، أو بباعث الإستحياء، أو بسبب ما في طبع النفس من قوة الاحتمال، وأرى أن الصبر الشرعي نفسه هو أعم من تعريف الإمام الغزالي لأنه قد يكون حيث لا شهوة تقاوم بالباعث الديني، وذلك كالصبر على أذى الناس بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
والصبر محمود بالفطرة، ولذلك اتفق العقلاء على أنه من حميد الخصال، وهو من الأمور الضرورية لكل حي إذ لا بد من مواجهة قساوة الحياة ولأوائها، وحسبنا أن الله ذكره في أكثر من سبعين موضعا في كتابه - كما أفاده الإمام الغزالي - وجعله من أسباب السلامة من الخسران الذي حكم به على الإنسان في سورة العصر، وبين أجور العاملين في قوله:
من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها
[الأنعام: 160]، وقوله:
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة
[البقرة: 261]، بينما قال في الصبر:
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب
[الزمر: 10]، وأخبر أنه سبب لاصطفاء من يصطفيه للخير من عباده، وذلك في قوله:
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا
[السجدة: 24]، وقوله:
وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرآئيل بما صبروا
[الأعراف: 137]، بل أخبر أن معيته للصابرين في قوله:
إن الله مع الصابرين
[البقرة: 153، الأنفال: 46].
وذكر العلماء للصبر أنواعا وهي الصبر على الطاعة، وعن المعصية وعند المصيبة واختلفوا في مراتب فضلها، منهم من قال بأن الأفضل الصبر على الطاعة، ومنهم من قال: إن الأفضل الصبر عن المعصية، ومنهم من قال بفضل الصبر عند المصيبة، وهو بكل أنواعه مطلوب من المؤمن في جميع أحواله، وقد وعد الله عليه المثوبة، فلا داعي إلى طلب الترجيح فيما قالوه من التفضيل، وبالجملة فإن جميع الفضائل مردها إلى الصبر، وقد أجاد العلامة ابن عاشور في إيضاح ذلك حيث قال: " ومعظم الفضائل ملاكها الصبر، إذ الفضائل تنبعث عن مكارم الخلال، والمكارم راجعة إلى قوة الإرادة، وكبح زمام النفس عن الإسامة في شهواتها بإرجاع القوتين الشهوية والغضبية عما لا يفيد كمالا أو عما يورث نقصانا، فكان الصبر ملاك الفضائل، فما التحلم والتكرم، والتعلم والتقوى، والشجاعة والعدل، والعمل في الأرض، ونحوها إلا من ضروب الصبر ".
وإنما طولبوا بأن يستعينوا على ما أمروا به بالصبر لأن الصبر أعظم وسيلة لهم إلى القدرة على تخطي الحواجر الحائلة بينهم وبين الدخول في الإسلام وإيمانهم بالنبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام، ومن أهم هذه الحواجز تلك الأنانية المستحكمة في نفوسهم التي جعلتهم ينظرون الى شعوب العالم نظرة المتقزز المستهين، ولا يرون في غير أنفسهم أهلية لقيادة البشر الى مقامات الزلفى من الله سبحانه، وألفتهم التلاعب بآيات الله كما يملي عليهم الهوى وتقتضيه - في نظرهم - مصالحهم، وحرصهم البالغ على جمع الثراء بمختلف وسائل الاستغلال من غير تمييز بين حلالها وحرامها، وغير ذلك مما اعتادوه قرونا حتى صار جزءا من طبيعتهم المألوفة وسمة من سماتهم البارزة، وما أصعب التغلب على العادات عند من لم يتسلح باليقين ويتدرع بالصبر.
وذهب مجاهد إلى أن الصبر هنا بمعنى الصوم، وتابعه عليه من تابعه من المفسرين، وقصارى حجتهم عطف الصلاة عليه، والصلاة أنسب قرنها بالصيام، وهو قول ضعيف وحجة واهية، فإن حصر الصبر في الصوم تقييد لمطلق لفظه في بعض ما يدل عليه، وقد علمتم ضروة التقوي بالصبر لاحتمال هذه التكاليف، فلا داعي لهذا التقييد الذي لم يصدر إلا عن الوهم، وما أحوج الصلاة نفسها إلى سياح سميك من الصبر يحميها من هجمات العوارض المختلفة نفسية كانت أو فعلية، وأنى للمصلي إن لم يكن صبورا على حبس عقله وقلبه، وفكره ووجدانه، وسمعه وبصره، على ما هو مقبل عليه من ذكر الله، ومنع جوارحه عما اعتادته من التلف والحركات.
واذا كانت الصلاة نفسها لا تخلو من الصبر لعدم الوفاء بحقها دونه، فإن عطفها عليه انما هو من باب عطف الخاص على العام، وقد خصصت بالذكر من بين سائر الأعمال المتوقفة على الصبر كالصوم والحج والجهاد لأجل أهميتها، لأنها عمود الدين، ولعمق أثرها في نفوس المصلين، وقد سبق شرح تأثير الصلاة النفسي والإجتماعي في تفسير بداية هذه السورة، وقدم عليها الصبر لأن مفهومه الأساسي ترك الجزع بينما مدلول الصلاة فعلي، ومن الأمثلة السائرة " التخلي قبل التحلي " أي التخلي عن النقائص والمذام قبل التحلي بالكمالات والمحامد، والإنسان لا يكون للخير أهلا، وللفضيلة خدنا حتى يتجرد من الشر والرذيلة، والذين فسروا الصبر بالصوم ذهبوا الى أن تقديمه على الصلاة لأن تأثيره في إزالة ما لا ينبغي وتأثيرها في حصول ما ينبغي - وهي عين المناسبة المذكورة من قبل - ولأن في هذا الترتيب ترقيا من الكامل إلى الأكمل وتدرجا من الشاق إلى الأشق، فإن الصوم إن توقف على الصبر لأجل منع النفس فيه عن شهوة الأكل، وشهوة الشرب وشهوة الوقاع، فإن الصلاة أدعى إليه لضرورة الإمتناع فيها من جميع الشهوات كإرسال النظر وإصغاء السمع وإطلاق الفكر وتحريك الجوارح، ولذلك كانت أقوى العوامل في إمداد النفس بالطاقات على احتمال التكاليف، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى الصلاة إذا ما ضاقت عليه حلقات الأحداث.
أخرج أحمد وأبوداود وابن جرير عن حذيفة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم اذا حز به أمر فزع الى الصلاة، وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كانوا - يعني الأنبياء - يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة "
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم اذا كدرت المصائب والأحداث صفاء نفوسهم أسرعوا الى هذا النبع الفياض فغسلوا به أكدارهم، ونقوا به فطرتهم، روى سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان في سفر فنعى اليه أخوه قثم فتنحى جانبا عن الطريق واسترجع وصلى ركعتي ثم أقبل على راحلته وهو يتلو: { واستعينوا بالصبر والصلاة } ، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان أنه - رضي الله عنه - نعى اليه ابن له وهو في مسير فنزل فصلى ركعتين ثم قال: فعلنا كما أمرنا الله، فقال: { واستعينوا بالصبر والصلاة } ، وذكر بعضهم أن المنعى إليه ابنته، وقد روى مثل ذلك عن غيره من الصحابة كما روي عن جماعة من التابعين؛ ويفهم من ذلك أن السلف فهموا أن الخطاب غير قاصر على بني اسرائيل من حيث المعنى والطلب وإن يكن من حيث اللفظ مسوقا إليهم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الصبر هنا هو الصبر على أعمال الصلاة ومطالبها، واستدل لقوله بقوله تعالى:
وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها
[طه: 132] وهو رأي واه لأن ما استدل به لا ينافي طلب الصبر في مطلق الحالات وعلى كل التكاليف، وفسر آخرون الصلاة هنا بالدعاء مع حمل الصبر على مفهومه العام، وعلى هذا فالآية من باب قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا
[الأنفال: 45]، لأن الثبات من الصبر والدعاء من جملة الذكر، وأنتم تعلمون أن حمل الألفاظ الشرعية في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على معانيها اللغوية التي نقلها الشرع عنها لا يصار إليه إلا بدليل، فحمل الصلاة هنا على الدعاء لا داعي إليه لا سيما وأن الأدلة ظاهرة - من الشرع والواقع - على أن الصلاة من أهم العوامل في الثبات على الخير والتجرد عن ضده.
واختلف في الضمير من قوله: { وإنها لكبيرة } فقيل هو عائد إلى الصلاة لأنه أقرب مذكور، وبه قال جماعة منهم القطب في الهيميان والتيسير، وقيل: عائد إلى الصبر والصلاة معا، وإنما أفرد وأنث رعاية للأغلب وهو الصلاة، ونحوه قوله تعالى:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
[التوبة: 34] حيث أعيد الضمير إلى الفضة لأنها الأغلب في التداول عند العرب آنذاك، وقوله:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها
[الجمعة: 11] إذ أعيد الضمير إلى التجارة لأنها الأفضل والأهم ، وقيل لما كانت الصلاة نفسها مشتملة على الصبر أعيد إليها الضمير لفظا مع قصدهما معا، ونحوه قوله عز وجل:
والله ورسوله أحق أن يرضوه
[التوبة: 62] حيث أفرد الضمير - مع أن معاده إليهما - لدخول رضى الرسول في رضى الله، ومنه قول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسو ما لم يعاص كان جنونا
والأصل يعاصيا ولكنه أعاد الضمير إلى شرخ الشباب لدخول سواد الشعر فيه، وقيل: هو من باب الإكتفاء نحو قوله تعالى:
وجعلنا ابن مريم وأمه آية
[المؤمنون: 50]، وهما آيتان، وكذا قول الشاعر:
فإني وقيار بها لغريب
وقول آخر:
والصبح والمسمى لا فلاح معه
والأصل لغريبان، ومعهما؛ وقيل: عائد إلى العبادة المفهومة من ذكر الصبر والصلاة، وجوز الزمخشري عوده إلى جميع المأمورات المتقدمة من قوله: { اذكروا نعمتي } إلى قوله: { واستعينوا بالصبر والصلاة } ، قال ابن عاشور: " ولعله من مبتكراته وهذا أوضح الأقوال وأجمعها، والمحامل مرادة " ، وقيل بعوده الى الإستعانة التي يقتضيها قوله: { واستعينوا } على حد قوله تعالى:
اعدلوا هو أقرب للتقوى
[المائدة: 8]، وثم أقوال أخرى هي من الضعف بمكان لا أجد داعيا الى ذكرها، والمتبادر هو الرأي الأول وكفى بالتبادر شاهدا.
ويطلق الكبير على الشاق لأن احتمال الكبير أشق على النفس من احتمال الصغير سواء كان الكبر حسيا أو معنويا، ومن هذا الباب قوله تعالى:
كبر على المشركين ما تدعوهم إليه
[الشورى: 13]، وقوله:
وإن كان كبر عليك إعراضهم
[الأنعام: 35]، وهذا هو المعنى المراد هنا، وإنما شقت الصلاة على غير الخاشعين لما تستلزمه من حبس المصلي ظاهره وباطنه عن الالتفات إلى غير ما هو مقبل عليه وتقييد الجوارح عن حركاتها المألوفة، فهي عبادة يشترك فيها الجسم والروح، والعقل والقلب، ولا تدع مجالا للإشتغال بغيرها حال أدائها.
والخشوع لغة التطامن والانخفاض، يقال خشعت الرملة إذا تطامنت، وخشع الجدار إذا نزل، ومنه قول الشاعر:
ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع....
والخشوع الشرعي هو تذليل النفس لله تعالى وحبسها عن التمرد على طاعته والعصيان لأوامره ونواهيه مع استشعارها عظمته التي لا تكتنه، وكبرياءه التي لا تحد، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما الخاشعين بالمصدقين، ومجاهد بالمؤمنين، وأبو العالية بالخائفين، ومقاتل بالمتواضعين، والضحاك بالخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده، وأغلب هذه التفاسير من باب تفسير الشيء بلوازمه، وروى عن سفيان الثوري أنه قال: سألت الأعمش عن الخشوع، فقال: يا ثوري أتريد أن تكون إماما وأنت لا تعرف الخشوع؟ سألت ابراهيم النخعي عنه، فقال: يا أعيمش أتريد أن تكون إماما وأنت لا تعرف الخشوع؟
ليس الخشوع بأكل الخشن، ولبس الخشن، وتطأطؤ الرأس لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك.
وإنما لم تشق الصلاة على الخاشعين لأنهم يباشرونها وضمائرهم مرتاحة ونفوسهم مشتاقة إلى مناجاة المحبوب والتقرب إليه في مقامات الزلفى، فيجدون فيها من اللذة ما لا يجده أهل الدنيا في أبهج أوقاتهم وأعظم ملاذهم، وإذا كان من شأن عامة الناس أن يحسوا بارتياح نفسي عندما يتقربون إلى ملوك الدنيا ويجالسونهم ويسمعون أحاديثهم، فما بالكم بأهل الله وخاصته عندما يتمتعون بلذيذ مناجاته ويرجون مع ذلك كريم وعده ويتقون أليم وعيده.
وقد وصف الله الخاشعين بقوله: { الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } [البقرة: 46].
أصل الظن الوقوف بين طرفي الأمر سلبا وإيجابا مع ترجيح أحدهما، ومن حيث إن اليوم الآخر لا مساغ للشك فيه والإيمان به أحد ركائز العقيدة في الإسلام، فسر أكثر السلف والخلف الظن هنا باليقين، واستدلوا له بقوله تعالى:
ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها
[الكهف: 53]، فإن المقام مقام يقين وليس مقام تردد، وقوله عز من قائل حكاية لما يقوله الفائز يوم الحساب:
إني ظننت أني ملاق حسابيه
[الحاقة: 20] فإنه كان على يقين من ذلك، كما استدلوا له بقول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم بالفارسي المسرد
وقول آخر:
فأرستله مستيقن الظن أنه
مخالط ما بين الشراسيف جائف
وذكر ابن عطية أن الظن يكون بمعنى اليقين فيما لم يكن محسوسا، فلا يقال في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنسانا وإنما يستعمل كذلك فيما لم يخرج إلى الحس بعد. وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن كل ظن في القرآن فهو يقين، وأقر ذلك جماعة من المفسرين منهم ابن جرير وابن كثير، ورده الشوكاني بأن ذلك متعذر في نحو قوله:
وإن الظن لا يغني من الحق شيئا
[النجم: 28]، وقوله:
إن بعض الظن إثم
[الحجرات: 12]، إلا أن يحمل ذلك على الظن المتعلق بأمور الآخرة وهو مقتضى ما رواه ابن جرير عن قتادة.
وأبقى جماعة من أهل التفسير ظن هنا على بابها، وحمل ذلك على كونهم يلحظون دائما من أنفسهم التقصير في ذات الحق تعالى، فيظنون أنهم سوف يلاقونه بأوزارهم وهو ما يزيد قلوبهم وجلا ونفوسهم خشوعا، وخلاصة ذلك أنهم لا يأمنون سوء الخاتمة مع مراعاتهم عظم المقام وكثرة التقصير، واختار الإمام محمد عبده أن التعبير بالظن دون اليقين هنا لإفادة التقريع والتوبيخ لأولئك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، ونص كلامه - حسبما في المنار - " الإيمان بلقاء الله تعالى هو الذي يوقف المعتقد عند حدوده ولو لم يكن الاعتقاد يقينيا فإن الذي يغلب على ظنه أن هذا الشيء ضار يجتنبه أو أنه نافع يطلبه، ولذلك اكتفي هنا بذكر الظن، وقد فسر الظن مفسرنا (الجلال) باليقين لأنه الإعتقاد المنجي في الآخرة، وفاته أن الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ كأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يقرأون الكتاب لا يصل إيمانهم بالله وبكتابه إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالاحتياط ".
ولقاء ربهم يراد به الحشر إليه للحساب، والرجوع إليه، والإنقلاب إلى ما أعده للناس من ثواب أو عقاب، وفسر بعضهم الرجوع بالموت واللقاء بالحشر أو الجزاء، ويضعف تفسير الرجوع بالموت ذكره بعد ذكر الإماتة في قوله:
ثم يميتكم ثم يحييكم
[الروم: 40]
ثم إليه ترجعون
[الروم: 11]، وأولى ما يفسر به القرآن القرآن نفسه.
وحمل بعضهم المفاعلة المفهومة من قوله { ملاقوه } على أنها فعل واحد وهو معروف وضعا، ومنه عافاك الله، وقاتله الله، ورده ابن عطية بأن لقى يتضمن معنى لاقى وليست كذلك الأفعال كلها بل فعل خلاف فاعل في المعنى.
وقد فصل ما أجملته عبارته أبو حيان بقوله: " إن مادة لقى تتضمن معنى الملاقاة بمعنى أن وضع هذا الفعل سواء كان مجردا أو على فاعل معناه واحد من حيث إن من لقيك فقد لقيته، فهو لخصوص مادته يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن يكون لواحد... الخ ".
واستدل بعض القائلين بجواز الرؤية على الله - تعالى الله عن ذلك - بهذه الآية على معتقده، وحمل اللقاء على الرؤية المدعاة، وأجيب بأن تفسير اللقاء بالرؤية ليس له أساس من الوضع اللغوي ولا الإصطلاح الشرعي، فالأعمى مثلا يقول لقيت فلانا إذا حضر عنده مع كونه غير راء له، وفي القرآن ما ينقض هذا الزعم لكثرة ورود اللقاء فيه لغير معنى الرؤية من ذلك قوله تعالى:
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه
[التوبة: 77]، ومدعو الرؤية يزعمون أنها شرف يخص الله به المؤمنين وليس للمنافقين منه نصيب، وقوله عز من قال:
واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه
[البقرة: 223] مع أن الخطاب ليس للمؤمنين وحدهم، وقوله:
ومن يفعل ذلك يلق أثاما
[الفرقان: 68]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان "
والرؤية المزعومة تتناسب مع الرضى والرحمة، لا مع الغضب والعذاب، وشاع على ألسنة المسلمين - بل وسائر المتدينين - قولهم في من مات لقى الله ولا يعنون بذلك رؤيته وكثيرا ما يقول القائل لقيت من هذا الأمر جهدا، إذا تكلفه مع أن الرؤية هنا متعذرة، ومثل ذلك في قولهم لاقى الحمام، ومع دحض هذا الجواب لكل شبهة في الموضوع تكلف الفخر الرازي رده متشبثا بما هو أوهى من نسخ العنكبوت.
وحاصل كلامه أن الملاقاة لغة عبارة عن اتصال الجسمين بالتماس، ولما كان الملاقاة بين الجنسين المدركين سببا لحصول الإدراك فحيث امتنعت المماسة وجب حمله على الادارك لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز فثبت أنه يجب حمل لفظ اللقاء على الإدراك، وخروج بعض الصور لدليل خاص عما تقتضيه هذه القاعدة غير قادح، فبما أن المنافق لا يرى ربه حمل قوله تعالى:
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه
[التوبة: 77] على لقاء حسابه وحكمة للضرورة الداعية الى ذلك، وبما أن هذا الإضمار على خلاف الدليل لا يصار إليه إلا مع الضرورة، ولا ضرورة في قوله: (أنهم ملاقوا ربهم) حتى يصرف اللفظ عن ظاهره أو تضمر هذه الزيادة.
وما أعجب صدور هذه السفسطة من مثل الفخر الرازي على علو كعبه ورسوخ قدمه في العلم، ولكن الهوى يعمى ويصم، وأعجب ما في الأمر الاجتراء البين على تفسيره لقاء الله بإدراكه مع توفر الأدلة العقلية والنقلية على استحالة إدارك ذات الله سبحانه، وكفى بقوله عز وجل:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
[الأنعام: 103] نصا صريحا في الموضوع، وإذا لم تكن في ذلك حجة فليس يصح في الأذهان شيء، وتتابع التعبير بلقاء الله في مواضع مختلفة من الكتاب، حيث لا يجوز تفسيره بالرؤية عند الجميع دليل قاطع على أن له معنى سوى الرؤية، وهو لقاء الحكم أو الجزاء وحمله على هذا المعنى هو المتعين لاتفاقه مع دلائل العقل والنقل.
[2.47]
عود على بدء في خطاب بني اسرائيل المتضمن تذكيرهم بنعمة الله عليهم، ولا يعد هذا تكرارا لسابقه لأنه هناك ترتب عليه مطالبتهم بالوفاء بعهد الله والإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم... الخ، وهنا يترتب عليه تفصيل ما أجمل هناك من النعمة، ومن شأن النفس أن تتشوف بعد ما تخبر بالشيء إجمالا إلى تفصيله كما يترتب عليه بيان ما كانوا يطوونه عن الناس من تأريخهم الأسود عبر العصور التي كانت فيها النبوات، وما كان منهم من عنت ومكابرة وشقاق.
كثرة أنبياء بني إسرائيل
وأول ما ابتدئوا به في التذكير تفضيلهم على العالمين بكثرة الأنبياء فيهم وتتابع الرسالات إليهم لإحياء النخوة في نفوسهم التي من شأنها إبعاد صاحبها عن دركات التسفل في الأمور، وبعث الشعور بالكرامة التي من الله بها عليهم ليكون باعثا على شكره والاستحياء من نقض عهده، وقد خوطبوا بذلك غب ما تقدم من وعظهم ليكون ذلك أدعى الى قبول الوعظ وهو أسلوب عجيب من أساليب التربية النفسية سبق إليه القرآن المنزل من عند الله العليم بخفايا النفوس وطوايا الطبائع، فهذا التفضيل وإن كان - في واقعة - لآبائهم فإنهم امتداد لأولئك الآباء، ومن شأن النفس أن تعتز بتليدها من الخير فتسعى إلى ضم طارفه إليه، والتذكير بكرامة الآباء وفضائلهم وفواضلهم من أنجح الدواعي لبعث عزائم أبنائهم على أن يحذوا حذوهم، ويقفوا أثرهم وكثيرا ما تحول الأصالة في الخير والعز والشرف عن التردي في دركات الشر والمهانة والفساد، وإذا كان الوعظ من شأنه أن يترك في الموعوظ أثرا نفسيا جارحا لشعوره بأن الواعظ لم يقصده بموعظته إلا لأنه لم يكن على الحالة التي ينبغي أن يكون عليها - وقد يفضي هذا الشعور إلى النفرة لما يصحبه من الإحساس بالمهانة - فإن مزج الموعظة بذكر شرف الموعوظ وعلو قدره وسؤدد محتده كفيل بأن يعفي هذا الأثر فيحول الشعور بالمهانة إلى شعور بالكرامة وإحساس بأن ما نهنهته عنه الموعظة أمر لا يليق بشرف الماضي وكرامة الحاضر.
وقد يقال إن اليهود كانوا من قسوة القلوب وتبلد الأذهان وتحجر الأفكار بحيث لا تجدي فيهم موعظة ولا ينفع فيهم التذكير، وهل أثر هذا الأسلوب القرآني البليغ في نفوسهم شيئا، أو أنهم ازدادوا عتوا واستكبارا، وإباء للحق، وتعاميا عن الحقيقة، وإخلادا إلى الباطل، وتمسكا بالضلالة.
والجواب ان القرآن الكريم جعله الله منارا للعالمين في جميع العصور، وهو في مخاطبته لبني إسرائيل بهذا الأسلوب يرسم لنا منهاج الدعوة، ويعلمنا كيف نتعامل مع المدعوين ونصابرهم، وإن غلظ شعورهم وساء صنعهم ولم يلقونا إلا بشراسة الأخلاق وسوء المعاملة، وهذا هو مسلك الدعوة في جميع رسالات الله، وعند جميع رسله، فانظروا كيف صبر نوح عليه السلام على عنت قومه وإصرارهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وهذا فرعون الطاغية الذي نازع جبار السماوات والأرض في ألوهيته يرسل الله إليه موسى وهارون ويأمرهما أن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى مع ما سبق في علم الله أن موعظته لا تجدي فيه شيئا بل لا تجد مسلكا إلى نفسه التي ران عليها طبع اللؤم والفساد، وهذه أوامر الله وتوجيهاته لخاتم رسله وصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم بأن يدأب على الدعوة ويقارع بها قومه مع قوله فيهم:
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون
[يس: 7]على أن بني اسرائيل قد رقت قلوب طائفة منهم ونارت عقولهم فاتبعوا الحق الذي أنزل كعبد الله بن سلام رضي الله عنه، وفي أمثال هؤلاء يقول الله سبحانه:
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
[الأعراف: 159]، وقد قال تعالى في صفوة أهل الكتاب عموما:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنآ إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون
[القصص: 52 - 54].
وهذا التفضيل إنما هو بما جعل الله فيهم من النبوات المتعاقبة - بحيث كانوا أكثر الأمم أنبياء - وبما منحهم الله من النعم الخارقة للعادات كفرق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى عليهم، ويستبان ذلك مما حكاه الله تعالى عن موسى من قوله:
اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين
[المائدة: 20].
وقد تقدم تفسير العالمين ولا بد من تقييد مفهومه هنا بما تقتضيه الأدلة، وهو أنهم فضلوا على عالم العصر الذي منحوا فيه القيادة الروحية بين الأمم بما أتوه من الآيات وما أكرموا به من النبوات، وعليه يحمل قوله تعالى:
إن الله اصطفى ءادم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين
[آل عمران: 33]، وقوله:
ولقد اخترناهم على علم على العالمين
[الدخان: 32]، أما بعد ما انتزع زمام القيادة من أيديهم ووضع في أيدي قوم آخرين - وهم أمة خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه - فلا تفضيل لهم على أحد، ومهما يكن لهم من فضل فيما سبق فإنه لا يبلغ إلى شأو فضل هذه الأمة التي قال لها الله:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران: 110]، واذا كان تفضيل بني اسرائيل بسبب تلك النبوات المتعاقبة والرسالات المتتابعة في المحيط الإسرائيلي فإن تفضيل هذه الأمة بالرسالة العظمى الخاتمة التي هيمنت على جميع الرسالات وجمعت كل ما فيها من الهدى ولم تأفل شمسها منذ سطعت على الوجود، وبأن المضطلع برسالتها هو أفضل النبيين الي يظللهم جميعا لواؤه في المحشر، وكفى بأن جعل الله رسالته رحمة للعالمين.
وذهب الزمخشري - وتابعه كثير من المفسرين - إلى أن المراد بالعالمين هنا الجم الغفير من الناس، كما يقال رأيت عالما من الناس، أي عددا كبيرا منهم، واستدلوا له بقوله تعالى:
باركنا فيها للعالمين
[الأنبياء: 71]، وضعفه الفخر الرازي لأن لفظ العالم مشتق من العلم، فكل ما كان دليلا على الله تعالى كان عالما، فكان من العالم. قال: " وهذا تحقيق قول المتكلمين العالم كل موجود سوى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات ".
ورده الشوكاني من وجهين: أولهما: أن دعوى اشتقاق العالم من العلم لا برهان عليه.
ثانيهما: لو سلم صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجودا بما يتحصل معه مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العالم عليه وهو كائن في كل فرد من أفراد المخلوقات التي يستدل بها على الخالق، وغايته أن جميع العالم يستلزم أن يكونوا مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات، وأما أنهم مفضلون على كل المحدثات في كل زمان فليس في اللفظ ما يفيد هذا ولا في اشتقاقه ما يدل عليه.
وهذا ظاهر فإنه من المعلوم أن لفظ العالمين هنا لا يشمل عالم النباتات ولا عالم الجمادات كما لا يشمل عالم الملائكة لعدم وجود النبوات فيهم، وإنما مفهومه محصور في العالم الإنساني، وهو محمول على طائفة من الناس دون سائرهم.
[2.48]
تحذير إثر التذكير بنعم الله سبحانه التي أسبغها على بني اسرائيل، وهذا لأن تلك النعمة - ومن بينها تفضيلهم على العالمين بما جعل فيهم من النبوات وأكرمهم به من خوارق العادات - كانت مصدر غرورهم، وسبب استهتارهم، فبدلا من أن يكونوا لها شاكرين كانوا بها كافرين، فلقد تلونت ضلالالتهم، وتنوعت مفاسدهم ، وأصروا على غيهم، واستكبروا استكبارا، وزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه فلن يمسهم عذابه، لأن شفقة الأبوة على البنوة ستقيهم شر الوعيد، ولئن مسهم العذاب فلن يكون ذلك إلا أياما معدودات، لأن آباءهم من النبيين الطاهرين لن يقر لهم قرار حتى يشفعوا لهم عند الله فيجيرهم مما هم فيه من العذاب، ولن يسكتوا عن أفلاذ أكبادهم وهم يصطلون السعير الدائم، إلى غير ذلك مما نسجته أخيلتهم المريضة من الهراء الذي ليس له حظ من الصدق، وفد جاءت هذه الآية قاطعة حبال هذه الأمنيات الباطلة والمطامع الفازعة، وقد أعيدت مع الفارق اليسير في التعبير في (123) من آيات هذه السورة، والآيتان الكريمتان كاشفتان لحال ذلك اليوم، فكل ما يغني في هذه الدنيا من الشفاعات والفدى لا يغني في ذلك اليوم شيئا، وقد جاء وصفه في معرض التحذير منه في آيات متعددة من سور مختلفة، من ذلك قوله سبحانه:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
[البقرة: 281]، وقوله:
واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور
[لقمان: 33]، وقوله:
يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
[عبس: 34-37]، وقوله:
ومآ أدراك ما يوم الدين ثم مآ أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله
[الانفطار: 17-19]، واذا كان التحذير منه في هذه الآية ومثيلتها خاصا ببني إسرائيل، وفي سائر الآيات التي أوردناها شاملا لعموم الناس، فإن المؤمنين أيضا قد خصوا بالتحذير منه في قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة
[البقرة: 254]، وهو دليل على أن ما ذكر من صفته ليس خاصا بأحد دون غيره أو طائفة دون أخرى من الناس، فجميع الناس تنحل يومئذ روابطهم النسبية والسببية وإنما تبقى رابطة واحدة فحسب تشد بعض أهلها الى بعض، وهي رابطة التقوى، يقول الله عز من قائل:
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون
[المؤمنون: 101]، ويقول:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف: 67]، وهو يعني أن لا جدوى إلا من التقوى، فلا أنساب ولا أسباب، ولا شفاعة ولا فدية.
ومعنى الاتقاء معلوم مما سبق في بيان التقوى اللغوي والشرعي، واتقاء ذلك اليوم بالمعنى الحقيقي متعذر فإنه يوم يغشى جميع الناس أبرارا وفجارا، سعداء وأشقياء، فلا ملجأ للإنسان منه، وإنما اتقاؤه هو اتقاء ما يسبب العطب فيه، وذلك لا يكون إلا بالمداومة على الأعمال الصالحة الواقية من شره، والابتعاد عن سيئات الأعمال الموقعة في عذابه.
وهذا اليوم هو المعبر عنه بيوم الدين، ويوم القيامة، واليوم الآخر، وهو يبدأ بالبعث ولا نهاية له، وما ذكر هنا من وصفه ينطبق على جميع مواقفه حتى يستقر السعداء في دار قرارهم وهي الجنة، والأشقياء في مستقرهم الأبدي وهو النار.
والقراءة المشهورة بفتح التاء من (تجزى)، وقرئ بضمها في الشواذ، والمراد بالجزاء هنا القضاء، وذلك مما شهر على ألسنة العرب، ومنه ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر نساءه أن يجزين بعد الحيض أي يقضين صومهن، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام لأبي بردة في جذعته: " تجزيك ولا تجزى أحدا بعدك " ، وهو يتفق مع تفسيره بيغني فإن المؤدى واحد والمراد أن أي نفس لن تقضي يومئذ شيئا عن غيرها.
والشفاعة هي توسط أحد بين ذي حق ومن عليه الحق لعفو ذي الحق عن حقه، سواء كان الحق عينيا أم اعتباريا وهي تنبئ عن مكانه الشافع لدى المشفوع اليه، وتعود ثمرتها إلى المشفوع له، وهي مأخوذة من الشفع ضد الفرد لأن المستشفع بغيره إنما استكثر به لدى المشفوع لديه، فإذا ضم صوته إلى صوته كان شفعا بعد أن كان المشفوع له فردا.
والعدل الفدية وأصله ما يساوي الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، وأما العدل " بالكسر " فهو ما يساويه من جنسه وفي جرمه.
وأصل النصر المعونة، ومنه الأرض المنصورة، أي الممدودة بالمطر، والمراد به هنا دفع الضرر، والضمير هنا - كسابقيه في قوله: { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } - عائد إلى ما دلت عليه لفظة " نفس " الثانية وانما جمع لكون نفس نكرة في سياق النفي، والنكرات المنفية للعموم، وذكر لأنه بمعنى العباد أو الأناسي وانما كانت هذه الضمائر عائدة إلى " نفس " الثانية دون الأولى لأنها هي المقصودة بالتحذير والإنذار، ومعنى ذلك أن النفس العاصية لا تجد يومئذ نفسا أخرى تقضي عنها شيئا، ولو وجدتها لم يقبل منها قضاؤها، ولو جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها، وكذلك لو ما جاءت بعدل يفديها ثم لو التمست نصيرا يحميها من عذاب الله لم تجده، وقيل: إن الضميرين السابقين عائدان إلى نفس الأولى بخلاف هذا الضمير الأخير، ومعنى ذلك أن تلك النفس - كما أنها لا يقبل قضاؤها عن النفس العاصية - فكذا لا تقبل شفاعتها لها، ولا فديتها عنها، واعتمد هذا القول القطب - رحمه الله - في الهيميان، واستدل له بكون النفس الأولى هي العمدة والثانية فضلة، والأصل أن يعود الضمير الى العمدة دون الفضلات، وذهب في التيسير الى أن الضمير الأول للأولى والثاني للثانية، وسوغ ذلك في الهيميان كما سوغ عودهما معا إلى النفس الثانية للتناسب مع قوله: (لا ينصرون)؛ وجوز ابن عطية عود الضمير الى في قوله: (لا ينصرون) على النفسين المتقدم ذكرهما، لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس وهو جمع، وأنكر الألوسي الوجه الأول ووصفه بأنه ليس بشيء، كما ضعفه قطب الأئمة لاختصاصه بكون النفسين مشركتين أو فاسقتين أو فاسقة ومشركة، ثم قال لكن له وجه هو أن يكون المعنى أن الأخلاء على المعصية مع حب بعضهم لبعض في الدنيا لا ينصر بعضهم بعضا ولا ينصرهم المؤمنون، وأضاف إلى ذلك قوله: " والأولى إبقاء النفس على عمومها في المطيع والعاصي وعود الضمير في: ولا هم ينصرون للعصاة ".
وفي هذه التوجيه بعد وتكلف كأول توجيهي ابن عطية، وإنما يسوغ عوده على النفسين باعتبار ما في كل منهما من الدلالة العمومية، وحمل النصرعلى التوفيق لبلوغ المراد، فالنفس الأولى لا تبلغ مرادها في جدوى جزائها أو شفاعتها أو فديتها، كما أن النفس الثانية ليست ببالغة أمنيتها من إجداء ذلك لها ودرء العذاب عنها.
وفسر بعضهم النصر هنا بالانتقام كالذي في قوله:
ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا
[الأنبياء: 77]، وتوجيه هذا التفسير أنهم لا ينتقم لهم من الله - تعالى الله - للإثآر لهم مما أنزل بهم من العذاب.
وما ذكر هنا من عدم جزاء نفس عن نفس شيئا في ذلك اليوم.. الخ جاء منسقا حسبما عهد في هذه الدنيا من طرق الدفع عن الحميم عندما تنزل به كريهة من عدو قاهر فإن أول ما يبدأ به ذوو مودته أن يدفعوا عنه بما لهم من جاه ومكانه اجتماعية تجعل ذا القهر يتراجع عما كان ينويه بحميمهم، فإن لم يجدهم ذلك توسلوا إليه بلين القول ولطف الشفاعة ليسخو بالعفو مع قدرته على العقاب، فإن سد في وجوههم هذا الباب جادوا بالمال وبذلوا الفدية، فإن تعذر ذلك كله لجأوا الى التحالف على النصرة والتوسل بالعنف إلى ما لم يجد فيه اللطف، وقد آيس الله المجرمين من جدوى آية وسيلة من هذه الوسائل في تخليصهم من عقابه بعد أن تحق عليهم كلمته.
وقدم في هذه الآية نفي قبول الشفاعة على نفي أخذ الفيدة بخلاف آية (123) وذلك قوله:
ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة
وهذا الاختلاف في التعبير، انما هو بحسب اختلاف طبائع الناس في هذه الدنيا، فإن منهم من يكون أحرص على سلامة المال، ومنهم من يكون أحرص على استبقاء علو النفس والمحافظة على شرفها: فالصنف الأول يؤثرون التوسل بالشفاعات - في التخلص من المكاره - على بذل المال، والصنف الثاني يعدون المال فدية للشرف فيحرصون على عدم الضاراعة وطلب العفو المحض ما دام بذل المال يسد مسد ذلك، أفاد ذلك الفخر الرازي.
وجملة { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } صفة ليوم، والضمير العائد إلى الموصوف محذوف تقديره فيه، وقدره آخرون بدون الجار نظرا إلى أن الضمائر الرابطة بين الصفة والموصوف أو الصلة والموصول أكثر ما عهد حذفها إذا كانت منصوبة، وعليه، فقد حذف أولا الحرف الجار فانتصب الضمير واتصل بالفعل فعومل معاملة الضمائر المنصوبة في الحذف.
عدم جدوى الشفاعة لغير الصالحين
وهذه الآية - كما ترون - قاضية بعدم قبول الشفاعة يومئذ وهو الذي تقتضيه أختها آية (123) وإن عبر فيها ب " لا تنفعها شفاعة " لأن النفع ثمرة القبول ولازمه، فلو قبلت نفعت، كما أنها اذا لم تقبل لم تنفع، وهذه كلية من كليات العقيدة الإسلامية الحقة جاء بها القرآن في آيات متعددة ليثبت أن الإنسان يومئذ رهين عمله ولن يجني إلا ما زرع، وهو بذلك يقطع حبال الآمال على الكسالى الذين يمنون أنفسهم الجني من غير غرس، والراحة من غير نصب فيعطون أنفسهم هواها، فلا يصدونها عن حرمة، ولا يكلفونها واجبا آملين السعادة بشفاعة الشافعين، وبمجرد الانتماء الى الدين، وإن لم يكن له شيء مما يصدقه مما يعملون، وعقيدة الإسلام التي جاء بها القرآن والسنة الصحيحة الثابتة إنما تقوم على اعتبار استقلال كل فرد في التكليف، فلا ينفع فاسدا صلاح غيره، كما لا يضر صالحا فساد سواه، ومن هنا كان كل أحد مطالبا بإصلاح نفسه، وتقويم انحرافها، وحملها على الخير والنأى بها عن الشر، وإلا فلا يلومن غيره فإنه هو الذي جنى عليها، وبمجرد نظرة يلقيها اللبيب على آي القرآن الكريم يجد هذه الكلية الاعتقادية السليمة جلية بارزة، ومن أمثلة الآيات التي جاءت بها قوله تعالى:
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا
[النساء: 123]، وهذا خطاب لهذه الأمة، والسوء على اطلاقه فإنه نكرة في معرض الشرط، وقوله سبحانه:
من جآء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون
[النمل: 89-90]، وقوله:
من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها
[الأنعام: 160].
أما الشفاعة فقد ذكرت تارة بالنفي المطلق ، كما في قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة
[البقرة: 254]، والخطاب للمؤمنين كما ترون، وتارة بنفي قبولها ونفعها كما في هذه الآية ونظيرتها المشار إليها من قبل، وتارة مقيدة بإذنه تعالى كما في قوله:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
[البقرة: 255]، وتارة مخصوصة بالرضى وذلك قوله عز من قائل:
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
[الأنبياء: 28]، وتارة منفية عن الظالمين والمجرمين كما في قوله:
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع
[غافر: 18]، وقوله حكاية عن أهل النار:
فما لنا من شافعين
[الشعراء: 100]، ولا تنافي بين هذه الآيات فإنها عندما تنفي الشفاعة أو تنفي منفعتها أو قبولها لا تكون إلا واردة مورد التحذير من فعل محظور أو التقصير في واجب، وهو لا ينافي أن ينفع الله بالشفاعة عباده المرتضين التائبين مما قارفوا من السيئات.
وقد يعترض بأن التوبة نفسها مكفرة للذنوب فلا أثر للشفاعة معها؛ والجواب أن التوبة وإن كانت مكفرة بفضل الله ورحمته فإن مما تقتضيه توبة التائب استحقاق شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع له عليه أفضل الصلاة والسلام، فيتقبل الله توبته ويكفر سيئته، وقد تكون الشفاعة سببا في رفع منازل الصالحين عند الله يوم القيامة، وقد جاء في حديث جابر بن زيد عند الربيع رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا بعمل صالح وبرحمة الله وبشفاعتي "
فكما أن العمل الصالح يتوقف في اسعاد صاحبه على رحمة الله تعالى، فهو أيضا يتوقف على حصول الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من أسباب قبوله.
وذكر صاحب المنار أن الناس اختلفوا في أمر الشفاعة نظرا إلى ما تفيده بعض النصوص القرآنية من نفيها، وما جاء في بعضها من الاستثناء كقوله: { إلا بإذنه } ، وقوله: { إلا لمن ارتضى } ، فمن الناس من يحكم الثاني بالأول، ومنهم من يرى أنه لا منافاة بينهما، فنحتاج الى حمل أحدهما على الآخر لأن مثل هذا الاستثناء (أي الاستثناء بالإذن والمشيئة)، معهود في اسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للإشعار بأن ذلك بإذنه ومشيئته عز وجل، كقوله تعالى:
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء الله
[الأعلى: 6-7]، وقوله:
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شآء ربك
[هود: 107]، فليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها؟
الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك كان أراد غيره حكم به أم لا، فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع، فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن كان أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به، وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب منه على العدالة، وكل من النوعين محال على الله تعالى لأنه ارادته تعالى على حسب علمه، وعلمه أزلي لا يتغير.
وبعد هذا التحرير في أصل الشفاعة نقل عن شيخه الإمام محمد عبده قوله: " فما ورد في اثبات الشفاعة يكون على هذا من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وأنها مزية يختص بها الله من يشاء يوم القيامة، عبر عنها بهذه العبارة (الشفاعة) ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي ".
وأما مذهب الخلف في التأويل فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنها دعاء يستجيبه الله تعالى والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا، ففي رواية الصحيحين وغيرهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد يوم القيامة ويثني على الله بثناء يلهمه يومئذ فيقال له ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع " ، وليس في الشفاعة بهذا المعنى أن الله سبحانه يرجع عن ارادة كان أرادها لأجل الشافع وإنما هي إظهار كرامة الشافع بتنفيذ الإرادة الأزلية عقب دعائه، وليس فيها أيضا ما يقوي غرور المغرورين الذين يتهاونون بأوامر الدين ونواهيه اعتمادا على شفاعة الشافعين، بل فيه أن الأمر كله لله، وأنه لا ينفع أحد في الآخرة إلا طاعته ورضاه،
فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين
[المدثر: 48 - 49]،
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
[الأنبياء: 28].
ولا إشكال في ثبوت الشفاعة المشار إليها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تنافي كون الله تعالى لا تبديل لكلماته، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وإنما هي كما قيل دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف العظيم الذي تتقطع فيه الألسن عن ذكر ما يعني الغير، ولا تشتغل فيه القلوب إلا بما يهم أصحابها، وفي استجابة الله تعالى لدعائه عليه أفضل الصلاة والسلام دلالة على مكانته عنده وعنوان على قدره بين الناس.
هذا وقد ذكر الأستاذ الإمام أن اليهود الذين خوطبوا ببيان هذه الحقيقة كانوا - كغيرهم من أهل الجاهلية وأهل الملل الوثنية كقدماء المصريين واليونان - يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا فيتوهمون أنه يمكن تخلص المجرمين من العقاب بفداء يدفع بدلا وجزاء عنه - كما يستبدل بعض حكامهم منفعة مالية بعقوبة بدنية - أو بشفاعة من بعض المقربين إلى الحاكم يغير بها رأيه ويفسخ إرادته، ثم ذكر أن الإسلام اكتسح هذه العقائد وآثارها العملية بالتوحيد الخالص وأتى بنيانها من القواعد، ولكن المسلمين لم يسلموا منها فقد دخل في الإسلام أقوام يحملون أوزارا مما كانوا عليه من الوثنية، ولم يلقنوا الدين من القرآن، ولا كما أرشد القرآن، ولكنهم تقلدوه ممن لا يعرفه حق المعرفة، ولقنوه كما ترشد اليه كتب التقليد من مصطلحات مبتدعة، فكانوا على بقية مما كان عندهم وعلى جهل بالإسلام، وجاء قوم آخرون تعمدوا الإفساد فجعلوا بالتأويل الباطل حقا والكذب صدقا.
وبعد أن ذكر بعض العادات المصرية التي لا تزال يعمل بها باسم الدين وهي من إرث قدماء الوثنيين عطف العنان إلى ما كان اليهود يعتقدونه مكفرات كقربان الإثم، وقربان الخطئية وقربان السلامة، والمحرقة، والإكتفاء ممن لم يجد القربان بحمامتين يكفر بهما عن ذنبه. وقال: وكانوا يفهمون أن هذه الأشياء تكفر الذنوب بذاتها، والحق أنها عقوبات لا مكفرات ومن فهم التوراة حق فهمها يعلم أن المكفر الحقيقي هو التوبة والإقلاع عن الذنب، وإنما تقديم القربان يكون تربية وعقوبة.
ومن الظاهر لمن تدبر كلامه أنه يرى أن اعتقاد الشفاعة لمن مات مصرا على الكبيرة غير تائب منها من المعتقدات التي سرت الى هذه الأمة من معتقدات الأمم الأخرى الذين كانوا يسوغون لأنفسهم ارتكاب الموبقات، والإنغماس في أنواع الخطايا، ويمنون أنفسهم الفوز والسعادة بشفاعة الشفعاء، غير ملتفتين إلى وعيد الله تعالى.
القائلون بانتفاع أهل الكبائر بالشفاعة
وقد قال بثبوت الشفاعة لأهل الكبائر من هذه الأمة المرجئة والأشعرية والحشوية ومن حذا حذوهم، غير أنهم اختلفوا، فالمرجئة يرون أن المعصية لا تضر مع سلامة الاعتقاد أيا كانت بناء على أصلهم المشهور أن الإيمان قول بلا عمل، وأما الأشعرية والحشوية ومن حذا حذوهم فعندهم أن صاحب الكبيرة إما أن يعفو الله عنه أو يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم من العقاب رأسا، وإما أن يدخل النار بقدر ما يصفى من أكدار الخطايا ثم ينقل عنها إلى الجنة بعفو الله أو مع شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يخلد عندهم موحد في النار.
وذهب أهل الحل والاستقامة إلى أن من أصر على الكبيرة حتى مات عليها لا تجديه شفاعة أحد وأنه يصلى النار خالدا فيها، ووافقهم على ذلك المعتزلة والزيدية والخوارج، غير أن الخوارج لا يفرقون بين كبيرة الشرك وكبيرة الفسق، فكل صاحب كبيرة عندهم مشرك.
واستدل أصحابنا ومن وافقهم بهذه الآية وأمثالها، ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه تعالى نفى فيها قبول الشفاعة من أحد لأحد ولو قبلت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لذي كبيرة انتقض هذا المدلول المستفاد من هذا النص ويؤيد ذلك ما تقدمه من نفي جزاء نفس عن نفس شيئا، وما تبعه من قوله: { ولا هم ينصرون } ، إذ لو شفع صلى الله عليه وسلم لأحد من أولي الكبائر المستحقين لعقاب الله لكانت نفس جازية عن نفس وناصرة لها.
وأجاب من خالفهم بأن الخطاب في الآية لليهود فلا يدخل في وعيده المسلمون، وبأن الآية كما خصصت - باتفاق الكل - بجواز شفاعته صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في رفع درجاتهم عند الله لا يمنع تخصيصها بتجويز شفاعته عليه أفضل الصلاة والسلام لأهل الكبائر من أمته وإن ماتوا مصرين عليها.
والجواب عن الأول بأن كون الخطاب في الآية لليهود لا يقضي بأن ما ذكر فيها من صفة ذلك اليوم لا يشمل غيرهم فإنهم حذروا يوما ذلك شأنه عندهم وعند غيرهم، ولو خصص ما جاء في وصفه بهم لم يدخل في وعيده المشركون والملاحدة، وهو مما أجمع على خلافه، واذا كان التحذير من شر ذلك اليوم في هذه الآية موجها إلى اليهود، فقد وجه نظيره إلى المؤمنين في قوله عز من قائل:
يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة
[البقرة: 254]، فلو كان تحذير أحد من أمر يعني خصوصيته بذلك المحذر منه لكانت هذه الآية دليلا على خصوصية عدم البيع والخلة والشفاعة في ذلك اليوم بالمؤمنين.
ومما يدعو إلى الاستغراب التناقض الغريب بين كلامي الفخر الرازي فهذا الموضوع، فبينما نجده يقول: " إن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الانسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة، فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة، ومن فوت التوبة من حيث أنه لا يقين له في البقاء صار حذرا خائفا في كل حال، والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم ".
إذا به يجادل بغير هدى من الله مدعيا أن نفي الشفاعة خاص بغير المؤمنين وأعجب من ذلك دعواه أن قوله تعالى:
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة
[البقرة: 254]، محمول كذلك على هذه الخصوصية، متعاميا عن افتتحاه ب { يأيها الذين آمنوا... } ، وقد كان الجدير بأمثاله من أولي الأقدام الراسخة في العلم والفهم أن لا ينثنوا عن الحقيقة إلى الوهم وأن يترفعوا عن التعصب إلا للدليل نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
والجواب عن الثاني أن ما ذكروه من ثبوت شفاعته صلى الله عليه وسلم الرافعة لدرجات المؤمنين لا يتعارض مع ما دلت عليه هذه الآية حتى يعد مخصصا لها فإن ذلك إنما هو في قوم وفوا بما عليهم من الواجب واحترزوا من المهلكات وتداركوا أمرهم بالتوبة والإفلاع عن مساخط الله تعالى، فليست الشفاعة دارئة عنهم عقابا استحقوه، وإنما غاية ما في الشفاعة لهم طلب أن يزيدهم الله فضلا على فضله الذي آتاهم من قبل أما هذه الآية وأمثالها فهي ناصة على أن كل أحد مجزى بحسب ما عمل، فلا تدرأ الشفاعة عن أحد عقابا استحقه، ولذلك صدرت بالأمر باتقاء ذلك اليوم.
هذا وأجاب صاحب الانتصاف - منتصرا للقول بثبوت الشفاعة لأهل الكبائر - بأن ليس في الآية دليل لمنكريها لأن قوله " يوما " أخرجه منكرا ولا شك أن في القيامة مواطن ويومها معدودة بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى:
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون
[المؤمنون: 101]، مع قوله:
وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون
[الصافات: 27، الطور: 25]، فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين متغايرين أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس محلا له، وكذلك الشفاعة.
وقد أعجب بهذا الجواب كثيرة من المفسرين وعدوه حجة ساطعة تتلاشى أمامها شبهات المعاندين، وما هو - لعمري - إلا
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا
[النور: 39]، فيوم القيامة يوم واحد إذ لا يعقب نهاره ليل ولم يأت أبدا في الكتاب والسنة ما يدل على أنه أيام متعددة.
ولو كان - كما قال - أياما منها ما تقبل فيه الشفاعة، ومنها ما لا تقبل لما كان لهذا التحذير في هذه الآية وأمثالها معنى لطمأنينة كل أحد أنه إذا لم يدرك الشفاعة في يوم أدركها في آخر، فلم القلق الحذر؟ ونحن نسلم أن ذلك اليوم تتعدد فيه المواقف ولكن لا نسلم أن موقفا من تلك المواقف يكون فيه ما نفاه الله عنه من جدوى الشفاعة لمن لم يعمل صالحا، ولو كان الأمر كما قال لزم أيضا جزاء نفس عن نفس وقبول العدل عنها ونصرتها على باطلها في بعض تلك المواقف كما جاز حصول الشفاعة المنفية مع هذه الأمور وجدواها للفساق في بعض مواقف ذلك اليوم.
أما ما استدل به من نفي التساؤل وإثباته فهو لا يدل بحال على مدعاه إذ التساؤل المنفي في آية (المؤمنون) هو تساؤل التواد والتعاطف والتراحم، والتساؤل المثبت في آية الصافات هو تساؤل التلاوم والتشاقق والتلاعن، وأين هذا من ذاك؟
واستدل كذلك النافون بقوله تعالى:
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع
[غافر: 18]، ووصف الظالم يصدق على المشرك والفاسق، فإن الله سمى القتال في الأشهر الحرم ظلما حيث قال:
فلا تظلموا فيهن أنفسكم
[التوبة: 36]، وحكى عن آدم وحواء قولهما:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف: 23]، وعن يونس قوله:
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
[الأنبياء: 87]، وعن موسى قوله:
رب إني ظلمت نفسي
[القصص: 16]، وهم - قطعا - لم يقعوا في الشرك ولم يريدوه في هذا الإعتراف.
أما ما جاء به الفخر الرازي من أن الآية محمولة على سلب العموم لا على عموم السلب فينقضه أن الآية نزلت تهديدا للظالمين لا نفيا لأن يكونوا جميعا ناجين بشفاعة شفيع أو نصرة حميم، ولو كانت لسلب العموم لما كان للتهديد موضع إذ لكل ظالم أن يمني نفسه بأنه غير داخل في هذا السلب، وأن الشفيع والحميم المطاعين غير منفيين بالنسبة إليه شخصيا ولو جاز حمل هذه الآية على هذا التأويل لم يبق تعلق بالأحكام العمومية المستفادة من النفي الداخل على الجموع ولكان نحو قوله تعالى:
ولا تكن مع الكافرين
[هود: 42]، لا يدل إلا على النهي عن الكون مع جميع الكافرين، وعدم المنع من الكون مع بعضهم؛ ولاستفيد من قوله تعالى:
ولا تكن للخآئنين خصيما
[النساء: 105]، النهي عن مخاصمته صلى الله عليه وسلم عن جميع الخائنين دون بعضهم، وهكذا في سائر الآيات المماثلة لهذه.
ومثل هذه الآية في الدلالة على نفي الشفاعة للظالمين، وفي الإيراد المذكور والرد عليه قوله تعالى:
وما للظالمين من أنصار
[آل عمران: 192].
ومن أدلة ذلك قوله تعالى:
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
[الأنبياء: 28] ووجه الاستدلال بها أن الله تعالى نفى شفاعة الملائكة إلا لمن ارتضى من عباده وكذا الأنبياء لعدم الفارق يبنهم، والله لا يرتضي إلا الأبرار دون الفجار، وأجاب الفخر الرازي بأن صاحب الكبيرة مرتضى عند اله بما في قلبه من الإيمان وبهذا عد الفخر هذه الآية من أدلة القول بالشفاعة لأهل الكبائر.
وما أبعد هذا الجواب عن جادة الصواب، كيف يكون مرتكب الكبيرة مرتضى عند الله وهو ممقوت عند الله وملعون - إن لم يتب - بنصوص الكتاب والسنة، فالله تعالى يقول:
ألا لعنة الله على الظالمين
[هود: 18]، وقد علمتم أن مرتكب الكبيرة ظالم لنفسه، ويقول تعالى في قاتل النفس المؤمنة:
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
[النساء: 93]، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لعن الربا وآكله ومؤكله وكاتبه وشاهده "
وفي الحديث أيضا:
" لعن الله المحلل والمحلل له "
وفي رواية
" لعن الله التيس المستعار "
وفي حديث آخر:
" من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان "
ونحو هذا في الكتاب والسنة كثير يدركه من تأمله، فكيف يسوغ مع ذلك القول بأن هذا الذي باء بلعنة الله وغضبه مرضي عند الله؟ وهل هذا إلا من باب التشجيع على انتهاك الحرمات وارتكاب الموبقات ما دام مرتكبها واثقا أنه سيؤول الى رضوان الله تعالى وسيحظى بشفاعة ملائكته، وسيتبوأ مقعد صدق في بحبوحة جنته؟
هذا وقد استفاضت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على براءته عليه أفضل الصلاة والسلام من مرتكب الكبائر منها حديث الحوض وفيه
" وليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال فأناديهم ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقا فسحقا "
ومنها قوله فيمن أعان امراء الظلم:
" ليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض "
ومنها قوله:
" لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك "
وقوله:
" ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجرته "
وقد اشتد تحذيره صلى الله عليه وسلم لذوي قرباه من الاغترار بهذه القرابة والاتكال عليها وأن يأتيه الناس بأعمالهم ويأتوه هم بأنسابهم حتى قال لعمته صفية وفلذة كبده فاطمة رضي الله عنهما:
" يا صفية عمة محمد ويا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئا "
وهل يبقى بعد هذه النصوص القاطعة مجال للمماحكة في هذا الأمر وقد وضح الصبح لذي عينين، ولم تعد الحقيقة في خفاء عن الأبصار.
ولعمري لئن كانت شفاعته صلى الله عليه وسلم للمصرين على الكبائر كان كل أحد من أمته يتمنى ويدعو بأن يموت على الإصرار إذ ما من أحد إلا ومن أمنيته ودعائه أن يكون من أهل شفاعته عليه أفضل الصلاة والسلام.
واستدل القائلون بصحة الشفاعة لأهل الكبائر بما لا يفيدهم شيئا، من ذلك قوله عز وجل حكاية عن عيسى عليه السلام:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
[المائدة: 118]، وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
[ابراهيم: 36]، وذلك أنهم قالوا ان هذه شفاعة من النبيين الكريمين عليهما السلام، وهي لا تكون للكفار لعدم أهليتهم لها ولا للمسلم المطيع أو التائب من معصيته لحصول المغفرة لهما دونها فلا محل لها الا صاحب الكبيرة غير التائب، واذا كانت هذه الشفاعة من النبيين الصالحين الكريمين لأهل الكبائر من أمتهما، فأحرى أن يكون مثلها لصاحب الرسالة العظمى واللواء المعقود صلى الله عليه وسلم في أمته.
والجواب أن ما قاله النبيان الكريمان - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما - لا يعدو أن يكون تسليما منهما لأمر الله، ووقوفا عند حدهما، فالمخلوق وإن ارتقى الى أوج الاصطفاء الإلهي ليس له من الأمر شيء، ولو سلمنا أن هذه شفاعة منهما فمن أين لهم أنها تقبلت عند الله وأنه عفى بسببها عن صاحب كبيرة لم يتب منها، ثم من أين لهم خصوصية هذه الشفاعة المزعومة بمن قارف ما دون الشرك من الكبائر مع أن سياق حكاية ما قاله النبيان عليهما السلام في القرآن تدل على خلاف هذا الزعم فالآيتان السابقتان على ما حكى عن عيسى في سورة المائدة صريحتان في كون الذين يعنيهم المسيح عليه السلام في هذا القول هم الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، والآيتان هما قوله عز وجل:
وإذ قال الله يعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا مآ أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد
[المائدة: 116- 117]، وأما المحكى عن الخليل عليه السلام فإنما هو في عبدة الأصنام بدليل ما سبقه وهو قوله عز من قائل:
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
[ابراهيم: 35-36]، فلو كان في الآيتين موضع للاستدلال لما قالوه كانتا أدل على الشفاعة لمن اتخذ مع الله إلها آخر على أنهما لو كانتا نصا في الدعاء بالمغفرة لما كان في ذلك دليل على قبول الشفاعة، كيف وقد حكى الله عن الخليل عليه السلام أنه استغفر لأبيه ومع ذلك لم يغفر له، وقد بين سبحانه داعية هذا الاستغفار في قوله:
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم
[التوبة: 114].
ومنه قوله تعالى:
لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا
[مريم: 87]، ووجه استدلالهم به أن مرتكب الكبيرة قد اتخذ عند الله عهدا بتوحيده وإسلامه.
وجوابه أن هذا العهد قد نقضه صاحبه بمعصيته لله، فإن من مقتضيات التوحيد والإسلام الاستسلام التام لأمره، والانقياد المطلق لحكمه، وذلك لا يجتمع مع الإصرار على معصيته.
ومنه قوله تعالى في الكفار:
فما تنفعهم شفاعة الشافعين
[المدثر: 48]، ووجه الاستدلال به أن منطوق الآية دال على حرمان الكفار من نفع الشفاعة لهم، ومفهومها يقتضي ثبوتها لغيرهم وهم أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
وجوابه أن مفهوم المخالفة مختلف في الإستدلال به في الأمور العملية فكيف يكون حجة في القضايا الاعتقادية، وهي لا تنبني إلا على اليقين، فلا تستفاد إلا من قواطع الأدلة دون ظنياتها، ومع ثبوت الاستدلال به فلا بد من استيفائه شروطا معينة، منها: أن لا يكون المنطوق جاريا مجرى الأغلب المعتاد، وأن لا يكون جوابا لسائل أو تعليما لجاهل، ولو كان مثل هذا المفهوم حجة في مثل هذا الباب لكان الوعيد على أي كبيرة حجة في انتفاء الوعيد عما عداها، فيكون نحو قوله تعالى:
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم
الآية [النساء: 93] حجة على أن غير القاتل لا يصلى جهنم ولو أشرك بالله، وهكذا.
وإن تعجب فاعجب من الفخر الرازي الذي تشبث بأمثال هذه التلفيقات ظانا أنها حجة مثبتة للمطلوب مبكتة للخصم مع أن أصله أن جميع الحجج السمعية ليست حججا قطعية لأن النقل اللغوي ليس تواتريا، ونحن وإن كنا لا نسلم لهذا الأصل فإنا نعجب لهذا التناقض بينه وبين أسلوبه في الاحتجاج.
ومنه قوله تعالى:
واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات
[محمد: 19]، ووجه استدلالهم به أن الله تعالى أمر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وصفة المؤمن تصدق على مرتكب الكبيرة.
وجوابه أن الإيمان المعتد به عند الله هو الإيمان الخالص الذي لا يشوبه إصرار على العصيان، وقد سبق بيان ذلك مع ذكر جانب من الأدلة التي تقتضيه في تفسيره قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب }. ولو كان الإيمان المفهوم هنا هو مجرد التصديق ولو لم يقترن به عمل لما عذب الله أحدا بكبيرة غير الشرك، وذلك ينافي ما جاء من الوعيد على أنواع مختلفة من المعاصي.
ومنه قوله تعالى:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ
[النساء: 86]، وقد أمر الله المؤمنين أن يحيوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصلاة والتسليم في قوله:
يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
[الأحزاب: 56]، فلم يكن بد من الرد وما هذا الرد إلا دعاؤه صلى الله عليه وسلم لهم بالرحمة، ودعاؤه مستجاب، فثبتت بذلك شفاعته لهم.
وجوابه أن دعاءه عليه أفضل الصلاة والسلام أعم من أن يكون بالرحمة فحسب، فقد يكون بها أو بالهداية، والرحمة لا يلزم أن تكون أخروية على أن القضايا الاعتقادية لا تثبت بالاستنباط وإنما تثبت بالأدلة القطعية كما تقدم، وأين النص القطعي هنا؟
ومنه قوله تعالى:
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما
[النساء: 64]، ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى لم يذكر فيها التوبة، وهي دالة على أنه صلى الله عليه وسلم متى استغفر للعصاة والظالمين غفر الله لهم وهذا يدل على قبول شفاعته لأهل الكبائر في الدنيا وكذا في الآخرة لعدم الفرق.
وجوابه أن استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم مشروط في الآية باستغفارهم لأنفسهم واستغفارهم هو عين التوبة، فمن أين أنهم يغفر لهم مع معصيتهم وظلمهم من غير أن يتوبوا؟
ومنه قوله سبحانه:
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا
[غافر: 7]، ووجه استدلالهم به أن مرتكب الكبيرة من جملة المؤمنين فهو داخل في الذين تستغفر لهم الملائكة، وإذا جازت له شفاعة الملائكة جازت له شفاعة النبيين.
وجوابه أن الإيمان الصحيح لا يجامع الإصرار على المعصية، فالمؤمنون الذين تستغفر لهم الملائكة هم:
الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم
[آل عمران: 135]، على أن في تتمة نفس الآية التي استدلوا بها بيان وصف المؤمنين الذين تستغفر لهم الملائكة وذلك قوله عز وجل:
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك
[غافر: 7]، وهل من اتباع سبيل الله الإصرار على الكبائر وعدم المبالاة بحرمات الله تعالى؟
أما قول الفخر " ان هذا لا يقتضي تخصيص ذلك العام لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ العام إذا ذكر بعده بعض أقسامه فإن ذلك لا يوجب تخصيص ذلك العام بذلك الخاص " ، فهو مردود بأنه ليس في هذا تخصيص لعموم وإنما هو حكاية لنص استغفار الملائكة، ويستفاد منه - كما يستفاد من سائر الأدلة - أن المؤمنين حقا هم الذين لا يحالفون المعاصي، فإذا وقعت من أحدهم هفوة بادر إلى التوبة والاستغفار.
ومنه الأحاديث المروية في الشفاعة كحديث:
" شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "
وحديث:
" ما ادخرت شفاعتي إلا لأهل الكبائر من أمتي ".
وجواب ذلك أن هذه الأحاديث رواياتها آحادية فلا تفيد الا الظن في مدلولها، والاعتقاد ينبني على اليقين دون الظن، فلذلك لا يكون إلا ثمرة النصوص المتواترة دون الظواهر القابلة للتأويل ولو تواترت، ودون ما كان طريق روايته آحاديا وإن يكن نصا على أن ظاهر هذه الروايات الذي استندوا إليه متعارض مع النصوص القاطعة من الكتاب، وهي لا تقوى - لا من حيث المتن ولا من حيث الدلالة - على معارضة هذه النصوص، فيجب إما إسقاطها وإما تأويلها بما يتفق معها وذلك أن يحمل المراد من قوله عليه أفضل الصلاة والسلام:
" شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "
على التائبين ممن قارف الكبائر دون المصرين، فهو عليه أفضل الصلاة والسلام يشفع لهم عند الله لأجل قبول توبتهم وحط أوزارهم، وعليه فيتضمن قوله صلى الله عليه وسلم ذلك حضهم على التوبة وإطماعهم في المغفرة، وإبعاد القنوط عنهم، ومثل هذا قوله تعالى:
قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم
[الزمر: 53]، فإن المراد به الترجية في المغفرة مع التوبة لا مع الإصرار على الذنوب بدليل ما وليه من حض على الإنابة، وتحذير من الإصرار في قوله:
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يحسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين
[الزمر: 54-58]، وإطلاق اللفظ مع قصد تقييد معناه معهود عند العرب مع القرائن الدالة على المراد وفي القرآن والحديث نصيب وافر منه، ولو كان المراد من حديث " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " ما فهموه منه لكان في ذلك إغراء منه صلى الله عليه وسلم وأي إغراء على المعصية - حاشا وكلا - كيف وهو الذي أمر فلذة كبده فاطمة رضي الله تعالى عنها أن تشتتري نفسها من الله وأخبرها أنها لا يغني عنها من الله شيئا.
