1 - جريمة قتل
2 - المفتش جرانت
3 - داني ميلر
4 - راءول ليجارد
5 - داني مرة أخرى
6 - الشامي
7 - حلحلة الأمور
8 - السيدة إيفريت
9 - جرانت يحصل على معلومات أكثر مما توقع
10 - الهروع إلى الشمال
11 - كارنينيش
12 - الاعتقال
13 - التوقف عن إحراز تقدم
14 - الإدلاء بالشهادة
15 - البروش
16 - الآنسة دينمونت تقدم المساعدة
17 - الحل
18 - الخاتمة
1 - جريمة قتل
2 - المفتش جرانت
3 - داني ميلر
4 - راءول ليجارد
5 - داني مرة أخرى
6 - الشامي
7 - حلحلة الأمور
8 - السيدة إيفريت
9 - جرانت يحصل على معلومات أكثر مما توقع
10 - الهروع إلى الشمال
11 - كارنينيش
12 - الاعتقال
13 - التوقف عن إحراز تقدم
14 - الإدلاء بالشهادة
15 - البروش
16 - الآنسة دينمونت تقدم المساعدة
17 - الحل
18 - الخاتمة
جريمة قتل في صف انتظار
جريمة قتل في صف انتظار
تأليف
جوزفين تاي
ترجمة
أسماء عزب
مراجعة
هاني فتحي سليمان
الفصل الأول
جريمة قتل
كانت عقارب الساعة تشير إلى وقت ما بين السابعة والثامنة في إحدى ليالي شهر مارس، وكانت الحواجز في جميع أنحاء لندن تزال من أمام أبواب صالات المسارح وشرفاتها. ضجة، ودوي، وقعقعة. أصوات صاخبة قبيل العرض الترفيهي المسائي. حتى النفخ في الصور لم يكن ليحمل الراغبين في مشاهدة «ثسبيس وتيربسيكوري» على الوقوف بهذا القدر من الصبر - رغم كل ما يعانونه من إرهاق - في صفوف أربعة مزدحمة بالأشخاص أمام البوابات الواعدة. وبطبيعة الحال، لم يكن هناك صفوف في بعض الأماكن. ففي مسرح إرفينج، افترش خمسة أشخاص السلم، مضحين دون اكتراث بدفء الزحام مقابل ما حصلوا عليه دون عناء؛ وهو افتراشهم السلم؛ إذ لم تكن المأساة اليونانية تلقى رواجا. وفي مسرح بلايبوكس لم يكن هناك أحد ينتظر؛ فقد كان العرض في مسرح بلايبوكس حصريا، ولم يسمح بدخول الصالة. أما في مسرح أرينا، الذي استضاف موسم الباليه لمدة ثلاثة أسابيع، فكان هناك 10 أشخاص للجلوس في الشرفات وصف طويل للجلوس في الصالة. لكن في وفينجتون تلاشى كلا الصفين على ما يبدو. فمنذ وقت طويل، نزل أحد المسئولين المتعجرفين إلى صف صالة المسرح، وبإشارة من ذراعه الممدودة التي بدت وكأنها مقصلة للقضاء على الأمل، قال: «جميع الأماكن المتبقية هنا للحضور وقوفا فقط.» بعد ذلك، وبجهد يسير منه، فصل الأشخاص عن بعضهم البعض كما يفصل الراعي الخراف عن الماعز، وعاد بكل عظمة إلى مقدمة المسرح، حيث الدفء والمأوى خلف الأبواب الزجاجية. غير أن أحدا لم يبتعد عن الصف الطويل. فأولئك الذين حكم عليهم بالوقوف ثلاث ساعات أخرى بدوا غير مبالين بمعاناتهم. لقد ضحكوا وثرثروا، ومرروا لبعضهم البعض في ورق فضي ممزق قطعا من الشوكولاتة تؤازرهم. الحضور وقوفا فقط، أليس كذلك؟ حسنا، فمن الذي لن يقف، ويسعده الانتظار، في الأسبوع الأخير من عرض «ديدنت يو نو؟» (ألم تعلم ذلك؟) فقد استمر العرض الكوميدي الموسيقي اللندني حتى ذلك الوقت منذ ما يقرب من عامين، وكانت تلك الليلة هي ليلة العرض النهائي. حجزت المقاعد الأمامية والشرفات منذ أسابيع، وقد زاد من عدد الحشد المنتظر أمام الأبواب المغلقة العديد من العذارى الحمقاوات، اللائي لم يعتدن الوقوف في الصفوف؛ لأن الرشوة والفساد أثبتا عدم جدواهما في شباك التذاكر. يبدو أن كل شخص في لندن كان يحاول الاحتشاد في وفينجتون للاحتفاء بالعرض للمرة الأخيرة. هذا من أجل معرفة ما إذا كان جولي جولان قد أضاف مزحة جديدة لانتصار حماقته - جولان الذي أنقذه مدير جريء من العيش في الشارع، وأتيحت له الفرصة واغتنمها. وأيضا من أجل أن يستمتعوا مرة أخرى بجمال راي ماركابل وبريقها، تلك النجمة التي سطعت منذ عامين في سماء الفن حتى طبقت شهرتها الآفاق وطغى تألقها على من عداها من النجوم البارزين. رقصت راي مثل ورقة شجر تطير مع الريح، وقضت ابتسامتها الفريدة من نوعها على موضة إعلانات معجون الأسنان في ستة أشهر. وصف النقاد ابتسامتها بأنها «سر سحرها الغامض»، لكن متابعيها أطلقوا عليها العديد من الأشياء المبالغ فيها، وعرفوها لبعضهم البعض من خلال التلويح باليد وتعابير الوجه عندما أثبتت الكلمات أنها غير كافية للتعبير عن روعتها. الآن هي ذاهبة إلى أمريكا، مثل كل الأشياء الجيدة، وستصبح لندن التي اعتادت عليها على مدار العامين الماضيين صحراء لا يمكن تصورها من دون راي ماركابل. من منا لن يقف إلى الأبد لمجرد رؤيتها مرة أخرى؟
كانت السماء تمطر مطرا خفيفا منذ الساعة الخامسة صباحا، وبين الحين والآخر كان الهواء البارد الخفيف يحمل الرذاذ ويدفعه برفق نحو صف الانتظار، مداعبا إياه من أوله لآخره كضربة فرشاة ممتدة. لم يثبط ذلك عزيمة أحد - حتى الطقس لم يستطع أن يأخذ نفسه على محمل الجد في تلك الليلة؛ فقد كان يتمتع بنكهة تكفي لفتح شهية المنتظرين بما يتناسب مع العرض الترفيهي الذي ينتظرونه. أصاب المنتظرين بالصف ملل شديد، واستفاد أصحاب اللهجة الكوكنية بأكبر قدر من أي تسلية ممكنة في الممر المظلم. في البداية جاء بائعو الصحف ذوو الأعين الحذرة والأجسام الضئيلة والوجوه النحيلة التي تخلو من أي عاطفة. تغلغلوا في صف الانتظار كالنار في الهشيم واختفوا، تاركين وراءهم أثرا من الثرثرة والأوراق المتناثرة. ثم بسط رجل شديد القصر سجادة بالية على الرصيف الرطب وأخذ يصنع بجسده وأذرعه عقدا كثيرة إلى أن بدا أشبه بالعنكبوت عندما يفاجأ بشيء، تبرق عيناه الجاحظتان الحزينتان بين الحين والآخر من أماكن غير متوقعة تماما، وتحملقان في الحشد المتمايل، حتى إن أكثر المتفرجين لا مبالاة شعر وكأن ظهره يطقطق. وقد خلفه رجل عزف على الكمان ألحانا محببة، متغافلا في سعادة عن حقيقة أن وتره الأول كان منخفضا بمقدار نصف نغمة. ثم، في الوقت نفسه، جاء مغن للقصائد العاطفية وفرقة موسيقية تعزف نشازا مكونة من ثلاثة أفراد. وبعد أن تجهموا في وجوه بعضهم البعض للحظة أو اثنتين، حاول المغني استعجال الأمور وفقا لمبدأ الاستحواذ هو كل شيء، من خلال الاقتحام والانتحاب بأغنية «بيكوز يو كام تو مي» (لأنك أتيت إلي)، ولكن قائد الفرقة الموسيقية سلم جيتاره لأحد المساعدين، وشرع في تقديم الصادح، باعدا مرفقيه عن جسده ورافعا يديه. حاول الصادح تجاهله من خلال النظر من فوق رأسه، لكنه وجد صعوبة في ذلك، لأن الموسيقي كان أطول قامة منه بقليل، ويبدو موجودا في كل مكان. ثابر حتى بيتين شعريين آخرين، ثم تذبذبت القصيدة بتردد لتصير استهجانا في صوته الطبيعي، وبعد دقيقتين، تلاشى في الزقاق المظلم، يغمغم بالتهديدات والشكاوى، وبدأت الفرقة الموسيقية فجأة عزف أحدث لحن للرقص. ونظرا إلى أن هذا الأمر يتعلق بذوق المعاصرين أكثر من تعلقه بالإحياء غير الملائم للمشاعر المضمحلة، فقد نسوا على الفور كل شيء عن الضحية المسكينة للقوة القاهرة، وملوا مع الوقت من التدابير الحيوية. بعد الفرقة الموسيقية، جاء كل بمفرده؛ ساحر، ومبشر، ورجل سمح لنفسه أن يقيد بحبل ذي عقد مظهرها مثير للإعجاب، وحرر نفسه بالدرجة نفسها من إثارة الإعجاب.
كل هؤلاء يؤدون فقراتهم الصغيرة وينتقلون إلى عرض آخر في مكان آخر، وكان كل واحد منهم قبل مغادرته يتجول في الصف، دافعا قبعته اللينة المزعجة بين الفواصل الصغيرة في صف الانتظار، ويقول: «شكرا لكم! شكرا لكم!» تشجيعا للكرماء. وكان يتخلل البرنامج الترفيهي بائعو حلوى، وبائعو أعواد ثقاب، وبائعو ألعاب أطفال، بل وحتى بائعو بطاقات بريدية تذكارية. تفرق الحشد بلطف ومعهم أموالهم، ووجدوا التسلية الكافية لاحتياجاتهم.
الآن سرت رجفة على طول الصف - وهي رجفة لم يعرف معناها إلا ذوو الخبرة. تخلى الواقفون عن المقاعد الصغيرة القابلة للطي أو طووها في حقائب اليد، واختفى الطعام، وظهرت محافظ النقود. فتحت الأبواب. ها قد بدأت المغامرة الجميلة والمثيرة. هل سيفوزون بمكان أم سيخسرون حين يصلون إلى شباك بيع التذاكر؟ في الجزء الأمامي من الصف حيث كان الترتيب على شكل ثنائيات أقل في العدد من الجزء الخلفي المكشوف، تغلبت الإثارة عند فتح الأبواب لحظة أو اثنتين على غريزة الاحتفاظ بالمكان المعتاد التي تميز الرجل الإنجليزي - أقول عن عمد الرجل الإنجليزي؛ لأن الاسكتلندي لا يتمتع بها - وكان هناك دفع خفيف وإعادة هيكلة قبل أن يتحول الصف إلى كتلة محشورة لاهثة أمام شباك التذاكر، الذي كان بالقرب من باب الصالة مباشرة. أعلنت قعقعة عملة معدنية من النحاس استمرار المعاملات المتعجلة التي جعلت المحظوظين محررين من الجنة. وتسبب صوتها في اندفاع أولئك الذين يقفون بالخلف إلى الأمام دون وعي حتى احتج الحشد في المقدمة بأعلى صوت سمحت به رئاتهم المحطمة، وذهب شرطي إلى الصف احتجاجا على ذلك. «والآن، والآن، ابتعدوا قليلا. هناك متسع من الوقت. لن تدخلوا بالتدافع. كل شيء في حينه.» بين الحين والآخر، تمايل الصف كله للأمام بضع بوصات حيث ركض المحررون في مجموعات من اثنين وثلاثة من رأس الصف، مثل الخرز الذي يتدحرج من خيط مقطوع. الآن عطلت الصف امرأة بدينة في محاولتها للبحث في حقيبتها عن المزيد من المال. بالتأكيد كان بإمكان الأحمق اكتشاف المبلغ المطلوب بالضبط قبل الآن بدلا من تعطيل الصف على هذا النحو. التفتت إلى الرجل الذي يقف خلفها وكأنها مدركة لعدائهم وقالت بغضب: «حسنا سأكون شاكرة إذا توقفت عن الدفع بي. ألا يسمح لامرأة بإخراج محفظتها دون أن يفقد الجميع أخلاقه؟»
لكن الرجل الذي تحدثت إليه لم ينتبه إلى ما تقول. وسقط رأسه على صدره. لم يتلق نظراتها الغاضبة الثاقبة سوى الجزء العلوي من قبعته الناعمة. تذمرت، وابتعدت عنه متجهة نحو شباك التذاكر، وألقت بحزم الأموال التي كانت تبحث عنها. وأثناء قيامها بذلك، سقط الرجل ببطء على ركبتيه، بحيث كاد أولئك الذين يقفون خلفه أن يسقطوا فوقه، وظلوا على هذه الحال للحظة، ثم انقلب ببطء أكثر على وجهه.
قال أحدهم: «لقد فقد الشاب وعيه.» لم يتحرك أحد لحظة أو اثنتين. إن اهتمام المرء بأعماله الخاصة في حشد من الناس اليوم هو غريزة للحفاظ على الذات، تشبه تلون الحرباء. ربما يأتي شخص ما من أجل الشاب. لكن لم يفعل أحد ذلك؛ ولذا تقدم رجل لديه غريزة اجتماعية أقوى أو أكثر عجبا بذاته مقارنة بالباقين؛ لمساعدة الشخص المنهار. كان على وشك الانحناء فوق الجسد الملقى على الأرض، عندما توقف كما لو كان لسعه شيء وتراجع على عجل. صرخت امرأة ثلاث مرات، بشكل مروع، وتجمد الصف المتدافع اللاهث فجأة دون حركة.
في الضوء الأبيض الصافي للمصباح الكهربائي المكشوف المعلق في السقف، كان جسد الرجل، الذي تركه وحيدا الانسحاب الغريزي للآخرين، ممددا كاشفا عن كل التفاصيل. ويظهر بميل من النسيج الرمادي الصوفي الخشن لمعطفه شيء فضي صغير يلمع بخبث في الضوء المشئوم.
كان مقبض خنجر.
وقبيل أن ترتفع صيحة «الشرطة!»، كان الشرطي قد جاء من الطرف الآخر من الطابور حيث كان مسئولا عن تهدئة الأوضاع. لقد استدار في أول صرخة من صرخات المرأة. لا أحد يصرخ هكذا إلا عندما يواجه الموت المفاجئ. وقف الآن ينظر لحظة إلى المشهد، وانحنى فوق الرجل، وأدار رأسه برفق إلى النور، ثم تركه، وقال للرجل في شباك التذاكر: «اتصل بالإسعاف والشرطة.»
أدار عينيه المصعوقتين بشكل كبير إلى الصف. «هل يعرف أحد هنا هذا الرجل المحترم؟»
لم يدع أحد معرفته بالجثة الهامدة على الأرض.
خلف الضحية كان يقف زوجان ميسورا الحال من الضواحي. كانت المرأة تنوح باستمرار وكان وجهها خاليا من أي تعبير: «أوه لنذهب إلى المنزل، جيمي! أوه، دعنا نذهب إلى المنزل!» على الجانب الآخر من شباك التذاكر، وقفت المرأة البدينة مندهشة من هذا الرعب المفاجئ، وهي تمسك تذكرتها في قفازيها القطنيين السوداوين، ولكنها لم تبذل أي جهد لتأمين مقعد في الوقت الذي أصبح الطريق مفتوحا لها. في الجزء الخلفي من صف الانتظار، انتشر الخبر كالنار في الهشيم - قتل رجل! وبدأ الحشد في الدهليز المائل بالاندفاع فجأة في ارتباك ميئوس منه حيث حاول البعض الابتعاد عن الشيء الذي أفسد كل أفكار التسلية، وحاول البعض المضي قدما ليرى ما حدث، وقاتل بعض الساخطين للحفاظ على المكان الذي وقفوا من أجله ساعات طويلة. «أوه، لنذهب إلى المنزل، جيمي! أوه، دعنا نذهب إلى المنزل!»
تحدث جيمي لأول مرة. «لا أعتقد أننا نستطيع، أيتها المرأة العجوز، حتى تقرر الشرطة إذا ما كانت تريدنا أم لا.»
سمعه الشرطي وقال: «أنت على حق تماما. لا يمكنك الذهاب. سيبقى الستة الأوائل في أماكنهم»، وأضاف إلى المرأة البدينة: «وأنت يا سيدتي. الباقي يأتي من هنا.» ولوح بيده كما لو كان يلوح لحركة المرور أمام سيارة معطلة.
انتابت زوجة جيمي نوبة بكاء هيستيري، واعترضت المرأة السمينة. لقد جاءت لمشاهدة العرض ولم تكن تعرف أي شيء عن الرجل. كان الأشخاص الأربعة الذين يقفون وراء الزوجين من الضواحي لا يرغبون بالقدر نفسه في التورط في شيء لا يعرفون شيئا عنه، مع نتائج لا يمكن لأحد توقعها. هم أيضا احتجوا على جهلهم.
قال الشرطي: «ربما، لكن عليكم شرح كل ذلك في المركز.» وأضاف لإراحتهم، على نحو غير مقنع على الإطلاق في ظل هذه الظروف: «لا يوجد ما يدعو للخوف.»
وهكذا تقدم الصف. وأحضر الحارس ستارة خضراء من مكان ما وغطى الجثة. وبدأت القعقعة التلقائية للعملات النقدية مرة أخرى واستمرت، غير مبالية مثل المطر. عرض الحارس، الذي انتقل من شرود ذهنه المعتاد بسبب محنة المنبوذين السبعة أو على أمل المكافأة، أن يحتفظ بمقاعدهم من أجلهم. بعد وقت قصير جاءت سيارة الإسعاف والشرطة من مركز شرطة جاوبريدج. أجرى أحد المفتشين مقابلة قصيرة مع كل من المعتقلين السبعة، وأخذ أسماءهم وعناوينهم، وأذن لهم بالانصراف مشددا عليهم أن يكونوا جاهزين للحضور حال استدعائهم. أخذ جيمي زوجته التي كانت تبكي بعيدا إلى سيارة أجرة، بينما اتجه الخمسة الآخرون بهدوء إلى المقاعد التي كان يحافظ الحارس عليها، تماما في الوقت الذي رفع فيه الستار إيذانا ببدء العرض المسائي «ديدنت يو نو؟»
الفصل الثاني
المفتش جرانت
ضغط مفوض الشرطة باركر بسبابته المشذبة بعناية على زر الجرس العاجي أسفل طاولته، وظل ضاغطا حتى ظهر أحد تابعيه.
قال للرجل: «أخبر المفتش جرانت أنني أود رؤيته»، وكان ذلك الرجل يبذل قصارى جهده ليبدو مذعنا في حضور الرجل العظيم الشأن، لكن المرحلة المبكرة من بدانته أحبطت نواياه الطيبة وأجبرته على الانحناء للخلف قليلا من أجل الاحتفاظ بتوازنه، وكذلك زاوية أنفه التي كانت رمزا للوقاحة. انسحب الرجل لإيصال الرسالة مدركا فشله بمرارة ودفن ذكرى ارتباكه بين الكمال غير المتعاطف للملفات والأوراق التي استدعي بعيدا عنها، وعلى الفور دخل المفتش جرانت إلى الغرفة وألقى التحية على رئيسه بسرور. وأشرق وجه رئيسه لاشعوريا في حضوره.
إذا كان لدى جرانت ما يفوق المميزات المعتادة للتفاني في العمل، وقدر جيد من الذكاء والشجاعة، فإن آخر وظيفة يمكن أن تتوقعها له هي ضابط شرطة. فقد كان متوسط الطول هزيل البنية، وكان ... الآن ، إذا قلت أنيقا، فستفكر بالطبع على الفور في شيء مثل دمية عرض الملابس (مانيكان)، شيء مثالي بعيدا عن كل الصفات الشخصية، ومن المؤكد أن جرانت لم يكن كذلك، ولكن إذا كان بإمكانك تخيل نوع من الأناقة ليس مثل دمى عرض الملابس، فهذا هو جرانت. سعى باركر سنوات دون جدوى لمحاكاة أناقة مرءوسه؛ ولم ينجح إلا في أن ينتقي ملابسه بعناية فائقة. كان يفتقر إلى الذوق في الأمور المتعلقة بالملابس كما كان يفتقر إليه في معظم الأمور. فقد كان كادحا. ولكن كان هذا أسوأ ما يمكن أن يقال عنه. فعندما كان يبدأ في الكدح وراء شخص ما، كان هذا الشخص يتمنى عادة أنه لم يولد قط.
نظر إلى مرءوسه الآن بإعجاب لا يشوبه أي استياء، مقدرا الأجواء الصعبة - فقد كان مستيقظا طوال الليل بسبب عرق النسا ومع ذلك جاء إلى العمل.
وقال: «جاوبريدج تعاني بشدة. في الواقع، تمادى الوضع في جاو ستريت حتى بلغ حد التلميح إلى حدوث مؤامرة.» «أوه؟ هل هناك من يراوغهم؟» «لا، لكن مسألة الليلة الماضية هي خامس أمر كبير يحدث في منطقتهم في الأيام الثلاثة الماضية، وقد ضاقوا ذرعا من ذلك. يريدون منا تولي هذه القضية الأخيرة.» «ما هي؟ مسألة صف المسرح، أليس كذلك؟» «نعم، وأنت الضابط المسئول عن التحقيقات. لذا اشرع في العمل. يمكنك أخذ ويليامز معك. أريد أن يذهب باربر إلى بيركشاير من أجل عملية السطو التي وقعت في نيوبري. سيحتاج السكان المحليون هناك إلى الكثير من التملق؛ لأننا استدعينا، وباربر أفضل في ذلك الأمر من ويليامز. أعتقد أن هذا كل شيء. من الأفضل الذهاب إلى جاو ستريت على الفور. حظا طيبا.»
بعد نصف ساعة، كان جرانت يجري مقابلة مع جراح شرطة جاوبريدج. قال الجراح إن الرجل قد وصل إلى المستشفى جثة هامدة. وكان السلاح خنجرا رفيعا وحادا للغاية. دفع إلى ظهر الرجل على الجانب الأيسر من العمود الفقري بقوة لدرجة أن المقبض ضغط ملابسه لتصير لفافة منعت تدفق الدم. وما تدفق نضح حول الجرح دون أن يخرج إلى السطح الخارجي على الإطلاق. في رأيه، طعن الرجل وقتا طويلا - ربما 10 دقائق أو أكثر - قبل أن ينهار عندما ابتعد عنه الواقفون أمامه. في سقوط مثل هذا، سترفعه الجماهير وتنقله. في الواقع، يستحيل على المرء السقوط لو أراد ذلك في مثل هذا الحشد المكتظ. وظن أنه من المستبعد تماما أن يكون الرجل على علم بأنه قد تعرض للطعن. فقد كان هناك الكثير من الضغط والتدافع والإيذاء اللاإرادي في هذه المناسبات بحيث لا يمكن ملاحظة ضربة مفاجئة وغير مؤلمة للغاية. «وماذا عن الشخص الذي طعنه؟ هل لاحظت أي شيء مميز في الطعن؟» «لا، إلا أن الرجل كان قويا وأعسر.» «ليست امرأة؟» «لا، سيحتاج الأمر إلى قوة أكبر مما تتمتع به المرأة لدفع النصل بالطريقة التي دفع بها. كما ترى، لم يكن هناك مكان لسحب الذراع للخلف. لا بد أن الضربة سددت من موضع مريح. يا إلهي، لقد ارتكبها رجل. رجل حازم للغاية.»
سأل جرانت، الذي أحب سماع الآراء العلمية حول أي موضوع: «هل يمكنك إخباري بأي شيء عن القتيل ذاته؟». «ليس الكثير. تنشئة جيدة - مزدهرة، ينبغي أن أقول.» «هل هو ذكي؟» «نعم، جدا، كما أعتقد.» «من أي نوع؟» «هل تقصد نوع المهنة؟» «لا، يمكنني أن أستنتج ذلك بنفسي. أي نوع من الطبع - أظن أنك تسميه كذلك - كان يتسم به الرجل؟» «حسنا فهمت قصدك.» فكر الجراح لحظة. ونظر بريبة إلى محاوره. «حسنا، لا أحد يستطيع أن يجزم بهذا - هل تعي هذه الحقيقة؟» وعندئذ اعترف جرانت بالصفة التالية: «لكن يجب أن أصفه بأنه من أصحاب «القضايا الخاسرة».» رفع حاجبيه مستفهما من المفتش، وأضاف وهو واثق من فهمه: «كانت لديه صفات عملية بما فيه الكفاية في وجهه، لكن يديه كانتا يدي رجل حالم. سترى بنفسك.»
نظرا معا إلى الجثة. كان شابا في التاسعة والعشرين أو الثلاثين من عمره، أشقر الشعر، عسلي العينين، نحيفا، متوسط القامة. كانت اليدان، كما أوضح الطبيب، طويلتين ورفيعتين وغير معتادتين على العمل اليدوي. قال الجراح وهو يلقي نظرة على قدمي الرجل: «من المحتمل أن يكون وقف كثيرا. وكان يسير وإصبع قدمه اليسرى معوج للداخل.»
سأل جرانت: «هل تعتقد أن الجاني كان ملما بعلم التشريح؟». كان من شبه المستحيل أن يصدق أحد أن حفرة صغيرة جدا كهذه جعلت الرجل يفقد حياته. «لم يتم ذلك بمثل دقة الجراح، إذا كان هذا ما تعنيه. وبالنسبة إلى الإلمام بعلم التشريح، ففعليا كل شخص عاش في فترة الحرب لديه معرفة عملية بعلم التشريح. ربما كانت مجرد ضربة حظ - وأنا بالأحرى أميل إلى ذلك.»
شكره جرانت وذهب لتولي الأمر مع مسئولي جاو ستريت. وضعت على الطاولة المحتويات الضئيلة لجيوب الرجل. شعر جرانت ببعض القلق عندما رأى قلة هذه الأشياء. منديل قطني أبيض، وكومة صغيرة من القطع النقدية (نصفي كراون، ونصفي شلن، وشلن، وأربعة بنسات، ونصف بنس) والمفاجأة مسدس خدمة. كان المنديل باليا جدا ولم يكن به ملصق يبين طريقة الغسيل كما لا يحمل حرفا أوليا. كان المسدس محشوا بالكامل.
فحص جرانت الأشياء باشمئزاز في صمت. سأل قائلا: «هل توجد ملصقات غسيل على ملابسه؟».
لا، لم تكن هناك ملصقات من أي نوع.
ولم يأت أحد ليطالب بجثته؟ أو حتى للاستفسار بشأنه؟
لا أحد سوى تلك العجوز المجنونة التي طالبت بكل شخص عثرت عليه الشرطة.
من الواضح أنه سيفحص الملابس بنفسه. ومن ثم فحص بدقة كل قطعة من الملابس. كان كل من القبعة والحذاء باليين جدا، لدرجة أن اسم صانع الحذاء، الذي من المفترض أن يكون على البطانة، كان قد طمس. واشتريت القبعة عندما كانت جديدة من شركة كانت تمتلك متاجر في جميع أنحاء لندن والمقاطعات. كلاهما كانا من نوع جيد، وعلى الرغم من أنهما كانا باليين، فإن نوعهما لم يكن رديئا. كانت البدلة الزرقاء عصرية، بل بالأحرى تفصيلها مميز جدا، وربما ينطبق الشيء ذاته على المعطف الرمادي. كانت ملابس الرجل الداخلية جيدة إن لم تكن باهظة الثمن، وكان القميص ذا لون شائع. في الواقع، كانت جميع الملابس تعود إلى رجل إما كان مهتما بالملابس أو ينتمي لمجتمع يفعل ذلك. ربما كان موظف مبيعات في متجر ملابس للرجال. وكما قالوا في جاوبريدج، لم تكن هناك ملصقات غسيل. وهذا يعني أن الرجل إما أنه أراد إخفاء هويته أو أن ملابسه الداخلية تغسل عادة في المنزل. ونظرا إلى عدم وجود أي علامات لطمس الملصقات، فقد كان التفسير الأخير هو التفسير المعقول. من ناحية أخرى، أزيل اسم الخياط عمدا من البدلة. ويشير ذلك بالإضافة إلى قلة متعلقات الرجل بالتأكيد إلى رغبته في إخفاء هويته.
وأخيرا الخنجر. لقد كان سلاحا صغيرا رهيبا رفيعا مثل الأفعى. كان المقبض من الفضة، ويبلغ طوله نحو ثلاث بوصات، وعليه صورة قديس ملتح يرتدي عباءة. وكانت مواضع متفرقة منه مطلية بألوان أولية زاهية مثل الصور المقدسة المزخرفة في البلدان الكاثوليكية. بشكل عام كان من النوع الشائع إلى حد ما في إيطاليا وعلى طول الساحل الجنوبي لإسبانيا. أمسكه جرانت بحذر شديد.
سأل: «كم عدد الأشخاص الذين لمسوه؟».
كانت الشرطة قد صادرته بمجرد وصول الرجل إلى المستشفى وكان من الممكن إزالته. ولم يلمسه أحد منذ ذلك الحين. لكن وجه جرانت أصبح خاليا من تعبيرات الرضا التي كانت تعلوه عندما أضيفت معلومة أنه قد فحص السلاح بحثا عن بصمات الأصابع ولم يجدوا شيئا. ولا حتى بصمة غير واضحة تكدر لمعان سطح القديس المتعجرف الذي نقش عليه.
قال جرانت: «حسنا، سآخذ هذه الأشياء وأمضي قدما.» وترك تعليمات مع ويليامز لأخذ بصمات الرجل الميت ثم فحص المسدس بحثا عن أي خصائص غريبة. من وجهة نظره، بدا أنه مسدس خدمة عادي للغاية من النوع الذي كان شائعا في بريطانيا منذ الحرب مثل الساعات البندولية ذات الصندوق الخشبي. ولكن، كما قيل، أحب جرانت سماع ما ستقوله السلطات بشأن رجلها. لذا استقل سيارة أجرة وقضى بقية اليوم في مقابلة الأشخاص السبعة الذين كانوا بالقرب من الشخص المجهول عندما سقط الليلة السابقة.
عندما كانت سيارة الأجرة تتجول به ترك تفكيره يجول بشأن الموقف. لم يكن لديه أدنى أمل في أن يكون هؤلاء الأشخاص الذين أجرى معهم مقابلات ذوي فائدة له. لقد أنكروا جميعا أي معرفة بالرجل عند استجوابهم أول مرة، ولم يكن من المحتمل أن يغيروا رأيهم بشأن ذلك الآن. وأيضا، لو رأى أي منهم رفيقا للرجل الميت سابقا، أو لاحظ أي شيء مريب، لصاروا على أتم الاستعداد لقول ذلك. ووفقا لخبرة جرانت فإن 99٪ من الأشخاص يقدمون معلومات غير مفيدة إذا ما لزم المرء الصمت. مرة أخرى، قال الجراح إن الرجل تعرض للطعن قبل أن يلتفت إليه أحد، ولن يبقى أي قاتل بالقرب من ضحيته حتى يتم اكتشاف ما حدث. حتى مع احتمالية أن يخطر ببال القاتل ارتكاب خدعة، فإن فرص وجود صلة بينه وبين ضحيته كانت جيدة جدا للسماح للرجل العاقل - والرجل العازم على الحفاظ على نفسه عادة ما يكون حاذقا بدرجة كافية - بالانغماس فيها. لا، فالرجل الذي فعل ذلك قد ترك الصف في وقت سابق. يجب أن يجد شخصا لاحظ الرجل المقتول قبل وفاته ورآه يتحدث مع شخص ما. كان هناك، بالطبع، إمكانية مواجهة أنه لم يكن هناك محادثة، وأن القاتل قد اتخذ مكانا خلف ضحيته وتسلل بعيدا عندما انتهى الأمر. في هذه الحالة، كان عليه أن يعثر على شخص رأى رجلا يغادر الصف. وينبغي ألا يكون هذا أمرا صعبا. يمكن الاستعانة بالصحافة.
فكر بتكاسل في نوع الرجل الذي سيكون عليه. لم يستخدم أي رجل إنجليزي حذر مثل هذا السلاح. ولو استخدم الفولاذ بأي حال من الأحوال، فإنه سيأخذ شفرة حلاقة ويقطع عنق شخص. لكن سلاحه المعتاد كان الهراوة، وفي حالة فشل ذلك، كان المسدس. كانت هذه جريمة خطط لها ببراعة ونفذت بمهارة كانت غريبة على تفكير الرجل الإنجليزي المعتاد. أعلنت الأنوثة الطاغية بها عن شخص شامي، أو على أقل تقدير شخص اعتاد على عادات الحياة الشامية. ربما كان بحارا. ربما ارتكبها بحار إنجليزي اعتاد على موانئ البحر الأبيض المتوسط. ولكن حينها، هل كان من المحتمل أن يفكر البحار في أي شيء ماكر مثل صف الانتظار؟ كان من المرجح أن ينتظر في ليلة مظلمة وشارع منعزل. روعة الأمر كانت شامية. كان الرجل الإنجليزي مهووسا بالرغبة في الضرب. ولكن طريقة الضرب لم تكن تعنيه عادة.
جعل ذلك جرانت يفكر في الدافع، وظن أن الدوافع الأكثر وضوحا هي: السرقة، والانتقام، والغيرة، والخوف. استبعد الدافع الأول؛ فقد كان من الممكن أن يسرق متمرس خبير جيوب الرجل عدة مرات في مثل هذا الحشد، دون أي عنف يذكر. هل كان انتقاما أم غيرة؟ على الأرجح، كان الشاميون معروفين بضعفهم فيما يخص مشاعرهم؛ فيمكن لإهانة أن تثير استياءهم مدى الحياة، وابتسامة شاردة من محبوبهم، تفقدهم السيطرة على أنفسهم. هل فرق الرجل عسلي العينين - الذي كان بلا شك جذابا - بين الشامي وفتاته؟
من غير سبب، لم يعتقد جرانت ذلك. ولم يغفل لحظة عن هذا الاحتمال، لكنه لم يعتقد ذلك. بقي الخوف. هل كان المسدس المحشو بالكامل معدا للرجل الذي طعن ظهر المالك بتلك القطعة الفولاذية؟ هل كان القتيل ينوي إطلاق النار على الشامي بمجرد رؤيته، وهل عرف القاتل ذلك وعاش في رعب؟ أم أنه كان العكس؟ هل كان القتيل يحمل سلاحا للدفاع عن نفسه ولكن لم ينفعه ذلك؟ ولكن حينها سيكون هناك رغبة الرجل المجهول في إخفاء هويته. فمسدس محشو في هذه الظروف يعني الانتحار. ولكن إذا كان ينوي الانتحار فلماذا لم يؤجله حتى ذهابه إلى المسرحية؟ وما الدافع الآخر الذي حدا بالرجل إلى عدم الكشف عن هويته؟ هل هو خلاف مع الشرطة - اعتقال؟ هل كان ينوي إطلاق النار على شخص ما، وخوفا من عدم تمكنه من الهرب، جعل نفسه مجهول الاسم؟ كان ذلك واردا.
كان من الآمن إلى حد ما، على الأقل، افتراض أن الرجل الميت والرجل الذي سماه جرانت في ذهنه الشامي كانا يعرف أحدهما الآخر حق المعرفة بالقدر الكافي لإثارة أحدهما غضب الآخر. وكان جرانت لا يؤمن كثيرا بأن الجماعات السرية أصل جرائم القتل غير المعتادة. فالجماعات السرية تستمتع بالسرقة والابتزاز وكل الأساليب القذرة للحصول على شيء مقابل لا شيء، ونادرا ما يكون هناك أي شيء غير مألوف بشأنها، كما كان يعلم من تجارب مريرة. علاوة على ذلك، لا توجد جماعات سرية مثيرة للإعجاب في لندن في الوقت الحالي، وكان يأمل ألا تبدأ في الظهور. فالقتل حسب الطلب كان يصيبه بالملل الشديد. وما أثار اهتمامه هو إمكانية تلاعب العقل بالعقل، والعاطفة بالعاطفة. مثل الرجل الشامي والرجل المجهول. حسنا، يجب أن يبذل قصارى جهده لمعرفة هوية الرجل المجهول - وهذا من شأنه أن يوفر له معلومات عن الرجل الشامي. لماذا لم يطالب به أحد؟ ولكن هذا سابق لأوانه، بالطبع. قد يتعرفه شخص ما في أي لحظة. فبرغم كل شيء، لم يفتقده أهله إلا لليلة واحدة فقط، ولا يندفع الكثير من الناس لرؤية رجل مقتول لمجرد أن ابنهم أو أخاهم لم يعد إلى المنزل لليلة.
بصبر ومراعاة وعقل يقظ، أجرى جرانت مقابلات مع الأشخاص السبعة الذين كان قد عزم على رؤيتهم وجها لوجه. صحيح أنه لم يكن يتوقع تلقي معلومات منهم مباشرة، لكنه أراد أن يراهم بنفسه وأن يشكل رأيا عنهم. وجدهم جميعا يمارسون أعمالهم المختلفة باستثناء السيدة جيمس راتكليف، التي كانت طريحة الفراش ويرافقها الطبيب، الذي أعرب عن أسفه للصدمة العصبية التي ألمت بها. تحدثت شقيقتها - فتاة فاتنة ذات شعر عسلي - إلى جرانت. من الواضح أنها جاءت إلى قاعة الاستقبال وهي رافضة تماما فكرة السماح بدخول أي ضابط شرطة إلى شقيقتها في حالتها الحالية. كانت رؤية ضابط الشرطة في الواقع أمرا مذهلا حتى إنها نظرت مرة أخرى إلى بطاقته لاإراديا، وابتسم جرانت بداخله أكثر بقليل مما بدا عليه.
قال معتذرا: «أعلم أنك تكرهين رؤيتي» كانت نبرة صوته حقيقية إلى حد ما «ولكني أتمنى أن تدعيني أتحدث مع شقيقتك لمدة دقيقتين فقط. يمكنك الوقوف خارج الباب ومعك ساعة إيقاف. أو يمكنك الدخول إذا أردت ذلك، بالطبع. لا يوجد شيء سري على الإطلاق فيما أريد أن أقوله لها. كل ما في الأمر أنني مسئول عن التحقيقات في هذه القضية، ومن واجبي رؤية الأشخاص السبعة الذين كانوا بالقرب من الرجل الليلة الماضية. سيساعدني بشدة إذا تمكنت من حذفهم جميعا من القائمة الليلة والبدء في مهام جديدة غدا. ألا ترين؟ إنها مجرد شكليات لكنها مفيدة للغاية.»
كما كان يأمل، أفلح هذا النوع من الجدل. فبعد قليل من التردد، قالت الفتاة: «دعني أذهب وأر ما إذا كان بإمكاني إقناعها.» لا بد أن تقريرها عن ملامح المفتش الفاتنة كان تقريرا ورديا؛ لأنها عادت في وقت أقل مما تجرأ على أمله وأخذته إلى غرفة شقيقتها، حيث أجرى مقابلة مع امرأة باكية أكدت أنها لم تلاحظ الرجل حتى سقط، وكانت عيناها الدامعتان تنظران إليه باستمرار بفضول مخيف. كان فمها مختبئا خلف منديل ظلت تضغط عليه. تمنى جرانت أن تزيحه لحظة. فقد كان لديه نظرية مفادها أن الأفواه تفشي الأسرار أكثر من العيون - عندما يتعلق الأمر بالنساء بالتأكيد. «هل كنت تقفين خلفه عندما سقط؟» «نعم.» «ومن كان بجانبه؟»
لم تستطع أن تتذكر. لم يكن أحد يهتم بشيء إلا بالدخول إلى المسرح، وعلى أي حال لم تلاحظ قط الأشخاص في الشارع.
قالت مرتجفة وهو يغادر: «أنا آسفة. أود أن أكون مفيدة إن استطعت. ما زلت أرى ذاك الخنجر، وسأفعل أي شيء لإلقاء القبض على الرجل الذي ارتكب الجريمة.» عندما خرج جرانت أبعدها عن تفكيره.
كان زوجها، الذي اضطر أن يسافر إلى المنطقة المالية بلندن من أجل لقائه - بإمكانه معرفة كل شيء من شرطة سكوتلانديارد، لكنه أراد أن يرى كيف كانوا يقضون وقتهم في اليوم الأول بعد جريمة القتل. قال إنه كان هناك قدر غير محدود من التدافع العنيف في الصف، عندما فتحت الأبواب؛ لذلك تغيرت علاقاتهم مع الأشخاص المحيطين بهم قليلا. وبقدر ما يتذكر، كان الشخص الواقف بجانب القتيل وأمامه هو شخصيا رجلا كان ضمن مجموعة من أربعة أفراد ودخل معهم. وقال، مثل زوجته، إنه لم ير الرجل بوعي حتى سقط.
وجد جرانت أن الخمسة الآخرين يتمتعون بالقدر ذاته من البراءة واللاجدوى. لم يلاحظ أحد الرجل. أذهل ذلك جرانت قليلا. كيف لم يره أحد؟ لا بد أنه كان هناك طوال الوقت. لا يشق المرء طريقه إلى رأس صف الانتظار دون جذب أكبر قدر من الاهتمام غير المريح. وحتى أكثر الأشخاص غفلة سيتذكرون ما رأته أعينهم حتى لو كانوا غير مدركين لما لاحظوه حينها. كان جرانت لا يزال في حيرة عندما عاد إلى مقر سكوتلانديارد.
هناك أرسل إشعارا إلى الصحافة يطلب من أي شخص رأى رجلا يغادر صف الانتظار التواصل مع شرطة سكوتلانديارد. وكذلك أرسل وصفا كاملا للرجل المتوفى، والتقدم المحرز في التحقيقات بالقدر الذي يمكن عرضه على الجمهور. ثم استدعى ويليامز وطلب منه بيانا بالمهمة التي كان مكلفا بها. أفاد ويليامز أنه قد صورت بصمات القتيل وفقا للتعليمات وأرسلت للتحقيق بشأنها، لكن الشرطة لم تتعرفه. ولم يعثر على بصمات مماثلة بين قوائم الأسماء. ولم يستطع خبير المسدسات العثور على أي شيء شخصي بشأن المسدس. ربما كان مستعملا، واستخدم كثيرا، وكان بالطبع سلاحا قويا للغاية.
قال جرانت باشمئزاز: «هاه! يا له من خبير!» وابتسم ويليامز.
وذكره: «حسنا، لقد قال إنه لا يوجد شيء مميز حياله.»
ثم أوضح أنه قبل أن يرسل المسدس إلى الخبراء، فحصه بحثا عن بصمات الأصابع، وقد وجد الكثير منها وقام بتصويرها. والآن ينتظر النتيجة.
قال جرانت: «أحسنت»، وذهب لرؤية مفوض الشرطة حاملا نسخة بصمات أصابع الرجل الميت معه. وسلم باركر ملخصا عن أحداث اليوم دون الإدلاء بأي نظريات عن الأجانب تتجاوز ملاحظة أن هذه الجريمة كانت غير إنجليزية على الإطلاق.
قال باركر: «يا لها من أدلة قيمة غير مجدية تلك التي لدينا! كل شيء ما عدا الخنجر، وهذا أشبه بشيء ملفق أكثر من كونه جزءا من جريمة حقيقية.»
قال جرانت: «هذا ما أشعر به بالضبط.» وأضاف خارجا عن السياق: «أتساءل كم شخصا سينتظر في الصف الليلة في وفينجتون.»
فقدت البشرية إلى الأبد كيف كان يمكن لباركر التكهن بشأن الإجابة عن هذا السؤال الرائع بدخول ويليامز.
قال باقتضاب: «بصمات المسدس سيدي»، ووضعها على الطاولة. التقطها جرانت بدون حماس كبير وقارنها بالبصمات التي كان يحملها وهو شارد الذهن. بعد فترة وجيزة، تيبس على إثر اهتمام مفاجئ مثلما يتيبس المؤشر. كانت هناك خمس بصمات واضحة والعديد من البصمات غير المكتملة، لكن لم تكن البصمات المكتملة ولا البصمات الناقصة تخص القتيل. أرفق بالبصمات تقرير من القسم المختص بالبصمات. لم يكن هناك أثر لهذه البصمات في سجلاتهم.
عاد جرانت إلى غرفته، وجلس يفكر. ماذا يعني هذا الأمر، وما قيمة هذه المعلومة؟ ألم يكن المسدس ملكا للقتيل؟ ربما اقترضه؟ ولكن حتى لو كان اقترضه، فمن المؤكد أنه سيكون هناك بعض الدلائل التي تشير إلى أنه كان بحوزة القتيل. أم أن المسدس لم يكن في حوزته؟ هل دسه شخص آخر في جيبه؟ لكن لا يمكن للمرء أن يدس أي شيء بوزن مسدس الخدمة وحجمه في جيب رجل لا يعرفه. لا، ليس رجلا حيا، لكن كان من الممكن أن يتم ذلك بعد طعنه بالخنجر. لكن لماذا؟ لماذا؟ لم يتوصل إلى حل، وإن كان بعيد المنال. أخرج الخنجر من غمده، وفحصه من خلال المجهر، لكنه أدخل نفسه في حالة من فقدان الأمل. كان مجهدا. وكان يريد الخروج والمشي قليلا. فقد كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة للتو. وكان يريد الذهاب إلى وفينجتون ليلتقي الرجل الذي كان يعمل حارسا في الصالة الليلة الماضية.
لقد كانت أمسية هادئة ذات سماء وردية، تلف لندن، بدرجات من اللون الأرجواني الضبابي. استنشق جرانت الهواء باستحسان. كان فصل الربيع على الأبواب. ففي حال تيسر له العثور على الشامي، سيتدبر أمر الحصول على إجازة - حتى لو كانت إجازة مرضية، إذا لم يستطع الحصول عليها بأي طريقة أخرى - ويذهب للصيد في مكان ما. إلى أين يذهب؟ يمكنك الحصول على أفضل صيد في المناطق الجبلية، لكن الرفقة تميل إلى أن تكون مملة بشكل مزعج. ربما كان سيذهب للصيد في نهر التيست - في ستوكبريدج. إن سمك السلمون المرقط ليس لطيفا، ولكن هناك حانة صغيرة دافئة، بها أفضل رفقة. وكان سيحصل على حصان يركبه هناك ومضمار سباق لينطلق به عليه. ما أجمل هامبشاير في الربيع !
لذا أخذ يفكر، وهو يسير بخفة بمحاذاة ضفة النهر، في أشياء بعيدة كل البعد عن الأمر الذي كان يشغل تفكيره آنذاك. والسبب في ذلك أن تلك كانت طريقة جرانت. فبينما كان شعار باركر: «فكر مليا في الأمر! فكر باستمرار فيه، نائما ومستيقظا، وستجد جوهر الموضوع الذي يهمك.» كان هذا صحيحا بالنسبة إلى باركر ولكن ليس لجرانت. تحجج جرانت ذات مرة أنه عندما يفكر في أمر ما مليا إلى هذا الحد، فإنه لا يستطيع التفكير في أي شيء سوى الألم الذي يشعر به في رأسه، وقد كان يعني ما يقول. فعندما كان يحيره شيء ما، وجد أنه إذا استمر في القلق بشأنه، لا يحرز أي تقدم، ويفقد حسه التقديري لأهمية الأشياء خلال ذلك. ومن ثم عندما وصل إلى طريق مسدود، انغمس فيما أسماه «إغماض عينيه» قليلا، وعند «فتحهما» مرة أخرى عادة ما يجد ضوءا جديدا على الأشياء يكشف عن زوايا غير متوقعة، ويجعل المشكلة القديمة اقتراحا جديدا تماما.
كان هناك عرض صباحي عصر ذلك اليوم في وفينجتون، لكنه وجد المسرح كالمعتاد تسوده حالة من الوحشة بالجزء الأمامي وكآبة قذرة بالجزء الخلفي. كان الحارس موجودا في المبنى، لكن لم يكن أحد متأكدا تماما من مكان وجوده. ففي وقت مبكر من المساء، كانت التزاماته كثيرة ومتنوعة، على ما يبدو. بعد عودة العديد من المبعوثين اللاهثين من جميع أنحاء المبنى مع تقارير مفادها أن «لا، يا سيدي، لا يوجد أثر له»، انضم جرانت نفسه في عملية البحث، وفي النهاية عثر على الرجل في ممر معتم خلف المسرح. عندما أوضح جرانت من هو وماذا يريد، عبر الرجل بفصاحة عن اعتزازه وحماسه. فقد كان معتادا على أن يكون بالقرب من الطبقة الأرستقراطية الموجودة بالمسرح، ولكن لم تكن لديه الفرصة كل يوم للتحدث بشكل ودي مع هذا الكائن المهيب بشدة، مفتش من إدارة التحقيقات الجنائية. كان يبتسم بابتهاج، ويغير باستمرار زاوية قبعته، ويلمس أوسمته بأصابعه، ويجفف كفيه بشكل عفوي، ومن الواضح تماما أنه كان سيقول إنه رأى قردا في صف الانتظار إذا كان ذلك سيسعد المفتش. تأوه جرانت بينه وبين نفسه، لكن جزءا بذاته هو الذي كان دائما يقف بمعزل عن كل ما يفعله - الجزء المشاهد منه الذي كان موجودا بوفرة لديه - كان ممتنا لشخصية هذا الرفيق. ومع توفير ذلك لمستقبل افتراضي وهو إحدى سمات المحقق المحترف، كان يودعه وداعا ودودا يسوده الكثير من عدم الجدوى، عندما قال صوت ساحر: «يا إلهي، إنه المفتش جرانت!» والتفت ليرى راي ماركابل بملابسها الأنيقة، كان واضحا أنها قاصدة غرفة ملابسها. «هل تبحث عن وظيفة؟ أخشى أنه لا يمكنك حتى الحصول على دور هامشي للغاية في هذه الساعة المتأخرة.» كانت ابتسامتها الصغيرة تضايقه ونظرت إليه عيناها الرماديتان بود من تحت جفنيها المتدليين. لقد التقيا العام السابق بسبب سرقة حقيبة أدوات زينة باهظة الثمن كانت واحدة من هدايا أكثر معجبيها ثراء، وعلى الرغم من أنهما لم يلتقيا مرة أخرى منذ ذلك الحين، فإنه من الواضح أنها لم تنسه. ورغما عن نفسه، كان يشعر بالإطراء - حتى عندما كان الجزء المشاهد منه على علم بذلك وكان يضحك. شرح مهمته في المسرح، وتلاشت الابتسامة من وجهها على الفور.
قالت: «آه، هذا المسكين!». وأضافت على الفور، واضعة يدها على ذراعه: «ولكن ثمة شيء آخر. هل كنت تطرح الأسئلة طوال وقت ما بعد الظهر؟ يجب أن يكون حلقك جافا جدا. تعال نحتس كوبين من الشاي معا في غرفتي. خادمتي هناك وستعدهما لنا. نحن نحزم الأمتعة، كما تعلم. إنه لأمر محزن للغاية بعد كل هذا الوقت الطويل.»
أرشدته إلى غرفة تبديل الملابس الخاصة بها، مكان نصفه محاط بالمرايا والنصف الآخر بخزائن ملابس، وبدا أشبه بمتجر لبيع الزهور أكثر من أي غرفة مصممة لسكنى آدمي. وأشارت بيدها إلى الزهور. «شقتي لن تستوعب أكثر مما استوعبت؛ لذا عليها أن تبقى هنا. كان القائمون على المستشفيات مهذبين للغاية، لكنهم قالوا بحزم إنهم لديهم ما يكفيهم. وربما لا يمكنني أن أقول «ممنوع الزهور»، كما يفعلون في الجنازات، من غير أن أجرح مشاعر الناس.»
قال جرانت: «إنه الشيء الوحيد الذي يمكن لمعظم الناس فعله.»
قالت: «أوه، نعم، أعلم ذلك. أنا لست ناكرة للجميل. فقط تغمرني المشاعر.»
عندما أصبح الشاي جاهزا، سكبت له كوبا، وقدمت الخادمة بسكويتا ناعما محفوظا في علبة قصدير. وبينما كان يقلب الشاي الخاص به وكانت تسكب لنفسها، أرسل إليه عقله رجفة مفاجئة، مثلما يكز راكب عديم الخبرة فم حصانه عندما يجفل. كانت عسراء!
قال لنفسه باشمئزاز: «يا إلهي! ليست المسألة أنك تستحق إجازة، بل أنك بحاجة إليها. ماذا أردت من التشديد على تصريح مثل هذا؟ كم عدد الأشخاص الذين يستخدمون اليد اليسرى برأيك في لندن؟ يتنامى لديك أشد أنواع القلق غرابة.»
لكسر حاجز الصمت ولأنه كان أول ما يخطر بباله، قال: «أنت عسراء.»
قالت بلا مبالاة، كما يستحق الموضوع: «نعم»، وأخذت تسأله عن تحقيقاته. أخبرها بقدر ما سيظهر في صحافة الغد ووصف الخنجر لأنه أكثر جوانب القضية إثارة للاهتمام. «المقبض فضي صغير عليه صورة قديس وزخارف مطلية بالمينا باللونين الأزرق والأحمر.»
ظهر شيء ما فجأة في عيني راي ماركابل الهادئتين.
قالت لاإراديا: «ماذا؟»
كان على وشك أن يقول: «هل رأيت واحدا مثله؟» لكنه غير رأيه. كان يعلم في الحال أنها ستقول لا، وأنه كان سيتنازل عن حقيقة إدراكه لوجود شيء كان يجب أن يكون على علم به. كرر الوصف فقالت: «قديس! يا له من أمر غريب! وغير مناسب! ومع ذلك، في مهمة كبيرة مثل الجريمة، أفترض أنك تريد مباركة شخص ما.»