وما أبدع ما قاله العلامة صاحب المنار في الذين يجترئون على الله بالمعصية متكلين على العفو والشفاعة، وإليكم نص قوله:
" إن مثل من يقترف السيئات معتمدا على العفو والشفاعة كمثل من يرتكب الجرائم في ملأ من الناس، وعلى رؤوس الأشهاد متعرضا لقبض الشرطة عليه وسوقه الى المحكة لتحكم عليه بعقوبة الجريمة اعتمادا على أن الأمير أو السلطان قد يعفو عنه بعد الحكم عليه بالعقوبة، ومثل هذا لا يختلف اثنان في حمقه والله تعالى قد بين لنا شرط نفع الأعمال الصالحة في مغفرة الذنوب، وهو اقترانها بالتوبة الصحيحة كقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين:
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك
الآيات [غافر: 7]، وقوله:
ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا
[الفرقان: 71] وقوله:
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى
[طه: 82]، وأما الشفاعة فحسبك قوله فيها: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } مع الجزم بأنه تعالى لا يرضى بالكذب ولا بغيره من الجرائم ومن يأذن تعالى له بالشفاعة لا يعلمهم غيره عز وجل ".
وقبل كلامه هذا سرد ملخص ما قاله الأستاذ الإمام في الذين يستخفون بوعيد الله ويجترئون على محارمه - كالكذب - اتكالا على سعة عفو الله وما يعتقدونه من المكفرات كالاستغفار قبل النوم مائة مرة وقول كذا من الذكر بعد صلاة الصبح كذا وكذا مرة مع نسيان سبب المغفرة الحقيقي وهو التوبة النصوح والرجوع إلى الله تعالى، وجاء في آخر كلامه ما نصه: " وكيف نترك ما جاء عن الله في كتابه وعلى لسان نبيه من النصوص الدالة على أن لعنة الله مسجلة على الكاذبين، وهي بعمومها لا تدع لوهم مجالا في نزول سخط الله بالكاذب، ثم نخترع لأنفسنا تعلة نتوكأ عليها في ارتكاب هذه الجريرة ونسندها إلى سعة عفو الله أو إلى مجمل من القول لا يبينه إلا تلك النصوص القاطعة؟ إن هذا الإ خبال أو تصوير خيال أو فقد للإيمان بصحة تلك النصوص القاطعة، نعوذ بالله ".
ومسألة الشفاعة لأهل الكبائر لها علاقة قوية بمسألة أخرى شغلت ألباب الناس وعنى بها الكاتبون من المتكلمين والمفسرين، وهي مسألة خلف الوعيد، فالقائلون بسقوط عقوبات الكبائر بسبب الشفاعات سوغوا إخلاف الله لوعيده، بل قالوا بوقوع ذلك وعدوه من آثار الكمال الإلهي لأنه دال - عندهم - على سعة الحلم وواسع الإحسان، والقائلون بخلاف ذلك لا يسوغون إخلاف الوعيد كما لا يسوغون إخلاف الوعد، ويعدون وصف الله به جهلا بكماله الذاتي ومقامه الإلهي، ذلك لأن إخلاف الوعيد لا ينفك عن الدلالة إما على البداء والجهل، وإما على الكذب تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وبيان ذلك أنه تعالى لا يخلوا حال الوعيد إما أن يكون عالما بأنه لن ينجزه وإنما توعد بما توعد به لمجرد الردع والكف عن المخالفة، وهذا هو الكذب بعينه، وهو غير لائق بأصحاب الشيم والإباء من البشر فكيف يليق برب العالمين؟ وإما أن يكون غير عالم بما سيحدث من موجبات الإخلاف وإنما انكشف له من بعد ما كان منطويا عنه من قبل فرأى الإخلاف أولى من الإنفاذ، وهو - كما ترى - يستلزم - لا محالة - الجهل وبدو البدوات - تعالى الله وجل عن ذلك - ولئن ساغ هذا من المخلوق العاجز الجاهل فإنه لا يسوغ بحال من الخلاق العليم الذي وسع كل شيء قدرة، وأحاط بكل شيء علما.
وبجانب هذه الدلالة العقلية على استحالة اخلاف الله لوعيده فإن الأدلة النقلية تعضدها، منها قوله تعالى:
لا تبديل لكلمات الله
[يونس: 64]، وقوله:
إن الله لا يخلف الميعاد
[آل عمران: 9]، وقوله:
ما يبدل القول لدي ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق: 29]، وهو نص في الموضوع لأنه مترتب على قوله من قبله:
لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد
[ق: 28]، وقد استقر عند الأصوليين أن العمومات إذا ترتبت على أسباب خاصة تعد قواطع بالنسبة إلى تلك الأسباب.
وقد أبعد المخالفون النجعة حيث قاسوا في هذه القضية شأن الحق على أحوال الخلق إذ حسنوا إخلاف الله لوعيده نظرا إلى ما تعورف به بني الناس من أن تراجع المتوعد عما توعد به يعد من مكارم الأخلاق ومحاسن الخلال حتى أنهم استدلوا على إخلاف وعيد الله بقول الشاعر:
ولا يخشى ابن العم ما عشت صولتي
ولا أنا أخشى صولة المتمردي
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
واعترضوا بعدم جواز قياس الكمال الإلهي المطلق على الكمال البشري المحدود، فإن استحسان خلف الوعيد من الناس إنما لأجل ما يطغى عليهم حالة الغضب والانفعال من العواطف الرعناء التي تؤدي بهم الى التهديد والوعيد بالعقوبات المفرطة، ولا غرو أن يعد التراجع عنها - بعد تحكيم منطق العقل وهدوء سورة الانفعال - من الخصال المحمودة والفضائل المستحسنة، والله تعالى مبرأ عن كل ذلك، فلا يصح حمل شأنه على شأن خلقه، على أن إخلاف الوعيد قد يكون مذموما حتى لو كان من قبل البشر، ألا ترون أن الحاكم الذي يتوعد المجرمين بالعقوبات الرادعة ثم ينثني عنها لا يعد انثناؤه من المحامد لما يترتب عليه من التشجيع على الإجرام، ولذلك مدحت العرب من ينجز الوعيد كما مدحت من يخلفه، ومن ذلك قول الشاعر:
إن أبا خالد لمعتدل الرأ
ى كريم الأفعال والبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا
يبيت من قراه على فوت
وقد اعترض أبو عثمان النهدي بهذين البيتين على أبي عمرو ابن العلاء عندما احتج عليه بالبيتين السابقين على جواز اخلاف الله لوعيده.
والقول بخلف الوعيد يفضي إلى الاستخفاف بالأوامر والنواهي وعدم المبالاة بانتهاك الحرمات وتضييع الواجبات ما دامت النفس طامعة في تبديل الوعيد بخلاف ما إذا كانت قاطعة بإنجازه، ولذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر بالقرآن من يخشى وعيد الله لجدوى التذكير فيهم:
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد
[ق: 45].
[2.49]
شروع في تفضيل النعم بعدما ذكرت مجملة في لفظ (نعمتي) المفيدة للاستغراق، لأن تعريف اسم الجنس بأل أو الإضافة دال على قصد جميع أفراد مدلولاته، وقبل الشروع في هذا التفصيل ذكروا بنعمة كبرى تعد أساسا لهذه النعم - وهي تفضيلهم على العالمين - وذلك لأجل تحريك هممهم الخاملة عن الخير وإثارة عزائمهم المتوانية عن الحق كما سبق تفصيله.
وقصة تنجية بني إسرائيل من عذاب فرعون وآله، وإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض جاءت مفصلة في القرآن المكي السابق نزوله على هذه السورة، وإنما ذكرت هنا عرضا لقصد التذكير، والقرآن الكريم - كما قلت من قبل - ليس هو كتابا تأريخيا معنيا بعرض أحداث الزمن وقضايا التأريخ وإنما هو كتاب دعوة يخاطب الإنسان من حيث هو إنسان، وبما أن كل جيل من هذا الجنس هو حلقة في سلسلة الأجيال المتعاقبة منذ خلق الإنسان وإلى نهاية وجوده في هذه الأرض كان جديرا أن تستفيد هذه الأجيال من جميع الأحداث التي مرت بمن قبلها، فإن السنن الكونية التي تحكم الإنسان - بمشيئة الله - لا تتبدل، فأسباب الفوز والنجاح والاستقرار والاطمئنان وأسباب الفشل والاضطراب والذمار هي هي لا تختلف باختلاف العصور.
دعوة الاسلام إلى النظر في أحوال الأمم
وإذا كانت جميع الأحداث جديرة بأن يستفاد منها فإن أولى ما يستفاد منه تلك الأحداث التي مرت بصفوة خلق الله من النبيين والمرسلين وهم يبلغون رسالات الله ويؤدون أماناته إلى أممهم وما يترتب على ذلك من تكذيب الأمم لهم واعتراضهم عليهم ووقوف المتكبرين في وجوههم وقطعهم السبل عليهم وما تسفر عنه المعركة - بعد جهد دائب وعناء طويل - من انتصار الحق وانهزام الباطل:
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
[يوسف: 111].
وما أحق هذه الأمة التي أنزل عليها القرآن وأكرمت بخاتم رسل الله عليه أفضل الصلاة والسلام أن تعتبر - وهي تتلو كتاب ربها - بكل ما جرى على الأمم من قبلها في حال برها وفجورها، وشكرانها وكفرانها، واجتماعها وتشتتها، فإن سنن الله لا تتبدل:
ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الأحزاب: 62]، وما أجدرها بالإطلاع على سنن الاجتماع في الأمم السابقة والمعاصرة لها ذلك لأنها أمة دعوة، وصاحب الدعوة مضطر الى الاستفادة ممن سبقه في هذا المضمار، ومضطر إلى معرفة أحوال الناس ودراسة أوضاعهم ليدرك كيف يدعو بينهم ويصل الى إقناعهم، وحسبنا دليلا على ذلك أن الله تعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم في بداية تأريخ الدعوة بمكة المكرمة والمؤمنون قلة تنشب فيهم مخالب الجاهلية وأظفارها، أنزل عليه نبأ ما يجري في العالم من أحداث آن ذاك وأنبأه بما وصل إليه العراك الطويل بين الدولتين الكبريين السائدتين في العالم المتحضر يومئذ من انتصار دولة فارس الشرقية على دولة الروم الغربية وما سيعقب هذا الانتصار من انتصار معاكس لم يكن أحد يسحب له حسابا أو يفكر فيه، وذلك قوله عز من قائل:
غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشآء وهو العزيز الرحيم
[الروم: 2-5].
وكفى بهذا شاهدا بعالمية هذا الدين وعالمية الدعوة إليه وأن على رجاله أن لا يكونوا حبساء متقوقعين في محيط ضيق، بل عليهم أن ينطلقوا في أرجاء الأرض ويكتشفوا ما يدور لدى أممها وشعوبها وإلا فما كان الداعي لأن ينزل قرآن - يتلى في الصلوات ما دامت حياة على الأرض - لينبئ آحادا أو عشرات من المؤمنين بنبأ عالم هم بمنأى عنه وليست بينهم وبينه علاقة دينية ولا سياسية مع كونهم قد أهمتهم أنفسهم بما يلقونه من التحدي ويكابدونه من المشاق لولا أن الله أراد أن يهيئ نفوسهم ويعد كواهلهم للاضطلاع برسالة عالمية ومهمة إنسانية لا تختص بشعب دون شعب، ولا أرض دون أخرى.
وقد أدرك السلف الصالح حاجة الدعوة إلى دراسة أوضاع الناس السياسية والاجتماعية، فكانوا لا يألون جهدا في البحث والتنقيب عما يفيدهم ويفيد دعوتهم من ذلك ليكونوا على خبرة مما يأتون ويذرون، وعلى بينة مما كانت تفرزه الأحداث من نتائج يمكن تداركها بوسيلة أو أخرى، أو يمكن استغلالها لمصلحة الحق والدعوة إليه، وحسبي أن أذكر نموذجا حيا من تلك الشخصيات السلفية الفذة التي كان لها دور تأريخي لا تغيره الأحداث ولا يمحوه الزمن، ذلكم هو الإمام العملاق أبوعبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي رضي الله تعالى عنه الذي لم يمنعه الإرهاب الأموي مع ما ابتلي به من فقر وضعف وعمى أن يشتغل بأحوال الناس ويعنى بقضايا المسلمين، ويكل إلى الحجاج من تلامذته ومريديه أن يلتقوا بإخوانهم المسلمين الوافدين إلى رحاب بيت الله العتيق من أنحاء المعمورة، ويكتشفوا منهم ما يعانونه من مشكلات ويقاسونه من الإرهاب والظلم، أو ما عرفوه بالسماع من أحوال غيرهم، وكان أولئك التلامذة والمريدون يجمعون حصيلة هذه المعلومات بعدما يلتقطونها من الأفواه فينقلونها الى شيخهم الكبير وقائدهم المحنك ليدرس الأحوال كأنه ينظر اليها من كثب في وقت لم تكن تعرف فيه وسيلة من وسائل الإعلام إلا تناقل الألسن للأحداث وسير الركبان بأخبارها ، ولم يكن يألوا جهدا أن يفكر في حل لكل مشكلة وعلاج لكل مشكلة وعلاج لكل معضلة؛ فعندما علم بما كان المسلمون البربر في بلاد المغرب يعانون من قسوة ولاة بني أمية الذين لم تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلا، وما كانوا يفكرون فيه من وسائل التخلص من هذا العسف والظلم أرسل إليهم على الفور أحد رجاله الأفذاذ - سلمة بن سعد رحمه الله - الذي لم يتردد لحظة في قبول أوامره قائده والقيام بما وكله إليه على أحسن وجه حتى نتج عن ذلك قيام تلك الدولة العادلة التي أذاقت أبناء تلك المنطقة لذة العدل بعدما تجرعوا مرارة الظلم.
وبما أن السلف كانوا أغزر فهما لكتاب الله وأكثر دراية بمراشده استفادوا بتلاوتهم إياه من النواحي الاجتماعية كما استفادوا من الناحية الدينية، فقد أثار في نفوسهم الهمة والرغبة في فهم أوضاع البشر والإطلاع على عجائب الأرض والتفكر في سنن الكون، وقد أدى بهم ذلك إلى التضحية بجزء ثمين من وقتهم لأجل هذه الغاية، ومن أمثال هؤلاء الإمام أبويعقوب يوسف بن ابراهيم الوارجلاني الذي تحمل المشاق وصبر على وعثاء السفر حتى توغل في أعماق افريقيا السوداء لأجل الوقوف على خط الاستواء والاستفادة في أقيسة الطول والعرض فكان رائدا في هذا العلم وعلما من أعلامه كما كان علما من أعلام الشريعة.
وقد سبق ابن خلدون صاحب العبر الأوربيين بقرون في دراسة أصول الاجتماع وقواعد العمران، فكانت عبره مرجعا لجميع عشاق هذا العلم.
وقد بلغت عناية السلف بالعلوم الإنسانية أنهم كانوا ينقلون الأحداث والتواريخ بالأسانيد كما ينقلون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما ساء فهم الناس للقرآن وأخذا يتلونه للأسجاع والأنغام لا للاستفادة بفهم مراشده ودراسة مقاصده زهدوا في هذه العلوم فصاروا أكثر الناس تخلفا فيها حتى أن من يعنى بها من أبنائهم لا يتلقاها إلا من الغربيين وبحسب المفاهيم التي يعتقدونها والأساليب التي يتبعونها، فلذلك أصبحنا أكثر الناس إفلاسا في تأريخ أنفسنا فضلا عن تأريخ غيرنا.
هذا وقد سبق الكلام في (إذ) وذكر جانب من اختلاف النحويين فيها في مثل هذا المقام في تفسير قوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا }. وبناء على ما اخترته هناك من جواز نصبها على المفعولية، فهي هنا معطوفة على مفعول (اذكروا) - وهو (نعمتي) - وهو من باب عطف الشيء على ما يصح إبداله منه، وجعل الزمن نفسه مذكورا مع أن المقصود بالذكر أحداثه لأن ذلك أبلغ في الدلالة على عموم هذه الأحداث، ولا يمنع توسط: { واتقوا يوما... } الآية بين المعطوف والمعطوف عليه من العطف لأنه ليس أجنبيا من كل وجه ولأن المعطوف والمعطوف عليه ليسا كالعامل والمعمول ومع ذلك يفصل بينهما في كثير من الحالات.
والتذكير بالنعمة مقرونا بذكر البلاء ليكون أبلغ وقعا في النفس فإن كل نعمة لا يقدرها قدرها إلا من سلبها، فنعمة الغنى لا يعرف كنهها إلا من يكابد مشقة الفقر، ونعمة الصحة لا يدرك حجمها إلا من يعاني من بلوى المرض، ولذة النعيم لا يدريها إلا من تذوق آلام البؤس، وقد أريد لهؤلاء المخاطبين أن يستحضروا حالة آبائهم وهم يرزحون تحت نير فرعون وآله، ويتململون في قيود المهانة والذلة، ويواجهون في كل يوم صنوفا من البلاء، ويتحملون ضروبا من العذاب، وكيف كانت عناية الله بهم إذ غشيتهم نعمته بقدر ما لم يكونوا يتصورونه فأنقذتهم من كل ما كانوا فيه، وأخرجتهم من الذلة إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن التعب إلى الراحة، ومن البؤس إلى النعيم، والتذكير بهذا الأسلوب أدعى إلى الارعواء عن الغي، والاستجابة إلى الرشد، والقيام بواجب شكر المنعم قدر المستطاع.
وتذكير الأولاد بما أنعم على آبائهم لأنهم امتداد لهم، أو لأنهم مخاطبون باعتبار أنهم جميعا أمه إسرائيلية، وهذا هو الذي ذهب إليه الإمام محمد عبده، وهذا نصف المحكى عنه في المنار: " خاطب الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لآبائهم لأن الإنعام على أمة بعنوان أنها أمة كذا هو إنعام شامل للأمة من أصابه ذلك الإنعام من أفرادها ومن لم يصبه، ويصح الامتنان به على اللاحقين منهم والسابقين، كما يصح الفخر به منهم أجمعين، كما أن الإنعام على شخص بشيء يختص بعضو من أعضائه كلبوس يلبسه أو لذيذ طعام يطعمه يكون إنعاما على الشخص ولا يقال إنه إنعام على لسان فلان ولا على رأسه أو يده ورجله، ولأن ما وصل الى مجتمع بعنوان ذلك الاجتماع والرابطة التي ربطت أفراده بعضه ببعض يكون له أثر في مجموع الأفراد، لا سيما إن كان الواصل من نقمة أو نعمة مسببا عن عمل الأمة، شرا أو خيرا، ويكون لذلك أثر في الأمة يورثه السلف الخلف ما بقيت الأمة، وأنواع البلاء التي ذكر بها اليهود في القرآن كانت لشعب إسرائيل من حيث هو شعب إسرائيل لأن الجرائم التي كان البلاء عقوبة عليها إنما كانت من مجموع الشعب من حيث هو شعب إسرائيل، ثم إن الله تعالى كان يتوب على الشعب بعد كل بلاء ويفيض عليهم النعم، فتكون العقوبة تربية وتعليما تفيد المعتبرين بها نعمة وسعادة.
لا أقول إن هذا الخطاب إيماء أو إشارة للمخاطبين بأن يستحضروا تأريخ أمتهم الماضي ليتذكروا صنع الله تعالى فيهم فيعتبروا بما أصابهم من نعماء وضراء، وسعادة وشقاء، ويتفكروا فيما حل بهم من بعدهم وما ينتظر أن يحل بهم، وإنما الكلام نص صريح لا يحتاج إلى التأويل، فالروابط الاجتماعية بين أفراد الأمم وجماعاتها كالروابط الحيوية بين أعضاء الشخص الواحد بلا فرق، تعثر الرجل فتخدش أو توثأ، والألم يلم بالشخص كله من حيث هو شخص حي بحياة واحدة تستوي فيها رجله وسائر أعضائه، ولذلك يسعى بجملته لإزالة ألم الرجل ويتوقى أسباب العثار بعد ذلك مستعينا بكل أعضائه وقواه.
والتنجية التخليص من الأذى، وأصلها - عند القرطبي - الإلقاء على نجوة من الأرض، وعند غيره هي الأصل وأخذت منها النجوة لارتفاعها وخلوصها عن سائر الأرض، ولأنها مظنة النجاة.
والآل هم الأهل والعشيرة والأتباع وليس خاصا بذوي القرابة النسبية، والدليل على شموله الأتباع هذه الآية وأمثالها، فإنه مما يدرك بداهة أن الذين كانوا يسومون بني إسرائيل الخسف وينزلون بهم سوء العذاب لم يكونوا خاصة فرعون فحسب بل هم جميع أتباعه، كما أن الذين عوقبوا بالغرق مع فرعون ما كانوا ذوي قرابته وحدهم بل جميع جنوده كما نص عليه قوله تعالى:
فأخذناه وجنوده...
الآية [القصص: 40]، ويدل أيضا على شمول الآل لجميع الأتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" آل محمد كل تقي "
وقد أجاد الإمام اللغوي نشوان ابن سعيد الحميري صاحب شمس العلوم حيث قال:
آل النبي هم أتابع ملته
من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن آله إلا قرابته
صلى المصلي على الغاوي أبي لهب
ولأجل دلالته على التبعية خصت إضافته - عند بعض - إلى من كان ذا مكانة لفضله وصلاحه، أو لقوته ونفوذه، فمن الأول آل النبي، ومن الثاني آل فرعون، وبما أن فرعون نفسه كان مصدر بلاء بني اسرائيل لأنه هو الذي مكن لآله من سومهم سوء العذاب وأمرهم به يتبادر هنا سؤال، لم جعلت النجاة منهم ولم تجعل منه؟
والجواب: أن ذلك لأن النفس ترتاح إذا خلصت من قهر من يباشرها بالعذاب، وتشتفي اذا ما تلقى جزاءه العادل على فعله ذلك ولم يكن فرعون نفسه يتولى تعذيبهم بيديه، وإنما أولئك الأتباع كانوا ينفذون أمره ويبلغونه قصده ولعل منهم من كان يتجاوز حدود ما أمر به فيفرط في التنكيل بهم والنيل منهم، وهذا هو دبدن حواشي الظلمة وأعوانهم، ومن ناحية أخرى فإن القائد بجنده، بهم يصول ويجول، ويعد ويتوعد، ويصل ويقطع لولاهم لما كان له شأن ولا اختص بمزية بين الناس.
وفرعون لقب لحكام مصر قبل البطالسة، وقد شاع عند المفسرين أن فرعون الذي تردد ذكره في القرآن وتربى في حجره موسى بن عمران فكان - بمشيئة الله - هلاكه على يديه هو أحد العمالقة الذين تغلبوا على حكم مصر السفلي، أي الشطر الشمالي من القطر المصري؛ وباستقراء التأريخ المصري القديم يتضح خلاف ذلك فإن الحكم العمليقي لمصر قد انتهى عام 1700ق.م عندما ظهرت العائلة الثامنة عشرة وذلك قبل ميلاد موسى عليه السلام بعهد طويل، فإنما كان ميلاده ونبوته عليه السلام إبان حكم العائلة التاسعة عشرة التي شمل حكمها القطر المصري بشطريه الجنوبي والشمالي.
وبسبب هذا الوهم قالت طائفة بأن هذا اللقب خاص بحكام العمالقة، وليس الأمر كذلك كما علمت وفي مقابل هذا الرأي ذهب آخرون إلى أنه لقب عام لكل حكام مصر قبل الإسلام - أي قبل ظهور النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام - ويرد ذلك بأنه لم يعهد إطلاقه على أحد إبان خضوع مصر للإمبراطورية الرومانية، وعندما وجه النبي صلى الله عليه وسلم نداءه إلى حاكمها المحلي المقوقس يدعوه إلى دين الله لم يطلقه عليه.
وهو في أصله جامد غير مشتق لكن بما أنه أطلق على أعتى الناس وأمردهم صار كالعلم على العتو والتمرد فاشتق منه بعضهم تفرعن إذا عتا حيث قال:
قد جاءه موسى الكلوم فزاد في
أقصى تفرعنه وفرط عرامه
وبداية الوجود الإسرائيلي بمصر كانت بدخول يوسف عليه السلام فيها الذي مكن الله له في أرضها حتى أصبح عزيزها، وانضم إليه أبوه يعقوب عليه السلام - وهو إسرائيل - ومعه بنوه، فكانوا نواة للمجتمع الإسرائيلي، بأرض الكنانة، وقد جعل الله في ذريتهم البركة فتناموا حتى بلغ عددهم - فيما قيل - حال خروجهم من مصر نحو ستمائة ألف مع أن مدة بقائهم فيها نحو أربعمائة عام، وقد كانوا بداية الأمر على وفاق مع المصريين غير أن نمو عددهم المتزايد وبقاءهم محافظين على عاداتهم وعباداتهم غير ذائبين في الشعب المصري، كان ذلك كله مصدر قلق للمصريين إذ لم يأمنوا أن يصبحوا في يوم من الأيام أكثر عددا وأقوى عدة مع احتمال ارتباطهم بالشعوب المجاورة التي كانت تثور في وجه فرعون مصر فيخمد ثوراتها بعنف تنتج عنه خسائر فادحة في ماله ورجاله، ومن بين هذه الشعوب الشعوب الكائنة بأطراف جزيرة العرب، وهذا الذي دعا فرعون وآله إلى التفكير في وسائل التخلص منهم ليأمنوا هذا الجانب، فأخذوا يستذلونهم ويكلفونهم من مشاق الأعمال ما لا تقواه نفوسهم وأجسادهم رجاء انقراضهم بقلة نسلهم، وتفشى الأمراض والموت فيهم، ولكن - لأمر أراده الله - كانوا مع ذلك يتكاثرون، ولم يمت في نفوسهم الشعور بالعزة والإباء لاعتقادهم أنهم شعب الله وصفوته من خلقه، وقد كان بقاء هذه القوة المعنوية في نفوسهم شبحا مخيفا يتراءاه آل فرعون لأن انقراض الشعوب أو الأمم إنما يكون بموت معنوياتها، وإذا بقيت المعنويات فلا مطمع في انقراضها رغم التعذيب البدني والتصفية الجسدية.
وما من شك في أن الإذلال الدائم لأي مجتمع أو شعب أخطر وسيلة في إعدام نخوته وإبادة شعوره بالعز والإباء، فإن نسول المستذلين لا تكون إلا ذليلة، وماذا عسى ان تكون حالة جيل يفتح عينيه فيرى أصوله نرزح في قيود الذل وتحت وطأة القهر والاستعباد؟ فهل يكون مثل هذا الجيل إلا أكثر ذلا وأشد خنوعا، وأعظم رضى بكل ما يلقاه من قاهريه ومستذليه؟ غير أن هذه الطريقة تحتاج إلى صبر طويل المدى حتى تعطي نتائجها، ولم يكن فرعون وآله يملكون مثل هذا الصبر، ومن ثم استعجلوا النتيجة بإبادة الذكران من المواليد الإسرائيليين واستبقاء إناثهم للإمعان في الإهانة، وهذا لأن الذكور بهم امتداد حياة الأمم والشعوب والقبائل، وماذا عسى أن تكون حالة الإناث وما لهن من حام للذمار، أو كاشف للعار؟ ولو قدرت لهن ذرية فلن تكون امتدادا لأصولهن، وإنما يكونون امتدادا لآبائهم الآخرين.
هذا ما يدل عليه قوله تعالى: { يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم } ، وقد ذهب أكثر المفسرين في تفسيره مذاهب لا تستند على حجة سوى روايات ليس لها من أصل وإن عزيت إلى من عزيت اليه من السلف، منها أن فرعون أخبرته الكهنة عن إظلال زمن مولود إسرائيلي يكون هلاكه على يديه، ومنها أنه رأى في نومه نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وسلمت بني اسرائيل فأولت له رؤياه بما سبق ذكره، ومنها أنه نمي إليه حديث تردده ألسنة بني اسرائيل مفاده أن الله تعالى وعد عبده الخليل ابراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، وأنهم يتطلعون إلى هذا الوعد ليتخلصوا مما هم فيه من النكد.
وهذه الأقوال ظاهرة البطلان؛ أما الأول والثاني فبطلانهما من حيث إن الرؤيا والكهانة لو أفادا علما يقينيا بأمر ما مع تحديد زمنه لبطل إعجاز النبوات بالإخبار عن المغيبات لتساوي الكل في ذلك، وأين النبوة من الكهانة؟ والرؤيا الصادقة وإن كانت في كثير من أحوالها نافذة للاطلاع على بعض الأحوال المستقبلة، فإنها تختلف عن الوحي الظاهري لأنها تأتي مطوية في غلف تختلف رقة وغلظة ولذلك تحتاج إلى تأويل يصدر عن فهم وإدراك عميقين، ويبعد أن يكرم الله بالرؤيا الصادقة أمثال فرعون ممن ران على نفوسهم الكفر واستولى على وجدانهم الضلال، ومن ناحية أخرى فإنه من المستبعد أن يجرأ أحد على فرعون الجبار العنيد ذي البطش الشديد فيخبره بانتهاء ملكه على يدي ناشئ من بني إسرائيل.
وأما القول الثالث فبطلانه من حيث إن أخبار النبوات لم تكن لتؤثر على نفسية فرعون بعدما تكبر وطغى وبلغ به غروره أن قال:
فقال أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24]، وقال:
ما علمت لكم من إله غيري
[القصص: 38]، فإن تأثيرها على نفسه نافذة إلى تصديقها والإيمان بها وأنى لمن لم يؤمن بالله رأسا بل ادعى أنه هو الإله الواحد أن يؤمن أو يتأثر بشيء مما تردده الألسن عن أخبار الأنبياء؟ وهب ذاك صحيحا فإن ذرية إبراهيم لم تكن منحصرة في ولد إسرائيل، فليس تذبيحه لأبناء الإسرائيليين كافيا في الاحتياط عما يحذره من ذلك.
والمراد بسومهم سوء العذاب إذاقتهم إياه وإلصاقه بهم وفسر بإيلائهم إياه، وحروفه توحي بالمداومة، ومن ذلك سميت الماشية التي لا تعلف سائمة لمداومتها الرعي، وقد شاع عند العرب قولهم (سامه الخسف)، أو (أسامة خطة خسف) إذا ألزمه ذلك، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الخسف فينا
وقد سبق تفسير العذاب وهو كله سيء، وإنما أضيف هنا الى سوء للإمعان في الدلالة على كونه متناهيا في الإيلام.
وفصلت هنا جملة { يذبحون أبنآءكم } لأجل كون تذبيح الأبناء من أكثر أنواع العذاب لما فيه من الإيلام النفسي، فهي هنا مبدلة من جملة { يسومونكم سوء العذاب } ووصلت في سورة إبراهيم للدلالة على أن هناك أنواعا أخرى من العذاب كانوا يسامونها، وقد رويت عن مفسري السلف روايات في بيان أنواع هذا العذاب يفيد مجملها أن جميع الأعمال الشاقة والرديئة كانوا يحملونها دون غيرهم، وبالجمع بين فائدتي الفصل في هذه السورة والوصل في سورة إبراهيم يستفاد أن هذه البدلية هنا هي بدلية بعض من كل، وأن العطف هناك عطف خاص على عام.
ولا معنى لقول القرطبي إن الواو في (سورة إبراهيم) زائدة مستدلاله بقول الشاعر:
" فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى "
أي قد انتحى، وقول الآخر:
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
والذي دعا القرطبي الى القول بزيادتها قبل (انتحى) من الشاهد الأول توهمه أن انتحى جواب للشرط وليس كذلك، فإن جواب الشرط في أول البيت الذي يليه ونص البيتين:
ولما أجزنا ساحة الحي وانتحى
بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
أخذت بفودي رأسها فتمايلت
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
وأما الشاهد الثاني فقد نظر فيه إلى وحدة المعطوف والمعطوف عليه من حيث الذات ونسى أنه من باب عطف الصفات بعضها على بعض، فالمعطوف فيه غير المعطوف عليه، وإن يكن الموصوف بها واحدا، وقد تقدم ذلك.
والذي رجح العطف في سورة إبراهيم سبق قول الله فيها:
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم: 5]، فإنه يشير إلى نعم متعددة أسبغها الله عليهم في هذه الأيام، وإنما عظم شأن هذه النعم حتى عبر عن أوقاتها بأيام الله لعظم الشدائد التي سبقتها، فبقدر هول المحنة تعظم نعمة الخلاص منها.
وقراءة الجمهور (يذبحون) بالتشديد، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف والتشديد أبلغ لدلالته على الكثرة، والذبح معروف وأصله الشق، ولذا يسمى تشقق الأصابع ذباحا.
وأسند التذبيح إلى الآل لأنهم يباشرونه وإن كان فرعون هو الآمر به، واستدل به على أن من باشر قتل أحد بأمر ظالم فالمباشر هو المقتول به، وفي هذه المسألة خلاف بين الفقهاء، قيل يقتلان جميعا، هذا بأمره وهذا بمباشرته القتل، وهو المروي عن النخعي، وقيل بالتفصيل فان كان المأمور يعلم أن الآمر ظالم ولم يكن مكرها قتلا معا ، وإلا قتل الآمر دون المأمور، وهو المروي عن مالك والشافعي، وعليه فعلى المأمور نصف الدية، وقيل بتفصيل آخر وهو قتلهما معان ان كان للآمر سلطان على المأمور، وإلا فيقتل المأمور وحده، وهو الذي عليه أصحابنا، وعليه أكثر المالكية، وقيل غير ذلك.
والمراد بالأبناء الأطفال كما يقتضيه الظاهر، وذهب قوم إلى أن المراد به الرجال البالغون، قال ابن عاشور: " وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم، إذ الظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعا للنسل، ويسبون الأمهات استعبادا لهن، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج، وإبقاء الرجال في مثل هذه الحالة أشد من قتلهم، أو لعل تقصيرا ظهر من نساء بني إسرائيل مرضعات الأطفال مربيات الصغار، وكان سببه شغلهن بشؤون أبنائهن، فكان المستعبدون لهن إذا غضبوا من ذلك قتلوا الطفل ".
وعمدة أصحاب هذا القول مقابلة الأبناء بالنساء، وليس في ذلك دليل لما قالوه كما سيأتي إن شاء الله، والقول الأول هو للجمهور وبه نصت التوراة، ويقويه أن أم موسى عندما خشيت عليه القتل أوحى الله إليها أن تجعله في التابوت وأن تلقيه في البحر، وأن امرأة فرعون قالت لآل فرعون عندما التقطوه:
لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا
[القصص: 9]، فلو كان القتل للرجال البلغ لما كان لخوف أم موسى عليه سبب، ولا لقول أمرأة فرعون وجه.
واستحياء النساء طلب حياتهن بالإعراض عن قتلهن، وعد ذلك من سوء العذاب الذي يسومونهم إياه لأن القصد منه سيء للغاية إذ لم يريدوا باستحيائهن تسليمهن من القتل، وإنما أرادوا به هتك أعراضهن وإنزال صنوف المهانة بهن وذلك أبلغ في إيذائهم وإيذائهن من القتل. فلربما تمنى الحر الأبي موته أو موت كرائمه عندما يجدهن معرضات لمثل هذا البلاء، وكم سارعت الحرائر إلى الموت من تلقاء أنفسهن خشية العار واتقاء سوء الأحدوثة.
وعبر عن البنات بالنساء ولم يعبر عن الأبناء بالرجال لأنهم بقتلهم في طور الطفولة حيل بينهم وبين الوصول إلى طور الرجولة، بخلافهن فإن استحياءهن سبب لبلوغهن مبلغ النساء البالغات.
وذهب بعض المفسرين في استحياء النساء مذهبا بعيدا وهو أن المراد به اكتشاف أحيائهن - أي فروجهن - ابتغاء معرفة كونهن حوامل أو غير حوامل، وهو ضعيف، فإن الحمل له قرائن بارزة وعلامات ظاهرة فما الذي يدعوهم إلى اكتشاف الفروج لأجل التفتيش عنه، وليس فيها قرائن الحمل وعلاماته.
والبلاء الاختبار، ومنه قوله تعالى:
ليبلوني أأشكر أم أكفر
[النمل: 40]، ويكون بالنعمة وبضدها، ومن هنا اختلف في المشار إليه بقوله: { وفي ذلكم } ، قيل: هو المحنة المتمثلة في سوم العذاب وتذبيح الأبناء واستحياء النساء، وقيل: هو نعمة التنجية من ذلك، ورجح الأول بعضهم بكونه أقرب مذكور، والثاني آخرون لأن السياق في الحديث عن التنجية، وذهب بعض اللغويين إلى أن ما كان بالمحنة يأتي فعله مجردا ومزيدا على وزن افتعل، فيقال فيه بلوته وابتليته، وما كان بالنعمة فيأتي فعله مزيدا بالهمزة غالبا ومجردا منها قليلا، فيقال: أبليته في الغالب، وبلوته في النادر، وقد جمع الشاعر اللغتين في قوله:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
[2.50]
تفصيل لما أجمل من قبل في قوله: { وإذ نجيناكم } وعطفه عليه عطف تفصيل على إجمال، وقد سيقت هذه القصة ببيان أوسع في القرآن المكي لأجل مخاطبته قوما لم يكونوا على عهد بالنبوات وليس في أيديهم شيء يتلونه مما أنزل عليهم، فكانت توسعة بيانها من مقتضيات التخاطب مع أمثالهم لما فيها من العبر المختلفة والنذر المتعددة، وبها يزداد المؤمنون الذين يغذيهم القرآن بعلوم النبوات السابقة اتساع أفق ورسوخ قدم وقوة بصيرة.
أما بنو اسرائيل فلم يكونوا بحاجة إلى مثل ذلك البيان الواسع في تحديثهم بها لما استقر عندهم من أخبارها التي يتلونها في الكتاب ويتلقاها الأصاغر منهم عن الأكابر والأخلاف عن الأسلاف، فلذلك اكتفى بهذا القدر لأن المراد به اشعارهم برد النعمة يلامس أبدانهم التي أرهقها سوء العذاب من فرعون وآله.
وقد كانت هذه النتجية على يدي موسى عليه السلام احدى معجزاته الظاهرة للعيان، فهي معجزة في نفسها لأنها كانت من عدو قاهر ومعجزة في كيفيتها لأنها كانت بطريقة لم تعهد من قبل.
وقد كانت غب ما أمرهم الله به من الخروج من مصر حالة استخفاء من فرعون وآله لئلا يحول بينهم وبين بغيتهم من الخروج، وقد كان ذلك أمرا إلهيا أوحاه الله إلى موسى عليه السلام وهو الذي يدل عليه قوله عز من قائل:
وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون
[الشعراء: 52]، وقوله:
ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا
[طه: 77]، وقوله:
فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون
[الدخان: 22-23]، وهذا هو الذي اقتصر عليه جمهور المفسرين، وخالفهم بعض المتأخرين كالإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا، وتبعهما القاسمي في محاسن التأويل، فذهبوا إلى أن ذلك كان بإخراج بل طرد من فرعون بعد أن رأى ما رآه من الآيات التي كادت تحل به وبقومه البوار، وقد عولوا في رأيهم هذا على ما جاء في سفر الخروج من تأريخ التوراة " أن الله تعالى أنبأ موسى بأنه يقسي قلب فرعون فلا يخفف العذاب عن بني اسرائيل ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته، وأنه بعد الدعوة زاد ظلما وعتوا فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة بأن يزيدوا في القسوة عليهم وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن، ويكلفوهم أن يجمعوا التبن ويعملوا كل ما كانوا يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شيء، فأعطى الله موسى وأخاه هارون الآيات البينات فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة، فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون لعلمهم أن ما جاء به ليس من السحر وإنما هو تأييد من الله تعالى ورأى ما رأى بعد ذلك من آيات الله لموسى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا ".
" وقال لهارون وموسى اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعا واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم، فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب تغير قلبه عليهم، وقال ماذا فعلنا حين أطلقناهم من خدمتنا؟ فشد مركتبه وأخذ قومه وسعى وراءهم ".
وسوغ العلامة ابن عاشور هذا الرأي تسويغه للرأي الذي قبله، وأجاز أن يكون ندم فرعون على إطلاقهم ناشئا عن إغراء بعض أعوانه بصدهم عن الخروج لما في خروجهم من إضاعة الأعمال التي كانوا يسخرون فيها، أو لأنه لما رآهم سلكوا غير الطريق المألوف لاجتياز مصر إلى الشام ظنهم يرومون الانتشار في بعض مملكته المصرية فخشى شرهم إن هم بعدوا عن مركز ملكه ومجتمع قوته وجنده.
ورأى الجمهور عندي أولى بالصواب لأمرين:
أولهما: موافقته لظواهر الآيات كما أسلفنا على أن من الآيات ما يدل دلالة واضحة بأن فرعون عدنا شاهد آيات الله العظام التي نزلت به وبقومه وما أصابهم من الرجز طلب من موسى عليه السلام أن يدعو ربه برفع الرجز، ووعده بالإيمان له وإرسال بني إسرائيل معه إذا ما تحقق مطلوبه هذا، وكان هذا الوعد معلقا على رفع الرجز فلما تحقق ذلك نكث في عهده وأصر على عناده، والدال على ذلك قوله تعالى:
ولما وقع عليهم الرجز قالوا يموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرآئيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون
[الأعراف: 134-135]، ومن الظاهر أن هذا النكث كان في كلا الأمرين، الإيمان به وإرسال بني إسرائيل معه، ولم يكن في أحدهما دون الآخر، ولا مساغ للتعلق بنصوص التوراة المحرفة، مع معارضتها نصوص القرآن الذي صانه الله عن أيدي العابثين على أن التوراة نفسها لا تخلو مما يدل على أن خروج بني إسرائيل من مصر لم يكن بإخراج فرعون إذ عبرت عنه تارة بالهروب.
ثانيهما: أن التوراة نصت وعلماء التفسير وغيرهم أطبقوا على أن بني اسرائيل عندما هموا بالخروج من مصر استعاروا من المصريين حليهم وأشار الى ذلك القرآن في قوله:
ولكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم
[طه: 87]، ولم يخالف في وقوع ذلك أحد من أهل الكتاب أو المسلمين، وإن اختلفوا في كون ذلك بإذن من موسى عليه السلام إذ وعد بني إسرائيل أن ينفلهم أموال المصريين، أو أنه من تصرف بني إسرائيل أنفسهم من غير أن يعمل بهم موسى عليه السلام، وأنهم خدعوا المصريين بأنهم يريدون هذا الحلي المستعار للاحتفال ببعض أعراسهم. وعلى القول بأنه كان بإذن من موسى فذلك لحكمة أرادها الله وهي أن يكون ذلك أدعى لفرعون وملئه للحاق بهم بقصد الانتقام منهم واسترداد أموالهم فينتهوا إلى ما كتبه الله عليهم من الهلاك.
ومهما يكن فإنه يبعد أن يرضى المصريون بإعارتهم حليهم الثمين مع معرفتهم بأنهم على وشك الطرد والإبعاد، كما يبعد أن يخفى عليهم قرار الطرد الذي اتخذه فرعون ضد بني إسرائيل لأنهم خاصة فرعون ورهطه.
وكان اتجاه موسى ومن معه في خروجهم من مصر بتوجيه من الله سبحانه حتى يتحقق أمره وتتجلى قدرته، فلو أنهم قطعوا الطريق المألوفة وسلكوا شاطئ البحر الأبيض المتوسط - الذي كان يسمى ببحر الروم - لاختصروا المسافة وما كانا يلجأون إلى خوض البحر غير أن هذا الطريق كانت محفوفة بالخطر بالنظر إلى حالهم، فإن قوافل المصريين كانت تتردد فيها جيئة وذهابا، وفي أعمال رسل الله سبحانه ما تقتضيه سنن الحياة من الأخذ بأسباب النجاح والابتعاد عن مظان الفشل ليكونوا أسوة لغيرهم وإن شملتهم عناية الله، ولذلك لجأ موسى بقومه إلى ناحية لم تكن يطرقها السفار فيمم إلى الناحية الجنوبية الشرقية حتى انتهى إلى ساحل البحر الأحمر في مكان يسمى فم الحوريث، وهناك فوجئ بنو اسرائيل بعدوهم القاسي يغشاهم بجنوده الغلاظ فقالوا لموسى:
إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين
[الشعراء: 61-62]، فتم ما أراده الله من إنجائهم وإهلاك عدوه وعدوهم بأمر لم يؤلف نظيره وهو فرق البحر
فكان كل فرق كالطود العظيم
[الشعراء: 63]، حتى جاوزه بنو إسرائيل إلى الضفة الأخرى ثم أطبعه على أعدائهم الذين كانوا يسرعون خلفهم لأجل الانتقام منهم فاجتمعت لهم من ذلك نعمتان كبريان، إنجاؤهم من العدو والغرق، وإهلاك عدوهم بما كان سببا لتنجيتهم وهم ينظرون، كما ظهر لهم ولغيرهم من آيات الله في ذلك ما يستدعي رسوخ الإيمان وزيادة اليقين.
ويستفاد أن البحر المقصود في هذه الآية ونظائرها هو البحر الأحمر، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: { فأتبعوهم مشرقين } ، وقد سمعت من أحد الفضلاء بمصر أن الخبراء الروس اكتشفوا آثار هذا الفرق في البحر المذكور وتلك من آيات الله التي تقوم بها حجته على الجاحد والمعاند.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالبحر في هذه الآية وأشباهها النيل وأن غرق فرعون كان فيه. وهذا رأي مرفوض.
وقد كان انفلاق البحر مسببا عن ضربه موسى بالعصى، وذلك يستفاد من قوله عز من قائل:
فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
[الشعراء: 63]، وتلك إحدى المعجزات التي قرن الله بها دعوة عبده موسى عليه السلام، إذ لم يكن ذلك أمرا طبعيا مألوفا، فما للعصى وانفلاق البحر لولا أن الله أودع فيها من سره الغيبي ما لا تكتنهه عقول البشر، وقد مضت سنة الله في خلقه أن يهيئ ما شاء من الأسباب لما يشاء من المسببات، سواء كانت داخلة في النواميس الكونية المألوفة لدى البشر أم خارجة عنها، ولا يجادل في ذلك إلا المرتابون الذين هم في ريبهم يعمهون.
وقد أجاد الإمام محمد عبده في حديثه عن هذه المعجزة، وإن عهد منه الميل إلى تفسير الحقائق الغيبية بما يتلاءهم مع السنن الكونية المعهودة عند الناس، وقد كرر هنا ما قاله في رسالة التوحيد، وهو أن الخوارق الجائزة عقلا - أي التي ليس فيها اجتماع النقيضين ولا ارتفاعهما - لا مانع من وقوعها بقدرة الله في يد نبي من الأنبياء وأنه يجب أن يؤمن بها على ظاهرها، ووصف المنكرين للمعجزات بأنهم من المتهورين، ونسب إليهم في تأويل هذه القصة أنهم يزعمون بأن عبور بني إسرائيل البحر كان في إبان الجزر، فإن البحر الأحمر رقارق إذا كان الجزر الذي عهد هناك شديدا يتسير للإنسان أن يعبره ماشيا، ولما اتبعهم فرعون بجنوده ورآهم قد عبروا البحر تأثرهم، وكان المد تفيض ثوائبه - وهي المياه التي تجيء عقيب الجزر - فلما نجا بنو إسرائيل كان المد قد طغى وعلا حتى أغرق المصريين فتحقق إنعام الله على بني إسرائيل بأن تم هذا التوفيق لهم والخذلان لعدوهم، وزعموا أن كونه ليس آية لموسى عليه السلام لا ينافي الامتنان به عليهم، فإن نعم الله بغير طريق المعجزات أعم وأكثر - قال الإمام - ولكن يدل على كونه آية له وصف كل فرق منه كالطود العظيم، وإذا تيسر تأويل كل آيات القصة من القرآن، فإنه يتعسر تأويل قوله تعالى في سورة الشعراء:
فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
وهو الموافق لما في التوراة.
ولخص صاحب المنار قول المؤولين بما حاصله، " أن بني إسرائيل لما عبروا البحر انفرق بهم وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض قد جعلوا ذلك الماء الرقراق فرقين عظيمين ممتدين كالطود، وأن هذه الآية تشعر بذلك، فإنه يقول: { وإذ فرقنا بكم البحر } ولم يقل فرقنا لكم البحر والظاهر أن الباء هنا للآلة، كما تقول قطعت بالسكين، وأما قوله تعالى:
فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق
[الشعراء: 63] فإنه لا ينافي أن الانفلاق كان بهم، كما في آية البقرة لا بالعصى، وذلك أن الذي أوحاه الله تعالى إلى موسى هو أن يخوض البحر ببني إسرائيل وقد عهد أن من كان بيده عصى إذا أراد الخوض في ماء كترعة أو نهر أن يضربه أولا بعصاه، فهذه الآية معبرة عن هذا المعنى، أي ألهمه الله عندما وصل إلى البحر أن يضربه بعصاه ويمشي، ففعل ومشى وراءه بنو إسرائيل بجمعهم الكبير، وأما قوله تعالى: { فكان كل فرق كالطود العظيم } فهو تشبيه معهود مثله في مقام المبالغة، كقوله تعالى:
وهي تجري بهم في موج كالجبال
[هود: 42]، وقوله:
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام
[الشورى: 32]، فالأمواج والسفن الجواري لا تكون كالجبال الشاهقة والأعلام الباسقة، وإنما تقضي البلاغة بمثل هذا التعبير لكمال التصوير وإرادة التأثير " ، وأضاف إلى ذلك من بعد أنه بسط تأويلهم لئلا يتوهموا أنه لم يقل به لعدم اهتدائه إلى توجيهه مثلهم، وأشار فيما بعد إلى عدم أهمية الخلاف مع هؤلاء إذ كانوا يثبتون الآيات الكونية تأييدا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسوغ أن تكون الباء في قوله بكم سببية أو للملابسة لا للآلة - كما يقول المتأولون، وذكر ان البيضاوي أشار إلى ذلك كله بقوله: " فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك لسلوككم، أو بسبب إنجائكم، أو متلبسا بكم " ، وأضاف ألى ذلك من بعد أن الخلاف منصوص عليه في تفسيري الأصفهاني والبغوي.
ويستفاد مما قاله أنه لا يستبعد صحة مقالة هؤلاء المتأولين ما داموا يحملون هذه الآيات الكونية المتفقة مع سنن الوجود على أن فيها تأييدا للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا جرى على ما عهد منه من حمله كثيرا من هذه الأخبار الغيبية على ما يتفق مع الأحوال المألوفة للناس وإن أفضي ذلك إلى التكلف الممقوت في حمل ألفاظ القرآن على ما لا تنسجم معه من المعاني، وحسبكم دليلا على بطلان هذا التأويل تعذره إذا ما قسناه على الحالة الطبعية المعهودة للماء إذا خيض فيه فإنه لم يعهد منه انقسامه إلى شطرين كل شطر على جانب الخائضين كالطود العظيم، بل من طبع الماء الإنسياب في الفرج بين أقدام الماشين فيه، وتساوي سطحه من كل جانب، ومما يؤكد بطلان تأويلهم قوله تعالى:
ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا
[طه: 77]، فإنه نص في أن انشقاق الطريق لهم كان بضرب موسى البحر، وأنهم اجتازا مكانا يبسا لا ماء فيه.
هذا، وقد امتلأت كتب التفسير بروايات متعددة متناقضة في وصف قصة نجاة موسى ومن معه، وغرق فرعون وآله، وقد نص ابن عطية وأبو حيان والألوسي في تفاسيرهم على أن هذه الروايات لا تعتضد بشاهد من الكتاب ولا الأحاديث الصحيحة غير أنهم مع ما قالوه لم تسلم تفاسيرهم من شوائبها، ومن ذلك قول أبي حيان: " ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط اثني عشر مسلكا " ، وحمل عليه قراءة الزهري " فرقناه " وهي قراءة شاذة تخالفها جميع القراءات العشر، فليست موضعا للاستدلال على أن ابن عاشور حملها في تفسيره على مراعاة شدة الاتصال بين أجزاء المفرق، وذلك يستدعي شدة التفرقة، وإنما اتفقت القراءات العشر على التخفيف لما فيه من النظر إلى عظيم قدرة الله تعالى، فكان ذلك الفرق الشديد خفيفا.
والقرآن لم يذكر طرقا وإنما ذكر طريقا، وكل زيادة على ما جاء فيه غير مسلمة على أنه يبعد في مثل ذلك المقام المدهش والرعب المؤدي إلى الفوضى عادة أن ينحاز كل سبط من بني إسرائيل بنفسه ويسلم طريقا غير طريق الآخرين.
والفرق الفصل إما بين الشيء الواحد حتى يكون شيئين، وإما بين الشيئين المتصلين حتى يكونا منفصلين، وإذا استعمل في الشيء الواحد كان بمعنى الشق، ففرق البحر إذن هو شقه ليتهيأ بين شطريه سبيل للسالكين.
واختلف في الباء (بكم)؛ قيل إنها للآلة، ومعنى ذلك أن الفرق حصل بسلوكهم، وعبر عنها بعض المفسرين بالاستعانة، وهو تعبير لا يليق بواجب الأدب مع الله تعالى، فإنه هو الذي أسند إليه الفرق، وهو أجل من أن يستعين بشيء، وإذا عبر عن هذه الباء بأنها للاستعانة إذا أسند الفعل إلى غيره فإن هذا التعبير يجب استبداله بما يتفق مع التأدب أمام الربوبية إذا أسند إليه تعالى، وقيل: هي للسببية فتكون بمعنى اللام إذا ما قيل بجواز تعليل أفعاله تعالى لعدم الفرق بين قولك: فعلت هذا لأجلك، وقولك فعلته بسببك، إذ كان المخاطب هو الباعث على الفعل؛ وعند من يمنع تعليل أفعاله سبحانه فهي للسببية الشبيهة بالسببية الباعثة على الفعل في تربية على مدخولها وكونه هو المقصود به.
وذكر الألوسي أن الدامغاني نقل عن العرب أنهم يقولون: غضبت لزيد، إذا كان الغضب من أجله وهو حي، وغضبت بزيد، إذا غضبت من أجله وهو ميت، وأتبع ذلك الألوسي قول: " ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين ".
وجوز أن تكون الباء هنا للمعية - ويعبر عنها بالملابسة - ومعنى ذلك أنهم كانوا بمعية الله تعالى عندما فرق البحر لينجوا من عدوهم أي كانكوا محفوفين بنصره مشمولين برعايته، وهو معنى قول موسى عليه السلام الذي حكاه الله عنه:
قال كلا إن معي ربي سيهدين
[الشعراء: 62] واختلف في هذا الفرق فقيل كان خطيا أي من ضفة إلى أخرى، وقيل: كان قوسيا، أي رجعوا إلى الضفة التي خرجوا منها، وكانت بين مدخلهم البحر ومخرجهم من جبال وأوعار لا يخشون بسببها أن يلحق بهم العدو من طريق البر، وهذا الذي اعتمده ابن عطية في تفسيره، وقطب الأئمة في هيميانه وتيسيره، وبما ذكراه يندفع ما قاله الألوسي، وهو أن احتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في أثرهم. وأيد القطب - رحمه الله - القول بأن الفرق كان قوسيا بأنهم من الكثرة بحيث يحتاجون إلى سفن ترجع بهم إلى مصر لو أن الفرق كان خطيا ووصلوا إلى الضفة الثانية مع التئام البحر ورجوعه إلى حاله.
وكلامه هذا يشير إلى أنهم عادوا إلى مصر بعد أن أنقذهم الله تعالى وأهلك عدوهم، وهذا الذي ذهب اليه كثير من أئمة التفسير؛ قال ابن عاشور: " وهذا وهم، فإن بني إسرائيل لم يعودوا إلى مصر البتة بعد خروجهم، كيف والآيات صريحة في أن نزول الشريعة كان بطور سيناء، وأن خروجهم كان ليعطيهم الله الأرض المقدسة التي كتب الله لهم؟ ".
وابن عاشور هو الواهم في هذا التوهيم، فإن القرآن صريح في أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ما كان خوله فرعون من قبل من جنات، وعيون، وكنوز، وزروع، ومقام، وهو نص في سورة الشعراء حيث يقول تعالى فيها:
فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل
[الشعراء: 57-59]، ويقول في سورة الدخان:
كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين
[الدخان: 25-28]، والقوم الآخرون هنا هم بنو إسرائيل قطعا لبيان ذلك في سورة الشعراء، وأولى ما فسر القرآن القرآن.
أما خروجهم إلى طور سيناء لتلقي التوراة واستمرارهم سيرهم بعده إلى الأرض المقدسة فقد كان بعد عودهم إلى مصر لينفلهم الله مخلفات فرعون وآله، إذ يستحيل أن يكونوا وارثين لها من غير أن يعودوا إليها.
وفيما ذكرته الآية نعم متعددة ترتبت على فرق البحر فإن الفرق نفسه نعمة جلى إذ جاءت مخالفة لما استقرت عليه العادة وألف عند الناس من سنن الكون، وإنجاؤهم من عدوهم باجتيازهم البحر نعمة عظيمة مقصودة بالفرق، وإغراق عدوهم فيه عليهم نعمتان: أولاهما الأمن من شره، إذ لعله لو بقى حيا لأخذ يتتبع فلولهم، ويدبر لهم المكائد، ويكيل لهم الشرور.
ثانيتهما: شفاء غيظ صدورهم بمهلكه، فإن من شأن المظلوم أن يشعر بارتياح الضمير ولذة معنوية كبرى إذا تلقى ظالمه جزاءه، وقد تحقق ذلك كله بمرأى منهم لتطمئن نفوسهم ويلتذوا بهذا المشهد، مشهد المعجزة الخارقة للعادة التي أجراها الله على يد نبيهم، ومشهد نجاتهم بسبب هذه المعجزة، ومشهد هلاك عدوهم بما كانت به نجاتهم، وهذا كله يستفاد من تذييل الآية بقوله: { وأنتم تنظرون }.
ونسب الإغراق في الآية إلى آل فرعون، مع أن فرعون نفسه كان من الغارقين، كما نصت عليه آيات أخرى، منها قوله تعالى:
حتى إذآ أدركه الغرق
[يونس: 90]، وقوله:
فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم
[القصص: 40]، وذلك إما لأن استحقاق آلة الغرق - وهم له أتباع لا يصدرون إلا عنه في شورهم، ولا ينفذون إلا رغباته في ظلمهم، لأنه رأس الشر ومصدر الظلم - يقضي بأنه أحق به منهم، فإذا ما نص على غرقهم كان ذلك أدل على أنه من الغارقين، وإما لأن آله هم الذين كانوا يباشرون تعذيبهم الجسدي والنفسي، فهم الذين سخروهم للأعمال الشاقة، وسفكوا دماءهم بأيديهم، وذبحوا أبناءهم، واستحيوا نساءهم، فكان إغراق أولئك الآل أشفى لغيظ صدورهم.
وفي هذين الاحتمالين غنى عن دعوى بعضهم أن المراد بالآل نفس فرعون استنادا إلى ما روي عن الحسن البصري أنه كان يقول " اللهم صل على آل محمد " ، ومراده اللهم صل على محمد، فإن في توجيه ذلك - إن صح النقل - احتمال، واذا طرق الدليل الاحتمال سقط به الإستدلال.
وإن من دواعي الاعتبار وبواعث الاستعبار أن يكون هلاك فرعون بما كان يفاخر به ويباهي، فهو القائل:
وهذه الأنهار تجري من تحتي
[الزخرف: 51]، فأهكله الله بالماء، وهذه هي سنة الله في خلقه، فكل مغرور بشيء يأتيه قضاء الله من طريق غروره، وكم في الأرض من عات مشاقق سعى في الأرض فسادا وأهلك الحرث والنسل حتى إذا بلغ به الغرور أوجه وخيل إليه أنه ينطح السماء بفوديه. ويطأ الجوزاء بنعليه أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وفي مصارع القوم الظالمين عبر للمعتبرين، وذكرى لقوم يعلمون:
إن في ذلك لعبرة لمن يخشى
[النازعات: 26].
وفيما يورده القرآن من هذه القصص إنذار للظالمين وتبشير للضعفاء المضطهدين، فإن المصير لا يختلف، والعاقبة لا تتبدل، ولكل أحد آتاه الله في الدنيا ما يراه ميزة لنفسه بين بني جنسه معتبر فيمن أهلك الله قبله من أمثاله،
أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا
[القصص: 78]،
وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين
[القصص: 58].
وخطاب بني إسرائيل الذين عاصروا نزول السورة بهذه المنة مع أنها كانت على أسلافهم لأنهم امتداد لهم كما تقدم، وقد علمتم مما تقدم قبل قليل أن المراد بالنظر هنا نظرهم إلى ذلك المشهد الجامع للمعجزة الخارقة، ونعمة إنجائهم وإهلاك عدوهم، فهو بعين البصر، وقيل: بل هو بعين البصيرة، وعليه فهو بمعنى العلم، وقيل: أراد به نظرهم إلى جثث أعدائهم الهامدة بعد أن لفظها البحر:
فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية
[يونس: 92]، والقول الأول هو الصحيح لأن الواو حالية، وفي حال إنجائهم وإهلاك عدوهم كانوا ينظرون إلى المشهد لا إلى الجثث التي لم يلفظها البحر إلا من بعد، ولأن حمل النظر على حقيقته، وهو النظر البصري أولى ما لم تدل على خلافه قرينة.
[2.51-52]
بدء في عرض سيئات بني إسرائيل ومقابلتهم النعمة بالكفران، والبرهان بالنكير والإعراض، والدعوة الصادقة المؤيدة بالمعجزات بالسخرية والاستخفاف، وهكذا كان ديدنهم، فقد عانى منهم موسى عليه السلام الذي أكرمهم الله برسالته فكانت نجاتهم على يديه ما عاناه من الإعنات والشقاق، وكانت نذر الهلاك تحيط بهم من أمامهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن فوقهم ومن تحتهم، غير أنهم لا يكادون يرعوون عندما يواجهون الشدائد حتى يعودوا إلى غيهم وينقلبوا إلى نزعتهم البغيضة عندما يجدون أدنى متنفس ويبصرون أصغر ثغرة للفرج، فظل موسى عليه السلام بينهم في محنة وبلاء، وعنت وعناء، كما يتضح ذلك في هذه الآية من السورة وغيرها.
والمواعدة مفاعلة، وهي في الأصل لا تكون إلا من جانبين، وقد يعبر بها عما يكون من جانب واحد لما يكون في هذا التعبير من نكتة طريفة وظريفة، ومن هذا الباب
قاتلهم الله
[التوبة: 30]، وعاقبت اللص، وداويت المريض، وقد قرأ الجمهور هنا " واعدنا " لأن الوعد واقع من موسى لربه، كما أنه صادر عن الله تعالى إلى موسى، فكلاهما واعد وموعود، فالله وعد موسى أن يؤتيه الكتاب إذا جاء الى الميقات، وموسى وعد الله المجيء إلى الميقات، ويحتمل أن يكون ذلك من باب داويت المريض كما سبق قريبا، وهذه هي قراءة العشرة ما عدا أبا عمرو، وقرأ أبو عمرو - وهو من السبعة المشهورين - " وعدنا " بحذف الألف، وهي من الوعد، وهذه هي القراءة التي ارتضاها أبو عبيد وأنكر قراءة " واعدنا " وزعم أن المواعدة لا تكون إلا من البشر، أما ما كان من الله فهو وعد نحو
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
الآية [النور: 55]،
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم
الآية [الأنفال: 7]،
وعدكم الله مغانم كثيرة
[الفتح: 20]، ووافقه على قوله أبو حاتم ومكي، وزعم أبو حاتم أن المواعدة أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين، يعد كل منهما صاحبه؛ ولعمري إن هذه جرأة لم يصحبها تعقل من هؤلاء القائلين، فقد أنكروا ما تواتر نقله بالأسانيد الصحيحة المعتبرة من قراءة المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، وتلقته عنه الأمة بالقبول والتسليم جيلا بعد جيل، وقرأ به أكثرها، فإن مما لا خفاء فيه تواتر القراءات السبع، وثبوت سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتقاد أي منها أو نكيره عدم مبالاة بالسلامة في الدين، وقد أجاد ابن جرير الطبري هنا في دفع شبه المعترضين على هذه القراءة مع ما عهد منه من انتقاد ما لا يستسيغه ذوقه من القراءات ولو تواتر.
وموسى هو نبي الله المرسل إلى فرعون وآله الذي أنزلت عليه التوراة هدى لبني اسرائيل، واختلف في منشأ تسميته بذلك، وغالب ما قيل ليس له أساس من الصحة وإنما الذي تحتمل صحته هو أنه مركب من " مو " بمعنى الماء، " وشي " بمعنى المنقد، أي منقذ الماء في اللغة العبرانية لأن أمه جعلته في التابوت فألقته في اليم كما ألهمها الله، وفصلته سورة القصص، فكان الماء سببا لإنقاذه بأمر الله، وقيل (شي)، بمعنى الشجر لأنه التقط بين ماء وشجر في منتزه لأهل بيت فرعون فسمي بذلك، وعرب بإهمال الشين المعجمة، وذكر الفخر وغيره من المفسرين أن نسبه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت ابن لاوي بن يعقوب عليه السلام، ولم تذكر التوراة إلا انه ابن عمران وأنه من سبط لاوي.
وقد كانت هذه المواعدة من الله لموسى لإيتاءه التوراة هدى لبني إسرائيل، وحدد أكثر العلماء هذه الأربعين ليلة بذي القعدة وعشر من ذي الحجة، وذهب بعضهم إلى انها ذو الحجة وعشر من المحرم، وذكر الليالي دون الأيام مع أن اليوم يطلق على مجموع الليل والنهار كما يطلق على النهار وحده الذي يتخلل كل ليلتين لأن ببداية الليل ينتهي يوم ويبتدئ غيره إذ غروب الشمس هو الحد الفاصل بين كل يوم وآخر، ولأن هذا الميقات الزمني كان بحسب الأشهر القمرية التي تبتدئ بالليل، ويحتمل أن يكون ذلك لكون الليل هو الأصل والنهار طارئ عليه، فإن الظلمة أسبق من النور
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار
[يس: 37].