مدت يدها اليسرى بهدوء ولطف لأخذ كوبه، وبينما كانت تعيد ملئه، شاهد رسغها الثابت وسلوكها غير العاطفي وتساءل عما إذا كان هذا أيضا يمكن أن يكون غير معقول من جانبه.
قالت ذاته الأخرى: «بالتأكيد لا. ربما تعاني من نوبات تمييز في أماكن غريبة، لكنك لم تصل إلى مرحلة تخيل الأشياء بعد.»
ناقشا أحوال أمريكا، التي يعرفها جرانت جيدا والتي كانت على وشك زيارتها للمرة الأولى، وعندما غادر كان ممتنا لها بصدق على الشاي. نسي كل شيء عن الشاي. والآن لا يهم كم تأخر موعد تناوله العشاء. ولكن أثناء خروجه، طلب قداحة لسيجارته من الحارس، وفي إطار انطلاق آخر للثرثرة وحسن النية، علم أن الآنسة ماركابل كانت في حجرة ملابسها من الساعة السادسة مساء اليوم السابق حتى ذهاب خادم المسرح لاستدعائها قبل أول ظهور لها. قال وهو يرفع حاجبه بطريقة شديدة الإيحاء أن اللورد لاسينج كان هناك.
ابتسم جرانت وأومأ برأسه وذهب بعيدا، لكن بينما كان في طريق عودته إلى سكوتلانديارد، لم يكن يبتسم. ما الذي ظهر على الفور في عيني راي ماركابل؟ لم يكن خوفا. لا، هل كان إدراكا؟ نعم، كان كذلك. إدراك على أغلب الظن.
الفصل الثالث
داني ميلر
فتح جرانت عينيه ونظر إلى سقف غرفة نومه متأملا. في الدقائق القليلة الماضية، كان يقظا من الناحية الفنية، لكن عقله، الذي كان لا يزال مشوشا من تأثير النوم ويعي برودة الصباح البغيضة، منعه من التفكير. ولكن على الرغم من أن جزء التفكير منه لم يكن قد تيقظ بعد، فقد ازداد إدراكا لعدم ارتياحه العقلي. شيء مزعج كان بانتظاره. شيء مزعج للغاية. بددت القناعة المتزايدة نعاسه، وفتحت عيناه على السقف المجدول بأشعة الشمس المبكرة وظلال شجرة من أشجار الدلب؛ وعلى إدراك الإزعاج. تلك كانت صبيحة اليوم الثالث من تحقيقاته، يوم الاستجواب، ولم يكن لديه ما يعرضه على الطبيب الشرعي. لم يكن لديه حتى أثر ليتعقبه.
عادت أفكاره إلى أمس. في الصباح، كان الرجل الميت لا يزال مجهول الهوية؛ لذا أعطى ويليامز ربطة عنقه، حيث كانت أحدث وأكثر شيء شخصي له، وأرسله للبحث بدقة في لندن. اشتريت ربطة العنق، مثل بقية ملابس الرجل، من فرع شركة متعددة الفروع، وكان هناك أمل ضئيل في أن يتذكر أي مساعد متجر الشخص الذي باع ربطة العنق له. وحتى لو فعل ذلك، لم يكن هناك ما يضمن أن الرجل الذي تذكره هو رجلهم. لا بد أن فيث بروذرز قد باعوا العديد من ربطات العنق بالنمط ذاته في لندن وحدها. ولكن كانت هناك دائما تلك الفرصة الغريبة الأخيرة، وكان جرانت قد رأى الكثير من الفرص الغريبة غير المتوقعة بحيث لا يهمل أي طريق للاستكشاف. عندما كان ويليامز يغادر الغرفة خطرت له فكرة. وكان أول ما خطر بباله أن الرجل كان بائعا في شركة ملابس. ربما لم يشتر أغراضه من متجر. ربما كان يعمل لدى فيث بروذرز. قال لويليامز: «اكتشف ما إذا وظف أي فرع من الفروع مؤخرا أي شخص يطابق وصف القتيل. إذا رأيت أو سمعت أي شيء مثير للاهتمام على الإطلاق - سواء كنت تعتقد أنه مهم أو لا - فأعلمني به.»
بعدما ترك بمفرده، تصفح صحافة الصباح. لم يزعج نفسه بالروايات المختلفة لجريمة القتل التي وقعت في الصف، ولكنه فحص بقية الأخبار بعناية؛ بدءا بعمود الرسائل الشخصية. ومع ذلك، لم يجب أي منها عن تساؤلاته. وتسببت صورة له بعنوان «المفتش جرانت، المسئول عن التحقيقات الخاصة بجريمة القتل الواقعة في الصف»، في تجهمه. وقال بصوت عال: «حمقى!» ثم شرع بعد ذلك في تجميع ودراسة قائمة بالأشخاص المفقودين مرسلة من جميع مراكز الشرطة في بريطانيا. فقد خمسة شبان من أماكن مختلفة، وربما تتطابق أوصاف أحدهم، الذي فقد من بلدة صغيرة بدورهام، مع أوصاف القتيل. وبعد انتظار طويل، نجح جرانت في التحدث عبر الهاتف إلى شرطة دورهام، فقط لمعرفة أن الرجل المفقود كان في الأصل عامل منجم وكان، في رأي مفتش مركز شرطة دورهام، رجلا قويا. ولا ينطبق وصف «عامل منجم» ولا «رجل قوي» على الرجل الميت.
كان الوقت المتبقي من الصباح مليئا بالأعمال الروتينية - تسوية الأمور الخاصة بالاستجواب والإجراءات الشكلية الضرورية. بحلول وقت تناول الغداء، اتصل به ويليامز هاتفيا من أكبر فرع لفيث بروذرز في شارع ستراند. كان قد قضى صباحا حافلا ولكن دون جدوى. لم يتذكر أحد مثل هذا المشتري فحسب، بل لم يتذكر أحد حتى بيع ربطة عنق مثل هذه. لم تكن ربطة العنق هذه واحدة من المجموعة المتوفرة في متاجرهم مؤخرا. وقد جعله ذلك يرغب في الحصول على مزيد من المعلومات حول ربطة العنق ذاتها ، وذهب إلى المقر الرئيسي وطلب مقابلة المدير، الذي شرح له الموقف. اقترح المدير الآن أنه إذا سلمه المفتش ربطة العنق بعض الوقت، فسيرسلها إلى مصنعهم في نورثوود، حيث يمكن إعداد قائمة بوجهة جميع شحنات ربطات العنق هذه خلال العام الماضي، على سبيل المثال. سعى ويليامز الآن للحصول على إذن لتسليم ربطة العنق إلى المدير.
وافق جرانت على تصرفه، وعلى الرغم من أنه كان يثني داخليا على الفطرة السليمة لدى ويليامز - حيث كان الكثير من الرقباء سيتجولون في لندن؛ لأن هذا ما قيل لهم وهذا واجبهم - لم يكن متفائلا كثيرا بسبب كثرة فروع فيث بروذرز في جميع أنحاء اسكتلندا وإنجلترا. ومع ذلك، تقلصت الاحتمالات قليلا عندما جاء ويليامز بشرح أوفى. يبدو أن ربطات العنق من هذا القبيل كانت تباع في علبة بها ست ربطات عنق، كل ربطة في العلبة بلون مختلف على الرغم من أنها عادة ما تكون بنمط الألوان ذاته. كان من غير المحتمل أن يكون قد أرسل أكثر من ربطة عنق واحدة، أو اثنتين على الأكثر، من اللون ذاته للعينة الخاصة بهم إلى أي فرع. لذلك كان هناك أمل أكبر في أن يتذكر البائع العميل الذي اشتراها أكثر مما كان سيئول إليه الوضع لو كانت ربطة العنق مجرد واحدة من علبة كلها باللون ذاته. استمع الجزء المحقق من جرانت باستحسان بينما ابتسم الجزء المشاهد على طلاقة الرقيب في مصطلحات المهنة. أضافت نصف ساعة مع مدير فيث بروذرز دررا فنية مدهشة لكلمات الرقيب البسيطة المعتادة وعباراته. فقد تحدث بعفوية عن «الخطوط والموديلات المكررة» وأشياء عميقة مماثلة، بحيث تجسد أمام جرانت في تليفزيون غريب صورة حية للمدير ذاته. لكنه كان ممتنا لويليامز وقال له ذلك. كان ذلك جزءا من جمال جرانت؛ فهو لم ينس أن يعبر عن سروره.
فيما بعد الظهر، وبعد أن فقد الأمل في معرفة أي شيء آخر، أرسل الخنجر إلى المختبر لتحليله. وقال: «أخبرني بأي شيء تعثر عليه بشأنه»؛ وفي الليلة الماضية عندما غادر كان لا يزال ينتظر الرد. الآن مد ذراعه في الهواء البارد وأمسك بالهاتف. وعندما حصل على الرقم الذي طلبه، قال: «معك المفتش جرانت. هل هناك أي تطورات؟»
لا، لم تكن هناك أي تطورات. شاهد شخصان الجثة الليلة الماضية - شخصان منفصلان - لكن لم يتعرفه أي منهما. نعم، أخذت أسماؤهما وعناوينهما وهي موجودة الآن على مكتبه. كان هناك أيضا تقرير من المختبر.
قال جرانت: «جيد!»، وعلق سماعة الأذن على الخطاف، وقفز من فراشه؛ لقد تبدد إحساسه بحدوث أمر سيئ في ضوء صفاء ذهنه. أثناء حمامه البارد، كان يصفر، وطوال الوقت الذي كان يرتدي فيه ملابسه، كان يصفر، حتى قالت صاحبة المنزل لزوجها، الذي كان يغادر للحاق بحافلة الساعة الثامنة: «أعتقد أنه لن يمضي وقت طويل حتى يلقى القبض على ذلك الفوضوي الشنيع.» إن مصطلحي «فوضوي» و«قاتل» كانا مترادفين بالنسبة إلى السيدة فيلد. ربما لم يكن جرانت نفسه ليصوغها بتفاؤل شديد هكذا، لكن فكرة ذلك الطرد المغلق المنتظر على مكتبه كانت بالنسبة إليه مثل كيس الألعاب لصبي صغير. قد يكون شيئا لا أهمية له وقد يكون ذا قيمة كبيرة. لاحظ نظرة السيدة فيلد اللطيفة وهي تعد فطوره، وكان مثل طفل صغير عندما قال لها: «هذا يوم سعدي، هل تعتقدين ذلك؟» «لا أعرف شيئا عن الحظ، سيد جرانت. لا أعرف إذا ما كنت أومن به. لكنني أومن بالعناية الإلهية. ولا أعتقد أن العناية الإلهية ستسمح لشاب لطيف مثل هذا أن يطعن حتى الموت ولن تقدم المذنب إلى العدالة. ثق في الرب، سيد جرانت.» «وإذا كانت الأدلة ضعيفة للغاية، فإن الأمور بيد الرب وإدارة التحقيقات الجنائية»، أخطأ جرانت في الاقتباس منها وهجم على لحم الخنزير المقدد والبيض. تباطأت لحظة وهي تراقبه، وهزت رأسها بلطف ينتابه ريبة، وتركته يتصفح الجرائد وهو يمضغ الطعام.
في طريقه إلى المدينة، شغل نفسه بالتفكير في مشكلة عدم التعرف على هوية الرجل، الأمر الذي كان سيصبح أكثر إثارة للدهشة عما قريب. صحيح أن لندن تتخلى كل عام عن عدد قليل من الأشخاص الذين لا يطالب بهم أحد لمدة يوم أو اثنين ثم يختفون في قبور الفقراء. لكنهم جميعا - إما كبار سن أو معدمون أو كلاهما - حثالة المدينة، الذين ينبذهم أقاربهم وأصدقاؤهم قبل وفاتهم بوقت طويل؛ ولذا، عندما تأتي نهايتهم، لا يعرفون أي شخص قد يروي قصتهم. في جميع تجارب جرانت، لم يبق أحد من هذا النوع من الموتى - الرجل الذي كان لديه دائرة معارف عادية إن لم يكن أكثر من ذلك - مجهول الهوية. حتى لو كان قرويا أو أجنبيا - ولم يعتقد جرانت أنه كذلك؛ فقد كان مظهر الرجل بأكمله قد أعلن عن أنه لندني - لا بد أن له مسكنا في لندن أو بالقرب منها؛ فندقا، أو غرفة مستأجرة، أو ناديا، هو الآن متغيب عنه. ومن المؤكد أن مناشدات الصحافة بضرورة إبلاغ سكوتلانديارد بحقيقة الشخص المفقود دون تأخير حتما ستدفع شخصا ما للإبلاغ عنه.
إذن، بالتسليم بأن الرجل كان من سكان لندن - كما آمن جرانت بشدة - لماذا لم يحضر أهله أو مالك العقار؟ من الواضح، إما لأن لديهم سببا للاعتقاد بأن الرجل الميت رجل حقير، أو لأنهم هم أنفسهم لا يرغبون في جذب انتباه الشرطة. هل هي عصابة؟ عصابة تتخلص من عضو غير مرغوب فيه؟ لكن العصابات لم تنتظر حتى يقف ضحيتهم في صف قبل الاستغناء عن خدماته. لقد كانوا يختارون طرقا أكثر أمانا.
إلا إذا - نعم، ربما كان ذلك عقابا وتحذيرا في آن واحد. فالجريمة كانت تشتمل على العديد من الإيحاءات - السلاح، ضرب الضحية أثناء وجودها في مكان من المفترض أن يكون آمنا، التبجح الكامل بالجريمة. لقد قضى على المرتد وأرهب الناجين في الوقت ذاته. وكلما فكر في هذا الأمر، بدا أنه تفسير معقول للغموض. لقد رفض فكرة الجماعة السرية وما زال يرفضها. فانتقام جماعة سرية لن يمنع أصدقاء الرجل من الإبلاغ عن فقدانه والمطالبة به. لكن العضو المتخلف عن عصابة - كان ذلك شيئا مختلفا. في هذه الحالة، سيعرف جميع أصدقائه أو يخمنون طريقة وفاته وسببها، ولن يكون أي منهم غبيا بما يكفي للحضور .
عندما وصل جرانت إلى سكوتلانديارد، كان منشغلا بالتفكير في مختلف عصابات لندن التي ازدهرت في الوقت الحالي. وكانت عصابة داني ميلر هي العصابة المهيمنة، بلا شك، وكانت كذلك بعض الوقت. لقد مرت ثلاث سنوات منذ أن دخل داني مقر الشرطة، ولو أنه لم يرتكب خطأ جسيما، لطالت مدة عدم دخوله. لقد جاء داني من أمريكا بعد أن قضى عقوبته الثانية بتهمة السطو، وجلب معه عقلا ذكيا، وإيمانا بالمنظومة وهو ما يعد شيئا معتادا لدى الأمريكيين - فاللصوص البريطانيون ذوو طبيعة فردية - كما جلب معه احتراما تاما لأساليب الشرطة البريطانية. كانت النتيجة أنه على الرغم من أن أتباعه يخطئون من حين لآخر ويقضون عقوبات قصيرة بسبب إهمالهم، إلا أن داني كان حرا طليقا وناجحا - ناجحا للغاية لدرجة أعجبت بها إدارة التحقيقات الجنائية. الآن، كان يتمتع داني بكل القسوة التي يتعامل بها المحتال الأمريكي مع العدو. كان من عادته استخدام المسدس، لكنه لن يفكر في غرس خنجر في رجل أكثر مما يفكر في ضرب الذبابة التي أزعجته. فكر جرانت في دعوة داني ليأتي ويقابله. في هذه الأثناء كان هناك الطرد على طاولته.
فتحه بشغف وانتقل إلى الشيء البارز متخطيا بفارغ الصبر النقاط غير المهمة المملة إلى حد ما التي كانت في البداية - فقد كان بريثرتون من الجانب العلمي يميل إلى أن يكون متعصبا لرأيه مغرورا؛ فإذا أرسلت له قطة شيرازي لكتابة تقرير عنها، فسيملأ الورقة الأولى الفولسكاب بالإقرار بأن شعرها كان رماديا وليس مزيفا. قال بريثرتون إن هناك بقعة دم فوق تقاطع المقبض مع النصل لم تكن مثل الدم على النصل. كانت القاعدة التي وقف عليها القديس مجوفة ومكسورة من جانب واحد. كان الكسر مجرد شرخ لم ينفرج، وكان بالكاد مرئيا بسبب بقعة الدم. ولكن عندما تم الضغط على السطح، رفعت إحدى حواف الشرخ الخشن قليلا فوق الأخرى. أثناء إمساك القاتل للأداة، انفرج الشرخ في المعدن بما يكفي لإصابة يده. سيعاني الآن من جرح محزز في مكان ما في سبابة اليد اليسرى من ناحية الإبهام، أو في الإبهام من ناحية السبابة.
يعتقد جرانت أن الأمور جيدة حتى الآن، لكن لا يمكن للمرء أن يغربل لندن بحثا عن رجل أعسر بيد مجروحة ويقبض عليه بسبب ذلك. أرسل بطلب ويليامز.
سأل: «هل تعرف أين يعيش داني ميلر الآن؟».
قال ويليامز: «لا يا سيدي، لكن باربر سيعرف. لقد جاء من نيوبري الليلة الماضية، وهو يعرف كل شيء عن داني.» «حسنا، اذهب واعرف منه. لا، من الأفضل أن ترسل لي باربر.»
عندما جاء باربر - رجل طويل وبطيء ذو ابتسامة هادئة ومضللة - كرر سؤاله.
قال باربر: «داني ميلر؟ نعم، لديه شقة في منزل في شارع آيمبر، بيمليكو.» «أوه؟ لقد كان هادئا جدا مؤخرا، أليس كذلك؟» «هذا ما فكرنا فيه، لكنني أعتقد أن سرقة الجواهر التي ينشغل بها ساكنو جوبريدج الآن هي من فعل داني.» «اعتقدت أنه متخصص في سرقة البنوك.» «نعم، لكن لديه «اهتمام» جديد. ربما يريد المال.» «أفهم قصدك. هل تعرف رقم هاتفه؟»
كان باربر يعرف رقم هاتفه.
بعد ساعة، أبلغ داني، الذي كان يأخذ حماما متأنيا وشاملا في الغرفة في شارع آيمبر، أن المفتش جرانت يريد بشدة أن يجري حديثا قصيرا معه في سكوتلانديارد.
فحصت عينا داني الحذرتان الرماديتان الشاحبتان شرطي التحري بزي المدني الذي نقل الرسالة. قال: «إذا كان يعتقد أن لديه أي دليل إدانة لأحدهم، فعليه أن يراجع نفسه.»
لم يعتقد شرطي التحري أن المفتش كان يريد منه شيئا سوى بعض المعلومات. «أوه! وفيم يحقق المفتش حاليا؟»
لكن شرطي التحري إما أنه لا يعرف وإما أنه لن يقول.
قال داني: «حسنا. سأذهب في الحال.»
عندما قاده شرطي بدين إلى مكان جرانت، أشار داني، الذي كان صغيرا ونحيفا، إلى الشخص المغادر برجة رأس خلفية ورفع حاجبه بشكل هزلي. قال: «نادرا ما يتكبد أحد عناء الإعلان عن حضوري.»
قال جرانت مبتسما: «لا، يتم الإعلان عن حضورك عادة بعد مغادرتك، أليس كذلك؟» «أنت ذكي أيها المفتش. لم يكن علي أن أظن أنك بحاجة إلى أي شخص ينشط ذاكرتك. أنت لا تعتقد أن لديك أي دليل ضدي، أليس كذلك؟» «لا على الإطلاق. اعتقدت أنك قد تكون مفيدا لي بعض الشيء.» «أنت بالتأكيد تجاملني.» كان من المستحيل معرفة متى يكون ميلر جادا أو خلاف ذلك. «هل عرفت من قبل رجلا بمثل هذه الأوصاف؟» بينما كان يصف بالتفصيل الرجل المقتول، كانت عينا جرانت تفحصان داني، وكان دماغه مشغولا بما تراه عيناه. القفازان. كيف يمكنه إزالة القفاز عن يد داني اليسرى دون أن يطلب ذلك عمدا؟
عندما وصل إلى نهاية وصفه، الذي كان مفصلا ويذكر حتى اعوجاج إصبع القدم للداخل، قال داني بأدب: «إنه الرجل الذي قتل في الصف. لا، أنا آسف جدا لتخييب ظنك، أيها المفتش، لكنني لم أر الرجل قط في حياتي.» «حسنا، أعتقد أنه ليس لديك أي اعتراضات على المجيء معي وإلقاء نظرة عليه؟» «ليس لدي أي اعتراض إذا كان هذا سيريح عقلك، أيها المفتش. سأفعل أي شيء تريده.»
وضع المفتش يده في جيبه وأخرجها مليئة بالقطع النقدية، كما لو كان يتأكد من وجود فكة معه قبل الانطلاق. انزلقت قطعة قيمتها ستة بنسات من بين أصابعه وتدحرجت بسرعة عبر السطح الأملس للطاولة باتجاه ميلر، واندفعت يد ميلر بشكل مفاجئ حيث كانت القطعة النقدية على وشك السقوط من حافة الطاولة على الأرض. تحسسها لحظة بيده المغطاة بالقفاز ثم وضعها على الطاولة.
علق بصوته اللطيف المنخفض: «يا لها من أشياء تافهة». لكنه استخدم يده اليمنى ليوقفها.
بينما كانا يقودان السيارة متجهين إلى المشرحة، التفت إلى المفتش وهو يطلق زفيرا يكاد يكون غير مسموع ويحل محل ضحكه. قال: «أعتقد أنه إذا رآني أي من رفاقي الآن، فسيتجهون جميعا نحو ساوثهامبتون في غضون خمس دقائق ولن ينتظروا حزم أمتعتهم.»
قال جرانت: «حسنا، سنحزم أمتعتنا - في طريق العودة.» «لقد تمكنتم منا جميعا بهذه الطريقة، أليس كذلك؟ هل تراهن على هذا؟ سأدفع لك خمسة دولارات لكل دولار - لا، جنيه - خمسة جنيهات لكل جنيه إذا لم تقبض على أحد منا لمدة عامين. ألن تقبل بذلك ؟ حسنا، أعتقد أنك حكيم.»
عندما رأى ميلر وجها لوجه جثة الرجل المقتول، لم تستطع عينا جرانت المتلهفتان أن تستشفا أي تعبير على هذا الوجه الصخري. تفقدت عينا داني الرماديتان اللطيفتان ملامح الرجل الميت في لامبالاة وقليل من الاهتمام. وكان جرانت يعلم بالتأكيد أنه حتى لو عرف ميلر الرجل، فإن أمله في إيماءة أو تعبير خائن كان عبثا.
كان داني يقول: «لا لم أر الرجل في ...» ثم توقف. كان هناك وقفة طويلة. قال: «أعتقد أنني رأيته! أوه، يا إلهي، دعني أفكر! أين كان ذلك؟ أين كان ذلك؟ انتظر لحظة، وسوف أتذكر.» ضرب وشما محموما على جبهته بكفه المغطاة بالقفاز. فكر جرانت فيما كان هذا تمثيلا. يا له من تمثيل جيد، لو كان الأمر كذلك. ولكن حينها لن يرتكب ميلر خطأ التمثيل على نحو سيئ. «أوه، يا إلهي، لا يمكنني التذكر! تحدثت معه أيضا. لا أعتقد أنني عرفت اسمه من قبل، لكنني متأكد من أنني تحدثت معه.»
في النهاية، تخلى جرانت عن الأمر - فقد كان أمامه الاستجواب - لكنه كان أكثر مما فعل داني ميلر. كان لا يمكنه تحمل حقيقة أن ذاكرته قد خانته والغضب يملأ عينيه. ظل يقول: «لم يحدث قط أن نسيت شخصا. اللهم إلا بقدر ما تنسى «الثيران».»
قال جرانت: «حسنا، يمكنك التفكير مليا في الأمر والاتصال بي. في غضون ذلك، هلا تفعل شيئا آخر من أجلي؟ ... هلا تخلع قفازيك؟»
ضاقت عينا داني فجأة. وقال: «ماذا يدور في بالك؟». «حسنا، ليس هناك أي سبب يمنعك من خلعهما، أليس كذلك؟»
قال داني غاضبا: «كيف يمكنني معرفة ذلك؟»
قال جرانت بلطف: «اسمع، لقد أردت مقامرة قبل دقيقة. حسنا، هاك واحدة. إذا خلعت قفازيك، فسأخبرك ما إذا كنت قد فزت أم لا.» «وإذا خسرت؟» «حسنا، ليس لدي أي مذكرة، كما تعلم.» وابتسم جرانت بكل بساطة في عينيه الثاقبتين اللتين كانتا تحدقان به.
رفع داني جفنيه. وعادت لامبالاته القديمة. وخلع قفازه الأيمن ومد يده. نظر جرانت إليها وأومأ. ثم خلع قفازه الأيسر ومد يده ، وأثناء فعله ذلك عادت يده اليمنى إلى جيب معطفه.
كانت اليد اليسرى المبسوطة أمام عيني جرانت نظيفة وخالية من الجروح.
قال جرانت: «لقد فزت يا ميلر. أنت ذو روح رياضية.» واختفى الانتفاخ الطفيف في جيب معطف داني الأيمن.
قال جرانت وهما يغادران: «ستخبرني في اللحظة التي تتذكر فيها، أليس كذلك؟» ووعده ميلر.
قال: «لا تقلق. أنا لا أترك ذاكرتي تخونني وتنجو بفعلتها.»
وشق جرانت طريقه لتناول الغداء وإجراء الاستجواب.
بعد أن أنهى أعضاء هيئة المحلفين بسرعة وباشمئزاز مهمة رؤية الجثة، استقروا في أماكنهم مدركين أهميتهم ومتصنعين التواضع، تلك الطريقة التي تنتمي إلى أولئك الذين بصدد لغز غامض. كان حكمهم مؤكدا بالفعل؛ ومن ثم لم يكونوا بحاجة إلى القلق بشأن الأمور الصحيحة أو الخاطئة في القضية. كان بإمكانهم الانغماس بالكامل في المهمة الرائعة المتمثلة في سماع كل شيء عن أكثر جرائم القتل شيوعا اليوم من شفاه شهود العيان. تفحصهم جرانت بسخرية، وشكر الآلهة على أن لا قضيته ولا حياته تعتمد على ذكائهم. ثم نسي أمرهم وانغمس في كوميديا الشهود المضحكة. كان من الغريب مقارنة الأشياء المقيتة التي خرجت من شفاههم بالكوميديا اللطيفة التي قدموها. لقد كان يعرفهم جيدا الآن، وقد تصرفوا جميعا بشكل ممتع للغاية كما كان متوقعا. كان هناك الشرطي المناوب في طابور صف وفينجتون، متأنقا ولامعا، تلمع جبهته المتعرقة قليلا أكثر من أي شيء آخر؛ دقيقا في تقريره وممتنا للغاية بدقته. وكان هناك جيمس راتكليف، صاحب المنزل النموذجي، الذي يكره شعبيته غير المتوقعة، ويتمرد على ارتباطه بمثل هذه القضية البغيضة، لكنه مصر على أداء واجبه كمواطن. لقد كان من أكثر الحلفاء فائدة للقانون، وقد أدرك المفتش الحقيقة وحياه بداخله على الرغم من حقيقة أنه لم يكن مفيدا. قال إن الانتظار في الصفوف يصيبه بالملل، وما دام الضوء جيدا بما يكفي فإنه يقرأ حتى تفتح الأبواب ويصبح الضغط أكبر من أن يفعل أي شيء سوى الوقوف.