وذكر بعض أن ذكر الليالي للإشارة إلى أنه عليه السلام كان مطالبا بالتهجد في أثناء هذه المدة، ورده آخرون بأن المروي أنه كان مأمورا بالصيام لا القيام، واستدل بعض هؤلاء بذكر الليالي على أن صومه عليه السلام كان وصالا يشمل الليل والنهار، واحتجوا بذلك على جواز الوصال، وأن أفضله أربعون يوما كما فعل موسى عليه السلام. وليس في القرآن ما يدل على انه عليه السلام كان مأمورا بالصوم في هذه المواعدة، ولم أجد في ذلك رواية يعتمد عليها، فما القول به - حسبما إخال - إلا جزاف من قائله، بله صلاحيته للإستلادل به على فضل الوصال، ومثله القول بأن موسى عليه السلام في خلال تلك المدة لم يحدث أبدا.
عجل السامري
وعندما ذهب موسى للمعياد انتهز بنوا اسرائيل فرصة غيبوبته نازعين الى ما هم عليه من لؤم الطباع وفساد الفطرة وانحراف الفكر، فألهوا عجلا جسدا له خوار، أخرجه لهم السامري ليضلهم عن سواء الصراط، قائلا لهم:
هذآ إلهكم وإله موسى فنسي
[طه: 88] أي نسى موسى أن هذا هو الإله فلذا ذهب الى الطور لطلب مناجاة الإله، أو نسى السامري بأن هذا مجرد عجل لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع، وأن ما جرى على يد موسى عليه السلام من المعجزات العظام أقطع حجة وأصدق برهان بأنه رسول رب العالمين الذي له ملك السماوات والأرض والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل؛ وعلى الأول فجمة " فنسى " من ضمن المحكي عن السامري، وعلى الثاني فهي رد من الله تعالى عليه، ونداء عليه بالسفه والضلالة، وقصة العجل ذكرت هنا عرضا لتذكير يهود المدينة بجرائر أسلافهم، وما قابلوا به نعم الله وآياته من الجحد والكفران، وإنما تفصيلها فيما نزل من قبل بمكة في سورتي الأعراف وطه.
وذكر جماعة من أهل التفسير أنهم كانوا يعدون اليوم ليله ونهاره ليلتين فلما انقضت عشرون يوما، وهي عشرون ليلة وعشرون نهارا زعموا أن موسى أخلفهم وعده فركنوا إلى ما دعاهم إليه السامري من اتخاذ العجل معبودا دون الله تعالى.
و " اتخذ " أصله منتزع من أخذ، وهو بوزن افتعل، فهو إئتخذتم واستثقلت الهمزتان فسهلت الثانية - وهي الأصلية - فانقلبت ياء، فاضطربت الياء في التصريف لعدم قرارها على حال، إذ تأتي ألفا في ياتخذ، وواوا في موتخذ، فأبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت فيها وأقرت همزة الوصل كما كانت حفاظا على عدم الابتداء بساكن في النطق، وهو يتعدى إلى مفعول، إن كان بمعنى ابتداء صنعه نحو " اتخذ لك سيفا " ، وإلى مفعولين إن كان المقصود إليه وصفا في المتخذ نحو:
واتخذ الله إبراهيم خليلا
[النساء: 125]، وهو هنا بمعنى جعل الذي يقصد به صير، ويحتمل في الآية الوجهان؛ وعلى الثاني فالمفعول الثاني محذوف تقديره إلها.
والعجل هو ولد البقرة، وقد درج كثير من المفسرين على أن تسميته بذلك لأن بني اسرائيل تعجلوا عبادته قبل أن يرجع اليهم موسى من الميقات، وهذا وهم ظاهر، فإن العرب عهدت منهم تسميته بذلك منذ القدم، وليست هذه التسمية مقتبسة من اللغة العبرانية، إذ لم تكن قبائل العرب على اتصال باليهود إلا قليلا منهم كقبيلتي الأوس والخزرج وبعض قبائل اليمن، ومع ذلك لم يكونوا قبل نزول القرآن على علم أحداث بني إسرائيل.
والعجل المذكور صنع مما حمله بنو إسرائيل من حلي المصريين، كما يشير إلى ذلك قولهم:
ولكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم فقذفناها
[طه: 87]، وذلك أن هارون عليه السلام أخبرهم بعد ذهاب موسى إلى الميقات بأن تلك الغنائم لا تحل لهم، وأمرهم بإحراقها، فجاء السامري فألقى فيها قبضة من تراب وطئته دابة جبريل عليه السلام عندما جاء إلى موسى ليذهب به الى الميقات، أو عندما جاء إلى موسى ومن معه لينقذهم من شر فرعون وآله؛ بإخبار موسى أن يضرب بعصاه البحر؛ والأول هو الأظهر، وكان السامري يعلم أن في هذه الدابة سرا غيبيا، ولعله استنتج من ذلك أن ما لا مسته تسري فيه الحياة ولو كان جمادا، فألقى بتلك القبضة الترابية في ذلك الذهب المشتغل نارا، فصار عجلا جسدا له خوار، وقيل: إنه هو الذي صنع منه العجل، لأنه كان صانعا، ثم ألقى فيه القبضة الترابية التي بيده، ويشير إلى صنيعه هذا جوابه الذي حكاه الله عنه بقوله:
بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي
[طه: 96].
وكان السامري فيما قيل شابا إسرائيليا أوتي حظا من الذكاء فاستغله في إضلال بني اسرائيل، وقيل: لم يكن إسرائيليا وإنما كان دخيلا فيهم، وأصله من عباد البقر فنزع الى أصله، وقيل: إن سبب اختياره العجل من بين سائر المعبودات أنه كان مع بني اسرائيل لما جاز بهم موسى البحر:
فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يموسى اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف: 138]، وقد كانت تلك الأصنام تماثيل أبقار، وقد كان السامري قبل انكشاف أمره منافقا يظهر عند موسى ومن معه من المؤمنين الإيمان ويبطن في خفايا نفسه عقيدة وثنية.
قال ابن عاشور: " وإنما اتخذوا العجل تشبها بالكنعانيين الذين دخلوا الى أرضهم - وهم الفينيقيون سكان سواحل بلاد الشام - فإنهم كانوا عبدة أوثان، وكان العجل مقدسا عندهم، وكانوا يمثلون أعظم الآلهة عندهم بصورة إنسان من نحاس له رأس عجل جالس على كرسي مادا ذراعيه كمتناول شيء يحتضنه واكنوا يحمونه بالنار من حفرة تحت كرسيه لا يتفطن لها الناس، فكانوا يقربون إليه القرابين، وربما قربوا له أطفالهم صغارا، فإذا وضع الطفل على ذراعيه اشتوى فظنوا ذلك أمارة قبول القربان، فتبا لجهلهم وما يصنعون، وكان يسمى عندهم " بعلا " وربما سموه " مولوك " وهم أمة سامية لغتها وعوائدها تشبه في الغالب لغة وعوائد العرب، فلما مر بهم بنو اسرائيل قالوا لموسى: { اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة } ، فانتهرهم موسى، فلما ذهب للمناجاة واستخلف عليهم هارون استضعفوه وظنوا أن موسى هلك، فاتخذوا العجل الذي صنعوه من ذهب وفضة من حليهم وعبدوه ".
ومراده سبحانه بقوله: { من بعده } بعد ذهابه عنهم للدلائل القائمة على أن موسى عليه السلام كان حيا عندما عبد قومه العجل، والعطف بثم إما للمهلة الزمنية التي كانت بين بداية غيابه والإتخاذ، فإنهم اتخذوه بعدما مضى على غياب موسى عشرون يوما - كما قيل - وإما للمهلة الرتبية، وذلك لفظاعة هذا الأمر بحيث لا تكاد الأذهان تتصوره منهم بعد أن شاهدوا ما شاهدوا من الآيات الداعية إلى رسوخ الإيمان وصدق اليقين.
وقوله: { وأنتم ظالمون } إما حال مؤكدة أريد بها تسفيههم وقطع عذرهم، فإن اتخاذ الأنداد لله سبحانه معلوم بالضرورة أنه ظلم، وإما حال مقيدة أريد بها التنصيص على أن الظلم لم يفارقهم في فترة هذا الاتخاذ، أو أريد به استئصال توهم كون شبهة عرضت لهم في هذا الاتخاذ؛ وأرى أن هذا الوجه لا يختلف عن الذي قبله إلا اختلافا لفظيا.
والعفو لغة إزالة الأثر كما يقال: " عفت الريح أثره " إذا مسحته، واصطلاحا اسقاط عقوبة الجاني وإزالة ما يترتب على جنايته من الآثار المعنوية، وعفو الله عن عباده اسقاطه عقوبتهم في الآخرة بقبول توبتهم وتكفير سيئاتهم، ويطلق على رفع العقوبات الدنيوية كما في قوله:
ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير
[الشورى: 30]، والمراد بالعفو في هذه الآية قبول توبة بني إسرائيل من عبادتهم العجل، وثم هنا كسابقتها، إما أن تكون للمهلة الزمنية لأن قبوله تعالى التوبة منهم كان بعدما رجع موسى إليهم وأمرهم بقتل أنفسهم تكفيرا ليسئتهم، ولا يخفى ما بين الأمرين من المهلة؛ وإما للمهلة الرتبية، وقد أراد الله بها شد عقول السامعين إلى سعة حلمه وواسع مغفرته، فبعد هذا الغنت وهذه المكابرة للحق، ومغالطة الحقيقة من بني اسرائيل الذين بسط الله لهم نعمته، وأراهم في تنجيتهم من عدوهم آيته، قبل سبحانه توبتهم مع ما اقترفوه من الإشراك بالله، واتخاذ الند له تعالى.
وقد تقدم القول في لعل فيما تقدم من تفسير هذه السورة، كما تقدم القول في الشكر في تفسير الفاتحة الشريفة، وإنما بقى أن أضيف الى ذلك أن مادة الشكر تدل لغة على الظهور، فهي على النقيض من الكفر الدال على المواراة والإخفاء، ومن هذا الباب قولهم: " دابة شكور " اذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف، والضدية المفهومة من هذين اللفظين لغة تنعكس عليهما اصطلاحا، فكما أن الشكر هو القيام بحقوق المنعم باستخدام نعمته في مراضيه، فكذلك الكفر هو التنكر لهذه النعمة بطمسها أو استخدامها فيما يسخط من أنعم بها، ويدل على هذا التقابل بينهما قوله تعالى حكاية عن عبده سليمان عليه السلام:
ليبلوني أأشكر أم أكفر
[النمل: 40]، وقوله في الإنسان:
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
[الانسان: 3]، وقد اختلفت عبارات العلماء في الشكر وتحديد مفهومه، وهي ترجع إلى أصل واحد، فروى عن ذي النون المصري أنه قال: " الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان " ، وروى عن الجنيد أنه سئل عن الشكر وهو غلام فقال: " أن لا يعصى الله بنعمه " ، وروى عنه أن حقيقة الشكر العجز عن الشكر، يعني الاعتراف التام بالعجز عن القيام بحقوق المنعم مع استقصاء الجهد في ذلك، وهذا كما روى أن داود عليه السلام عندما أمره الله بشكره قال: كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك، قال: " الآن قد عرفتني وشكرتني إذ عرفت أن الشكر مني نعمة " فقال: يا رب أرني أخفى نعمك علي، قال: " يا داود تنفس " ، فتنفس داود، فقال الله تعالى: " من يحصي هذه النعمة الليل والنهار؟ ". وروى كذلك عن موسى عليه السلام انه قال: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازي بها عملي كله، فأوحى الله إليه: " يا موسى الآن قد شكرتني " ، وروى عن سهل بن عبد الله أن الشكر الاجتهاد في بذل الطاعة مع اجتناب المعصية في السر والعلانية.
[2.53]
في هذه الآية تذكير لبني إسرائيل بنعمة سابغة تعد أكبر نعمة بسطها الله لهم وأنعم بها عليهم لما فيها من صلاح الدين والدنيا وقوام أمر الفرد والمجتمع، وهي نعمة إنزال التوراة عليهم لتكون لهم هدى ونورا، تنتظم شمل جماعتهم، ويحتكمون اليها في منازعاتهم، ويستمدون منها الرشد والصلاح فيما يتعلق بالمعاش والمعاد، وحقيق أن تكون التوراة أكبر النعم التي أوتيها بنو إسرائيل، إذ لا يعرف في الكتب السماوية مما نزل قبلها أو بعدها ما هو أجمع منها حكما، وأوسع منها علما، وأعم منها نورا، إلا القرآن الذي أنزل الله هدى وذكرا للعالمين، فهيمن على كل ما أنزل قبله، والامتنان بإنزال الكتاب على موسى لهداية قومه ذكر هنا في معرض تعداد النعم المختلفة التي أسبغها الله عليهم لأنه حلقة من حلقات سلسلتها الطويلة، ولم يختلف المفسرون في كون المقصود بالكتاب التوراة الهادية الى أمر الله، والتي تعاقب عدد من النبيين على تجديد إبلاغ رسالتها، والحكم بمضمونها، كما قال تعالى: { إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } ، وهي التي جعلتها بنو إسرائيل أعظم مفاخرهم التي يتطاولون بها على سائر الشعوب والأمم، وإنما اختلف أهل التفسير في المراد بالفرقان على مذاهب أنهاها أبو حيان في " البحر " إلى اثني عشر مذهبا، منها: أنه نفس التوراة وإنما أعيد ذكرها باسم آخر اعتبارا لمنشأ التسميتين، فهي كتاب باعتبارها مجموعة مكتوبة، وفرقان باعتبارها فارقة - أي مميزة - بين الحق والباطل، وهو قول الزجاج، واختاره الزمخشري، وبدأ بذكره ابن عطية، وعليه فالعطف للتغاير الحاصل بين مدلول الاسمين وإن كان مسماهما واحدا، واستدل لهذا القول بقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
ورد بأن البيت فيه عطف صفات على صفة واحدة، وهي القرم مع وحدة الموصوف وهو الملك، فلا يجوز تخريج الآية عليه لما بينهما من الفارق، وأقرب من هذا البيت إلى الاستدلال لهذا القول قول الشاعر:
فألفى قولها كذبا ومينا...
غير أنه يمتنع تخريج الآية عليه كذلك، لأن القرآن الكريم بلغ من فصاحة القول وبلاغة الكلام ما لم يبلغه شعر ولا نثر، فمن المستحيل أن يعطف فيه لفظ على آخر من غير اشتمال هذا العطف على فائدة لا تحصل دونه، والكذب والمين معناهما واحد، فجمعهما في البيت لا يعدو أن يكون حشوا لا يجوز إلصاقه بالتنزيل، وللشعراء مذاهب يتوسعون فيها بما لا يجوز نحوه في المنثور البليغ محافظة منهم على روى الشعر ووزنه، ومثل ذلك لا يجوز تخريج الأسلوب القرآني عليه.
ومنها أنه هو النصر لأن الله سمى يوم بدر " يوم الفرقان " ، وفي معناه قول من قال إنه الفرج، واستدل لذلك بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا
[الأنفال: 29].
ومنها أنه فرق البحر واعترض بأنه سبق ذكره فلا داعي لإعادته ورد هذا الاعتراض بأن ذكره السابق كان في معرض الامتنان على بني اسرائيل بإنجائهم من فرعون وآله، وهو هنا في معرض الحديث عن الآيات التي أوتيها موسى عليه السلام.
ومنها أنه الآيات الخارقة التي كانت لموسى من العصى واليد وغيرهما لأنها فرقت بين الحق والباطل.
ومنها أنه القرآن لأن الله سماه الفرقان، وعليه فإما أن يكون المراد بإيتائه موسى إيتاءه ذكر نزوله على محمد صلى الله عليه وسلم حتى آمن به، وهو الذي حكاه ابن الأنباري، وإما أن يخرج الكلام على تقدير محذوف أي ومحمدا الفرقان، وهو محكي عن الفراء وقطرب وثعلب، وضعف هذا القول بكلا فرعيه أظهر من أن يحتاج إلى بيان، فإن من أوتي ذكر شيء لا يعد مؤتى ذلك الشيء بعينه، وإلا لكان كل شقي وسعيد أوتوا الجنة لأنهم قد أوتوا ذكرها فيما أنزله الله من وحيه، وفيما تتناقله الألسن عن النبيين، وتخريج الفرع الثاني من هذا القول على قول الشاعر:
.................
وزججن الحواجب والعيونا
غير مسلم لأن جواز ذلك مشروط بوجود ما يدل على المراد من القرائن، كما في البيت إذ العيون لا تزجج بل تكحل ففهم منه أن فيه لفظا منويا تقديره (وكحلن العيونا) وليست في الآية قرينة يفهم منها هذا المعنى على أن لفظ الفرقان غير محصور في القرآن كما تبين، وقد قال عز من قائل: { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضيآء وذكرا للمتقين }.
والظاهر أن المراد بالفرقان ما احتواه الكتاب نفسه من أحكام ومراشد مفرقة بين الحلال والحرام، وبين الحق والباطل، وهذا الذي اعتمده قطب الأئمة في الهيميان، والإمام محمد عبده في المنار، وجعله القطب - رحمه الله - من باب أعجبني زيد وحسنه، فإن الحسن مما اشتمل عليه زيد المعطوف عليه، وكذا الكتاب مشتمل على الفرقان المميز ويستأنس لهذا القول بما ذيلت به الآية وهو قوله: { لعلكم تهتدون } ، فإن ما في تضاعيف الكتاب من أحكام وحكم، ووعد ووعيد، وحجج وبراهين هو السبب للهداية المشار اليها، ومثل هذا مثل قوله تعالى في القرآن:
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
[البقرة: 2]، فإن احتواء القرآن على الحجج الناصعة، والأحكام البينة، والمعجزة الباهرة هو باب هدايته للمتقين، وكتب الله جميعا أنزلت لهذا الغرض، فهي ينابيع الهدى ومشارق الأنوار، ومصادر الأحكام، وسفن نجاة الناس من مخاطر تيارات الحياة المضطربة.
[2.54]
هذه الآية وما بعدها غير خارجة عن سياق الآيات السابقة واللاحقة، ففيها تذكير بني إسرائيل بنعمة الله التي أسبغها عليهم، وقد توهم بعض المفسرين أنهما مقطوعتان عن هذا السياق، وأن ما فيهما لا يعدو أن يكون تذكيرا بشر ما ارتضوه لأنفسهم من الكفر بعد الإيمان إذ اتخذوا العجل إلها من دون الله سبحانه، وجاهروا برفض الإيمان إذ اتخذوا العجل إلها من دون الله سبحانه، وجاهروا برفض الإيمان حتى يروا الله جهرة، وقد سرى إليهم هذا الوهم من اعتبارهم أن المعصية والعقوبة عليها لا يعدان من النعم، فالمعصية ناتجة عن الخذلان، وهو مغاير للتوفيق الذي يعد من أكبر نعمة الله على الإنسان، والعقوبة - سواء كانت إلهية محضة كالصعق أو كانت تكليفا إلهيا كالقتل - لا تعد إلا بلاء وشدة، فكيف تندرج مع الآلاء وتنتظم في سلك النعم، وقد غفل هؤلاء عن كون المعصية وعقوبتها لم تذكرا في هذه الآية والتي بعدها إلا ليبنى على ذكرهما ذكر ما وليهما من اللطف الإلهي الذي لولاه لما بقيت لبني إسرائيل باقية، ولما كان للمخاطبين - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المقصودين بهذا التذكير - وجود.
ومما هو غني عن الذكر أن الله سبحانه قدير على أن يجمع لهم - على هذا الإغراق في الضلالة واللجاجة في الكفر - عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، غير أنه تعالى لسعة عفوه وواسع حلمه جعل هذه العقوبة الدنيوية - وهي قتل أنفسهم - تكفيرا لما ارتكبوه، لأنها كانت علامة صدق توبتهم ومنتهى إذعانهم على أن من فضل الله عليهم أن رفع هذه العقوبة عنهم قبل أن تستأصل شأفتهم، فكان هذا الرفع نعمة دنيوية جديرة بأن تقابل بالشكر من السلف والخلف، ولا يستغرب أن يشار إلى النعمتين بكلمة العفو الدالة على قبول التوبة ورفع عقاب الدنيا مع الوقاية من عقاب الآخرة، فإن ذلك من الإيجاز المعهود في أساليب القرآن.
وما هذا العقاب الدنيوي إلا ضرب من ضروب التربية النفسية لهم، فإنهم قوم قست قلوبهم، وعتت نفوسهم، لما مردوا عليه من الكفر وألفوه من الضلالة، فكم عاندوا موسى عليه السلام وآذوه وأصروا على هوى أنفسهم واستكبروا استكبارا، وواجهو المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة بالصدود والتكذيب، فكانوا أحرياء بأن يؤدوا ضريبة دموية تكون تطهيرا لخطاياهم وإصلاحا وتقويما لنفوسهم.
والقوم هم الجماعة المترابطة المتآزرة، وسموا كذلك لأنهم جميعا يقومون بمصالح بعضهم بعضا، ولما كانت هذه هي مهمة الرجال غالبا كان إطلاقه عليهم وحدهم هو الأغلب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن
[الحجرات: 11] فإن العطف من شأنه التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وقول زهير:
وما أدري ولست إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
ويطلق على الجماعة الجامعة للذكور والإناث، ومنه قوله تعالى:
إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه
[نوح: 1]، فإن رسالته ليست خاصة بالذكور، وإنما هي شاملة لهم وللإناث، واختلف فيه هل هو من باب المشترك، أو أن حقيقته في الذكور، وإطلاقه على الذكور والإناث معا تغليب، وهذا هو الأظهر لأن الأصل عدم الاشتراك، وفائدة النص على أن قوله كان لقومه مع ابتداء خطابه ب " يا قوم " التنبيه على أن هذا الخطاب ما كان بواسطة بينه وبينهم، بل كان منه لهم مباشرة.
وابتداء خطابهم ب " يا قوم " مشعر بتلطفه بهم، وحنوه عليهم ليكون ذلك أدعى الى تعاطفهم معه واستجابتهم لأمره، وقبولهم لنصحه، فإن من شأن الناس أن يكونوا أوثق بأبناء جلدتهم لا سيما في القضايا المشتركة والمصالح العامة.
وقد ابتدأ عليه السلام نصحه لهم بإيقافهم على فحش خطئهم، وإيقاظهم أنهم لم يظلموا به إلا أنفسهم، فإن مغبة ما ارتكبوا عائدة إليهم، وسوء ما عملوا حائق بهم.
واتخاذهم العجل إما تأليههم له وإما صنعه لأجل عبادته.
والفاء في قوله: { فتوبوا } سببية لأن وجوب التوبة عليهم مسبب عن هذا الظلم الذي ظلموه أنفسهم باتخاذهم العجل.
والبارئ الخالق مع شيء من الفارق الدقيق في مفهوم اللفظين، وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال؛ وقيل: الخلق دال على مطلق الإيجاد، والبرء هو إيجاد الشيء بريئا - أي خالصا - من وصمة التفاوت بين أجزائه، كطول إحدى اليدين مع قصر الأخرى، وكبر إحدى العينين مع صغر الثانية، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت
[الملك: 3]، وأصله الانفصال، كما يقال: برئ من كذا، إذ تخلص منه، ومنه برء المريض، وذلك أن الخلق فصلوا بهذه الإيجاد من العدم إلى الوجود.
وهمزة بارئكم مكسورة عند الجمهور، وسكنها أبو عمرو - وهو أحد السبعة - ولحنه أبو العباس المبرد زاعما أن التسكين غير جائز في حرف الإعراب في نثر ولا شعر، ورد بأن قدماء النحويين أجازوا ذلك وأنشدوا:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
بالدو أمثال السفين العوم
وقول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
ولعل الذي سوغ التسكين في قراءة أبي عمر اجتماع ثقل الكسرة والهمزة مع توالي ثلاث حركات.
وفاء " فاقتلوا " للسببية كالتي قبلها، والسبب هو اتخاذ العجل إن قيل بأن القتل نفسه هو التوبة، وعليه فجملة " فاقتلوا " بدل من جملة " فتوبوا " أو التوبة إن قيل بأنه شرط من شروط صحتها، ككفارة الحنث، فإنها من شروط توبة الحانث وليست عينها، وهذا هو الأظهر لأن للتوبة أركانا معلومة تقدم ذكرها في تفسير قصة آدم، واختلفوا في حكم هذا القتل، قيل: بأنه خاص بهذه المعصية في هذه الواقعة بعينها، وقيل: بأنه تتوقف عليه توبة كل مرتد من بني اسرائيل حسبما شرع لهم، والأول هو الظاهر إذ لم يثبت أنهم أمروا بقتل أنفسهم في غير هذه الواقعة مع كثرة ما صدر عنهم من موجبات الكفر، كقولهم:
إن الله فقير ونحن أغنيآء
[آل عمران: 181].
وهذا الحكم يستحيل صدوره عن موسى عليه السلام من غير أن يستند فيه إلى وحي من الله لأن مما استقرت عليه العقول واتفقت عليه الشرائع وجوب المحافظة على سلامة النفس وبقاء حياتها إلا مع أسباب يستثنيها الشرع، وذلك بأن يكون القتل إما طهارة للنفس أو وقاية للمجتمع.
وقد تلقى بنو إسرائيل هذا الأمر بالامتثال لأنهم شعروا بفداحة ما ارتكبوه، وضلالة ما فعلوا كما قال سبحانه وتعالى فيهم:
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا
[الأعراف: 149].
واختلف المفسرون في كيفية هذا القتل كما اختلفوا في العدد الذي وقع عليه القتل اختلافا كثيرا، قيل أمر عبدة العجل بأن يباشر كل منهم قتل نفسه بيده، وجمهور السلف على خلاف هذا القول حتى أن صاحب المنتخب حكى الإجماع على أنهم لم يؤمروا بقتل أنفسهم بأيديهم، وأنكر عليه أبو حيان في البحر المحيط دعوى الإجماع لوجود من قال بأنهم أمروا بمباشرة قتل أنفسهم من بين المفسرين، ولم ينفرد صاحب المنتخب بحكاية الإجماع في هذه المسألة، بل حكاه القرطبي أيضا، وقيل: بأن المراد بقتلهم أنفسهم هو قتل بعضهم بعضا، وهو المروي عن السلف، وعليه اقتصر المفسرون بالمأثور، وهو المتبادر، لأن الأمة الواحدة في تماسكها وترابطها كالنفس الواحدة والجسد الواحد في الشعور بالبؤس والنعيم، والعز والهوان، فإذا قتل أحد منها أخاه عد قاتلا لنفسه لأنه يصاب بفداحة الخسران منه كغيره من أبناء تلك الأمة، وكثيرا ما تراعي هذه الوحدة الشعورية الواجبة بين الأمة في الخطابات التشريعية لإثارة الإحساس بها، ومن ذلك قوله تعالى:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
[البقرة: 188]، وقوله:
ولا تلمزوا أنفسكم
[الحجرات: 11]، فإنه مما لا يختلف فيه أن النهي في الآيتين إنما هو عن أكل مال الغير وعن لمز الغير، وهؤلاء اختلفوا، منهم من ذهب إلى أنهم جميعا أمروا بأن يأخذوا الحراب ويقتل بعضهم بعضا، ومنهم من ذهب إلى أن الذين أمروا بالقتل هم السبعون الذين كانوا مع موسى عليه السلام في الميقات ولم يشتركوا معهم في عبادة العجل، وذهب آخرون إلى أن المأمورين بالقتل هم الذين اعتزلوا مع هارون.
وقيل: بأن استسلامهم للقتل هو الذي عبر عنه بقتل أنفسهم، وذلك بأن عباد العجل أمروا بأن يحتبوا في أفنية دورهم ، وخرج عليهم يوشع بن نون وهم محتبون، فقال: ملعون من حل حبوته أو مد طرفه الى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل.
وقيل: أمروا بأن يبخعوا أنفسهم، أي يحملوها من هموم الندم والحزن على اقتراف الشرك ما لا تتحمله؛ وقيل: بل أمروا بتذليل النفوس وهو المراد بقتلها، كما قال حسان:
إن التي عاطيتني فرددتها
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
وهو ضعيف.
وأما عدد القتلى فأكثر المفسرين قالوا بأنهم كانوا سبعين ألفا تعويلا منهم على الروايات المعزوة إلى السلف من الصحابة والتابعين، ورجح بعض مفسري العصر أنهم كانوا ثلاثة آلاف تعويلا على نصوص التوراة، وكلا القولين ليس له سند واضح.
أما الروايات المعزوة إلى السلف فليست وحدها حجة لعدم وثوق أسانيدها، وأما نصوص التوراة - بعدما دخلها التحريف والتبديل - فهي أضعف من أن تكون دليلا على شيء مع أنها لم تتفق على تحديد العدد بثلاثة آلاف، فقد جاء في بعض رواياتها أنهم كانوا ثلاثة وعشرين ألفا، ولا داعي إلى التفتيش عما طوى عنا القرآن علمه من هذه الأخبار، ولم يثبت بسند مقبول عن المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، فإنه يفضي إلى الدخول في متاهات الأوهام، وحسبنا ذكرا وعظة ما قصة الله لنا من أن توبتهم كانت معقودة على دفع هذا الثمن الباهض لشططهم في الكفر، وغلوهم في التعنت؛ ثم تداركتهم عناية الله ولطفه فقبل توبتهم، وأذن برفع القتل عن بقاياهم، فكان القتل شهادة للمقتولين وتوبة للباقين: { إنه هو التواب الرحيم } تذييل لقوله: { توبوا } أو لقوله: { فتاب عليكم } وهو الأظهر.
[2.55-56]
هذه حلقة في سلسلة عنادهم المتطاول، وضرب من ضروب إخلادهم إلى الأباطيل في مواجهة الحق البين، والحقيقة الناصعة، فإنهم لم يكتفوا بما شاهدوه رأى العين من معجزات موسى الباهرة، وحججه القاهرة، التي يطمئن إليها كل ذي لب، ويهتدي بها كل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، حتى جاهروا بهذا المطلب الذي لا يصدر إلا ممن لم يقدروا الله حق قدره، ولم يصفوه بما هو هل أهل من صفات الجلال والكبرياء ، وفي طي تذكيرهم بهذه الجريمة النكراء تذكير بنعمة أخرى من نعم الله المتلاحقة عليهم، وهي تداركهم باللطف بعدما حاق بهم العقاب الأليم اللائق بسوء ما ارتكبوه، ومحط هذا الامتنان قوله: { ثم بعثناكم }.
وتعدية نؤمن باللام لتضمنه معنى نقر، والمراد بعدم إيمانهم له عدم إيمانهم بما أنزل عليه من الكتاب، أو بأنه رسول من الله، أو بأن الله كلمه تكليما.
والجهرة هنا بمعنى العلانية كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج عن الربيع وقتادة أنه بمعنى العيان، والمؤدى واحد، وإنما أوثرت كلمة " جهرة " على غيرها مما يؤدي مؤداها لتلاؤمها مع ما سبقها ولحقها في النظم، بجانب ما توحيه من وصف التعنت الذي كانوا عليه، وأصلها بمعنى الظهور، ومنه الجهر بالقراءة.
وانتصابها على المصدرية التأكيدية، فهي تجتث توهم أن تكون الرؤية المطلوبة منامية أو قلبية، وهذا أولى من دعوى أن النصب على الحالية بمعنى جاهرين بالرؤية، أو تقدير محذوف، أي ذوي جهرة.
واختلف في أصحاب هذه المقالة؛ فقيل: هم السبعون الذين اختارهم لميقات ربه، وقيل كانوا عشرة آلاف من بني اسرائيل، والأول أصح لقوله تعالى:
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي
[الأعراف: 155].
واختلف في هذا الميقات؛ قيل: إنه الميقات الذي كان بعد تنجيتهم من فرعون وآله الذي وعد الله موسى أن ينزل عليه الكتاب فيه، وقيل: هو ميقات آخر واعد الله فيه موسى ليجيئه بسبعين رجلا من بني إسرائيل يعتذرون إليه مما وقعوا فيه من عبادة العجل، ومهما يكن فإن الظاهر أن هؤلاء كانوا من أفضل بني إسرائيل حسب ظاهر حالهم، فلذلك اختيروا لما اختيروا له من الشهادة لموسى عليه السلام بإنزال التوراة عليه، أو للوفود على الله للاعتذار إليه، ومع ذلك قالوا ما قالوا من كلمة الكفر إذ علقوا إيمانهم لموسى على ما يستحيل على الله، وحسبكم ذلك دليلا على شر طباعهم وتعفن أفكارهم وبعد ضلالهم، بأن المراد بنظرهم نظرهم إلى أحوالهم، وما بقى في أجسامهم من أثر ولكن الحق تعالى لم يمهلهم في هذه المرة، بل صب عليهم سوط عذابه، وأذاقهم وبال ما ارتكبوه، إذ أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
وقد قال جماعة من أهل التفسير وغيرهم إن الذي أطمعهم في رؤية الله سماعهم كلامه، فقاسوا الرؤية على السماع، وأكثر المفسرين على أن السماع كان خاصا بموسى وحده، وهو الذي يؤذن به قوله تعالى:
إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي
[الأعراف: 144]، وكأني بأصحاب القول الأول يستدلون لقولهم بما جاء في سفر التثنية من التوراة مما يقتضي ثبوت السماع لهم، وقد علمتم أن نصوص التوراة لم تعد مما يعول عليه في اثبات شيء أو نفيه لما خالطها من تحريف المحرفين وأضاليل الدجالين، فغشيها من اللبس ما غشيها.
والصاعقة هي صوت مرجف، وقيل: نار محرقة، وقيل: صوت مع نار، وقيل: هي الموت، وقيل: صوت جند الله لم يطيقوا سماعة، والصحيح الأول لقوله تعالى:
فلما أخذتهم الرجفة
[الأعراف: 155].
وأخذها إياهم استيلاؤها عليهم وإحاطتها بهم.
وجملة { وأنتم تنظرون } حالية، وهي دالة على أن الصاعقة نزلت بهم وقد كانوا واعين بهولها محسين بشدتها حتى أهلكتهم، ولا داعي إلى التأويلات البعيدة التي حاولها المفسرون لتبيان مفهوم هذه الجملة، كقول القرطبي بأن المراد بنظرهم تقابلهم في حال الموت كما تقول العرب دور آل فلان تراءى، أي يقابل بعضها بعضا؛ وقول غيره الصعق بعد البعث؛ وقول الآخرين بأنهم كانوا ينظر بعضهم إلى بعض عندما بعثهم الله بالإحياء مرة أخرى، فإن في ذلك من التكلف ما لا يخفى على متأمل.
وفي التأويلين الأخيرين خروج بجملة { وأنتم تنظرون } عن الحالية، لأن نظرهم إلى آثار الصاعقة وإلى سريان الحياة في أجسادهم غير مقترن بنزول الصاعقة بهم، كيف وقد قيل إنهم ماتوا يوما وليلة، وقيل: يومين؟ وهذا كله مبني على أنها كانت ميتة حقيقية، وهو الذي يؤيده قوله تعالى:
ثم بعثناكم من بعد موتكم
[البقرة: 56].
وعليه فيكون هؤلاء من الذين ماتوا وأحيوا بعد الموت في الدار الدنيا
كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه
[البقرة: 259]، وكالذين أخبر الله عنهم بقوله:
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم
[البقرة: 243]، ويدخل ذلك في مقدورات الله الخارجة عن السنن المعهودة، وبهذا تعلمون أنه لا داعي إلى السؤال والجواب اللذين أوردهما الإمام ابن عاشور في قوله: " فإن قلت ان الموت يقتضي انحلال التركيب المزاجي فكيف يكون البعث بعده في غير يوم إعادة الخلق؟ قلت الموت هو وقوف حركة القلب وتعطيل وظائف الدورة الدموية، فإذا حصل عن فساد فيها لم تعقبه حياة إلا في يوم إعادة الخلق، وهو المعني بقوله تعالى:
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى
[الدخان: 56]، واذا حصل عن حادث قاهر مانع وظائف القلب من عملها كان للجسد حكم الموت في تلك الحالة، لكنه يقبل الرجوع إن عادت إليه أسباب الحياة بزال الموانع العارضة، وقد صار الأطباء اليوم يعتبرون بعض الأحوال التي تعطل عمل القلب اعتبار الموت، ويعالجون القلب بأعمال جراحية تعيد إليه حركته، والموت بالصاعقة إذا كان عن اختناق أو قوة ضغط الصوت على القلب قد تعقبه الحياة بوصول هواء صاف جديد، وقد يطول زمن هذا الموت في العادة ساعات قليلة، ولكن هذا الحادث كان خارق عادة، فيمكن أن يكون موتهم قد طال يوما وليلة كما روي في بعض الأخبار، ويمكن دون ذلك ".
ولعل العلامة ابن عاشور لم يستحضر عندما كتب الذي كتبه هنا آيتي 243، 259 من هذه السورة اللتين سبق ذكرهما، وأن من معجزات عيسى إحياء الموتى، كما نص عليه في سورتي آل عمران والمائدة.
وذهبت طائفة إلى أن ميتتهم هذه لم تكن ميتة حقيقية، بل كانت ميتة همود وسكون، ثم أرسلوا، وذلك على حد قوله تعالى:
ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت
[إبراهيم: 17].
وذكر هذه القصة وارد مورد الإمتنان عليهم كسائر هذه القصص المتتابعة مع ما فيها من النداء عليهم بسفاهة الأحلام، وضلال العقول، وفساد الفطرة، ومحط الامتنان قوله: { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون }.
[2.57]
هذا تذكير بنعمة أخرى أسبغت عليهم في وقت كانوا فيه أشد فقرا إلى مثلها، إذ كان المحكى هنا عندما كانوا في التيه يترددون في حدوده لا يتجاوزونها، كأنما يدورون في حلقة مفرغة، وذلك عندما طالبهم موسى عليه السلام بمقاتلة الجبارين في أرض الشام فعتوا عتوا كبيرا، وقالوا له:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
[المائدة: 24]، فظلوا يتخبطون في سيرهم، يتيهون في الأرض مدة أربعين عاما، لا يدرون المخرج من محبسهم، عقوبة من الله على عتوهم، وبجانب هذا التأديب الإلهي لهم كانت عين العناية ترعاهم، وسيوب الإحسان تغمرهم، ومن ذلك ما حكاه الله هنا من تظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى إليهم، وما حكاه من بعد من تفجير الأنهار لهم من الحجر الصلد؛ وأضاف المفسرون الى ذلك أنه تعالى سخر لهم عمودا من نور يستضيئون به، وأن ثيابهم كانت لا تبلى، وكانت تنمو بنمو أجسادهم، وهذا مما لم تثبت به حجة، والله على كل شيء قدير، لا يعجزه ذلك، كما لم يعجزه تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى عليهم.
" وظللنا " معطوف على " بعثناكم " ، وقيل على " قلتم " ، والصحيح الأول لتناسبهما في كون كل منهما نعمة، واشتراكهما في إسنادهما الى الله بخلاف " قلتم " ، فإنه يفيد النداء عليهم بالحماقة والجهل ولا يبعد أن يكوت ترتب هذه الأحداث في الوقوع بحسب ترتيبها في الذكر، وهذا هو الظاهر، وخالف في ذلك العلامة ابن عاشور حيث قال: " والظاهر أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة، لأن التوراة ذكرت نزول المن والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيلين وسيناء في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم، ومما تنبته الأرض، وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سيناء، فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة، ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن لبني اسرائيل بالرحيل، فإذا حلت السحابة حلوا... الخ. كذا تقول كتبهم ".
وهذا الكلام لا يخلو من تناقض، فقد ذكر أولا أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كانا قبل سؤالهم رؤية الله جهرة، ثم أتبعه أن تظليلهم بالغمام وقع بعد أن سألوا رؤية الله، ثم هو مخالف لما عليه المفسرون من أن ذلك حدث في التيه عندما امتنعوا عن مقاتلة الجبارين.
والغمام اسم جنس، واحده غمامة، كسحاب وسحابة، وزنا ومعنى، وقيل: هو السحاب الأبيض، وقيل: ما رق منه وبرد، وهو المروي عن مجاهد، ورده الإمام محمد عبده بأن السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل إلا بسحاب كثيف يمنع حر الشمس ووهجها، وكذلك لا تتم النعمة التي بها المنة الا بالكثيف، وهو المنقول المعروف عند الإسرائيليين أنفسهم.
وتسميته غماما لأنه يغم السماء أي يسترها عن الأبصار، وزعم بعضهم أنه لم يكن غماما حقيقة، وإنما كان ظلا مشبها للغمام فسمي به، والصحيح خلاف ذلك، إذ لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا من قرينه تصرف اللفظ عنها إليه.
وعد هذا التظليل نعمة لأنه يقيهم لفح الشمس ووهجها، واستظهر بعض المفسرين من ذلك أنه كان بالنهار دون الليل، أما الليل فقد كان الغمام ينجلي فيه ليأنسوا بنور القمر، ولألاء النجوم في الصحو.
والمن - في قول أكثر المفسرين - مادة صمغية ذات حلاوة مع شيء من الحموضة لم تكن معهودة في بلاد الشام وما حاذاها، وإنما يكثر نزولها في تركستان، وقد أنعم الله به على بني اسرائيل في التيه فكان ينزل عليهم كالطل بين انشقاق الفجر وطلوع الشمس فيما عدا يوم السبت، وكان كل منهم يأخذ قدر صاع ليومه وليلته، ولا يدخرون منه إلا ليوم السبت.
ونقل الإمام ابن عاشور عن التوراة أنها وصفته بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض، وهو مثل بزر الكزبرة أبيض، وطعمه كرقاق بعسل، وأنهم كانوا يلتقطونه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه، فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحى، أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور، وعملوه ملات، وكان طعمه كطعم قطائف بزيت.
وأخرج ابن جرير عن عبد الصمد قال: سمعت وهبا، وسئل ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة ومثل النقى، والظاهر أن وهبا استمد تفسيره هذا للمن مما جاء في التوراة من وصف طعمه أنه كرقاق بعسل فمراده تشبيهه بالرقاق وحذف آلة التشبيه.
وفسره الربيع بن أنس - فيما رواه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم - أنه شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، وقيل: هو العسل نفسه، روى ذلك ابن جرير عن عام وابن زيد، وهو يتفق مع ما قاله أمية بن أبي الصلت في وصفه، وهو:
فرأى الله أنهم بمضيع
لا بذي مزرع ولا مثمورا
فعناها عليهم غاديات
ومرى مزنهم خلايا وخورا
عسلا ناطفا وماء فراتا
وحليبا ذا بهجة ممرورا
وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن المن مصدر يعم كل ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع، واستدلوا بما أخرجه الجماعة إلا أبا داود عن سعيد بن عمرو بن نفيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء العين "
واختلف في توجيه هذا الحديث، فقال بعضهم بأن الكمأة ذاتها مما أنزله الله على بني إسرائيل أي مما خلقه لهم في التيه، وقال آخرون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم تشبيهها بالمن لأنها لا تحتاج إلى مؤونة ببذر ولا سقي ولا علاج.
والسلوى طائر يدعى السماني، وقيل: طائر يشبه السماني وليس به، والقولان أخرجهما ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج ثانيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه، وطائفة من مفسري السلف؛ وقيل: السلوى العسل، روى ذلك عن مؤرج بن عمر السدوسي - أحد علماء اللغة والتفسير - واستدل له بقول الهذلي :
وقاسمها بالله جهدا لأنتم
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وانتقد هذا القول ابن عطية وادعى أن إجماع المفسرين على خلافه، وغلط الهذلي قائل البيت، وابن عطية هو الواقع في الغلط، فإن الهذلي هذا هو خالد بن زهير ممن يعتد بكلامه في اللسان العربي، واستدل ببيته هذا أئمة اللغة. كالمؤرج المذكور وابن سيدة والجوهري، وذكر المؤرج أن مجيء السلوى بمعنى العسل لغة كنانية؛ وإنما الأقرب أن تكون السلوى في الآية من أنواع الطير كما روي عن السلف، وذكروا أن ريح الجنوب كانت تسوقها إليهم في كل يوم فيأخذون حاجتهم منها ليومهم، ولا يدخرون إلا ليوم السبت، وإن ادخروا لغيره فسد المدخر كما هو الشأن في المن كذلك، وإنما يأخذون منهما في يوم الجمعة ما يكفيهم له وللسبت بعده لأنهم كانوا يتفرغون يوم السبت للعبادة ولا يبرحون أمكنتهم.
ومع ظهور هذه الآيات بجانب المعجزات السابقة لم يبرحوا حالتهم التي ألفوها، لأنهم ألفوا الشقاق، ومردوا عليه، فظلوا في تيههم يتخبطون إلى أن مات هارون ثم موسى - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما - وهلك ذلك الجيل العاتي، ونشأ جيل جديد أسلم منه فطرة، وأسلس قيادا، وأوفى مروءة، وأرهف حسا، فقاتل به يوشع بن نون خليفة موسى - عليهما السلام - الجبارين، وفتح به الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، فكان لهم التمكين في الأرض كما وعدهم الله حتى بدل أعقابهم وعادوا إلى ما كان عليه سلفهم الأولون من اللؤم والفساد، وقتلوا من قتلوا من النبيين، فأعقبهم الله ذلا وهوانا، وفتنة ودمارا، وهذه هي سنة الله في عباده
وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون
[آل عمران: 117].
وبهذا يتبين بعد البون بين حال أمتي محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، فنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بعث في أمة بدائية ليس لها عهد بالنبوات منذ أمد بعيد، وقرن بمعجزة معنوية - وهي القرآن الذي بعث به - لا كمعجزات موسى عليه السلام التي كانت تدرك بالحواس، وتتجلى لجميع الناس، كاليد والعصى، وفرق البحر، ونزول المن والسلوى، ومع ذلك لم تلبث هذه الأمة التي بعث فيها - عليه الصلاة والسلام أن انقادت لأمره واضطلعت بأمانته، فكان كل فرد منها كأنه رسول بعث إلى أمة، يجسد بفعله وقوله قيم الدين ومبادئ الحق مع ما كان منها - بادي الأمر - من مجاهرة أكثرها بعدائه صلى الله عليه وسلم، ومناصبته الحرب، ومعاكسته في الأمر، ولعمري إن هذا التحول السريع في مدة عقدين من السنين قضاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني هذه الأمة مبلغا دعوة ربه، ومجاهدا في سبيله، لدليل كاف أن الله سبحانه أعدها بتزكية فطرتها، وتنوير بصائرها، لحمل أمانة الرسالة الخاتمة الجامعة، ولأن تكون أمة وسطا شهيدة على سائر الأمم.
والأمر في قوله سبحانه: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } للامتنان ذلك لأن الموهوب يشعر بجسامة ما أنعم به الواهب إذا صرح له للانتفاع به، واستظهر منه بعض العلماء أنه لا يجوز لمن أحضر له الطعام أن يأكل منه حتى يؤمر الأكل، والصحيح أن العرف كاف في إباحة الأكل في مثل هذه الحالة، والمسألة ونظائرها مبسوطة في كتب الفقه، والمراد بقوله: { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } أن عاقبة ظلمهم لم تعد إلا على أنفسهم، فالعبد وإن تطاول على ربه بأنواع المعاصي وصنوف الكفران فإنه لا يضر بذلك إلا نفسه، والله أجل من أن يلحقه ضرر أو يناله مكروه، ويجوز أن تكون هذه الجملة فذلكة لما وصفوا به من صفات الظلم من قبل، كاتخاذهم العجل، وسؤالهم الرؤية.
[2.58-59]
هذا تذكير بنعمة كفروها فعادت عليهم محنة وبلاء بعدما كانت يسرا وعطاء، وهكذا تنقلب النعمة إذا لم تشكر، وقد أجملت هذه القصة في هاتين الآيتين كما أجملت في أيتي (161، 162) من سورة الأعراف لأنها كانت معلومة للمخاطبين، فلم يكن داع لشرحها لأن المقصود مجرد تذكيرهم بها، وفي هذا الإجمال ما يكفي لأن يكون عبرة للمعتبرين.
ولم يتحد التعبير عنها هنا وفي سورة الأعراف، بل تجد تفاوتا في الموضعين في الترتيب، واختلافا في الألفاظ، وذلك لما سأبينه إن شاء الله هناك.
والقرية هي الأرض العامرة بالسكان المستقرة بأهلها ، مأخوذة من قريت الماء بمعنى جمعته في الحوض، وسميت بذلك لجمعها بيوتا وأسواقا ومعابد ومصانع، وغيرها، من المباني التي تعد من معالم الحضارة، وضرورات المدنية، وفي هذا ما يدل على أن اسم القرية غير خاص بالمجامع الصغيرة للناس، بل يطلق عليها وعلى المدن ذات العمران الواسع، وما تعورف عليه من التفرقة بين المدينة والقرية بأن الأولى هي المجمع الواسع الذي يضم عددا أكبر من السكان ودورا أوسع في العمران، والثانية ما كان على العكس من ذلك هو اصطلاح ناشئ لا تحمل عليه عبارات القرآن، بل استعمال القرآن يدل على خلاف ذلك، فإن الله سبحانه عندما يذكر أهل القرى يريد بهم أولئك الجبارين الذين استعلوا على الخلق، وأنفوا من الحق، وكذبوا الرسل، وعاثوا في الأرض فسادا، وأذلوا الناس بالقهر، وقد وصفهم عموما بأنهم كانت لهم حضارات راقية، وقوى مكينة واسعة، فاسمعوا إن شئتم إلى قوله:
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السمآء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم
[الأنعام: 6]، وقوله:
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروهآ أكثر مما عمروها
[الروم: 9]؛ وتجدون فيما وصف الله به عادا وثمود وقوم فرعون وغيرهم ما يدلكم على أنهم كانت لهم مدن واسعة مغرية بسعة عمرانها وكثرة سكانها، ومع ذلك فقد سماهم الله أهل القرى في مواضع من كتابه كالذي تجدونه في سورة هود بعد أن قص الله نبأ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وأصحاب مدين وقوم لوط وفرعون وآله حيث قال:
ذلك من أنبآء القرى نقصه عليك
[هود: 100]، وقال:
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة
[هود: 102]، وحكى الله عن أبناء يعقوب قولهم:
وسئل القرية التي كنا فيها
[يوسف: 82]، مع العلم بأنهم كانوا في بلدة، جمعت فيها خزائن الأرض، والتقت فيها القوافل، وتزاحمت بها الأقدام، وهذا مالا يكون عادة إلا في المدن الكبرى التي اصطلحوا على تسميتها عواصم وحكى عن المشركين قولهم:
لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم
[الزخرف: 31] ومرادهم مكة والطائف، وكلتا البلدتين كانتا من البلدان العربية المتسعة العمران.
واختلف في هذه القرية، فقيل: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة والسدي والربيع أخرجه عنهم ابن جرير، واستدل له بقول الله تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام:
ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم
[المائدة: 21]، وتعقب بأنهم لم يدخلوا الأرض المقدسة في أيام موسى عليه السلام لأن موسى مات في التيه وقد افتتحوها بعدما خرجوا منه بقيادة خليفته يوشع بن نون عليهما السلام، ورد بأن قائل " ادخلوا القرية " مبهم فلا يلزم أن يكون موسى، ولا مانع أن يكون يوشع.
وهذا الرد مردود بما في سورة المائدة، فإن الآية قبل قوله:
ادخلوا الأرض المقدسة...
الخ [المائدة: 21] صريحة بأن قائل ذلك موسى عليه السلام، وذلك قوله سبحانه:
وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم...
الخ [المائدة: 20]، وكذا المحكي عنهم من جوابهم له وهو قولهم:
ياموسى إن فيها قوما جبارين...
الخ [المائدة: 22]، فلا يستقيم تفسير القرية بالأرض المقدسة إلا مع القول بأن موسى هو قائل ذلك لهم، اللهم إلا أن يقال إن القصة المحكية هنا وفي سورة الأعراف غير المحكية في سورة المائدة وذلك أن ما في سورة المائدة كان قبل معاقبتهم بالتيه بل كانت تلك المعاندة منهم هي سبب وقوعهم فيه كما هو واضح من قوله تعالى ردا على شكوى موسى:
فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
[المائدة: 26]، أما هذه القصة فهي قصة دخولهم الأرض المقدسة بعد مقاتلهم للجبارين في عهد يوشع عليه السلام، وذلك بعد خروجهم من التيه، وكان هذا الأمر على لسان يوشع، وهذا هو الذي يتعين في الجمع بين شتات هذه المحكيات.
وقيل هي أريحاء، وهي قريبة من بيت المقدس، روى ذلك ابن جرير عن ابن زيد، وبه صدر القطب - رحمه الله - في هيميانه وتيسيره، وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر نفسه كان على لسان موسى ، وأنه عين ما ذكر في سورة المائدة وأن مخالفتهم له هي المقصودة بالتبديل، وقيل: إن المراد بالقرية الشام كله، وهو قول ابن كيسان، وقال الضحاك هي الرملة، والأردن، وفلسطين، وتدمر.
وذهب الامام ابن عاشور إلى أن القرية هي مدينة حبرون، وأن المأمورين بدخولها اثنا عشر رجلا بعثهم موسى عليه السلام عيونا إلى أرض كنعان ليكتشفوا خبرها وذلك أن بني اسرائيل عندما طوحت بهم الرحلة إلى برية فاران نزلوا بمدينة قادش فأصبحوا على حدود أرض كنعان التي هي الأرض المقدسة التي وعدها الله بني اسرائيل، وذلك في أثناء السنة الثانية بعد خروجهم من مصر، فأرسل موسى هؤلاء الاثني عشر اختارهم من جميع الأسباط من كل سبط رجل وكان فيهم يوشع بن نون وكالب بن بفنة فصعدوا وأتوا إلى مدينة حبرون، فوجدوا الأرض ذات خيرات، وقطعوا من عنبها ورمانها وتينها، ورجعوا لقومهم بعد أربعين يوما وأخبروا موسى وهارون وجميع بني اسرائيل وأروهم ثمر الأرض، وأخبروهم أنها حقا تفيض لبنا وعسلا غير أن أهلها ذوو عزة ومدنها حصينة جدا، فأمر موسى كالبا فأنصت بني اسرائيل إلى موسى، وقال: إننا نصعد ونمتلكها، وكذلك يوشع، أما العشرة الآخرون فأشاعوا في بني اسرائيل مذمة الأرض، وأنها تأكل سكانها، وأن سكانها جبابرة، فخافت بنو اسرائيل من سكان الأرض وجبنوا عن القتال، فقام فيهم يوشع وكالب قائلين لا تخافوا من العدو فإنهم لقمة لنا والله معنا، فلم يصغ القوم لهم، وأوحى الله لموسى أن بني اسرائيل أساءوا الظن بربهم وأنه مهلكهم، فاستشفع لهم موسى فعفا الله عنهم.
ولكنه حرمهم من الدخول إلى الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون فلا يدخلها أحد من الحاضرين يومئذ إلا يوشعا وكالب، وأرسل الله على الجواسيس العشرة المثبطين وباء أهلكهم.
وذكر أن هذا التفسير الصحيح المنطبق على التأريخ الصحيح، وطبق ابن عاشور نصوص القرآن الواردة في هذه القصة على هذا الذي ذكره منقولا من مصادر أهل الكتاب.
وقوله تعالى: { فكلوا منها حيث شئتم رغدا } دال على أن هذه القرية جعلها الله لهم مآبا ومنقلبا ، فلذلك أباح لهم الأكل منها حيث شاءوا وإذا ما قارنتم ذلك بقوله تعالى في الأرض المقدسة:
التي كتب الله لكم
[المائدة: 21] اتضح لكم أن هذا القرية هي نفس الأرض المقدسة، ولأجل ملاحظة هذا المعنى قال من قال إنها جميع بلاد الشام ذلك لأن بني اسرائيل استخلفهم الله فيها فكانت موطن عزهم وتخت مملكتهم.
وتوقف الإمام محمد عبده عن تعيين هذه القرية، وقال: " نسكت عن تعيين القرية كما سكت القرآن، فقد أمر بنو إسرائيل بدخول بلاد كثيرة، وكانوا يؤمرون بدخولها خاشعين لله، خاضعين لأمره مستشعرين عظمته وجلاله، ونعمه وأفضاله ".
وقد اتضح لكم مما ذكرته أن الأمر بالأكل للإباحة، وإن كان معطوفا على الأمر الواجب، وهو الأمر بالدخول، لأن الجامع بينهما مطلق الطلب.
واختلف في الباب الذي أمروا بدخوله؛ فقيل هو باب القرية، وقيل هو باب من أبواب بيت المقدس، روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وورى عنه أنه قال: يعرف اليوم بباب حطة، وقد تعاقب المفسرون زمنا بعد زمن على نقل ذلك عنه والاعتماد عليه، فكانوا يقولون إنه يعرف اليوم بباب حطة، وممن قال ذلك الألوسي في تفسيره، وهو من علماء القرن الثالث عشر، وهذا من التقليد الأعمى، فإن من شأن الأحوال أن تتحول، فلا بد - مع مضي العصور - أن تتغير الأبواب وتختلف الأعراف، وقيل هو باب القبة التي كان يتجه إليها موسى وهارون عليهما السلام في صلاتهما، وقيل: ليس المراد بالباب حقيقته المعروفة وإنما يراد به مدخل إلى القرية، وقد وصفه بعضهم بأنه مدخل بين جبلين.
أمروا أن يدخلوا سجدا تواضعا لله وشكرا له على ما أنعم به من نعمة الاستخلاف في الأرض، واختلف في المراد بالسجود؛ قيل: هو طأطأة الرأس وحني الظهر تواضعا له سبحانه، وسمي سجودا لما فيه من الخضوع للمقام الأعلى، (وأصل السجود) الانحناء لمن سجد له معظما بذلك، فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد، ومنه قول الشاعر:
بجمع تظل البلق في حجراته
ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
يعني بقوله سجدا خاشعة خاضعة ، ومن ذلك قول أعشى ابن قيس بن ثعلبة:
يراوح من صلوات الملي
ك طورا سجودا وطورا جؤارا
وهو معنى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في (سجدا) ركعا، وحمل بعضهم السجود على ظاهره، واعترض بأن السجود سكون، والدخول حركة فيتعذر أن يجتمعا، وقال الزمخشري أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله وتواضعا؛ واعترضه أبو حيان بأن ما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب، بل أمروا بالدخول في حال السجود، فالسجود ليس مأمورا به، بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية، فتناقضتا إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييديا اسناديا لأنه من حيث التقييد لا يكتفى كلاما، ومن حيث الإسناد يكتفى، فظهر التناقض، ورده الشوكاني بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد، فمن قال اخرج مسرعا فهو آمر بالخروج على هذه الهيئة، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفا للأمر، ولا ينافي هذا كون الأحوال نسبا تقييدية، فإن اتصافها بكونها قيودا مأمورا بها هو شيء زائد على مجرد التقييد.
وللإمام ابن عاشور في هذا الأمر بالسجود تفسير يتلاءم مع ما ذكرته من قبل عنه في تفسير الأمر بدخول القرية، وحاصل ما قاله أن المقصود بالسجود مطلق الانحناء لإظهار العجز والضعف كي لا يفظن لهم أهل القرية، وهو مما تقتضيه مهمة التجسس التي بعثوا من أجلها، واستبعد أن يكون السجود المأمور به سجود شكر، لأنهم كانوا عيونا ولم يكونوا فاتحين، واستظهر مما جاء في الحديث الصحيح أنهم بدلوا وصية موسى فدخلوا يزحفون على أستاههم أنهم أرادوا إظهار الزمانة فأفرطوا في التصنع بحيث يكاد أمرهم يفتضح لأن بعض التصنع لا يستطاع استمراره.
والحطة مصدر دال على الهيئة من حط يحط بمعنى أسقط، واختلف في المراد بها؛ قيل: إنها بمعنى حط الأوزار، وعليه فيقدر مبتدأ محذوف، أي مسألتنا حطة، وهو تعبير عن طلبهم الله أن يحط أوزارهم، ولما كان هذا المصدر بصيغة فعلة - بكسر الفاء - الدالة على الهيئة، حمل على طلب نوع عظيم من الحط، وهو حط كبار الأوزار، ويعني ذلك اعترافهم بارتكابهم الكبائر مع سؤالهم غفرانها، وقيل: يقدر أمرنا حطة، وهو محمول على أنهم مأمورون بأن يعبروا عما هم مأمورون به وواجب عليهم امتثاله من حط الرحال في تلك القرية تعبيرا عن الامتثال.
والقول الأول أشهر، أخرجه ابن جرير عن الحسن وقتادة، وأخرج معناه عن ابن عباس وابن زيد والربيع وعطاء بألفاظ مختلف منها أن الحطة عبارة عن الاستغفار وذلك ليجمعوا بين خشوع القلب وخضوع الجوارح، والاستغفار باللسان، وجنح الى هذا الرأي الفخر الرازي، وقال: إنه أحسن الوجوه وأقربها الى التحقيق، وعليه اعتمد ابن جرير، ولا داعي إلى اعتبار العبارات المختلفة المحكية عن السلف، والمؤثرة في الكتب - مع اتفاقها في هذا المعنى - آراء متبانية فإن الخلف في ذلك لفظي فحسب، وتعضد هذا الرأي قراءة من نصب حطة ولو كانت شاذة كما يدل عليه قول الشاعر:
فاز بالحطة التي جعل الله
بها ذنب عبده مغفورا
ولا يعد مخالفا لهذا الرأي ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن عكرمة أنهم أمروا أن يقولوا: لا إله إلا الله، لأن قولهم ذلك إثر ما تتابع من معاصيهم وتكرر من عنادهم لجوء إلى الله وإعلان للتوبة وطلب لمغفرة الخطايا إن قالوها من أعماق نفوسهم دائنين بما تقتضيه من الانقياد المطلق لواجب الوجود الذي أسبغ نعمه عليهم وعلى كل موجود سبحانه وتعالى.
وقال الإمام محمد عبده: " المراد بالحطة الدعاء بأن تحط عنهم خطايا التقصير وكفر النعم ".
وبناء على ما سبق نقله عن الإمام ابن عاشور في تفسير القصة ذهب إلى أن كلمة حطة ما أن تكون كلمة معروفة في ذلك المكان للدلالة على العجز أو أنها من أقوال المتسولين والشحاذين كي لا يحسب لهم أهل القرية حسابا ولا يأخذوا حذرا منهم فيكون القول الذي أمروا به قولا يخاطبون به أهل القرية، وضعف ابن عاشور القولين الأولين لاستبعاده الدعاء بمصدر مرفوع، وهو مع التأمل غير بعيد في بعض الأحوال لورود مثله في الطلب، كقول الشاعر:
شكا إلي جملي طول السرى
صبر جميل فكلانا مبتلى
والعدول عن النصب إلى الرفع لما يفيده من الثبوت والدوام.
وعدوا على امتثال ما أمروا به غفران الخطايا - وهي جمع خطيئة - وهو فوز كبير، ونعمة جلى، ومطلب لكل عاقل، فبحسب الإنسان نعمة بالغة تكفير خطاياه الموبقة، وتنجيته من عواقبها المهلكة، ومع ذلك وعدوا زيادة في الأجر على الإحسان إن أحسنوا، وهو محتمل بأن يكون أجرا دنيويا بزيادة الفتوح والتمكين في أنحاء الأرض، أو أخرويا بزيادة الدرجات في الدار الآخرة، أو كلا الأمرين، وهو الظاهر، غير أنهم لشر منزعهم، وفساد طباعهم، وانحراف فطرهم بدأبهم على التمرد والعصيان أضاعوا هذه الفرصة، وزهدوا في ما وعدوا به، فانقلب الوعد وعيدا، وتحولت النعمة إلى نقمة، ذلك بأنهم كفروا نعمة ربهم، وهكذا تكون عاقبة الكنود الجحود، فقد بدل أولئك قولا غير الذي قيل لهم، وذلك أنهم دخلوا زاحفين على أستاههم وهم يقولون: حبة في شعرة، أخرج ذلك الشيخان وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا أنهم دخلوا يقولون: حنطة في شعيرة.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنهم قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة، وعن ابن عباس أنهم قالوا: حنطة، والروايات في ذلك متعددة، والجمع بينها محتمل بأن يكونوا قالوا كل ذلك سخرية واستخفافا، وقد أخذ بهذه الروايات جمهور المفسرين، وخالفهم أبومسلم الأصفهاني من المتقدمين، فحمل التبديل على مطلب المخالفة سواء دخلوا على غير الوجه المطلوب أو لم يدخلوا رأسا، لأن في كل ذلك تبديلا لما أمروا به، فهو تبديل لقول الله، واستشهد لتفسيره هذا بقوله تعالى:
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله
[الفتح: 15] فإن التبديل المقصود هنا لا يقصد به وضع كلمة مكان أخرى ، وما هو إلا مجرد مخالفتهم لحكم الله، وانتقد الألوسي قول أبي مسلم وقال: " ظاهر الآية والأحاديث تكذبه ".
ووافق أبا مسلم من مفسري المتأخرين الإمامان محمد عبده ومحمد رشيد رضا في سورتي البقرة والأعراف، وقد عد الإمام محمد عبده الروايات المنقولة من الإسرائيليات التي لا يجوز أن يحشى بها تفسير كلام الله، ووجه السيد محمد رشيد كلامه بما حاصله أن حديث أبي هريرة وإن روى في الصحيحين لم يثبت رفعه لاحتمال أن يكون أبو هريرة سمعه من كعب الأحبار لعدم تصريحه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، على أن راويه عن أبي هريرة همام بن منبه أخو وهب وهما صاحبا الغرائب في الإسرائيليات.
وهذا ليس بشيء، فإن أبا هريرة رضي الله عنه صرح - كما في رواية البخاري في التفسير وأحاديث الأنبياء - بإسناد هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يبق مجال للشك الذي ذكره صاحب المنار.
والرجز العذاب وبه فسره قتادة أخرجه عنه ابن جرير، وأخرج عن أبي العالية أنه الغضب، وعن ابن زيد أنه الطاعون، ولا تعارض بين هذه الأقوال، فالطاعون من أنواع العذاب الذي يصيب الله به الأمم، وعندما يكون عقوبة على معصية فهو مقرون بغضب الله، وقد ثبت عن أسامة بن زيد، وسعد بن مالك، وخزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به أناس من قبلكم "
ولا ينافي ذلك ما ثبت علميا أنه ينشأ عن تلوث البيئة، فإن الله سبحانه هو الذي يهيئ لكل أمر أسبابه، فإذا أراد عقوبة قوم بما قدمت أيديهم هيأ لها أسبابها عادية كانت أو غير عادية، وتعيين الرجز أنه من السماء إنما هو لما اعتيد عند الناس من جعل السماء مصدرا للنوازل، وتوقف الإمام محمد عبده عن تعيين الرجز وقد سبقه إلى ذلك الإمام ابن جرير في تفسيره.
وإسناد التبديل إلى الذين ظلموا للإفادة بأنه ظلم، وكذلك قوله: { فأنزلنا على الذين ظلموا } - مع إمكان الاستغناء بالضمير لو قيل فأنزلنا عليهم - للافادة بأن ظلمهم سبب لإنزال الرجز، لأن الحكم على المشتق يؤذن بعليته، والإسم الموصول وصلته في حكم المشتق، وأجاز الإمام محمد عبده أن يكون ذكر الذين ظلموا في الموضعين للإفادة بأن التبديل وإنزال الرجز خاصان بطائفة منهم دون سائرهم.
وينبغي أن تضاف هذه النكتة الخاصة بهذا الموضع إلى القاعدة العامة التي ذكرتها من قبل، ويؤكد عليه ظلمهم في إنزال الرجز عليهم التصريح بما يفيد مفاد ذلك في قوله: { بما كانوا يفسقون } ، لأن الظلم والفسق مترادفان شرعا وإن اختلفا لغة.
[2.60]
لا تزال الآيات متساوقة في مساق تعداد النعم التي لقيها بنو اسرائيل وهم في أمس الحاجة إليها، فتفجير الماء من حجر صلد، بضربة من موسى بعصاه، وجريانه متوزعا في جداول بعدد الأسباط يعد أكثر من نعمة، فتيسير الماء بغير عناء نعمة لا يقدر قدرها لأنه من الأشياء التي تشتد إليها ضرورة النفس وتتوقف عليها سلامة الحياة، والنعمة يزداد قدرها بمسيس الحاجة إليها وما أحوجهم في الصحراء التي كانوا فيها إلى الماء، وكونه بطريقة خارقة للعادة تطمئن بها النفس ويقوي بها الإيمان نعمة ثانية، وانقسامه إلى جداول بعدد الأسباط حتى لا يزدحموا عليه فيتنازعوا نعمة ثالثة.
وأكثر المفسرين على أن هذا الاستسقاء كان في التيه، وعليه فالمذكور في هذه الآية متأخر زمنا عما ذكر في الآية التي قبلها، فترتبا ذكرا بحسب ترتبهما زمنا، وذهب بعضهم إلى خلافه، وهم الذين يطبقون ما سرده القرآن من أحداث أهل الكتاب على التواريخ المتداولة بين أهل الكتاب أنفسهم وذلك أنهم حملوا القصة المشار إليها في الآية على ما يتداوله اليهود من أنهم لما نزلوا في رفيد يم، بعدما خرجوا من برية سين، وقبل وصولهم الى برية سيناء في الشهر الثالث من خروجهم عطشوا ولم يكن بالموضع ماء، فتذمروا على موسى، وقالوا أتصعدنا من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشا، فأمره الله أن يضرب بعضاه صخرة هناك في حوريب، فضرب فانفجر منها الماء.
وفي بعض نصوص التوراة ما يدل على أن هذه الحادثة كانت بعد خروجهم من برية سيناء، وحلولهم في رقادين.
وهذا الاضطراب يبعدنا عن الثقة بنقولهم والاستناد إلى تواريخهم.
وذكر الإمام محمد عبده أن كثيرا من أعداء الاسلام وجهوا إلى القرآن العظيم سهام انتقادهم بسبب عدم ترتب ذكره للأحداث بحسب ترتبها في الوقوع، ورد عليهم بما حاصله: أن القرآن ليس كتابا تاريخيا معنيا بسرد الوقائع مترتبة بحسب أزمنة وقوعها، وإنما الغاية من ذكره لها بعث العبر وإثارة العظات ببيان النعم متصلة بأسبابها لتطلب بها، وبيان النقم بعللها لتتقى من جهتها، لذلك كان إيراده للقصص بالأسلوب الأبلغ في التذكير والأدعى إلى التأثير مع عدم الالتفات إلى أزمنتها.
ونسب إلى بعض الباحثين في تأريخ هذا العهد ترجيحهم لهذا الاسلوب في التقديم والتأخير، وأنهم يقولون بأنا أياما ستأتي يستحيل فيها ترتيب الحوادث والقصص بحسب تواريخها لطول الزمن وكثرة النقل مع حاجة الناس الى معرفة سير الماضين، وما لها من النتائج والآثار في حال الحاضرين، ولا طريق إلى ذلك إلا النظر في أسباب ونتائج الأحداث من غير تفصيل ولا تحديد لجزئيات الوقائع بالتأريخ، فإن مراعاة ترتيبها لا يتوقف عليه الاعتبار بها وإنما هو من الزينة في وضع التأليف ولربما شغل الذهن عما تجب ملاحظته منها.
وعد الأستاذ الإمام هذا الأسلوب ضربا من ضروب الإصلاح العلمي سبق إليه القرآن، وأيده سير الاجتماع في الإنسان.
وجوز الأستاذ كون أرض التيه هي الأرض الممتدة على ساحل البحر الأحمر من بيداء فلسطين مما يلي حدود مصر، وفيها كان الاستسقاء بلا خلاف.
وذكر الله تعالى أن هذا الاستسقاء من موسى لأجلهم مع أنه كان بينهم يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من السقيا تنبيها على أنه لم يستسق إلا لطلبهم وإلحاحهم، وإلا مضى في السبيل الذي أمره الله بسلوكه غير لاو على شيء من حاجات الدنيا توكلا على الله وثقة بأنه سبحانه سيهيء له ما يحتاج إليه من ضرورات الحياة ما دام مقبلا عليه ومتبعا لسبيله، وهذه هي ثقة النبيين، وهذا إيمان المرسلين، فإنهم لا يهمهم إلا امتثال أمر الله واتباع مراشده.
واختلفوا في الحجر الذي أمره الله أن يضربه بعصاه؛ قيل: هو ما شاء من الأحجار، وقيل: هو الحجر الذي مشى بثوبه - حسبما قيل - وقيل: هو حجر آخر خاص حجمه كرأس الشاة يحملونه معهم إذا ارتحلوا، ويضعونه بينهم إذا نزلوا، فإذا احتاجوا الى السقي ضربه موسى بعصاه فتفجرت منه العيون، وإذا رووا واكتفوا ضربه كذلك فانقطع منه الجري، وقد تقدم أنه جاء في التوراة بأنه صخرة في حوريب، وهي بقعة بطور سيناء -؛ وعلى الأول فالتعريف للجنس، ويرجحه أن الجنس أسبق من غيره في التعارض، وهو كذلك أدخل في الإعجاز، فإن ضرب أي حجر كان أدل على القدرة وأدعى إلى الاستغراب من ضرب حجر بعينه وعلى الثاني فالتعريف للعهد وهو ذهني لعدم سبق ذكر للمعهود.
والانفجار هو الانصداع ويعبر عنه بالانبجاس كما في سورة الأعراف، وفرق بعضهم بينهما بأن الانبجاس أول خروج الماء والانفجار اتساعه وكثرته، وعلى التفريق فلا تضاد بين العبارتين لوقوع الأمرين في القصة.
والعين هي منبع الماء وتجمع على عيون قياسا وعلى أعين سماعا.
وأنكر بعض الطبعيين صحة هذه القصة لمخالفتها ما استقرت عليه عادة الأشياء بحسب طبائعها المألوفة، وهو جهل عظيم بقدرة الخالق الذي طبع الكون بحسب نواميسه المألوفة وهو القادر على خرق تلك النواميس وإحالة تلك الطبائع إذا ما أراد ذلك، على أن أفراد الجنس الواحد تكون لها طبائع شتى مختلفة باختلاف ما جعل الله فيها من الخاصية فطبائع الأحجار ليست واحدة فمن الأحجار ما هو حالق للشعر لا يكاد يدنو منه حتى يحلقه، ومنها ما هو مغناطيسي إذا قرب من الحديد جذبه إليه فما المانع عقلا من أن يودع الله هذا الحجر خاصية اجتذاب الماء من جوف الأرض حتى يتفجر منه عيونا أو ارتشاف الهواء الندي من الكرة الأثيرية وتكييفه حتى يخرج منه سلسبيلا عذبا.
وتعدد العيون إلى اثني عشر عينا للحكمة التي أشرت إليها في أول تفسير الآية، وهي أن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطا، فلو جرت لهم عين واحدة فحسب أدى ذلك إلى التسابق إليها والتقاتل عليها حرصا من كل طائفة أن تكون هي السابقة في الورد، أما وقد تعددت العيون بعدد الأسباط وعرف كل سبط - وعبر عنه بأناس - مشربه فلا داعي إلى الشقاق لعدم الإحتكاك بين الأسباط واتساع الموارد واختصاص كل سبط بمورده، والتلاحم الأخوي بين أفراد السبط الواحد يرفع عنهم الخلاف والنزاع في الورد.
والأمر بالأكل والشرب للإباحة المصحوبة بالامتنان، ورزق الله مما أنزله عليهم من المن والسلوى، وفجره لهم من الماء؛ وأضيف الرزق إلى اسم الجلالة، ولم يضف إلى الضمير ليوافق " قلنا " للتنبيه بأن هذا الخطاب وجه إليهم بلسان موسى عليه السلام.
و " تعثوا " كترضوا، ماضية عثى كرضى، ومضارعه يعثى كيرضى، وقياس مصدره عثا على وزن فعل - بالتحريك - غير أن هذا المقيس لم ينقل عن العرب، وإنما المنقول عنهم عثى - بكسر العين وضمها وتشديد الياء - وعثيان - بالتحريك - هذه هي لغة أهل الحجاز، وعليها أجمع القراء، أما عند غيرهم فهو عثا يعثو عثوا، نحو سما يسمو سموا، وأصله مطلق الإفراط، وغلب على الإفراط في الفساد، وقيل وهو أشد الفساد، وقيل مطلقه، وعلى الأول فالحال مبينة، وعلى الأخيرين مؤكدة، وحمله الزمخشري على التمادي، وعليه فإن المنهي عنه استمرارهم في الفساد الذي هم واقعون فيه، ويستنتج - على هذا الوجه، وعلى بعض الوجوه السابقة - من هذا النهي أنهم كانوا موغلين في الغي، منهمكين في الفساد - كما هو واضح مما وصفوا به في الآيات السابقة وغيرها - فنهو عن الاستمرار في هذا الغي، والتمادي في هذا الفساد في معرض الامتنان عليهم بما هم في أشد الحاجة إليه من الطعام والشراب اللذين ساقهما الله إليهم من غير عناء ولا تكلف ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة والامتثال، فإن من شأن المأمور أن يبادر إلى طاعة الآمر، ويتحرى مرضاته عندما يشعر بسوابغ نعمه تحيط به من كل جانب في حال هو فيها أشد ما يكون حاجة إليها، ولكن بني اسرائيل - بما ران عليهم من الضلالة وتراكم على نفوسهم من الهوى - تعفنت فطرهم وخبت عقولهم فلم تزدهم المواعظ إلا بعدا عن الحق ولم يزدهم التذكير إلا ظلما وعتوا.
وبهذا الذي قررته يندفع ما قد يخطر ببالكم من التساؤل؛ لماذا نهو عن أشد الفساد والإفراط فيه، أو عن التمادي عليه مع وجوب اجتناب الفساد قليله وكثيره وعدم الوقوع فيه رأسا؟ ولعل من فسر العثى بمطلق الفساد نظر إلى الاشتقاق الكبير الذي يجمع بين عثى وعاث مع أن عاث بمعنى أفسد.
والأرض المقصودة هنا هي أرض التيه، لأن شكر النعمة ينعكس أثره الإيجابي على الأرض التي يحلها الشاكر لما يصدر عنه من خير وصلاح، وكذلك كفرها ينعكس أثره السلبي على موضع حلول الكافر لما يقع منه من شر وفساد، ويجوز أن يراد بالأرض الكرة الأرضية بجميع أجزائها لأن تمادي الناس على الضلالة، وتواطؤهم على الفساد يسكبان الشر الوبيل عليها جميعا:
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس
[الروم: 41]، وهو معهود عندما تنتشر المعصية ولا تجد مقاومة من أحد.
[2.61]
الآية تضع أمامنا صورة من صور التعنت الإسرائيلي، وضربا من ضروب الانحراف الفكري والسلوكي عند اليهود، فبعد أن أطلقهم الله من قيود الذل وأغلال الهوان الذي كابدوه ردحا من الزمن في ظل الحكم الفرعوني الرهيب، ونقلهم إلى فسيح الحرية ومشارف العز اشتقات نفوسهم المأفونة الى حيث كانوا، مؤثرين التمرغ في أوحال الهوان والانغماس في حمأة الذل مرة أخرى على ما هم فيه من بحبوحة الخير، ورفعة القدر، ونعمة الحرية، وفي هذا يقول الزمخشري: " كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم، فأجموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء ".
وأصل هذا الكلام مروي عن قتادة؛ ورده الأستاذ الإمام بأنه لو كان الحامل لهم على ذلك هو تمكن العادة من نفوسهم فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونو يألفون نزعوا الى ما كانوا قد عودوه من قبل, لكان في ذلك التماس عذر لهم، ولما عد الله هذا القول في أخطائهم، لأن السآمة من تناول طعام واحد قد يكون من لوازم الطباع البشرية إلا ما شذ منها لعادة أو ضرورة، ولا يعد ما هو من منازع الطباع حراما إذا لم يسقط ذلك في محظور.
ثم قال: وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم... } الخ كل ذلك يدل على أن ما عدد من أفاعيلهم مع تظافر الآيات بين أيديهم، وتوارد نعم الله عليهم كله من خطاياهم، ومن ذلك قوله تعالى: { وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها } ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة، واستحقاق غضب الله تعالى عقب مقالهم هذا ".
قال: " والذي يقطع عليهم الفهم من الآية أن النزق قد استولى على طباعهم، وملك البطر أهواءهم حتى كانوا يستخفون بذلك الأمر العظيم الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة والخروج من الخسف الذي كانوا فيه، ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق وعده لهم لم تستيقنه أنفسهم، بل كانوا على ريب منه، وكانوا يظنون أن موسى عليه السلام خدعهم في إخراجهم من مصر وجاء بهم إلى البرية ليهلكهم فلذلك دأبوا على إعناته والإكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم فيرتد بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة، فما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ويرشد إلى ما فيه من الإعنات قولهم: { لن نصبر على طعام واحد } فقد عبر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأت لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده، فكأنهم قالوا: اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد، فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم فادعه يخرج لنا ما يمكن مع أن نبقى معك إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا، وهم يعلمون أنهم كانوا في برية غير منبتة وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام، ولكنه نزق وبطر - كما بينا - وطلب للخلاص مما يخشونه على أنفسهم، ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخبارهم ".
ويتبين لكم من هذا التحرير أنهم كانوا عصاة متمردين بهذا السؤال، وهو رأي الجمهور، ويدل على صحته استنكار موسى عليه السلام لسؤالهم، ووصفه لهم باختيار الأدنى على الذي هو خير، وذلك في قوله: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } ، ويؤيده ما ذكر عقب ذلك أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، وما هو إلا عقوبة هذا التعنت وضريبة هذه المكابرة، كما يؤيده ما اختتمت به الآية من تقرير كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير الحق، وما كانوا عليه من العصيان والإعتداء.
وذهب الفخر الرازي إلى أنهم لم يعصوا قط بهذا السؤال، وعلل ذلك بأشياء:
أولها: أنهم ما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملوه فاشتهوا غيره.
ثانيها: أنهم ربما كانوا في أصل خلقتهم غير متعودين على ذلك النوع، وإنما تعودوا سائر الأنواع، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل تربيته وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لم يعتده إن كان شريفا.
ثالثها: أنهم ربما لم يقصدوا بسؤالهم هذا نفس الأطعمة التي سألوها ولكنهم ملوا البقاء في التيه فطلبوا ما لا يوجد فيه لقصد خروجهم منه إلى البلاد التي بها ما سألوه.
رابعها، أن إدمان الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة، والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الإلتذاذ.
وأكد الفخر ما ذهب إليه بأن القوم أجيبوا بما حكاه الله في قوله: { اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم } ، ولو سألوا معصية لما أجيبوا إليها، لأن الإجابة إليها معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء.
وتكلف الرد على أدلة الجمهور بسفسطات لا أجد داعيا إلى ذكرها.
وذهب أبو حيان مذهب الفخر، وأورد معاني كلامه من غير أن يعزوه إليه. وهذا يتنافى مع ما قرره في خاتمة تفسير الآية الكريمة من أنهم تبرموا من الرزق الذي امتن به عليهم فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم، وأنهم وبخوا على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس....الخ.
وتوسط ابن عشاور بين المذهبين، إذ اعتبر المحكي عنهم دالا على سوء اختيارهم في شهواتهم - والاختيار دليل عقبل اللبيب وإن كان يختار مباحا - مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم، إذ قالوا: { لن نصبر } فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم للكراهية، وأتوا بما دل عليه (لن) في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن، فإن لن تدخل على استغراق النفي لأزمنة فعل نصبر من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد، وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال، يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين، فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم، وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم، ولم ير هم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال: { اهبطوا مصرا } فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديبا وتوبيخا.
ثم قال: " والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم، وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية، فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف، ولكنها من أشباه خطاب الوضع ترجع إلى ترتب المسببات، على أسبابها، وذلك من نواميس نظام العالم، وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية هو العقاب الأخروي ".
ومن أمعن في ألفاظ الآية وما توحيه من ملابسات هذا القول الصادر منهم يدرك أنه ناشئ عن تعنتهم في الكفر، وإمعانهم في الصدود، وإغماضهم أبصارهم عن آيات الله الداعية إلى الإيمان، فاستخفافهم بالنعمة جلي في مقولتهم هذه، وكفى بذلك معصية؛ كيف وقد يسرها الله تعالى لهم بطريقة غير عادية هي أدعى إلى الإيمان والشكر؟ ولا نسلم أن ما عوقبوا به من ضرب الذلة والمسكنة عليهم لا يتعدى أن يكون من الأمور العادية المترتبة على مخالفة نظام الحياة فحسب بدليل قوله تعالى: { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } ، وما إنزال المن والسلوى عليهم وهم في التيه إلا من تلك الآيات التي كفروا بها إذ لم يقدروها حق قدرها، فلم يعتبروا بها، بل بقو في عمامهم يترددون وفي ضلالتهم يعمهون، وفي شكهم يغدون ويروحون، وليس أدل على شكهم من هذا الطلب ونحوه، وكفى به إثما مبينا.
ولم أجد دليلا على ما قاله الإمام ابن عاشور بأن الله لم يرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد أن كان منهم هذا السؤال، وما ذكره من القصة المشار إليها بالآية في التوراة دال على استمرار إرسال السلوى عليهم.
والطعام بمعنى المطعوم كالعطاء بمعنى المعطي، وقد أرادوا بوحدته عدم تبدله بين يوم وآخر، وهو معهود في التعبير العربي، فإن العرب تقول فيمن لا تتبدل أجناس طعامه الذي يطعمه في كل يوم " فلان يأكل من طعام واحد " ، ولو كانت أجناسا متعددة وألوانا مختلفة، فلا إشكال في قولهم هذا مع كونهم يتغذون بجنسين من الطعام هما المن والسلوى، وقد أرادوا أن يستبدلوا بهما ما كان مألوفهم من قبل من نباتات الأرض، وبينوه بقولهم: { من بقلها.
... } الخ.
والبقل يصدق على ما يأكله الناس والأنعام من الزروع، ومرادهم به أطائبه كالكرسف والنعناع، والقثاء معروف، وفسره الخليل بالخيار؛ والفوم قيل هو الثوم - بالفوقية المثلثة - وهو مروي عن ابن عباس أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وأخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس، وعضد بأن العرب تعاقب بين الفاء والثاء نحو قولهم: مغافير ومغاثير، وجدف وجدث، وعافور وعاثور، وأثافي وأثاثي، وبقول أمية:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة
فيها الفراديس والفومان والبصل
وقول حسان:
وأنتم اناس لئام الأصول
طعامكم الفوم والحوقل
أي الثوم والبصل، كما عضد بقراءة ابن مسعود " وثومها " - بالمثلثة - وبه قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل وهو موافق لما في التوراة وأنسب بذكر البصل والعدس.
وقيل: هو الخبر، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وفي لفظ انه البر أو الحنطة، ومثل هذا الخلاف في الرواية لفظي فحسب، فإن الحنطة والبر متحد معناهما وهما أصل للخبر، وتفسير الفوم بالخبز أخرجه ابن جرير عن عطاء، ومجاهد وابن زيد، وأخرج عن أبي مالك والسدى أنه الحنطة، وعن قتادة والحسن أنه الحب الذي يختبزه الناس، ومن شواهد هذا الباب ما يحكى عن العرب من قولهم " فوموا لنا " أي اخبزوا، وقول الشاعر:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد
ورد المدينة عن زراعة فوم
وفسر ابن دريد الفومة بالسنبلة، وأنشد:
وقال ربيئهم لما أتانا
بكفه فومة أو فومتان
وهو لا يختلف عما قبله لاحتواء السنبلة على الحنطة، وفسر بعضهم الفوم بالحمص، وهي لغة شامية، وزعم الزجاج أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الفوم الحنطة، وهو مردود بما سبق نقله عن بعض أئمة اللغة من خلاف قوله.
ولا يشكل قول من فسره بالخبز مع قولهم: { مما تنبت الأرض } لأن أصل الخبز - وهو الحنطة أو غيرها من الحبوب - مما تنبت الأرض.
والعدس والبصل معروفان.
وفاعل " قال " ضمير عائد إلى موسى لأن التخاطب بينه وبينهم، وقيل: يعود إلى الله، والأول الظاهر لما سبق، وإن كان الجواب موحى من الله إليه.
والأصل في الاستبدال أن تأخذ شيئا مكان شيء تعطيه، ومن المعتاد أن لا يكون ذلك إلا ونفس المستبدل فيما تأخذ أرغب وفيما تعطي أزهد، ثم أطلق في مطلق التلبس بشيء وترك غيره كاستبدال التائب التقوى بالفجور والطاعة بالعصيان، ومثله أن يأخذ المقاتل سلاحا ويدع غيره، ولا يصاغ فعل من مادته إلا مزيدا، كأبدل، وبدل، واستبدل، فكأنه أميت فعله المجرد، والتبدل والاستبدال مترادفان كالتكبر والاستكبار.
وبما أن مدلول البدل ومشتقاته يتعلق بأمرين كانت الأفعال الناشئة عن هذا الأصل تتعدى إلى مفعولين، تارة بنصبهما معا وتارة بنصب أحدهما وجر الآخر بحرف يتعلق بالفعل، وفصل الإمام ابن عاشور هذا الاختلاف في الاستعمال باختلاف المعاني المقصودة حيث قال: " فإذا تعدى الفعل إلى مفعولين نحو
يوم تبدل الأرض غير الأرض
[إبراهيم: 48] كان المفعول الأول هو المزال والثاني هو الذي يخلفه، نحو قوله تعالى:
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان: 70]، { يوم تبدل الأرض غير الأرض } ، وقولهم: أبدلت الحلقة خاتما، وإذا تعدت إلى مفعول واحد وتعدت إلى الآخر بالباء وهو الأكثر فالمنصوب هو المأخود والمجرور هو المبذول، نحو قوله هنا: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } ، وقوله:
ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سوآء السبيل
[البقرة: 108]، وقوله في سورة النساء:
ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب
وقد يجر المعمول الثاني بمن التي هي بمعنى باء البدلية كقول أبي الشيص:
بدلت من مرد الشباب ملاءة
خلقا وبئس مثوبة المعتاض
وقد يعدل عن تعدية الفعل إلى الشيء المعوض ويعدى إلى آخذ العوض فيصير من باب أعطى فينصب مفعولين وينبه على المتروك بما يدل على ذلك من نحو من كذا وبعد كذا، كقوله تعالى:
وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا
[النور: 55] التقدير ليبدلن خوفهم أمنا، هذا تحرير طريق استعمال هذه الأفعال.
قال: " ووقع في الكشاف عند قوله تعالى:
ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب
[النساء: 2] ما يقتضي أن فعل بدل له استعمال غير استعمال فعل استبدل وتبدل بأنه إذا عدى إلى المعمول الثاني بالباء كان مدخول الباء هو المأخوذ، وكان المنصوب هو المتروك والمعطى، فقرره القطب في شرحه بما ظاهره أن بدل لا يكون في معنى تعديته إلا مخالفا لتبدل واستبدل، وقرره التفتزاني بأن فيه استعمالين إذا تعدى إلى المفعول الثاني بالباء، أحدهما يوافق استعمال تبدل، والآخر بعكسه، والأظهر عندي أنه لا فرق بين بدل وتبدل واستبدل، وأن كلام الكشاف مشكل، وحسبك أنه لا يوجد في كلام أئمة اللغة، ولا في كلامه نفسه في كتاب الأساس ".
ولم أر في كلام الكشاف الذي أشار إليه ما ذكره من الإشكال فإنه لم يوم إلى التفرقة بين بدل وتبدل في الاستعمال الذي حرره الإمام ابن عاشور، وإنما أومى إلى ما بينهما من الفرق في المعنى تعقيبا على ما نقله عن السدي في تفسير تبدل الخبيث بالطيب بأنه جعل شاة مهزولة مكان سمينة، فأتبعه صاحب الكشاف قوله: " وهذا ليس بتبدل وإنما هو تبديل ". ومراده به أنه تبديل لمال اليتيم بوضع شيء مكان شيء، ولا يستنتج منه ما قاله التفتزاني كما هو واضح لمن تأمل.
و " أدنى " أفعل تفضيل من الدنو وهو القرب، ويراد به قلة القيمة أو عدمها، لأن ما لا قيمة له مبتذل عادة، يمكن لأي يد أن تتناوله، بخلاف ما ارتفعت قيمته، فإنه يحفظ بعيدا عن تناول الأيدي ورؤية الأبصار، ومن ثم استعمل الدنو والبعد في ضعة القدر وعلوه، وحقارة الهمة وعظمتها، وقيل: من الدناءة بمعنى الرداءة والحقارة؛ وعليه فأصله أدنأ بالهمز فخفف بإبدال الهمزة ألفا وعضد بقراءة زهير الفرقبي (أدنأ) بالهمز، وهي من شواذ القراءات، وتوهم بعض أنها قراءة للكسائي، ومنشأ هذا الوهم أن زهير المذكور يقال له زهير الكسائي، فأثبت ذلك البعض واوا بين اسمه ونسبه ظانا انها قراءته وقراءة الكسائي القارئ المشهور. أفاد ذلك أبو حيان.
وقيل أصله أدون من الدون بمعنى القرب فقدمت النون وأخرت عنها الواو وأبدلت ألفا لتطرفها وانفتاح ما قبلها؛ وفي هذا القول والذي قبله تكلف واضح وخروج عن الجادة لغير داع.
ومهما قيل في أصل كلمة أدنى، فإن المراد (بالذي هو أدنى) ما طلبوه، والمراد (بالذي هو خير) ما كانوا أوتوه.
ولفظ (خير) للتفضيل، والخيرية المقصودة إما ان تكون باعتبار قيمة المن والسلوى، فإن البقول التي طلبوها لا تسوى شيئا بجانبهما، وإما لكونهما ساقهما إليهم نعمة خالصة، ففي أكلهما استدامة لشكر الله بجانب كونه امتثالا لأمره، بهذا يحصل لهم من الأجر والثواب بسببهما ما لا يحصل بغيرهما؛ وإما لخلوصهما من العناء والتعب، بخلاف ما طلبوه فإنه يستدعي الحرث والسقي والإصلاح والحصاد، وما كان خاليا من العناء فهو خير مما توقف عليه؛ وإما لأن الطبع أميل إلى ما كان ألذ وأطيب من المطاعم وغيرها، والبون شاسع في ذلك بين ما أوتوه وما سألوه، وإما لخلوص المن والسلوى من شوائب الحرم والشبه، بخلاف تلك البقول لضرورة زرعها، والزرع يتوقف على البذر والأرض، وهما مما تدخله الحرم والشبه، لإمكان غصبهما أو سرق البذر أو مرورهما بعقود غير جائزة شرعا، ولا يخفى فضل ما تيقنت حليته على ما احتمل الشبهة والحرام، وإما لأن المن والسلوى أعظم نفعا وأجدى غذاء للأبدان؛ وقد عد أبو حيان في بحره هذه الاعتبارات أقوالا، وأرى كونها وجوها أقرب لعدم تعارضها، وإن أوردها المفسرون متفرقة، وأراها جميعا مقصودة بالخيرية.
والاستفهام للإنكار، والأمر بهبوط مصر تابع له، فمصدرهما واحد وهو موسى عليه السلام، خلافا لأبي حيان القائل بتقدير محذوف بينهما، أي فدعا موسى ربه قال: { اهبطوا }.
والتعبير بالهبوط لأن القادم إلى بلد كمن ينصب عليه.
والمصر البلد، وأصله الحد بين الأرضين، ويحكى عن أهل هجر أنهم كانوا يكتبون " اشتري الدار بمصورها " أي بحدودها، ومنه قول الشاعر:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به
بين النهار وبين الليل قد فصلا
وقيل هو مأخوذ من مصرت الشاة إذا حلبت كل ما في ضرعها، وسمى به القطر المعروف، وأكثر أهل التفسير على أن المراد به هنا أي مصر من الأمصار، واستدلوا له بصرفه، ولو أريد به القطر المعروف لمنع الصرف كما منع في قوله تعالى:
تبوءا لقومكما بمصر بيوتا
[يوسن: 87]، وقوله:
ادخلوا مصر
[يوسف: 99]، وعليه فالمراد من أمرهم بهبوط مصر أن ما طلبوه لا يحتاج إلى دعاء فإن الله يسره لعباده في الأمصار، وما عليهم إن ابتغوه إلا أن ينزلو مصرا من هذه الأمصار فيجدوا فيه طلبتهم.
وقيل: هو القطر المعروف، وهو الذي حكاه أشهب عن مالك، وعضد أن في قراءة ابن مسعود مصر بدون تنوين وأنه في مصحف أبي بدون ألف، وأصحاب هذا القول يحملون قراءة الجمهور على تنكير اللفظ وتعريف المعنى، كما يقول القائل: إإتني برجل، ومراده رجل بعينه، واضطربت هنا الأفهام فأرباب القول الأول رأوا أنه لا يمكن أن يكون المراد القطر المصري لعدم ثبوت عودة بني إسرائيل إلى مصر من التيه، والآخرون عارضوهم بما في القرآن من توريث بني إسرائيل أموال فرعون وآله، وأدى هذا الاضطراب بالبعض إلى القول بأن المراد بمصر القرية المقدسة التي أمروا بدخولها، ومؤداه أنكم إن كنتم لا تصبرون على ما ترزقونه في هذا التيه فإنكم أنتم الذين أوقعتم أنفسكم فيه بالتلكؤ عن الجهاد، والتعنت على أمر الله، فما عليكم وأنتم تريدون الخلاص منه إلى أن تأتوا الأمر من طريقه، فتهبطوا إلى المصر الذي أمرتم فيه بمقاومة الجبارين فتكونوا أهلا لما وعدكم الله به من الاستخلاف، وتجدوا هناك كل ما سألتم.
ومنشأ هذا كله جعل الأمر بالهبوط أمرا شرعيا، أي أمر إباحة وهو يتعارض مع ما سبقه من الإنكار عليهم أن يستبدلوا الأدنى بالذي هو خير، ومن العجب العجيب أن يستدل مستدل بما في القرآن من توريث بني اسرائيل أموال فرعون وآله على خروجهم من التيه إلى مصر غافلا عما يكتنف هذا الأمر بالهبوط قبله وبعده من الإنكار والوعيد.
والصحيح أن الأمر بالهبوط هنا ليس أمرا تشريعيا وإنما هو أمر تعجيزي على حد قوله عز وجل:
قل كونوا حجارة أو حديدا
[الإسراء: 50]، وقد أريد به تبكيتهم على نزوعهم إلى مضارب هوانهم ومواطن ذلهم، حيث كانوا يتململون تحت نير القهر، ووطأة العذاب من فرعون وآله، وعليه فمصر هي البلد المعروف ولا إشكال في صرفه لجواز صرف الأعلام الثلاثية المسكنة الوسط لخفتها في النطق وإن استحقت منع الصرف لوجود سببيه، كنوح ولوط، ودعد وهند، ومجيؤه في القرآن غير مصروف تارة لا يمنع صرفه تارة أخرى لأنه من باب التفنن.
أما ما قاله أبو حيان من أن لمصر حكما آخر غير حكم نوح ولوط، ودعد وهند، لأن فيها سببين من أسباب منع الصرف، وفيه ثلاثة أسباب وهي التأنيث والعلمية والعجمة؛ فهو مردود من وجهين:
أولهما: أن جواز صرف تلك الأسماء مع وجود السببين المانعين منه إنما هو لمجرد الخفة في النطق التي يشاركها فيها مصر لأنها ناشئة عن تسكين الوسط.
ثانيهما: أن عجمة مصر التي ادعاها غير مسلمة وقد سبق بيان اشتقاقه من الألفاظ العربية وهذا الاشتقاق أورده أبو حيان نفسه.
وليس قوله: { فإن لكم ما سألتم } تعليلا للأمر ولا جوابا له لاستلزام ذلك الترغيب فيه مع اقتضاء المقام خلافه كما هو واضح من كون الأمر تعجيزيا.
ولا التفات في قوله: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } على الصحيح وإن خرج الكلام من الخطاب إلى الغيبة لأن المقصودين في الحديث الخطابي الذين تمردوا على أوامر الله ورسوله موسى فحبسوا في التيه لامتناعهم عن مقاتلة الجبارين ودؤوبهم على العنت، وقد مثلوا في ذريتهم الذين كانوا بالمدينة عند نزول الوحي فخوطبوا من خلالهم والمقصودين بالحديث المسوق مساق الغيبة جميع فئاتهم العاتين عن أمر الله والمناوئين لأنبيائهم في جميع العصور، ويندرج فيهم الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم.
ويتجه لي أن العطف في قوله: { وضربت... } الخ هو من باب عطف القصة على القصة، ذلك لأن الله حكى قصتهم مع موسى مبتدئا بتنجيتهم من فرعون وآله مقررا ما حصل منهم من كفر وجدل واستخفاف وعصيان، ثم أتبع ذلك تبيان عاقبة أمرهم ونتيجة فعلهم، وهو ما لزمهم من الذلة والمسكنة وما انقلبوا إليه من غضب الله سبحانه وتعالى، وهو لا ينافي ما ذكرته من قبل من الاستدلال بهذا المعطوف على عدم إقرارهم على ما سألوه من إبدال عيشهم بما كانوا آلفيه من قبل لأن ذلك السؤال هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأسباب المذكورة التي أدت بهم إلى هذه العاقبة الوخيمة والنتيجة السيئة، ولأن قرن الأخبار بهذه العاقبة مع جواب موسى لهم موح بأن لسؤالهم أثرا في حصول هذه العاقبة لهم.
والضرب الإلزام والقضاء، ويرجع أصله إلى وقع جسم على جسم، كضرب اليد بالأرض، ومثله الضرب بالسيف أو العصى، واستعمل في معان تقتضي شدة اللصوق كالضرب في الأرض بمعنى السير فيها، وضرب القبة والبيت بمعنى شدهما ووثقهما من الأرض، وضرب الطين بالجدار إذا ألصق به، ومنه ضرب لازب، ومادته تدل على الشدة، ويراد بضرب الذلة والمسكنة عليهم إلصاقهما بهم كما يلتصق الطين بالجدار أو إحاطتهم بهما كما تحيط الخيمة بالموضع الذي ضربت فيه، ومن حيث إن حروف الضرب تشي بالشدة، كان اختيار هذا اللفظ على غيره في الإخبار عما لحقهم من الذل والهوان أعمق في الدلالة على المعنى وأكثر تناسبا مع المقام.
والذلة هوان النفس وصغارها، وهو خلق نفساني دنيء يدفع بصاحبه إلى الاستخذاء والاستكانة للمتسلط الذي يستذله بقهره ويستعبده بجبروته.
والمسكنة ما يظهر من أثر هذا الخلق على البدن من السكون والانزواء اللذين يشيان بالرضى بما يلحق النفس من إذلال المستعبد الجبار وسمى الفقر مسكنة، لأن من شأنه أن يقلل حركة صاحبه؛ وهاتان الصفتان من أسباب خور العزيمة ودنو وتلاشي القوة فلذلك كانتا مكروهتين للمسلم لأنهما لا تليقان بمكانته التي اختاره الله لها، والأمانة التي حمله إياها،
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
[المنافقون: 8].
واليهود من أشد الناس مسكنة وذلة، وقد سلط الله عليهم الأمم، وكتب عليهم الهوان، بعدما أنعم عليهم بالملك والنبوة، فبدلوا نعمة الله كفرا، وجاهروا بمعصيته، ولم يتناهوا عن منكر فعلوه، فقد أغارت عليهم المجوس مرتين ذاقوا فيهما مر العذاب، فقد قتل رجالهم، وسبيت نساؤهم، واسترقت ذريتهم، ثم وقعوا بعد ذلك تحت نير الحكم الروماني الذي لا يرحم فصب عليهم العذاب صبا، واستمروا يرزحون تحت وطأة الذل في كل العهود الغابرة حتى جاء العهد النازي القاسي فملأ بهم الأفران، وجعل جثثهم مختبرا لكل تجربة في العذاب، وإنما ابتلى الله بهم عباده المسلمين لتفريطهم في دينهم، واستوائهم معهم في معصية الله، والإعراض عما أنزل من الهدى، وهكذا يسلط الله من يشاء على من يشاء تأديبا لتكون في ذلك ذكرى لأولي الألباب.
وحمل كثير من المفسرين - أو أكثرهم - الذلة على الجزية التي فرضها الله عليهم في الإسلام، وهو تفسير بعيد لتنوع بلائهم وتلون ذلهم في جميع العصور المتعاقبة منذ أن بدأ عقاب الله يحيق بهم، ولم تكن الجزية مضروبة عليهم في جميع الأزمان.
والبوء بمعنى الرجوع كالأوب، والمراد ببوئهم بغضب من الله انقلابهم إليه، وقد سبق معنى الغضب.
وكفرهم بآيات الله هو كفرهم بما أنزل، وبما أجري على أيدي أنبيائه من المعجزات، كمعجزات موسى عليه السلام الشاهدة على صدق نبوته، وهم قد كفروا بالتوراة إذ حرفوها، ودروا كثيرا مما احتوت عليه من الأحكام، وطمسوا ما فيها من بشائر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، إلا ما فاتهم، بقى متلوا إلى اليوم.
وقتلهم النبيين كان بسبب أمرهم إياهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو مما ثبت في كتبهم، فقد قتلوا أشعيا بن أموص بنشره على جذع شجرة في عهد الملك منسي سنة (700) قبل الميلاد، وأرمياء الذي رموه بالحجارة حتى مات لأنه وبخهم على منكراتهم، وكان ذلك في أواسط القرن السابع قبل الميلاد، وفي عهد المسيح عليه السلام قتلوا زكريا ويحيى سلام الله عليهما إرضاء لشهواتهم، وهموا بقتل المسيح نفسه لولا أن الله سبحانه حفظه، كما هموا بقتل نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأشكل على بعض المفسرين تمكنهم من قتل النبين مع قوله تعالى:
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون
[الصافات: 171-172]، وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال بأن الآية نصت على نصر المرسلين، ولم تنص على نصر النبيين، فكانوا لا يمكنون من قتل من كان نبيا رسولا لوعد الله للرسل بالنصر، وإنما يتمكنون أحيانا من قتل من كان نبيا ولم يكن رسولا.
وهذا الجواب مردود لأمرين:
أولهما: ثوبت النص على قتلهم الرسل في قوله تعالى:
أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
[البقرة: 87].
ثانيهما: أنهم قتلوا من قتلوا من النبيين بسبب دعوتهم إلى الحق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفي هذا ما يدل على أنهم كانوا متحملين برسالة ومؤدين لها على أن الله عز وجل ذكر زكريا ويحيى في ضمن جماعة من الأنبياء، ثم قال:
أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة
[الأنعام: 89]، وقال في يحيى:
مصدقا بكلمة من الله
[آل عمران: 39]، وقال فيه:
ييحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا
[مريم: 12]، وفي هذا ما يدل على أنهما كانا نبيين مرسلين.
وإنما يدفع ما ذكروه من الإشكال حمل النصر الذي وعد الله به المرسلين على نصر دعوتهم بالحجة والبرهان، وكون العاقبة لها، أو أن هذا وعد خاص بالمرسلين الذين فرض عليهم القتال فإنهم ينصرون لا محالة.
والنبي فعيل من النبأ، واختلف في أصله، فقيل فاعل، وقيل: مفعول، وعلى الأول فهو بمعنى منبئ أي مبلغ عن الله تعالى، وعلى الثاني فهو منبأ لأن الملك هو الذي ينبئه عن الله، ويدل على هذا الاشتقاق تصرف مادته نحو قولهم تنبأ مسيلمة، فالهمز أصله وإنما خففت بإبدالها ياء فأدغمت الياء في الياء، ويعضده قراءة نافع بهمز النبيين، والنبي، والأنبياء، والنبوة، إلا أن قالون - وهو أحد رواييه - أبدل وأدغم في موضعين من سورة الأحزاب:
إن وهبت نفسها للنبي إن أراد
[الأحزاب: 50]،
لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم
[الأحزاب: 53]، وقد راعى في الموضعين ثقل اجتماع همزة النبئ والتي تليها فخفف بالإبدال والإدغام.
وقيل: إنه مشتق من النبوة وهي الرفعة، وعليه فلا همز في أصله ويحتمل كذلك كونه بمعنى فاعل ومعنى مفعول لأنه رافع لمن استجاب له من دركات الضلال إلى ذروة الهدى، ومرفوع القدر عند الله وعند الذين آمنوا.
واختلف في الفرق بينه وبين الرسول، ولدقة الفروق قال من قال بعدم التفرقة، وعليه فهما وصفان لموصوف، فكل نبي رسول، وكل رسول نبي، وهذا القول يتفق مع اعتباره بمعنى فاعل على كلا القولين في أصل اشتقاقه لاستلزام إنبائه عن الله أن يكون مرسلا إلى من أنبأه، وكذا استلزام إرساله إلى من رفعه من دركات الضلال والشك إلى ذروة الهدى واليقين.
والمشهور أن بينهما عموما وخصوصا، فكل رسول نبي ولا عكس لأن النبي من أنبئ عن الله، سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر، والرسول من أنبئ وأمر بالتبليغ.
ولا يكون قتل النبيين حقا، فالنص على أنهم قتلوهم بغير الحق ليس للتقييد ولكن لتأكيد المذمة.
وترجع الإشارة الثانية عند أكثر المفسرين إلى ما رجعت إليه الأولى، وإنما أعيدت للتأكيد، ومعنى ذلك أن ضرب الذلة والمسكنة عليهم بسبب كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين بغير الحق، وبسبب معصيتهم واعتدائهم، والصحيح أن لها مرجعا غير مرجع سابقتها، فالأولى تشير إلى ضرب الذلة والمسكنة عليهم، والثانية تشير إلى الكفر بآيات الله وتقتيل النبيين بغير الحق، فإن ذلك ناشئ عن معصيتهم لله واعتدائهم حدوده، وهذا كما يقال: " المعاصي بريد الكفر " ، فإن من شأن المعصية إذا استخف بها صاحبها وأصر عليها أن تجر إليه نظائرها، فإن النفس إذا انفلتت من حبال التقوى، وخرجت من حظيرة خوف الله لم تكد تقف عند حد من حدود العصيان فتستخف بما كانت تستعظمه، وتستصغر ما كانت تستكبره، وذلك ما يعنيه قول الله تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14]، فإن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ذكر المعصية وأثرها في القلب، وأن من تاب منها صقل قلبه، ومن استمر عليها ازداد أثرها حتى يغطي على القلب، ثم قال: (فذلكم الران) وتلا الآية، وكفى بهذا داعيا إلى مراقبة القلب ومحاسبة النفس في جميع الأوقات، وفي كل الأحوال، فرب معصية لا يرفع لها العبد شأنا ولا يحسب لها حسابا تهوي به الى الضلال البعيد، وتردي به في العذاب الأليم والعياذ بالله، ولذلك كان ذوو البصائر لا يفتأون يراقبون النفس ويحاسبونها حتى على المباح فضلا عن السيئات.
وتعميم صفة القتل عليهم لأنهم بين قاتل ومقر وموال للقتلة.
[2.62]
للمفسرين في بيان ما يراد بالآية رأيان؛ منهم من ذهب إلى أنها نزلت تبشيرا للصالحين من هذه الأمة وتبيانا لأحوال أسلاف الأمم السابقة المتقيدين برسالات الله تعالى الذين لم يشب إيمانهم كفران، ولم يلحق عملهم انحراف، فقد جمعوا بين رسوخ الإيمان وصلاح العمل، فهم معدودون في السعداء الفائزين { فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، ذلك لأن شموس رسالات الله كانت تطلع على الأرض بالهدى ودين الحق فيستنير بها السالكون الموفقون وكانت جميع هذه الرسالات متفقة في أصولها، متحدة في أهدافها، فقد كانت تدعو إلى عقيدة واحدة، وهي عقيدة التوحيد، وعدم إشراك أحد مع الله،
ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
[الأنبياء: 25]، كما كانت تغرس في النفوس روح الفضيلة والتقوى، وإنما كانت تختلف فيها كيفيات العبادات كما تختلف شرائعها وأحكامها بحسب ما يرى الله من مصلحة للعباد، فمن كان تابعا لرسالة من هذه الرسالات، معتصما بحبلها، متقيدا بحكمها، فهو على هدى من الله حتى تنسخ برسالة غيرها، فإذا مات على ذلك فهو من المبشرين بالفوز والسعادة في هذه الآية وأمثالها، أما من كان من أتباع إحدى هذه الرسالات ثم أدركته رسالة ناسخة لها لم يكن له أن يتردد في إتباع الناسخة، وأن يتشبث بالمنسوخة، لأن أحكام المنسوخة أحكام وقتية محدودة انتهى أمدها بما أتى بعدها، فمن كان من أتباع موسى مثلا وأدركته رسالة عيسى عليه السلام لم يكن له عذر في ترك اتباع عيسى وعدم الإيمان به، بل يعد ذلك كفرا بموسى نفسه وبما جاء به لتبشيره بالمسيح عليه السلام، وكذلك من كان من أتباع عيسى وأدركته رسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وجب عليه أن يستجيب لندائها، وأن يستظل بلوائها، وأن يترك ما كان عليه، وإلا كان كافرا بالرسالتين جميعا وبالرسالات السابقة كلها لما فيها من التبشير صلى الله عليه وسلم ولأخذ الله مواثيق الأمم على ألسنة أنبيائهم بأن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم،
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
[آل عمران: 81]، فالمذكورون مع الذين آمنوا في الآية على هذا القول - هم الذين كانوا متعبدين بالرسالات السابقة قبل إشراق شمس الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام؛ وعليه فالمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه ربما ظن ظان وفكر مفكر - بعدما سمع مما سبق من الآيات من قوارع الوعيد لبني إسرائيل وما سجل عليهم فيها من سفه أحلامهم وضلال سعيهم - أنهم جميعا تشملهم تلك الأوصاف، ويحيق بهم ذلك الوعيد، فلا مفر لأحد منهم من قبضة العذاب، فأراد الله أن يدرأ هذا الوهم وأن يبين عدله فيهم وفي غيرهم، فهم لم يمقتوا لعنصرهم وإنما مقت من مقت منهم لضلال معتقده وسوء صنيعه، وأن شأن الله معهم كشأنه مع هذه الأمة وسائر الأمم، فليس بين الله أحد من خلقه نسب، ولا يصل الناس به ويقربهم إليه إلا الإيمان الخالص والعمل الصالح، فمن جمع بينهما فاز برضوانه وثوابه، ومن فرط فيهما خسر الدنيا والآخرة، على أن ممن مضى من بني اسرائيل أمة قدرت الله حق قدره فأحسنت عبادته وأقامت دينه خلد الله ثناءها في قوله:
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
[الأعراف: 159].
وذهب آخرون إلى أن الآية تبشر الذين يقلعون عن غيهم من أصحاب الديانات المنحرفة، ويتبعون الهدى الذي بعث به محمد صلوات الله وسلامه عليه بعدما اتضحت لهم حجته وأضاء لهم نوره، وتجلى لهم إعجازه، ولا يفرطون فيما فرض الله عليهم من الإيمان والعمل، فهم حقيقون بما وعدهم الله به من الجزاء، وعليه فذكر الذين آمنوا للتنويه بالسابقين إلى الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذين كونوا من أنفسهم - مع قلة عددهم وضعف حالهم - أمة مستقلة في عقيدتها وعباداتها وأخلاقها، وللتحريض على اللحاق بهم، والاستبصار بنورهم، ومناسبة الآية بما قبلها - على هذا القول - أن الوعيد الشديد الذي صب فيما قبلها على اليهود صبا قد يلقي بهم في مضايق اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته وعفوه لو لم يتبع بما ذكر هنا من تبشير من آمن منهم وعمل صالحا، وفي هذا دعوة لهم إلى الإقبال على ما أدبروا عنه من الحق، وتربية لنفوسهم العاتية بالترهيب تارة وبالترغيب أخرى، وفي ذكر الذين آمنوا وغيرهم ممن ذكر معهم إيناس لوحشتهم وتسكين لروعهم وتحقيق لما ذكرته من قبل من عدل الله بين عباده.
وإطلاق لقب الذين آمنوا على هذه الأمة من باب العلمية الغالبة وذلك لجمعها في الإيمان بين رسالات جميع المرسلين:
آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
[البقرة: 285]، وإلا فهو وصف يصدق عليها وعلى كل الذين آمنوا بما أنزل الله من قبل من الأمم السابقة، وإنما مثل ذلك مثل وصف الإسلام الذي يصدق على كل من أسلم لله تعالى، وهو بهذا الاعتبار يصدق على جميع أتباع المرسلين، ولذلك وصف الله به النبيين الذين يحكمون بالتوراة:
يحكم بها النبيون الذين أسلموا
[المائدة: 44]، وحكى عن الحواريين قولهم:
آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون
[آل عمران: 52]، وحكى مثله عن أهل الكتاب المتمسكين به وذلك قولهم:
إنا كنا من قبله مسلمين
[القصص: 53]، وقال في قرية لوط:
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين
[الذاريات: 36]، ومع ذلك فلفظ المسلمين مع إطلاقه يسبق إلى الذهن أنه ما أريد به إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الاسلام جاءها على أكمل وجوهه، وأتم نوره، وأوسع أحكامه؛ وتصدير الذين آمنوا في الذكر للحكمة التي أشرت إليها من قبل؛ وبهذا الذي ذكرته ينجلي ما تصوره أكثر المفسرين من الإشكال في المراد بالذين آمنوا حتى اختلفوا في المراد بهم على أقوال.
منها أنهم المنافقون لأنهم آمنوا بألسنتهم وإن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وهو مروي عن سفيان الثوري، واقتصر عليه صاحب الكشاف وأبو السعود، وعضده بقرينه انتظامهم في سلك الكفرة، وذكر أن التعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا أصلا، ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا.
وهو قول مرفوض إذ لم يعهد وصف المنافقين في القرآن بالإيمان بل نفى الله عنهم الإيمان بقوله:
وما هم بمؤمنين
[البقرة: 8]، وقوله:
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات: 14]، وقوله:
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
[المنافقون: 1].
ومنها أنهم الحنيفيون - وهم الذين فارقوا قومهم لما رأوهم عليه من الضلال وآمنوا بالحنيفية الحقة كزيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، وقس بن ساعده - وبه صدر القطب - رحمه الله - في التيسير وحكى غيره بصيغة قيل، وفي ذلك دليل على أنه مختاره.
وهو مردود بأن الحنيفيين منهم من مات قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وهو على الإيمان الذي هداه الله إليه، ومنهم من أدرك بداية نبوته عليه أفضل الصلاة والسلام فآمن به قبل أن يرسل، وهو ورقة بن نوفل رضي الله عنه، ولم يبق منهم أحد، ولم يبق داع إلى مسلكهم في الإيمان، بعدما أنزل الله القرآن بالبينات والهدى، واتضحت للناس الحجة وانفتحت لهم أبواب الرشد مع أن ذكر الذين آمنوا في صدر الآية للتنويه بشأنهم والدعوة إلى منهجهم.
ومنها أنهم هم الذين نطقوا بالشهادتين لأن ذلك يسمى إيمانا في الظاهر مع غض النظر عن إقرار مضمونها في القلب وتصديقهما بالعمل، واقتصر عليه القطب رضوان الله عليه في الهيميان، وهو كسابقه لأن الإيمان اللساني وحده لا اعتداد به عند الله حتى يطلق على أصحابه وصف الذين آمنوا.
وما ذكرته من أن أتباع النبيين كلهم يصدق عليهم وصف الإسلام والإيمان لا ينافي أن تكون لهم ألقاب أخرى.
وبما حررته في " الذين آمنوا " ينكشف غيم إشكال آخر تصوره بعض أهل التفسير، وهو تقييد الوعد في آخر الآية بالإيمان والعمل الصالح مع أن وصف الذين آمنوا نص في إيمانهم، ومقتض لعملهم الصلاح وهذا الإشكال لا ينشأ على الأقوال الثلاثة التي حكيتها عن المفسرين قبل قليل في المراد بهؤلاء، وقد أدى هذا الإشكال بمن تصوروه إلا الاختلاف في المراد بهذا التقييد، منهم من قال: هو خاص بغير الذين آمنوا وهم الذين هادو والنصارى والصابئون، ومنهم من قال: يراد به في الذين آمنوا الاستمرارية والدوام، وفي غيرهم الإنشاء من جديد، وإذا أدركتم أن المراد بالذين آمنوا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تتصوروا شيئا من هذا الإشكال، كيف وقد وصف الله تعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - وهم قاعدة أمته وعلمها - بأكمل الأوصاف ثم قال فيهم:
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما
[الفتح: 29]؟ واذا جاز نحو هذا في خير القرون أفلا يجوز في الأمة عموما؟ وتخصيص التقييد ببعض المذكورين دون بعض دعوى لا دليل عليها، وحمله في بعضهم على الاستمرار وفي بعضهم على الإنشاء حمل للفظ على حقيقته ومجازه في إطلاق واحد.
والذين هادوا هم أمة موسى علي السلام، وتسميتهم بذلك مأخوذة من قوله سلام الله عليه:
إنا هدنآ إليك
[الأعراف: 156]، اعتذارا إلى الله من عبادة قومه للعجل، وعليه فإن هاد بمعنى تاب، ووصفوا بذلك لتوبتهم من عبادتهم العجل، وقيل: من هاد بمعنى مال لأنهم كانكوا يتهادون أي يتمايلون عند تلاوتهم التوراة وهو ضعيف ، وقيل سموا بذلك لدينونتهم باليهودية، ويهود تعريب ليهوذا، وهم اسم لأكبر ولد يعقوب عليه السلام فيما قيل، وسمي به السبط الذي ينحدر من سلالته، ويرى الإمام ابن عاشور أن إطلاق هذا الإسم على بني إسرائيل كان بعد موت سليمان عليه السلام عام (975) قبل الميلاد لأن مملكة اسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين، مملكة رحبعام بن سليمان ولم يتبعه إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين وتلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا، وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه أورشليم، ومملكة ملكها يوربعام بن مناط غلام سليمان، وكان شجاعا نجيبا فملكته بقية الأسباط العشرة عليهم، وجعل مقر مملكته السامرة، وتلقب بملك إسرائيل إلا انه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدو الأوثان، فلأجل ذلك انفصلوا على الجامعة الإسرائيلة ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفا وخمسين سنة، ثم انقرض على يد ملوك الأشوريين فاستأصلوا الإسرائيلين الذين بالسامرة وخربوها، ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيدا لهم، وأسكنو بلاد السامرة فريقا من الأشوريين، فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل ملك إلا ملك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناء سليمان عليه السلام، فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يهود أي يهوذا، ودام ملكهم هذا إلى حد سنة (120) قبل الميلاد في زمن الامبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاء الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود، هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط.
قال: " ولعل هذا وجه اختيار لفظ { الذين هادوا } في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا، ثم صار اسم اليهود مطلقا على المتدينين بدين التوراة.
قال تعالى:
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء
الآية [البقرة: 113] ويقال تهود إذا اتبع شريعة التوراة، وفي الحديث:
" يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "
ويقال هاد، إذا دان باليهودية، قال تعالى:
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر
[الأنعام: 146].
والنصارى هم أصحاب الإنجيل الذي حملوا، واحدهم نصراني، وأصله نصران كندمان وندامى ، وسكران وسكارى وذكر في الكشاف أن ياءه للمبالغة كأحمري، وقيل: أصله ناصري نسبة إلى ناصرة التي نسب إليها المسيح عليه السلام كما جاء في الإنجيل " يسوع الناصري " فغير إلى نصراني، وقيل: هو مأخوذ من النصر لقول الحواريين:
نحن أنصار الله
[آل عمران: 52]، ونسب إليه المسيح كما في بعض تسميات أهل الكتاب له، واستدل سيبويه على أن أصل مفرده نصران بدون ياء كندمان بمجيء مؤنثه على نصرانة في قول الشاعر:
" كما سجدت نصرانة لم تحنف "
وأنشد بعضهم:
تراه إذا ذر العشى محنفا
ويضحى لديه وهو نصران شامس
والصابئون جمع صابئ من صبأ - بالهمز - إذا ظهر وطلع؛ سموا بذلك لتميزهم عن سائر أصحاب الديانات بمعتقداتهم وعباداتهم الخاصة بهم، ولذلك كانت العرب تسمي المؤمنين بالصابئة لخروجهم عن دياناتهم؛ وانفرد نافع بقراءة الصابين بحذف الهمزة تخفيفا والأصل الهمز كما علمتم بدليل قراءة الجمهور، وقيل: أصله من صبا يصبو بمعنى مال، سموا بذلك لميلولتهم عن الديانات إلى ما اختاروه لأنفسهم من الدين؛ والصواب الأول لاشتهار قراءة الهمز، ولأن الطريقة المتبعة تخفيف المهموز لاهمز غير المهموز.
وللمفسرين والفقهاء والمؤرخين وسائر الباحثين آراء متعددة في الصابئين، فعن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم، وروي عنه أنهم بين المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، وروى ما يقرب منه عن ابن أبي نجيح، وروى عن ابن زيد أنهم أصحاب دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ونبي إلا قول: لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول الله، وألحقهم بعض بالمجوس وهو مروي عن الحسن، وروي عن قتادة أنهم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرأون الزبور، ونحوه عن أبي جعفر الرازي، وروي عن زياد أنه أخبر عنهم أنهم يصلون إلى القبلة ويصلون خمس صلوات فأراد أن يضع عنهم الجزية، فأخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
وروى أبو الزناد عن أبيه أنهم قوم مما يلي العراق وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أنهم من أهل الكتاب، وهو الذي تقتضيه بعض آثار أهل المذهب، وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدى وأبي الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه، وقالوا فيهم: إنهم يقرأون الزبور.
ونص أبو حنيفة وإسحاق على جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وهو مما يؤكد كتابيتهم عندهما.
وورد في دائرة المعارف الإسلامية - وهي من وضع المستشرقين - أن اسم الصابئة مشتق من أصل عبري ص ب ع أي غطس، وأن الصابئة تنقسم إلى قسمين:
1) المنديلم والصبوة وهي تمارس شعيرة التعميد أو الغطاس وهم صابئة العراق.
2) صابئة حران وهي فرقة وثنية ربما لم تكن تعرف هذه الشعيرة على الإطلاق وإنما اصطنعوا هذا الاسم من قبيل الحيطة مبتغين أن ينعموا بالسماحة التي أظهرها القرآن لليهود والنصارى.
وذكر الإمام ابن عاشور أن الأظهر عنده أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أو ما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق.
ونقل عن بعض علماء الإفرنج زعمه أنهم سموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ.
وفي بعض آثار أصحابنا أن الصابئين قوم أخذوا ما طاب لهم من التوراة وما طاب لهم من الإنجيل وقالوا قد أصبنا دينا، وظاهر هذا القول أن تسميتهم بالصابئين مأخوذة من قولهم هذا، وعليه ففي حروفه قلب، والأصل صائبون.
وروي عن وهب بن منبه أنه سئل عنهم فقال الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا، ويتفق مع هذا الرأي ما ذهب إليه الأستاذ سيد قطب، وهو أنهم قوم من العرب شكوا في عقيدة الجاهلية فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها فاهتدوا إلى التوحيد وقالوا إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى ملة إبراهيم، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم، فقال عنهم المشركون إنهم صبأوا - أي مالوا عن دين آبائهم - كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك، ومن ثم سموا الصابئة.
وقد كنت أجنح إلى هذا الرأي ترجيحا لأصل المدلول اللغوي للفظ صبأ غير أن وجود طائفة بهذا الاسم معروفة لدى العلماء الذين كتبوا عنهم يرجح أن المقصود به تلك الطائفة، ولست أرى اختلاف الكاتبين عنهم في اصول معتقداتهم وأوصاف عباداتهم إلا ناشئا عن اللبس الحاصل من حالهم بسبب تكتمهم وإخفائهم أصول ديانتهم لئلا تظهر على حقيقتها.
ولكتاب المقالات في الأديان والفرق مجال واسع في الحديث عن الصابئين، وتجد مقالاتهم فيها تلتقي تارة وتفترق تارة أخرى، وملخص ما قيل عنهم أنهم قوم يقدسون الروحانيين، ويتعصبون لهم، معتقدين أن للعالم صانعا حكيما مقدسا عن صفات النقص والحدثان، وأن الوصول الى جلاله مستحيل، فلذلك يتقربون إليه بالمتوسطين الذين يعتقدون أنهم مقربون عنده وهم الروحانيون الذين طهروا تطهيرا، وفطروا على التقديس والتسبيح، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يتورعون عن وصفهم بالربوبية والألوهية كما يعتقدون شفاعتهم عند الله وهو رب الأرباب، وبجانب ذلك يعتبرونهم متوسطين في الاختراع وتسيير أحوال الكون لاستمدادهم القوة من الحضرة الإلهية، ومنهم يفيض ما يفيض منها على الموجودات السفلية ويعتقدون اختصاص كل من الروحانيين بهيكل معين له فلكه الخاص، ويبدو أنهم يتجهون إلى هذه الهياكل في عبادتهم لاعتقادهم حلول الروحانيين بها، وكونهم منها بمثابة الأرواح من الأجساد، ولذلك قال من قال فيهم: إنهم يعبدون الكواكب، وقال آخرون: يعبدون الملائكة: ويعدون طهارة النفس وتزكيتها بقدر اقترابها من الطبائع الروحانية وتجردها من آثار القوى الغضبية والشهوانية، لأنها تكون بذلك أكثر انسجاما وتآلفا مع الروحانيين الذين يتقربون إليهم، ونسب إليهم أنهم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، وإنما المشهور عن أوائلهم أنهم يدعون عند المعلمين الأولين للصابئة هما عادمون وهرمز، وهما شيث بن آدم وإدريس عليهما السلام، ولا يعترفون بنبوة غيرهما، وكانت لهم مملكة بالعراق، فلما ظهر عليها الفرس قضوا على مملكتهم ومنعوهم من عباداتهم، ولعل هذا الذي دعا بعض العلماء إلى القول بأنهم من المجوس، وتسلط الروم على صابئة الشام، فلما تنصر قسطنطين امبراطور الروم حملهم بالسيف على التنصر، وهذا الذي جعلهم في حكم النصارى حتى عوملوا معاملتهم في الإسلام، والنصارى تسميتهم يوحنا نسبة إلى يوحنا المعمدان، وهو يحيى عليه السلام، وذكر ابن حزم أن دينهم الذي ينتحلونه هو اقدم أديان الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه ما أحدثوا فبعث الله إبراهيم عليه السلام، ولئن كان كذلك فهم كانوا على التوحيد إلى أن شابوه بالمعتقدات الضالة، ومن القائلين من قال: إنهم الكلدانيون الذين بعث إبراهيم صلى الله وسلم على نبينا وعليه بدعوتهم إلى الهدى ودين الحق.
وشهرت الصابئة بالحرنانية - نسبة إلى حران على غير قياس - ولعل هذه النسبة خاصة بصابئة الشام لكون حران حاضرتهم، ويحتمل أن تكون سرت إلى غيرهم من الصابئين، وذكر ابن تيمية أن معبدا كبيرا كان لهم تحت جامع دمشق قبلته إلى القطب الشمالي، ويرى ابن تيمية أن الصابئين المعنيين في الآية هم الذين اتبعوا ملة ابراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل ثم دانوا بالتوراة ثم بالإنجيل قبل نسخهما وتبديلهما بخلاف المتمجسين منهم والذين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين كالفلاسفة الذين أنكروا المعاد، أو الذين أنكروه وأنكروا حدوث العالم كأرسطو.
ويومئ كلامه إلى أن فلاسفة أثينا كانوا من الصابئين وأن أسلافهم كانوا من أهل التوحيد.