وكانت هناك زوجته التي رآها المفتش آخر مرة تبكي في غرفة نومها. كانت لا تزال تمسك منديلا، ومن الواضح أنها تتوقع أن يتم تشجيعها وتهدئتها بعد كل سؤالين. وقد خضعت لاستجواب أطول من أي استجواب آخر. فقد كانت هي التي وقفت خلف القتيل مباشرة.
قال الطبيب الشرعي: «هل علينا أن نفهم، سيدتي، أنك وقفت على مقربة من هذا الرجل لمدة ساعتين تقريبا ومع ذلك لا تتذكرينه أو تتذكرين رفاقه، إن وجدوا؟» «لكنني لم أكن بجانبه طوال ذلك الوقت! أقول لك إنني لم أره حتى سقط عند قدمي.» «إذن من كان أمامك معظم الوقت؟» «لا أتذكر. أعتقد أنه كان صبيا ... شابا.» «وماذا حدث للشاب؟» «لا أعرف.» «هل رأيته يترك الصف؟» «لا.» «هل يمكنك أن تصفيه؟» «نعم، كانت بشرته داكنة ذات ملامح أجنبية، إلى حد ما.» «هل كان بمفرده؟» «لا أعرف. لا أعتقد ذلك، بطريقة أو بأخرى. أعتقد أنه كان يتحدث إلى شخص ما.» «كيف لا تتذكرين بوضوح أكبر ما حدث قبل ثلاث ليال فقط؟»
قالت إن الصدمة أخرجت كل شيء من رأسها. وأضافت بعدما تحجر عمودها الفقري الجيلاتيني فجأة بسبب ازدراء الطبيب الشرعي الواضح: «علاوة على ذلك، في الصف، لا يلاحظ المرء الأشخاص بجواره. كنت أنا وزوجي نقرأ معظم الوقت.» وانتابتها نوبة بكاء هستيري.
ثم كانت هناك المرأة البدينة، التي كانت تتألق بفستان من الساتان الأسود، وقد تعافت الآن من الصدمة والنفور اللذين ظهرا عليها في لحظة القتل المزدحمة، وأصبحت على أتم الاستعداد لسرد روايتها. كان هناك رضا لا يتزعزع عن دورها، يشع من وجهها الأحمر الممتلئ وعينيها البنيتين اللتين تشبهان أزرار الأحذية. بدت محبطة عندما شكرها الطبيب الشرعي وصرفها في منتصف حديثها.
كان هناك رجل قصير وديع، دقيق مثل الشرطي، لكنه مقتنع بوضوح بأن الطبيب الشرعي لا يتمتع بالكثير من الذكاء. عندما قال ذلك الموظف الذي طالت معاناته: «نعم، كنت على علم بأنه عادة ما يقف اثنان كل بجوار الآخر في الصفوف»، سمحت هيئة المحلفين لأنفسها بالضحك بصوت منخفض وبدا الرجل القصير الوديع متألما. ونظرا إلى أنه لا هو ولا الشهود الثلاثة الآخرون من الصف يمكنهم تذكر القتيل، أو إلقاء أي ضوء على أي خروج من الصف، فقد صرفوا بقليل من الاهتمام.
أخبر الحارس، مشوشا بسعادته لكونه مفيدا للغاية، الطبيب الشرعي أنه رأى الرجل الميت من قبل - عدة مرات. وأنه قد جاء كثيرا إلى وفينجتون. لكنه لم يكن يعرف شيئا عنه. وكان دائما يرتدي ملابس أنيقة. لا، لم يستطع الحارس أن يتذكر أي رفيق، رغم أنه كان على يقين من أن الرجل لم يكن بمفرده عادة.
أحبطت جرانت أجواء العبث التي اتسم بها الاستجواب. رجل لم يصرح أحد بمعرفته، طعنه في ظهره شخص لم يره أحد. كان أمرا مثيرا بحق. لا يوجد دليل على القتل سوى الخنجر، وهذا لا يخبرنا سوى أن الرجل أصيب بندبة على أحد أصابعه أو إبهامه. ولا يوجد دليل ضد الرجل المقتول سوى أن أحد موظفي فيث بروذرز ربما يكون قد عرف الشخص الذي باع له ربطة عنق لونها بني مصفر منقوشة ببقع وردية باهتة. بعد صدور الحكم الحتمي الذين يدين شخصا أو أشخاصا مجهولين بجريمة القتل، ذهب جرانت إلى هاتف وفي ذهنه تدور رواية زوجة راتكليف عن الشاب الأجنبي. هل كان هذا الانطباع من نسج خيالها، خرج إلى الوجود بسبب ما يوحي به الخنجر؟ أم أنه تأكيد حقيقي لنظريته الخاصة بالشامي؟ لم يكن الشاب الأجنبي الذي تحدثت عنه السيدة راتكليف موجودا عند اكتشاف جريمة القتل. لقد كان الشخص الذي اختفى من الصف، والشخص الذي اختفى من الصف قتل الرجل الميت بكل تأكيد.
حسنا، سوف يكتشف من سكوتلانديارد ما إذا كان هناك أي شيء جديد، وإذا لم يكن فسيقوي نفسه بالشاي. فقد كان في حاجة إليه. فالارتشاف البطيء للشاي يساعد على التفكير. وجد جرانت أن التفكير التأملي في الأشياء أكثر إنتاجية، وليس عمليات الجدولة المؤلمة الخاصة بباركر، كبير مفوضي الشرطة. كان من بين معارفه شاعر وكاتب مقالات يحتسي الشاي بوتيرة منتظمة في الوقت التي كان ينتج فيه روائعه. وبالرغم من أن جهازه الهضمي كان في حالة مروعة، لكنه كان يتمتع بسمعة طيبة للغاية بين الأدباء المعاصرين الأعلى مكانة وشأنا.
الفصل الرابع
راءول ليجارد
سمع جرانت عبر الهاتف شيئا أدى إلى إخراج كل الأفكار المتعلقة بالشاي من رأسه. كان بانتظاره رسالة عنوانها مكتوب بالأحرف الكبيرة. عرف جرانت جيدا ما يعنيه ذلك. فلدى شرطة سكوتلانديارد خبرة واسعة في الرسائل المعنونة بأحرف كبيرة. ابتسم لنفسه وهو يلوح لسيارة أجرة. يا ليت الناس تدرك أن الكتابة بالأحرف الكبيرة لا تخفي خط اليد على الإطلاق! لكنه كان يأمل بصدق ألا يدركوا ذلك أبدا.
قبل أن يفتح الرسالة التي كانت في انتظاره نفضها بمسحوق فوجدها مغطاة ببصمات الأصابع. قطع الجزء العلوي برفق، ممسكا بالرسالة، التي كانت سمينة ورقيقة إلى حد ما، بملقط، وسحب رزمة نقود من بنك إنجلترا فئة خمسة الجنيهات ونصف ورقة من أوراق الملاحظات. وكتب على ورقة من أوراق المفكرة: «لدفن الرجل الذي عثر عليه في الصف.»
كان هناك خمس ورقات. 25 جنيها.
جلس جرانت وسرح بنظره. طوال هذا الوقت في إدارة التحقيقات الجنائية لم يحدث شيء غير متوقع أكثر من هذا. في مكان ما في لندن الليلة كان هناك شخص ما اهتم بالقتيل بما فيه الكفاية، وأنفق 25 جنيها لإبعاده عن مقابر الفقراء، لكنه لم يطالب به. هل كان هذا إثباتا لنظريته في التخويف؟ أم أنه مال دفع لإراحة ضميره؟ هل كان لدى القاتل رغبة متوهمة في فعل ما هو صواب بجثة ضحيته؟ لا يعتقد جرانت ذلك. فالرجل الذي طعن آخر في ظهره لن يهتم على الإطلاق بما يحدث للجثة. كان للرجل رفيق أو رفيقة في لندن الليلة، بلغت قيمة اهتمامه 25 جنيها.
استدعى جرانت ويليامز، وتناقشا معا حول المظروف الأبيض البسيط الرخيص، والحروف الكبيرة القوية الواضحة.
قال جرانت: «حسنا، ماذا تعرف؟»
قال ويليامز: «رجل. ليس ميسور الحال. غير معتاد على الكتابة كثيرا. نظيف. يدخن. محبط.»
قال جرانت: «ممتاز! أنت لا تصلح للعب دور واطسون، ويليامز. فأنت تحظى بكل المجد.»
ابتسم ويليامز، الذي كان يعرف كل شيء عن واطسون - ففي سن الحادية عشرة، أمضى لحظات وهو يطارد في مخزن تبن في وستشاير وهو يحاول قراءة لغز «العصابة الرقطاء» دون أن تكتشفه الإدارة التي حظرته، وقال: «أتوقع أنك ستحصل على أكثر من هذا بكثير يا سيدي.»
لكن جرانت لم يفعل. «باستثناء عدم إتقانه للعمل. تخيل إرسال أي شيء يسهل تتبعه مثل الأوراق النقدية الإنجليزية فئة خمسة الجنيهات!» نفخ المسحوق الناعم الخفيف على نصف الورقة، لكنه لم يجد بصمات أصابع. استدعى شرطيا وأرسل المظروف الثمين ورزمة الأوراق النقدية لتصوير جميع بصمات الأصابع. وأرسل الورقة التي تحمل الرسالة المطبوعة إلى خبير الخطوط. «حسنا، لسوء الحظ البنوك مغلقة الآن. هل أنت في عجلة من أمرك للعودة إلى زوجتك، ويليامز؟»
لا، لم يكن ويليامز في عجلة من أمره. كانت زوجته وطفله في ساوثيند مع حماته لمدة أسبوع.
قال جرانت: «في هذه الحالة، سنتناول العشاء معا ويمكنك أن تشرح لي بالتفصيل أفكارك حول موضوع جرائم القتل في الصفوف.»
قبل ذلك ببضع سنوات، ورث جرانت إرثا كبيرا - إرثا يكفي للسماح له بالتقاعد والتحول إلى شخص تافه كسول إذا كانت هذه هي رغبته. لكن جرانت أحب عمله حتى عندما كان يسب ويقول إنه مثل الحياة الصعبة التعيسة، وكان الإرث يستخدم فقط لتيسير الحياة وتجميلها حتى يتم القضاء على ما يمكن أن يكون أماكن قاتمة، وجعل بعض الأماكن القاتمة في حياة الآخرين محتملة. كان هناك محل بقال صغير في ضاحية جنوبية، مشرق مثل الجوهرة بسلعه المتنوعة، ويدين بوجوده للإرث ومقابلة جرانت صدفة لرجل يحمل بطاقة إطلاق سراح في أول صباح له خارج السجن. لقد كان جرانت من تسبب في «سجنه»، وكان جرانت من وفر وسيلة إعادة تأهيله. لذلك، فإنه بسبب الإرث وحده، كان جرانت يرتاد مكانا حصريا للغاية لتناول الطعام مثل مطعم لورنس، كما أنه بفضل ذلك الإرث أصبح الشخص المفضل لكبير النوادل - وهي حقيقة أكثر إثارة للدهشة والإعجاب. خمسة أشخاص فقط في أوروبا هم المفضلون لرئيس النوادل بلورنس، وكان جرانت مدركا تماما لهذا الشرف وكان واعيا تماما بالسبب.
التقى بهم مارسيل في منتصف الطريق المؤدي إلى الغرفة ذات اللونين الأخضر والذهبي، وعلى وجهه تعبير عن الحزن الشديد. لقد كان عابسا لعدم وجود طاولة تليق بالسيد. لم تكن هناك طاولات شاغرة على الإطلاق باستثناء واحدة في تلك الزاوية كانت غير صالحة للاستخدام على الإطلاق. فالسيد لم يخبره أنه قادم. لقد كان عابسا، وحزينا حقا.
قبل جرانت بالطاولة دون تذمر. فقد كان جائعا، ولم يهتم بالمكان الذي يأكل فيه ما دام الطعام جيدا، وباستثناء حقيقة أن الطاولة كانت خارج باب الخدمة مباشرة، لم يكن هناك أي عيب آخر بها. توارى الباب خلف ستائر خضراء لمنع دخول الهواء، وأما الباب، فلكونه متأرجحا، فقد جعل خشخشة الأواني مثل موسيقى خافتة منبعثة من صنج، تعلو بين الحين والآخر في نغمة صارخة مفاجئة عندما ينفتح الباب على مصراعيه ثم ينغلق مرة أخرى. أثناء العشاء، قرر جرانت أنه في الصباح يجب على ويليامز زيارة البنوك في المنطقة المشار إليها بالختم البريدي للرسالة، وباستخدام ذلك كأساس، يتتبع تاريخ الأوراق النقدية. لا ينبغي أن يكون الأمر صعبا؛ فدائما ما كانت البنوك متعاونة. ومن هذا المنطلق بدآ مناقشة الجريمة ذاتها. كان رأي ويليامز أن الأمر يتعلق بعصابة، وأن القتيل قد وقع في مشكلات مع عصابته، وكان يعلم خطورة الوضع؛ لذا استعار المسدس من العضو الوحيد الودود في الحشد، ولم تتح له الفرصة قط لاستخدامه. والأموال التي وصلت الليلة أتت من الشخص الودود سرا. كانت نظرية جيدة بما فيه الكفاية، لكنها أهملت أشياء. «لماذا لم يكن هناك أي علامات لتحديد هويته، إذن؟»
قال ويليامز بمنطق حماسي: «ربما هذه إحدى عادات العصابة. يصعب تحديد الهوية حال الوقوع في الأسر.»
كانت تلك نظرية محتملة، وكان جرانت صامتا بعض الوقت، يفكر في الأمر. أصبح واعيا مع تقديم الطبق الرئيسي، وشعر أن هناك من يراقبه بفضل تلك الحاسة السادسة التي تطورت إلى فطنة غير طبيعية نتيجة لأربع سنوات على الجبهة الغربية والكثير من السنوات في إدارة التحقيقات الجنائية. كان جالسا وظهره إلى الغرفة يكاد يواجه باب النوادل - ألقى نظرة خاطفة عرضا على المرآة، كابحا الدافع للالتفات. لكن لا يبدو أن أحدا أبدى أي اهتمام به. واصل جرانت تناول الطعام، وفي غضون لحظة أو اثنتين حاول مرة أخرى. فرغت الغرفة بشكل كبير منذ وصولهما، وكان من السهل فحص مختلف الأشخاص الذين يجلسون على مقربة منهما. لكن المرآة لم تظهر سوى مجموعة من الأشخاص المستغرقين في التفكير، يأكلون، ويشربون، ويدخنون. ومع ذلك كان لدى جرانت هذا الشعور بأنه يخضع لفحص دقيق طويل. لقد جعل ذلك الفحص المستمر غير المرئي جسده ينمل. رفع عينيه فوق رأس ويليامز إلى الستائر التي أخفت الباب. وهناك، في الفجوة بين الستائر، كانت العينان اللتان تراقبانه. وكما لو كان قد أدرك انكشاف أمره، اضطربت العينان واختفتا، وواصل جرانت بهدوء وجبته. كان يعتقد أنه نادل فضولي للغاية. ربما يعرف من أنا، وأراد فقط أن يحدق في أي شخص ذي صلة بجريمة قتل. فقد عانى جرانت كثيرا من المحدقين. لكن بعد وقت قصير، نظر إلى أعلى في منتصف حديثه، ووجد العينين تفحصانه مرة أخرى. زاد الأمر عن الحد. وفي المقابل كان يحدق ببلادة. لكن من الواضح أن صاحب العينين كان لا يدرك أنه كان مرئيا على الإطلاق لجرانت، وواصل مراقبته دون انقطاع. بين الحين والآخر، بينما كان النادل يأتي أو يذهب خلف الستائر، اختفت العينان، لكنهما كانتا تعودان دائما إلى تحديقهما الخفي. كان يستولي على جرانت الرغبة في رؤية هذا الرجل الذي استحوذ على اهتمامه. قال لويليامز، الذي كان جالسا أمام الستائر بما لا يتجاوز الياردة: «هناك شخص في الجزء الخلفي من الستائر خلفك يهتم بنا على نحو غير عادي. عندما أطقطق أصابعي، ادفع بيمينك للخلف وأزح الستائر جانبا. اجعل الأمر يبدو وكأنه حادث بقدر ما تستطيع.»
انتظر جرانت حتى هدأت حركة النادل قليلا وكانت العينان ثابتتين في التحديق، ثم بلطف طقطق إصبعه الوسطى وإبهامه. وانطلقت ذراع ويليامز القوية، واهتزت الستائر لحظة وتداعت إلى جنب. ولكن لم يكن أحد هناك. فقط أظهر التأرجح الهائج للباب المكان الذي خرج منه أحدهم على عجل.
اعتقد جرانت أن هذا يكفي، بينما كان ويليامز يعتذر عن حادث الستائر. لا يمكنك التعرف على زوجين من العيون. أنهى عشاءه دون مزيد من الانزعاج وعاد ماشيا إلى سكوتلانديارد مع ويليامز، على أمل أن تكون صور بصمات الأصابع على المظروف جاهزة ليفحصها.
لم تأت أي صور، ولكن كان هناك تقرير عن ربطة العنق التي أرسلت إلى مصنع فيث بروذرز في نورثوود. الشحنة الوحيدة من ذلك الطراز التي أرسلت العام الماضي كانت علبة من ست ربطات عنق بألوان مختلفة أرسلت كطلب متكرر بناء على طلب فرعهم في نوتنجهام. أعادوا ربطة العنق وتمنوا أنه إذا كان من الممكن أن يكون لهم أي فائدة أخرى، فبإمكان المفتش طلب ذلك.
قال جرانت: «إذا لم يظهر شيء مهم بين الآن والغد، فسوف أذهب إلى نوتنجهام أثناء إنجازك بالمهام البنكية.»
بعد ذلك دخل رجل يحمل صورا لبصمات الأصابع على المظروف، وأخذ جرانت من مكتبه صور البصمات الأخرى في القضية: بصمات أصابع القتيل والبصمات الموجودة على المسدس. وذكر التقرير أنه لم يعثر على شيء على أي من الأوراق النقدية سوى بقع؛ لذا فحص جرانت والرقيب البصمات الموجودة على المظروف. ظهرت مجموعة متنوعة من البصمات حيث تعامل العديد من الأشخاص مع المظروف منذ أن أرسل الكاتب الرسالة. لكن بصمة السبابة على يمين لسان المظروف كانت واضحة ومثالية دون أدنى شك، وكانت هي السبابة ذاتها التي تركت بصمتها على المسدس الذي عثر عليه في جيب القتيل.
قال جرانت: «حسنا، هذا يناسب نظريتك عن الصديق الذي زوده بالسلاح، أليس كذلك؟».
لكن الرقيب أصدر صوتا مخنوقا واستمر في النظر إلى البصمة. «ما الأمر؟ إنها واضحة كالشمس.»
نصب الرقيب قامته ونظر إلى رئيسه بغرابة. «أقسم أنني لم أشرب أكثر من اللازم، يا سيدي. لكن إما هذا أو أن نظام بصمات الأصابع بأكمله به خطب ما. انظر إلى ذلك!» أشار بإصبعه السبابة غير الثابتة إلى بصمة في أقصى الزاوية اليمنى السفلية، وأثناء قيامه بذلك، دفع بصمات القتيل، التي كانت بعيدة قليلا، أمام عيني جرانت. ساد الصمت قليلا بينما قارن المفتش البصمات وأثبت الرقيب رأيه السابق بتحفظ وقليل من الخوف. لكن لم يكن هناك مفر من الحقيقة التي واجهتهما في الخطوط والثنيات التي لا تقبل الجدل. كانت البصمة هي بصمة القتيل.
لقد كانت لحظة أو اثنتين فقط قبل أن يدرك جرانت الأهمية البسيطة لتلك الحقيقة المذهلة على ما يبدو.
قال دون تفكير: «ورقة ملاحظات مشتركة، بالطبع»، بينما سخر منه نصفه المشاهد لأنه سمح لنفسه بأن يقع ضحية ولو للحظة بسبب الدهشة الطفولية التي تغلبت عليه. «نظريتك تزدهر، ويليامز. فالرجل الذي أعاره المسدس وأرسل المال عاش مع القتيل. ولما كان الأمر كذلك، فيمكنه بالطبع تلفيق أي قصة يحبها لصاحبة منزله أو زوجته أو أي شخص مهتم باختفاء صديقه الحميم.» رفع الهاتف من فوق مكتبه. «سنرى ما سيقوله خبراء الخطوط عما كتب بالورقة.»
لكن خبراء الخطوط لم يكن لديهم ما يضيفونه إلى ما يعرفه جرانت أو خمنه بالفعل. فقد كانت الورقة من النوع الشائع الذي يمكن شراؤه من بائعي أدوات الكتابة أو أكشاك الكتب. وكانت الكتابة لرجل. بالنظر إلى عينة من خط يد المشتبه به، من المحتمل أن يكونوا قادرين على تحديد ما إذا كان قد تمت الكتابة من قبله أم لا، ولكن حتى الآن لا يمكنهم تقديم المزيد من العون أكثر مما أشير إليه بالفعل.
غادر ويليامز إلى منزله الخاوي مؤقتا لتهدئة عقله المفتون بزوجته بتذكير نفسه بمدى قصر الأسبوع، وكم ستبدو السيدة ويليامز جميلة عندما تعود من ساوثيند؛ وبقي جرانت في مكانه، محاولا تنويم الخنجر مغناطيسيا ليروي قصته. كان يرقد على سطح مكتبه المصنوع من الجلد الأخضر الداكن، شيء رشيق وشرير يشبه اللعبة، طرفه الحاد بوحشيته النحيفة يتسبب في وجود تباين غريب مع القديس المخادع على المقبض بوجهه السخيف الخالي من التعبيرات. تأمل جرانت سمات القديس بسخرية. ما الذي قالته راي ماركابل؟ قد ترغب في الحصول على مباركة لمهمة بهذا الحجم. لذا اعتقد جرانت أنه سيختار قديسا أكثر سلطة من القديس غير المجد الموجود على المقبض بما يمتلكه من علاقات الضابط المسئول. ذهبت أفكاره إلى راي ماركابل. كانت صحافة هذا الصباح مليئة برحيلها المتوقع إلى أمريكا، حيث عبرت الصحف الشعبية في أسى، والصحف الأكثر ثقافة بمرارة واستياء أن المديرين البريطانيين سمحوا لأفضل نجمة لعروض الكوميديا الموسيقية في الجيل بمغادرة البلاد. تساءل جرانت عما إذا كان يجب أن يذهب إليها قبل أن تغادر ويسألها صراحة لماذا بدت متفاجئة من وصف الخنجر؟ لم يكن هناك ما يربطها بالجريمة ولو من بعيد. كان يعرف تاريخها - الفيلا الصغيرة شبه المنفصلة في إحدى الضواحي الكئيبة التي كانت تطلق عليها الديار، والمدرسة الحكومية التي التحقت بها، واسمها الحقيقي هو روزي ماركهام. حتى إنه التقى السيد والسيدة ماركهام بشأن مسألة الحقيبة. كان من غير المرجح للغاية أن تلقي أي ضوء على جريمة القتل في الصف. وكان لا يزال من غير المرجح أن تفعل ذلك إن استطاعت. لقد أتيحت لها فرصة أن تكون صريحة معه عندما احتسيا الشاي في غرفة تبديل الملابس الخاصة بها، وقد أبقته عن عمد بعيدا عن أي معلومة قد تكون لديها. هذه المعلومات، بالطبع، قد تكون بريئة تماما. ربما كانت مفاجأتها ناتجة عن التعرف على وصف الخنجر، ومع ذلك فلا علاقة لها بجريمة القتل. كان الخنجر بعيدا عن كونه فريدا من نوعه، ولا بد أن العديد من الأشخاص قد رأوا أسلحة مماثلة واستعملوها. لا، في كلتا الحالتين لم يكن من المرجح أن يشعر بمزيد من الرضا من إجراء مقابلة أخرى مع الآنسة ماركابل. كان عليها أن تغادر إلى الولايات المتحدة دون استجواب.
بتنهيدة ناجمة عن عدم الجدوى، حفظ الخنجر في درجه مرة أخرى وانطلق إلى المنزل. خرج إلى الجسر ليجد أنها كانت ليلة رائعة يكسوها ضباب خفيف بارد في الهواء، وقرر أنه سيعود إلى المنزل ماشيا. شوارع منتصف الليل في لندن - دائما ما تكون أجمل بكثير وأقوى أثرا في نفسه من شوارع النهار المزدحمة المتقلبة. ففي الظهيرة، تقدم لك لندن هدية ترفيهية غنية، ومتنوعة، ومسلية . لكنها تقدم لك في منتصف الليل هدية تعبر عن ذاتها؛ ففي منتصف الليل يمكنك سماع أنفاسها.
عندما وصل أخيرا إلى الشارع الذي كان يعيش فيه، كان قد وصل إلى مرحلة المشي تلقائيا، وكان الضباب المتلألئ بالنجوم قد سيطر على دماغه. لبعض الوقت، كان جرانت قد «أغمض عينيه». لكنه لم يكن نائما، فعليا أو مجازيا، وأول ما شغل تفكيره عند فتح عينيه جسم معتم كان ينتظر في الزاوية المقابلة خارج ضوء المصباح. من كان يتسكع في هذه الساعة؟
فكر بسرعة فيما إذا كان يجب أن يعبر الشارع ويمشي على الجانب الآخر أم لا، ومن ثم يكون على مسافة كافية لفحص الجسم. لكن الوقت كان قد فات لتغيير اتجاهه. واصل طريقه، متجاهلا ذلك المتسكع. لم ينظر إلى الوراء إلا عندما كان يدخل عند بوابته. كان الجسم لا يزال هناك، يكاد لا يمكن تمييزه في الظلام.
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة عندما سمح لنفسه بالدخول بمفتاحه، لكن السيدة فيلد كانت تنتظره. «اعتقدت أنك قد ترغب في معرفة هل من رجل جاء إلى هنا ليسأل عنك. لم ينتظر ولم يترك رسالة.» «كم مضى على ذلك؟»
قالت السيدة فيلد أكثر من ساعة. لم تره بشكل صحيح. فقد وقف بالخارج وراء عتبة الباب. لكنه كان صغيرا في السن. «ألم يترك اسمه؟»
لا، رفض إعطاء اسم.
قال جرانت: «حسنا. اذهبي أنت إلى الفراش. وإذا عاد، فسوف أسمح له بالدخول.»