وعد من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من هؤلاء بالأجر عند ربهم وعدم الخوف والحزن، وفي المراد بقوله: { من آمن } قولان: قيل أريد به من التزم بالعقيدة الصحيحة التي بعث بها النبي المرسل إلى أمته والتزم بما تقتضيه من العمل، وعليه فإن هؤلاء هم الذين درجوا على نهج الرسل السابقين قبل نسخ شرائعهم، وقيل: أريد به من آمن بالنبي الخاتم - صلوات الله وسلام عليه - عندما بعث بالملة الخاتمة والشريعة الجامعة، مصدقا لما أنزل قبله على النبيين - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين - وعليه فالآية نزلت داعية إلى الإيمان به، - صلوات الله وسلامه عليه - وترك التشبث بشيء من الملل والشرائع السابقة بعدما نسخت بما جاء به - صلوات الله وسلامه عليه - وانما خص اليهود والنصارى والصابئون بالذكر من بين سائر أصحاب الملل والديانات لأنهم أجدر بالسبق إلى الإيمان لمعرفتهم بالنبوات وما بقي عندهم من علم الكتاب الذي ينطوي على بشائر جلية ببزوغ شمس الرسالة المحمدية الطاوية لظلام الجهل والشك، وذكر الذين آمنوا قبلهم للحكمة التي أومأت إليها من قبل، وهذا القول الأخير أرجح في نفسي مما قبله.
والإيمان بالله يصدق على الإيمان بذاته وصفاته وأفعاله، ومن أفعاله التي يجب بها الإيمان: بعثه الرسل، وإنزاله الكتب، فيستنتج من هذا دخول أركان الإيمان الستة التي ورد بها حديث جبريل - عليه السلام - في مدلول الإيمان بالله وإنما تلي بذكر الإيمان باليوم الآخر مع أنه من بين هذه الأركان لأهميته، فإنه أقوى العوامل في تقويم المنحرفين ورد الشاردين، وذلك أن الإنسان بإيمانه بالخالق العظيم تنبعث في نفسه بواعث على طاعة هذا الخالق الذي أحسن صنعه وصنع كل شيء، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ولكن مؤثرات شتى - منها نفسي ومنها أجنبي - كثيرا ما تقف بهذه البواعث وتصرف النفس عن الشكر إلى الكفران، وعن الطاعة إلى العصيان، وعن الذكر إلى الغفلة، وعن الهدى إلى الضلالة، فتيار الشهوات العارم قد يقضي على كل أثر للضمير في النفس، وعواصف الغرائز الهوجاء قد تطفئ كل جذوة من العقل، إلا انه اذا آمن مع ذلك بالمعاد الذي يحاسب فيه على ما قدم وأخر، وأسر وأعلن قوي في نفسه جانب عقله وضميره وأمكنته مقاومة شهواته وغرائزه وتذليلها حتى يقتادها في النهج السوي، فتكون منا شيء للرحمة والخير والإحسان، ومن هنا كان المؤمن بالله واليوم الآخر آخذا من حبل الإيمان بطرفيه، وهذه هي حكمة اقترانهما وتكررهما في القرآن والسنة وخصوصا في معرض الأمر أو النهي، وفي مقام الدعوة أو التحذير.
والعمل الصالح أثر من آثار الإيمان لا يمكن انفكاكه عنه كما لا ينفك الظل عن الجسم لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضيان الانقياد لله في حكمه والإذعان له في أمره، كيف والآمر الناهي هو الله الخالق الكريم الذي منه المبدأ وإليه الرجعى، والذي يجزي كل أحد بما عمل: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }.
والعمل الصالح ما وافق أمر الله ونهيه فيدخل فيه اجتناب المنهيات لأن الخير لا يجتمع مع ضده، والاكتفاء بإجماله في الآية لمعرفة الفئات المذكورة فيها بتفاصيله بما عندهم من علم الكتاب. وإن من الأعمال الصالحة ما لم تختلف فيه الكتب المنزلة، كإفراد الله بالعبادة، واجتناب كل ما أدى إلى الإشراك به أو أدنى منه، وعون الضعفاء وإغاثة الملهوفين ونصرة المظلومين، ومعاملة الناس بالحسنى.
والأجر: الجزاء، وسمي جزاؤهم أجرا لأنهم أمروا فامثتلوا وحملوا فتحملوا، فكانت أعمالهم كأعمال الأجير الذي يطمع في صاحب العمل أن يوفيه أجره، وكونه { عند ربهم } مما يضاعف طمأنينتهم فإنه في مستودع آمن، وقرار مكين، إذ لا يصل إليه مختلس ولا غادر وإنما يوفيهم إياه ربهم كما وعدهم به.
وقد مضى تفسير الخوف والحزن.
وذكر جماعة من أهل التفسير لنزول الآية سببا، وهو أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - حدث النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أصحابه فقال:
" كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا سلمان هم من أهل النار "
فشق ذلك على سلمان فنزلت الآية، وهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لمعارضته ما ثبت عنه بالنصوص القاطعة أنه لا ينطق عن الهوى ولم يكن ليقول على الله ما لا يعلم، إذ هو مبلغ في أخباره عن الله، فلا يمكن أن يقول عن أحد هو من أهل النار، وليس كذلك، والرواية محكية من طريق السدي وهو معروف بنقل الغرائب التي لا تصح عقلا ولا نقلا، هذا بجانب سقوط أكثر من راو في سندها، ولئن صح كون سؤال سلمان سببا لنزولها فقد نزلت قبل أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، وهذا الذي تفيده رواية ابن أبي حاتم عن سلمان ونحوه عن مجاهد عند الواحدي.
وروى أبو داود في الناسخ والمنسوخ وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما يدل على أنه يرى الآية منسوخة بقوله تعالى:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
[آل عمران: 85]. ولئن صح ذلك عنه، فهو محمول على نسخ التبعد بشرائع الأنبياء السابقين بالشريعة المحمدية الخاتمة، ولا ينافي ذلك ما دلت عليه هذه الآية على أي واحد من التفسيرين السابقين لأنها خبر ولا نسخ في الأخبار.
[2.63-64]
كانت الآية السابقة فيضا من أنس اللطف الإلهي يغشى بالطمأنينة نفوسا زعزعها ما تقدم من قوارع الإنكار والوعيد، وتبيانا لسببي النجاة من الهلكة، والعصمة من العذاب وهما الإيمان الراسخ في النفس، وما يترجمه من العمل الصالح وليس في ذلك انقطاع عن الحديث الخاص ببني إسرائيل وتأنيبهم على ما اختاروه من الضلال وكفران النعم التي عددت في هذا السياق؛ وإن ذكر معهم من ذكر من أصحاب الديانات الأخرى؛ ومن هنا أخذت الآيات تواصل عرض مساوئهم جامعة بين تهديدهم والامتنان عليهم بالأنعم التي كفروها فانقلبت عليهم نقمة ووبالا.
رفع الطور فوق رؤوس بني إسرائيل
وفي هاتين الآيتين إيماء إلى قصة ذكرت في سورة الأعراف بعبارة أوضح وبيان أوسع وذلك قوله تعالى:
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا مآ ءاتينكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
[الأعراف: 171]، كما أشير إليها مرة أخرى في هذه السورة في الآية 93، وفيها ما يدل على أنهم وصلوا في التعنت وقسوة القلوب وانطماس البصائر إلى حد لا يكاد يرجى معه انثناؤهم إلى الهدى.
وقد عني المفسرون بشرح هذه القصة وبيان أسبابها، وهم متفقون - إلا من شذ من المتأخرين - أن الله اقتلع الطور من الأرض ورفعه فوق رؤوس بني إسرائيل تهديدا لهم حتى يذعنوا لما طلب منهم، واختلفوا في سبب هذه الحادثة، فعن ابن زيد أن موسى عليه السلام عندما جاء بني إسرائيل بالألواح فيها كتاب الله عصت بنو إسرائيل أمره بقبول ما جاءهم به وقالوا من يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا فيقول هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون، قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، قال: أي شيء أصابكم، قالوا: متنا ثم حيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب، وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق.
وعن مجاهد أن ذلك كان عندما أمروا أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة.
ولم أجد أحدا من القدامى ينكر اقتلاع الجبل ورفعه أعلى الرؤوس كالسحاب، وهو بهذا آية كونية خارقة للمألوف عند الناس من أحوال الكون، ووافقهم على ذلك الإمام محمد عبده مع ما عهد منه من تفسير الآيات الكونية بما يقرب من المألوف.
وذكر العلامة السيد رشيد رضا أن هذا هو المتبادر من الآية بمعونة السياق إلا أنه جوز أن يكون المراد بالرفع علو الجبل مع رسوخه في الأرض، لأن كل عال يوصف بأنه مرفوع ومرتفع ولو كان متصلا بالأرض، نحو
وفرش مرفوعة
[الواقعة: 34]،
سرر مرفوعة
[الغاشية: 13]، وذكر أن النتق المذكور في سورة الأعراف ليس نصا في كونه رفع في الهواء، لأنه لغة الزعزعة والزلزلة، ثم قال: " وإذا صح هذا التأويل لا يكون منكر ارتفاع الجبل في الهواء مكذبا للقرآن ".
وهذا الذي جوزه صاحب المنار هو الذي عول عليه الإمام ابن عاشور مضعفا ما عداه، وهذا نص قوله: " أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه السلام في الطور تجليا خاصا للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب وردعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج، وفي الفصل الخامس من سفر التثنية، فلعل الجبل من شدة الزلازل وما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحاب، ولذلك وصف في آية الأعراف بقوله: { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } (نتقة: زعزعه ونقضه)، حتي يخيل إليهم أنه يهتز ، وهذا نظير قولهم: " استطاره إذا أزعجه فاضطرب، فأعطوا العهد وامتثلوا بجميع ما أمرهم الله تعالى. وقالوا: " كل ما تكلم به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك الى الأبد " ، وليس في كتاب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم، وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير ".
وكلامه واضح في أنه التبست عنده قصة بقصة، فجعل القصتين قصة واحدة، وهما اندكاك الطور عندما تجلى له الله بآياته الكبرى، ورفعه فوق بني اسرائيل عندما أخذ عليهم الميثاق، مع أن اختلاف القصتين بين لمن تدبرهما فآية التجلي ذكرت اندكاك الجبل وآيات الميثاق ذكرت رفعه وشتان بين الأمرين، والاستدلال بما عند أهل الكتاب على مقاصد التنزيل غير سديد بعد ثبوت تحريفهم لما أنزل، ولبسهم الحق بالباطل.
ويؤيد قول الجمهور تشبيه الجبل بالظلة - وهي السحابة سميت بذلك لإظلالها من تحتها - فإن هذا التشبيه لا يتفق مع بقاء الجبل مكانه مستقرا في الأرض كما يؤيده أن الرفع لو أريد به ما ذكر من علو الجبل لم تكن فائدة من ذكره في هذا السياق، فإن الجبل بحالته الطبيعية ليس مرفوعا في هذه الحالة فحسب ولا على بني إسرائيل فقط، بل ارتفاعه منذ خلق وفوق كل من يأتي تحته، وما ذكر من ظنهم وقوعه بهم ينفي كل لبس في المعنى ويجتث كل شبهة في التأويل لأن الوقوع لغة هو السقوط، والسقوط المخشي إنما هو سقوط ما كان بالجهة العلوية لا بالجهة المحاذية، ومن ناحية أخرى فإن الجبل مع بقائه على حاله متمكن في الأرض بقراره فيها فلا معنى لظنهم - مع ذلك - أنه واقع بهم.
والنتق يطلق على الرفع بالجذب الشديد الذي تكون معه زعزعة كنتق الغرب.
وأخذ الميثاق هو تكليفهم بمضمون التوراة، وقيل: هو ما دل عليه قوله تعالى:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله
والآية التي بعدها [البقرة: 83-84] والصحيح الأول بدلالة { خذوا مآ ءاتينكم } عليه.
وكثير من أهل العلم تصوروا إشكالا في القصة حاصلة أن فيما ذكر إكراها على قبول التكليف، والأصل في التكليف أن يكون المكلف على حالة يتمكن فيها من القبول والرفض، فإن قبل سعد، وإن رفض شقى، واستدلوا لذلك بقوله تعالى:
لا إكراه في الدين
[البقرة: 256]، وقوله:
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين
[يونس: 99].
واختلفوا في الإجابة على هذا الإشكال الذي تصوروه، منهم من قال إن الله خلق في نفوس بني إسرائيل - والجبل مظل فوقهم - الاختيار فاختاروا القبول، ومنهم من قال: إن هذه الحالة لا تعد إكراها إذ لو ظل الجبل كذلك لألفوه كما ألفنا نحن وغيرنا من الناس الأجرام السماوية فوقنا من غير أن نخشى تساقطها علينا، ومنهم من قال بأن عدم الإكراه في التكليف خاص بهذه الأمة؛ وهي إجابات عارية عن الدليل.
وعد ابن عطية الجواب الأول قاطعا حيث قال: اعتباره لا يصح سواه وتعقبه الشوكاني بقوله: " وهذا تكلف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قدر ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره - قال - وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا أو أشد منه، ونحن نقول أكرههم الله على الإيمان فآمنوا مكرهين، ورفع منهم العذاب بهذا الإيمان، وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عن من تكلم بكلمة الإسلام والسيف مصلت قد هزه حامله على رأسه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذرا عن قتله لأنه قالها تقية ولم تكن عن قصد صحيح: " أأنت فتشت عن قلبه " ، وقال: " لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ".
وبهذا الذي قاله الشوكاني ينجلي غيم الإشكال.
والمراد بالطور الجبل كما في آية الأعراف، وهو عند ابن جرير الطبري اسم عربي لمطلق الجبل، وأنشد قول العجاج:
دانى جناحيه من الطور فمر
تقضى البازي إذا البازي كسر
وقيل سرياني وعليه مجاهد، وقيل: هو خاص بالجبل الذي أنزلت عليه التوراة، وهو الذي ناجى الله عليه موسى، وقيل: بما أنبت من الجبال دون مالا ينبت، والقولان مرويان عن ابن عباس رضي الله عنهما، وحكى الإمام ابن عاشور أنه قيل بأن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية، ثم قال: فإذا صح ذلك فإطلاقه هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل، كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علما له فسموه الطور.
والأخذ مجاز في التلقي والقبول؛ وما أوتوه هو التوراة أو الشريعة التي تضمنتها، والمؤدى واحد؛ والقوة عبارة عن الإدراك والفهم، والجد والعزم، والتطبيق والعمل، وإلى ذلك يرجع ما قاله المفسرون، كقول ابن أبي نجيح ومجاهد بأنها العمل، وقول أبي العالية إنها الطاعة، وقول قتادة بأنها الجد، والسدى بأنها الجد والاجتهاد، وابن زيد بأنها الصدق والحق، ولا يعد مثل هذا خلافا كما سبق في المقدمة.
وأكثر المفسرين قالوا بأن جملة { خذوا مآ ءاتينكم بقوة } معمولة لمحذوف تقديره قائلين، ولم يرد ذلك بعضهم لأن الميثاق نفسه قول.
وطولبوا بأن يذكروا ما فيه ليرسخ في نفوسهم حتى يتحول الى عقيدة في قلوبهم، وشعور في وجدانهم، ونور في بصائرهم، ومنهج لحياتهم، ذلك لأن الذكر منشأ الطاعة والامتثال، والغفلة سبب المعصية والاستخفاف.
والحق أن الذكر أعم من أن يكون باللسان وحدها أو بالقلب وحده، فإن الذكر باللسان سبب لاستقرار المذكور في القلب، والذكر بالقلب هو الذي يترتب عليه ما ذكرته من العزيمة والفهم والتطبيق.
وهذا التلقي لما أنزل الله واجب على كل أمة في كل ما أنزل إليها، وأجدر به من كل الأمم أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام التي خصها الله بأكرم رسول، وأعظم كتاب، وأجمع شريعة، فهي جديرة بأن تترجم ما أنزل الله عليها من الهدى والفرقان ترجمة صادقة شاملة بدقة التطبيق وأبلغ المحافظة، وهذا هو الإيمان الحق بما أنزل الله والقيام التام بحق الكتاب المنزل.
أما ما عنى به الناس من تلاوة الكتاب بأشجى الأنغام مع المحافظة على تجويد الحروف وإحكام مخارجها، واتقان صفاتها فلا يعد ذلك توقيرا للكتاب مع إهمال أحكامه ونسيان أوامره ونواهيه، ولو كان توقير الكتاب ووفاء حقه بهذا الذي عنوا به فحسب لما كانت قيمته تتجاوز الأغاني والأناشيد التي يحرص أصحابها أن تصل إلى مسامع السامعين وأذواقهم بأشجى الألحان وأحسن الإيقاع، وكتابا لله أجل من ذلك وعن كل ما يتصورون، وقد أنزل للتطبيق والعمل لا للتسلي واللهو.
و " لعل " تعليلية - كما سبق - مفادها أن اتقاء سخط الله وعذابه مرهون بذكر ما أنزل من كتابه.
والأصل في التوالي أن يكون بالأجسام، وذلك بأن يعرض أحد عمن كان مقبلا عليه فيوليه ظهره، واستعمل مجازا في عصيان الأوامر والنواهي بعد بروز حجتها، كما استعمل في ترك العمل بعد ممارسته، والآية كاشفة لخبث النفوس اليهودية وانطماس بصائرها، فقد كان منهم هذا التولي بعد أن رأوا الآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، وما اختصوا به من النعم السابغة والآلاء المتلاحقة، فقد بدلو نعمة الله كفرا، ولم يطيعوا له أمرا، فقتلوا النبيين بغير حق، وشوهوا وجه الكتاب الذي أوتوه بالتحريفات الباطلة، والتأويلات الفاسدة، فكثيرا ما أضافوا إليه ما لم يكن منه، وانتزعوا منه ما علموا حقه وصدقه، لا لداع إلا ابتاع الهوى، والحرص على حطام الدنيا، وإيثار الحماقة والجهل، وهذا من ضروب التولي المقصود بالآية.
وفضل الله فتحه لهم باب التوبة ورحمته توفيقه للتائبين وقبول توبتهم، وقيل: الفضل هو الإسلام، والرحمة هي القرآن وهو المروي عن أبي العالية، وعليه فالخطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا وروحا، وقيل: الفضل هو الهدى الذي انطوى عليه القرآن، والرحمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد أرسله الله رحمة للعالمين، وبنو إسرائيل من العالمين الذين أرسل إليهم، وقد فتح لهم باب الإيمان به وعرفوا صدقه مما بقى عندهم من كتابهم غير مبدل، وعدم إيمانهم به إنما كان من تلقاء أنفسهم وإلا فقد وضحت لهم حجته وأشرقت عليهم معجزته، وقد آمن به من أنعم الله عليه بالتوفيق منهم، كعبد الله بن سلام رضي الله عنه.
والخسران هو خسران الدنيا باستئصال شأفتهم، وخسران الآخرة بسوء العذاب وفوات ما أعده الله للمتقين في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
[2.65-66]
هذه من القصص التي تصور لنا التعنت الإسرائيلي البغيض وما وصلوا إليه من الاستخفاف بأحكام الله، ذكرت هنا وفي سورة الأعراف، وهي هناك أبين عبارة وأوضح دلالة، وذلك قوله تعالى:
وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون
[الأعراف: 163]، وقد خرجت عن اسلوب التذكير بالقصص السابقة التي قرنت بإذ المشيرة إلى زمن القصة مع اشعارهم بتحقق وقوعها ولم أجد من المفسرين من أشار إلى سبب هذه المخالفة في الأسلوب ما عدا الإمام ابن عاشور الذي عد ذلك من وجوه إعجاز القرآن، وخلاصة ما قاله: أن هذه القصة تختلف عن سابقاتها لأن تلك ضمنتها كتب التوراة كسائر القصص المحكية بإذ، أما هذه فهي غير مسطورة في الأسفار القديمة، وإنما كانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم، ذلك لأنها وقعت في زمن داود عليه السلام فأطلع الله تعالى عليها نبيه صلى الله عليه وسلم بعبارة تؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى، إذ قال: { ولقد علمتم } فاسند الأمر فيها لعلمهم.
وخلاصتها أن اليهود امروا بتعظيم يوم السبت والتفرغ فيه للعبادة بترك الأعمال الدنيوية كلها، وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أمروا بتعظيم الجمعة فعدلوا عنها إلى السبت، وعليه فإن الله تركهم وما اختاروه فكان ترك العمل في السبت مشروعا لهم، ومن بيت الأعمال التي فرض عليهم ترك صيد الحيتان، وكانوا في قرية على ضفة البحر وذكر ابن عاشور أنها أيلة بفتح الهمزة وبتاء التأنيث في آخره - وهي بلدة على خليج صغير من البحر الأحمر في أطراف مشارف الشام، وتعرف اليوم بالعقبة، وهي غير إيلياء التي هي بيت المقدس - فابتلاهم الله لسابق فسوقهم بأن كانت الحيتان تدنو من الساحل في السبت حتى تشرع خراطيمها إليه وتخفى في سائر الأيام لغوصها في عمق البحار، فصبروا على ذلك برهة، ثم أخذت طائفة منهم تتحايل على اصطيادها، فحفرت حفرا بالساحل وشقت إليها جداول من البحر فإذا مد البحر رمى بمائة وحيتانه في تلك الحفر فتبقى لها الحيتان مع الجزر غير قادرة على العود إلى البحر فإذا كان يوم الأحد أخذوها من تلك الحفر فأكلوها وباعوها في الأسواق.
ومنهم من كان يغرز خشبة بالساحل يشد إليها حيتانا يربطها بخيوط يوم السبت ثم يرسلها في البحر ويعود إليها يوم الأحد فيأخذها، وعندما رأوا إمهال الله إياهم اجترأوا فأخذوا يصيدون يوم السبت جهرة ويبيعون في الأسواق، فانقسم غير هذه الطائفة من بني إسرائيل إلى طائفتين، طائفة جاهرت بالإنكار، وأخرى ساكتة عاذلة للمنكرين بدعوى أن الطائفة المنتهكة حقت عليها كلمة العذاب، فلا تجدي فيها الموعظة، وذلك ما حكاه الله في قوله:
وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون
[الأعراف: 164].
وهذا التحايل نظير تحايلهم على شحوم الإبل والبقر التي حرمها الله عليهم فأخذوها وجمدوها وباعوها وأكلو أثمانها، وقد لعنهم الله على ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا شاهدا على عظم جرم المتحايلين على الله باستحلال ما حرم أو إسقاط ما أوجب كالذين يتحايلون على الربا بمختلف الذرائع، أو يتحايلون على إسقاط الزكاة بتمليك الغير ونحوه، أولا يدري أولئك أنهم يخادعون الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء:
وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون
[البقرة: 9]، وما أحمق وأضل من سولت له نفسه مثل هذا الخداع غير مكترث بما يترتب عليه من شر المآل في الدنيا والآخرة، ولعمري إن من يجترئ على حرمات الله باتباع هذه المسالك الملتوية لا تقف به قدمه حتى يأتي الحرام الصريح جهرا، كما انتهى الأمر ببني إسرائيل الذي تحايلوا على الصيد في السبت ثم لم يلبثوا حتى صادوا علنا وباعوا في الأسواق.
والأصل في الاعتداء تجاوز حد السير مأخوذ من العدو وتعورف على إطلاقه في مجازه الحدود التي سنها الشرع أو العرف، ولذا أطلق على العسف والظلم وعدم المبالاة بحقوق الغير لما في ذلك من الانطلاق من القيود الدينية والاجتماعية، وهو شرعا مخالفة أوامر الله ونواهيه بترك ما أوجب أو ارتكاب ما حرم لأنها بمثابة الحدود لما يؤتى وما يترك.
والسبت هو اليوم المعروف، وأصله القطع، سمي بذلك لأن الله سبت فيه خلق كل شيء إذ فرغ من خلق السماوات والأرض يوم الجمعة - على ما قيل - واشتق مه سبت اليهودي إذا عظم يوم السبت، وقيل تسمية اليوم به مأخوذة من سبت بمعنى عظم، وعضد هذا القول بأن العرب كانت تسمى أيام الأسبوع بغير هذه الأسماء المعهودة وإنما نشأت هذه الأسماء بعدما شاعت المصطلحات الدينية عندهم، ويحتمل أن يكون في الآية اسما لليوم أو مصدرا، وعلى الأول فاعتداؤهم في حكم السبت، وعلى الثاني في نفس السبت - وهو التعظيم - لعدم وفائهم به.
وأجمل الاعتداء هنا، وفصل في الأعراف كما سبق، وأجملت عقوبته هناك بقوله:
وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس
[الأعراف: 165]، وفصلت هنا بقوله: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }.
وليس أمره بأن يكونوا قردة أمر تشريع بل أمر تكوين لعدم قدرتهم عليه وإنما هو على حد قوله:
إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
[يس: 82].
واختلف في تحولهم إلى قردة، هل كان صوريا بأن تحولت أجسادهم إلى أجساد القردة، أو كان معنويا بأن اتصفوا بصفاتها، والأول هو قول الجمهور، والثاني قول مجاهد، فقد أخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر انه قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى:
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
[الجمعة: 5]، واعتمد على هذا القول الإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا، وذهب ابن عاشور إلى احتمال الأمرين قائلا: " والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين، والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني، والثاني أقرب للتأريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تأريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين ".
ولم يستبعد الفخر قول مجاهد ولكنه مال إلى قول الجمهور.
ويقوي مذهب الجمهور قوله سبحانه: { فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين } [البقرة: 66]، فإن ذلك أنسب بالمسخ الصوري، فهو أردع عن المعصية لما فيه من وضوح سوء العاقبة وأوعظ للنفوس.
أما ما قاله الإمام محمد عبده، من أنه لا يتم كون تلك العقوبة نكالا للمتقدمين والمتأخرين، وموعظة للمتقين إلا إذا كانت جارية على السنة المطردة في تربية الأمم وتهذيب الطباع وذلك ما هو معروف لأهل البصائر، ومشهور عند عرفاء الأوائل والأواخر، فيتعقب بأن العقوبة كلما كانت أغرب وأبعد عن المألوف كانت ألبغ أثرا في النفوس وأزجر للناس عن الاسترسال في العصيان.
وعدم ذكر القصة في كتب تاريخ العبرانيين لا يوحي بعدم وقوعها، فإن السكوت عن الشيء لا يدل على عدمه.
ومسخ الأجساد لا ينافي مسخ القلوب، فالظاهر أن الله جمع لهم بين العقوبتين، تحول أجسامهم إلى ما يشبه أجسام القردة وتحجر قلوبهم بخروجها عما فطرت عليه قلوب الناس، وهو معنى قول ابن كثير، " بل الصحيح أنه معنوي صوري ".
ومما تجدر الإشارة إليه أن هؤلاء الممسوخين هلكوا من غير عقب لئلا يظن ظان أن ما يوجد من القردة من أعقابهم، فإن القائلين بمسخ الأجساد اتفقوا - إلا من شذ - أنه لا يكون نسل للممسوخ، ولا تمتد به حياة أكثر من ثلاثة أيام، وهو مقتضى ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن القردة والخنازير أهي مما مسخ فقال:
" إن الله تعالى لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك ".
ولا عبرة بقول من قال بجواز أن تكون هذه القردة منهم وإن انتصر له ابن العربي بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشرب وإذا وضع لها ألبان الشاء شربت "
وبما رواه مسلم أيضا عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما
" أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي بضب فأبى أن يأكل منه وقال: " لا أدري لعله من القرون التي مسخت "
فإن غاية ما في الحديثين أن ذلك مجرد ظن كان منه صلى الله عليه وسلم بدليل قوله في الحديث الأول
" ولا أراها "
وقوله: في الحديث الثاني:
" لا أدري "
ثم تبين له صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي أوحاه الله إليه أن المسيخ لا يكون له نسل فجزم به في حديث ابن مسعود وظنه صلى الله عليه وسلم لا يعارض قطعه.
والخاسئ الذليل المبعد، وفائدة وصفهم بالخسوء دفع توهم أن مسخهم كان لدرء عقوبة الآخرة عنهم.
و " ها " من قوله: { فجعلناها } ضمير عائد إلى القردة، وقيل: إلى المسخة أو العقوبة المفهومة من المقام، وقيل: إلى القرية وقيل: إلى الحيتان. وما عدا القول الأول ضعيف لعدم سبق ذكر لشيء من ذلك.
وأصل النكال المنع - ومنه النكل للقيد لمنعه المقيد من الانطلاق - سمي به العقاب لمنعه العاصي من العودة إلى المعصية وغير العاصي من الوقوع فيها.
واختلف كذلك في ضمير يديها وخلفها، وفي المعنى المراد بهما، قيل هو عائد إلى القردة، والمراد (بما بين يديها) من حضرهم و(بما خلفها) من يأتي بعدهم، ولا إشكال في استعمال ما للعاقل، وهو أصح ما قيل، وقيل: { لما بين يديها } من سبقهم من الأمم و { وما خلفها } من يأتي بعدهم، واستشكله أبن كثير لتعذر أن تكون هذه الحادثة التي حلت بهم عبرة لمن سبقهم، إذ كيف يعلمونها؟ ولا إشكال في ذلك من هذه الناحية لاحتمال أن تكون مذكورة في زبر الأولين، وقد أورد ذلك ابن كثير نفسه وإنما يستبعد هذا التأويل لمعارضته ما تدل عليه الفاء من قوله: { فجعلناها } من الترتيب، فلا يكون الجعل سابقا على الحادثة، وقيل: الضمير فيهما عائد إلى القرية، والمراد ببين يديها ما قرب منها من القرى، وبما خلفها ما بعد وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورجحه ابن كثير، وضعفه واضح إذ لم يسبق للقرية ذكر، ولم تدل عليها قرينة، وقيل: هو للعقوبة أو المسخة، والمراد ببين يديها تلك الذنوب التي قارفوها، وبما خلفها ما أشبهها من الذنوب بعدها، وضعف هذا من وجهين:
أولهما: عدم تقدم ذكر العقوبة أو المسخة باسمها الصريح حتى يرد اليها الضمير.
ثانيهما: أن هذه العقوبة لم تكن نكالا لتلك الذنوب عينها لأنها قد قورفت فهي واقعة فعلا.
والموعظة ما دعا إلى الاعتبار وبعث على الاستعبار من كلمات نافعة أو أحداث رادعة وأصلها بالقول المرقق للقلوب الباعث على الخير، الزاجر عن ضده، ثم أطلقت على كل ما أثر في النفس هذا الأثر كالمنايا وسائر الأحداث:
ليس العظات بما يقول مذكر
مثل العظات بمصرع الأعمار
وتخصيص الموعظة بالمتقين لأنهم هم المستفيدون منها بتأثرهم بها.
[2.67-71]
هذه القصة من الأحداث الواقعة في عهد موسى عليه السلام، ذكرت بعد سابقتها مع تقدمها عليها بقرون، لأن القرآن الكريم لا يراعي في ذكره الأحداث تسلسل وقوعها وإنما يأتي بها للعبرة والذكرى كما سبق، ويلحظ اختلاف هذه القصة عن سوابقها في العرض، فقد تميزت عنها ببيان وتفصيل لم يكونا للقصص المتقدمة، وهذا لأن سائر هذه القصص جاءت مفصلة في القرآن المكي فاكتفى بالإشارة إليها هنا عرضا للتنبيه والذكرى وإقامة الحجة على بني اسرائيل المعاصرين للوحي الذين كانوا مقصودين بهذا الخطاب بينما لم يكن ذكر لهذه القصة في غير هذا الموضع، فكانت جديرة بهذا البيان.
وهي كسائر القصص المذكورة ترسم صورة في مخايل قرائها وسامعيها للنفوس الإسرائيلية وما اعتادته من العنت والإلحاح وعدم الاقتناع والوثوق بأقوال الرسل، وما ينشأ عنه ذلك من تبلد الأذهان وزيغ الأفكار وخبث الطوية وجفاء الطبع.
ولعل بعض الذين في قلوبهم مرض حاولوا الطعن والتشكيك في القرآن، لذكره هذه القصة مع خلو التوراة منها، وكفى ردا عليهم أن القرآن أعظم حجة وأنصع برهانا من كل كتاب، فإن الله تكفل بحفظه من كل عابث ومحرف، ولم يكن هذا الصون والرعاية للتوراة ولا لغيره من الكتب السابقة، فكم فيها من تحريف وتبديل وزيادة ونقص؟ فغير بعيد أن تكون من ضمن ما انتزعته الأيدي المحرفة من التوراة على أن الإمامين محمد عبده وابن عاشور لم يستبعدا أن يكون في التوراة ما يشير إليها وهو ما في سفر التشريع الثاني (تثنية) الإصحاح الحادي والعشرين أنه إذا وجد قتيل في الأرض التي أعطاها الرب لإسرائيل واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج الشيوخ والقضاة ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل، فما كان منها أقرب إلى موضعه يأخذ شيوخها عجلة من البقر لم يحرث عليها، ويأتون واديا دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع فيكسرون عنق العجلة في الوادي، ثم يتقدم الكهنة من بني لاوي، ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجل صارخين بقولهم: أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر، اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل، فيغفر لهم الدم.
وبداية هذه القصة قوله تعالى: { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها } وإنما قدم اللاحق فيها على السابق رعاية للمقام، فإن ما ذكر من قبل كان نداء على بني إسرائيل بضلال الفكر وسوء التصرف في مواجهة ما يأمرهم به موسى عن الله عز وجل وما يجريه الله على يديه من آيات بينات تنادي بأنه رسول من الله لا ينطق إلا بوحيه ولا يتصرف إلا بأمره، وفي طي ذلك تذكير بآلاء الله الداعية إلى شكره بطاعة أمره والاستجابة لرسوله، وما ذكر هنا لا يختلف عن هذا السياق فهو من ناحية خبر عن تعنتهم على نبيهم وإصرارهم على مخالفة أمره حتى فيما هم فيه أحوج ما يكونون إلى الطاعة والامتثال لدرء الفتن عنهم، ومن ناحية أخرى هو تذكير بالنعمة السابغة، وهي وجود المخلص لهم من شر أحاط بهم، فقد روي أن الحادثة المشار إليها - وهي وجود قتيل بين ظهرانيهم لا يعرفون قاتله - دفعت بأسباطهم الى الفرقة والشقاق، فكان كل سبط يدفع التهمة عن أفراده ويقذف بها في صدر سبط آخر حتى كادوا يتداخلون بالسلاح لولا أن قيض الله من أولي الفطنة منهم من ردهم إلى الاحتكام إلى موسى عليه السلام.
هذا هو رأي جمهور المفسرين في ترتيب القصة، وخالفهم فيه ابن عاشور قائلا: " لا يخفى أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منها بقوله (وإذ) مع بقاء الترتيب على أن المذام قد تعرف بحكايتها، والتنبيه عليها بنحو قوله: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } - وقوله -: { وما كادوا يفعلون }.
قال: " فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة - إلى أن قال - وكانت القصة الثانية منه عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسوله بينها الله لهم ليزدادوا إيمانا، ولذلك ختم بقوله: { ويريكم آياته لعلكم تعقلون } ، وأتبعت بقوله: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }.
وهذا التوجيه يفهم من قول القرطبي: " ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوه ببعضها ".
والظاهر أن الأمر بذبح البقرة لم يكن إلا إثر القتل - كما قال الجمهور - لأن استنكارهم إياه بقولهم: { أتتخذنا هزوا } وتقصيهم في السؤال عن أوصافها كان - حسبما يتبادر - بسبب استغرابهم من مواجهة موسى عليه السلام شكواهم بهذا الأمر الذي لم تستسغه أفهامهم.
واسم البقرة صادق على الذكر والأنثى من أفراد البقر خلافا لمن خصه بالأنثى كاختصاص الثور بالذكر.
وذكر المفسرون خلافا واسعا في هذه القصة ويجمع ما ذكروه أن القاتل كان قريبا للمقتول فطمع أن يرثه لأنه كان ثريا، ومنهم من أضاف إلى ذلك أن المقتول كانت عنده امرأة حسناء فطمع أن ينكحها من بعده، وقيل كانت له ابنة فخطبها إليه فرفض تزويجها منه.
وقولهم: { أتتخذنا هزوا } جوابا لموسى وهو يبلغهم أمر الله دليل على أنهم خلعوا ربقة الإيمان من أعناقهم، إذ ما كان لأمة مؤمنة ولا جماعة مؤمنة أن تقابل نبيها بمثل هذا الجواب الجافي ولو صدر ذلك مما سبق إيمانه لكان في عداد المرتدين، وقيل: لا يعد هذا ارتدادا منهم ولم يكونوا بهذا القول مكذبين لرسول الله موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، وإنما ذلك مما تفرزه طبيعتهم الجافية، كقول أحد المنافقين عندما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين " هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ".
والبقرة التي أمروا بذبحها لم تكن مقيدة بما وصفت به بعد من الأوصاف، فلو قاموا إلى أي بقرة فذبحوها لبلغوا المطلوب وحصل لهم الامتثال، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم أو لأجزأت عنهم "
أخرجه البزار من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج عنه ابن أبي حاتم وابن مردويه مرفوعا: " لو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم " ، وروي ذلك مرسلا بأسانيد مختلفة، ورواه ابن جرير موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما، وفي هذا ما يدل على أن التنطع في الدين والغلو في التنقيب عما لم يشرع فيه من مكروهات الله تعالى المؤدية إلى التشديد على خلقه، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال "
وفي حديث آخر
" إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم لأنبيائهم واختلافهم عليهم "
وكان صلى الله عليه وسلم يغضب من كثرة الأسئلة ويطلب من الناس أن يتركوه ما تركهم، وقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال:
" إن من أشد الناس إثما رجلا سأل عما لم يحرم فحرم لأجل مسألته ".
وقيل هي معينة محدودة بأوصافها وإن لم تذكر أولا، ونحن لا ننازع في تعينها في علم الله سبحانه، ولكن ذلك لا يقتضي تعينها بموجب التشريع الذي خوطبوا به أولا، فلو أنهم قاموا إلى أي بقرة فذبحوها كانوا ممتثلين ويدل على عدم التعين في الحكم الأول والثاني أن موسى عليه السلام كان يستعجلهم امتثال الأمر بقوله: { فافعلوا ما تؤمرون } رغبة منه في مبادرتهم إلى الطاعة وخوفا من أن يفضي بهم تعنتهم في المسألة إلى الإرهاق في التكليف.
واستدل الفخر للقول بتعينها بأن الضمائر المتكررة في قوله: { إنها بقرة } عائدة إلى نفس البقرة التي أمروا بذبحا لأنها جاءت ردا على سؤالهم بقولهم: " ما هي " ، و " ما لونها "؛ وليس في ذلك من دليل لأنهم مأمورون بذبح بقرة في الجملة ومطالبون بأن يسارعوا إلى امتثال هذا الأمر، والأوصاف التي جاءت من بعد ما هي إلا كتخصيص للعمومات المتعبد بها بعد امكان امتثالها، وقد صرح الأصوليون بجواز تخصيص العام بعد العمل بعمومه، وهذا يعني أن التعبد أولا كان بالعموم ثم بخصوصه، ولما كانوا متعبدين بذبح بقرة من جنس البقر - ولكل فرد من هذا الجنس أوصاف يتميز بها - وأخذوا يسألون عن أوصافها ويبالغون في ذلك أعيد الضمير في الجواب الكاشف للأوصاف إلى البقرة التي أمروا بذبحها من غير لوزم بأن تكون البقرة التي خوطبوا بذبحها أولا محددة بهذه الأوصاف.
وتقدم في قوله: { إنما نحن مستهزئون } بيان الهزء، وهو بضم أوله وإسكان الزاي والهمز، وبهذا قرأ حمزة من السبعة وخلف في مختاره من سائر العشرة واسماعيل والقزاز عن عبد الوارث والمفضل، وتتبع الزاي الهاء في الضم، وبذلك قرأ الجمهور، غير أن حفصا خفف الهمزة بإبدالها واوا، والآخرون أثبتوها.
وهو هنا مصدر بمعنى المفعول أي مهزوءا بنا، وذلك للمبالغة كأنهم اعتبروا أمره لهم بذبح البقرة كجعلهم نفس الهزء لكثرة الاستهزاء بهم حسبما اعتقدوا، وأجيز أن يكون على حذف مضاف اي مكان هزء أو ذوي هزء، وإجابتهم هذه لنبيهم على ما أبلغهم إياه من أمر الله دليل على سوء معتقدهم في أنبيائهم حيث أجازوا عليهم الكذب على الله في مقام التبليغ عنه، وهو اعتقاد لا يجامع الإيمان إذ هو كفر صراح، وإن اعتذر لهم من اعتذر بأن ذلك جرى على ما اعتادوه من فضاضة القول الناشئ عن جفاء الطبع، وأن سببه ما رأوه بأنظارهم القاصرة من التباين بين طلبهم من موسى تعيين القاتل ورده عليهم بأن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة، أو أنهم حسبوا هذا الرد دعابة منه عليه السلام لهم، أو أن في الكلام محذوفا تقديره الله أمرك أن تتخذنا هزوا، أو أنهم قصدوا بالاستفهام الاسترشاد لا الإنكار والعناد.
وهذه المعاذير لا تغني فتيلا، ولا داعي إلى أن أشغل الوقت ببيان زيفها.
وجوابه لهم بقوله: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } يقتضي أن الاستهزاء ليس من شأن العقلاء العالمين وإنما هو من شأن السفهاء الجاهلين فكيف يصدر من نبي مرسل في مقام الدعوة إلى الحق وتبليغ أمر الله، وهو وإن أسند الى الله في قوله: { الله يستهزىء بهم } فليس هو على حقيقته وإنما أريد مجازاتهم على استهزائهم كما سبق، واستعاذته عليه السلام من كونه من الجاهلين في هذا المقام مشعرة بأن الجهل لا ينحصر في عدم المعرفة بالشيء أصلا وهو من شأنه أن يعرف، وفي اعتقاده بخلاف ما هو عليه بل يطلق الجهل على الإتيان بالشيء بخلاف ما كان ينبغي إتيانه، لأنه مما لا يصدر عادة إلا من الجاهلين به وصدوره من العارفين به يلحقهم بمصاف الجاهلين، إذ لا تعد الخبرة بالإتقان مع عدمه شيئا.
ومراده عليه السلام بالجاهلين هنا الجاهلون بأمر الله الذين يهرفون بما لا يعرفون، فيأتون بالهزل في مقام الجد ويلبسون الحق بالباطل، أو الجاهلون بجواب ما سأل عنه بنو إسرائيل من شأن القتيل الذي لم يعلم قاتله، ذلك لأنهم لم تمتد أنظارهم القاصرة إلى بعد خطابه، ولم تصل أفهامهم إلى حقيقة مراده.
وبعد هذا الجواب الجاد انتبهوا إلى أن الأمر بعيد عن الهزل وأدق من أن تدركه مشاعرهم الغليظة، فاستسلموا مع شيء من العناد يتمثل في هذا التقصي في طلب كشف أوصاف البقرة التي أمروا بذبحها، { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } ، وليس الاستفهام بما هنا عن الماهية، وإنما هو عن أوصافها ذلك لأن ما يستفهم بها عن الصفة كما يستفهم بها عن الماهية، فلو تحدث متحدث عن حاتم فسأله سائل: ما حاتم؟ كان جوابه: كريم، وكذا لو سأل أحد عن الأحنف وهو يعلم أنه من جنس البشر بقوله: ما الأحنف؟ فجوابه : حليم، ولكل شيء أوصاف متعددة يجوز السؤال عن كل منها ب " ما " ، وقد علم الله الوصف الذي هم قاصدوه بهذا الاستفهام الذي منشؤه حيرتهم، من كون معرفة قاتل ميتهم تكون بإماتة حي من جنس البقر، إذ لا علاقة بين الأمرين حسبما يبدو قبل الإطلاع على سر أمر الله، وتتضاعف هذه الحيرة إن كانوا سمعوا من موسى عليه السلام أن بذلك يتم احياء الميت المقتول بضربه بجزء من البقرة المذبوحة، فإن تصور حياة ميت بضربه بجزء من ميت آخر لا يكون مع الالتفات إلى طبيعة تأثير الأسباب في مسبباتها، وإنما يحصل ممن آمن إيمانا مطلقا برب الوجود الذي يهيئ ما شاء من الأسباب لما يشاء من المسببات من غير تقيد بسنة مألوفة ونواميس معروفة، وقد كان استفهامهم عن السن فأجيبوا بقوله: { إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك }.
والفارض ما تعدى سن القوة والفتوة إلى سن الضعف والشيخوخة، وقد يطلق على القديم ولو كان أمرا معنويا كقول الشاعر:
ورب ذي ضغن علي فارض
له قروء كقروء الحائض
وأصله الفرض بمعنى القطع لأن المسنة قطعت غالبا العمر المعتاد؛ والبكر الفتي، ويطلق على الذكر والأنثى وهو مأخوذ من البكرة بمعنى الغدو لأن البكر في أول مراحل العمر ودخول " لا " على الوصفين لنفيهما وإثبات وصف آخر بينهما، وهو المصرح به بقوله: { عوان بين ذلك } أي نصف متوسطة بين الفتوة والهرم، ويطلق العوان على النصف من النساء والحيوان، ومنه المثل " العوان لا تعلم الخمرة " ، ومن حيث كون هذه المرحلة متميزة بالقوة أطلق هذا الوصف على ما هو شديد الوطأة كقولهم " حرب عوان ".
وفسر أهل التفسير الفارض بالهرمة التي لا تلد لكبرها، والبكر بالصغيرة التي لم تصل إلى حد الولادة، وخالفهم السدي في البكر فقال - فيما أخرجه ابن جرير عنه - إنها التي لم تلد إلا مرة واحدة، وما قالوه أنسب بالمعروف في الاستعمال فإن المتداول لغة وعرفا أن البكر من الإناث ما لم يفتحله الفحل سواء في الآدميات أو البهائم.
وفسروا العوان بالتي ولدت مرة أو مرتين.
والظاهر أن وصف العوان ينطبق على كل والدة إلى أن تصل إلى حد ما لا يلد للكبر، لأن هذه المرحلة متوسة بين البكارة والهرم.
وبين للتوسط بين شيئين فصاعدا وإنما أضيفت هنا إلى اسم الإشارة الذي للمفرد المذكر لأن الوصفين المذكورين من قبل - وهما الفارض والبكر - بانقضاء ذكرهما كانا كالشيء الواحد المعبر عنه بما تقدم أو ما ذكر فلذلك جازت الإشارة إليهم بصيغة المفرد المذكر كما جاز عود الضمير المفرد المذكر إلى شيئين تقضي ذكرهما وذلك نحو قول الراجز:
فيها خطوط من سواد ويقق
كأنه في الجلد توليع البهق
وعندما قيل له إن أردت الخطوط فقل كأنها، وإن أردت السواد واليقق فقل كأنهما، قال: أردت كأن ذلك ويحك.
وفي قول موسى عليه السلام لهم إثر ذلك { فافعلوا ما تؤمرون } استحثاث لهم على الامتثال وإشفاق عليهم مما يترتب على ترددهم من العقوبة بتغليظ التكليف الذي كانوا بمنأى عنه أول الأمر وإنما طرأ عليهم تأديبا لهم على تعنتهم في المسألة، ولكن أنى لهم ذلك، وقد عودوا أنفسهم الاستخفاف بأمر الله والتنطع على رسله حتى فسدت فطرتهم وانطمست بصيرتهم فصار ذلك جزاء من جبلتهم، فلذا أعادوا السؤال ثانية بما حكاه الله عنهم هنا في قوله: (قالوا يا موسى ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) وما للون وما كلفوا به لولا عدم تهيئهم لاستقبال أمر الله كما يجب ومحاولتهم التهرب منه بهذه المناقشات الفارغة التي لا تثمر إلا ضياع الوقت وسوء الطبع والتعود على التمرد والبعد عن الطاعة غير أنهم عوقبوا بجزاء من جنس ما سألوه، فكان هذا الجواب: { قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع لونها تسر الناظرين } فرض عليهم لون خاص في تلك البقرة وهو الصفرة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جاوزه إلى اشتراط فقوع اللون وهو أبلغ ما تكون فيه الصفرة فإن الفاقع للأصفر كالحالك والداكن للأسود، والقاني للأحمر واليقق للأبيض، يراد به الخلوص والنصاعة بحيث لا يشوبه لون آخر، وروي عن الحسن البصري أن المراد بالصفراء هنا شدة السواد واستدل بعضهم لقوله بقول الشاعر:
تلك خيلي منها وتلك ركابي
هي صفر أولادها كالزبيب
وهو قول لا يعتد به لمخالفته الوضع والاستعمال، فإن العرب خصصت لكل لون من الألوان باسم مشهور لا يشبه بغيره، ويؤكد أن الصفرة هنا على حقيقتها تأكيدها بالفقوع، وقوله: { تسر الناظرين } ، فإن اللون الأصفر في البقر ونحوها أقرب إلى كونه مصدر الإعجاب والأنس من اللون الأسود، ولا دليل في البيت لما ادعوه فإن العرب إنما تشبه بما كان أكثر اشتهارا وانتشارا عندها، وقد اشتهر في أوساطهم الزبيب الأصفر كالطائفي دون الأسود، ولو سلم ما توهموه من أن المشبه به الزبيب الأسود لم تكن في ذك أيضا حجة لأن الصفرة لا تفارق ألوان الإبل ولو غلبها السواد بخلاف البقر السود، وبجانب هذه الرواية النادرة عن الحسن نجد ابن جرير الذي رواها عنه روى عنه وعن سعيد ابن جبير أيضا أنها كانت بقرة خالصة الصفرة حتى أن قرونها وأظلافها كانت صفراء، وهو مخالف للمعهود في البقر، ولعلهما - إن صحت الرواية بذلك عنهما - استظهرا ذلك من قوله " فاقع " ، وهو غير ظاهر فإنما يستفاد منه خلوص صفرة الجلد دون غيره كما لو وصف واصف أحدا - وهو في سن الشباب - بأنه أبيض يقق لم يفد ذلك إلا خلوص البياض في ما اعتيد فيه دون غيره، كالشعر وأحداق العينين والشفتين واللسان، وكذا لو سمعت واصفا يصف شيئا بلون من الألوان لم يسبق إلى ذهنك إلا شمول ذلك اللون للأجزاء التي اعتيد فيها دون غيرها.
ووصفها بأنها تسر الناظرين لأن وجود بقرة بهذه الأوصاف كلها مما يعز عادة، والنفس أبهج بغير المألوف منها بالمألوف.
والسرور لذة نفسية تنبعث بالإحسان بالمحبوب إلى النفس سواء كان هذا الإحساس منشؤه إدراك الحواس الخمس، أو تذكر محبوب مضى، أو انتظار محبوب آت، وتكون بالشيء الحسي كرؤية الجمال، والمعنوي كانتصار صديق على عدو.
ولم يقنعوا بهذا البيان فأردفوا السؤالين السابقين بسؤال ثالث هو من حيث الصيغة لا يختلف عن الأول: { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } ، غير أنه له مضمون آخر غير المضمون السابق، وهو حال البقرة من حيثية التعامل معها هل هي مذللة أو مدللة، وقد أحسوا - وهم يوجهون هذا السؤال إلى موسى عليه السلام بما يتفاعل في نفسه من الأسى والحسرة على هذا التقصي في البحث فاعتذروا إليه بقولهم: { إن البقر تشابه علينا } وأردفوه قولهم: { وإنآ إن شآء الله لمهتدون } لينشط في دعائه ربه بأن يبين لهم ما يطلبون ولينجلي عن قلبه غيم السآمة من مراجعتهم المتتابعة برجائه امتثالهم الذي أخذت تظهر تباشيره وتزحف طلائعه لا سيما أنهم جاءوا بما لم يعهد منهم من قبل من لطف القول، وحسن الوعد، ورعاية جانب مشيئة الله سبحانه فيما هم طامعون فيه من الهداية.
وقد علم الله ماذا يعنون بمسألتهم فأجابهم بما يشفي غليلهم وهو أن تلك البقرة من النوع المدلل من الحيوان فهي ليست ذلولا، والذلول ما لان وانقاد من الذل - بالكسر - بمعنى الانقياد وعدم العتو، يقال ذل الثور والفرس ونحوهما لصاحبه ذلا إذا لان له، أما الذل - بالضم - فهو بمعنى الهوان، كقولهم: ذل الرجل بعد عزته ذلا إذا هان، وهذا الوصف يقتضي عتوها لعدم ترويضها بالعمل كالبقر العوامل، وبين ذلك في قوله: { تثير الأرض } ، فهو وصف لذلول داخل في حيز النفي.
والمراد بإثارة الأرض قلبها لأجل الحرث، ولا يكون إلا ببقرة مذللة، وروي عن الحسن أنها كانت بقرة وحشية، فلهذا وصفها بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، أي لم تعد للحرث ولا للسني، وذهب بعض أهل التفسير إلى أن جملة { تثير الأرض } خارجة عن حيز النفي وصفت بها البقرة المطلوبة، وعليه فالوقف على ذلول، ومحمل هذا التفسير على أنها كانت حارثة غير ساقية، وهو مردود لوجهين:
أولهما: أن الجملة المعطوفة عليها منفية ولا تجتمع جملتان أولاهما مثبتة وثانيتهما منفية ب لا مع عطف المنفية على المثبتة بالواو إلا إذا كان في نفي الثانية تأكيد لإثبات الأولى نحو محمد يقوم ولا ينام، وما هنا بخلاف ذلك.
ثانيهما: أن الله قد نفى عنها الذل، وفي إثبات إثارتها للأرض إثبات لهذا النفي.
وذهب بعض المفسرين إلى جواز كونها تثير الأرض مرحا ونشاطا بقروها وأظلافها، لا لأجل تهيئتها للحرث، وهو رأي سائغ ولكن القول الأول أنسب بنسق الكلام وأسبق إلى احتلال الأفهام.
والحرث هنا بمعنى المحروث كالزرع بمعنى المزروع، ومعناهما واحد.
وصفها بأنها " مسلمة " لتبرئتها من العيوب التي تكون في جنسها، وقيل: إن أهلها سلموها من الخدمة والاستعمال، وقيل: مسلمة من شائب الحرام، فلا غصب فيها ولا سرقة، وقيل: مسلمة من الشيات، وعليه فقوله: { لا شية فيها } بيان ل " مسلمة " ، وعلى ما سبق صفة أخرى لبقرة، والشية مصدر وشى، كعدة وعظة، وبمعناه الوشى وهو خلط اللون بألوان أخرى، ولذلك سمي به التطريز لأن من عادته أن يجمع بين ألوان مختلفة، ومفاده خلوص صفرة تلك البقرة بحيث لم تشب بأي لون من الألوان الأخرى، وهو مما يندر جدا، ولذلك قال من قال إنها لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله من السماء، وقد أجاد الألوسي في وصفه هذا القول بأنه هابط في تخوم الأرض، وقيل: كانت بقرة وحشية، وهو - مع بعده - أقرب مما قبله.
وتتابع التأكيد بإن في قوله: { إن الله يأمركم } وما بعده من خطاب موسى لهم المحي هنا قاض عليهم بالغباوة البالغة والعناد المتناهي، إذ لو كانوا أولي فطنة وانقياد لكانوا في غنى عن مثل هذا الخطاب المتكرر المقترن في كل مرة بآل التأكيد الذي لا يخاطب مثله إلا من استحكم فيه الغباء، واستبد به التعنت.
واختيار البقرة للذبح في هذه القضية دون غيرها من سائر الحيوان - مع أن الله تعالى قادر على بعث ميتهم بما يشاؤه من الأسباب وبدون أي سبب - إما لتمحيص إيمانهم وابتلاء عزيمتهم فإن البقر عنصر مقدس بمقتضى عقيدة الكفر التي اعتنقوها حينما عبدوا العجل، فكان في ذبحهم لها تحقيق لتوبتهم مما كانوا فيه، وإما لكشف ما بهم من غباوة تثير استغراب من يسمع قصتهم ويقارن بين حاليهم؛ فموسى عليه السلام رسول من الله لا يتكلم إلا بوحيه، ولا يدعو إلا إلى هديه، وقد أبلغهم عن الله عز وجل أنه يأمرهم بذبح بقرة، وقد كان الواجب يقتضيهم أن لايترددوا في امتثال الأمر، إذ لم يأمرهم إلا بمعقول شرعا، ومقبول وضعا، فإن ذبح البقر أمر معهود بين الناس غير أنهم ما كان منهم إلا سوء الظن بالقائل والتعنت في الأمر بينما هم - عندما أمرهم السامري بعبادة العجل - لم يتعنتوا عليه ولم يسيئوا به الظن، بل اندفعوا إلى ما أراده منهم، متجاهلين للأوامر الشرعية ومتعامين عن البراهين العقلية، القاضية بضلال ما كانوا يعملون.
وبعد أن انسدت في وجوههم الأبواب بما ووجهوا به من جواب عن كل مسألة جاءوا بها: { قالوا الآن جئت بالحق } ، ومفهوم قولهم هذا أن ما جاء به من قبل لم يكن حقا، ولذلك حكم عليهم قتادة أنهم كفروا به، ولم يرد ذلك غيره وإنما حملوه على ما اعتيد منهم من سوء القول الناشئ عن جفاء الطبع، وهؤلاء اختلفوا في المقصود بالحق؛ منهم من حمله على الحقيقة، أي الآن جئت بالحقيقة الناصعة، ويقرب منه قول من قال إنه بمعنى القول المطابق للواقع، وفسره بعضهم بمعنى الأمر المقضي أو اللازم، وذلك أنهم لم يجدوا مناصا عنه بعد هذه المعاذير التي جاءوا بها في صورة الإستفهام عن حقيقة ما طولبوا به.
وجوز الإمام ابن عاشور أن تكون الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين، فحكى بما يرادفه من العربية تنبيها على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم " راعنا " فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى: { ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا }.
قال: " وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح البقرة دون بيان صفاتها تقصيرا كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء، فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات، واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر، ظنا منهم أن في علم النبي بهذه الأغراض الدنيوية كمالا فيه، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم: { الآن جئت بالحق } ، كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال: الآن أصبت الجواب، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع، فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما قوع فيه أولئك وذموا لأجله ".
وقد هيأ الله لهم البقرة الجامعة لما ذكر من الأوصاف: { فذبحوها وما كادوا يفعلون } ، وقد كان تيسيرها لهم فضلا من الله ورحمة، إذ اجتماع هذه الأوصاف جميعها في بقرة واحدة من الندرة بمكان، وقد بالغ المفسرون في تحديد ثمنها الذي بذلوه فيها، وجاءوا في ذلك بأقوال شتى حتى قال من قال منهم اشتروها بملء مسكها - جلدها - ذهبا، وقال بعضهم بوزنها من الذهب، وقال آخرون: بأضعاف ذلك، وهي جميعا أقوال لم تعززها أدلة لعدم ثبوت شيء من ذلك عن المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، ومثل هذا لا يوصل إليه إلا بالتوقيف، ولعلهم تلقفوا هذه الأقوال من أهل الكتاب، ويشهد له ما ساقوه من قصة طويلة عن البقرة وصاحبها الذي اشتريت منه، ليس إلى ذكرها من داع، ومهما يكن فإن ندرة هذا الوصف في البقر داع إلى أن يكون لها ثمن يتجاوز أثمان البقر المعتادة خصوصا عندما يعلم صاحبها ضرورتهم إليها فيشح بها عليهم استغلالا لحاجتهم، وما أوقعهم في ذلك إلا هذا العنت الطويل، وإثارة التساؤلات التي كانوا في غنى عنها لو أنهم سارعوا إلى الطاعة والامتثال، وكل ما ذكرته يستفاد من قوله تعالى: { وما كادوا يفعلون } فإنه دليل على منتهى إبائهم ومبلغ عنادهم.
وكاد من أفعال المقاربة، ولعلماء البلاغة والإعراب فيما إذا جاءت منفية أو مثبتة بحوث واسعة ومداولات مشهورة، فكثير منهم قالوا هي معاكسة لسائر الأفعال فإثباتها نفي ونفيها إثبات، واعتبروا الآية دليلا على صحة ما قالوه، فهي هنا مثبتة للفعل مع اقترانها بالنفي بخلافها في قوله تعالى:
يكاد البرق يخطف أبصارهم
[البقرة: 20]، وقوله:
يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار
[النور: 43]، فإن خطف الأبصار والذهاب بها لا يكونان بالبرق وسناه، وذهب آخرون إلى إجرائها على الأصل المتبع في الإثبات والنفي، وحملوا قوله تعالى: { يكاد البرق يخطف أبصارهم } ، وقوله: { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } على ثبوت المقاربة التي هي مدلول كاد، وحملوا النفي في هذه الآية على سابق حالهم عندما كانوا لا يفتأون يوجهون إلى موسى عليه السلام أسئلتهم الممعنة في التعنت والإعراض هروبا الامتثال، وإصرارا على العصيان، وإنما طرأ الذبح بعد هذه الحال المؤيسة لكل ناظر في أمرهم من قبولهم لما صلب إليهم من الحق، وبين هذين الرأيين آراء أخرى لا داعي إلى ذكرها.
والتعبير ب (يفعلون) بدلا من (يذبحون) في خاتمة هذه الآية لتجنيب القرآن التكرار الممقوت الذي لا يتلاءم مع بلاغة الكلام المعتاد فكيف بكلام لا يصل إلى شأوه بيان ولا يقدر على مثله لسان، ومؤدى العبارتين واحد.
[2.72-73]
في هاتين الآيتين بيان الداعي لأمر بني إسرائيل بذبح البقرة المذكور في الآيات السابقة، وإيضاح للحكمة البالغة التي كانت تكمن وراء هذا الأمر، وذلك أن قتيلا من بني إسرائيل وجد على باب سبط من أسباطهم فشبت بينهم نار فتنة كادوا يصطلون بأوارها، فقد تداروا مسؤولية قتله، وألقاها كل سبط على عاتق غيره من الأسباط مدعيا براءته منها براءة الذئب من دم يوسف، فما كان منهم إلا أن امتشقوا السيوف وشرعوا الأسنة وكادوا يتجالدون بالسلاح لولا عناية الله التي ساقت بعضهم إلى اقتراح التحاكم إلى موسى نبي الله ورسوله عليه السلام.
وقد عنى المفسرون بالمأثور بهذه القصة فأوردوها على وجوه شتى؛ فمن قائل: كان القاتل ابن أخ للقتيل، وقائل: كان ابن عمه، وآخرون ذهبوا إلى أن القاتل أكثر من واحد، وقد ذكرت فيما سبق ما يجمع بين هذه الأقوال.
وقد سبق الحديث عن النفس، وهي مؤنثة اللفظ وأما مدلولها فيكون تارة ذكرا وتارة أنثى، وهي هنا بمعنى الإنسان، وإطلاقها عليه لأنه مشتمل على الروح المسماة بالنفس، وأصل هذه التسمية مأخوذة من التنفس لأنه أبرز علامات وجود الروح.
وأصل " ادارأتم " تدارأتم غير أن التاء أدغمت في الدال واجتلبت همزة الوصل لابتداء النطق بها حتى لا يبدأ بساكن عندما يبتدأ في النطق بالفعل، أما اذا كان موصولا بما قبله فثبت همزة الوصل في صورة الأف خطا وتسقط لفظا، ونحو هذا قوله تعالى:
حتى إذا اداركوا فيها
[الأعراف: 38]، وهو جائز عندما يكون الفعل على وزن تفاعل أو تفعل، وتكون فاؤه دالا، أو ذالا، أو تاءا، أو طاء، او ظاء، أو صاد، أو ضادا، أو زايا، أو سينا، أو شينا.
والدرء الدفع، ومنه قوله تعالى:
ويدرؤا عنها العذاب
[النور: 8]، وتدارؤهم في النفس المقتولة تدافعهم مسؤولية قتلها بتبرؤ كل فريق منها وإلقائها على غيره من الفرقاء، وفسر ابن جرير الدرا بالعوج، واستشهد له بقول أبي النجم:
خشية طغام إذا هم حسر
يأكل ذا الدرء ويقصى من حقر
وقول رؤبة:
أدركتها قدام كل مدره
بالدفع عني درء كل عنجه
وحمل عليه قول السائب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت لا تماري ولا تدارئ، وأتبعه قوله: يعني بقوله لا تداري، لا تخالف رفيقك وشريكك، ولا تنازعه ولا تشاره.
وحاصل قوله: أن التدارؤ هو المعاوجة المصحوبة بالشقاق والنزاع وهو قريب من تفسيره بالتدافع، وذهب بعض أهل التفسير إلى أن هذا التدارؤ لم يكن قوليا فسحب بل كان تدافعا بالأيدي.
و " مخرج " بمعنى مظهر، وما كانو يكتمونه هو معرفتهم بالقاتل، فإن القتلة كانوا يعرفون أنفسهم، وكذلك الذين كانوا يشايعونهم على كتمان هذا السر، وإلقاء مسؤولية هذا الأمر على غيرهم.
أمر الله أن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة فانبعثت فيه الحياة بأمر الله، وفي طي هذا الأمر حكمة باهرة إذ لو كان الضرب ببعض حي لربما توهم متوهم أن الحياة سرت إلى الميت من ذلك البعض المضروب به وهو حي، أما والبقرة نفسها لم تعد حية فلا مجال للتوهم أن الحياة سرت إلى القتيل من مماسته لعضو حي، وهو من دواعي الإيمان بأن من وراء الأسباب مسببها، وأن الأسباب لا تؤدي إلى مسبباتها إلا بتقدير من العزيز العليم الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واختلف في البعض الذي ضرب به على أقوال شتى، هل هو لسانها أو فخذها، أو البضعة التي بين كتفيها أو الغضروف الذي تحت أذنها أو عظم من عظامها أو غير ذلك؟ وهو خلاف مفقودة جدواه لأنه فيما لا يضر جهله ولا يفيد علمه، ولم يقم على شيء من هذه الأقوال دليل، وحسبنا أن نقف حيثما وقف بنا القرآن من الإجمال.
ولم أجد بين المفسرين القدامى والمحدثين خلافا في أن القتيل أحياه الله بهذه الضربة فعين قاتله ثم عاد إلى الموت، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: { كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته } ، اللهم إلا ما كان من صاحب المنار من ربط هذه القصة بما ذكرته من قبل عن التوراة فيما إذا وجد قتيل في أرض إسرائيلة ولم يعلم قاتله من لزوم ذبح أهل أقرب مدينة إلى موضع القتيل عجلة من البقرة...الخ.
وتفسيرها بما يتلاءم مع أذواق المفكرين المعاصرين الذين لا يؤمنون بخوارق العادات؛ وهاكم نص ما في المنار: " والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده، وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم، ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية، ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أي يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإحياء على حد قوله تعالى:
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا
[المائدة: 32]، وقوله:
ولكم في القصاص حياة
[البقرة: 179]، فالإحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين، ثم قال: { ويريكم آياته } بما يفصل بها في الخصومات ويزيل من أسباب الفتن والعداوات، فهو كقوله تعالى:
إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله
[النساء: 105]، وأكثر ما يستعمل هذا التعبير في آيات الله في خلقه الدالة على صدق رسله.
وهذا التفسير بعيد عن الواقع ومجانب لمدلول القصة حسب نصها القرآني، فإن الفارق واضح جدا بين قوله تعالى : { كذلك يحيي الله الموتى } ، وقوله: { ولكم في القصاص حياة } ، ففي الأول نص على أن ذلك كان إحياء بعد موت بخلاف الثاني.
وذكر المفسرون أن القاتل أخذ بجريرته فقتل بعدما أخبر عنه الميت ولا يستفاد شيء من ذلك من نص الآية، ولم يستندوا فيه إلى دليل من السنة، ومثل هذه الأخبار لا يجوز الجزم فيها بشيء من غير توقيف، لذلك أرى عدم الخوض فيما قالوه، فإنه من المحتمل أن يكون الخصوم تراضوا في هذه القضية على ما دون القصاص.
واستدل المالكية بهذه القصة على أن قول المقتول قبيل وفاته " دمي عند فلان " أو " فلان قتلني " لوث تترتب عليه القسامة، وهو - لو سلم له - مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو ضعيف، على أن الآية لم تشر إلى القسامة من قريب ولا من بعيد، كما أنها لم تشر إلى مصير القاتل بعد حياة القتيل، ومما يوهن هذا الاستدلال أن هذه النازلة خارجة عن المألوف فلا يقاس عليها، فإن حياة الميت بعد قتله وتعيينه القاتل بقوله من خوارق العادات، فلا يحمل عليها قول أحد إثر طعنه " دمي عند فلان " أو " فلان قتلني " لاحتماله الصدق والكذب، ولكونه دعوى لم يقم عليها دليل، وإذا كانت الدعاوى الفارغة من البينات لا تقبل من المال ولو كان دانقا، فكيف تقبل في الدماء؟ والأنفس أغلى من الأموال.
أما قول ابن العربي - منتصرا لمذهب مالك - " المعجزة كانت في إحيائه، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد " فهو مردود للفرق بين الحالين، فإن العبد ما لم يفارق الحياة المألوفة لا ينفك عن التكليف، فإذا أحيي من بعد حياة أخرى - كحياة قتيل بني اسرائيل - لم يكن من التكليف في شيء لأنها حياة ما أراد الله بها إلا بيان الواقع.
وقد عنى كل من قطب الأئمة في " هيميان الزاد " والقرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " بشرح أحكام القسامة في هذا الموضع، وهو ما لا أجد داعيا إليه، إذ لا مناسبة بينها وبين الآية الكريمة لعدم تعرضها لها بشيء، ومثل ذلك التعرض لعدم ميراث القاتل من المقتول، فإن حكم ذلك لا يستفاد من الآية، وإنما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الناصة عليه.
واستدل القرطبي بقصة البقرة هذه على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو استدلال لا وجه له، بل الأقرب أن تكون دليلا على خلاف هذا المذهب، إذ لو كنا مخاطبين بما نص عليه في القرآن من شرائع الأنبياء السابقين وأحكامهم لكان علينا إذا تشاجر قوم في قتيل لم يعرف قاتله أن نأمرهم بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها كما في القصة، وهو ما لم يقله أحد حتى من المحسوبين على هذه الأمة فضلا عمن يعتد بقوله.
وقوله: { كذلك يحيي الله الموتى } تشبيه للإحياء بالإحياء، من حيث اتساع القدرة الإلهية لهما، وقيام البرهان من هذا الإحياء المقيد في الدنيا على إمكان الإحياء المطلق في الآخرة، ولا يعني ذلك أن الإحياء يكون في الآخرة بنفس هذه الكيفية التي كان بها في الدنيا، وأنه يترتب على هذه الأسباب المذكورة، وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون إحياء هذا القتيل منوطا بهذه الأسباب، مع أنه تعالى قادر على إحيائه بدون سبب ذلك لأن الله أراد تعبدهم بهذه الأسباب، وعندما تلكأوا في امتثال أمره، وانتحلوا لذلك الأعذار التافهة شدد الله عليهم
جزآء وفاقا
[النبأ: 26].
وقد سمى الله هذه الآية آيات في قوله: { ويريكم آياته } لكثرة ما تدل عليه، فإنها دالة على قدرة الله تعالى على ما يشاء، وأن وراء الأسباب مسببها وأنه سبحانه محيط بكل شيء علما، فالقاتل ما كان يظن أن سريرته ستنكشف وجريرته ستظهر، وقد أبداها الله سبحانه لعلمه بجميع الخفايا، كما تدل على صحة نبوة موسى عليه السلام لأن الله أجراها على يديه، وعلى ثبوت المعاد الذي نبأ به المرسلون.
وهذا الخطاب يحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام لقومه بعدما ظهرت لهم هذه الآية الباهرة، وأن يكون من كلام الله أوحاه الى موسى ليبلغه قومه، وهو الأظهر، والمخاطب على كلا الحالين بنو إسرائيل وشذ من قال إنه خطاب من الله للذين ينكرون البعث عندما أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهم مشركوا العرب، فإن السياق يأباه.
والمراد بقوله: { لعلكم تعقلون } لعلكم تتصرفون تصرف من يستفيد من عقله وينتفع بتجاربه.
وتوجيه الخطاب بقوله: { وإذ قتلتم نفسا } إلى بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرته من قبل من كونهم امتدادا لآبائهم الأقدمين أصحاب هذه القصة وما شاكلها فلذلك انصب عليهم التذكير والتقريع من قوله تعالى: { وإذ أنجيناكم من آل فرعون }.. وما بعده.
وقد علمتم مما سبق أن الجمهور يرون أن قصة القتل هذه هي جزء من القصة السابقة، وهي أمرهم بذبح بقرة، وإنما فائدة تقسيمها إلى ما يشبه القصتين المستقلين تكرار توبيخهم على أمرين وهما مماطلتهم في امتثال الأمر بذبح البقرة، وصدور القتل بغير حق منهم، ولو أدمجت القصتان في قصة لفات ما يفيده التكرار من زيادة تقريعهم، وقد سبق ذكر رأي الإمام ابن عاشور، وهو أنه يرى أنهما قصتان مستقلتان، وتجويز القرطبي لذلك، وجوزه أبو حيان أيضا.
وما قاله الجمهور أصح وأبين، ولا إشكال في مخالفة الترتيب الذكري للترتب الزمني، لأن الواو لمطلق الجمع، وقد يعطف بها السابق على اللاحق مراعاة للطائف بيانية، ومنها هنا أن الأمر بذبح البقرة من غير تقدم ذكر لأسبابه يشوق النفوس إلى الاطلاع على حكمته خصوصا عندما يرد ذلك في كلام الحق تعالى الذي لا يدانيه الباطل ولا يلابسه الهزل، ولا يحوم حوله الريب، فإذ أتبع ذلك ذكر سببه كانت النفوس أوعى للحكمة، وأفهم للمقصد.
[2.74]
عطف المذكور هنا على ما قبله ب " ثم " لإفادة المهلة الرتبية التي كثيرا ما تفيدها هذه الأداة العاطفة في عطف الجمل بعضها على بعض، وذلك أن من شأن الآيات الجلية والمعجزات الحسية أن ترق لها القلوب وتتأثر بها النفوس فإذا كانت آثارها عكس ذلك فهي حرية بأن يعجب منها ويستغرب من شأنها.
فمع ما ذكر من الآيات لا يبقى في نفوس السامعين شك في أن الذين خصوا بها سيقلعون عن كل غي ويرجعون عن كل شطط إلا أن الواقع لما كان خلاف ذلك عطف بيانه ب " ثم " للاتنقال بهم من النتيجة التي كانوا يرجونها إلى النتيجة التي صاروا يرونها.
والمشار إليه بذلك قيل هو هذه الآية وحدها وهي إحياء قتيل بضربه ببعض حيوان أميت، وقيل: هو جميع الآيات والنعم والعقوبات التي تتابع ذكرها من قوله سبحانه: { وإذ أنجيناكم من آل فرعون... } لأن كلا من ذلك من دواعي الرشد والإقلاع عن كل غي، وكلا الأمرين محتمل.
وفي قوله: { من بعد ذلك } تأكيد للتعجيب من حالهم.
وذهب الإمام محمد عبده إلى أن الذين نودي عليهم بالقسوة هنا هم الذين جاءوا بعد سلفهم الأولين الذين شاهدوا تلك الآيات، واستدل لما ذهب إليه بهذا العطف المقتضي للمهلة، وهو قول غير سديد، فإن ثم كما تفيد المهلة الزمنية تفيد المهلة الرتبية، بل ذهب كثير من علماء الإعراب إلى أنها إن عطفت جملة على أخرى لا تفيد إلا المهلة الرتبية، وقد سبق بيان ذلك، والتأريخ الإسرائيلي المستفاد من القرآن ومما بأيدي اليهود أنفسهم من كتب يعتبرونها سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة يدل على مدى قسوة قلوب الذين عاصرهم موسى عليه السلام منهم، وغلظ أكبادهم، والتواء مسلكهم، وهذا الذي أدى بهم إلى تحريم الأرض المقدسة عليهم، فبقوا في التيه يترددون أربعين سنة حتى انقرض ذلك الجيل وعقبه جيل له خصائص إيمانية ففتح الله على أيديهم الأرض واستخلفهم فيها، وجعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا، وآتاهم من فضله ما فضلهم به على عالمي زمانهم، حتى نشأ فيهم مرة أخرى الداء العضال الذي كان في آبائهم الأقدمين، فأبدلهم الله بقوتهم ضعفا، وباجتماعهم تشتتا، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله.
وعلى قول الإمام محمد عبده فالبعدية الواردة في الجملة المعطوفة - وهي قوله: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } - واضحة لأنها بعدية زمانية، وأما على القول الذي اخترته فقد يتبادر منها إشكال، ذلك لأن القسوة حاصلة فيهم قبل القصة وأثناءها، وبعدها إن قلنا إن الاشارة بذلك خاصة بهذه القصة بالذات، كما أنها حاصلة فيهم في جميع أحوالهم وهم يرون آيات الله تعالى، وينعمون تارة بلطف آلائه، ويتململون أخرى تحت وطأة بلائه إن قلنا إن الإشارة شاملة لكل ما سبق ذكره عنهم من إنجائهم من عدوهم، وابتلائهم مرة بالنعم وأخرى بالنقم، وينجلي عنكم غيم هذا الإشكال عندما تعلمون أن البعدية لا يلزم أن تكون زمانية بل تكون أيضا باعتبار بعد الوصف الذي يليها في الذكر في درجات الخير أو دركات الشر، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى:
ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشآء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم
[القلم: 10-13]، فإن كونه عتلا وزنيما سابق في الوجود على الأوصاف المتقدمة في الذكر، لأنهما صفتا ذات، وتلك صفات فعل، وإنما ذكرا إثر " بعد " للاعتبار الذي ذكرته.
والقسوة الشدة والصلابة، وهي وضعا خاصة بالأجسام كالصخر والحديد، ثم استعملت في المعاني كالعقل والوجدان، وهما المعبر عنهما بالقلوب هنا، وفي كثير من آيات القرآن، وطريقة هذا الاستعمال ما يسمى الاستعارة بالكناية، فإن من شأن الأجسام القاسية كالصلد والحديد أن لا يتخللها الماء ولا الهواء، وكذا القلوب المراد بها العقل والوجدان، فإن الموعظة والتذكير لا يجدان إليها سبيلا، فأشبهت الأجسام الصامتة وقد شاع هذا الاستعمال وصار مجازا مشهورا لا يحتاج إلى قرينة حتى عده بعضهم حقيقة عرفية.
وبعد هذا الوصف الموحى بالتشبيه صرح به قوله: { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } لتجلية المفهوم المعنوي في صورة المشاهد الحسي، فإن الناس أدرى بما يحسونه منهم بما يفهمونه، وقد بني هذا التشبيه على ما قبله بالفاء للإشعار بأنه مفرع عنه.
و " أو " موضوعة للشك، وهو مستحيل في جانب من يعلم الخفايا كالظواهر، وإنما روعي المخاطبون وما هم به أحرياء من الشك في مدى قسوة أولئك المعنيين، هل هي كقسوة الحجارة - التي اشتهرت بشدة القسوة في أوساط الناس، خصوصا في جزيرة العرب حيث تنزل القرآن، لما فيها من الجبال الغليظة ذات الصخور الصلدة - أو أشد منها كالأجسام المتلاحمة ذراتها كالحديد؟ وقيل: إن " أو " للإضراب كما هي في قوله تعالى:
وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون
[الصافات: 147]، أي بل يزيدون، وعليه فإن قلوب هؤلاء جديرة بتشبيهها بما هو أقسى من الحجارة، وإنما ذكرت الحجارة في التشيبه لمعرفة الناس بها، وكونها عندهم مثلا في الغلظة.
وقيل هي معنى الواو نحو قوله تعالى:
ولا تطع منهم آثما أو كفورا
[الانسان: 24]، أي وكفورا، لأن الكفور لا يكون إلا آثما، وقيل هي للتخيير نحو قوله تعالى:
أو كسوتهم أو تحرير رقبة
[المائدة: 89]، ومقتضى هذا التخيير أن السامع مخير بين تشبيه قسوتهم بالحجارة وتشبيهها بما هو أغلظ منها، وقيل: هي للتنويع، فبعض قلوبهم كالحجارة، وبعضها أقسى منها لأن القساة متفاوتون في إظلام عقولهم، وغلظة أحاسيسهم، وتعنتهم على الحق، ومقاومتهم لأهله، وسائر أوصاف الشر، كما أن ذوي العقول النيرة والمشاعر الرقيقة متفاوتون أيضا في أوصاف الخير، وهو رأي سائغ.
وبعد هذا التأكيد على تفوق قلوبهم في القسوة ذكر سبحانه وتعالى ما للحجارة من مزايا خيرية ليست في هذه القلوب ليكون في ذلك دليل على التفاوت بين قلوبهم المشبهة والحجارة المشبهة بها وتفوق قلوبهم في وجه الشبه وهو القسوة، وصدور ذلك بإن التوكيدية المفيدة لأهمية خبرها والمؤذنة بالتعليل.
ومن لطائف التعبير اتباع أداة التأكيد المصدر بها بمن المفيدة للتبعيض للإيذان بأن الأحجار ليست كلها مشتركة في هذه المزية، وإنما هي لنوع خاص منها، وهو ما يفيده علم طبقات الأرض الحديث، وخلاصته: (أن مياه الأمطار النازلة على الأرض تتخللها تدريجيا حسبما تقتضيه سنة الجاذبية في النزول إلى الأسفل، فإذا تكاثر تصاعد إما لضغط ثقله عليه أو لضغوط أهوية الأرض، ولا تقف في وجه تصاعده الطبقات الترابية لعجزها عن مقاومته فإن من شأن التراب أن يتخلله الماء، ولكن تعترضه الطبقات الصخرية فتمنعه من تصاعده إلا إن كانت هذ الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماء مختلطا بأجزاء من معدن الحامض الفحمي الذي له خاصية تحليل الكلس، ففي هذه الحالة تتشقق تلك الصخور فيخرج منها لماء نابعا كالعيون، وإذا اجتمعت هذه العيون في موضع نشأت عنها الأنهار الكبيرة، وأما غير الصخور الكلسية فلا يفتتها الماء إلا إذا اقترن بعوامل أخرى كالزلازل).
وهذه الدقة في التعبير كما تعد أسلوبا بيانيا بليغا صالحة لأن تعد من وجوه الإعجاز العلمي في هذا الكتاب المنزل في وقت لم يدرس فيه علم طبقات الأرض.
ولأولي العناية بإعراب القرآن أقوال في الواو من قوله: { وإن من الحجارة } أظهرها ما استظهره ابن عاشور أنها اعتراضية، وأن هذه الجملة وما يليها جمل معترضة بين قوله: { ثم قست قلوبكم } وجملة الحال منها وهي قوله: { وما الله بغافل عما تعملون }.
واختلف في المراد بالخشية من قوله سبحانه: { وإن منها لما يهبط من خشية الله } فأكثر مفسري السلف ومن تبعهم يرونها خشية حقيقية تكون في الأحجار وغيرها من مخلوقات الله نعجز عن تصور كيفيتها، وذهب بعض السلف وكثير من الخلف إلى أنها ليست حقيقة لأنها في الأصل خوف باعث على اتقاء الخائف سخط المخوف، وحقيقتها الشرعية امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الإمتثال، ولما تعذر ذلك في الجمادات - حسب رأيهم - حملوه على قبول الأمر التكويني، وجعلوه من باب المجاز المرسل بعلاقة التقييد والإطلاق، أو تمثيلا للهيئة الحاصلة من الجماد عند التكوين بهيئة المكلف حال الامتثال.
وبالغ ابن حزم في كتابه " الفصل " في الرد على أصحاب القول الأول مستندا في ذلك إلى أن الخشية ليست إلا نتيجة الإدراك ولا إدارك للجماد، وأن الحجارة - وغيرها من الجمادات - لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها رسول، وكذب من قال إن للحيوان والجماد تمييزا، وادعى أن العيان يكذب قائل ذلك، وخرج هذه الآية على أحد ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون الضمير في قوله تعالى: { وإن منها لما يهبط من خشية } راجعا إلى القلوب المذكرة في صدر الآية في قوله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة } ، ومعنى ذلك أن من تلك القلوب القاسية ما يلين فيهبط عن تلك القسوة الى الرقة فيما زجه الإيمان، وهذا كما يشاهد من تحول الكافر إلى الإيمان، والعاصي إلى الطاعة وقد حصل ذلك في أهل الكتاب كما يقتضيه قوله تعالى: { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ومآ أنزل إليكم ومآ أنزل إليهم }.
ثانيها: ما ذكرته من قبل عن الذين فسروا الخشية بقبول الأمر التكويني.
ثالثها: أن المراد ب { لما يهبط من خشية الله } الجبل الذي جعله الله دكا بتجليه له لبيان استحالة رؤيته، لكونه من جملة الحجارة، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى، وعد ابن حزم هذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة، وبناء على ذلك فقد حمل " يهبط " على معنى " هبط " كقوله تعالى:
وإذ يمكر بك الذين كفروا
[الأنفال: 30]، ومعناه وإذ مكر واستدل لتعذر إدراكها بقوله تعالى - حاكيا إنكار الخليل ابراهيم عليه السلام على أبيه عبادة الحجارة -
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر
[مريم: 42]، ومثله قوله:
أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون
[الزمر: 43]، وذهب ابن حزم إلى أن كل ما روي من الأحاديث الدالة على خلاف هذا من الخرافات الموضوعة التي نقلها كل كذاب وضعيف، ولا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلا، واستأنس لقوله هذا بأنه لم يدخل شيئا من هذه الأحاديث من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث أو ما تستجاز روايته مما يقارب الصحة.
وهذا كله عناء فيما لا جدوى منه، وفرار من الحقيقة إلى الوهم، فإن كتاب الله تعالى يصرح لنا بأوضح عبارة أن الكائنات على اختلافها خاشعة لله، مسبحة بحمده، ساجدة لجلاله، وهذا لا ينافي كون الجمادات لا تسمع ولا تعقل ولا تبصر لأنه من غير المستحيل أن يكون لها إدارك خاص لعظمة الله يختلف عن إدراك أجناس العقلاء، ومن النصوص الواضحة في ذلك قوله تعالى:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله
[الحشر: 21]، وقوله:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب: 72]، وأخبرنا في آيات كثيرة وفي سور متعددة أن الكائنات بأسرها تسبح بحمده، ومن ذلك قوله تعالى:
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء: 44]، ولا عبرة بقول من زعم أن هذا التسبيح هو مجرد الدلالة على وجود الله وعلى تنزهه من النقائص، فإن هذه الدلالة آية بينة لكل أحد تتجلى لجميع الأبصار ويقرع صوتها جميع الأسماع إلا من تعامى عنها وتصامم، فلو كانت هي المراد بالتسبيح لم يكن معنى لما في الآية من استدراك وهو قوله: { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } فإنه واضح وضوح الشمس أن تسبيح غامض ليس في وسع الأفهام إدراكه، ومثل ذلك اخباره عز وجل بسجود الجمادات له في قوله:
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب
[الحج: 18].
وانكار ابن حزم ورود شيء من الأحاديث الصحيحة بما يفيد خلاف قوله مردود بما في صحيح مسلم مرفوعا:
" إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث "
ونحوه أنه صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه.
وحمل الخشية في الآية على أي وجه من الوجوه التي اختارها ضعيف.
أما الأول ففيه خروج عما يقتضيه السياق بغير قرينة، ولبس فيما تعود إليه الضمائر، وما استشهد به له من قوله تعالى: { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } الآية، ليس شاهدا على ما ذهب إليه، فإن الآية في طائفة خاصة من أهل الكتاب ليسوا من ضمن هؤلاء القساة المعنيين في هذه الآية وإنما هم الذين وصفهم الله بقوله:
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
[الأعراف: 159]، قوله:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنآ إنا كنا من قبله مسلمين
[القصص: 52-53]، ويكفي أن الله وصفهم في آخر الآية التي استشهد بها بقوله: { خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا } ، فأين هذه الصفات من أولئك القساة الذين حرفوا الكلم عن موضعه ونسوا حظا مما ذكروا به؟ وحكى الألوسي هذا الوجه قولا لأبي مسلم، ووصفه بأنه أكثف من الحجر، وقرنه بقول آخر لم ينسبه إلى أحد، وهو أن الخشية هنا حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد بالحجر البرد، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله، ووصف هذا القول بأنه أبرد من الثلج.
وأما الثاني فهو ينافي ما أريد به من تأكيد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لأنها مشتركة معها في هذا الوصف وهو قبول الأمر التكويني، فإن الإنسان مهما كانت قسوته لا يخرج عن السنن الكونية العامة في ذلك، وليست أنفاسه المتلاحقة ونبضاته المتتابعة وسائر حركاته الفطرية إلا مظهرا من مظاهر هذا القبول وللأمر التكويني والإنسجام مع نواميس الوجود.
وأما الثالث فالتكلف فيه واضح لأن المتبادر من قوله: { يهبط من خشية الله } أن هذه حالة مستمرة في بعض الأحجار، فحصره في حالة مضت دون غيرها حمل للكلام على ما لا يدل عليه، والفعل المضارع موضوع للحال والاستقبال، ولا يحمل على الأحداث الماضية إلا بقرينة، وما من قرينة على ذلك هنا. وأما قوله سبحانه: { وإذ يمكر بك الذين كفروا } فقرينة المضي هنا واضحة وهي " إذ " التي لا تدل إلا على ظرف زماني مضى.
فنخلص من هذا كله إلى أن القول الصحيح في الآية هو القول الأول مع سكوتنا عن كيفية هذه الخشية وتفويض علم ذلك إلى الله عز وجل.
ولا شكل كون هذا الهبوط ناشئا عن أسباب طبيعية كالزلازل والإنفجارات البركانية، والعواصف والأمطار والسيول، إذ لا يبعد أن تكون وراء الأسباب الطبيعية الظاهرة حقائق روحية خفية، وذلك كتسبيح الرعد بحمد الله الذي نص عليه القرآن مع أن كلا من الرعد والبرق ظاهرة كونية ناشئة عن أسباب طبيعية معلومة.
هذا وذهب جماعة من المفسرين إلى أن مفاد قوله: { من خشية الله } مفاد من أجلك في قولهم: فعلت هذا من أجلك، ومحصله أن هبوط الحجارة لأجل إثارة الخشية في نفوس العباد لما يقترن به من أمور مزعجة كالزلازل والبراكين.
وحكى علامة الشام القاسمي في تفسيره " محاسن التأويل " عن الإمام الراغب أنه حاول التوسط في تفسيره للآية بين آراء السلف والخلف بعبارة تقارب بينها، فقسم المعارف إلى خمسة أقسام:
1-المعرقة التامة وهي العلم المطلق الذي لا يكون إلا لعلام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علما.
2-المعرفة النامية وهي خاصة بالإنسان الذي آتاه الله معرفة غريزية وجعل له بذلك سبيلا إلى تعرف كثير مما لم يعرف.
3-معرفة دون ذلك وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها، واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها، ودفع مضار عن أنفسها.
4-معرفة الناميات من الأشجار والنباتات وهي دون ما للحيوانات، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها.
5-معرفة العناصر، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به، كالحجر في طلب السفل، والنار في طلب العلو، وذلك بتسخير الله تعالى بلا اختيار منه.
وأتبع ذلك أن الدلالة على هذا كون كل واحد من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهرا أبي إلا العود إليه طوعا، وأن مما يوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه ويأبى الماء الذي يطفئه، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره، ونسب الراغب هذا التفصل الى قوم من المتقدمين، وبنى عليه أنه إذا قيل لهذه الأشياء معرفة فليس ببعيد متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة، فأما اذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد، فهذا مما تعافه العقول، واستحسن هذا التأويل منه العلامة القاسمي.
وفي هذا التقسيم خلط بين المعرفة - التي هي الإدراك - والقوى الطبيعية، الاضطرارية مع أن الفارق بينهما واضح، والخشية المعنية هنا ليست من باب ما أشار اليه، وإنما هي من باب عرض الأمانة المذكور في آخر الأحزاب، والسجود المذكور في سورة الحج والتسبيح المذكور في كثير من السور.
وجملة: { وما الله بغافل عما تعملون } حال من فاعل " قست " وتذييل للآية الكريمة ينطوي على تهديد لأولئك القساة بأن الله يحصى أعمالهم ويتولى جزاءهم فلا مفر لهم من بطشه، ولا مناص لهم عن حكمه، وهو بتاء الخطاب في قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير من السبعة وخلف ويعقوب من العشرة " يعملون " بياء الغيبة للانتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين تمهيدا لما يأتي في الآية المستقبلة وما بعدها.
[2.75-77]
كان الحديث فيما تقدم موجها إلى بني إسرائيل بأسلوب الخطاب الجامع بين تذكيرهم بالنعم، والتشهير بهم بكفرانها، وإحضار ما كانوا يرونه من الآيات الداعية إلى الإيمان، الرادعة عن العصيان، وتقريعهم على التعنت المستمر - مع ما كانوا يشاهدونه - وصدودهم عن أوامر الحق حتى يلجأوا إلى قبولها بما لا يدع لهم مناصا عن القبول؛ وهنا ثني عنان الخطاب إلى مسامع المؤمنين ليتلى عليها جانب آخر من مساوئ بني اسرائيل، تحذيرا من دسائسهم، وتنفيرا من صنيعهم، وفي أثناء هذا السرد الطويل لسيئات اليهود وسوآتهم تأتي وقفات يواجهون فيها بالخطاب، كما ووجهوا به من قبل.
وبما أن أهل الكتاب على بقية من علم النبوات لما بقى في أيديهم، على أصله من الكتاب الذي أوتوه، كان المؤمنون يرجون منهم المسارعة إلى الإيمان بالنبي الخاتم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، إذ ليس شأنهم في ذلك كشأن العرب الأميين الذين طال بهم العهد في ظلمات الجاهلية، فلم يبق لهم شيء من نور الوحي يهتدون به، فعدواتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناشئة عن جهلهم الذي يشامله أحيانا الحسد الناشئ عن تنافس البيوتات في الشرف والرفعة.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خفيا عند أهل الكتاب، فإن الله قد أودع ما عندهم من الكتاب من نعوته الكاشفة عن حقيقة أمره وآياته الدالة على صدق نبوته ما لا يدع لهم مجالا للشك فيه، ولا عذرا في ترك تصديقه ومناصرته على ما جاء به من الحق، كيف وهم أقرب الناس عهدا بالنبوات والوحي؟ وقد أخذ الله عليهم الميثاق بألسنة أنبيائهم أن يؤمنوا به ويناصروه:
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون
[آل عمران: 81-82]، وهذا العهد وإن كان في ظاهره مأخوذا على النبيين فهو في حقيقته، مأخوذ على أممهم لأن الله علم أن أولئك النبيين لن يدركوا عهد نبوته عليه أفضل الصلاة والسلام، وإنما تدركه أعقاب أممهم، فكان هذا الواجب حتما عليهم، وهذا العهد لازما في رقابهم، وما كونه على ألسنة النبيين دونهم إلا إمعان في توكيده، فإن الهدى لم يأتهم إلا من طريقهم، والحق لم يدركوه إلا ببيانهم، فنكثهم لهذا العهد ما هو إلا رد لما جاءهم به أنبياؤهم من الحق والهدى.
وقد ظل صوت البشارة الإلهية بمبعث خاتم النبيين يتردد في أسماع أهل الكتاب من تلاوة الكتاب الذي أوتوه لم يخفته التحريف الذي شوه وجه ذلك الكتاب، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، متطلعين إلى مبعثه بكل لهفة وشوق، غير أن الحسد بأن كان من ولد إسماعيل ولم يكن من ولد إسرائيل هو الذي حال بينهم وبين اتباعه عندما من الله به على الإنسانية.
ونظرا إلى ما كان بأيديهم من الحق الذي أنزله الله على النبيين وقرب عهدهم بالرسالات كان المسلمون يميلون إليهم بأفئدتهم، ويتعاطفون معهم في محنتهم، فلذلك حزن المسلمون عندما ارتد الجيش الرومي النصراني القهقري أمام الزحف الساساني المجوسي، لأن المجوس - وإن قال من قال بأن أصولهم الدينينة ترجع إلى وحي سماوي - هم أبعد عهدا بالنبوات وأشد كفرانا من أهل الكتاب - اليهود والنصارى - ولكن المسلمين أصيبوا بصدمة مؤلمة عندما وجدوا أهل الكتاب - وخصوصا اليهود - يقفون في وجه دعوة الحق وقفة عداء لا يقل عن عداء المجوس ومشركي العرب ولم يكتفوا بتجاهل ما عندهم من العلم بنبوته صلى الله عليه وسلم وإنكاره، بل أخذوا يؤلبون عليه المشركين، وعندما سألتهم قريش هل نحن أهدى أو محمد وأصحابه؟ قالوا: بل أنتم أهدى منهم.
ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا
[النساء: 51]، وبعد سرد مناكرهم المتنوعة في قصتهم الطويلة المذكورة من قبل جاءت تسلية المؤمنين في هذه الآية عما كانوا يطمعون فيه من إيمانهم بأسلوب الاستفهام التعجيبي المشوب بالإنكار، أي إذا كانت هذه قصتهم مع النبي الذي أنجاهم الله تعالى به من أشرس عدو، وأراهم على يديه أعجب الآيات، وأسبغ عليهم في ظل دعوته صنوف الآلاء، فيكف تطمعون مع ذلك في إيمانهم؟ وهذا كما تحدث أحدا بمساوئ أحد وبعد استطرادك في تعدادها تخاطب كليمك بقولك أفتطمع مع هذا كله في استقامته وإقلاعه عن غيه.
وذهب الإمام ابن عاشور إلى أن هذه الآية وما بعدها إلى آية (82) اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها: { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } فجميع الجمل في هذه الآيات داخلة في هذا الاستطراد.
والصحيح ما قدمته لأن تخلل هذه الجمل الكثيرة ذات المعاني المختلفة بين قصتين متناسقتين لا يتلاءم مع انسجام الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض كما هو شأن بليغ البيان فضلا عن القرآن الذي يسمو فوق كل كلام بسلاسة أسلوبه، وترابط حروفه وكلماته، فضلا عن جمله وآياته.
ومن حيث إن عدم إيمان أهل الكتاب بما يدعوهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لم يكن ناشئا إلا عن هوى في نفوسهم، وعناد مردوا عليه حتى أصبح كالأمر الجبلي فيهم، وإلا فالدعوة واضحة، والحجة ساطعة، ذهب الإمام محمد عبده إلى أن الحديث لم يزل في معرض بيان هداية الكتاب وانقسام الناس تجاهه إلى الأقسام الثلاثة المذكورة من قبل في صدر السورة، فكلما بعد العهد عن ذلك جاء ما يذكر به تذكيرا.
والفاء لتفريع الاستفهام بما تضمنه من التعجيب المشوب بالإنكار عن جملة: { ثم قست... } الخ، أو عن جميع القصة المسرودة بكل ما تضمنته من أحداث لأنها جميعا داعية إلى اليأس من إيمانهم.
والطمع المبالغة في الرجاء الناشئ عن تعلق القلب بالمرجو فهو أخص من مطلق الرجاء، لأن الرجاء كثيرا ما يكون مقترنا بسبب، أما الطمع فهو مقطوع عن الأسباب ما عدا الشغف بالمطلوب.
وما ذكر لا ينافي وجوب دعوتهم إلى الإيمان لأن هذه هي مهمة المرسلين وأتباعهم، وذلك كما قال الحق تعالى:
لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم فهم غافلون..
[يس: 6] إلى قوله:
وسوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
[يس: 10]، فما على المرسلين وأتباعهم إلا إبلاغ الدعوة وإقامة الحجة، والإعذار بالبشارة والإنذار،
فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب
[الرعد: 40]، وإنما يستفاد من الآية الكريمة نهي المؤمنين عن الاسترسال في رجاء إيمانهم إلى حد أن يتخذوا منهم بطانة لما يترتب على ذلك من المفاسد في الدنيا والدين.
وقد سبق الكلام في الإيمان وهو هنا مضمن معنى الاستجابة، وفي هذا جواب على سؤالين:
أولهما: تعدية الإيمان باللام مع أن الأصل فيه أن يعدى بالباء، وهذا نحو قوله تعالى:
فآمن له لوط
[العنكبوت: 26].
ثانيهما: أن المؤمنين لم يكونوا يدعونهم إلى أن يؤمنوا بهم، وإنما كانوا يدعونهم إلى ما يقتضيه الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والعمل بمقتضى ذلك.
وذهب العلامة ابن عاشور إلى أن اللام في { لكم } لتضمين { يؤمنوا } معنى يقروا قال: " وكأن فيه تلميحا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويلحدون على نحو قوله تعالى:
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم...
الآية [البقرة: 146]، فما أبدع نسج القرآن، ويجوز حمل اللام على التعليل، وجعل " يؤمنوا " منزل منزلة اللازم تعريضا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم، أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم ".
والواو في قوله: { وقد كان فريق منهم... } الخ، للحال، وما وليها قيد لما في الإستفهام من التعجيب والإنكار.
والفريق البعض المفارق للكل كالفرقة والفرق، وإنما الفريق أكثر منهما، وهو في الثلاثة الأوزان بمعنى مفعول.
واختلف في المراد بكلام الله الذي سمعه هذا الفريق ثم حرفه من بعد ما عقله، قيل المراد به كلامه تعالى لموسى عليه السلام في الطور، والفريق هم السبعون الذين صحبوه إلى ميقات ربه، وسألوه رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة، وذلك أنهم قالوا لموسى عليه السلام قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى، فقال: نعم مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا، ففعلوا لك ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا فوقعوا سجودا، وكلمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلى بني اسرائيل فلما جاؤوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني اسرائيل إن الله أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله إنما قال كذا وكذا، خلافا لما قال الله عز وجل لهم.
روى ذلك محمد ابن اسحاق عن بعض أهل العلم، وهو يقتضي أن السبعين سمعوا كلام الله كما سمعه موسى عليه السلام، واختار هذا القول الإمام أبو السعود وعضده بأن اسم الكلام أدل على المذكور منه على التوراة، لأنها باسم الكتاب أشهر، ووصف اليهود بتلاوتها أكثر، لا سيما رؤساؤهم المباشرون للتحريف، فإن وظيفتهم التلاوة دون السماع، فكان الأنسب لو كانت هي المقصودة بالكلام أن يقال يتلون كتاب الله.
وضعف كل من ابن عطية والقرطبي هذا القول وقالا بتخطئة من قال إن السبعين سمعوا ما سمعه موسى عليه السلام من كلام الله لأن في قوله إذهابا لفضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، ونحوه ما قاله الإمام ابن عاشور وصححه الألوسي وهو أن سماع الكلام كان خاصا بموسى عليه السلام، وذهب قطب الأئمة في الهيميان إلى جواز سماعهم كلام الله مع موسى عليه السلام، وأن ذلك لا يبطل خصوصية موسى بالتكليم لأن الخطاب إنما كان لموسى لا لهم معه، ولو كان بصيغة خطابهم، وإنما خاطبه بما يفعل ويفعلون، وما يترك وما يتركون، ووجه الكلام إليه وهم يسمعون بإذن الله تعالى.
وسيأتي إن شاء الله بحث هذه المسألة ببسط في سورة الأعراف.
وقيل المراد به التوراة لأنها من وحي الله وتنزيله، ويصدق عليها أنها كلامه تعالى، كما قال الله في القرآن
حتى يسمع كلام الله
[التوبة: 6]، وعليه فهذا الفريق من أحبارهم الذين كانوا يتلون التوراة، وكانت ألفاظها ترن على أسماعهم بتلاوة كل منهم لها، وبسماع بعضهم إياها من تلاوة بعض، ثم يحرفونها بعدما وعوا مقاصدها، وأدركوا مراشدها بتبديل كلمها وتوجيه تأويلها الى غير مراد الله، كما حرفوا نعوت النبي عليه أفضل الصلاة والسلام حسدا له ولقومه، وكان صدور ذلك منهم بعد عقلهم للمراد بها، ومع علمهم أنها عهد الله إليهم، وبما يترتب على قطع هذا العهد من سخط الله الموجب لعقوبته.
وهذا القول أظهر مما قبله فإن الخطاب موجه الى المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يطمعون في إيمان معاصريهم من أهل الكتاب، والمراد به بيان أن هذا الطمع ليس في محله لأن إعراض أهل الكتاب عن الإيمان ليس ناتجا عن جهلهم بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام وصدقه فيما يقوله عن ربه، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما يجدونه من صفاته فيما أنزل إلى أنبيائهم واتمنوه من كتاب ربهم، وإنما هو ناشئ عن الحسد الذي أدى بهم إلى تحريف ما بأيديهم من الكتاب، وطمس ما فيه من البشائر ببعثته صلى الله عليه وسلم، وهذا الوصف ينطبق على من كان في عهد الرسالة من أهل الكتاب، ولا ينطبق عليهم أنهم سمعوا كلام الله لموسى في الطور ثم حرفوه.
وبعد هذا الكلام في اليهود عامة عطف عليه ما يخص طائفة منهم، وهم الذين تقمصوا الإسلام ليتمكنوا من حربه من الداخل باطلاعهم على أسرار أبنائه بما يكون بينهم من الإختلاط، وهم المنافقون الذين تحدثت عنهم هذه السورة حديثا مسهبا في فاتحتها، وقد تقدم هناك أن معظم المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا من العنصر اليهودي، ولا إشكال في عطف حديث يخص البعض على ما يشملهم مع غيرهم من مجموعتهم لأن القرائن هي التي تبين ما يقصد بكل جانب من الحديث، وهذا كمخاطبة مجموعة من الناس بخطاب واحد له وجوه من المقاصد لكل طائفة من تلك المجموعة وجه منها، لأن القرائن هي التي تعين المعنيين بكل وجه، ومثل ذلك قوله تعالى:
وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن
[البقرة: 232]، فإن صدر الخطاب موجه إلى الأزواج لأنهم هم الذين يصدر منهم الطلاق، وآخره موجه إلى الأولياء لأنهم هم الذين يمكنهم العضل.
ويستفاد من الآية أن منافقي اليهود كانوا يسترسلون في حديثهم مع المسلمين إذا اختلطوا بهم وادعوا أنهم مثلهم في إيمانهم بالحق الذي أنزل على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن الإسترسال يؤدي بهم إلى كشف بعض الحقائق التي يبطنونها من علم الكتاب الذي بأيديهم، كالعهود التي أخذها الله عليهم، والأحكام التي حكم بها تعالى عليهم فإذا خلوا بأنفسهم أو مع أوليائهم - وهم الذين سماهم الله شياطين في صدر السورة - تلاوموا على ذلك وأنكر بعضهم على بعض كشف هذه الأسرار.
والفتح هو الحكم في لغة أهل اليمن، ومنه تسميتهم القاضي فتاحا، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أعرف معنى قوله تعالى:
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق
[الأعراف: 89]، حتى سمعت بنت سيف بن ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك، ومن إعجاز القرآن نزوله جامعا لخلاصة لغات العرب ومحاسنها.
وعليه فالمراد بما فتح عليهم ما ابتلاهم به من صنوف العذاب وضروب المحن نكالا من عند الله لكفرهم بآياته وتعنتهم على رسله، أو ما أوجبه عليهم من الإيمان بنبوة خاتم النبيين عند بعثته.
وقيل الفتح هنا على أصله المعروف عند سائر العرب، وهو ضد الإغلاق، وعليه، فالمقصود في الآية ما أفاضه الله عليهم من المعارف الإلهية التي من بينها علم نبوة النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وشمول رسالته، وعموم دعوته.
وقد قيل: إن مرادهم بقولهم عند لقاء المؤمنين { آمنا } أنهم آمنوا بصدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه غير أنهم يدعون أن نبوته لا تتعدى العرب وحدهم، فلا تشمل بني اسرائيل وغيرهم من شعوب الأرض، وفي أثناء هذا الإعتراف بنبوته صلى الله عليه وسلم المحصورة في العرب - حسب زعمهم - كانت تتساقط من أفواههم كلمات عما يجدونه من وصفه فيما عندهم من الكتاب، وهي قاضية بضد ما يدعون من انحصار نبوته بين قومه لدلالتها على شمول رسالته التي يأتي بها للعالمين على أن الاعتراف بصدقه يقتضي تصديقه في كل شيء، ومن ذلك أن رسالته موجهة إلى جميع الناس كافة لدلالة الكتاب الحق الذي جاء به على ذلك في نصوص شتى، منها قوله تعالى:
وما هو إلا ذكر للعالمين
[القلم: 52]، وقوله:
إن هو إلا ذكرى للعالمين
[الأنعام: 90 - يوسف: 104 - ص: 87 - التكوير: 27]، فلذلك يتلاومون في خلواتهم على هذا الاعتراف الصادر منهم لئلا يكون حجة للمؤمنين عليهم عند ربهم.
والعندية هنا بمعنى الحكم، كما يقول الفقيه هذه المسألة عندي كذا، أو هذا القول عندي صحيح أو راجح أو مرجوح، ومنه قوله تعالى:
فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولئك عند الله هم الكاذبون
[النور: 13]، أي في حكمه تعالى، وقيل: هي بمعنى في.
وقيل: بأن العندية هنا على بابها من الظرفية، ومرادهم بها عندية، التحاكم إلى الله، وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به، وأيد هذا الإمام ابن عاشور، وعده المناسب لقوله: { ليحآجوكم } ، ثم قال: وذلك جار على حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه، وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية، فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم، وتجد كتبهم ملأى على أن الله ظهر له كذا، وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون، وكقولهم في سفر التكوين، وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر؛ وقال فيه: ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه فقال: أمحو عن وجه الأرض الذي خلقته - وبعد ذكره أمثلة من هذه الكفريات اليهودية قال: فما ظنك بقوم هذه عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة.
وبهذا الذي ذكره من معتقدات اليهود في ربهم تظهر صحة هذا التأويل، ويسقط اعتراض الذين اعترضوه - من علماء التفسير كالبيضاوي - بدعوى أنهم كانوا يعرفون ربهم فما كان لهم أن يظنو خفاء شيء عن علمه.
وفي اختتام الآية بقوله: { أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } تأييد ظاهر لهذا القول.
هذا، وفي التفاسير المأثورة أقوال في سبب نزول الآية، وفيما يراد بها، فعن ابن زيد عند ابن جرير أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن، فكان اليهود يظهرون الإيمان فيدخلون ويرجعون إلى قومهم بالأخبار، وكان المؤمنون يقولون لهم: أليس الله قد قال في التوراة كذا وكذا؟ فيقولون: نعم، فإذا رجعوا إلى قومهم { قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم... } "
الآية.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وبعد بن حميد عن مجاهد أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لقوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت، فقالوا من أخبر هذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا الأمر إلا منكم { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } أي بما حكم الله ليكون لهم حجة عليكم.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم، وأخرج ابن اسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } أي بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضكم الى بعض قالوا لا تحدثوا العرب بهذا، فقد كنتم تستفتحون به عليهم وكان منهم ليحاجوكم به عند ربكم، أي تقرون به أنه نبي، وقد علمتم أنه أخذ عليكم الميثاق باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كان ينتظر، ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به، وأخرج ابن جرير عنه أن هذه الآية نزلت في المنافقين من اليهود، والمراد: { بما فتح الله عليكم } ما أكرمكم به، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } ، قال هم اليهود.
وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض نهى بعضهم بعضا أن يحدثوا بما فتح الله عليهم، وبين لهم في كتابه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوته، وقالوا إنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا بذلك عليكم عند ربكم.
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة أن سبب نزول الآية امرأة من اليهود أصابت فاحشة فجاءوا الى النبي صلى الله عليه وسلم يبتغون منه الحكم رجاء الرخصة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالمهم وهو ابن صوريا فقال له: احكم، قال فجبوه - والتجبية يحملونه على حمار ويجعلون وجهه إلى ذنب الحمار - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أبحكم الله حكمت؟ قال: لا ولكن نساءنا كن حسانا فأسرع فيهن رجالنا فغيرنا الحكم، وفيه نزل: { وإذا خلا بعضهم إلى بعض... } "
الآية.
وأكثر هذه الأقوال المروية موافق للأقوال التي أوردتها سابقا، وإنما فيها بيان سبب نزول الآية، والأسباب المذكورة في هذه الروايات متعارضة، وأنتم تدرون أن معظم هذه الروايات منقطعة الأسانيد، فلا تقوم بها حجة تقوم بها حجة في تعيين ذات السبب على أن كثيرا من الصحابة أنفسهم يقولون بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا، وهم لا يعنون بذلك إلا صدقها على حكم تلك الحادثة، وقد يكون الصحابي لا علم له بنزول آية ما حتى تعرض قضية فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها إبان ذلك، فيظن أنها نزلت من أجل تلك القضية، وقد سبق بيان ذلك في مقدمة التفسير والحمد لله.
والحجة الدليل الواضح مأخوذة من محجة الطريق، لأن كلا منهما موصل الى القصد، وإنما يفرق بينهما أن الوضوح والإيصال في الحجة معنويان، وفي المحجة حسيان، والمفاعلة المصوغة منها ليست هنا على بابها من المشاركة، وإنما هي للمبالغة، كما في خادع بمعنى خدع، وقد سبق بيان ذلك.
وقوله : { أفلا تعقلون } استفهام إنكاري مراد به التحديث بما فتح الله عليهم، فهو في مقولتهم المحكية، وإن قال بعض أهل التفسير بأنه من مقول الله تعالى الموجه إلى المؤمنين إنكارا لطمعهم في إيمان أولئك، وهو غير سائغ لأنه لم يؤلف في خطاب الله سبحانه لعباده المؤمنين إلا لطف العبارة، ورقة الأسلوب، ولو في مقام العتاب، فلا يتفق ذلك مع تقريعهم بمثل هذا الخطاب العنيف الموحى بأنهم نزلوا منزلة غير العقلاء. كيف ومن بين المخاطبين - لو صح أن الخطاب لهم - سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بلغ ذروة الكمال العقلي والسمو النفسي؟ على أن المؤمنين لم يدفعهم إلى هذا الطمع في إيمان أهل الكتاب، غير ما هم مجبولون عليه من حب هداية البشر مع ما يعرفونه عن أهل الكتاب من مزايا اختصوا بها كعلم النبوات وتوفر البشائر عندهم بمبعث خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وقوله: { أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } إنكارا لما ذكر عنهم من التلون في حال ملاقاة المؤمنين وخلوهم إلى اخوانهم من الكافرين بحيث يلقون هؤلاء بوجه وأولئك بآخر فإن هذا التصرف من شأنه أن لا يصدر إلا ممن يظن أن حيلته ومكره يحولان بين ما هم آتوه وعلم الله سبحانه، وإذا كانوا من ضلال الفكر وزيغ العقيدة بحيث يحسبون أن الله سبحانه تخفى عليه الخوافي من أعمالهم بسبب تحريفهم للكتاب، ووصفهم الحق تعالى بما لا يليق بعضهم جلاله وعلو شأنه، فإن آيات الله في أنفسهم وفيما حولهم من مخلوقاته تنادي عليهم بالإفك، وتشهد عليهم بالضلال، فلو ألقوا نظرة الى شيء منها لأدركوا أن الله سبحانه يعلم السريرة كالعلانية، ويحيط بالجزئيات كالكليات، فلا مفر لهم منه، ولا مناص لهم عن عقابه، فهو سبحانه يعلم ما يسرونه من الكفر كما يعلم ما يظهرونه من دعاوى الإيمان.
وقدم هنا ذكر ما يسر على ما يعلن، بخلافه في قوله تعالى:
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
[البقرة: 284]، لأجل التأكيد هنا بأن الله يعلم السريرة كالعلانية عكس ما يتوهمون، ولأن قوله: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } في معرض ذكر الحساب، والحساب يبدأ بالأعمال الظاهرة ثم بالخفايا.
[2.78-79]
الكلام لا يزال في بني إسرائيل وإنما غالب ما تقدم خاص بعلمائهم الذين تلاعبوا بما أنزل الله على أنبيائهم تارة بتبديل النصوص، وأخرى بتحريف التأويل، والمعنيون هنا هم دهماؤهم الذين لم يفهموا من الكتاب شيئا وإنما تعلقوا بأماني سولت لهم بها أنفسهم مستندين إلى ما يتردد على ألسنة أحبارهم الأفاكين من كونهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن آباءهم الأنبياء سيشفعون لهم عند الله فيرحمهم بحرمتهم.
وقيل: بأن الآية في نصارى العرب.
وقيل: في المجوس.
والقولان لا يتلاءمان مع السياق.
وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم ثم قالوا لقوم سفلة جهال هذا من عند الله، وقال قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله.
قال ابن جرير: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن الأمي عند العرب هو الذي لا يكتب.
وذكر ابن كير أن في صحة هذا التأويل عن ابن عباس بهذا الإسناد نظرا.
والأمي هو - كما قال ابن جرير - من لا يكتب منسوب إلى الأم لبقائه على الحالة التي ولدته عليها أمه، وقيل: منسوب إلى الأمة لأن هذه هي صفة جمهرة الناس عادة، وهذا كما يقال عامي نسبة إلى العامة.
ويعضد ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم
" إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب "
وجاء وصفه صلى الله عليه وسلم بالأمية في القرآن، وبين معناه في قوله تعالى:
وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون
[العنكبوت: 48]، وهذه الصفة مدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره لأنها معدودة في معجزاته حيث أنزل الله عليه الكتاب فيه تبيان كل شيء وهو بهذه الحالة.
ومن الأقوال الشاذة ما روى عن أبي عبيدة من أنهم قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب، فإنه تأويل ينقض آخره أوله، وأشذ منه ما روي عن ابن عباس أنهم قيل انهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب، فإن المعهود في النسب أن ينسب الشيء إلى ما لا بسه لا إلى ما باينه.
والأماني جمع أمنية، وأصلها أمنوية كأرجوحة فأدغمت الواو في الياء لتجانسهما فكسرت النون لتلائم الياء، وهي ما يتعلق به القلب مع عدم وجود وسائل إليه أو عدم تعاطي أسباب الوصول إليه، وأصلها منى بمعنى قدر، ومنه قول الشاعر:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم
حتى تلاقي ما يمنى لك الماني
والتفعل يفيد التكلف، فكأن المتمني يتكلف تقدير حصول أمر متعذر أو متعسر، والمراد بالأماني ما ذكرته في صدر تفسير الآية وهو ما يتعلقون به من الأوهام التي تثبطهم عن الأعمال الصالحة، وتجرئهم على انتهاك الحرمات، وليس ذلك من الكتاب - أي التوارة المنزلة - في شيء، فالاستثناء منقطع، وهو ما يقتضيه تفسير ابن عباس رضي الله عنهما في رواية ابن جرير عنه " لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله " ، وفي لفظ آخر " لا يدرون بما فيه ".
وروى ابن جرير عن قتادة أنه قال: " لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه، وقال: إنما هم أمثال البهائم لا يعلمون شيئا؛ وروى عن ابن زيد أنه قال: تمنوا فقالوا نحن من أهل الكتاب، وليسوا منهم.
وأخرج عن أبي العالية أنه قال: يتمنون على الله ما ليس لهم.
وتطلق الأماني على الأكاذيب؛ لأن الكاذب يتكلف تقدير ما يخطر بباله من الخيالات النفسية حتى يخرجها للسامعين في صورة حقائق واقعية، ومن شواهد ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت، وقول بعض العرب لابن دأب - وهو يحدث - أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته، وبه فسر ابن عباس ومجاهد الأماني هنا، وجنح إليه ابن جرير، وهو مع التحقيق موافق للقول الأول وليس الخلف بينهما إلا لفظيا فإن ما سبق ذكره من أمانيهم الخادعة ما هو إلا إفك اصطنعته ألسنتهم حسبما زين لنفوسهم.
وفسر جماعة الأماني بالقراءة، وحملوا الآية على أنهم ما كانوا يعلمون من الكتاب إلى كلمات تلوكها ألسنتهم من غير أن يفقهوا لها معنى، أو تترك في نفوسهم أثرا، واستشهدوا لذلك بقول الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليله
وآخره لاقى حمام المقادر
وبقول الآخر:
تمنى كتاب الله آخر ليله
تمني داود الزبور على رسل
كما استشهدوا له بقوله تعالى:
ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
[الحج: 52]، وفي الاستشهاد بالآية نظر لأنه مبني على اسطورة الغرانيق الداحضة، وسيأتي إن شاء الله بيان ما فيها عندما نصل بعون الله وتوفيقه في التفسير إلى سورة الحج.
ومهما يكن المراد بالأماني فإن الآية الكريمة تنادي بالضلال والخسران على الذين يسعون وراء الأوهام متنكبين عن الصراط السوي المؤدي الى الحقيقة الواضحة، وهم الذين رضوا بالجهل بديلا عن العلم، وبالتقاليد الموروثة، والزور المتداول بدلا عن الحق الذي أنزله الله وأقام عليهم حجته، ورفع لهم مناره، وما أكثر هؤلاء في كل أمة، وأشد بلاءهم في كل زمان، فإذا ناداهم منادي الحقيقة سدوا منافذ آذانهم خشية أن تنجذب نفوسهم إلى صوته، وإذا لاح لهم نور الحق غمضوا أعينهم وولوا معرضين لئلا يكتشفوا شيئا من عوارهم، فمثلهم كمثل الخفافيش تأنس بالظلمة، وتستوحش من الضياء.
وفي قوله تعالى: { وإن هم إلا يظنون } تأكيد لما وصفهم به من عدم العلم فإن العقائد تبنى على القواطع لا على الظنون، فكثيرا ما يكون الظن ناشئا عن هوى متبع أو حب أو بغض، فيكون أقرب إلى الكذب منه إلى الصدق، ولذلك حذر تعالى من اتباع الظن بقوله:
يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم
[الحجرات: 12].
وفسر مجاهد الظن هنا بالكذب، كما في رواية ابن جرير عنه، وأخرج ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع أنهم قالوا: " يظنون الظنون بغير الحق ".
والفاء في قوله: { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } للترتيب، والمرتب عليه قوله عز وجل: { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله.... } الآية، وحسن مجيئها هنا أن ضلال الأميين المذكور قبل هذه الآية ناشئ عن التحريف المذكور (ثم).
وويل من المصادر التي لا فعل لها كويح، وويب، وويس، وويه، وعول، وويك، ومعانيها متقاربة لإفادة كل منها الزجر، وإنما فرق بينها بفروق دقيقة، منها أن ويلا وعيد لمن وقع في الهلكة، وويحا للتحذير من الوقوع فيها؛ وقد تستعمل ويل في الدعاء والتعجب والترحم، وقيل: معناها الحزن أخذا من قولهم: " تويل " ، بمعنى حزن، والصواب أن التويل مشتق من الويل، لأن الحزين كثيرا ما يقول: " واويلاه " ، وليس الويل مأخوذا منه.
وفي التفسير المأثور تفسير ويل ببعض ما يعذب به في النار، من ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحة والحاكم في مستدركه - وصححه - عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره "
وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعا أنه جبل في النار، وأخرج البزار وابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا أنه حجر في النار، وهو محمول على بيان بعض أنواع الويل - أي الهلاك - الذي يلاقيه الكفار في النار والعياذ بالله، وإلا فكلمة ويل كانت معروفة عند العرب، ومستعملة في كلامهم قبل نزول القرآن وورود الأحاديث، كقول الشاعر:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
....................
وقول امرئ القيس:
..............
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وقد رأيتم ما في هذه الروايات من التعارض الذي يوهن الاستناد عليها فضلا عما في أسانيدها من الضعف، فأقواها حديث أبي سعيد، وقد قال فيه الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة؛ وساق الحافظ ابن كثير له شاهدا من رواية عمرو بن الحارث، ثم قال: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعا منكر.
ولا يغرنكم تصحيح الحاكم له، فإنه مشهور بتساهله في التصحيح.
ورويت عن المفسرين من السلف روايات في الويل منها قول أبي عياض بأنه صهريج في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم، وعن عطاء بن ياسر قال: ويل، واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدت حره، وهذا من باب تفسير الشيء ببعض أنواعه كما قلت فيما روى من ذلك مرفوعا، وقد أخرج ابن جرير عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما أن الويل هو العذاب، وهو أعم من كل ما قيل وأنسب بمدلول الويل لغة.
والكتابة لا تكون الا بيد الكاتب فتقييدها هنا بأنها كانت بأيديهم مع إسنادها إليهم إما للإفادة بأن ما كتبوه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق من عند أنفسهم، وإما لنفي ما يتوهم من المجاز في الإسناد، وأنهم لم يباشروا الكتابة بأنفسهم وإنما أمروا بها غيرهم، وفي هذا تنبيه على أن من باشر المعصية بنفسه أعظم إثما، وأشد عقوبة ممن أمر بها غيره.
والثمن القليل كل ما يعطونه من أصحاب الأهواء في مقابل تحريفهم الكتاب ولو كان الدنيا بأسرها فإنها لا تساوي شيئا مما يفوتهم من ثواب الله الذي أعده لعباده المحسنين الحافظين لما أنزل من الحق والعاملين به.
ويحتمل أن يكون المراد بالثمن المناصب التي يرقون إليها في الدنيا بسبب إرضائهم للعامة بإباحة ما حرم الله عليهم.
وأعيد توعدهم بالويل على ما كتبت أيديهم لبيان مضاعفة عقوبتهم، فإن معصيتهم ترتبت عليها معاصي الذين اغتروا بما كتبوه لهم، " ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " ، ثم أعيد مرة أخرى توعدهم بالويل على ما يكسبون، والمراد به ما يكسبونه من خطايا زينتها لهم أنفسهم أو ما يكسبونه من المال الحرام الذي توصلوا إليه بتحريف الكلم عن مواضعه.
وهذا الوعيد يشمل أحبار هذه الأمة الذين ينهجون نهجم في تحليل ما حرم الله تقربا إلى الناس، وحرصا على الدنيا، ويهونون على الناس وعيد الله تعالى بالتأويلات الفاسدة التي لا أصل لها إلا الأماني الخادعة التي جرأت الناس على انتهاك حرم الله وتضييع فرائضه وتعدي حدوده، وقد أجاد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده حيث اختتم تفسير هذه الآية بقوله: " من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه أولئك اليهود فلينظر فيما بين يديه فإنه يراها واضحة جلية، يرى كتبا ألفت في عقائد الدين وأحكامه، حرفوا فيها مقاصده، وحولوها إلى ما يغر الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم، ويقولون هي من عند الله وما هي من عند الله، وإنما هي صادة عن النظر في كتاب الله، والاهتداء به، ولا يعمل بهذا إلا أحد رجلين، رجل مارق من الدين يتعمد إفساده، ويتوخى إضلال أهله، فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح، يخادع بذلك الناس ليقبلوا ما يكتب ويقول، ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه ".
قال صاحب المنار: " ثم ذكر الأستاذ وقائع طابق فيها بين ما كان عليه اليهود من قبل وما عليه المسلمون الآن، ذكر وقائع للقضاة والمأذونين وللعلماء والواعظين فسقوا فيها عن أمر ربهم، فمنهم من يتأول ويغتر بأنه يقصد نفع أمته، كما كان أحبار اليهود يفتون بأكل الربا أضعافا مضاعفة ليستغنى شعب اسرائيل، ومنهم من يفعل ما يفعل عامدا عالما أنه مبطل، ولكن تغره أماني الشفاعات والمكفرات ".
[2.80-82]
الواو عاطفة، والمعطوف عليه قيل هو قوله: { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، وعلى هذا فهو عطف قصة على قصة، وقيل: هو قوله: { وقد كان فريق منهم } ، وعليه فهو عطف جملة على جملة، فتكون الجملة المعطوفة حالية كالمعطوف عليها، ومؤدى ذلك التعجيب من طمع المؤمنين أو بعضهم في إيمانهم مع أن هذه هي عقيدتهم التي اصطبغت بها أذهانهم، كما أن تبديل كلام الله بعدما سمعوه شأن عرف به فريق منهم من قبل، وهو قول أبي حيان في البحر، وقيل المعطوف عليه هو قوله: { يكتبون... } الخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار، وهو قول الإمام ابن عاشور، وذكر مناسبته له، وهي أن قولهم: { لن تمسنا النار } دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها، إذ هم قد آمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة كتب عذابها على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم، ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام.
وبيان ذلك أنهم اعتقدوا أنهم لا نجاة لهم من هذا العذاب سواء أقلوا من المعاصي أم أكثروا، فلذلك لم يبالوا بمعصية يرتكبونها أو حرمة ينتهكونها أو واجب مقدس يضيعونه وقد بين لنا الحق تعالى في وسورة آل عمران أن عقيدتهم هذه هذه مصدر نبذهم الكتاب وراء ظهورهم، وذلك حيث قال:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون
[آل عمران: 23-24].
والأيام المعدودة التي زعموا أن عذابهم منحصر فيها، قيل: هي سبعة أيام لأن عمر الدنيا - حسبما زعموا - سبعة آلاف عام، فهم يعذبون يوما عن كل ألف عام، وقيل: أربعون يوما بقدر أيام عبادتهم العجل، وقيل: بقدر ما يقطعون ما بين طرفي النار لأن عرضها - حسبما زعموا - أربعون عاما وهم يقطعون مسيرة كل عام في يوم حتى يصلوا إلى شجرة الزقوم.
ووصف الأيام بأنها معدودة يؤذن بقلتها، فقد سلكوا مسلك العرب في تعبيرهم لاحتكاكهم بهم، وتأثرهم بأساليبهم، وقد كانت العرب تصف القليل بالمعدود، إما لعدم اعتنائهم بالحساب، وإما لأن الكثير ليس من شأنه أن يقاس بالعدد، بل بمقاييس أخرى، كالوزن والكيل، وقد سلكوا هذا المسلك حتى فيما لا يكال ولا يوزن.
ورد الله عليهم زعمهم هذا بقوله: { قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون } لأن أمثال هذه القضايا لا يجوز أن يستند فيها إلا إلى ما بينه الله سبحانه فيما أوحاه إلى رسله، لأنها قضايا سمعية بحتة فلا حكم فيها للعقول.
والإستفهام بالهمزة إما للتقرير لإلجائهم إلى الاعتراف بأصدق الأمرين، وعليه ف (أم) متصلة، وإما للإنكار، فهو في حكم النفي لما وليه، وعليه ف (أم) منقطعة تفيد بل مع الهمزة، فكأنه قيل بل أتقولون على الله ما لا تعلمون.
والفاء في قوله: { فلن يخلف الله عهده } فصيحة على حد قول الشاعر:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وعليه فيقدر قبلها شرط مستفاد من الجملة الاستفهامية، أي فإن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده، فالفاء وما بعدها جواب للشرط، وقيل: جملة: { فلن يخلف الله عهده } معترضة بين الاستفهامين المتعادلين، وعليه ابن عطية، ولا اعتراض عليه بتصديرها بالفاء لأن ذلك معهود في الاعتراض نحو قوله تعالى:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
[النحل: 43] المعترض بين قوله:
ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم
[النحل: 43] وقوله:
بالبينات والزبر
[النحل: 44]، ومثله: { فمن شآء ذكره } المعترض بين قوله:
كلا إنها تذكرة
[عبس: 12] وقوله:
في صحف مكرمة
[عبس: 13]، وقد سبق الاستشهاد له بقول الشاعر:
واعلم - فعلم المرء ينفعه -
أن سوف يأتي كل ما قدرا
وجنح القطب - رحمه الله تعالى - في الهيميان الى قول من يرى أن هذه الجملة معترضة غير أنه صدر برأي آخر ملخصه أن الفاء عاطفة على ما بعد همزة الاستفهام فيكون الاستفهام واقعا على هذه الجملة على طريق التفريع لا على الاستقلال، وذلك باعتبار الاستفهام مقصودا به الأمران، الإتخاد وعدم الخلف، وأتبع ذلك قوله: " ولا فرق من جهة المعنى بين هذه الفاء وفاء جواب الاستفهام المنصوب، فلسنا نحتاج إلى جعل ذلك جواب شرط محذوف، كما قيل إن التقدير إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده، ولا إلى ما قيل ضمن الاستفهام معنى الشرط فأجيب بالفاء ".
والعهد الوعد المؤكد، وكل وعود الله مؤكدة، وقيل: المراد به هنا الإيمان الخالص والعمل الصالح الواقيان من النار على حد قوله تعالى:
أم اتخذ عند الرحمن عهدا
[مريم: 78]، ويرجح الأول قوله: { فلن يخلف الله عهده }.
وفي قوله: { أم تقولون على الله ما لا تعلمون } تنبيه بالأدنى على الأعلى فإنهم بما ادعوه قائلون على الله ما يعلمون الحق في خلافه، وإذا كان الخائض فيما لا يعلم من أمر الله حقيقا بالملامة والتقريع كما هو في الآية فإن من علم الحقيقة فأنكرها أحق بهما لأنه تعمد مخالفة الحق وطمس الحقيقة.