ترددت في طريقها إلى المدخل. وقالت بقلق: «لن تفعل أي شيء طائش، أليس كذلك؟ لا أحب فكرة وجودك هنا بمفردك مع شخص قد يكون فوضويا حسب علمنا.» «لا تقلقي يا سيدة فيلد. لن يتم تفجير المنزل الليلة.»
قالت: «أنا لا أخشى تفجير المنزل. ما يشغلني أنك قد ترقد هنا وتنزف حتى الموت دون أن يدري أحد. فكر في شعوري عندما آتي في الصباح وأجدك هكذا.»
ضحك جرانت. «حسنا، يمكنك أن تريحي نفسك. ليس هناك أدنى فرصة لحدوث أي شيء مثير للغاية. لم يسبق لأحد أن سفك دمي على الإطلاق باستثناء جيري في كوتالميزو، وكان ذلك بسبب الحظ أكثر من التحكم الجيد.»
أذعنت لوجهة نظره. وقالت مشيرة إلى الطعام على المنضدة: «تناول بعض الطعام قبل أن تذهب إلى الفراش. أعددت لك بعض الطماطم الإنجليزية، وأفضل لحم بقري مملح لدى تومكينز.» قالت ليلة سعيدة وذهبت، لكنها سمعت طرقا على الباب قبل أن تصل إلى مطبخها. سمعها جرانت وهي تذهب إلى الباب، وحتى حين كان دماغه يتكهن بشأن زائره، كان الجزء المشاهد بداخله يتساءل عما إذا كانت الشجاعة أم الفضول هو الذي أرسل السيدة فيلد عن طيب خاطر لإجابة الطارق. بعد لحظات، فتحت باب غرفة الجلوس وقالت: «رجل نبيل شاب يود رؤيتك، سيدي»، ودخل على جرانت المتلهف شاب يبلغ من العمر 19 أو 20 عاما، طويل القامة إلى حد ما، داكن البشرة، عريض المنكبين، لكنه نحيل، ويقف على قدميه مثل الملاكم. ألقى نظرة خفية، وهو يتقدم إلى الأمام، من عينيه الداكنتين اللامعتين إلى الزاوية خلف الباب، وتوقف على بعد عدة ياردات من المفتش في منتصف الغرفة، مقلبا قبعة ناعمة في يديه النحيفتين اللتين يغطيهما القفازان.
سأل: «هل أنت المفتش جرانت؟».
أشار إليه جرانت للجلوس على كرسي، وبطريقة غير إنجليزية تماما جلس الشاب عليه بجنب، وبدأ يتحدث وهو لا يزال ممسكا بقبعته. «رأيتك الليلة في مطعم لورنس. أنا أعمل في حجرة المؤن هناك. أنظف أدوات المائدة الفضية وأشياء من هذا القبيل. أخبروني من أنت، وبعد القليل من التفكير، قررت أن أخبرك بكل شيء.»
قال جرانت «فكرة جيدة جدا. أكمل. هل أنت إيطالي؟» «لا، أنا فرنسي. اسمي راءول ليجارد.» «حسنا، أكمل.» «كنت في الصف ليلة مقتل الرجل. كانت ليلة إجازتي. كنت أقف بجانب الرجل وقتا طويلا. داس على قدمي دون قصد، وبعد ذلك تحدثنا قليلا - عن المسرحية. كنت أقف ناحية الخارج وكان هو بجوار الحائط. ثم جاء رجل ليتحدث معه ووقف أمامي. أراد الرجل الجديد شيئا من الرجل الآخر. بقي حتى فتح الباب وتحرك الناس. كان غاضبا من شيء ما. لم يكونا يتشاجران - ليس كما نتشاجر - لكنني أعتقد أنهما كانا غاضبين. عندما وقعت جريمة القتل هربت. لم أرغب في التورط مع الشرطة. لكنني رأيتك الليلة، وكنت تبدو لطيفا؛ ولذا قررت أن أخبرك بكل شيء.» «لماذا لم تأت إلى سكوتلانديارد وتخبرني؟» «أنا لا أثق في الشرطة. إنهم يهولون الأمور. وليس لدي أصدقاء في لندن.» «عندما جاء الرجل ليتحدث إلى الرجل المقتول، ودفعك إلى الوراء، من كان واقفا بينك وبين حائط المسرح؟» «امرأة ترتدي فستانا أسود.»
السيدة راتكليف. حتى الآن كان الصبي يقول الحقيقة. «هل يمكنك وصف الرجل الذي جاء وذهب مرة أخرى؟» «لم يكن طويل القامة. كان أقصر مني. كان يرتدي قبعة مثل قبعتي، فقط لونها بني غامق، ومعطفا مثل معطفي» أشار إلى معطفه الضيق، خاصة من عند الخصر ذي اللون الأزرق الداكن «لكنه بني أيضا. وكانت بشرته داكنة جدا، دون شارب، وهذه بارزة.» لمس عظام خديه وذقنه الجميل. «هل ستعرفه إذا رأيته مرة أخرى؟» «نعم بالتأكيد.» «هل يمكنك أن تقسم على ما تقول؟» «ماذا؟» «أن تقسم على شهادتك.» «نعم بالتأكيد.» «ما الذي تشاجر بشأنه الرجلان؟» «لا أعرف. لم أسمع. لم أكن أصغي بشكل متعمد، وعلى الرغم من أنني أتحدث الإنجليزية، فإنني لا أفهم عندما يتحدث الناس بسرعة كبيرة. أعتقد أن الرجل الذي جاء أراد شيئا لن يعطيه له القتيل.» «عندما ابتعد الرجل عن الصف، كيف لم يره أحد يذهب؟» «لأنه في ذلك الوقت، كان الشرطي يسير ويقول للناس «أفسحوا الطريق».»
كان حديثه عفويا جدا. أخرج المفتش دفتر ملاحظاته وقلمه الرصاص، ووضع القلم الرصاص على الصفحة المفتوحة، وقدمها إلى الزائر. «هل يمكنك أن تريني كيف وقفت في الصف؟ ضع علامات للأشخاص، واذكر أسماءهم.»
مد الصبي يده اليسرى للدفتر، وأخذ قلم الرصاص بيمينه، ورسم رسما تخطيطيا ذكيا للغاية، غير مدرك أنه في تلك اللحظة أحبط محاولة الشرطة التي لا يثق بها لتهويل الأمور.
راقب جرانت وجهه الجاد المستغرق في التفكير وفكر بسرعة. كان يقول الصدق، إذن. لقد كان هناك حتى سقط الرجل، وتحرك مع الآخرين بعيدا عن مسرح الجريمة المرعبة، واستمر في تحركه حتى تمكن من الابتعاد عن خطر الوقوع تحت رحمة الشرطة الأجنبية. وقد رأى القاتل بالفعل وبإمكانه التعرف عليه مرة أخرى. بدأت الأمور تتحرك.
استعاد الدفتر والقلم الرصاص اللذين قدمهما له الصبي، وبينما كان يرفع عينيه بعدما فرغ من تأمل الرسم التخطيطي، لاحظ العينين الداكنتين تنظران بشوق إلى الطعام الموجود على الخزانة. خطر له أن ليجارد ربما جاء مباشرة من عمله لرؤيته.
قال: «حسنا، أنا ممتن جدا لك. تناول بعض العشاء معي الآن، قبل أن تذهب.»
رفض الصبي بخجل، لكنه سمح لنفسه أن يقتنع، وتناولا معا وجبة كبيرة من أفضل لحوم السيد تومكينز المملحة. تحدث ليجارد بحرية عن أهله في ديجون - الأخت التي أرسلت إليه جرائد فرنسية، والأب الذي لا يوافق على الجعة منذ أن أكل أحدهم العنب وليس نباتات الجنجل؛ وعن حياته في مطعم لورنس وانطباعه عن لندن والإنجليز. وعندما سمح له جرانت بالخروج في النهاية إلى السكون الأسود للصباح الباكر، استدار على عتبة الباب وقال معتذرا بسذاجة: «أنا آسف الآن لأنني لم أخبرك من قبل، لكنك تفهم كيف كان الأمر، أليس كذلك؟ الهروب في البداية جعل الأمر صعبا. ولم أكن أعلم أن الشرطة كانت لطيفة جدا هكذا.»
صرفه جرانت بتربيتة ودية على كتفه، قفل الباب، والتقط سماعة الهاتف. بعد إجراء الاتصال، قال: «معك المفتش جرانت. أرسل هذا إلى جميع المحطات: «مطلوب، فيما يتعلق بجريمة الصف بلندن، رجل أعسر، 30 عاما تقريبا، طوله أقل من المتوسط، بشرته وشعره داكنان جدا، عظام الخد والذقن بارزة، حليق الذقن. عندما شوهد آخر مرة كان يرتدي قبعة بنية لينة ومعطفا بنيا ضيقا. لديه ندبة حديثة على السبابة اليسرى أو الإبهام».»
ثم ذهب إلى الفراش.
الفصل الخامس
داني مرة أخرى
خرج جرانت من مارليبون إلى ضوء شمس الصباح، ونظر من نافذة عربته وشعر بتفاؤل أكثر مما كان لديه منذ أن أجرى أول مقابلة مع المسئولين في مركز شرطة جاو ستريت. لم يعد القاتل كائنا أسطوريا. أصبح لديهم الآن وصف كامل له، وقد يكون إلقاء القبض عليه مسألة وقت فقط. وربما بحلول هذه الليلة سيكون قد حدد هوية القتيل. مد ساقيه في المقصورة الفارغة وترك الشمس تنزلق ببطء ذهابا وإيابا عليهما بينما كان القطار يتقدم في طريقه. إن إنجلترا بلد لطيف في الساعة العاشرة من صباح مشرق. حتى الفيلات الصغيرة الموحشة في الضواحي فقدت العدوانية التي نشأت من عقدة النقص لديها، وكانت تتألق برزانة ودون أنانية في ضوء النهار الصافي. لم تعد أبوابها الضيقة غير المضيافة قبيحة المنظر بسبب بشاعة الطلاء الرخيص والقوالب المزخرفة؛ بل كانت مداخل مزينة باليشم، والعقيق، واللازورد، والعقيق اليماني تؤدي إلى جنان منفصلة خاصة. وكانت حدائقها، بصفوفها من زهور التيوليب الجذابة غير المشذبة، والأعشاب الهزيلة المزروعة بالبذور، جميلة المنظر مثلما كانت حدائق بابل المعلقة دائما. هنا وهناك، تراقص صف من ملابس الأطفال المرحة المتعددة الألوان وانتفخت بالنسيم في شكل قلادة من الضحكات الملونة. وبعد ذلك، عندما اختفى آخر بقايا المدينة، ابتسمت مساحات واسعة من الريف العشبي ابتسامة كبيرة في ضوء الشمس مثل لوحة صيد قديمة. كانت كل إنجلترا جميلة هذا الصباح، وعرف جرانت ذلك. حتى قنوات نوتنجهام كانت تتمتع بلون أزرق اليوم قادم من مدينة البندقية، وكانت جدرانها القذرة التي تشبه السجن وردية اللون مثل جدران مدينة البتراء.
خرج جرانت من المحطة إلى أزيز عربات الترام وصخبها. لو سئل عما تمثله منطقة ميدلاندز في ذهنه، لكان يقول بلا تردد عربات الترام. فلطالما بدت عربات الترام في لندن بالنسبة إليه تضاربا غريبا، قرويون فقراء أغرتهم العاصمة، وكدحوا ليخرجوا من الكيان المحتقر الكاره للبشر؛ لأنهم لم يجنوا قط ما يكفي من المال للخروج منه. لم يسمع جرانت قط الصوت المميز القادم من بعيد لعربة ترام تقترب من دون أن يجد نفسه قد عاد للأجواء الميتة الخالية من الهواء لمدينة ميدلاند حيث ولد. لم يخف سكان مدينة ميدلاند عربات الترام الخاصة بهم في الشوارع الخلفية؛ لقد تتبعوها بفخر عبر أهم شوارعهم، جزئيا من باب التباهي، وجزئيا بسبب فكرة في غير محلها عن المنفعة. كان هناك صف أصفر طويل منها يقف في سوق نوتنجهام، مما يحجب الرؤية عن الميدان العريض شبه القاري، ويجعل المرور من الرصيف على أحد الجانبين إلى أكشاك السوق على الجانب الآخر مثل لعبة الغميضة الأكثر إثارة. لكن السكان الأصليين، برغم هذه القدرة على التكيف مع الظروف التي هي أعظم أعجوبة للطبيعة، بدا أنهم يستمتعون بالأعمال ذات المسافات القصيرة، ويجدون أنه ليس من الخطورة الشديدة الانغماس فيها. ولم يقتل أحد خلال الوقت الذي سار فيه جرانت في الشارع على أي حال.
في فيث بروذرز، عرض عليهم ربطة العنق التي تخص القتيل، وأوضح أنه يريد أن يعرف ما إذا كان أي شخص يتذكر بيعها. لم يتذكر الرجل الموجود بمكان دفع الحساب إجراء هذه المعاملة، لكنه استدعى زميلا كان يقلب سبابة بيضاء ومرنة للغاية لأعلى وأسفل جدار من الصناديق الكرتونية، في محاولة للعثور على عنصر يحظى بموافقة عميله. شيء ما أخبر جرانت أنه في الأمور المتعلقة بالملابس، سيتمتع هذا الشاب بذاكرة أحد السكان الأكبر سنا، وكان على حق. فبعد إلقاء نظرة واحدة على ربطة العنق، قال إنه أخرجها من نافذة العرض - أو أخرج ربطة عنق تشبهها تماما - لرجل نبيل منذ نحو شهر. رآها الرجل النبيل في نافذة العرض، ولأنها كانت تتناسب مع البدلة التي كان يرتديها، فقد دخل واشتراها. لا، لم يكن يعتقد أنه كان رجلا من نوتنجهام. لماذا؟ حسنا، أولا لم يتحدث بلهجة نوتنجهام، وثانيا لم يرتد ملابس تشبه ملابس أهل نوتنجهام.
هل يمكنه وصف الرجل؟
كان بإمكانه، وفعل ذلك، بدقة وبالتفاصيل. قال هذا الشاب المدهش: «يمكنني أن أخبرك بالموعد، إذا أردت. أتذكره لأنه ...» تردد، وفي النهاية تسلل بانتعاش من طريقته الخبيرة بالحياة والناس إلى سذاجة يتخللها الشعور بالارتباك «بسبب شيء حدث في ذلك اليوم. كان الثاني من فبراير.»
دون جرانت التاريخ وسأل عن انطباعه بشأن الشخص الغريب. هل كان بائعا متجولا؟
لم يعتقد الشاب ذلك. لم يتحدث عن العمل ولم يبد اهتمامه بنمو نوتنجهام أو أي شيء .
سأل جرانت عما إذا كان هناك أي فعالية أقيمت في المدينة في ذلك التاريخ من شأنها أن تجلب شخصا غريبا إلى نوتنجهام، وقال الشاب نعم، بتأكيد بالغ. كان هناك مهرجان موسيقي ضخم - مهرجان لجميع سكان ميدلاندز - وكان هناك عدد قليل من الأشخاص من لندن أيضا. كان يعلم ذلك، لأنه هو نفسه قد شارك فيه. فقد غنى في جوقة الكنيسة وكان يعرف كل شيء عن المهرجانات. بدا الغريب وكأنه شخص مهتم بالمهرجان أكثر من كونه بائعا متجولا. كان يعتقد في ذلك الوقت أن هذا على الأرجح سبب وجود الرجل في نوتنجهام.
يعتقد جرانت أن هذا محتمل جدا. ثم تذكر يدي الرجل الحساستين. وكان أيضا كثير التردد على وفينجتون، الذي إن لم يكن رفيع المستوى الثقافي، فهو على الأقل مقصد موسيقي دائم. لم ينسجم هذا مع نظرية العصابة، لكنه لم يستطع تجاهل الأمر لهذا السبب. في الواقع لم يكن هناك ما يدعم نظرية العصابة. لقد كانت مجرد نظرية لا أكثر ولا أقل - مجرد تكهن. شكر الشاب وسأل عن اسم شخص ما في نوتنجهام يعرف كل شيء عن المهرجان والأشخاص الذين أتوا إليه. قال الشاب إنه من الأفضل له الذهاب لرؤية المحامي يودال. لم يكن يودال السكرتير، لكنه كان نوعا ما رئيس مجلس إدارة، وكانت هذه هوايته. جلس هناك من الصباح إلى المساء، طيلة أيام المهرجان الثلاثة، ومن المؤكد أنه يعرف أي شخص كان مهتما بما يكفي ليأتي من لندن من أجل ذلك.
دون جرانت عنوان يودال، مدركا أن عقل الشاب الفضولي كان يدقق فيه كما فعل مع القتيل، وفي السنوات التالية، إذا طلب منه شخص ما أن يصف الرجل الذي أخذ عنوان يودال، فإنه سيفعل ذلك بإخلاص. كان ضائعا في محل لبيع القبعات والجوارب. سأل الشاب: «هل تبحث عن الرجل الذي اشترى ربطة العنق؟». ووضع «تبحث» بين علامتي اقتباس، مضفيا عليها الحس الشرطي.
قال جرانت: «ليس بالضبط، لكنني أريد أن أتعقبه إن استطعت.» وغادر لمقابلة السيد يودال.
كانت المكاتب الصغيرة والقاتمة الخاصة بيودال، ليستر آند يودال، تقع في شارع جانبي صغير، بالقرب من القلعة - هذا النوع من الشوارع الذي لم يسبق له أن رأى عربة ترام والذي كان يتردد صدى خطى المرء فيه حتى ينظر لاإراديا إلى الخلف. كان عمر تلك الشوارع 300 عام، وكانت غرفة الانتظار مكسوة بألواح من خشب البلوط التي أخمدت آخر شعاع ضوء شجاع كان يشق طريقه عبر زجاج النافذة المخضر القديم. انطفأ الضوء على عتبة النافذة كما يموت آخر ناج من تهمة على حاجز العدو، مقتولا ولكن بمجد. لكن السيد يودال، من شركة «يودال، ليستر آند يودال»، كان سيعتبر اقتراح أن تكون الأمور خلاف ذلك هرطقة. خلاف ذلك! هذا يعني مبنى مثل ثلاجة اللحوم، مزينا بالنوافذ حتى أصبحت الجدران عمليا غير موجودة. مجموعة من الألواح الزجاجية مرتبطة ببعضها البعض بأعمدة مزينة بأشكال دنيئة لا تصدق! تلك كانت العمارة الحديثة! ولكن، تعويضا عن القذارة القاتمة التي تحيط به، ابتسم السيد يودال بابتهاج وإشراق ورحب بالإنسانية جمعاء بهذا الافتقار الشديد إلى الشك الذي يتميز به الأصدقاء و«المحتالون»، ولكن ليس المحامين أبدا. ولكونه الوحيد من الجيل الثالث لآل يودال، فقد حصل في شبابه على زاوية تشبه الخزانة في المنطقة المكتظة بالغرف الصغيرة في مكاتب يودال، وبما أنه أحب ألواح البلوط والعوارض والزجاج المخضر في المرتبة الثانية بعد السمفونيات والسوناتا، فقد مكث هناك. والآن أصبح مالكا لشركة «يودال، ليستر آند يودال» - على الرغم من أن الموظف الكفء يمنع أي شيء شديد الفظاعة من الحدوث.
إن القول بأن السيد يودال رحب بالمفتش هو تصريح غير مناسب. شعر جرانت أنه لا بد أن يكون قد التقى بالرجل من قبل ونسيه. لم يفصح عن الفضول الذي كان ينتشر عادة على وجه المرء عندما يتبع المفتش بطاقته إلى إحدى الغرف. كان جرانت بالنسبة إليه مجرد رفيق آخر لطيف، وقبيل أن يوضح جرانت عمله، وجد نفسه يقاد لتناول الغداء. كان من الأجمل التحدث أثناء تناول وجبة، وكان قد مر وقت طويل بعد الساعة الواحدة، وإذا لم يأكل المفتش منذ الإفطار، فلا بد أنه يتضور جوعا. تبع جرانت مضيفه غير المتوقع بإذعان كاف؛ لم يكن قد حصل على معلوماته بعد، ويبدو أن هذه هي الطريقة الوحيدة للحصول عليها. علاوة على ذلك، لا يتجاهل ضابط مباحث أبدا فرصة التعرف على أحد. إذا كان لدى شرطة سكوتلانديارد شعار فهو «لن تعرف أبدا».
أثناء الغداء علم أن السيد يودال لم يسبق له أن رأى الرجل الذي كان يبحث عنه على حد علمه. كان يعرف شكلا أو شخصيا جميع فناني المهرجان بالإضافة إلى عدد كبير من أولئك المهتمين به فقط. لكن لا شيء يتوافق تماما مع الوصف الذي قدمه جرانت. «إذا كنت تعتقد أنه كان موسيقيا، فجرب فرقة ليون الموسيقية أو معارض الأفلام. ففنانوهم الموسيقيون غالبا ما يكونون من سكان لندن.»
لم يكلف جرانت نفسه عناء توضيح أن فرضية كون الرجل موسيقيا قد نشأت من خلال علاقته المفترضة بالمهرجان. كان من الأسهل والأكثر إمتاعا السماح للسيد يودال بالتحدث. ومع ذلك، في وقت ما بعد الظهر، بعد أن ودع مضيفه المبتهج، قام بغربلة الفرق الموسيقية المختلفة في المدينة، مع عدم تحقيق أي نجاح كما توقع. ثم اتصل هاتفيا بشرطة سكوتلانديارد ليعرف كيف أبلى ويليامز في سعيه وراء تاريخ الأوراق النقدية، وتحدث إلى ويليامز نفسه، الذي عاد لتوه بعد صباح طويل مليء بالعمل. كانت الأوراق النقدية مع البنك الآن. لم يحدث شيء حتى الآن، لكن تم تعقبها، وكان البنك يعمل على ذلك.
اعتقد جرانت، وهو يضع سماعة الهاتف، أن أحد الخيوط المعقدة بدأ ينحل ببطء ولكن بشكل مؤكد على ما يبدو. لا شيء يترك تاريخا واضحا لا جدال فيه مثل ورقة نقدية من بنك إنجلترا. وإذا أخفق في نوتنجهام في تتبع القتيل بنفسه، فإن اكتشافهم لهوية الصديق سيقودهم حتما إلى معرفة هوية القتيل. وما هي إلا خطوة واحدة من الميت إلى الشامي. ومع ذلك، كان يائسا بعض الشيء. كان لديه حدس هذا الصباح أنه قبل حلول الليل ستضعه معلومة غير متوقعة على المسار الصحيح؛ مما جعله يستطلع يومه الضائع بشيء من الاشمئزاز، ولم تخفف عنه حتى الآثار اللاحقة للغداء الجيد الذي قدمه له السيد يودال، ولا الذكرى الوردية لحسن نية ذلك الرجل تجاه الآخرين. في المحطة وجد أن أمامه نصف ساعة لانتظار قطاره، وذهب إلى صالة أقرب فندق؛ على أمل غامض في التقاط معلومات تافهة غير مدروسة في أكثر الأماكن العامة ثرثرة. تفحص النادلين بعينه التي لا ترى سوى الجانب السيئ في الأشخاص. كان أحدهما متعجرفا يشبه كلب بج سمينا، والآخر كان شارد الذهن يشبه كلب داشهند. شعر جرانت غريزيا أنهما لن يساعداه. لكن الشخص الذي أحضر له قهوته كان نادلة فاتنة في منتصف العمر. أضاءت روح جرانت المرهقة عند رؤيتها. في غضون بضع دقائق، كان ينغمس في حوار ودي، غير مترابط، عن أمور عامة، وعندما غادرت مؤقتا لتلبية رغبات شخص آخر، كانت تعود دائما وتحوم بالقرب منه حتى استئناف المحادثة. بعد أن أدرك جرانت أن الوصف اللفظي لرجل لم يكن أحدب أو أعمى أو غير طبيعي بطريقة أخرى لن ينقل شيئا إلى هذه المرأة، التي رأت في يوم واحد على الأقل ستة من الرجال الذين قد تتطابق أوصافهم مع أوصاف القتيل، أقنع نفسه بإعطاء أدلة قد تثير معلومات مفيدة نسبيا.
قال: «الأمور هادئة هنا الآن.»
وافقت على صحة ذلك؛ فقد كان هذا وقتهم الهادئ. كانت لديهم أوقات هادئة وأوقات صاخبة. هكذا تجري الأمور.
هل يعتمد ذلك على عدد الأشخاص المقيمين في الفندق؟
لا، ليس دائما. لكنه عادة ما يعتمد على ذلك. كان الفندق الشيء نفسه؛ فقد كان لديهم أوقات هادئة وأوقات صاخبة.
هل كان الفندق كامل العدد من قبل؟
نعم؛ كان كامل العدد عن آخره عندما جاءت الجمعية التعاونية. المائتا غرفة جميعها. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي تتذكر فيها مثل هذا الحشد في نوتنجهام.
سأل جرانت: «متى كان ذلك؟». قالت: «في بداية فبراير. لكنهم يأتون مرتين في السنة.» في بداية فبراير!
من أين أتى أفراد الجمعية التعاونية؟
من جميع أنحاء ميدلاندز .
ليس من لندن؟
لا، لم تعتقد ذلك؛ ولكن قد يكون البعض منهم قد جاء من هناك.
ذهب جرانت للحاق بقطاره، مفكرا في الاحتمال الجديد واجدا إياه غير مقبول، رغم أنه لم يكن متأكدا تماما من السبب. لم يبد القتيل من ذلك النوع. إذا كان مساعدا في متجر، فقد كان يعمل لدى شركة تتطلب قدرا كبيرا من الأناقة من جانب موظفيها.
لم تتضمن رحلة العودة إلى المدينة تعاقبا بطيئا ولطيفا لأفكار مضاءة بنور الشمس. فقد كانت الشمس قد غابت، ومحا ضباب رمادي خطوط البلاد. بدا الأمر فاترا، وكئيبا، ومضرا في المساء الشاحب. تلألأت هنا وهناك بقعة من الماء على نحو مؤذ من بين أشجار الحور مع سطح القصدير المسطح غير العاكس. كرس جرانت وقته للجرائد، وعندما فرغ منها، شاهد المساء الرمادي الذي لا شكل له وهو يمضي سريعا، وترك عقله يتسلى بمشكلة وظيفة القتيل. كان هناك ثلاثة رجال آخرين في المقصورة، وكانت تصريحاتهم الفصيحة والصاخبة في بعض الأحيان حول موضوع الأغلفة، أيا ما تكون، تشتت انتباهه وتضايقه كثيرا. مجموعة متشابكة من أضواء الإشارة، معلقة معزولة ومنفصلة بألوانها التي تشبه الياقوت والزمرد عبر ضوء النهار المتلاشي، أعادت له روح الدعابة قليلا. كانت هذه الأضواء أمرا عجيبا وموحيا. كان أمرا لا يصدق أن شيئا خياليا هكذا كان يتمتع بدعم غير مرئي في شكل أعمدة قوية وقضبان متقاطعة، ويعمل بمولد. لكنه كان سعيدا عندما أعلن الهدير الطويل والقعقعة فوق النقاط نهاية الرحلة، وكانت مصابيح لندن القوية تتدلى فوقه.