وبعد نقض دعواهم بما يفيد إفلاسهم من الحجة على صحتها أبان الحق سبحانه أن الحقيقة ليست كما تمنوا فإن الدار الآخرة لا تحكم فيها الأماني بل كل أحد فيها رهين عمله، والناس فيها بين امرئ جمع بين الإيمان والعمل الصالح فهو موعود بالخلد في النعيم وآخر ارتكس في المعصية، ولم يجد منها مخلصا لعدم تعلقه بأسباب التوبة النصوح، فليس له قرار إلا النار والعياذ بالله، لا يجد منها مخرجا، ولا عن عذابها مخلصا، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما لم ينفلت من قيود المعصية في الدنيا لن ينفلت من سجن عذابها في الآخرة.
و " بلى " جواب إيجابي على نفي سابق سواء اقترن بالإستفهام أم لا، مثال الأول:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، ومثال الثاني: هاتان الآيتان فإن بلى فيهما رد على قولهم المحكى وهو: { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة }.
والكسب أصلا طلب ما ينفع حسيا كان أو معنويا كقولهم اكتسب مالا، أو جاها، أو منصبا، أو سمعة حسنة، واستعمله القرآن في اتيان أسباب الإثم للكشف عن الحالة النفسية التي يتلبس بها العاصي في إجرامه، فإن الإقدام على المعصية لا يكون إلا لمنفعة وهمية تدفع بصاحبها إليه، فالزاني عندما يقدم على الزنا يظن أنه منفعة له لما يجد فيه من اللذة، والسارق يتوهم في سرقته منفعة له بما يأخذه من مال المسروق وقاتل النفس المحرمة بغير حق يتخيل أن في ذلك منفعة له، لأن القتل إما أن يكون لشفاء غيظه من عدوه، أو لشهرة بالإقدام ينالها القاتل بين الناس، وشارب الخمر يجد في السكر نشوة يظنها منفعة له، وآكل الربا يتصور أنه أيسر وسيلة لجمع المال بغير عناء، وكذلك صاحب الميسر، وما هذه الأوهام إلا حبائل للشيطان يتصيد بها النفوس المضطربة والعقول الكليلة.
والسيئة اسم للمعصية لأنها تسوء صاحبها في العاقبة، أو لأنها تسوء غيره منذ صدورها منه، ويجوز أن تكون في الأصل صفة لموصوف أميت، كالفعلة، ونحوها الحسنة في كلا الإحتمالين.
وإطلاق السيئة هنا يتناول كل معصية من غير تمييز بين صنف وآخر لأنها نكرة في سياق الشرط، فمثلها كمثل القائل لإمرأته إذا رأيت رجلا وكلمته فأنت طالق، فإن الطلاق يقع عليها باجتماع رؤيتها وتكليمها أي رجل كان، ولا ينحصر هذا الوعيد في اليهود وحدهم، وإن كانوا السبب في نزول هذه الآيات، لأن الحكم العام لا ينحصر في سببه الخاص، وهو معنى قول الأصوليين: " لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ " ، وكثير من هذه الأمة راقت لهم - مع الأسف الشديد - هذه العقيدة التي سرت إليهم من الأفكار اليهودية البحتة، فأخذوا يؤولون الآيات الوعيدية تأويلا بعيدا عن مدلولها البين، ويحرفون معانيها حتى تتفق مع معتقداتهم المخالفة للنصوص الجلية، فحصروا السيئة هنا في الشرك مع فقدان أي قرينة شرعية أو وضعية تقيد إطلاقها إلا ما توهموه من أن قوله تعالى: { وأحاطت به خطيئته } يدل على ما ذهبوا إليه، والحقيقة عكس ما قالوه كما سيأتيكم بيانه.
ومما يضاعف الأسف أن يتتابع الجم الغفير من الناس - ومن بينهم علماء نابهون - على تلقي هذه الفكرة بالقبول من غير تمحيص لها والنظر في مصدرها، والرجوع بها إلى الأدلة الظاهرة من الكتاب العزيز والسنة الصحيحة الثابتة، فقد أخذ اللاحق يتبع فيها أثر سابقه من غير تبصر وروية حتى أنهم أخذوا يشنعون على مخالفيهم فيها، ويكيلون لهم التهم كيلا، اللهم الا الذين ارتقوا عن حضيض التقليد وسموا إلى ذروة التحقيق فأبصروا الحقيقة الناصعة، فلم يستحيوا من تجليتها للمبصرين بأقلامهم المتحررة من أسر التقليد البغيض، ومن بين هؤلاء الإمام محمد عبده القائل في هذه الآية: " السيئة هنا على إطلاقها وخصها مفسرنا (الجلال) وبعض المفسرين بالشرك، ولو صح هذا لما كان لقوله تعالى: { وأحاطت به خطيئته } معنى، فإن الشرك أكبر السيئات وهو يستحق هذا الوعيد لذاته كيفما كان، ومعنى إحاطة الخطيئة هو حصرها لصاحبها، وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه، كأنه محبوس فيها، لا يجد لنفسه مخرجا منها، يرى نفسه حرا مطلقا، وهو أسير الشهوات وسجين الموبقات، ورهين الظلمات، وإنما تكون الإحاطة بالاسترسال في الذنوب، والتمادي على الإصرار، قال تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14] أي من الخطايا والسيئات، ففي كلمة { يكسبون } معنى الاسترسال والاستمرار، وران عليه غطاه وستره، أي أن قلوبهم قد أصبحت في غلف من ظلمات المعاصي، حتى لم يبق منفذ للنور يدخل إليها منه، ومن أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحا، وإقلاعا صحيحا، لا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات، روى أحمد والترمذي والحاكم وصححاه وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } "
لمثل هذا كان السلف يقولون: المعاصي بريد الكفر ".
وقال أيضا في الآية: " ومن المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها ولم يؤولها بالشرك ولكنهم أولوا جزاءها، فقالوا: ان المراد بالخلود طول مدة المكث، لأن المؤمن لا يخلد في النار، وإن استغرقت المعاصي عمره وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته، أولوا هذا التأويل هروبا من قول المعتزلة: " إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار " ، وتأييدا لمذهبهم أنفسهم المخالف للمعتزلة، والقرآن فوق المذاهب يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته لا يكون أو لا يبقى مؤمنا.
وأتبع تلميذه العلامة السيد رشيد رضا كلامه هذا بيان ما يترتب على تأويل الخلود من القول بعدم خلود المشركين أيضا في النار، وإليكم نص قوله : " إن فتح باب تأويل الخلود يجرئ أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه والقول فيه بأن معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه لأن الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ما كان ليعذب بعض خلقه عذابا لا نهاية له لأنهم لم يهتدوا بالدين الذي شرعه لمنفعتهم لا لمنفعته، ولكنهم لم يفقهوا المنفعة، وإذا كان التقليد مقبولا عند الله كما يرى فاتحوا الباب، فقد وضح عذر الأكثرين لأنهم مقلدون لعلمائهم... الخ، ما يتكلم به الناس ولا سيما في هذا العصر، فإن هذه المسألة قديمة وهي أكبر مشكلات الدين، نعم إن العلماء يحتجون عليهم بالاجماع ولو سكوتيا، ولكن التأويل باب لا يكاد يسده متى فتح شيء.
وتعضد التأويل الصحيح الذي ذكرته من قبل، آثار مروية عن السلف في تفسير الخطيئة وإحاطتها، فعن الحسن البصري أن رجلا سأل عن قوله: { وأحاطت به خطيئته } فقال: ما ندري ما الخطيئة يا بني أتل القرآن، فكل آية وعد الله عليها النار فهي الخطيئة ". أخرجه ابن جرير، وأخرج عن سعيد عن قتادة أنه قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة، وعن عبد الرزاق عن قتادة انه قال: الخطيئة الكبائر، وعن مجاهد أنه قال: كل ذنب محيط فهو ما وعد الله عليه النار؛ وعن الضحاك أنه قال في إحاطة الخطيئة الموت عليها، ومثله عن الربيع بين خيثم، وعن الربيع أيضا أنه قال في الخطيئة الكبيرة الموجبة، وعن السدي أنه قال: " أحاطت به خطيئته " فمات ولم يتب، وعن أبي رزين أنه قال: " أحاطت به خطيئته " مات بخطيئته، أخرج هذه الآثار ابن جرير الطبري، ولا يمكن رد هذه الأقوال أو تأويلها بما يخالف ظاهرها لأجل روايات أخرى معزوة إلى بعض السلف، إذ ليس ما وافق القرآن والسنة كالذي خالفهما، ونصوص الكتاب العزيز والسنة الصحيحة قاضية بتعذيب أهل الكبائر وتخليدهم في العذاب، وحسبكم حجة على صحة هذا التفسير للسيئة وإحاطتها حديث الران السالف الذكر.
وإذا كانت عقيدة توقيت عذاب الآخرة جرأت اليهود على ما جرأتهم عليه من نبذ الكتاب وانتهاك الحرمات وتعدي الحدود، فإن الذي تلقفوها عنهم من هذه الأمة أخذوا بحظ وافر من ذلك كله، فكم من حرمة ارتكبت، ومحرمة أبيحت، وحقيقة طمست تحت مظلة اعتقاد العفو عن أهل الكبائر بعدم دخول النار مطلقا أو تعذيبهم عذابا موقتا ينقلبون بعده إلى النعيم المقيم فيتساوون مع البررة المتقين في المنزلة والثواب، فيا لله من هذه المصيبة في الدين، أين عقول هؤلاء من قوله تعالى:
أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار
[ص: 28].
وبعد هذا القرار الحاسم في مصير الفجار جاء تبيان مصير أضدادهم، أولئك الذين جمعوا بين صحة العقيدة وصلاح العمل، وهو ما عبر عنه ب { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } والعمل الصالح أثر لازم للإيمان الصحيح، فإن الإيمان الحق ما تعمق في النفوس حتى تولدت عنه الاستقامة في السلوك، والإخلاص في العبادة، واللين في الأخلاق، والتسامح في المعاملة، وكما توعد الله الذين كسبوا السيئات بالخلد في الجحيم، وعد هؤلاء بالخلد في النعيم، وعبر عن أولئك ب { أصحاب النار } وعن هؤلاء ب { أصحاب الجنة } لأن من شأن الصحبة تلازم المتصاحبين، فأولئك يصحبون النار لا ينفكون عنها، وهؤلاء يصحبون الجنة لا يبرحونها.
وإتباع الوعيد بالوعد أو العكس منهج قرآني معهود في تربية النفوس بالترغيب وبالترهيب أخرى، لما في الترغيب من الحفز على الخير، وما في الترهيب من الردع عن الشر.
[2.83]
من أساليب القرآن التفنن في الخطاب، فبينا تجده يواجه طائفة من الناس مواجهة الحاضر بالأمر أو النهي أو التذكير أو التقريع أو الوعد أو الوعيد تجده يتحدث عن تلك الطائفة حديثه عن الغائب ليرسخ العبرة في نفوس القارئين والمستمعين، وليعمم حصيلة ما سلف من الحديث على جميع المستفيدين، وأول ما كان من ذكره لأخبار بني إسرائيل وأحوالهم في هذه السورة ورد بأسلوب الخطاب لهم لتذكير أعقابهم الموجودين بما أنعم الله عليه من فواضله التي قصروا في شكرها، بل بالغوا في كفرها، كتفضيلهم على العالمين بكثرة النبوات وتعاقب الرسالات بينهم، وإنجائهم من آل فرعون بما أهلك به عدوهم، وإيتاء موسى الكتاب والفرقان لتنجية أرواحهم من ردى الضلال كما نجيت أبدانهم من الهلاك بالعذاب أو الغرق وتيسير وسائل العيش الرغد لهم بسوق النعم إليهم، وما كان مع هذا كله من تعنتهم على نبيهم موسى عليه السلام في طلب ما لم يجعل الله لهم إليه سبيلا، ومبالغتهم في الإعنات حتى اتخذوا معبودا لهم من دون الله سبحانه إلى غير ذلك مما مر ذكره، ثم ولى ذلك بيان تنوعت فيه الأساليب بحيث ذكر تارة حكمهم وحكم غيرهم ممن له تعلق بأسباب الرسالات، ووجهوا تارة بالخطاب مرة أخرى، والتفت إلى خطاب المؤمنين في شأنهم تارة أخرى، والسياق لا يزال في بني إسرائيل.
وفي هذه الآية جيء بما لم يذكر من قبل من الأحكام العملية المشروعة لهم سواء ما كان منها خاصا بعبادتهم لربهم، أو كان فيما يختص بالتعامل بين أفراد الأسر، أو يعم جميع أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه.
وبما أن شرعية ما ذكر هنا لا تختص ببني إسرائيل ذكر هذا التشريع بأسلوب الغيبة لا الخطاب ليستفيد من حكمه المؤمنين، وإنما خوطبوا عندما ذكر نقضهم لهذه العهود.
واختلف في أخذ هذا الميثاق، فقيل: كان أخذه عندما رفع فوقهم الطور، وإليه الإشارة بقوله: { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور... } الآية. وقيل هو الميثاق العام الذي أخذه الله على البشر جميعا كما صرح به قوله سبحانه: { وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ويضعفه أنه غير خاص ببني إسرائيل، والسياق هنا يقتضي أنه ميثاق أخذ عليهم من أنفسهم، وقيل: هو ميثاق منزل في التوراة، وقيل: على لسان موسى عليه السلام.
والعبادة سبق بيانها في الفاتحة الشريفة، وهي تستلزم العقيدة الصحيحة، إذ لا بد للعابد من اعتقاد عظمة المعبود، واستشعار خوفه ورجائه، واستحضار إحسانه وبطشه، وذكرها بصيغة الخبر دون الأمر يفيد التأكيد عليها لأن هذا شأن الأوامر إذا صبت في قوالب الأخبار، لأن مدلولاتها أنزلت منزلة الأمور الواقعة لما تقتضيه أهميتها من سرعة امتثالها، وقيل : بأن الأصل أن لا تعبدوا إلا الله، أو بأن لا تعبدوا فحذفت أن على الوجه الأول، ومع الباء على الوجه الثاني فارتفع الفعل الذي كان منصوبا بها على حد قوله تعالى:
تأمروني أعبد
[الزمر: 64] برفع " أعبد " ويجوز في مثله - عربية - النصب على إضمارها، وقد روي بالوجهين قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وقول الشاعر:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير لا يعبدون وأحسن ما حملت عليه قراءتهم حذف أن الناصبة.
وقيل: بأن في اللام قسما محذوفا، أي والله لا تعبدون إلا الله، وأولى من ذلك أن يقال بأن للميثاق نفسه حكم القسم لأنه بمنزلته.
والباء في قوله: { وبالوالدين إحسانا } قيل: هي متعلقة ب (إحسانا) على أنه مصدر وضع موضع فعل الأمر كأنه قيل وأحسنوا بالوالدين. وهذا لأن: { لا تعبدون } فيه معنى الأمر وإن كانت صيغته خبرية كما تقدم، أو موضع فعل مضارع مدلوله أمر أيضا، أي وتحسنون بالوالدين وقيل متعلقة بمحذوف ناصب للمصدر المذكور، إما أمرا أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وإما مضارعا، أي وتحسنون... الخ، وقيل: متعلقة بمحذف تقديره ووصيناهم، وعليه فإحسانا مفعول لأجله، أي لأجل إحساننا إلى الموصى بهم.
والوالدن تثنية والد، وهما الأب والأم، غلبت في صيغة تثنيتهما الذكورة كما هو الشأن في المثنيات، وقد وصى الله سبحانه بهما خيرا، وحض على الإحسان إليهما حسب المستطاع في كل الشرائع، وحذر من عقوقهما ولهما فيما وصى به هذه الأمة في القرآن النصيب الأوفر، فقد قرن الله حقهما بحقه، وأمر ببرهما بعد الأمر بعبادته، وجمع بين شكرهما وشكره، ولم يسقط حقهما حتى مع شركهما به، ومن ذلك قوله تعالى:
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي
[لقمان: 14 - 15]، وإنما حذر ولدهما من طاعتهما إذا أمراه بالشرك، وكذا سائر المعاصي إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وسيأتي إن شاء الله القول في حقهما في الإسلام في سورة النساء، وغيرها.
وذوو القربى هم الذين يدلي إليهم بنسب من قبل الأم أو الأب، ويعبر عنهم بذوي الأرحام، والإحسان إليهم واجب ديني في كل الشرائع المنزلة، لأنه داعية الترابط الأسرى المؤدي إلى الترابط الاجتماعي فإن من حكمة الله سبحانه أن جعل النوع الإنساني يتميز عن جميع أنواع خلقه بضرورته إلى التعايش الاجتماعي، إذ لا يمكن لفرد منه أن يستقل بمصالحه عن مجتمعه، والمجتمعات إنما تتكون من الأسر، بل الأسرة في حقيقتها مجتمع أصغر، والمجتمع أسرة كبرى، فإذا انحلت الروابط الأسرية تلاشت بالأحرى النظم الاجتماعية، ولم يعد فرق بين الناس والسباع إذ ليست المدينة مباني تشاد، ومدنا تخطط وتعمر بقدر ما هي تواد وتعاطف وتآلف وتعاون بين الناس، وسيأتي الحديث إن شاء الله عن حق ذوي القربى في الإسلام في موضعه.
واليتامى جمع يتيم وهم من البشر الذين مات عنهم آباؤهم قبل البلوغ، ولا يتم بعد البلوغ، وقد حضت الشرائع على مراعاتهم والإحسان إليهم بحسن التربية والتوجيه السليم، ومواساتهم بالمال مع الاحتياج، والمحافظة على أموالهم، والعناية بجميع مصالحهم حتى يبلغوا رشدهم، لأن اليتيم بحاجة إلى الرقة والرحمة، والتربية والتوجيه، فإن من شأن الناس أن يعطفوا على أولادهم ويعرضوا عن أولاد غيرهم، فإذا لم يحضوا على الإحسان إلى اليتامى ماديا ومعنويا فقد اليتيم ما هو أحوج إليه من العطف والرحمة، والإرشاد والتوجيه فيضيع وسط تناسي الناس له، وكثيرا ما يؤدي به ذلك إلى الانحراف والشذوذ لأنه ينشأ ساخطا على مجتمعه الذي أضاعه، غير قادر على التحكم في رغبات نفسه وشهواتها، وإذا كان الكبار كثيرا ما ينجرفون وراء تيارات الفساد لغلب شهواتهم على عقولهم، فما بالكم بالأطفال الذين لا يجدون من يوجههم إلى الطريق المستقيم، وليس لهم ما يردعهم عن الانحراف من عقل أو ضمير، وإذا فسد اليتامى فسد غيرهم من الأولاد لما يكون بينهم من الاحتكاك غالبا، ومن هنا كان المشفق على أولاده من الانحراف جديرا بأن يحسن إلى اليتامى بالرعاية الحسنة، والتوجيه السليم وذلك من أسباب نيل رضوان الله تعالى والفوز برفعة الدرجات ووفرة الحسنات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" أنا وكافل اليتيم كهاتين "
مشيرا إلى سبابته ووسطاه.
وتقديم اليتامى على المساكين لإثارة الاهتمام بهم، فإنهم أحوج إلى الرعاية، فإن المساكين محتاجون إلى العون المادي فحسب، بينما اليتامى بحاجة إلى رعايات مختلفة، فهم يحتاجون إلى رعاية أجسادهم بوقايتها من الأذى، والمحافظة على صحتها، ورعاية عقولهم ومشاعرهم بتربيتها بالأفكار السليمة والأخلاق القويمة، ورعاية أموالهم بإصلاحها وحفظها من التلف مع تقديم العون المادي إليهم إن لم يكن لهم مال أو لم يكفهم مالهم لمطالبهم الضرورية.
والمساكين جمع مسكين، وهو من لا يفي كسبه بنفقاته الضرورية، واختلف في التفرقة بينه وبين الفقير على أقوال جمة ستأتي إن شاء الله في آية الصدقات من سورة التوبة، ولا ينظر في المسكين إلى وفرة كسبه وقلته، وإنما يعتبر حاله، فرب ذي كسب قليل لا يعد من المساكين لسداد عوزه بما يكسب، ورب ذي كسب وفير معدود من المساكين لأن كسبه لا يفي بحاجته الضروية، فشتان بين من لا يعول إلا امرأته، ومن يعول أكثر من عشرة من الأولاد مع والديه الضعيفين، كما أن اختلاف أوضاع الناس الاجتماعية لها أثر في التفرقة بين حكم إنسان وآخر، فمن الناس من يأويه القصاد من شتى أنحاء البلاد، فلا يكاد يرحل عنه ضيف حتى يحل آخر، ومنهم من لا يكاد يطرق بابه طارق، ولا بد في باب الزكاة وغيرها من رعاية هذه الفروق.
والإنسان مطالب بالإحسان على أي حال غير أنه لا يمكنه أن يساوي بين جميع الناس في الإحسان إليهم، فلذلك طولب أولا بالإحسان إلى والديه لأنهما منبتة ومخرجه إلى الحياة؛ ثم إلى ذوي القربى لما يجمعه بهم من الأواصر التي إذا لم تراع انحلت روابط المجتمع بأسره؛ ثم إلى اليتامى لافتقارهم إلى رعاية المجتمع لهم؛ ثم إلى المساكين لينالوا قسطهم من نعمة العيش بين إخوانهم، وليسود المجتمع التواد والتآخي، وأما سائر الناس فهو مطالب نحوهم بالإحسان العام الذي لا يكلفه عناء، ولا يحتاج إلى انفاق، وهو القول الحسن الذي يغرس في النفوس المودة، ويؤلف النافر، ويدني البعيد، وهو ترجمة لحسن الطوية ومرآة لصفاء النفس، وقد يسره الله لجميع الناس، فلذلك فرضه على جميعهم لجميعهم.
وقرأ حمزة والكسائي حسنا (بالتحريك)، وعلى ما قرأ فهو صفة لموصوف يدل عليه الوصف، أي قولا حسنا، وصوب هذه القراءة ابن جرير الطبري بانيا تصويبه على أن الحسن هو الاسم العام الجامع لجميع أصول معاني مشتقات هذا اللفظ، والحسن هو بعض من تلك المشتقات وهو يريد بذلك أن الحسن هو المصدر الذي يتفرع عنه الوصف بالحسن كما تتفرع عنه بقية مشتقاته، ويفهم من تصويبه لهذه القراءة أن ما عداها غلط، لأن عبارته تقتضي حصر الصواب فيها، حيث قال: " فالصواب من القراءة في قوله: { وقولوا للناس حسنا } لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم وقولوا للناس باستعمال الحسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول ".
وقد علمتم أن القراءة التي صوبها قرأ بها اثنان من السبعة فهي من القرآءات المتواترة التي لا مجال للنظر فيها أصواب هي أم خطأ لأن القراءة سنة متبعة، والقراءات السبع متواترة، غير أن ابن جرير إنما صوبها دون غيرها لأنها ملائمة لذوقه، كما عهدنا منه إنكار القراءات التي لا تروق له، وإن كانت متواترة، على أن قراءة حسنا (بالضم والسكون) هي التي قرأ بها الجمهور من السبعة وغيرهم، فلا معنى لتصويبه إحدى القراءتين دون الأخرى، وما ذكره من أن معنى الحسن العام غير مراد هنا مردود بأن من أساليب العرب في كلامهم التعبير عن الأخص بالأعم والعكس بحسب اقتضاء المقامات، وفي أمرهم بأن يقولوا حسنا ما لا يخفى من التأكيد على تحري الكلم الطيب في مخاطبة الناس وهو الذي يجمع محاسن القول كأنما احتوى الحسن بأكمله، وهذا كما يقال محمد عدل، والقصد به عادل لتأكيد وصفه بالعدالة حتى كأنها تمحضت في ذاته على أنه قد قيل بترادف الحسن والحسن، وقد ذكر ذلك ابن جرير نفسه.
وللمفسرين أقوال في الحسن الذي أمروا أن يقولوه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الأمر بلا إله إلا الله لمن لم يقولوها ورغبوا عنها حتى يقولوها كما قالوها، وعن الحسن أنه لين القول، وعن أبي العالية أنه القول المعروف، وعن ابن جريج أنه الصدق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وعن سفيان الثوري أنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقتصر عليه الإمام محمد عبده، ومثل هذا لا يعد خلافا في التأويل، وإنما هو خلاف في التمثيل، فإن حسن القول ينتظم جميع ما قالوه غير أن مراعاة الأحوال لا بد منها، فقد يحسن اللطف في حال وتحسن الشدة في حال، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مطالب بمعالجة الناس الناشزين عن الحق بما هو أجدى لهم وأنجع في ردهم إلى حظيرة الحق، فيتلطف بمن يفيده اللطف، ويشتد على من لا تردعه إلا الشدة، وكلا قوليه حسن يؤجر عليه.
وجملة: { وقولوا للناس حسنا.. } وما بعدها.. معطوفات على: { لا تعبدون إلا الله.. } وما وليها.. والمعطوف والمعطوف عليه كلاهما إنشائي وإنما اختلف الأسلوب للتفنن وإثارة الاهتمام.
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة سبق الحديث فيهما، وفي الآية دليل على أن الصلاة والزكاة مفروضتان على الأمم من قبلنا كما فرضتا علينا، ولا يلزم تشابه صلاتنا وصلاتهم، ولا زكاتنها وزكاتهم في جميع الأحوال، وإن اتفقت في أصل الفرض، وكان بعض أحبارهم يزعمون أن زكاتهم لا تدفع لفقرائهم، ولا ينتفع بها أحد من الناس، وإنما هي قرابين تأكل الناس ما تقبل منها، وقد تأثر بذلك جماعة من المفسرين فأثبتوه في تفاسيرهم وعزوه إلى بعض السلف، وليس بشيء فإنهم كانوا متعبدين بزكوات ينفقونها على طوائف منهم مخصوصين كما تفيده كتبهم المقدسة.
والتولي الإدبار عبر به عن ترك ما فرض عليهم، لأن من شأن المطيع أن يقبل على الآمر أو على الجهة التي يوجهه إليها بخلاف العاصي، فهو مجاز بالكناية والخطاب إما أن يكون لجميع بني إسرائيل من سلف منهم ومن خلف، وعليه فهو التفات حسنه أنهم بعدما حكى الميثاق المأخوذ عليهم بصورة الخطاب كانوا بمثابة الحضور، وإما أن يكون خاصا بالخلف الذين عاصروا نزول الآية، وعليه فخطابهم بما يجدر أن يخاطب به سلفهم الذي أخذ عليه الميثاق لأنهم امتداد لهم، ولأن الميثاق المأخوذ عليهم ليس خاصا بصدر أمتهم، وهذا كما امتن عليهم بتنجيتهم من آل فرعون، وقد كانت في واقعها لأسلافهم.
وقد حصل هذا التولي ممن سلف ومن خلف فإنهم جميعا لم يعبدوا الله حق عبادته، ولم يحسنوا إلى والديهم وذوي القربى واليتامى والمساكين، ولم يوفوا الصلاة حقها من الإقامة، ولم يؤدوا الزكاة كما شرعت إلا قليلا منهم وهم الذين قال الله فيهم:
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
[الأعراف: 159]، وهؤلاء لم يلبثوا أن آمنوا بدعوة الإسلام وصدقوا نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام عندما بلغتهم حجته وهم عبد الله بن سلام ومن معه.
والإعراض الصد، ويكنى به عن الإهمال فإن من شأن المكترث بالشيء أن يلتفت إليه بخلاف مهمله، فجملة: { وأنتم معرضون } حالية مؤكدة للمعنى الذي تفيده جملة: { توليتم } مع إفادة أنهم في توليهم لا يلوون على شيء ولا ينثنون عن ضلالهم، فقد يتولى أحد - أي ينصرف - عن شيء مع قصد العودة إليه، ولكن جملة الحال هنا تفيد انتفاء هذا القصد، بل انتفاء تراجعهم رأسا.
ومنشأ هذا التولي غرور خاصتهم وجهل عامتهم، فالخاصة غرتهم الأماني وغرهم بالله الغرور، فطمعوا في غفران خطاياهم، لأنهم من سلالات الأنبياء، ولأنهم أوتوا علم الكتاب فحرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وشرعوا لأنفسهم ولقومهم ما لم يأذن به الله، فهجروا الكتاب الذي أنزل إليهم، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم؛ والعامة تلقوا دينهم من أفواه الرجال - وهم الخاصة - ولم يرجعوا في فهمه إلى أصوله فقبلوا منهم تحليل الحرام وتحريم الحلال، وتعلقوا معهم بأذيال الأماني، فاقتادهم الهوى الى محارم الله، فكانوا سلفا ومثلا للذين يأتون من بعدهم، وهم ينهجون نهجهم في تعطيل أحكام الدين، اتباعا للشهوات، وتصامما عن الوعيد، كما هو الشأن في المغرورين من هذه الأمة بالأماني الباطلة يغدون ويروحون في معاصي الله، وهم جازمون بأنهم سيتبوأون في جنته منازل السعداء الأبرار، كأن مسامعهم لم تطرقها نذره، فلم يلتفتوا إلى قوله:
أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار
[ص: 28].
[2.84-85]
ما مضى كان بيانا للميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل في الواجبات العملية سواء ما كان منها حقا لله تعالى وحده أو حقا للعباد، وما هنا بيان للميثاق الذي أخذه عليهم في الواجبات التركية، وقد اختلف أسلوب البيانين، فأسلوب أولهما غيبي، وأسلوب آخرهما خطابي للتفنن وتعميم الفائدة والعبرة فيما مضى لاشتراك الأمم في تلك التكاليف، وقد مهد للعود إلى الأسلوب الخطابي المعهود في الآيات السوابق عند قصد بيان هتكهم الواجبات التركية بما اختتمت به الآية السابقة من الإلتفات إليهم بقوله: { ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } ، ومن فائدة هذا الانتقال بعث الشعور بالخطأ في نفوس المعاصرين منهم لنزول القرآن لأنهم المقصودون بالموعظة، وهم أجدر بالاعتبار بأحوال سالفيهم.
ولا داعي لتكرار القول في الميثاق، فهو كما تقدم. وقوله: { لا تسفكون } كقوله: { لا تعبدون } في وجوه الإعراب، والقول في سفك الدماء سبق في قصة آدم.
وإضافة الدماء إلى ضمير السافكين - مع كون المنهي عنه سفك بعضهم دماء بعض إذ الفطرة تزع كل أحد أن يسفك دمه بيده - لما في هذا التعبير من فائدة إشعارهم بوجوب وحدة أمتهم حتى تكون كالجسد الواحد يتألم كله بإصابة عضو منه حتى يحس من حدثته نفسه بأن يقتل أحدا من أمته أنه لا يسفك إلا دمه، والخسارة تعود إليه كما تعود على سائر أفراد الأمة، وكثيرا ما يرد خطاب أمتنا بهذا الأسلوب في القرآن في تضمنه لأمر كقوله تعالى:
فسلموا على أنفسكم
[النور: 61]، أو نهي كقوله:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
[البقرة: 188]، وهو خطاب تربوي يدفع بالمخاطب إلى الإحساس بأنه عضو من أمة يتألم لألمها ويسر بسرورها، ونحو قوله: { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } [البقرة: 84]، وإذا كان الرباط الذي يوحد الأمة الإسرائيلية نسبيا ودينيا لأنهم ينحدرون من سلالة واحدة، ومخاطبون بشريعة واحدة فإن الأمة الإسلامية التي شرفت برسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وجعل الله لحمتها العقيدة لا النسب أولى بالحفاظ على هذه الوحدة والإحساس بهذا الشعور فلا يتعرض أحد منها لأذى أي أحد من أفرادها، ولو وقع ذلك من أحدها فهو في حكم إيذاء نفسه وإيذاء أمته جميعا، وهو الذي عبر عنه القرآن بالأخوة في قوله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة
[الحجرات: 10]، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا "
وقوله:
" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
وقال:
" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "
ويعني بذلك سلامتهم من كل شر يصدر منه، وإنما اقتصر على ذكر اللسان واليد لأنهما مصدر أكثر الشرور.
وقيل المراد بقتل أنفسهم في الآية هو أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة سواء كان بسلاح أو سم أو ترد من شاهق فإنه معدود في الكبائر لثبوت النهي عنه، والوعيد عليه في الكتاب والسنة، فالله تعالى يقول:
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا
[النساء: 29 - 30]، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن نزل من جبل فقتل نفسه فهو ينزل في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ".
وقيل: المراد به أن يتعرض أحد لقتل نفسه بقتل غيره فإنه مظنة القصاص، وقيل هو التعرض لأسباب القتل كالزنا بعد الإحصان، والردة عن الإسلام، وقتل النفس المحرمة بغير الحق، وقيل: هو عبارة عن ارتكاب الموبقات والإصرار عليها لأنه يؤدي إلى هلاك النفس وفوات منفعتها في الآجلة، كما أن قتلها حسا يؤدي إلى هلاكها وفوات منفعتها في العاجلة.
والقول الأول هو الصحيح لأن ما عداه إن ساغ في: { تقتلون أنفسكم } فلا يسوغ في { تخرجون أنفسكم من دياركم } لتعين أن المراد به إخراج بعضهم بعضا من مساكنهم وهو صريح في قوله: { وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } ، وسياق الجملتين واحد، فلا وجه لحمل الأنفس في إحداهما على معنى وفي الأخرى على آخر، على أن القول الأول هو الذي يتفق مع النص الموجود في التوراة في الوصايا الإلهية المعبر عنها بالكلمات العشر، وهو: " لا تقتل، ولا تشته بيت قريبك ".
ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله: { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } للمعاصرين لنزول الآية لفظا ومعنى، لأنهم مقرون بتحمل أسلافهم العمل بهذا الميثاق، وأن يكون مرادا به أسلافهم المأخوذ منهم، وإنما خوطبوا هم به لاتحاد حكمهم ووحدة شريعتهم ما داموا على ملتهم، غير أنه يتعين أن يكون لهم الخطاب في قوله: { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } ، لأن ما عنفوا عليه كان واقعا فيهم كما سيأتي بيانه، وإن كان الخلاف بين بني اسرائيل بدأ منذ عهد بعيد عندما انشق يوربعام غلام سليمان عن رحبعام ابنه وخليفته من بعده، ومالأ أكثر الأسباط الغلام المنشق، كما تقدم إلا أن ما تشير إليه الآية كان واضحا جليا في سلوكهم عندما كانوا يشايعون طائفتي الأوس والخزرج في قتال بعضهم لبعض، فكانت فئة منهم عند الأوس، وفئة عند الخزرج يسفك بعضهم دم بعض، ويخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وإذا أسر أحدهم اجتمعت الفئتان المتقاتلتان على فكاكه من الأسر بفدية مالية يتعاون الكل عليها.
والخلاصة أن المدينة المنورة كانت بها قبيلتان عربيتان وهما الأوس والخزرج، وكانت بها ثلاث قبائل إسرائيلية وهي قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، فنجمت الفتنة بين القبيلتين العربيتين الشقيقتين واستعرت بينهما حرب زبون أكلت الأخضر واليابس، وشغلت الصغير والكبير، وكان لكل واحدة من القبيلتين أحلاف من اليهود يقاتلون بجانبها من يقاتلها من القبيلة الأخرى وأحلافهم، فيسفك بعضهم دم بعض، ويخرج بعضهم بعضا من ديارهم فإذا وقع أحد اليهود أسيرا في قبضة الأوس أو الخزرج اجتمعت طوائفهم المتقاتلة وتعاوت على فديته كما سبق.
وقد اضطرب المفسرون في من كان حليفا للأوس، ومن كان حليفا للخزرج من القبائل الإسرائيلية الثلاث، فذهبوا في ذلك مذاهب متعددة، أقربها إلى الصحة أن قريظة والنضير كانوا في صفوف الأوس، وأن بني قينقاع كانوا متحالفين مع الخزرج.
والإشارة بهؤلاء بعد خطابهم بأنتم ترمز الى أنهم - لهول ما ارتكبوا وفظاعة ما أحدثوا - تحولت ذواتهم إلى ذوات أخرى فحسنت الإشارة اليها وقيل: بأن أولاء موصول وتقتلون صلته وهو مبني على رأي الكوفيين في جواز إتيان الألفاظ المستخدمة في الإشارة أسماء موصولة وهو مقيد عند البصريين بلفظة واحدة وهي: ذا شريطة أن تكون مسبوقة ب " من " أو " ما " الاستفهاميتين؛ كقوله تعالى: { من ذا الذي يعصمكم من الله }.
وقول الشاعر:
وقصيدة تأتي الملوك غريبة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
واختلف في إعراب { أنتم هؤلاء تقتلون } والصحيح أن أنتم مبتدأ خبره الإشارة، وتقتلون حال منه، وذهب ابن كيسان إلى أن أولاء منصوب على الاختصاص، والخبر تقتلون ورد بأن النصب على الاختصاص مختص بأي نحو: نحن فعلنا كذا أيتها العصابة، والمعرف بأل كقولهم: نحن العرب أقرأ الناس للضيف، وبالاضافة كقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" نحن معاشر الأنبياء لا نورث "
وعطف هذه الجملة ب " ثم " الرتبية لتهويل مضمونها، وذلك أنه مما يستبعد عند أصحاب الفطر السليمة والعقول الراجحة صدور مثل هذا التصرف من قوم أوتوا حظا من الكتاب، وأخذت عليهم المواثيق بأن يعملوا بما فيه، وحذروا من المخالفة في الأمر الذي يرتكبونه؛ وعلى القول المختار فجملة " تقتلون " حال من المبتدأ.
وإخراج فريق منهم من ديارهم إلجاؤهم إلى الخروج في الحرب التي يشنونها عليهم مع حلفائهم من العرب.
وأصل " تظاهرون " تتظاهرون من التظاهر، وهو شد بعضهم ظهر بعض، أي تقوية بعضهم بعضا، وأسقطت إحدى التاءين كما هو الشأن إذا اجتمعت تاء المضارعة مع أخرى، وبهذا قرأ عاصم وحمزة والكسائي، وقرأ بقية السبعة تظاهرون - بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء - وروي عن مجاهد وقتادة أنها قرأ تظهرون - بتشديد الظاء والهاء مفتوحتين - وروي ذلك عن أبي عمرو، وروي عن أبي حيوة أنه قرأ تظاهرون - بضم تاء المضارعة وكسر الهاء - من ظاهر بمعنى أعان، وهي أدل على أنهم كانوا حال الإخراج يعينون على إخوانهم فئة ليست منهم، ومؤدى جميع هذه القراءات أنهم كانوا يتعاونون على إخراج فريق منهم من ديارهم سواء كان هذا التعاون بينهم أنفسهم أو مع قوم ليسوا منهم كما هو شأنهم في تأريخ حروب الأوس والخزرج، وجملة: " تظاهرون.
...الخ " منصوبة على الحال من فاعل: " تقتلون " و " تخرجون ".
والإثم ما أوجب العقوبة أو اللوم، ولذلك تنفر منه النفس، ولا يطمئن إليه القلب كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الإثم ما حاك في صدرك "
والعدوان تجاوز الحد في الظلم، مأخوذ من عدا.
والأساري جمع أسير، ويجمع أيضا على أسرى، وفي قراءة حمزة " أسرى تفدوهم " ، وقرأ نافع وعاصم والكسائي " أساري تفادوهم " ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير " أسارى تفدوهم " والأسير هو الواقع في قبضة عدوه في الحرب سمي بذلك لأنه يشد بالإسار غالبا، والإسار حبل يقد من الجلد ويسمى قدا، ولا فارق على الصحيح بين جمعه على أسارى أو على أسرى من حيث الدلالة وإن زعم بعضهم بأن الأسرى هم الذين لا يشدون بالوثاق بخلاف الأسارى، وكأن هؤلاء نظروا إلى أن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى، وهي قاعدة أغلبية وليست بمطردة، وزعم آخرون بأن الأسرى هم المستسلمون بأنفسهم والأسارى هم المأخوذون باليد من غير استسلام، ولا يبعد أن يكون أصحاب هذا القول ناظرين إلى تلك القاعدة أيضا، ولا دليل لأي واحد من القولين، وإنما الصحيح أن القياس في الأسير أن يجمع على أسرى كالمريض والمرضى، والقتيل والقتلى، والجريح والجرحى، وإنما حمل في جمعه على أسارى على كسلان، فجمع جمعه، كما يحمل كسلان على أسير فيجمع على كسلى مراعاة لتشابههما في الضعف، وقيل هو جمع نادر، كما يجمع قديم على قدامى من غير حمل على شيء، وقيل: الأسرى جمع أسير وأسارى جمع أسرى فهو جمع لجمع.
وقد علمتم أن قراءتي " تفدوهم " و " تفادوهم " قرأ بهما السبعة فهما قراءتان متواترتان، وقراءة " تفدوهم " واضح معناها أنه دفع قدر من المال للقابضين على يد الأسير من أجل فكاكه من الأسر، أما قراءة " تفادوهم " فتحتمل هذا المعنى، وعليه فالمفاعلة هنا ليست للمشاركة، وإنما هي لتأكيد المعنى الذي في أصلها المجرد نحو عافاه الله وبارك فيه، وتحتمل أن تكون على بابها من المشاركة، وعليه فتحمل على تبادل الأسرى بين الفريقين غير أن المحكي عن اليهود من تعاضد طوائفهم على فكاك أسراهم جميعا يويد الإحتمال الأول وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب } الخ.
فالقراءتان إذن متحدتان معنى وإن اختلفتا أداء على الصحيح، وليس المنعى عليهم أن يفكوا أساراهم فإن ذلك من وصايا التوراة التي ألزموها وإنما المنعى عليهم هذا التناقض العجيب في تصرفهم، فإن التوراة التي نصت على وجوب فك أسارى بني اسرائيل نصت كذلك على حرمة القتال بينهم، فراعوا جانبا منها وأهملوا جانبا، وكانت العرب في جاهليتهم يعيرونهم بذلك ويسألونهم عما يدعوهم إلى تعاونهم على فكاك الأسرى، فيجيبونهم إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، فيسألونهم: فلم تقاتلونهم؟ فيجيبونهم: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا.
وجملة: { وهو محرم عليكم إخراجهم } حال من فاعل تخرجون، والضمير المبتدأة به للشأن مبتدأ خبره الجملة بعده، والمحرم الممنوع ومادته موضوعه للمنع الشديد، واستعملها الشرع في ما كان منعه جازما، وفي إعراب مفردات هذه الجملة خلاف، قيل، محرم خبر مقدم وإخراج مبتدأ مؤخر، وقيل: محرم خبر عن الضمير وإخراج نائب فاعله لأنه اسم مفعول، وضعف بأن المفرد لا يكون خبرا لضمير الشأن، وقيل: " هو " ضمير مبهم وإخراج بيانه، وهو مردود بأنه لم يعهد مثله في بيان الضمائر المبهمة بخلاف نحو ربه رجلا إذ البيان فيه منصوب على التمييز.
وقد وبخهم الله على الجمع بين الإيمان والكفر وهما نقيضان، ذلك لأن امتثال المأمور به تجسيد للإيمان بالأمر والآمر بخلاف رفضه، لأنه إما أن يكون للاستخفاف بالآمر، أو لعدم التصديق بالامر، وكلاهما كفر ولا يستبعد كل منهما من اليهود بعدما تقرر عنهم من وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله، كقولهم:
إن الله فقير ونحن أغنيآء
[آل عمران: 181]، وقولهم:
يد الله مغلولة
[المائدة: 64]، ومجاهرتهم الأنبياء بالشك فيما جاؤوهم به عن الله، كقولهم:
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة: 55].
ويحتمل أن يكون الكفر هنا كفر نعمة، فإن ترك أي شيء من الواجبات الدينية الثابتة بالقطع، وارتكاب أي شيء من المنهيات القطعية - مع الاعتراف بالوجوب والنهي - هما كفر بنعمة الله، كما سبق تقريره، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير ما يحكى عنهم من جوابهم للذين يسألونهم عن هذا التناقض الذي يفيد اعترافهم بأنهم منهيون عن مقاتلة بعضهم لبعض ومطالبون بأن يفدوا أسراهم، ويدل على أنهم يدينون بهذا الحكم وإنما يأتون ما يأتونه انتهاكا بل يدل عليه دلالة صريحة قوله تعالى: { ثم أقررتم وأنتم تشهدون }.
وبما أن كثيرا من علماء المذاهب الإسلامية لا يقولون بكفر النعمة حاروا في تفسير الآية حتى أفضت الحيرة ببعضهم إلى القول بأن المراد بكونهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض إيمانهم بموسى وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد أبعد هذا القائل النجعة، وهرب من الواضح الى المشكل، فإن المقام ليس مقام حديث عن نبوة موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وإنما هو مقام ذكر ميثاق اخذ عليهم فوفوا ببعضه ونقضوا بعضه، والقول بأن إطلاق الكفر على صنيعهم لأنهم يعتقدون حله مردود بما ذكرته قبل قليل.
وقال الإمام محمد عبده في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على ما سبق بيانه في معنى قوله تعالى: { وأحاطت به خطيئته } ، فالقرآن يصرح هنا وفي آيات كثيرة بأن من يقدم على الذنب لا تضطرب نفسه قبل إصابته، ولا يتألم ويندم بعد وقوعه فيرجع إلى الله تعالى تائبا، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله تعالى عنه، وتحريمه له فهو كافر به لأن المؤمن بأن هذا شيء حرمه الله تعالى المصدق بأنه من أسباب سخطه وموجبات عقوبته لا يمكن أن لا يكون لإيمان قلبه أثر في نفسه فإن من الضروريات أن لكل اعتقاد أثرا في النفس، ولكل أثر في النفس تأثيرا في الأعمال، وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة الناطقة بأنه
" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن ".
وروى ابن جرير عن قتادة وابن جريج أن فداءهم إيمان وإخراجهم كفر، وهو يؤكد ما قلته بأن المراد بالكفر هنا كفر النعمة.
وما في الآية من إنكار ووعيد على الآخذ ببعض تعاليم الكتاب وترك بعض، واعتبار ذلك جمعا بين الإيمان والكفر - وهما ضدان - ليس خاصا ببني اسرائيل بل هو شامل لهذه الأمة عندما تأخذ ببعض تعاليم القرآن وتترك بعضا مع قوة حجته، وظهور معجزته، ونصوع برهانه، وكونه منبعا لكل خير ومطلعا لكل هداية، وهو معنى ما حكاه ابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " إن بني اسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث ".
والهمزة في { أفتؤمنون } للإنكار وليس المنكر إيمانهم وإن دخلت الهمزة على فعله وإنما هو الجمع بينه وبين الكفر مع أن الإيمان لا يعتد به إلا إذا خلص من جميع شوائب الكفر كالماء إذا خالطته النجاسة فكدرت لونه وغيرت ريحه وطعمه.
والخزي هو اقصى منازل الهوان، واختلف في المراد به في الآية، قيل: هو أخذ الجزية عليهم مع ما يصحبها من الذل والصغار، وقيل: قتل قريظة وجلاء بني النضير، والصحيح أن الخزي أعم معنى من كل ما قالوه، فما من هوان يصيبهم بما شرع الله فيهم من حكم أو بما أمضاه عليهم من قدر إلا وهو داخل في مدلول الخزي، وإن من أخزى الخزي أنهم بقوا طيلة القرون الماضية مشتتين في أصقاع الأرض يعانون أقسى المعاملات، ويكابدون شدائد الحياة لا ترق لهم الأفئدة ولا تعطف عليهم النفوس، ليست لهم جنسية تجمعهم، ولا وطن يأويهم، ولا لغة تربطهم.
وأشد العذاب هو الخلود في النار، وأشديته بالقياس إلى ما أصابهم في الدنيا، وإلا فالملاحدة والمشركون الذين جحدوا جميع رسالات الله هم أشد منهم عذابا في الآخرة.
وليست جدارتهم بهذا الوعيد راجعة إلى عنصرهم، بل هي راجعة إلى صنيعهم وإلا فقد خرج من عنصرهم أنبياء اصطفاهم الله لحمل رسالته، واختارهم لأداء أمانته، وفضلهم على العالمين بما اختصهم به، وفي ذلك عبرة لغيرهم، وتذكير لأمة القرآن الذي اشتمل على وعيدهم وبيان عاقبتهم ولكن هل من مدكر، فقد حذت هذه الأمة حذوهم فاصابهم ما أصابهم من الهوان، بل صيرهم الله تعالى عقوبة لهذه الأمة فجمع أوزاعهم ولم شتاتهم بعد أن كانوا متفرقين في أرجاء الأرض لا لأنهم أقلعوا عن غيهم، وتابوا إلى ربهم، ولكن ليكونوا بلاء على هذه الأمة، وتلك سنة في خلقه:
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون
[الأنعام: 129]، ولا مخلص من هذا البلاء، ولا منجاة من هذا العذاب إلا الأخذ بحجز أوامر الله، والاعتصام بحبله المتين، واتباع صراطه المستقيم.
وقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون } تحذير إثر الوعيد السابق بأن المتوعد عليم بكل شيء فلا تعزب عنه أعمال الذين توعدوا، وفي " تعملون " قراءتان، بالياء وهي قراءة نافع وابن كثير، وبالتاء وهي قراءة الباقين من العشرة، فالأولى روعيت فيها الغيبة التي في قوله: { من يفعل ذلك منكم } وقوله: { ويوم القيامة يردون } والثانية روعي فيها الخطاب الذي في أصل السياق، وقيل: باحتمال أن يكون الخطاب فيها موجها إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما سلفت روايته عن عمر رضي الله عنه.
[2.86]
في الآية نداء عليهم بسوء تفكيرهم في مصالحهم، فقد رضوا أن تكون سعادة الآخرة مع خلودها ثمنا لمصالح دنيوية يسعون إليها، وهي مصالح وهمية لا تكاد تدرك حتى تفوت ولا تحرز حتى تتلاشى، فإن تقاتلهم لم يدفعوا إليهم إلا حب المصلحة العاجلة وإيثار حظوظ النفس الفارغة على واجبات الدين فقد كان الذين يقاتلون بجانب الأوس لا يراعون الا المصالح المشتركة بينهم وبين الأوس فيؤثرونها على الحقوق التي فرضها الله عليهم لإخوانهم في الدين والنسب، وهكذا شأن الذين يقاتلون مع الخزرج، فما أضل سعيهم! وأسوأ تدبيرهم! وأحقهم بوعيد الله لهم أن لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة - والنص على عدم تخفيفه أدل على عدم رفعه - وأنهم لا ينصرون بدفاع مدافع أو شفاعة شافع.
[2.87]
هذا انتقال من مواجهة بني إسرائيل بالإنكار عليهم لما كان منهم من نقض الميثاق وتبديل أوامر الله إلى مواجهتهم بإنكار ما هو أفظع من ذلك، وهو مقابلة الرسل الذين بعثهم الله منهم وفيهم وإليهم بأنواع التحديات من بينها قتل بعضهم مع أن بعث الرسل داعية الارعواء عن الغي، والإقلاع عن الإثم، وسلوك المنهج السوي، وقد سبق ذكر إيتاء موسى الكتاب في صدر قصتهم في السورة، وإنما أعيد هنا مؤكدا بقد التحقيقية المقرونة بلام القسم ليكون توطئة لذكر المرسلين الذين جاءوا من بعده لتأكيد التمسك بالتوراة، واتباع شريعتها، والرجوع إلى حكمها، فإن جميع أنبياء بني اسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام ما جاءوا بشريعة مستقلة، ولا بكتاب جديد، وإنما جاؤوا مؤكدين شريعة موسى، ومبينين معاني التوراة التي عزت عن أفهامهم لتقادم العهد، أو لتراكم الجهل، والإهمال الذي ينشأ عنه تلاشي نسخ التوراة حتى تجدد نزولها ثانية على أحد أولئك الرسل وهو عزير عليه السلام، وهذا لا ينافي إيتاء داود عليه السلام الزبور، فإن الزبور ليس كتاب شريعة وإنما هو كتاب موعظة.
والتقفية جعل أحد قافيا غيره أي تابعا له في جهة قفاه وهي مؤخرة العنق، يقال قفاه يقفوه قفوا وقفوا، فإذا أريدت تعديته إلى مفعولين ضعف كما في الآية نحو قفى زيد عمرا خالدا أي جعله قفاه، ويطلق على مجرد الاتباع حتى فيما ليست له قفا حقيقة نحو قوله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم } والمراد في الآية إرسال الرسل إثر موسى عليه السلام لتكون دعوتهم امتدادا لدعوته، ورسالتهم استمرارا لرسالته، وسماهم رسلا وإن لم يأتوا برسالة جديدة لأنهم مطالبون بالإبلاغ، فلم يكن ما يوحى إليهم خاصا بهم فحسب حتى يحصروا في صفة النبوة، ولأن بيان ما خفى من مقاصد التوراة لقومهم، وتقويم نصوصها المحرفة في حكم رسالة جديدة جاءوا بها.
وعيس تعريب ليشوع أو يسوع قلبت حروفه في تعريبه تجنبا للثقل الناشئ عن ترتيب حروفه، فإن الشين ذاتها ثقيلة وقد توسطت حرفي علة واختتمت حروفه بالعين وهي من حروف الحلق, وبإهمال الشين وتقديم العين خف النطق به، ولم يعسر معه التنفس، وقد ساعد على ذلك حركات الحروف في ترتيبها المعرب، ومعناه بالعبرانية السيد أو المبارك.
وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، وقد كانت ولادته في عهد الإمبراطور الروماني أغسطس وكان ممثله في حكم الأرض المقدسة هيرودس، وولد بقرية تسمى بيت لحم.
ومريم أمه، وهو اسم أعجمي ليس له اشتقاق عربي، وما شاع من أن مريم وصف للمرأة المتباعدة عن محادثة النساء أو أنها التي تأنس بالرجال، كقول رؤبة:
قلت لزير لم تزره مريمه
....................
فهو ناشئ عن اصطلاح متنصرة العرب، ولعلهم أخذوا ذلك من كون مريم عليها السلام نذرتها أمها لله - أي لخدمة بيته المقدس - عندما كانت جنينا في رحمها، وهي صفة تختص بالرجال، وستأتي قصتها إن شاء الله في سورة آل عمران.
وقد كانت رسالة عيسى عليه السلام عندما بلغ من العمر ثلاثين عاما - على ما قيل - ورفعه الله إليه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
ورسالة عيسى عليه السلام في عمومها مقررة لما جاءت به رسالة موسى عقيدة وشريعة ما عدا بعض النواسخ المشار إليها بقوله تعالى:
ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم
[آل عمران: 50]، فإن بني إسرائيل بكفرهم حرمت عليهم طيبات من المطعومات تأديبا لهم وعقوبة، وقد كان هذا التحريم موقوتا رفع في شريعة عيسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه.
والبينات التي أوتيها هي المذكورة في سورتي آل عمران والمائدة، وهي خلقه من الطين صورا للطير تنقلب طيورا بنفخة فيها، وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى، وإخباره بما يؤكل وما يدخر في البيوت، وقيل: هي الإنجيل لأنه بيان للناس وبلاغ، وتأييده بروح القدس قرنه بجبريل، فإن الله سماه روحا في قوله:
نزل به الروح الأمين
[الشعراء: 193]، وقوله:
تنزل الملائكة والروح فيها
[القدر: 4]، وإضافته إلى القدس من باب إضافة الموصوف إلى مصدر صفته، كإضافة محمد إلى الصدق في قولك محمد الصدق بمعنى الصادق، أي الروح المقدس، والتقديس التطهير كما سبق، وقيل المراد به روح الله، وعليه فتسمية الله جبريل روحا وإضافته إليه لما أودع فيه من سره الغيبي الأقدس الذي لا يحيط به علم ما مكنه من الاتيان بما لا يقوى عليه أحد من خلق الله، وقيل: المراد بروح القدس روح عيسى عليه السلام نفسه التي قدسها الله باصطفاء صاحبها لما اصطفاه له، وقيل: الإنجيل، وتسميته روحا كتسمية القرآن بذلك في قوله تعالى:
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا
[الشورى: 52]، وأرجح هذه الأقوال أولها، وما يعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان:
" اهجهم وروح القدس معك "
وفي رواية:
" وجبريل معك "
ومما قاله حسان:
وجبريل رسول الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء
والهمزة في قوله: { أفكلما جآءكم رسول... } الخ، للاستفهام المنقول إلى التوبيخ والتقريع، وذلك أنهم جعلوا ما جاءت به الرسل تبعا لهوى أنفسهم، فما وافق هواهم قبلوه، وما خالفه رفضوه مع أن النفس لا تدعو غالبا إلا إلى السوء والشر والمفسدة، والإيمان يقتضي إخضاع هواها لما جاءت به رسل الله من الحق، وليس بعد الوحي برهان ولا حكم.
والهوى مصدر هوى يهوى بمعنى أحب، ويغلب في الشر، ويندر في الخير كقول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أرى ربك إلا يسارع في هواك ".
والاستكبار والتكبر بمعنى واحد، وهو إظهار الكبر على الغير، والاستكبار أدل على التكلف في محاولة إظهار ذلك ولذلك يوصف الله تعالى بالتكبر دون الاستكبار لأن الكبرياء صفة لا تليق بغيره، ولا تكون إلا في ذاته، وإنما غاية ما يكون في الغير إدعاؤها فحسب، والمراد به في الآية أنهم يشمخون بأنوفهم كلما جاءهم رسول منهم بما يخالف ما تطبعوا به من الفساد وتخلقوا به من الرذائل فيقابلون أولئك المرسلين إما بالتكذيب وإما بالقتل.
والتعبير عن القتل بصيغة المضارعة الدالة على الحضور لأجل تبشيعه وتهويل أمره عند السامعين، وذلك بتصويره بصورة الأمر الواقع حال الخطاب وإحضاره للنفوس بكل ما فيه من بشاعة، وفظاعة يحس بهما من شاهد ارتكابه (وليس الخبر كالعيان).
وقيل عبر عنه بالمضارعة للإشعار بأنهم في حكم من استمر عليه، فإنهم ما كانوا يتورعون عن مثله إبان نزول الآية، فكم حاولوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن عصمه الله منهم وقد سمته إحدى نسائهم في أكلة أهدتها إليه بخيبر، وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام:
" ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا زمان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم "
والقول الأول أصح وأبين، فإن استمرارهم على التكذيب المعبر عنه بصيغة المضي أبين وأدخل في الواقع من القتل.
وقد سبق القول في قتلهم الأنبياء كما سبقت التفرقة بين الرسول والنبي عن من يفرق بينهما، وبقى مما ينبغي التنبيه عليه أن الرسول بمعنى المرسل - بفتح السين - وهو فعول بمعنى مفعول، ونحوه نادر كالحلوب والركوب.
[2.88-89]
انتقل الكلام من خطاب بني إسرائيل بتقريعهم على ما ارتكبوا، وتوبيخهم على ما ضيعوا، إلى التحدث عنهم حديث الغائب عن الغائب مع سرد مجموعة أخرى من أعمالهم المنكرة، وأحوالهم العجيبة، والانتقال من الخطاب إلى الغيبة ضرب من ضروب الالتفات الذي سبق الكلام فيه كضده، ونكتته هنا أن الخطاب لا يخلو عادة من تكريم المخاطب، والعناية به، ومن حيث إنهم وقعوا فيما وقعوا فيه من ذل المعصية وهوان الخذلان، كانوا بمنأى عن استحقاق العناية بهم واستئهال الالتفات إليهم، فكان الحديث عنهم حريا بأن يوجه إلى غيرهم للاعتبار بأحوالهم، والاتعاظ بما حاق بهم، فهو مشعر بطردهم من ساحات التكريم، والالقاء بهم في زوايا الإهمال.
وضم العلامة ابن عاشور إلى هذه النكتة نكتة أخرى، وهي أن مواجهتهم بالخطاب كانت حال تذكيرهم بما سلف منهم مع الأنبياء الذين بعثوا إليهم خاصة من بين جلدتهم، وعندما جاء دور تقريعهم على سوء مواجهتهم لدعوة النبي الأمي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام الذي يجدونه مكتوبا عندهم فيما جاء به أنبياؤهم عن الله أجرى الخطاب بأسلوب الغيبة للإيذان بالانتقال من أمر إلى آخر.
وجوز الألوسي وابن عاشور عطف جملة: { قالوا قلوبنا غلف } على كل من { استكبرتم } أو { كذبتم }؛ قال ابن عاشور: " فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار، أي يكون على تقدير عطفه على كذبتم من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع، تكذيب، وتقتيل، وإعراض ". وأشار الألوسي إلى مثل ما قاله، والصحيح عندي خلاف ما قالاه؛ فإن ما ذكر قبل هذه الآية إنما هو من أحوالهم الغابرة في سلسلة جرائرهم وتحدياتهم للنبيين الذين أرسلوا إليهم من قبل، أما هذه الآية والآيات الثلاث بعدها فهي تتحدث عن أحوالهم الحاضرة عندما كانوا يواجهون دعوة النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه بأنواع المؤامرات، ويرمونها بقذائف التشكيك، وكما أنه لا يجوز جعل قوله تعالى: { لما جآءهم كتاب من عند الله... } الآية وقوله: { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } المعطوفين على قوله: { قالوا قلوبنا غلف } بيانا للاستكبار المذكور في الآية السابقة، للتفاوت في الأزمان فإنه من غير الجائز أيضا أن يكون قوله: { قالوا قلوبنا غلف } بيانا له، فإن العطف يقتضي تشريك المعطوف مع المعطوف عليه في الحكم الذي ذكر له، سواء كان عطف مفرد على مفرد أو جملة على جملة، وإنما الوجه في ذلك أن هذه الآية وما بعدها من الآيات الثلاث معطوفة على: { ولقد آتينا موسى الكتاب } عطف القصة على القصة.
والمراد بالقلوب هنا العقول كما سبق، والغلف جمع أغلف، وهو الذي غلف بالغلاف الشديد بحيث يقيه نفاذ أي شيء إليه، ومرادهم بهذا القول أن ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من تأثير دعوته في نفوسهم، ولا يبعد أن يكونوا مشيرين بذلك إلى أن هذه الدعوة خطر يتوقونه، فإن من شأن الغلاف أن يصان فيه الشيء الثمين مما يكره أن يصل إليه من الأذى فيتلفه أو يفسده، ومثل ذلك قول المشركين:
قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه
[فصلت: 5].
وقرأ ابن عباس والأعمش وابن محيصن " غلف " - بضم اللام - ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو من القراء السبعة، وعليها فهو جمع غلاف ككتاب وكتب، وحمل بعضهم قراءة الجمهور على هذا المعنى، وعد التسكين للتخفيف، وبناء على ذلك يكون مرادهم أن قلوبهم أوعية يختزن فيها العلم، فلا حاجة لهم - مع ما حوته - إلى ما يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبينه لهم، أو أنهم ما كان ليفوت مداركهم ما يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لو كان حقا، وفي هذا إيماء إلى تكذيبه عليه أفضل الصلاة والسلام بالأسلوب الكنائي.
وعلى جميع هذه الوجوه فقوله: { بل لعنهم الله بكفرهم } رد على دعواهم، أما على القول الأول - وهو الصحيح - فمقتضى الرد عليهم أن قلوبهم كسائر القلوب من حيث تكوينها الخلقي فهي متمكنة - لو أرادوا - من فهم الحق، إذ لا حائل بينها وبينه، وإنما صدها عنه إخلادها إلى الكفر الذي استوجبت من أجله لعنة الله أي طردها من رحمته وحرمانها من توفيقه، ونحوه قوله في سورة النساء:
وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
[النساء: 155].
وأما على الوجهين الأخيرين فحاصل الرد أن استنكافهم من الإيمان بما جاء به النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وأنفتهم من اتباعه فيما يدعوهم إليه من الحق ليس لاستغنائهم بما عندهم من العلم أو لعدم كون ما يدعون إليه حقا صريحا ولكن لأجل ما حاق بهم من اللعن.
واللعن هو الطرد - كما سبق - وهو دال على البعد، كما يقال شأو لعين أي بعيد، ومنه قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه
مقام الذئب كالرجل اللعين
وذلك أن الطريد عن الشيء مبعد عنه.
وقوله: { فقليلا ما يؤمنون } مرتبط بما قبله برباط السببية الذي تؤذن به الفاء وذلك أن لعنهم بكفرهم كان سببا في استمرارهم على الكفر وعدم تقبل نفوسهم للإيمان إلا إيمانا جزئيا لا وزن له في كفة الاعتقاد وهو الموصوف بالقلة هنا والمراد به إيمانهم بوجود الله سبحانه، وإنما كان هذا الإيمان قليلا غير معتد به؛ لأنه شيب صفاؤه بأكدار التشبيه والتجسيم ، ووصفه تعالى بصفات النقص، وهدم بكفرهم بسائر أركان الإيمان، والإيمان لا يعتد به إلا اذا كان متكاملا فإذا انهد بعضه انتقض كله وهم قد كفروا بالنبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام كما كفروا قبله بالمسيح عليه السلام وبغيره من النبيين الذين بعثوا مؤيدين لرسالة موسى عليه السلام ومؤكدين وجوب الحفاظ على التوراة والعمل بها وقد أفضت مكابرتهم لهم إلى قتلهم لبعضهم، وقد كفروا باليوم الآخر؛ إذ لم يؤمنوا به على حقيقته فكان تصديقهم بوجود الله سبحانه - مع ذلك - كعدمه.
و " قليلا " صفة لموصوف يقتضيه المقام؛ أي فإيمانا قليلا.
وقلة الإيمان بقلة ما يتعلق به، ذلك لأنهم كفروا بأغلب ما يجب أن يؤمن به فكان جديرا إيمانهم بوصف القلة.
وذهب قتادة إلى أن القلة هنا وصف لمن آمن منهم فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال: فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، وإنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير، وروى عنه أيضا أنه قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
وتعقبه ابن جرير بأن انتصاب " قليلا " قاض بأنه صفة لمصدر يدل عليه فعله وهو: يؤمنون، قال: ومعناه بل لعنهم الله بكفرهم فإيمانا قليلا ما يؤمنون فقد تبين إذن بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك؛ لأن معنى ذلك لو كان على ما روي من أنه يعني به فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل منهم من يؤمن، لكان القليل مرفوعا لا منصوبا، لأنه إذا كان ذلك تأويله كان القليل حينئذ مرافعا " ما " ، وإن نصب القليل، " وما " في معنى " من " أو " الذي " بقيت ما لا مرافع لها وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب.
وحاصل كلامه أنه يلزمه على مذهب قتادة أن تكون " ما " بمعنى من الموصولة، و " يؤمنون " صلتها، وهي مبتدأ خبره " قليل " مقدم عليه فيتعين رفعه، وحكى المهدوي اعتراض ابن جرير على قتادة عن النحويين؛ نقل ذلك عنه أبو حيان، وتعقبه بقوله: " قول قتادة صحيح, ولا يلزم ما ذكره النحويون لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه، ولم يرد شرح الإعراب فيلزمه ذلك، وإنما انتصاب (قليلا) عنده على الحال من الضمير في (يؤمنون)، والمعنى عنده فيؤمنون قوما قليلا، أي في حالة قلة ".