عندما وصل إلى شرطة سكوتلانديارد، انتابه شعور غريب بأن الشيء الذي انطلق ليبحث عنه كان ينتظره هنا. لم يخدعه حدسه. تلك المعلومة الصغيرة التي من شأنها أن تكون مفتاح قصة القتيل بالكامل كانت على وشك أن توضع بين يديه. تسارعت خطواته دون وعي. كان لا يكاد يستطيع الانتظار. لم تبد المصاعد بطيئة جدا أو الممرات طويلة جدا لهذه الدرجة من قبل.
وبعد كل هذا، لم يكن هناك شيء - لا شيء سوى التقرير المكتوب الذي تركه ويليامز ، الذي كان قد ذهب لاحتساء الشاي، له ليراه عندما يعود - كان تلخيصا أكثر تفصيلا لما سمعه بالفعل عبر الهاتف.
ولكن في اللحظة ذاتها التي وصل فيها المفتش جرانت إلى سكوتلانديارد، حدث شيء غريب لداني ميلر. لقد كان جالسا بجنب على كرسي مريح في إحدى الغرف العلوية بالمنزل في بيمليكو، وقدماه الدقيقتان في حذائهما الأنيق تتدليان بكسل من فوق ذراعه المنجدة، وتبرز بزاوية حادة سيجارة في مبسم طوله ست بوصات من فمه الرفيع. وكانت تقف في منتصف الغرفة «عشيقته». كانت تجرب مجموعة من الفساتين المسائية، التي انتزعتها من أغلفتها الكرتونية كما يخرج المرء البازلاء من قرونها بإبهامه. أدارت جسدها الجميل ببطء حتى التقط الضوء السطح المخرز للقماش الهش وأبرز الخطوط الطويلة لجسدها.
قالت، وعيناها تبحثان عن عيني داني في المرآة: «هذا لطيف، أليس كذلك؟» ولكن حتى عندما نظرت، رأت أن عينيه، المركزتين على منتصف ظهرها، تحدقان بشراسة. التفتت. وسألت: «ما الأمر؟» لكن يبدو أن داني لم يسمعها؛ لم يتغير تركيز عينيه. فجأة انتزع مبسم السجائر من فمه، وألقى السيجارة في المدفأة، وقفز على قدميه باحثا عن أشيائه بهمجية.
قال: «قبعتي! أين قبعتي؟ أين قبعتي بحق الجحيم!»
قالت مندهشة: «إنها على الكرسي خلفك. ما الذي يغضبك؟»
انتزع داني القبعة وفر خارج الغرفة كما لو أن جميع عفاريت المناطق السفلية تطارده. سمعته يلقي بنفسه أسفل الدرج، ثم أغلق الباب الأمامي بشدة. كانت لا تزال واقفة بعينين مشدوهتين على الباب عندما سمعته يعود. صعد الدرج، ثلاث درجات في المرة الواحدة، بخفة قطة، وانفجر فيها.
قال: «أعطيني بنسين. أنا لا أملك بنسين.»
دون تفكير، مدت يدها إلى حقيبة اليد الباهظة الثمن الجميلة التي كانت إحدى هداياه لها، وأخرجت بنسين. قالت في محاولة لحثه على الشرح: «لم أكن أعلم أنك مفلس. فيم تحتاج إليهما؟»
استشاط غضبا وقال: «اغربي عن وجهي!» واختفى مرة أخرى.
وصل إلى أقرب هاتف عمومي لاهثا بعض الشيء ولكنه مسرور جدا بنفسه، ودون التنازل لفعل أي شيء ممل مثل استشارة دليل الهاتف، طالب بالتواصل مع شرطة سكوتلانديارد. خلال التأخير الذي لحق ذلك، جر قدميه ببراعة على أرضية كابينة الهاتف كوسيلة للتعبير في الحال عن نفاد صبره وانتصاره. أخيرا كان هناك صوت جرانت على الطرف الآخر من الخط. «مرحبا أيها المفتش، معك ميلر. لقد تذكرت للتو أين رأيت ذلك الرجل الذي كنت تتحدث عنه. عضو؟ ... حسنا، لقد سافرت معه في قطار سباق إلى ليستر، في نهاية يناير، أعتقد أنه كان ... بالتأكيد؟ أتذكر الأمر كما لو كان البارحة. تحدثنا عن السباقات، وبدا أنه يعرف الكثير عنها. لكنني لم أره قبل ذلك أو منذ ذلك الحين ... ماذا؟ ... لا، لم أر أي أشياء متعلقة بالمراهنة ... لا شكر على واجب. يسعدني أن أكون قادرا على المساعدة. أخبرتك أن ذاكرتي لن تخونني مدة طويلة!»
خرج داني من كابينة الهاتف وانطلق، بشكل أكثر رصانة هذه المرة، لتهدئة أنثى ترتدي فستانا مسائيا مطرزا تركها غاضبة، وأغلق جرانت سماعة الهاتف وأخرج نفسا طويلا. قطار سباق! تماشى الأمر تماما مع الحقيقة. يا لي من أحمق! يا لي من أحمق كريه بكل ما تحمله الكلمة من معنى! ألا أفكر في ذلك. ألا أتذكر أنه على الرغم من أن نوتنجهام بالنسبة إلى ثلثي بريطانيا قد تعني دانتيل، فإنها بالنسبة إلى الثلث الآخر تعني السباق. وبالطبع أعطى السباق مزيدا من الإيضاح للرجل - ملابسه، وزيارته لنوتنجهام، وميله إلى الكوميديا الموسيقية، بل وربما العصابة.
وأرسل في طلب نسخة من النشرة الدورية الرياضية «راسينج أب تو ديت». نعم، كان هناك اجتماع مفاجئ في منتزه كولويك في الثاني من فبراير. كما كان هناك اجتماع آخر في ليستر نهاية شهر يناير. أثبت هذا صحة تصريح داني. وهكذا قدم داني المفتاح.
فكر جرانت بمرارة في إمكانية أن تأتي معلومات كهذه مساء يوم السبت عندما يصير وكلاء المراهنات كأنهم غير موجودين، بقدر ما يتعلق الأمر بمكاتبهم. وبالنسبة إلى يوم الغد لا يوجد وكيل مراهنات في المنزل يوم الأحد. إن مجرد التفكير في قضاء يوم كامل دون السفر أدى إلى تشتتهم في جميع أنحاء إنجلترا في سياراتهم مثلما يتشتت الزئبق عند انسكابه. سيعرقل تداخل عطلة نهاية الأسبوع كلا من التحقيقات المصرفية وتحقيقات المراهنات.
ترك جرانت رسالة عن مكان وجوده، وذهب إلى مطعم لورنس. يوم الإثنين سيكون هناك المزيد من العمل الروتيني - جولة في المكاتب بربطة العنق والمسدس - المسدس الذي لم يدع أحد حتى الآن رؤيته. ولكن ربما قبل ذلك الوقت تكون الأوراق النقدية قد وفرت دليلا من شأنه تسريع الأمور وتجنب الطريقة الشاقة للإقصاء. في غضون ذلك، سيتناول عشاء مبكرا ويفكر في الأمور.
الفصل السادس
الشامي
كانت الغرفة ذات اللونين الأخضر والذهبي نصف فارغة وهو يشق طريقه إلى إحدى زواياها، وتباطأ مارسيل في الكلام. شهدت الأمور تقدما مع المفتش، على ما يبدو؟ آه، لكن المفتش جرانت كان خارقا. حصل على رجل كامل من خنجر صغير! (باستثناء طبعات الصباح الباكر، أذاعت الصحافة وصف الرجل المطلوب في جميع أنحاء بريطانيا.) لقد كان شيئا مرعبا. إذا كان هو، أي مارسيل، سيحضر له شوكة سمك مع الطبق الرئيسي، فقد يتم ذلك لإثبات أنه كان لديه طبقة من الجلد السميك على إصبع قدمه الصغيرة اليسرى.
تبرأ جرانت من أي صفات هولمزية من هذا القبيل. «التفسير المعتاد المقدم لمثل هذه الأخطاء الصغيرة هو أن المذنب واقع في الحب.»
قال مارسيل ضاحكا: «آه، ليس صحيحا! أنا أتحدى حتى المفتش جرانت أن يجدني مذنبا في ذلك.»
سأل جرانت: «أوه؟ هل تكره البشر؟».
لا؛ أحب مارسيل بني جنسه، لكن على جرانت أن يعرف أن زوجته كانت امرأة صارمة.
قال جرانت: «أعتقد أنني تعرفت على فتى يعمل معكم في حجرة المؤن في يوم سابق. ليجارد، أليس كذلك؟»
آه راءول. إنه فتى طيب جدا. وجميل أيضا، أليس كذلك؟ هل رأيت عينيه والمنظر الجانبي لوجهه؟! لقد أرادوه أن يمثل في السينما، لكن راءول لم يوافق. وكان سيصبح رئيس الفندق. ولو كان لمارسيل أي رأي في ذلك الأمر، لأصبح لراءول كذلك.
أخذ وافد جديد الطاولة المقابلة، وذهب مارسيل، بعد اختفاء اللباقة من وجهه مثل رقاقات الثلج على الرصيف المبلل، للاستماع إلى احتياجاته بمزيج من الغطرسة المتسامحة وشرود ذهن سماوي اعتاد عليه في التعامل مع الجميع باستثناء الخمسة المفضلين لديه. تناول جرانت وجبته على مهل، ولكن حتى بعد التباطؤ في تناول القهوة، كان لا يزال الوقت مبكرا عندما وجد نفسه في الشارع. كان شارع ستراند رائعا كالنهار ومزدحما، حيث التقى المتأخرون في العودة إلى المنزل بالمبكرين في البحث عن المتعة مما تسبب في حالة من القلق ملأت كلا من ممر المشاة والطريق. مشى ببطء على الرصيف المبهرج باتجاه محطة تشارينج كروس، داخل وخارج الضوء المتغير القادم من نوافذ المتاجر: ضوء وردي، ضوء ذهبي، ضوء ماسي؛ محل أحذية، محل ملابس، محال الحلي. بعد وقت قصير، في الرصيف الأوسع أمام «عنق الزجاجة» القديم، تضاءل الحشد وأصبح الرجال والنساء يمشون فرادى بدلا من مجموعات من الغوغاء. استدار رجل كان يسير على بعد عدة ياردات أمام جرانت وكأنه يبحث عن رقم حافلة قادمة. نظر نظرة خاطفة على جرانت، وفي الضوء الماسي الساطع من النافذة، ظهر على وجهه الهادئ فجأة قناع من الرعب. ودون تردد لحظة أو إلقاء نظرة على اليمين أو اليسار، اندفع متهورا نحو حركة المرور أمام حافلة مسرعة. واحتجز جرانت بالحافلة التي مرت بسرعة أمامه محدثة ضجة كبيرة، ولكن قبل أن يلتف آخر جزء منها، كان قد ابتعد عن الرصيف ملاحقا الرجل باضطراب هائل. في تلك اللحظة المزدحمة، عندما كانت عيناه تهتمان بالعثور على شخص يهرب أكثر من البحث عن المخاطر التي تهدده هو شخصيا، فكر بوضوح، «ألن يكون الموت تحت حافلة في شارع ستراند أمرا فظيعا بعد مراوغة الألمان لمدة أربع سنوات!» بعد سماع صرخة في أذنه، فر متوترا بما يكفي للسماح لسيارة أجرة بالمرور بجواره على بعد بضع بوصات يقودها سائق يشتم ويعلو صوته بالسباب. تفادى سيارة رياضية صفراء، ورأى شيئا أسود يطن عند كوعه الأيسر، تعرف عليه على أنه عجلة أمامية لحافلة، قفز إلى الخلف، وهوجم على يمينه بسيارة أجرة أخرى، وقفز خلف الحافلة أثناء مرورها، على بعد ياردة من الحافلة التالية ووصل إلى مكان آمن على الرصيف البعيد. بنظرة سريعة إلى اليمين واليسار. وجد أن الرجل يسير بخطى ثابتة نحو شارع بيدفورد. من الواضح أنه لم يتوقع مثل هذا القرار السريع من جانب المفتش. أقسم جرانت مجازا بإشعال شمعة للقديس الذي جعله يعبر الشارع بأمان، وبدأ يسير بشكل عادي مما أبقاه على مسافة مناسبة من الشخص الذي يطارده. والآن، إذا نظر حوله قبل شارع بيدفورد، سيعلم أنه لم يكن مخطئا - وأنها حقا كانت رؤيته هي التي أخافته وليس فكرة مفاجئة. لكنه لم يكن بحاجة إلى إلقاء نظرة أخرى على الرجل للتحقق من انطباعه عن عظام الوجنتين البارزة، والوجه الداكن الرفيع، والذقن البارز. وكان يعرف بالتأكيد كما لو أنه رآها أن هناك ندبة حديثة على سبابة الرجل اليسرى أو إبهامه.
بعد ثانية نظر الرجل إلى الوراء - ليس بتلك النظرة الخاطفة الشاردة التي يعطيها المرء، دون معرفة السبب، ولكن بدوران الرأس لمدة ثانيتين مما يعني تدقيقا متعمدا. وبعدها بثانية واحدة، اختفى في شارع بيدفورد. حينها ركض جرانت بسرعة. كان بإمكانه أن يرى بوضوح في عقله ذلك الشخص النحيف الذي يهرب مسرعا في الشارع المظلم المهجور دون أن يوقفه أحد. عندما انعطف عند الزاوية وتوقف، لم يستطع رؤية أي أثر لطريدته. الآن، لم يكن من الممكن حتى لشخص بسرعة العداء الأوليمبي بيرلي أن يبتعد عن الأنظار في ذلك الوقت إذا كان قد سلك مسارا مستقيما؛ لذلك سار جرانت بسرعة، متوقعا حدوث خدعة، بالجانب الأيمن من الشارع، وعينه حذرة عند كل ركن. انتابه القلق لعدم حدوث شيء؛ نما بداخله شعور بأنه قد خدع. توقف ونظر إلى الوراء، وأثناء قيامه بذلك، في نهاية شارع ستراند، تحرك شخص من مدخل على الجانب الآخر من الشارع وهرب عائدا إلى الشارع الرئيسي المزدحم الذي كان قد تركه. في غضون 30 ثانية، وصل جرانت إلى شارع ستراند مرة أخرى، لكن الرجل كان قد اختفى. كانت الحافلات تأتي وتذهب، وسيارات الأجرة تسير بالقرب من المكان، والمتاجر مفتوحة في جميع أنحاء الشارع. لم يكن اختيار وسيلة للهروب أمرا صعبا. لعنه جرانت، وحتى وهو يلعنه فكر، حسنا، لقد خدعني بدقة شديدة، لكنني أتوقع أنه يلعنني أكثر مما ألعنه لحماقته في إظهار أنه يعرفني. كان ذلك سوء حظ بالغا. وللمرة الأولى شعر بالرضا عن الصحافة التي جعلت ملامحه متاحة للجميع؛ رغبة منها في تثقيف عامة الناس. قام بدوريات في الشارع بعض الوقت، ملقيا نظرة استكشافية وإن كانت غير متفائلة على المتاجر أثناء مروره عليها. ثم انسحب إلى ظلام أحد المداخل، حيث بقي بعض الوقت متمسكا باحتمالية أن الرجل قد اختبأ بدلا من أن يهرب، وسيظهر مرة أخرى عندما يعتقد أن المكان أصبح آمنا. وكانت النتيجة الوحيدة لذلك أن شرطيا فضوليا كان يراقبه بعض الوقت من الجانب الآخر من الشارع إذ أراد أن يعرف ما الذي كان ينتظره. خرج جرانت إلى النور وشرح الظروف للضابط المعتذر، وتوصل إلى أن الرجل قد هرب، وذهب للاتصال هاتفيا بشرطة سكوتلانديارد. كان دافعه الأول عندما خدعه الرجل وهرب هو نشر فرقة شرطة في شارع ستراند، لكن الشيء الذي منعه هو رؤيته حركة المرور السريعة ومعرفته أنه بحلول الوقت الذي يصل فيه أي شخص من جسر نهر التيمز، ولو في سيارة سريعة، قد يكون الرجل المطلوب في طريقه إلى جولدرز جرين أو كيمبرويل أو إلستري. كانت الأجواء غير مناسبة لنشر القوة.
بينما كان يتوجه ببطء نحو ميدان ترافلجار بعد إجراء المكالمات الهاتفية، ابتهجت معنوياته. في الساعة الماضية كان يشعر بالاشمئزاز من نفسه إلى حد عجزت مفرداته عن وصفه. كان الرجل أمامه على بعد ست ياردات، وتركه يفلت من بين أصابعه. الآن أصبح الجانب المضيء للوضع واضحا. لقد ارتكب زلة هناك بالتأكيد، ولكن حتى في نهاية الزلة تطورت الأحداث - تطورت كثيرا - عما كانت عليه عندما بدأ. كان يعلم على وجه اليقين أن الشامي كان في لندن. كان ذلك تقدما هائلا. وإلى أن قدمت أوصافه للشرطة في الليلة السابقة، لم يكن هناك ما يمنع القاتل من مغادرة لندن في أي لحظة. كان سيتعين عليهم النظر في التقارير الواردة من جميع أنحاء بريطانيا - وكان لدى جرانت تجربة مريرة مع مثل هذه التقارير عن الرجال المطلوبين - وربما القارة، لولا ذلك اللقاء الذي حدث مصادفة في شارع ستراند، وافتقار الرجل إلى ضبط النفس في لحظة هذيان. الآن علموا أنه كان في لندن، ويمكنهم حشد قواتهم. كان بإمكانه الرحيل عبر الطرق الفرعية، لكنه لم يستطع بأي طريقة أخرى، وقد رأى جرانت أنه سيجد صعوبة في استئجار سيارة من أي مرأب معروف. ذلك فقط جعل الأمور صعبة عليه ولكنه لم يمنعه من الذهاب إذا أراد ذلك، لكنه جعل خروجه أبطأ بكثير. كان مكوثه في هذه الظروف مستغربا عندما كان الطريق خاليا. لكن جرانت كان يعرف عادة اللندني المتعنتة المتمثلة في التشبث بالمدينة التي يعرفها، وتفضيل الأجانب للمجاري على العراء مثل الفئران. كلاهما سيكون أكثر ميلا للاختباء من الركض. وبالطبع فإن الرجل المطلوب، رغم أن أوصافه لم تنشر، لم يكن لديه أي ضمان بأن الشرطة لم يكن بحوزتها أوصافه. كان سيتطلب الأمر المزيد من الشجاعة أو التهور أكثر مما يمتلكه معظم الرجال لمواجهة محصل تذاكر أو مسئول قوارب في هذه الظروف. لذلك علق الرجل بالمدينة. من الآن فصاعدا سيكون تحت رحمة إحدى الدوريات المستمرة لشرطة النجدة، وكانت فرص وقوعه تحت أيديهم مرة أخرى ضئيلة للغاية. علاوة على ذلك، فقد رآه جرانت. وكان ذلك تقدما هائلا آخر. فلن يتمكنا من الالتقاء مرة أخرى، ولو على مسافة بعيدة، دون أن يتعرفه جرانت.
الشامي في لندن، صديق القتيل الذي من المفترض أن يكون في لندن، الشامي الذي يمكن التعرف عليه، الصديق الذي على وشك تعقبه عن طريق أوراقه النقدية؛ كانت الأمور، كما علق مارسيل، تشهد تقدما. في نهاية شارع سانت مارتن لين، تذكر جرانت أن هذه كانت آخر ليلة لعرض «ديدنت يو نو؟» كان سيذهب إلى هناك قليلا ثم يعود إلى شرطة سكوتلانديارد. كانت أفكاره أكثر جدوى من غير تحريض، وكان هدوء الغرفة في شرطة سكوتلانديارد بمثابة تحريض صامت يثير جنونه. فأفكاره لن تعمل أبدا حسب الطلب. وتزيد احتمالية أن ينزل عليه الوحي وسط الشوارع المزدحمة، وسط الغوغاء الغاضبين الذين يتحفظون على الشامي في مكان ما، أكثر من العزلة المضللة في غرفته.
كانت المسرحية قد بدأت منذ 20 دقيقة تقريبا عندما عثر جرانت، بعد محادثة مع المدير، على ست بوصات مربعة في الجزء الخلفي من شرفة المسرح الدنيا ليحضر واقفا. كان الموقع رائعا، حيث كان يشاهد العرض من مكان مميز مظلم بعيد جدا. وكان المسرح، الذي لم يتسع للجميع قط، ممتلئا من الأرض إلى السقف، والضوء الوردي الخافت يضفي عليه طابعا من الإثارة التي لا توجد إلا عندما يكون كل رجل من الجمهور متحمسا. وقد كانوا جميعا متحمسين، ذلك الحشد الخاص بليلة العرض الأخيرة، الراغبين بشدة في توديع سبب هيامهم. ملأ التملق، والصداقة الحميمة، والندم أجواء المكان مما جعل التجمع غير بريطاني على الإطلاق؛ بسبب انغماسه في مشاعر الوقت الراهن. وبين الحين والآخر، عندما كان لا يذكر جولان نكتة قديمة، قد يطلب أحدهم التصحيح. فيصيح قائلا: «قل كل شيء يا جولي! قل كل شيء!» ويقول جولي كل ما عنده. تهادت راي ماركابل بجمالها على خشبة المسرح شبه الفارغة بخفة ورقة شجر في مهب الريح شبه مترددة. كانت دائما، عندما ترقص، تمثل مجرد جزء بسيط من الإيقاع خلف الموسيقى؛ لذلك بدا كأن الموسيقى هي القوة المحركة، بدلا من أن تكون شيئا مكملا، كما لو كانت الموسيقى هي التي ترفعها وتجعلها تدور وتلف، وتطفو بميل، وتنصرف عنها بلطف عندما تنتهي. وفي استجابة متكررة لمطالبهم الصاخبة، دفعتها الموسيقى إلى الحركة، وجعلتها تضحك وتتألق وترتجف، مثل كرة بلورية مثبتة على نافورة ماء، ثم ألقت بها بانحدار سريع في حالة سكون لاهث قطعه صوت التصفيق الحاد. لم تكن لديهم رغبة في أن يسمحوا لها بالرحيل، وعندما احتجزها أحدهم في النهاية بالقوة في الكواليس، وبذلت جهود لمتابعة القصة، كان هناك نفاد صبر ظاهر. لم يرغب أحد في مشاهدة حبكة الليلة. ولم يرغب أحد في ذلك من قبل. هناك عدد كبير جدا من رواد المسرح الأكثر حماسا لم يكونوا على دراية بوجود شيء من هذا القبيل، وكان عدد قليل منهم، إن وجد، قادرا على تقديم شرح واضح له. والليلة، كان الإصرار على إضاعة الوقت بمثل هذه اللامبالاة حماقة.
لقد هدأهم دخول الجوقة المثلى في بريطانيا قليلا. اشتهرت فتيات وفينجتون الأربع عشرة في قارتين، وأعطت دراساتهن في الحركة المتزامنة المرء شعورا يضاهي الرضا التام - الرضا الذي لا يشبع منه أبدا - الذي يشعر به المرء عند رؤية حراس الملك أو الملكة يعملون. لم يدر رأس أكثر من اللازم، ولم تخرج إصبع قدم عن مسارها. لم تكن هناك ركلة أعلى من نظيرتها، أو سقوط أسرع من الآخر. عندما نفضت آخر فتاة من الأربع عشرة تنورتها الكولومبية ذات اللونين الأسود والبرتقالي في حركة جريئة قليلا وهي تختفي خلف ديكور المسرح، كان الجمهور قد نسي راي تقريبا. تقريبا، ولكن ليس تماما. كان راي وجولان يسيطران على المسرح - فقد كانت ليلتهما وليلة جمهورهما. وفي الوقت الحالي، أصبح نفاد الصبر بشأن أي شيء بخلاف راي أو جولان أمرا ملحوظا جدا لا يمكن تجاهله. كانت الأمسية بمثابة تصعيد طويل من الإثارة تقترب بسرعة من مرحلة الهستيريا. شاهد جرانت ببعض الشفقة الابتسامة الساخرة التي عبر بها المغني الرئيسي عن شكره للاستحسان المعتاد الممنوح لأدائه الانفرادي العاطفي. فقد تغنى بتلك الأغنية المنفردة أصحاب طبقات الصوت العالية فاترو الهمة في جميع أنحاء بريطانيا، وصفر بلحنها جميع فتيان التوصيل، وعزفتها، ببريق أقل، كل فرقة موسيقية راقصة. من الواضح أنه كان يتوقع أن يعيدها ثلاث مرات على الأقل، ولكن بعد دندنة الجوقة الأخيرة معه لم يظهروا أي تقدير ملحوظ لها. حدث خطأ ما. لم يتمكنوا حتى من رؤيته. وبأفضل قدر من الرشاقة التي تمكن من حشدها، أخذ مكانه خلف راي ماركابل، ورقص وغنى ومثل معها - وفجأة وجد جرانت نفسه يتساءل عما إذا كان فقدانه لبريقه نجم عن لمعان شخصية راي ماركابل، أم أنها قد استخدمت تلك الشخصية عمدا لإبقاء أضواء المسرح مسلطة عليها. لم يساور جرانت أي شكوك بشأن المسرح أو بشأن السماحة المهنية للممثلات الرئيسيات. فنجوم المسرح تدمع أعينهم بسهولة وينفقون ببذخ على قصة تعيسة الحظ، لكن طبيعتهم الطيبة تتلاشى عند مواجهة منافس ناجح. وتشتهر راي ماركابل بكرم واسع وعقلانية لطيفة. ولكن حينها، كان وكيلها الصحفي يفوق معدل المراوغة العادية لذلك السباق الماكر. كان جرانت نفسه قد قرأ «فقرات» عنها ولم يعرف أنها من أعمال وكيلها إلا عندما انتقلت عيناه إلى العنصر التالي محل الاهتمام. كان لدى وكيلها الصحفي تلك الصفة السامية في جعل وجود الشخص المعلن عنه في القصة نتيجة عرضية للموضوع الرئيسي بشكل كامل ومقنع.
ثم كانت هناك حقيقة مشبوهة وهي أنها حظيت بثلاثة ممثلين أساسيين خلال العامين الماضيين، بينما بقي باقي طاقم العمل على حالهم. هل يمكن أن تكون طريقتها الودودة، وتواضعها، وأنوثتها - لم تكن هناك كلمة أخرى لذلك - تمويها؟ هل كانت محبوبة لندن الرقيقة قاسية من الداخل؟ لقد تصور أنها كما التقى بها «بالخارج»، متواضعة، ذكية، عاقلة للغاية. لا تستعرض طباعها أو خصوصياتها. فتاة ساحرة تتصرف بذكاء. ويصعب تصديقها. كان يعرف العديد من النساء المحتالات من النوع الرقيق اللاتي ليس لديهن مشاعر حنونة بغض النظر عن تبرجهن. لكن حلاوة راي ماركابل لم يشبها شائبة، حلاوة كان من الممكن أن يقسم على صدقها. كان يراقبها عن كثب الآن، محاولا من أجل رضاه - فقد كان معجبا بها بشدة - دحض ذلك الإيحاء الذي طرحه عقله بشكل لاإرادي. لكن ما أثار استياءه أنه وجد شكوكه، الآن بعد أن اعترف بها وأصبحت موضع تحقيق، تتأكد ببطء. كانت تتجنب الرجل. عندما بحث عن الدلائل كانت جميعها موجودة، لكن حيكت بمهارة لم يشهدها جرانت من قبل. لم يكن هناك شيء شديد الفظاظة مثل محاولة مشاركة التصفيق أو صرف الانتباه عنه، أو حتى مقاطعة التصفيق بتدخل منها. كل هؤلاء يمكن أن يذيع صيتهم لما يفعلونه؛ ومن ثم، من وجهة نظرها، هذا غير مسموح به. خطر بباله أنها لم تكن شديدة الدهاء فحسب على نحو يغنيها عن اللجوء إلى مثل هذه الطريقة، بل كانت قوية للغاية على نحو يجعلها في غير حاجة إليها. لم يكن عليها سوى استخدام شخصيتها المتوهجة بلا ضمير، ويتلاشى المنافسون كما تتلاشى النجوم أمام الشمس. كان يظهر عجزها فقط مع جولان - فقد كان متوهجا وقويا مثلها، إن لم يكن أكثر منها - ولذا كانت تعاني منه. ولكن مع ممثلها الرئيسي - مغن رائع، حسن المظهر، وودود - لم تجد صعوبة. لقد قالوا، كما يتذكر الآن، إنه من المستحيل العثور على ممثل رئيسي جيد بما يكفي لها. كان هذا السبب. لم يكن يشك في ذلك الآن. كان هناك شيء غريب بشأن الوضوح الذي استجلى به فجأة طريقة تفكيرها، غير متأثر بالإغراء الذي أحاط به. فقط هو وهي في كل ذلك الحشد الثمل كانا منعزلين، غير متأثرين بالعاطفة ويراقبان الوضع. لقد شاهدها وهي تلعب مع ذلك البائس الحزين ببرود وتعمد كما كان سيفعل مع سمك السلمون المرقط في نهر التيست. بابتسامة ولطف، أخذت من يديه ما كان يمكن أن يكون انتصارا، وثبتته على ملابسها المبهرة. ولم يلاحظ أحد أن النصر قد ضل طريقه. وإذا كانوا ظنوا شيئا من الأساس، فقد ظنوا أن الممثل الرئيسي لم يرق إلى المستوى المطلوب الليلة - ولكن، بالطبع، كان من الصعب الحصول على ممثل رئيسي جيد بما يكفي من أجلها. وبعد أن استولت على قيمته، كانت ستسحبه من يده في نهاية المشهد بفطنة ميكافيلية انتهازية إلى الأمام لمشاركة التصفيق، حتى يعتقد كل شخص في المبنى أنه لا يستحق الكثير! وتبرز دونيته وتبقى في الذاكرة. أوه، نعم، كان هذا ماكرا. أصبحت هذه المسرحية داخل المسرحية بالنسبة إلى جرانت التسلية التي استحوذت على انتباهه في تلك الأمسية. كان يرى راي ماركابل الحقيقية، وكان المشهد غريبا بشكل لا يصدق. كان مستمتعا للغاية لدرجة أن الستارة الأخيرة وجدته ما زال في مؤخرة الشرفة، تصم آذانه الهتافات ويشعر بالبرد بشكل غريب. ارتفعت الستارة مرارا وتكرارا، ومرة بعد مرة، على خشبة المسرح المتلألئة، وبدأ سيل الهدايا والزهور يتدفق على أضواء المسرح. ثم جاء وقت إلقاء الخطب؛ أولا، جولان، ممسكا بزجاجة ويسكي مربعة كبيرة محاولا أن يكون مضحكا، لكنه لم ينجح لأن صوته لم يظل ثابتا. ظن جرانت أن في ذهنه صورة للسنوات المفجعة للغرف القذرة في البلدات القذرة، والعروض مرتين كل ليلة، والخوف المروع الدائم من الطيور. لقد غنى جولان مدة طويلة للحصول على عشائه؛ لذا لا عجب أن المأدبة أفقدته القدرة على الكلام. بعد ذلك جاء المنتج. ثم راي ماركابل.
قالت بصوتها الواضح البطيء: «السيدات والسادة، قبل عامين، عندما لم يعرفني أحد، كنتم لطفاء معي. لقد فاجأتموني حينها. والليلة فاجأتموني مرة أخرى. لا يسعني إلا أن أقول شكرا لكم.»
ظن جرانت أن خطبتها متقنة جدا، وهم يهتفون لها بصخب. مناسبة تماما للدور. وانصرف. كان يعرف ما سيحدث؛ خطبة من كل شخص وصولا إلى خادم المسرح الذي يستدعي الممثلين، وقد سمع ما يكفي. نزل عبر الدهليز ذي اللونين القرمزي والأصفر البرتقالي وخرج إلى الظلام شاعرا بانقباض غريب في صدره. لو لم يكن قد ألقى جانبا في السنوات الخمس والثلاثين من عمره كل هذه المعوقات معتبرا إياها وهما، لظن المرء أنه أصيب بخيبة أمل. كان معجبا جدا براي ماركابل.
الفصل السابع
حلحلة الأمور
قالت السيدة فيلد وهي تضع أمامه لحم الخنزير المقدد والبيض اللذين لا مفر منهما: «هذه ليست حياة مسيحية على الإطلاق.» حاولت السيدة فيلد علاج جرانت من عادة لحم الخنزير المقدد والبيض من خلال تقديم وجبات إفطار رائعة بوصفات اطلعت عليها في جريدتها اليومية، أو اشترتها من السيد تومكينز، وحاولت إثناء جرانت عن عادته، لكن محاولاتها باءت بالفشل. كما يتغلب على معظم الناس في الوقت المناسب. كان لا يزال يتناول لحم الخنزير المقدد والبيض، أيام السبت، والأحد، والإثنين. كانت الساعة الثامنة من صباح يوم الأحد، وهي الحقيقة التي استدعت تعليق السيدة فيلد. فكلمة «غير مسيحي» في مفردات السيدة فيلد لا تعني أي نقص في الامتثال لتعاليم المسيحية بل تعني غياب الراحة والاحترام. دائما كانت تصدمها حقيقة أنه كان يتناول الإفطار قبل الساعة الثامنة صباح يوم الأحد أكثر من حقيقة أنه يقضي يومه في أكثر الأعمال دنيوية. لقد حزنت عليه. «إنه لأمر مدهش بالنسبة إلي أن الملك لا يمنح المفتشين أوسمة أكثر مما يفعل. هل يوجد أي رجل آخر في لندن يتناول الإفطار في هذه الساعة عندما لا يضطر إلى ذلك؟!» «في هذه الحالة، أعتقد أنه يجب تضمين مالكات منازل المفتشين في الأوسمة. السيدة فيلد، وسام رتبة الإمبراطورية البريطانية - لكونها مالكة منزل مفتش.»
قالت: «أوه، يكفيني هذا الشرف من دون أوسمة.» «أود أن أفكر في رد جيد على ذلك، لكنني لم أستطع قط قول أشياء لبقة أثناء وجبة الإفطار. يحتاج الأمر إلى امرأة لتصبح ظريفا في الساعة الثامنة صباحا.» «ستندهش حقا من المكانة التي تعطيني إياها، كونك مفتشا في سكوتلانديارد.» «حقا؟» «نعم؛ لكن لا تخف. فأنا أبقي فمي مغلقا. ولا أبوح بأي أسرار. فهناك الكثير ممن يرغبون في معرفة رأي المفتش، أو من جاء لمقابلة المفتش، لكني أجلس فقط وأسمح لهم بالتلميح. لست مضطرا إلى أن تعير تلميحا اهتمامك إن لم تكن تريد ذلك.» «يا له من تصرف نبيل جدا منك، سيدة فيلد، أن تشتهري ببلادة الذهن من أجلي.»
طرفت عينا السيدة فيلد وتمالكت. قالت: «إنه واجبي، إن لم يكن من دواعي سروري»، وخرجت من الموقف برشاقة.
وبينما كان يغادر بعد تناول الإفطار، كانت تتفحص بحزن الخبز المحمص الذي لم يمسه. «حسنا، تأكد من الحصول على وجبة جيدة في منتصف النهار. لا يمكنك التفكير في أي ميزة على معدة فارغة.» «لكن لا يمكنك مصادفة أي ميزة على معدة ممتلئة!» «لن تضطر أبدا إلى الركض مسافة بعيدة وراء أي شخص في لندن. هناك دائما شخص ما لصدهم.»
كان جرانت يبتسم لنفسه وهو يسير في الطريق المشمس إلى محطة الحافلات على هذا التبسيط لعمل إدارة التحقيقات الجنائية. لكن لم يكن هناك أي صد للأشخاص الذين ادعوا أنهم رأوا الرجل المطلوب. بدا أن ما يقرب من نصف سكان لندن قد وضعوا أعينهم عليه - على ظهره في كثير من الأحيان. وعدد الأيدي المجروحة التي تطلبت التحقيق كان لا يصدق لأي شخص لم يشهد مطاردة من الداخل. فحص جرانت التقارير بصبر خلال الصباح الطويل المشرق، جالسا على مكتبه وأرسل ملازميه هنا وهناك مثلما ينظم القائد قواته في ساحة المعركة. لقد تجاهل الأدلة البسيطة، باستثناء اثنين، كانا جيدين جدا بحيث لا يمكن تجاوزهما - وكان هناك دائما احتمال غريب أن الرجل في شارع ستراند لم يكن الشامي. أرسل رجلان للتحقيق فيهما؛ أحدهما إلى كورنوال والآخر إلى يورك. كان الهاتف يرن بجانبه طوال اليوم، وطوال اليوم كان ينقل رسائل مفادها الإخفاق. بعض الرجال الذين أرسلوا للمراقبة كانوا، في رأي المحقق، بعيدين كل البعد عن الرجل المطلوب. ويكفي في كثير من الأحيان الحصول على هذه المعلومات القيمة من خلال الوقوف طوال وقت ما بعد الظهر خلف ستائر نوتنجهام الدانتيل لفيلا في الضواحي في انتظار مرور «الرجل على بعد ثلاثة منازل» ضمن مسافة الفحص. أثبت أحد المشتبه بهم أنه رجل نبيل معروف لدى الجمهور بوصفه لاعب بولو. رأى الضابط الذي تعقبه أنه أثار فضول الإيرل - فقد عثر على السيد النبيل في مرأب حيث كان يجهز سيارته استعدادا للقيام برحلة صغيرة من ثلاثمائة أو أربعمائة ميل كتسلية لطيفة يوم الأحد - واعترف بعمله.
قال عضو مجلس اللوردات: «اعتقدت أنك تلاحقني، وحيث إن ضميري حي للغاية في الوقت الراهن، فقد تساءلت عما كنت تنوي فعله. فقد اتهمت بالعديد من الأشياء في مدة وجيزة، لكنني لم أبد قاتلا من قبل. حظا سعيدا لك، على أي حال.» «شكرا لك يا سيدي، حظا سعيدا لك أيضا. آمل أن يكون ضميرك مستريحا عندما تعود.» وقد ابتسم الإيرل، الذي كان لديه عدد من الإدانات لتجاوز الحد الأقصى للسرعة أكثر من أي شخص آخر في إنجلترا، ابتسامة عريضة شاعرا بالامتنان.
حقا، كان الرجال الذين خرجوا هم من وجدوا العمل خفيفا ذلك الأحد، وكان جرانت، الذي جلس وجمع خيوط القضية معا بكفاءة تلقائية، هو الذي وجده مملا. جاء باركر في وقت ما بعد الظهر، لكن لم يكن لديه أي اقتراح قد يسرع الأمور. لا يمكنهم تحمل تجاهل أي شيء؛ كان لا بد من التحقيق في أقل الأدلة فائدة في عملية الإقصاء التي لا هوادة فيها. لقد كان عملا تمهيديا شاقا، وغير مسيحي إلى أبعد حد، بالمعنى الميداني. نظر جرانت بحسد من نافذته، عبر الضباب اللامع المعلق فوق النهر، من ناحية سري، المضاء الآن بشمس الغروب. ما أجمل لو كان موجودا في هامبشاير اليوم! كان بإمكانه رؤية الغابة أعلى دينباني في أول اخضرار لها. وبعد ذلك بقليل في المساء، عندما تغيب الشمس، سيكون نهر التيست مناسبا تماما للهروب.
كان الوقت متأخرا عندما عاد جرانت إلى المنزل، لكنه لم يترك سبيلا للاستكشاف دون أن يسلكه. مع حلول المساء، تضاءلت سلسلة حالات الظهور المبلغ عنها تدريجيا وتلاشت. لكن بينما كان يأكل عشاءه - حيث كانت الوجبة بالنسبة إلى السيدة فيلد ضرورة ملازمة للعودة إلى المنزل - كان ينتبه بسأم للهاتف بجوار المدفأة. ذهب إلى الفراش وحلم أن راي ماركابل اتصلت به عبر الهاتف وقالت: «لن تجده أبدا، أبدا، أبدا!» وظلت تكرر العبارة، دون أن تنتبه لمناشداته للحصول على معلومات ومساعدة، وتمنى أن تقول عاملة الهاتف: «انتهى الوقت» وتطلق سراحه. ولكن قبل أن يأتي العون، تحول الهاتف إلى صنارة صيد دون أن يبدي أي اندهاش من جانبه، وكان يستخدمها، ليس كصنارة صيد ولكن كسوط لحث الخيول الأربعة التي تجر العربة التي كان يقودها في أحد شوارع نوتنجهام. في نهاية الشارع كان هناك مستنقع، وأمام المستنقع، وفي منتصف الشارع بالضبط، وقفت النادلة من الفندق. حاول أن يحذرها بصوت عال بينما كانت الخيول تتقدم، لكن صوته انحشر في حلقه. وبدلا من ذلك، زاد حجم النادلة أكثر وأكثر، حتى ملأت الشارع كله. وعندما كانت الخيول على وشك الاندفاع نحوها، كبر حجمها حتى ارتفعت فوق جرانت وسحقته، وسحقت الخيول، والشارع، وكل شيء. كان لديه هذا الشعور بالحتمية الذي يصاحب لحظة وقوع كارثة. لقد حان وقتها ، كما ظن، واستيقظ على إدراك ممتن لوسادة آمنة وعالم عقلاني حيث كان هناك دافع قبل العمل. فكر، اللعنة على سوفليه الجبن! وانقلب على ظهره، وفحص السقف المظلم وترك دماغه اليقظ الآن يعمل بطريقته الخاصة.
لماذا أخفى الرجل هويته؟ هل حدث ذلك على سبيل المصادفة فحسب؟ لم يطمس أي شيء سوى اسم الخياط من ملابسه، وترك اسم الصانع على ربطة العنق - وهو بالتأكيد مكان واضح جدا إذا كان هناك من يطمس علامات تحديد الهوية عمدا. ولكن إذا كان ما تسبب في حذف اسم الخياط مجرد حادث، فما الذي يفسر قلة متعلقات الرجل؟ فكة بسيطة، ومنديل، ومسدس. ولا ساعة يد. الواقعة تدور بوضوح حول الانتحار المتعمد. ربما كان الرجل مفلسا. لم يبد عليه ذلك، لكن هذا لم يكن معيارا. كان جرانت يعرف الكثير من الفقراء الذين يشبهون أصحاب الملايين والمتسولين ذوي الأرصدة المصرفية الكبيرة. هل قرر الرجل، بنهاية موارده، إنهاء حياته بدلا من الغوص ببطء إلى الحضيض؟ هل كانت زيارته للمسرح مع آخر بضع شلنات مجرد استهزاء بالأسياد الذين هزموه؟ هل كانت مجرد سخرية القدر أن الخنجر قد سبق مسدسه بساعة أو ساعتين؟ ولكن إذا كان مفلسا، فلماذا لم يذهب إلى الصديق من أجل المال - الصديق الذي كان كريما للغاية في إرسال نقوده؟ أم أنه ذهب؟ والصديق رفض؟ هل كان وزاع من الضمير، رغم كل شيء، هو الدافع وراء تلك الخمسة والعشرين جنيها المجهولة؟ إذا قرر قبول وجود المسدس وغياب الأدلة التي تثبت الانتحار المتعمد، حينها تصبح جريمة القتل ناتجة عن شجار - ربما بين عضوين من عصابة سباقات. ربما شارك الشامي في سقوط القتيل وحمل القتيل المسئولية. كان هذا هو التفسير الأكثر منطقية. وقد تناسب مع كل الظروف. كان الرجل مهتما بالسباقات - ربما كان وكيل مراهنات - فقد تم العثور عليه بلا ساعة أو نقود، ومن الواضح أنه كان مستعدا للانتحار؛ وسمع الشامي وهو يطالب بشيء لم يستطع القتيل أن يعطيه إياه أو لم يرد ذلك، وطعنه الشامي. الصديق الذي رفض مساعدته وهو حي - ربما سئم من إخراجه من المآزق - انتابه الندم عند معرفته بموت الرجل حيث وفر ببذخ، ودون الكشف عن هويته، تكاليف دفنه. فكرة نظرية بحتة، لكنها مناسبة - تقريبا! كان هناك ركن واحد حيث لا يوجد قدر من التلميح يجعله مناسبا. ولم يفسر لماذا لم يتقدم أحد للمطالبة بالقتيل. إذا كان الموضوع مجرد شجار بين رجلين، فقد أخفي التهديد نظريا بصمت أصدقائه. فلم يكن من المعقول أن يكون الأجنبي قد جعلهم جميعا في مثل هذه الحالة من الخضوع؛ بحيث لم يخاطر أحد منهم حتى بالطريقة المعتادة للجبناء والحذرين وقدم بلاغا مجهول المصدر. لقد كان وضعا غريبا ويكاد يكون فريدا. لم يحدث قط في كل التجارب التي خاضها جرانت أن يكون القاتل على وشك أن يتم القبض عليه قبل تحديد هوية ضحيته.
تحسس جرانت خلسة زجاج النافذة فتلمست أصابعه طلا. ظن أن هذه هي نهاية الطقس الجيد. تبع ذلك صمت مظلم ومطلق. كان الموقف كأن جنود المقدمة، فرقة الكشافة، يتفقدون الأمر ويذهبون للإبلاغ. كان هناك تنهيدة طويلة بعيدة للرياح التي كانت نائمة عدة أيام. ثم ضرب أول انفجار لكتائب القتال من المطر النافذة مصدرا قعقعة هائلة. واندفعت الرياح وهاجت من خلفهم، ودفعتهم لارتكاب أعمال انتحارية شجاعة. وبعد قليل، بدأ التنقيط، تنقيط من السقف برتابة ثابتة لطيفة تحت السمفونية البرية، بحميمية وهدوء مثل دقات الساعة. أغلق جرانت عينيه على ذلك، وقبل أن تنتهي العاصفة، وصوتها يغمغم من بعيد، كان نائما.
لكن في الصباح الملبد بالغيوم والمغطى بالرذاذ الكئيب، كانت النظرية لا تزال تبدو محكمة، مع سد حكيم لنقطة الضعف، وكان الأمر كذلك حتى أجرى - متتبعا بمشقة صديق الرجل الميت - مقابلة مع مدير بنك وستمنستر فرع أديلفي؛ حيث وجد خطته الضعيفة المخطط لها جيدا تنهار أمام عينيه.
كان العميل رجلا أشيب الرأس هادئا، أخذ جلده الشاحب بطريقة ما شكل ورقة نقدية. ومع ذلك، فقد كان أسلوبه يشبه أسلوب ممارس عام أكثر من كونه مستشارا ماليا. وجد جرانت نفسه يتوقع لحظة أن يشعر بأطراف أصابع السيد داوسون الجافة على معصمه. لكن السيد داوسون هذا الصباح كان يحمل رسائل ساحقة. وكان هذا تقريره.
الأوراق النقدية الخمس التي كان المفتش مهتما بها قد دفعت جميعا نقدا في اليوم الثالث من الشهر كجزء من مبلغ قدره 223 جنيها و10 شلنات. سحب المبلغ عميل للبنك لديه حساب جار فيه. كان اسمه ألبرت سوريل، وكان يدير شركة مراهنات صغيرة في شارع مينلي. يمثل المبلغ المسحوب كامل الأموال المودعة لدى البنك باستثناء جنيه، يفترض أنه ترك بقصد الإبقاء على الحساب مفتوحا.
حسنا! هكذا اعتقد جرانت؛ الصديق وكيل مراهنات أيضا.
سأل: هل كان السيد داوسون يعرف السيد سوريل شكلا؟
لا، ليس جيدا، لكن الصراف سيكون قادرا على إخبار المفتش بكل شيء عنه؛ لذا استدعى الصراف. «معك المفتش جرانت من سكوتلانديارد. إنه يريد وصفا للسيد ألبرت سوريل، وقد أخبرته أنك ستزوده به.»
قدم الصراف وصفا مفصلا جدا. وبدقة هزمت أي أمل في حدوث خطأ، وصف القتيل.
عندما انتهى، جلس جرانت يفكر بأقصى سرعة. ماذا كان يعني هذا؟ هل كان الرجل الميت مدينا بالمال لصديقه، وهل أخذ الصديق كل ما بحوزته، وبعد ذلك انتابه شعور متأخر جدا بفعل أمر خير؟ هل كانت هذه هي الطريقة التي وقعت بها النقود في حيازة الصديق؟ في اليوم الثالث أيضا. كان ذلك قبل 10 أيام من جريمة القتل.
سأل: هل سحب سوريل المال بنفسه؟
قال الصراف: لا؛ قدم شخص غريب الشيك. نعم، لقد تذكره. كانت بشرته داكنة جدا، نحيفا، متوسط الطول أو أقل من المتوسط بقليل، مع عظام وجنتين بارزتين. يبدو أجنبيا، بعض الشيء.
الشامي!
انتاب جرانت مزيج من البهجة والإثارة - بالأحرى كما شعرت أليس أثناء رحلتها السريعة مع الملكة الحمراء. تطورت الأمور، بسرعة!
طلب رؤية الشيك، وأحضره إليه. «ألا تعتقد أنه مزور؟» مثل هذه الفكرة لم تخطر ببالهم. فقد كتب كل من المبلغ والتوقيع بخط يد السيد سوريل، وكان ذلك أمرا غير معتاد في محاولة للتزوير. وأحضروا شيكات أخرى تخص القتيل وعرضوها. ورفضوا قبول فكرة أن الشيك كان مزورا . قال السيد داوسون: «إذا كان مزورا، فهو جيد بشكل لا يصدق. وحتى لو ثبت أنه مزور، فسأجد صعوبة في تصديق ذلك. أعتقد أن عليك قبول فكرة أنه شيك أصلي.»
وقد سحبه الأجنبي. كان الأجنبي يملك رصيد سوريل بأكمله باستثناء 20 شلنا. وبعد 10 أيام طعن سوريل في ظهره. حسنا، إذا لم يثبت الأمر أي شيء آخر، فقد أثبت وجود علاقة بين الرجلين، ستكون مفيدة عندما يتعلق الأمر بالأدلة في المحكمة. «هل لديك أرقام باقي الأوراق النقدية التي سلمت كجزء من المال إلى سوريل؟» كان لديهم الأرقام، وأخذ جرانت قائمة بها. ثم سأل عن عنوان سوريل، وقيل له إنه ليس لديهم عنوان منزل، ولكن مكتبه يقع في 32 شارع مينلي، قبالة شارع تشارينج كروس رود.
عندما سار جرانت إلى شارع مينلي من شارع ستراند، بدأ في استيعاب الأخبار. كان الشامي قد سحب الأموال بشيك مستحق الدفع لسوريل وبتوقيعه. يبدو أن السرقة مستبعدة بسبب حقيقة أن سوريل لم يحدث أي ضجة في الأيام العشرة التي تفصل بين دفع المال ووفاته. لذلك أعطى سوريل بنفسه الشيك للأجنبي. لماذا لم يكن الشيك مستحق الدفع للأجنبي؟ لأنها كانت صفقة لم يكن لدى الشامي نية لإظهار اسمه فيها. هل كان يبتز سوريل؟ هل كان طلبه لشيء ما - شيء أبلغ عنه راءول ليجارد أنه مضمون حديثهما ليلة القتل - مجرد طلب آخر للحصول على المال؟ ألم يكن الشامي رفيقا سيئ الحظ في سقوط سوريل ولكن كان بمثابة الوسيلة لسقوطه؟ على الأقل، كانت تلك الصفقة التي تمت على شباك بنك وستمنستر قد فسرت إفلاس سوريل والانتحار المتعمد.
إذن من الذي أرسل الخمسة والعشرين جنيها؟ رفض جرانت تصديق أن الرجل الذي كان لديه كل ممتلكات سوريل، وطعنه في ظهره لعدم الحصول على المزيد، كان سينفق مثل هذا المبلغ من أجل سبب بسيط للغاية كهذا. كان هناك شخص آخر. والشخص الآخر يعرف الشامي جيدا بما يكفي لتلقي ما لا يقل عن 25 جنيها من المبلغ الذي حصل عليه الشامي من سوريل. علاوة على ذلك، كان الشخص الآخر والقتيل قد عاشا معا، كما يتضح من بصمات القتيل على الظرف الذي كان يحتوي على الخمسة والعشرين جنيها. كانت عاطفية الفعل وبذخ المبلغ يتحدثان عن امرأة، لكن خبراء الخطوط كانوا على يقين تام من أن الكتابة كانت تعود لرجل. وبالطبع هذا الشخص الآخر كان يمتلك أيضا المسدس الذي فكر سوريل في إنهاء حياته به. كان الأمر معقدا إلى حد كبير - كانت الأمور متشابكة بشدة ويزداد اقترابا بعضها من البعض، حتى إنه في أي لحظة قد يسعده الحظ ويلتقط خيطا ينفك على أثره التشابك برمته. بدا له أنه ليس عليه سوى أن يكتشف عادات القتيل وحياته بشكل عام وسيصل إلى الشامي.