ويفهم من كلام العلامة السيد محمد رشيد رضا أنه يجنح إلى هذا القول فإنه بعد ذكره لقول الإمام محمد عبده المتفق مع قول الجمهور أورد هذا الرأي وأتبعه بقوله: " والاستدراك على هذا الوجه أظهر، فإنه لما بين أن كفرهم المستمر، وعصيانهم المستمر كانا سببا في لعنهم وإبعادهم، كان للوهم أن يذهب إلى أنهم قوم قد سجل عليهم الشقاء، وعمهم حتى لا مطمع في إيمان أحد منهم، فجاء قوله تعالى: { فقليلا ما يؤمنون } يبين أن هذا الوهم لا يصح أن ينطلق على إطلاقه وأن تأثير ما ذكر في مجموع الشعب لم يستغرق أفراده استغراقا وإنما غمر الأكثرين، ويرجى أن ينجو منه النفر القليل وكذلك كان ".
وأتبع هذا قوله: " وفيه من دقة القرآن في الصدق، وتحديد الحق ما لا يعهد في كلام الناس ".
و " ما " الداخلة على " قليلا " فائدتها تأكيد عموم القلة، فهي كأختها في قوله تعالى: { مثلا ما } وقد سبق بيانها، وهذا كما تأتي لتفخيم الشيء في نحو قوله تعالى:
فبما رحمة من الله لنت لهم
[آل عمران: 159]، أي فبسبب رحمة عظيمة الشأن خصك الله بها لنت لهم على ما لقيت منهم، وقد بين تعالى هذه الرحمة بقوله في وصفه صلى الله عليه وسلم:
بالمؤمنين رءوف رحيم
[التوبة: 128]، وقوله:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107].
وتجرأ جماعة من أهل العربية والمفسرين فسموها زائدة في الموضعين، وهو لا يليق بجلاله القرآن، كما أوضحه الإمام محمد عبده، ونقل ابن جرير إنكار زيادتها عن جماعة، واستصوب هذا الإنكار لذات السبب الذي ذكرته، وقد تكرر بيان مثل هذا في هذا التفسير.
وجوز جماعة منهم الزمخشري وابن عاشور أن تكون القلة هنا مستعملة في معنى العدم على حد قول أبي كبير الهذلي:
قليل التشكي للمهم يصيبه
كثير الهوى شتى النوى والمسالك
وكما قال بعضهم في أرض نصيبين " كثيرة العقارب قليلة الأقارب " وأراد عديمة الأقارب، ويقال فلان قليل الحياء وقليل الأدب مرادا به عدمهما، وهو إما أن يكون من باب المجاز للشبه بين القلة والعدم، أو من باب الكناية لصيرورة ما يقل إلى الاضمحلال، وهو من باب إطلاق اسم الملزوم وإرادة لازمه؛ هكذا حرر المسألة الإمام ابن عاشور في تحريره وتنويره.
ويتجه لي وجه ثالث وهو أنه مجاز مرسل علاقته السببية فإن القلة سبب للإنعدام.
ولم ير أبو حيان جواز حمل القلة على العدم في مثل هذا التركيب لإنتصاب قليلا بفعل مثبت وهو " يؤمنون " مع أن مثله لا يكون إلا في مقام النفي، وقد أتى عقب كلامه ما ينقضه حيث قال: " وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم أقل رجل يقول ذلك، وقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد، وقليل من الرجال يقول ذلك، وقليلة من النساء تقول ذلك ".
فإن هذه الأمثلة كلها مسوق مساق الإثبات مع قصد النفي كما في الآية.
وربط الإمام محمد عبده بين قوله تعالى: { فقليلا ما يؤمنون... } وقوله بعده: { ولما جآءهم كتاب... } الخ، وذلك أن جعل الواو في الثاني للحال، ومعنى ذلك أن إيمانهم كان قليلا حال كونهم كانوا ينتظرون نبيا وكتابا مصدقا لما معهم، وكانوا يستفتحون به على المشركين، فكيف لا يكون قليلا أو أقل بعد ما جاء ما كانوا ينتظرون، وعرفوا أنه الحق ثم كفروا.
وذهب الإمام ابن عاشور، إلى أن الواو عاطفة، والمعطوف عليه " قلوبنا غلف " لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ، فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضا مجردا من الأدلة لكان في اعراضهم معذرة ما، ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم، والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين " وهو أبين.
سلوك يهود المدينة ومشركي العرب
ولا خلاف أن هذه الآية نزلت في بيان ما كانت عليه يهود المدينة أيام الجاهلية مع جيرانهم العرب المشركين، وذلك أن اليهود بما كان عندهم من علم النبوات كانت عندهم بشارة جلية مما يتلونه في الكتاب بمبعث خاتم النبيين، وكانوا على علم بأن هجرته ستكون إلى أرض المدينة - يثرب قديما - فآثرت طائفة منهم الهجرة إليها فرارا من اضطهاد دولة الروم التي كانت تسيطر على بلاد الشام المقدسة لما كانوا يطمعون فيه من وجدانهم الملجأ الرحب في أكنافه ووصولهم الى مراقي العز والشرف والسؤدد بالتفافهم حوله، ونصرتهم إياه، وكانت هذه الأخبار تتسلسل في أجيالهم المتوالدة، وكانوا لا يكتمونها عن العرب الأميين، وخصوصا عندما يمنون بالهزائم في حروبهم معهم، فكانوا ينذرونهم بإظلال زمن نبي يقتلونهم معه قتل إرم وعاد، وقد فات هؤلاء اليهود أن النبي لن يكون من ولد إسرائيل كما كانوا يطمعون بسبب كون ولد إسرائيل عنصر النبوة منذ وجدوا، وعندما ظهر من ذرية إسماعيل حنقوا واستبد بهم الحسد فكفروا به مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بأنه النبي المنتظر الذي كانوا يستفتحون به على أعدائهم من العرب، وقد اقتضت مشيئة الله أن يسوق هذا الخير، ويخص بهذه المرحمة أولئك العرب الذين كانوا من قبل على جاهلية جهلاء، لا يعرفون مبدأ ولا معادا، ولس لديهم ما يستبصرون به من كتاب أو علم.
وهو معنى ما رواه ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي في دلائلهما من طريق عاصم بن عمر وبن قتادة الأنصاري عن أشياخ من الأنصار قالوا فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة، كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية ونحن أهل الشرك وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه يقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه كفروا به.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ ابن جبل وبشر بن البراء بن معروف أخو بني سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله جل ثناؤه الآية، وروى ذلك عن ابن عباس بأسانيد متعددة، وألفاظ مختلفة، وروى البيهقي في الدلائل عنه وعن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم، قالوا كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا في التوراة فيسألون الله أن يبعثه نبيا فيقاتلون معه العرب فلما جاءهم محمد كفروا به حينما لم يكن من بني إسرائيل.
والقول بذلك مستفيض عن أئمة التفسير من التابعين فمن بعدهم.
والكتاب هو القرآن، وتصديقه لما معهم تقريره لما أنزل الله تعالى على أنبيائهم من التوراة والإنجيل، وما اشتملا عليه من توحيد الله عز وجل، ووجوب إخلاص العبادة له وتنزيهه عما لا يليق به من صفات خلقه، أو أن تصديقه لهما تحقق ما فيهما من البشارة بالنبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام لإنزاله عليه كتابا ساطعا برهانه، شاملا بيانه، دامغة حجته، واضحة معجزته، وفي هذا الوصف مالا يخفى من تقريعهم، والتسجيل عليهم بالعناد والمكابرة.
والاستفتاح طلب الفتح كالاستنصار والاستنجاد، وفسروه بما سبق ذكره من تطلعهم إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لتظلهم رايته وتكون نصرتهم على يديه، وقيل: هو فتحهم على الذين كفروا معرفة هذا النبي بما كانوا يتحدثون به من وصفه عندما يلقون منهم من الأذى فكان من مشيئة الله أن سبقوهم إليه وآمنوا به دونهم؛ وعليه فالإستفتاح هنا بمعنى الفتح، وصيغة الاستفعال للمبالغة.
وتكرر " لما " لطول الفاصل بينها وبين جوابها كما تكررت أن مع اسمها في قوله تعالى:
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون
[المؤمنون: 35]، وكما تكرر " لا تحسبن " ، في قوله تعالى:
لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب
[آل عمران: 188] لذات السبب نفسه.
وهذا أولى من القول بأن جواب الأولى محذوف تقديره كذبوا به مثلا، كما ذهب إليه الزمخشري، واختاره من قبله الزجاج والأخفش، والقول بأن الثانية مع جوابها جواب الأولى كقوله تعالى:
فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم
[البقرة: 38] كما قاله الفراء لاختلاف هذا عن ذلك فإن " لما " أعيدت هنا نفسها بخلاف أداتي الشرط في الآية المستشهد بها فإنهما مختلفتان، وقول غيرهم بتنازع " لما " الأولى والثانية للجواب.
وجملة { كانوا من قبل يستفتحون } حالية على الصحيح لأن الكتاب جاءهم، والاستئناس بإظلال زمن النبي المنتظر قد استولى على أفكارهم رجاء إخراجه إياهم من المأزق الذي هم فيه، وجوز أبو حيان أن تكون معطفة على (جاءهم) فيكون جواب (لما) مرتبا على المجيء والكون، وعلى الأول فترتبه على المجىء مع القيدية التي تفيدها الحال.
وفي قوله تعالى: { فلعنة الله على الكافرين } بعد جواب الشرط ب (كفروا) مع الربط بينها بفاء السببية تنصيص على استحقاقهم اللعن بسبب كفرهم وتعميم لهذا الحكم على جميع الكافرين، وإنما دخول المعنيين فيه دخول أولى لأنه من المعلوم أن الحكم الوارد بسبب خاص - وهو عام لفظا يشمل ما دل عليه السبب نصا وغيره ظاهرا، ولأجل ما تقدم جاءت هذه العبارة بدلا من: فلعنة الله عليهم.
وشمول (الكافرين) لغيرهم مبني على أن التعريف للإستغراق، وهو أولى من جعله للعهد، والمعهود هم الذين كفروا بخاتم النبيين بعد استفتاحهم به.
[2.90]
الكلام مستأنف لتسجيل مذمتهم مقرونة ببرهانها وذلك أنهم إنما استحقوا هذا الذم بإيثارهم الباطل على الحق واختيارهم الكفر على الإيمان، لا لإلتباس حاصل أو شك في حقيقة الحق، ولكن لإيثار هوى النفوس على مصالحها الباقية، والبغي الذي لا يؤدي إلا إلى محاولة تشويه الحقيقة الناصعة وطمس الحق المبين.
و(بئس) فعل من الأفعال الجامدة كأختها نعم، فهما لا تتصرفان الى مضارع ولا أمر ولا مصدر ولا اسم فاعل، ولا اسم مفعول، ولا صفة مشبهة، وإنما يفرق بينهما المعنى، فهذه تدل على الذم، وتلك على المدح، وكما تشتركان في الجمود تشتركان كذلك في العديد من الأحكام، منها: رفعهما الفاعل، وافتقارهما الى مخصوص بالمدح أو الذم، إما منطوق به، وإما مفهوم من المقام، وفاعلهما لا يكون إلا معرفة سواء كان مظهرا نحو نعم الرجل أبو بكر وبئس الرجل أبو جهل فالرجل في المثالين فاعل، وأبو بكر مخصوص بالمدح، وأبو جهل مخصوص بالذم أم كان مضمرا تفسره نكرة تلي الفعل منصوبة على التمييز نحو بئس رجلا أبو لهب فإن الفاعل في المثال ضمير مستتر في بئس يفسره التمييز وهو رجلا.
ومع تعريفه فهو إما أن يكون معرفا بأل كما سبق في الأمثلة أو مضافا إلى ما عرف بها، كما في حديث: " بئس أخو العشيرة.... " ، واختلف فيما عرف بغيرهما كالموصول، وبناء على جوازه فإن " ما " في الآية موصولة فاعلة لبئس، والجملة بعدها صلتها، وهو محكي عن سيبويه، كما نقل عن الكسائي والفراء، واليه ذهب الفارسي في أحد قوليه، والمشهور عن سيبويه أنها معرفة تامة بمعنى الشيء فاعل لبئس، والمخصوص بالذم محذوف، أي شيء اشتروا به أنفسهم وهو معزو إلى الكسائي، وقيل هي وما بعدها مسبوكة بمصدر في موضع رفع والتقدير بئس اشتراؤهم، ولابن عطية على ذلك اعتراض تعقبه أبو حيان ولم نجد داعيا إلى إيراد كلامهما، وقيل: هي موصوفة بجملة بعدها في محل نصب على التمييز من الضمير المستتر في بئس وهو فاعلها، وعليه فهي مؤولة بشيء " وأن يكفروا " هو المخصوص بالذم مؤولا بمصدر، والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، وهذا هو أحد مذهبي الفارسي، واختاره الزمخشري، وثم مذاهب أخرى لا داعي إلى ذكرها.
(واشتروا) بمعنى باعوا عند الجمهور وذلك أنهم حرموا أنفسهم من سعادة الدار الآخرة بكفرهم بما أنزل الله على عبده ورسوله مع معرفتهم بحقه، وإدراكهم أن صفقتهم خاسرة، وأنهم ضالون في سعيهم، ومن حرم نعيم الآخرة فقد حرم نفسه لأنه عرضها لأخطر المهالك وأسوأ العواقب، فكان هذا التعبير أدق في الدلالة على هذا المعنى وأبلغ في تصويره وأجدى في التحذير من الأخذ بأسباب ذلك.
ويعضد هذا التفسير ما يكون في البيع والشراء من المعاوضة بين الجانبين تسوغ اعتبار كل من المتبايعين بائعا ومشتريا لأن كليهما آخذ ومعط، فآخذ السلعة مبتغ لها وقد جعل الثمن وسيلة إليها، وآخذ الثمن مبتغ له وقد جعل السلعة وسيلة إليه، فصدق على كل منهما وصف البيع والشراء، ومن هنا جاز لغة استعمال كل من العبارتين في معنى الثانية كما تقدم.
واستبعد الإمام ابن عاشور اسعمال الاشتراء بمعنى البيع بدعوى أنه يفضي إلى ادخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة.
وأبقى الاشتراء على بابه - وهو الإبتياع المتبادر إلى الأفهام من إطلاقه - وعده هنا مجازا أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه، تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا، فإن كانوا يعتقدون بأنهم محقون في اعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لتمسكهم بالتوراة، وأن قولهم فيما تقدم: { فلما جآءهم ما عرفوا } بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقاد أنفسهم لآنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم، فقولهم: { بئسما اشتروا به أنفسهم } أي بئس ما هو في الواقع، وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم، وقوله: { أن يكفروا بمآ أنزل الله } هو أيضا بحسب الواقع، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم، وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت.
وإن كانوا معتقدين صدق الرسول، وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله: { فلما جآءهم ما عرفوا } على أحد الإحتمالين المتقدمين، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي، أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق، فالآية على نحو قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة }.
هذا وقد عرفتم مما سبق جواز ترادف كملتي البيع والشراء وليس في ذلك ما يدعو إلى الغلط فهم الحقائق اللغوية، لأن القرائن الملابسة للخطاب كفيلة بإفراز المعاني المقصودة وكشف اللبس والغموض.
وتوجيه الإمام انب عاشور لمعنى الآية مع إبقائه الاشتراء فيها على معناه المشهور لا يخلو من نظر على كلا الاحتمالين اللذين ذكرهما، أما على الأول فلأن كفر بني إسرائيل برسالة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام كان كفر عناد لا كفر جهل، فإنهم - كما أخبر الله عنهم -
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
[البقرة: 146]، وفي ما قبل هذه الآية أخبر الله عنهم بأنهم كفروا لما جاءهم ما عرفوا، فأي مكان للجهل هنا؟ ولا داعي الى حمل هذه المعرفة على معرفة الصفة مع التفريط في تطبيقها على الموصوف، ولئن سلم ذلك فما منشأ هذا التفريط إلا العناد والحسد دون الجهل واللبس على أن هذه الحالة فيهم ألفت قديما في سلسلة مكابراتهم لأنبيائهم الذين جاءوهم بالبينات وشاهدوا منهم ما شاهدوا من المعجزات.
فما عقب ذلك منهم إلا الكفر والتكذيب، وناهيك بما شاهدوا من آية انقاذهم من فرعون وآله على يدي موسى عليه السلام، وما تبع ذلك من الآيات الحسية المتلاحقة التي لا تدع مجالا للريب في صحة نبوة موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، ومع ذلك فإنهم ما كادوا يجتازون البحر حتى قالوا لموسى:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف: 138]،واتخذوا العجل إلها يعبد وقالوا:
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة: 55]، وأعرضوا عن الميثاق فرفع فوقهم الطور، وقالوا لموسى:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
[المائدة: 24]، ولعمري ما مثلهم في كفرهم بنبوة النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه - مع أبصروا من الآيات الدالة على صدقه - إلا كمثل فرعون وآله الذين قال الله فيهم:
وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا
[النمل: 14].
وأما على الثاني فيستعبد أن يعبر القرآن - عن إيتائهم العاجلة وابتغائهم ما تهواه أنفسهم فيها من الرتب والمال - باشترائهم أنفسهم، وهو يقصد بذلك صونها وووقايتها مما يخشى إذ ذلك في حقيقته إتلاف لها وتعريضها لأسوأ أنواع التباب خصوصا مع معرفتهم بأنهم في صنيعهم مخطئون ولربهم عاصون.
والتعبير بصيغة الماضي في " اشتروا " والمضارع في (أن يكفروا) مع أن اشتراءهم هو الكفر نفسه للدلالة على أن هذه الحالة سبقت منهم على نزول الآية ولا زالوا مستصحبيها بعد النزول.
و (بغيا) مفعول لأجله علة ليكفروا على الظاهر لأنه أقرب ذكرا، ويجوز أن يكون علة ل (اشتروا).
وأصله من بغى يبغي بمعنى أراد كما في قوله تعالى:
ما نبغي
[يوسف: 65]، ومنه سميت الفاجرة بغيا لأنها تراد للزنى والعياذ بالله، واستعمل في قصد مجانبة طريق الحق بالإساءة إلى الغير، وهو ينقسم إلى بغيين بهذا المفهوم لأنه إما أن يكون ابتغاء انتزاع تحق الغير أو تمني زوال نعمته، والأول يسمى ظلما والثاني حسدا، وهذه مصطلحات عرفية اشتهرت على الألسن فأصحبت جارية مجرى الحقائق الوضعية.
وبغي اليهود الدافع لهم إلى الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم - وهم أعرف الناس بها - من باب الحسد كما هو صريح في قولهم المحكى عنهم في القرآن:
أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم
[آل عمران: 73]، وقد مر فيما قبل هذه الآية جواب سلام بن مشكم لمن دعاه من الأنصار إلى الإسلام وما فيه من محالوة طمس الحقيقة بعد ظهورها حسدا لأن كان النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه من غير العنصر الإسرائيلي، وقد كانوا يطمعون في كونه منهم، والله عليم بمن هو أولى بهذا الأمر وأجدر بهذا الخير:
الله أعلم حيث يجعل رسالته
[الأنعام: 124]، والنبوات اصطفاء من الله تعالى وليست مواريث تختص بها أجناس من البشر دون غيرها، على أن بني إسرائيل لم يعودوا أهلا لقيادة الإنسانية، بعدما ارتكسوا في مهاوى الضلال، وتمرغوا في أوحال الدنية، وانطبعت نفوسهم بالحسد والحقد على الإنسانية، وتلوثت أفكراهم بما تلوثت به من العقائد الزائغة والتصورات الباطلة الناتجة من مكابرة الحق والصدود عنه.
و(باء) بمعنى رجع، واستعمل في الانقلاب إلى العاقبة التي تكون نتيجة لسابقتها، كما يقال في الذين آمنوا " باؤوا برحمة الله ورضوانه " ، ومنه مبوأ الصدق للجنة، ويقال في الذين كفروا باءوا بعقاب الله، واختلف في الغضب الأول هنا، فقيل هو لكفرهم بالمسيح عليه السلام، وقيل: لقولهم:
ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة: 55]، وقيل: لاتخاذهم العجل، وقيل: لقتلهم النبيين، وقيل: لتحريفهم الكتاب؛ والغضب الثاني لكفرهم بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام, والصحيح أن المراد ب " باءوا بغضب على غضب " ترادف الغضب عليهم بما أتوا من الفظائع واستحلوا من المحارم، لا حصره في غضبين كما قيل، ومثل هذا قوله تعالى في هدايته لخلقه وما نصبه لهم من معالم براهين الحق:
نور على نور
[النور: 35]، وقوله في مثل الذين كفروا:
ظلمات بعضها فوق بعض
[النور: 40].
و(ال) في (الكافرين) تحتمل أن تكون للعهد، والمعهود كفار بني إسرائيل الذين بصددهم الحديث في الآيات، وأن تكون للجنس وتشمل جميع الكافرين، ويدخل هؤلاء في الوعيد دخولا أوليا كما سبق، فان الكل أحقاء بالعذاب.
وأهان بمعنى أذل، وكل عذاب مذل للمعذب وإنما وصف ما توعدوا به من عذاب بأنه مهين لزيادة التحذير منه والتنفير عن ملابسة ما يؤدي إليه من فاسد الاعتقاد وسيئات الأعمال.
[2.91]
جملتا الشرط والجزاء معطوفتان بالواو على قوله: { ولما جآءهم كتاب من عند الله... } الآية، أو على ما عطف عليه وهو قوله: { وقالوا قلوبنا غلف } ، وفي هذا وذاك سرد لما يعتذرون به في إعراضهم عن دعوة الإسلام، ويتذرعون به إلى إصرارهم على الكفر وإخلادهم إلى العناد، فإذا دعاهم داعي الحق قالوا: { قلوبنا غلف } ، وإذا تليت عليهم آيات الكتاب ولوا معرضين حسدا من عند أنفسهم لأن أنزل على رجل من غير بني جنسهم بعد أن كانوا يستفتحون به على من حولهم من عبدة الأوثان، وإذا دعوا إلى الإيمان بهذا المنزل من عند الله والنظر في براهينه والتأميل في إعجازه، وكونه غير مناف لما أنزل من قبل على موسى عليه السلام، بل هو مصدق له، قالوا حسبنا أن نتمسك بما في أيدينا فإنه منزل على نبينا، ولأجل هذا العناد المتسلسل في أحوالهم جاء القرآن بهذه المناقشة المستفيضة في هذه الآية وما بعدها لهتك أستارهم وتبديد معاذيرهم.
والمراد بما أنزل الله في الآية القرآن المنزل على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، والتعبير عنه " بما أنزل الله " للحض على الايمان به وقطع عذر من أعرض عنه مهما جاء بالتعلات، وتعلق بالمعاذير فإنه ما دام منزلا من عند الله فالإيمان به واجب على جميع عباد الله بقطع النظر عن حال من أنزل عليه من قرب النسب وبعده، ووجود الصلة به أو عدمها فإن الحق يجب التسليم له واتباعه والتزامه وقبوله ممن جاء به لأنه نجاة من اتبعه وعصمة من تمسك به.
ومرادهم: (بما أنزل عليهم) التوراة المنزلة على موسى، أو هي وما عززها مما أنزل على أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى، فالإنزال في حقيقته إنما هو على الأنبياء غير أنهم نسبوه إلى أنفسهم لأن الخطاب بالمنزل موجه إليهم، والمطالبة بالعمل به مخصوصة بهم.
ووجه التشبث بهذا العذر الواهي في الإعتذار عن الإيمان بما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن ما بأيديهم هو أيضا منزل من عند الله وهم في استغناء به عما في سواه.
وجيء بالمضارع في قوله تعالى: { ويكفرون بما ورآءه } مع أن الكفر واقع منهم قبل نزول الآية لمناسبة قولهم: { نؤمن بمآ أنزل علينا } ، وللتصريح بما لوحوا إليه من أن إيمانهم بما أنزل اليهم يقتضي الكفر بما سواه، ولبيان حالهم التي هم دائمون عليها، والتعجيب منها.
والوراء هنا بمعنى السوى، وهو في الأصل اسم للجهة الخلفية مشتق من المواراة لأن الإدبار يواري عن نظر المدبر ما كان خلفه، وذهب كثير إلى أنه من الألفاظ ذوات المعاني المتضادة، فهو يطلق على الأمام كما يطلق على الخلف، واستدلوا له بقوله تعالى:
وكان ورآءهم ملك
[الكهف: 79]، وبقول لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي
لزوم العصى تحنى عليها الأصابع
فإن أصحاب السفينة كانوا متجهين نحو هذا الملك فهو أمامهم كما أن لزوم العصى مستقبل حال المرء إذا تراخت منيته، فهو أمر مقبل عليه، وليس أمرا أدبر عنه، ولا يخفى أن جواز ذلك إنما هو فيما كان بعيدا بحيث يواريه البعد عن بصر من هو متجه نحوه أو ما كان كالبعيد إن كان استعماله كذلك فيما هو من المعقولات.
وأنكر ابن عاشور التضاد في معنى الوراء وحمل الآية وبيت لبيد على التجوز بمعنى الطلب والتعقب كما يقال فلان ورائي بمعنى يطلبني ويتعقبني.
ومؤدى كلامه أن أصحاب السفينة كانوا مهددين ببطش الملك الذي:
يأخذ كل سفينة غصبا
[الكهف: 79]، وأن المعمر مهدد بالهرم المؤدى به الى زلوم العصى، فجاز استعمال الوراء في الموضعين لإفادة التهديد المشار إليه، لأن المهدد - بالكسر - بالنسبة إلى المهدد - بالفتح - كالمتعقب الآتي من الخلف.
وما وراءه هنا هو القرآن وقيل: هو المعاني التي وراء ألفاظ الكتاب الذي آمنوا به، ومعنى ذلك أن إيمانهم محصور في شكل ما أنزل إليهم دون جوهره لعدم عملهم بمقتضاه، ومن ذلك اتباعهم النبي الأمي الذي سطر نعته في نفس ذلك الكتاب؛ وعلى هذا القول الثاني فلفظة الوراء مستعملة في بابها، وليست بمعنى السوى.
ويؤيد القول الأول قوله تعالى: { وهو الحق مصدقا لما معهم } فإن ذلك يصدق على القرآن، ولم ترد بالحصر فيه حقيقته، فإن كل ما أنزل الله على أنبيائه حق، وإنما أوثر التعريف الدال على الحصر في التعبير على { وهو الحق } ، بالتنكير للتنبيه على أنه في ذروة الحق لاستجماعه أبوابه ووجوهه كما سبق نحوه في قوله: { ذلك الكتاب } ، وهو شائع في الاستعمال عند العرب في المنثور والمنظوم، ومنه قول حسان:
وإن سنام الملك من آل هاشم
بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
وجملة: { وهو الحق } للحال من المجرور وهو (ما)، و(مصدقا) حال تأكيدية من المبتدأ فيها، وقيل: تأسيسية لإفادتها معنى زائدا على مضمون { وهو الحق } ، إذ قد يكون الكتاب حقا ولا يصدق كتابا آخر ولا يكذبه.
ووصفه بتصديقه لما قبله دون تصديقه بما قبله لبلوغه أوج الكمال ومنتهى الوضوح بحيث كان غيره بحاجة إلى أن يصدق به، ولم يكن هو بحاجة إلى أن يصدق بغيره وذلك لأنه في حقيقته آية باهرة ومعجزة ظاهرة تقطع لسان كل متحد، وتستأصل شبهة كل معاند، وهذا مما تميزت به رسالة خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام عن سائر الرسالات، فإن سائر المرسلين كانوا مقرونين في دعواتهم بمعجزات خارجة عن رسالاتهم، بينما كانت رسالته صلى الله عليه وسلم معجزتها في ذاتها لأنها احتوت أم المعجزات، وهو هذا القرآن الدامغة حجته الساطعة آيته.
وتصديقه لما معهم هو تصديقه لما تضمنه من توحيد الله وتنزيهه عن كل ما ينافي قدسيته وجلاله، ومن أخبار النبوات وقصص النبيين وأنباء المعاد، وما تحقق بنزوله من الوعد الذي بشرت به التوراة والإنجيل.
وفي وصهفم بهذا رد ضمني عليهم، فإنه لو كانوا مؤمنين حقا لآمنوا بكل ما أنزل الله من غير تفريق بين تنزيل وآخر، فإن الكل من عند الله يصدق بعضه بعضا، فالكفر ببعضه كفر بجميعه.
وبعد هذا التلويح بالرد جاء صريحا في قوله: { قل فلم تقتلون أنبيآء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } فإنهم قتلوا قبل ذلك الأوان الذي أنزل فيه القرآن مجموعة من النبيين كما تقدم، وهو عمل ينافي دعوى الإيمان بما أنزل عليهم، ومع أن أولئك النبيين الذين قتلوهم بعثوا بنفس ما يدعون الإيمان به، وقد أرسلوا مؤكدين العمل بالتوراة، مبشرين بها ومنذرين، فكيف استساغوا قتلهم وهم يدعون التمسك بها.
وإسناد الخطاب إلى الحاضرين مع أنه من فعل أسلافهم لأنهم يوالونهم عليه ويدعون أنهم على حق، والتعبير بتقتلون دون قتلتم لأجل تصوير بشاعة القتل وفظاعة ما أحدثوا في صورة ما يعاين بالأبصار وليس الخبر كالعيان.
وفي هذا الرد تعليم من الله لعباده كيف ينقضون شهب أهل الباطل، ويردون على دعاواهم، فهو من الجدل المحمود الذي يقصد به إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
[2.92-93]
سبق ذكر قصتي اتخاذهم العجل ورفع الطور فوقهم في هذه السورة وليست إعادتهما هنا تكرارا وإنما لما يترتب عليها مما لم يذكر فيما سبق من الفوائد، والواو عاطفة والمعطوف عليه قوله: { فلم تقتلون أنبيآء الله } والقصد منه تعليم الإنتقال في مجادلتهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل اليهم خاصة، وذلك أنه بعد أن كذبهم في ذلك بقوله: { فلم تقتلون أنبيآء الله من قبل } أتى بأسلوب الترقي إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي قد قابلوا دعوته بالعصيان قولا وفعلا أفاده العلامة بن عاشور.
وهو مبني على جواز عطف الخبر على الإنشاء والعكس، وحجته ظاهرة لوفرة شواهده من القرآن؛ ومن كلام العرب وسيأتي بيان فائدة إعادة القصتين في تفصيل تفسير الآيتين إن شاء الله.
والبينات هي الآيات التسع التي ذكرها الله في قوله:
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات
[الإسراء: 101]، وقوله:
في تسع آيات إلى فرعون وقومه
[النمل: 12]، فإنها حجة على بني إسرائيل كما أنها حجة على فرعون وآله، ومن بين هذه الآيات العصى واليد، وقيل هي دلائل توحيد الله عز وجل، وقيل: هي التوراة، وصدر به القطب - رحمه الله - في الهيميان، وأيده بقوله: " فيكون هذا ترشيحا وتقوية في الرد عليهم في ادعائهم الإيمان بالتوراة، كأنه قيل فلم تقتلون أنيباء الله من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة. ولقد جاءكم موسى بها، ثم رد عليهم ردا آخر بقوله: { ثم اتخذتم العجل } ".
ويرده أن الله عطف اتخاذهم العجل على مجيء موسى إليهم بالبينات ب " ثم " الدالة على المهلة مع أن هذا الاتخاذ سابق على المجيء بالتوراة وقد كان إبان ذهابه عليه السلام إلى ميقات ربه لتلقيها.
فإن قيل إن المهلة هنا رتبية وليست زمنية كما هو شأن ثم غالبا عندما تعطف الجمل، وهو الذي يقتضيه كلام القطب - رحمه الله - حيث قال: ثم رد عليهم ردا آخر بقوله: { ثم اتخذتم العجل }.
فالجواب أن جعلها للمهلة الرتبية دون الزمنية مخالف لما تدل عليه البعدية المنصوص عليها بقوله: { من بعده } فإنها ظاهرة الدلالة على أن اتخاذهم العجل كان بعد مجيئه عليه السلام إليهم بالبينات، وهو أبلغ في التشهير بسوء صنيعهم وإقامة الحجة عليهم.
وقد تقدم شرح قصة اتخاذهم العجل، وقد ذكرت هنالك في معرض الامتنان عليهم بعفوه عنهم بعد ارتكابهم هذه الفعلة النكراء، وأعيدت هنا في معرض إقامة الحجة عليهم ودحض شبهتهم التي يتشبثون بها في ترك إيمانهم بخاتم النبيين وذلك أنهم لو كانوا مؤمنين حقا بما أنزل عليهم لما اتخذوا العجل إلها من دون الله، وقد دعاهم موسى عليه السلام إلى توحيد الله عقيدة وعبادة، وأجرى الله تعالى على يديه من الآيات ما يكفي لاستئصال شبهة كل ممار في توحيده، والآيات التسع الموسومة هنا بالبينات، كما أنها حجة على فرعون وآله هي حجة على بني اسرائيل لمعاينتهم لها، وقد كانت مقدمات لخلاصهم مما كانوا يعانونه تحت وطأة قهر المتكبرين، كفرانهم بالله باتخاذهم أندادا له بعد هذه المعاينة أوغل في الظلم وأبعد في الضلالة، وأشد تنافيا مع ما يدعونه من الإيمان بما أنزل عليهم أي على الأنبياء الذين هم من بني جلدتهم، فإن أولئك النبيين جميعا ما كانوا إلا دعاة توحيد، فأي انحراف عن منهجه كفر برسالتهم وجحد لما أنزل عليهم.
وإسناد الاتخاذ إلى هؤلاء المخاطبين مع كونه من فعل أسلافهم الغابرين، لأنهم يتولونهم عليه، وما زالوا يترسمون خطواتهم في المكابرة والعناد.
ويؤكد وضوح عدم اعتبار اعادة هذه القصة تكرارا فهم مقاصد القرآن في الخطاب، فإنه متعدد المقاصد يأتي خطابه في معارض مختلفة، منها التذكير والامتنان، ومنها التقريع والاحتجاج، ومنها الوعد والوعيد، ومنها الأمر والنهي؛ فلا غرو إذا أعيدت اقصة الواحدة في معرض هذه الأغراض المتنوعة لأنها في كل مقام ذات فائدة جديدة.
والضمير في (بعده) عائد إلى المجيء المفهوم من جاءكم، أو إلى موسى نفسه، المراد ببعده بعد ذهابه إلى الطور، والأول هو الأنسب بالمقام والأبلغ في الاحتجاج عليهم.
وجملة: { وأنتم ظالمون } تذييل، اي وشأنكم الظلم، فالواو عاطفة وليست للحال، أو أنها حالية، أي أتيتم ما أتيتم متلبسين بالظلم، والأول أظهر لأن اتخاذ الند لله سبحانه لا يكون إلا ظلما.
وقد تقدم بيان الظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه، وأبشعه الإشراك بالله الذي خلق كل شيء فقدر تقديرا، ومن على الإنسان بأن خلق له ما في الأرض جميعا، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، جميعا منه، فمن أشرك به شيئا فقد بلغ من الظلم غايته، لأنه أبطل جميع مواهبه، وتجاهل جميع دلائله.
وإعادة قصة رفع الطور فوقهم وأخذ الميثاق منهم لغير ما ذكرت من أجله من قبل فإنها سيقت من قبل في معرض تذكيرهم بنعم الله، ومقابلتهم إياها بالكفران، وذكرت هنا لعدة أغراض :
أولها: قطع حبل الشبهة التي يتشبثون بها في عدم استجابتهم لخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه كما سبق.
ثانيها: تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، فإنه صلوات الله وسلامه عليه كان شديد الحرص على إيمانهم لأنهم أعلم من غيرهم بالنبوات ودعوات الأنبياء، وقد كان عندهم من البشائر به صلى الله عليه وسلم ما يبعثهم على المسارعة إلى الإيمان به لولا الأهواء التي رانت على قلوبهم وغشيت أبصارهم بما حجبها عن الحق، ووجه التسلية أن موسى عليه السلام من بني جلدتهم وقد بعث في وسطهم في أحلك الظروف وهم يتجرعون مرارة العذاب من فرعون وآله، فكان خلاصهم على يديه، وشاهدوا منه من المعجزات ما يستأصل شأفة كل ريب ويسكن اضطراب كل نفس، ولكنهم مع ذلك كانوا أقسى قلبا وأشد عتوا، إذ قابلوا كل ذلك بالعناد وصارحوه عليه السلام بالرفض لما كان يدعوهم إليه من الحق، فلا يستغرب إذا رفضوا الإيمان برسول بعث من جنس غير جنسهم، وفي بيئة غير بيئتهم فإن الإصرار على الباطل ديدنهم، والكفر بالنبيين وما جاءوا به سبيلهم.
ثالثها: استئصال ما عسى أن يلابس النفوس الضعيفة الإيمان من الريب بسبب هذا العناد منهم، فرب أحد تحدثه نفسه بأن هذه الدعوة لو كانت حقا لكانوا أسرع الناس إلى قبولها والالتفات حولها لما يتميزون به من علم الكتاب، فإذا ذكر بمواقفهم مع أنبيائهم انجلى عنه ما كان غاشيا من الارتياب، فإن موقفهم من دعوة خاتم النبيين ليس إلا صورة مكررة من مواقفهم مع أنبيائهم الذين جاءوهم بالخلاص والهدى والبرهان.
وقد اختلفت العبارة في ذكر هذه القصة هنا عما تقدم فقد أمروا هناك - بعد فرض أخذ ما أوتوه بقوة - بذكر ما فيه، وأمروا هنا بالسمع، ومؤدى العبارتين واحد، فإن الذكر المأمور به هناك ليس هو تحريك اللسان بألفاظ ما أوتوا من الكتاب فحسب ولكنه التلاوة الحقة المقرونة بالتفهم والتدبر حتى يتحول المتلو إلى أمر واقع راسخ في حياتهم الفكرية، ظاهر في حياتهم العملية، والسمع الذي أمروا به هنا ليس هو مجرد إصغاء الأذن وإنما هو الطاعة والقبول والتطبيق، فإن السمع يطلق على القبول في الاستعمال العربي، ومنه قول المصلي: " سمع الله لمن حمده " ، ومثله قول الشاعر:
دعوت الله حتى خفت ألا
يكون الله يسمع ما أقول
فإنه من المعلوم بداهة أنه لا يعني به عدم السمع من الله لصوت ما يقول، وإنما قصد به عدم التقبل والاستجابة.
وقد سيقت القصة من أولها مساق الخطاب للحاضرين كما ترون في قوله: { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتينكم بقوة واسمعوا } ، ثم التفت عن الخطاب إلى الحكاية عن الماضين عندما جاء الجواب حيث قال: { قالوا سمعنا وعصينا } ، واختلف المفسرون في هذا الجواب أكان نطقا منهم باللسان أم كان مفهوما من واقع حالهم؛ فجمهور السلف على أنه كان قولا صريحا، وأنهم قالوا له سمعنا قولك عصينا أمرك.
قال الزمخشري: " فإن قلت كيف طابق قوله جوابهم قلت طابقه من حيث انه قال لهم اسمعوا وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ".
ونقل الفخر عن أبي مسلم قوله: " وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه، كقوله تعالى:
أن يقول له كن فيكون
[يس: 82]، وكقوله:
قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت: 11].
قال الفخر: " والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز ".
وهذا الذي جوزه أبو مسلم، قطع به الإمام محمد عبده حيث قال: " وليس المراد أنهم نطقوا بهاتين الكلمتين (سمعنا وعصينا) بل المراد أنهم بمثابة من قال ذلك، ومثل هذا التجوز معروف في عهد العرب وفي هذا العهد يعبرون عن حال الإنسان وغيره بقول يحكيه عن نفسه حتى حكى مثله ذلك عن الحيوانات والطيور وعن الجمادات أيضا، وهو أسلوب أظن أنه يوجد في كل لغة أو في اللغات الراقية فقط ".
وجزم بهذا أيضا الإمام ابن عاشور غير أنه قصره على (عصينا)، وحمل عليه ما نقله الفخر عن أبي مسلم، وعبارته " فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم (عصينا) كان بلسان الحال، يعين فيكون قالوا، مستعملا في حقيقته ومجازه، أي قالوا سمعنا وعصوا، فكأن لسانهم يقول عصينا ".
والجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد في الاستعمال الواحد مرفوض عند أكثر المحققين، لأن التجوز لا يصار إليه إلا مع قرينة، وهي ناقلة لمفهوم اللفظ في الاستعمال عما وضع له، فلا يجوز معها أن يراد به أصله الموضوع له، وحمل كلام أبي مسلم الي نقله الفخر على قصد هذا المعنى غير واضح.
هذا ويرجح قول من ذهب إلى أن المراد بهذا القول واقع حالهم استحالة أن يكونوا في حالة رفع الطور فوقهم قادرين على المصارحة بالعصيان، فإن ذلك مما لا تطاوع عليه طبائع البشر، كما يستأنس له بقوله تعالى فيما سبق: { ثم توليتم من بعد ذلك } فإن العصيان المذكور هنا هو عين التولي المذكور هناك، والأصل في البعدية أن تكون زمانية.
وذكر الإمام ابن عاشور احتمال أن يكون قولهم: (عصينا) وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم ادخلوا القرية:
لن ندخلهآ أبدا
[المائدة: 24].
ثم قفى ذلك بيان ما خلفته في نفوسهم عبادة العجل من أثر إذ قال { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } ، والإشراب المزج بين شيئين، وأصله في مزج الجامد بالمائع، واستعمل في الخلط بين المائعين، وتوسع فيه حتى أطلق على اللونين كقولهم بياض مشرب بحمرة، وهذه العبارة أدل على تغلغل حب العجل وعبادته في أعماق نفوسهم بحيث صور كالماء الساري في منافذ الجسم حتى تخلل جميع قلوبهم، واستولى على كل جانب منها، وذلك أقصى ما يصل إليه حب شيء كما قال الشاعر:
إذ ما القلب أشرب حب شيء
فلا تأمل له عنه انصرافا
وإيثار عبارة الإشراب على غيرها كالإطعام، لأن الماء يسري حيث لا يسري الطعام، ولذلك قال الأطباء الماء مطية الطعام والدواء، لأنه ينقل ما يتحلل فيه من عناصرهما إلى جوانب الجسم؛ وإذا أرادت العرب المبالغة في وصف الحب أو نحوه من الأعراض استعملت هذه العبارة ونحوها كما في البيت المتقدم، وقول أحد النابغتين:
تغلغل حب عثمة في فؤادي
فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
ولا حزن ولم يبلغ سرور
وقول غيره:
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
وذهب أسراء الألفاظ إلى أن معنى إشرابهم العجل أنهم شربوا من ماء البحر المختلط ببرادته عدما نسف فيه كما أخبر الله تعالى، وذلك أنهم قالوا: إن موسى عليه السلام ذبح العجل ثم برده بالمبرد وألقاه في البحر فاختلط بمائه وأمر بني إسرائيل بالشرب منه، فكل من كان في قلبه حب له خرج على شاربه الذهب؛ وقد رد المحققون هذا القول، وهو جدير بالرد، إذ لو كان المراد بالإشراب سقيهم ذلك الماء لما عدي إلى القلوب، فإن الماء أولى به مجاريه في البطن من القلوب، ولم يثبت هذا القول عمن نسب إليهم من الصحابة والتابعين، وإنما أسنده ابن جرير إلى السدي المشهور بنقل الإسرائيليات، وإلى ابن جريج وله في هذا الشأن عجائب، فلا يترك ما ذهب إليه الجمهور ودل عليه اللفظ لأجل ما روي عنهما.
وربط سبحانه هذا الإشراب بكفرهم لأن اتخاذهم العجل معبودا من دون الله تعالى من أعظم الكفر، ومن شأن المعصية أن ترين على القلب حتى تجر إلى أمثالها، وقد جر عليهم هذا الإتخاذ حب العجل حتى استمر ذلك في نفوسهم بعد ذبحه ونسفه في البحر لتتضاعف أوزارهم، فالباء للسببية.
وبعد التوطئة للرد على دعواهم الإيمان بذكر طائفة من أعمالهم المنافية له جاء بالرد الصريح في قوله: { قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } ، وإسناد الأمر إلى الإيمان تهكم على حد قوله تعالى حكاية عن أصحاب الأيكة:
يشعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ
[هود: 87].
وأضاف الإيمان إلى ضميرهم ولم يعرفه بأداة التعريف المشهورة لأن شأن الإيمان أن يقي صاحبه الإصرار على الباطل، وأي باطل أفظع مما أسند إليهم هنا من قتلهم النبيين واتخاذهم العجل ونقضهم الميثاق، فلو كانوا مؤمنين حقا لما وقع ذلك منهم، فإن كل ذلك ينافي كل المنافاة ما أنزل عليهم.
وبما أن هذا التذييل الذي ختمت به الآية هو مناط الرد عليهم كان في حكم التقرير لما قبله من الردود فلذلك فصل عنه.
وقد أتى الإمام ابن عاشور في خاتمة تفسيره لهذا الكلام الإلهي بما يجدر نقله بنصه وفصه لتعميم فائدته؛ قال: " وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذللك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل اليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر، ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده، فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلا إلا وهو مأذون فيه من كتابهم، هذا وجه الملازمة.
وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع، هذا ظاهر الكلام، والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة، وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم، ويرمي بهم في مهواة الإستسلام للحجة، فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو:
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين
[الزخرف: 81]، ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم الذي دخله التحريف والإضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل وإنما هو لصلالح الناس، والخروج بهم من الظلمات إلى النور، فلا جرم من أن يكون مرتكبو هذه الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء، فبطل بذلك كونهم مؤمنين وهو المقصود.
فقوله: { بئسما يأمركم } جواب الشرط مقدم عليه، أو قل دليل الجواب، ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول، وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضا كما يفرض المحال، وهو المراد هنا، لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط، ولأن المخاطبين يتوقعون وقوع الشرط، فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط التمضمن لكونه مؤمنين إلا منفيا، ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا، ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالا لطائرهم، وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الغرض حتى يقعوا في الشك في حالهم، وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو (بئسما يأمركم) وإلى هذا أشار صاحب الكشاف كما قال التفتازاني، وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض، فمن الفرض يولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت.
ولا معنى لجعل، { إن كنتم مؤمنين } ابتداء كلام وجوابه محذوفا تقديره وإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل... الخ، لأنه قطع لأواصر الكلام مع أن قوله: { قل بئسما يأمركم به إيمانكم... } الخ يتطلبه مزيد تطلب، ونظائره في آيات القرآن كثيرة، على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمرهم بهذه المذام، فكيف ينفي بعد ذلك أن يكون إيمانهم يأمرهم.
و(بئسما) هنا نظير (بئسما) المتقدم في قوله: { بئسما اشتروا به أنفسهم } سوى أن هذا لم يؤت له باسم مخصوص بالذم لدلالة قوله: { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادة العجل ".
[2.94-96]
كان ما تقدم نقضا لدعواهم الإيمان بذكر فظائع أعمالهم المنافية له فيما سلف من أمرهم، وفي هذه الآيات رد لهذه الدعوى بمطالبتهم بأمر يأتونه في الحال يستلزمه رسوخ الإيمان والاستقامة على هديه والاطمئنان إلى نتيجته وهي حسن العاقبة وسلامة المنقلب، وذلك أن الحياة الدنيا تزخر جوانبها بضروب المحن وصنوف الأكدار، فمن كان على ثقة من ربه بأنه سيبوئه مبوأ خير وسعادة بجواره في الدار الآخرة، لا يتردد - إذا خير - في إيثار الانتقال عنها إلى تلك الدار المجردة من المحن الصافية من الأكدار، فما عليهم - وهم يدعون أنهم أولى الناس بربهم وبرضوانه ودار كلامته - إلا ان يفتحوا لقلوبهم هذا الباب من التمني ويترجموا ذلك بقول صريح يكون لهم حجة عند الناس إن كانوا صادقين في دعواهم.
ويبدو أنهم كانوا يدعون بأفواههم في أوساط المؤمنين أن لهم الدار الآخرة دون الناس، يفهم ذلك من هذا الإلزام الذي ألزموه في هذه الآيات، ويؤيده ما حكاه الله عنهم من قولهم:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
[البقرة: 111]، فإنها مقولة أهل الكتابين طويت في إجمال إسنادها إليهما، مع أن كل طائفة منها تدعى أنها وحدها على جادة الحق دون الأخرى، كما ينص عليه قوله:
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء
[البقرة: 113]، فكل واحد من الطائفتين إذن تدعي أنها وحدها هي الحقيقة بالسعادة في العقبى، كما أنها وحدها على صراط الهداية في الدنيا، ومؤدى ذلك أن كل من سواها ما له في الآخرة من نصيب.
والمراد بالدار الآخرة الجنة ونعيهما، فإن من حرمها لم يكن له في تلك الدار نصيب من راحة أو لذة أو نعمة، ولذلك وصف الله الذين يريدون حرث الدنيا بأنهم لا نصيب لهم في الآخرة، حيث قال
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى: 20]، وبين تعالى بأن حظ أولئك فيها العذاب والعياذ بالله، حيث قال:
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار
[هود: 16]، وقال:
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا
[الإسراء: 18]، ومن صلي النار لم يكن له نصيب في الآخرة لحرمانه من كل خير، والمراد بالناس غير هؤلاء المدعين أو المؤمنون خاصة؛ وعلى الأول فأل للجنس الدال على الاستغراق، وعلى الثاني للعهد، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالناس محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو لا ينافي أنهم المؤمنون، كما أخرجه عنه البيهقي في دلائله لأن الإيمان يومئذ كان محصورا فيه صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه رضوان الله عليهم.
وخلوصها من دون الناس خصوصيتها بهم، وقد مر معنى (دون)، والجار والمجرور متعلقان بخالصة.
والتمني تفعل من المنية واحدة المنى، وجملة: { فتمنوا الموت } جزاء للشرط، وإنما كان تمنيه آية صدقهم، لو كانوا حقا صادقين أن الدار الآخرة لهم خالصة من دون الناس، لأنه طريق نقلتهم إلى تلك الدار، وباب مولج أهل الحق إلى مقعد الصدق، فلا غرو إذا عشقه من تعلق قلبه بالله واليوم الآخر، ولأجل ذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسابقون إلى موارد الموت تسابق الصادئين إلى الماء الفرات، وكم صاغوا أمانيهم في عقود من الأدب ازدان بها الكلام، كقول عمير بن الحمام رضي الله عنه:
جريا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
وقول عبد الله بن رواحة عندما خرج إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين، فقال رضي الله عنه:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
أو طعنة من يدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا اذا مروا على جدثي
أرشدك الله من غاز وقد رشدا
وقوله عندما واجه زحوف الروم ومن معهم من نصارى العرب:
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
بعيدة تقطعت أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
وقد مضى على طريقهم أبطال أهل الحق والاستقامة، الذين كانت أناجيلهم في صدورهم، وكانت قرابينهم أرواحهم، وخاضوا في نصرة الحق بحار المنون، لم تثنهم الأخطار عن قصدهم، ولم تفتنهم الدنيا بزهرتها فتحول بينهم وبين مبادئهم، وقد تدفق أدبهم الرفيع بمشاعرهم التي تجيش بها صدروهم، كما نشهد ذلك في قول أحد شعرائهم البارزين في عهد الإمام طالب الحق عبد الله بن يحيى الكندي الحضرمي رحمه الله، وهو عمرو بن الحصين العنبري القائل:
ما بال همك ليس عنك بعازب
يمى سوابق دمعك المتساكب
وتبيت تكتلئ النجوم بمقلة
عبري تسر بكل نجم دائب
حذر المنية أن تجيء بداهة
لم أقض من تبع الشراة مآربي
فأقود فيهم للعدا شنج النسا
عبل الشوى أسوان ضمر الحالب
متحدرا كالسيد أخلص لونه
ماء الحسيك مع الجلال اللاتب
أرمي به من جمع قومي معشرا
بورا إلى جبريه ومعايب
في فتية صبر ألفهم به
لف القداح يد المفيض الضارب
فندور نحن وهم وفيما بيننا
كأس المنون تقول هل من شارب
فنظل نسقيهم ونشرب من قنا
سمر ومرهفة النصول قواضب
بينا كذلك نحن جالت طعنة
نجلاء بين رها وبين ترائب
جوفاء منهرة ترى تامورها
ظبتا سنان كالشهاب الثاقب
أهوى لها شق الشمال كأنني
خفض لقا تحت العجاج العاصب
يا رب أوجبها ولا تتعلقن
نفسي المنون لدى أكف قرائب
وقال - رحمه الله -:
لا شيء يلقاه أسر له
من طعنة في ثغرة النحر
نجلاء منهرة تجيش بما
كانت عواصي جوفه تجري
وقد نحا هذا المنحى في المتأخرين الإمام المحقق الشهيد سعيد ابن خلفان الخليلي - رحمه الله تعالى - في قصائده الاستنهاضية، ومن أمثلة ذلك قوله:
كأن المنايا منية لقلوبهم
فما كاد يثني القوم بالحتف مصرع
يخوضون دأماء المنايا بواسما
كأنهم في جنة الخلد رتع
قد اطرحوا لبس الدروع لأنهم
لهم من زكيات المناصب أدرع
وكذلك علم الشعراء الإسلامين في العصر الحديث الإمام الفقيه والشاعر البليغ أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني الرواحي في كثير من قصائده الداعية إلى نصرة الدين نحو قوله:
ولولا المقادير التي عزت القوى
وما اكتسبت مني الخطوب الغواشم
نذرت حياتي تحت ظل لوائه
وأحرزت خصلى إذ تحز الغلاصم
ولم يك قسمي غير ضربة قاضب
إذا قسمت فوق الفروق الصوارم
أو الطعنة النجلاء ترمي نجيعها
تفوز بها مني الطلى واللهازم
وتلك لعمر الله أبخس قيمة
لرضوان ربي يوم تعطي المقاسم
والتمني وإن كان من أفعال القلب فإن القول يكشف عنه، والمطلوب منهم هنا التصريح بألسنتهم أنهم يتمنون الموت، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا "
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ومرفوعا " لو تمنوا الموت شرق أحدهم بريقه " ، وأخرج عنه موقوفا: " لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقى على الأرض يهودي إلا مات ".
وقيل: بأن تمني الموت الذي دعوا إليه في الآية هو المباهلة أن الدعاء على الكاذب من الفريقين به، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه عنه ابن اسحاق وابن أبي حاتم، ومال إليه الحافظ ابن كثير، وقيل: هو أن يقولوا ذلك بألسنتهم ولو كانت قلوبهم منطوية على خلافه.
وفي قوله: { إن كنتم صادقين } تعريض بتكذيبهم، والمراد بصدقهم هنا صدقهم فيما ادعوه من كون الدار الآخرة خالصة من دون الناس.
وهذا التحدي قيل خاص باليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم، وقيل عام فيهم وفيمن يأتي من بعدهم من أبناء ملتهم، واستدل له بتأييد النفي في قوله عز وجل: { ولن يتمنوه أبدا } ، وفي هذا النفي المؤبد منه تعالى لما تحداهم به حكم منه سبحانه بنقض دعواهم، وإبطال حجتهم، مثله مثل قوله تعالى:
ولن تفعلوا
[البقرة: 24]، بعد تحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، وفيه علم من أعلام النبوة، فإنه خبر عن غيب مطوي عن إدارك البشر إلا بوحي ممن يعلم السر وأخفى، وقد نزل في مقام التحدي، فلو انتقض بما يعارضه لسجل ذلك التأريخ وحفظته الأجيال لاسيما الأجيال اليهودية للددهم في الخصومة والتماسهم أي ثغرة كانت ينفذون من خلالها إلى الطعن في الوحي وتكذيب الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
وقد سبق أن لن تقتضي تأيد النفي، أو تأكيده أو هما معا، والتأكيد هنا ظاهر، والتأيد وإن لم يظهر من لن فإن لفظة (أبدا) تدل عليه، ولا ريب أنه تأيد خاص بالحياة الدنيا لأنهم بكفرهم متوعدون بعذاب الدار الآخرة، وقد قال عز من قائل:
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ
[البينة: 6]، وقد أخبرا لله عن تمني أهل النار للموت إذ قال:
ونادوا يمالك ليقض علينا ربك
[الزخرف: 77]، على أنه مما يقتضي حصر هذا التأيد بالحياة الدنيا ما ذكر في الآية من كون عدم التمني ناشئا عن سوء ما عملوا المؤدي إلى التباب في الآخرة، فلا جرم أنهم إذا حاق بهم التباب تمنوا ما كانوا لا يتمنونه في الدنيا.
واختلاف أداة النفي في هذه السورة عنها في سورة الجمعة مع اتحاد المنفي واتحاد المتحدي به يرجع - كما قال الفخر الرازي في تفسيره - الى اختلاف مدعاهم في الموضعين، وذلك أنهم ادعو في هذه السورة خلوص الدار الآخرة لهم من دون الناس، وادعوا ي سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس، وقد أبطل الله مدعاهم في السورتين بأن دعاهم إلى تمني الموت لينقلبوا إلى من اختصهم بالولاية ولينتقلوا إلى ما أعد لهم في الدار الآخرة، ثم نفى حصول ذلك منهم، وبما أن مدعاهم في هذه الآية أعظم كان نفي تمنيهم بالأداة الأقوى، لأن غاية ما يسعى إليه العاملون هو الفوز بالسعادة في دار الثواب، ولما كان مدعاهم في سورة الجمعة وسيلة إلى ما ادعوه هنا كان النفي بأداته الأخرى فإن ولاية الله وإن كانت جديرة بأن تطلب لذاتها، فإنها وسيلة العاملين للوصول الى مقامات المقربين.
وعزا أبو حيان توجيه هذا الاختلاف في التعبير إلى صاحب المنتخب، وعزاه القاسمي إلى الغزالي.
وكون عدم تمنيهم الموت مسببا عن سوء ما قدمت أيديهم يدل على أنهم عالمون بفحش ما يرتكبون، وموقنون بشر المصير الذي إليه ينقلبون.
وإسناد التقديم إلى الأيدي - مع أن المراد كل ما قدموه من الأعمال سواء ما زاولوه بالأيدي أو بغيرها - لأن الأيدي هي أداة المزاولة غالبا في الإنسان، وقيل: أراد بما قدمت أيديهم تحريفهم الكتاب بحذف ما هو منه وزيادة ما ليس منه، وقد باشروا ذلك بأيديهم حقيقة، والأول أظهر وأصح.
وقوله: { والله عليم بالظالمين } خبر يتضمن الوعيد، والتسجيل عليهم بالظلم، ومقتضى الوعيد أن يقول والله عليم بهم، ولكن عدل عنه إلى إقامة المظهر مقام المضمر لأجل ما ذكر، ولتعميم الوعيد في كل من ظلم.
ثم أتبع ذلك وصفهم بما ينشأ عنه ما ذكره عنهم من قبل، وهو حبهم الملح في الحياة الدنيا وشغفهم بنعيمها وإخلادهم إليها، حيث قال: { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } ، وفعل تجد هنا مشتق من الوجدان القلبي، وهو متعد إلى مفعولين، أولهما الضمير وثانيهما (أحرص)، والمراد بالناس جميع الجنس البشري، فإن اليهود يفوقونهم في الحرص على الدنيا وإن كان ذلك من عادات البشر المشتركة، وذلك أن الناس إما مؤمن وفي، وإما فاجر، والفجار صنفان، إما مصدق بالمعاد، أو غير مصدق به؛ فالمؤمن الوفي - بما يرجوه من رحمة الله وتتعلق به نفسه من ثوابه - لا يكره الموت وإن كان يخشاه بسبب خوفه من سيئات أعماله وإشفاقه من سوء الخاتمة فهو إن التفت الى جانب الرجاء استأنس بروح الله، واستبشر بكرمه، وإن التفت إلى جانب الخوف استوحش من شعوره بالتفريط في جنبه وهو في كلا الحالين لا يكره لقاء الله، والفاجر غير المؤمن بالمعاد - وإن كره الموت لأنه يفوته لذته في الحياة الدنيا - فهو لا يحذر من خلفه أمرا، أما الفاجر المؤمن بالمعاد والموقن بشر ما قدم ما يترتب عليه العقاب في اعتقاده - كاليهود الذين اتخذوا العجل وأسرفوا على أنفسهم في ارتكاب الموبقات وكفروا بخاتم النبيين الذي يجدون نعته في التوارة والإنجيل - فهو أشد كراهة للموت وأحرص على استمرار الحياة من الصنفين السابقين لأنهم يعلمون أن مصيرهم إلى العذاب وأنهم ليس بينهم وبينه إلا الموت وأل في (الناس) للاستغراق فهو يعم جميع الناس، وقوله: { ومن الذين أشركوا } عطف خاص على عام لأن المشركين أضن من المؤمنين بالحياة الدنيا كما تقدم.
والتنكير في (حياة) للإطلاق، فهو ينطبق على أي حياة كانت مهما كانت خستها، ومهما عانوا من الذل والهوان فيها فإنهم يفضلونها على الموت؛ وذهب كثير إلى أن التنكير للتنويع وأن الحياة التي يحرصون عليها هي الحياة المديدة، وذلك من عشقهم للدنيا وإخلادهم إليها، والأول أبلغ في الذم وأكثر تطابقا مع الواقع.
وقوله: { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } استئناف وصف لليهود تأكدا لما سبق ذكره عنهم وبيان لحرصهم المتناهي على التعمير، وقيل هو مرتبط بقوله: { ومن الذين أشركوا } وعليه فالوقف على (حياة) والواو وللاستئناف، والمراد بالذين أشركوا اليهود أنفسهم لقولهم:
عزير ابن الله
[التوبة : 30]، أو المجوس لأنهم دعون للعاطس منهم بالعيش ألف سنة أو عشرة آلاف سنة، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد ابن جبير، أو جميع المشركين لاشتراكهم جميعا في حب الحياة الدنيا، ويتجه لي على القولين الأخيرين أن تكون الواو في قوله: { ومن الذين أشركوا } للحال، أي هؤلاء اليهود أحرص على الحياة من كل الناس، والحال أن من المشركين - وهم من جملة الناس - من يود أن يعمر ألف سنة غير أن أسلوب النظم لا ينسجم مع شيء من هذه الأقوال، فالصحيح عطف { ومن الذين أشركوا } على ما قبله، والاستئناف من قوله: { يود } وهو استئناف بياني أجيب به عن سؤال مقدر عن مبلغ حرصهم على الحياة.
وإنما قلت بأن ما عدا هذا التأويل لا ينسجم مع أسلوب النظم لأن الضمير في أحدهم لا يجد بحسبها معادا إلا إذا قدر محذوف يرجع إليه نحو " أناس " ، والأصل عدم الحذف.
والضمير المسند إليه في قوله: { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } عائد إلى أحد المضاف إلى ضمير الجمع في الجملة التي قبله، أي ليس ذلك المعمر بمبعده تعميره من العذاب.
والزحزحة الإبعاد اليسير، وأصلها من زح يزح زحا، وصيغته للمبالغة نحو كبكبه وزعزعة، ومفاده أن هذا التعمير الذي يتمنونه حبا في الحياة الدنيا وإشفاقا من الموت لا يبعدهم ولو إبعادا يسيرا عن العذاب، لأنه وإن طال في نظر المخلوقين بادئ ذي بدء فهو قصير الأمد سريع الانتهاء لأن كل منقطع قصير فضلا عن كون التعمير مدعاة لسوء الحال، فإنه ينتهي بصاحبه إلى أرذل العمر والهوان على الأهل والأقارب وثقله على نفوسهم غير أنهم مع معرفتهم بهذا كله حراص على هذه الحياة مهما انطوت على الهون والمشقة وسوء الحال.
وقيل الضمير في: { وما هو بمزحزحه } كناية عن التعمير، وقوله: { أن يعمر } المؤول بمصدر - وهو التعمير - بدل منه، والبدلية هنا التفسير، والمشهور تفسير الضمير بالظاهر في حالين:
أولاهما: أن يكون الضمير للشأن وتفسره الجملة بعده كالمضمير المقدر بعد (أن) المخففة من الثقيلة نحو قوله تعالى:
علم أن سيكون منكم مرضى
[المزمل: 20].
ثانيتهما: أن يدخل الضمير على رب ويفسره التمييز نحو ربه رجلا.
وقيل: هو ضمير شأن وعليه أبو علي الفارسي، وهو مبني على مذهب الكوفيين، في جواز تفسير ضمير الشأن بغير الجملة إذا انتظم إسنادا معنويا ولا يجوز ذلك عند البصريين لاشتراطهم تفسير ضمير الشأن بجملة مصرح بجزأيها سالمة من حرف الجر.
وذهب ابن جرير إلى أنه عماد - وهو مصطلح كوفي فيما يسميه البصريون ضمير الفصل - وهو مبني أيضا على رأي الكوفيين في جواز تقديم العماد مع الخبر على المبتدأ، فيقال ما هو القائم زيد بدلا من ما زيد هو القائم، ولا يجوز ذلك عند البصريين لاشتراطهم أن يكون فاصلا بين المبتدأ والخبر سواء بقيا على أصلهما أو دخلتهما النواسخ كأنت في قوله تعالى:
كنت أنت الرقيب عليهم
[المائدة: 117]، ولذلك يسمونه فصلا.
وقوله: { والله بصير بما يعملون } تذييل للآية بوصفه تعالى بعلم ما يعملون لأن البصير هنا بمعنى العليم، ومناسبته لما تقدم من حيث إن إنساء آجالهم الذي يطمحون إليه ليس مما يجديهم شيئا وإن فكروا في ذلك لتأخيره العذاب عنهم إذ هم فيما ينسأ لهم من الآجال لا يأتون إلا الفظائع، ولا يتزودون إلا الآثام، فيضاعف لهم العذاب يوم القيامة مضاعفتهم لما ارتكبوه من أسبابه، ففيه وعيد شديد وتحذير بالغ ضمن هذا الوصف له تعالى.
وقرئ تعلمون - بالتاء - على سبيل الالتفات والخروج من الغيبية إلى الخطاب.
و(ما) موصولة والعائد محذوف، أي يعملونه، وجوز أن تكون مصدرية، أي بعملهم.
Bilinmeyen sayfa