يتسم شارع مينلي - مثل المنعطفات الأصغر المتفرعة من شارع تشارينج كروس رود - بأجواء تتراوح بين السخط والتكتم ما يضفي عليه نوعا من عدم الألفة. فيشعر الشخص الغريب الذي يسلكه بشعور مزعج بعدم الترحيب، كما لو أنه أخطأ في دخول ملكية خاصة من غير قصد؛ إنه يشعر كما يشعر الوافد الجديد في مقهى صغير أمام تدقيق رواد المكان المنقسم بين الاندهاش والاستياء. لكن حتى إذا لم يكن جرانت كثير التردد على شارع مينلي، فهو على الأقل لم يكن غريبا عليه. لقد كان يعرف ذلك لأن معظم من في سكوتلانديارد يعرفون المناطق المجاورة لشارع تشارينج كروس رود وساحة ليستر. لو قالت واجهات المنازل الماكرة والمحترمة ظاهريا أي شيء، لقالت: «أوه، هل جئت مرة أخرى؟» عند رقم 32، أعلن إشعار خشبي مطلي أنه في الطابق الأول كانت تقع مكاتب ألبرت سوريل، وكيل مراهنات، ودخل جرانت المدخل وصعد السلالم المعتمة التي تفوح منها رائحة مهام الخادمات في صباح يوم الإثنين. انتهى الدرج عند رواق واسع، وطرق جرانت الباب الذي كان يحمل اسم سوريل عليه. كما توقع، لم يكن هناك رد. حاول الدخول من الباب، ولكنه وجده مغلقا. كان على وشك الابتعاد، عندما سمع صوتا خفيا من الداخل. طرق جرانت مرة أخرى بصوت عال. في لحظة الصمت التالية، كان يسمع صوت الطنين الصاخب لحركة المرور البعيدة وخطى الأشخاص الموجودين بالأسفل في الشارع، لكن لم يصدر أي صوت من داخل الغرفة. انحنى جرانت أمام ثقب المفتاح. لم يكن هناك مفتاح فيه، لكن المنظر الذي حصل عليه لم يكن واسع النطاق - ركن من مكتب وجزء علوي لسطل فحم. كانت الغرفة التي ينظر إليها هي الغرفة الخلفية من بين الغرفتين اللتين من الواضح أنهما شكلا مكاتب سوريل. بقي جرانت في مكانه قليلا، مترقبا بلا حراك، لكن لم يعبر شيء حي الصورة الصغيرة الحية الساكنة التي كان يؤطرها ثقب المفتاح. نهض ليرحل، ولكن قبل أن يتخذ الخطوة الأولى، كان هناك ذلك الصوت الخفي مرة أخرى. عندما كان جرانت ينصب أذنيه للاستماع بشكل أفضل، أدرك أن فوق درابزين الطابق العلوي كان هناك رأس بشري مقلوب، بشع ومروع، ينتشر شعره حوله بقوة الجاذبية مثل سترويلبيتر.
عندما أدرك صاحب الرأس أنه مراقب، قال بهدوء: «هل تبحث عن شخص ما؟».
قال جرانت بفظاظة: «هذا ما تشير إليه الأدلة، أليس كذلك؟ أنا أبحث عن الرجل الذي يمتلك هذه المكاتب.»
قال صاحب الرأس، كما لو كان ما قيل فكرة جديدة تماما: «أوه!». ثم اختفى، وظهر بعدها بالطريقة الصحيحة في مكانه الصحيح كجزء من شاب يرتدي ثوب رسام قذرا، هبط آخر مجموعة سلالم إلى الرواق، تفوح منه رائحة زيت التربنتين ويملس شعره الكثيف بأصابع مغطاة بالطلاء.
قال: «أعتقد أن هذا الرجل لم يكن موجودا هنا منذ مدة طويلة. لدي الطابقان أعلاه - شقتي والمرسم الخاص بي - واعتدت أن أمر عليه وأنا أستخدم الدرج وأسمع صوت ... صوت ... لا أعرف ماذا أقول. لقد كان وكيل مراهنات، كما تعلم.»
قال جرانت ملمحا: «عملائه؟». «نعم. أسمع ما أفترض أنهم كانوا عملاءه يأتون أحيانا. لكنني متأكد من مرور أكثر من أسبوعين منذ أن رأيته أو سمعته.»
سأل جرانت: «هل تعلم ما إذا كان قد ذهب إلى مضمار السباق؟».
سأل الرسام: «أين ذلك؟» «أعني هل كان يذهب إلى السباقات كل يوم؟»
لم يعرف الرسام. «حسنا، أريد الدخول إلى مكاتبه. أين يمكنني الحصول على مفتاح؟»
افترض الرسام أن سوريل لديه المفتاح. ولدى وكيل العقار مكتب قبالة ساحة بيدفورد. لم يستطع قط تذكر اسم الشارع أو الرقم، لكنه استطاع الوصول إلى المكان. وكان بإمكانه عرض تجربة مفتاح غرفته على باب سوريل، إلا أنه مفقود.
سأل جرانت حيث تغلب فضوله لحظة على رغبته في الذهاب: «وماذا تفعل عندما تخرج؟».
قال هذا الإنسان السعيد: «فقط أترك الباب مفتوحا. إذا عثر أي شخص على أي شيء في شقتي يستحق السرقة، فهو أذكى مني.»
ثم فجأة، على بعد ياردة منهما وراء الباب المغلق، صدر ذلك الصوت الخفي الذي كان يكاد يشبه مجرد حركة مسموعة.
رفع الرسام حاجبيه من الدهشة حتى اختفيا في شعر سترويلبيتر. وحرك رأسه بسرعة نحو الباب ونظر مستفهما من المفتش. دون أن ينبس ببنت شفة، أخذه جرانت من ذراعه وجذبه إلى أسفل الدرج نحو أول منعطف. وقال: «انظر هنا، أنا مخبر تحر، هل تعرف ما معنى هذا؟» حيث إن براءة الرسام بشأن المضمار قد هزت أي إيمان قد يكون في معلوماته الدنيوية. قال الرسام: «نعم، رجل شرطة»، وتركه جرانت يفلت بما قال. «أريد أن أدخل تلك الغرفة. هل يوجد فناء في الخلف يمكنني منه رؤية نافذة الغرفة؟»
كان هناك فناء، وقاده الرسام إلى الطابق الأرضي عبر ممر مظلم إلى الجزء الخلفي من المنزل، حيث خرجا إلى فناء صغير مبني بالطوب وكأنه جزء من نزل في قرية. وبني مرحاض خارجي منخفض بسقف من الرصاص أمام الحائط، وفوقه مباشرة كانت نافذة مكتب سوريل. كانت مفتوحة قليلا من الأعلى وكأن هناك من يقيم بالغرفة.
قال جرانت: «ادفعني لأعلى»، ورفع على سطح المرحاض الخارجي. قال وهو يسحب قدمه من قبضة مساعده الملطخة بالألوان: «ربما علي إخبارك أنك تتواطأ في ارتكاب جناية. فهذا اقتحام للمنزل وغير قانوني تماما.»
قال الرسام: «هذه أسعد لحظة في حياتي. كنت أرغب دائما في مخالفة القانون، لكنني لم أحظ بتلك الفرصة قط. والآن، فإن القيام بذلك بصحبة شرطي هو متعة لم أكن أتوقع أن تتاح في حياتي على الإطلاق.»
لكن جرانت لم يكن يستمع إليه. كانت عيناه على النافذة. سحب نفسه ببطء لأعلى حتى أصبح رأسه أسفل مستوى حافة النافذة بالضبط. وأطل بحذر. لم يتحرك شيء في الغرفة. روعته حركة من ورائه. نظر حوله ليرى الرسام ينضم إليه على السطح. همس: «هل لديك سلاح، أم أحضر لك قضيبا معدنيا أو شيئا من هذا القبيل؟» هز جرانت رأسه، وبحركة مفاجئة حازمة ركل النصف السفلي من النافذة ودخل الغرفة. لم يتبع ذلك أي صوت سوى صوت تنفسه السريع. تناثر الضوء الرمادي الباهت على الغبار الكثيف لمكتب مهجور. لكن الباب المواجه له، الذي يؤدي إلى الغرفة الأمامية، كان مفتوحا جزئيا. في ثلاث خطوات مفاجئة وصل إليه وفتحه على مصراعيه. أثناء قيامه بذلك، خرجت قطة سوداء كبيرة من الغرفة الثانية وهي تصرخ من الرعب. وبقفزة واحدة خرجت من الغرفة الخلفية وعبرت النافذة المفتوحة قبل أن يتعرف المفتش على ماهيتها. ثم سمع صرخة متألمة من الرسام، وجلبة، واصطدام. ذهب جرانت إلى النافذة، ليسمع أنينا مختنقا غريب الأطوار قادما من الفناء أدناه. انزلق على عجل إلى حافة المرحاض الخارجي ورأى رفيقه في الجريمة جالسا على الطوب المتسخ، ممسكا برأسه المتألم بوضوح، بينما كان جسده يتشنج في خضم ضحك أكثر إيلاما. عاد جرانت إلى الغرفة، بعد أن اطمأن، لإلقاء نظرة على أدراج مكتب سوريل. كانت جميعها فارغة - قد أخليت بشكل منهجي وحذر. واستخدمت الغرفة الأمامية كمكتب آخر، وليس كغرفة معيشة. لا بد أن سوريل عاش في مكان آخر. أغلق جرانت النافذة وانزلق على السقف الرصاصي وهبط إلى الفناء. كان الرسام لا يزال يتشنج، لكنه كان قد وصل إلى مرحلة مسح عينيه.
سأل جرانت: «هل تأذيت؟».
قال سترويلبيتر: «فقط ضلوعي. الإثارة غير الطبيعية للعضلات بين الضلوع كادت أن تكسرها.» كافح للوقوف على قدميه.
قال جرانت: «حسنا، تلك كانت 20 دقيقة مهدرة، لكن كان علي إرضاء نفسي.» تبع الرسام الأعرج عبر الممر المظلم مرة أخرى.
قال سترويلبيتر: «إن الوقت الذي يكسب مثل هذا القدر من الامتنان الذي أشعر به تجاهك ليس وقتا مهدرا. كنت غائصا في الأعماق عندما وصلت. لا أستطيع أبدا الرسم صباح يوم الإثنين. لا ينبغي أن يكون هناك شيء كهذا. يجب محو صباح أيام الإثنين من التقويم بحمض البروسيك. وقد جعلت صباح أحد أيام الإثنين ذكرى لا تنسى حقا! إنه إنجاز عظيم. في وقت ما عندما لا تكون مشغولا بمخالفة القانون، عد، وسأرسمك. لديك رأس ساحر.»
خطرت فكرة لجرانت. «أظن أنك لا تستطيع رسم سوريل من الذاكرة، أليس كذلك؟»
فكر سترويلبيتر. وقال: «أعتقد أنني أستطيع. اصعد معي دقيقة.» قاد جرانت إلى كومة من اللوحات، والدهانات، وأشياء طويلة، وممتلكات من جميع الأنواع أطلق عليها المرسم الخاص به. باستثناء الغبار، بدا الأمر كما لو أن فيضانا قد مر وترك محتويات الغرفة في علاقات عشوائية وزوايا غريبة لا يمكن أن تحدث إلا من خلال انحسار المياه. بعد إلقاء الأشياء التي من المتوقع أنها كانت تخفي شيئا ما، أخرج الرسام زجاجة من الحبر الهندي، وبعد بحث آخر أخرج فرشاة دقيقة. ضرب بالفرشاة ست أو سبع مرات على ورقة بيضاء من دفتر الرسم، وتأملها بعين ثاقبة، وقطعها من الدفتر وسلمها إلى جرانت.
وقال: «إنها ليست صحيحة تماما، لكنها جيدة بما يكفي لإعطاء انطباع.»
اندهش جرانت من براعة الرسمة. لم يكن الحبر قد جف من فوق الورقة بعد، لكن الرسام أعاد الميت إلى الحياة. تحتوي الرسمة على تلك المبالغة الطفيفة في الخصائص التي تجعلها تشبه الرسم الكاريكاتوري إلى حد ما، لكنها كانت تنبض بالحياة كما لم يسبق لأي تمثيل فوتوغرافي من قبل. حتى إن الرسام نقل نظرة التوق التي ينتابها بعض القلق في عيني سوريل والتي كان من المفترض أن تظهر على سوريل عندما كان على قيد الحياة. شكره جرانت بحرارة وأعطاه بطاقته.
قال: «إذا كان هناك أي شيء يمكنني القيام به من أجلك، فتعال لمقابلتي»، ورحل دون انتظار رؤية تغير تعابير وجه سترويلبيتر وهو يستوعب أهمية البطاقة.
بالقرب من سيرك كامبريدج توجد المكاتب الفخمة الخاصة بلورنس موراي - المحظوظون يراهنون مع لوري موراي - أحد أكبر وكلاء المراهنات في لندن. بينما كان جرانت يمر على الجانب الآخر من الشارع، رأى موراي اللطيف يصل في سيارته ويدخل المكاتب. كان يعرف لوري موراي جيدا إلى حد ما منذ عدة سنوات، وقد عبر الشارع الآن وتبعه إلى مقر عظمته المتألق. أظهر بطاقته وأرشد عبر مكان مهجور شاسع مليء بالحواجز اللامعة المصنوعة من الخشب، والنحاس، والزجاج، والكثير من الهواتف إلى المكتب الخاص بالرجل العظيم، المعلق على جدرانه صور لخيول أصيلة عظيمة.
قال موراي مبتهجا: «حسنا، لا بد أنه أمر قومي، أليس كذلك؟ أتمنى ألا يكون حبوب قهوة. يبدو أن نصف بريطانيا تريد دعم حبوب القهوة اليوم.»
لكن المفتش نفى أي نية لخسارة الأموال حتى باقتراح جذاب مثل حبوب القهوة. «حسنا، لا أفترض أنك أتيت لتحذرني بشأن مراهنات النقود السائلة؟»
ابتسم المفتش ابتسامة عريضة. لا؛ أراد أن يعرف ما إذا كان موراي قد عرف سابقا رجلا يدعى ألبرت سوريل.
قال موراي: «لم أسمع به قط. من هو؟»
اعتقد جرانت أنه كان وكيل مراهنات. «مضمار سباق؟»
لم يعرف جرانت. كان لديه مكتب في شارع مينلي.
قال موراي: «رهانات صغيرة، على الأرجح. سأخبرك شيئا. لو كنت مكانك، لذهبت إلى لينجفيلد اليوم، يمكنك مقابلة كل رجال الرهانات الصغيرة دفعة واحدة. سيغنيك ذلك عن الكثير من التجول.»
فكر جرانت. لقد كانت الطريقة الأسرع والأكثر منطقية إلى حد بعيد، وكانت تتمتع بميزة إضافية تتمثل في تعرفه على زملاء سوريل في العمل، الأمر الذي ما كان ليتحقق بمجرد الحصول على عنوان منزله.
قال موراي مرة أخرى عندما تردد: «سأخبرك شيئا، سأذهب معك. لقد فاتك القطار الأخير الآن. سنذهب بسيارتي. لدي حصان يركض في السباق، لكنني لم أرغب في تكبد عناء الذهاب وحدي. لقد وعدت مدربي بأنني سأذهب، لكنه كان أمرا ثقيلا لفعله في الصباح. هل تناولت الغداء؟»
لم يكن جرانت قد تناول غداءه، وانصرف موراي لتفقد أمر سلة الغداء بينما تحدث جرانت إلى سكوتلانديارد مستخدما هاتفه.
بعد ساعة، كان جرانت يتناول الغداء في الريف؛ ريف كئيب ورطب حقا، لكن تفوح منه رائحة أشياء نظيفة، وجديدة، ونامية؛ والمطر الخفيف الذي جعل المدينة مكانا مرعبا زلقا ترك وراءه. أظهرت السحب الرمادية الممزقة التي تبدو رطبة السماء الزرقاء في شقوق كبيرة، وفي الوقت الذي وصلا فيه إلى حقل ترويض الخيل، كانت البرك الباهتة البائسة في الحديقة الصخرية تبتسم بشك لشمس غامضة. لم يكن متبقيا على بدء السباق الأول سوى 10 دقائق، وكانت حلقتا المراهنة من وجهة نظر جرانت مستحيلتين. ودفع نفاد صبره جانبا ورافق موراي إلى الحواجز البيضاء لحلبة العرض، حيث كانت خيول السباق الأول تتجول بهدوء، وقد أعجبه جمالها ولياقتها - فقد كان جرانت متخصصا إلى حد ما في تقييم الخيول - بينما تجولت عيناه على الحشد في نقد متعلق بعمله. كان هناك مولنشتاين - أطلق على نفسه اسم ستون الآن - بدا وكأنه يمتلك الأرض. تساءل جرانت عن المخطط المزيف الذي كان سيقدمه لحشد من البلهاء الآن. لم يكن عليه الاعتقاد بأن أي شيء مزعج مثل اجتماع القفز في شهر مارس كان سيثير إعجابه. فربما كان أحد البلهاء مهتما باللعبة. وفاندا موردن، التي عادت من شهر عسلها الثالث وأعلنت عن هذه الحقيقة بعدوانية شديدة في منطقة ترك المعاطف لدرجة أنه كان الشيء الأكثر وضوحا في حقل ترويض الخيول. فأينما نظر المرء، يبدو أنه كان هناك معطف فاندا موردن. والإيرل الذي يلعب البولو الذي تم تتبعه على أمل أن يكون الشامي. وغيرهم الكثير، سواء كانوا لطفاء أو غير ذلك، وقد تعرف جرانت عليهم جميعا وأشار إليهم بملاحظة ذهنية بسيطة.
عندما انتهى السباق الأول، وأحاطت المجموعة الصغيرة المحظوظة بوكلاء المراهنات وانصرفوا مبتهجين، بدأ جرانت عمله. تابع تحقيقاته بثبات حتى بدأت الحلقة تمتلئ مرة أخرى بالمستفسرين المتحمسين لاحتمالات السباق الثاني، عندما عاد إلى حقل ترويض الخيول. ولكن أحدا لم يكن قد سمع عن سوريل فيما بدا، وكان أمرا محزنا جدا نوعا ما لجرانت، الذي انضم إلى موراي في حقل ترويض الخيول قبل السباق الرابع - وكان قفز حواجز - حيث سيشارك حصان موراي. كان موراي متعاطفا، وبينما وقف جرانت معه في منتصف حلبة العرض، دمج مناشدات الإعجاب بحصانه مع مقترحات لتتبع سوريل. أعجب جرانت إعجابا شديدا بحصان موراي الرائع الكستنائي اللون ولم يول اقتراحاته اهتماما كبيرا. انتاب القلق أفكاره. لماذا لم يعرف أحد في حلقة الرهانات الصغيرة سوريل؟
بدأ الفرسان في الدخول إلى الحلبة واحدا تلو الآخر، وتضاءل الحشد حول القضبان قليلا حيث انصرف الناس إلى المواقع ذات الأفضلية على المدرجات، وظل الفتيان يحنون رءوسهم المتلهفة تحت أعناق الخيل في قلق لمنعها من الانطلاق الذي قد يعني وقتا متزايدا.
قال موراي إذ جاء إليهم فارس يسير على العشب المبلل كالقط: «ها هو لاسي. هل تعرفه؟»
قال جرانت: «لا.» «إنه متفوق حقا في سباق الأراضي المسطحة، ولكنه يحاول في سباق قفز الحواجز في بعض الأحيان. ويتفوق فيه أيضا.»
كان جرانت يعرف ذلك - فهناك قدر ضئيل جدا بين كونك مفتشا في سكوتلانديارد ومعرفة كل شيء - لكنه لم يقابل في الواقع لاسي الشهير. استقبل الفارس موراي بابتسامة مقتضبة، وقدم موراي المفتش دون تفسير وجوده. ارتجف لاسي قليلا في الهواء الرطب.
قال بحماس زائف: «أنا سعيد لأنه ليس قفز حواجز. فأنا أكره فقط أن أسقط في الماء اليوم.»
قال موراي: «تغيير بسيط من الغرف الدافئة ويحظى المرء بكل الدلال.»
سأل جرانت لجذب أطراف الحديث: «هل كنت في سويسرا؟» متذكرا أن سويسرا كانت القبلة الشتوية لفرسان سباقات الأراضي المسطحة.
كرر لاسي بصوته الأيرلندي البطيء غير الواضح: «سويسرا! ليس أنا. لقد أصبت بالحصبة. الحصبة - إذا كنت ستصدق ذلك! لا شيء غير الحليب لمدة تسعة أيام وشهر كامل في الفراش.» تحول وجهه اللطيف ذو الملامح البارزة إلى تعبير عن اشمئزاز ساخر.
ضحك موراي: «والحليب يسمن جدا. بالحديث عن السمنة، هل عرفت يوما رجلا يدعى سوريل؟»
سقطت عينا الفارس الفاتحتان اللامعتان على المفتش مثل قطرتين من الماء الجليدي وعادتا إلى موراي. تأرجح السوط، الذي كان يتأرجح مثل بندول الساعة من سبابته، ببطء حتى توقف.
قال بعد القليل من التفكير : «أعتقد أنني أستطيع تذكر شخص يدعى سوريل، لكنه لم يكن سمينا. ألم يكن كاتب تشارلي بادلي يدعى سوريل؟»
لكن موراي لم يستطع تذكر كاتب تشارلي بادلي.
سأل المفتش، وهو يخرج رسمة سترويلبيتر الانطباعية من محفظته: «هل يمكنك التعرف على صورته؟».
أخذها لاسي ونظر إليها بإعجاب. «رسم جيد، أليس كذلك! نعم؛ هذا كاتب بادلي العجوز، بكل تأكيد.»
سأل جرانت: «وأين يمكنني العثور على بادلي؟»
قال لاسي والابتسامة المقتضبة في وجهه: «حسنا، هذا سؤال صعب إلى حد ما. كما ترى، توفي بادلي منذ أكثر من عامين.» «يا إلهي؟ ولم تر سوريل منذ ذلك الحين؟» «لا، لا أعرف ما حل بسوريل. ربما يؤدي أعمالا مكتبية في مكان ما.»
وصل الحصان الكستنائي إليهم. وخلع لاسي معطفه، وخلع حذاء واقيا، ووضعه بعناية جنبا إلى جنب على العشب، وقفز على السرج. وبينما كان يعدل أحزمته الجلدية قال لموراي: «ألفينسون ليس هنا اليوم» كان ألفينسون مدرب موراي. «قال إنك ستعطيني التعليمات.»
قال موراي: «التعليمات كالمعتاد. افعل ما تشاء بالحصان. بالنهاية يجب أن يفوز.»
قال لاسي دون ظهور أي تعبير على وجهه: «جيد جدا»، واقتيد بعيدا إلى البوابة مقدما صورة جميلة لحصان ورجل بقدر ما تستطيعه هذه الحضارة المنهكة.
بينما كان جرانت وموراي يسيران إلى المدرجات، قال موراي: «ابتهج يا جرانت. قد يكون بادلي ميتا، لكني أعرف من كان يعرفه. سآخذك للتحدث معه بمجرد الانتهاء من ذلك الأمر.» لذلك شاهد جرانت السباق بمتعة حقيقية؛ ورأى اللون الذي كان يتلألأ ويتحرك بحرية على طول الستارة الرمادية للغابات الممتدة بالخلف، بينما خيم صمت مخيف على الحشد؛ صمت كامل لدرجة أنه ربما كان هناك بمفرده مع الأشجار المتقطرة، والريف الرمادي المشجر، والعشب الرطب، كما شهد النضال الطويل في الجزء النهائي المستقيم الذي يكافح الفرسان فيه، وربح حصان موراي الكستنائي المركز الثاني بفارق بسيط. عندما رأى موراي حصانه مرة أخرى وهنأ لاسي، قاد جرانت إلى مزارع تاترسولز للخيل وقدمه إلى رجل مسن، ذي وجه أحمر داكن يشبه وجه الرجل الذي يقود عربات البريد عبر الجليد على بطاقات عيد الميلاد. قال: «ثاكر، لقد كنت تعرف بادلي. ماذا حدث لكاتبه، هل تعلم؟»
قال رجل بطاقات عيد الميلاد: «سوريل؟ لقد بدأ عمله الخاص. لديه مكتب في شارع مينلي.» «هل يأتي إلى المضمار؟» «لا، لا أعتقد ذلك. لديه مكتب فقط. بدا أنه يبلي بلاء حسنا في المرة الأخيرة التي رأيته فيها.» «كم مضى على ذلك؟» «أوه، وقت طويل.»
سأل جرانت: «هل تعرف عنوان منزله؟» «لا. من يريده؟ إن سوريل رجل طيب.»
بدا أن التعليق الأخير الذي لا علاقة له بالموضوع يوحي بالشك؛ لذا سارع جرانت إلى طمأنته بأن سوريل لن يتعرض لأي أذى. حينها، وضع ثاكر إصبعيه السبابة والوسطى في ركني فمه وأصدر صافرة صاخبة باتجاه السياج عند حافة المضمار. من بين حشد الوجوه المنتبهة التي استدارت إليه بسبب هذه الصافرة اختار الشخص الذي يريده. قال بصوت جهوري: «جو، هلا تسمح لي بالتحدث إلى جيمي دقيقة؟» حرر جو كاتبه، كما يحرر أحدهم الساعة من سلسلة، وعلى الفور بدا جيمي شابا نظيفا بريئا يتمتع بذوق رائع في الملابس الكتانية.
سأل ثاكر: «لقد اعتدت مرافقة بيرت سوريل، أليس كذلك؟». «بلى، لكنني لم أره منذ وقت طويل.» «هل تعرف أين يعيش؟» «حسنا، عندما عرفته كان لديه شقة في برايتلينج كريسينت، قبالة شارع فولام. لقد ذهبت إلى هناك معه. نسيت الرقم، لكن اسم صاحبة المنزل كان إيفريت. عاش هناك سنوات. فقد كان بيرت يتيما.»
وصف جرانت الشامي، وسأل عما إذا كان سوريل صديقا لرجل مثل ذاك.
لا، لم يره جيمي من قبل برفقة هذا الرجل، لكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يره منذ وقت طويل. لقد انسحب من الحشد المعتاد عندما بدأ يستقل بنفسه، على الرغم من أنه كان أحيانا يراهن على السباقات من أجل متعته الشخصية أو ربما لالتقاط المعلومات.
من خلال جيمي، قابل جرانت شخصين آخرين كانا يعرفان سوريل؛ لكن لم يستطع أي منهما الإدلاء بأي معلومات عن رفاق سوريل. كان وكلاء المراهنات هؤلاء أشخاصا لا يهتمون إلا بأنفسهم ، ينظرون إليه بفضول غامض وبالتأكيد ينسون كل شيء عنه في اللحظة التي يحجز فيها رهانهم التالي. أعلن جرانت لموراي أنه قد أنهى مقابلاته، وقرر موراي، الذي تضاءل اهتمامه بانتهاء سباق قفز الحواجز، العودة إلى المدينة على الفور. ولكن عندما انزلقت السيارة ببطء بعيدا عن الحشد، استدار جرانت بنظرة مباركة على المضمار الصغير الودود الذي زوده بالمعلومات التي سعى إليها. مكان لطيف. ربما يعود في يوم من الأيام عندما لا يكون لديه عمل يزعجه، ويقضي وقت ما بعد الظهيرة.
في الطريق إلى البلدة، تحدث موراي بشكل ودي عن الأشياء التي كان مهتما بها: وكلاء المراهنات وعشائريتهم. قال: «إنهم مثل ساكني الجبال. قد يتشاجرون فيما بينهم، ولكن إذا تدخل غريب في شجارهم، يغضب الجميع.» الخيول وصفاتها المميزة، المدربون وأخلاقهم، لاسي وخفة دمه. بعد قليل قال: «كيف تسير الأمور في موضوع صف الانتظار؟»
وصف جرانت الأمر بأنه جيد جدا. سيلقون القبض على القاتل في غضون يوم أو يومين إذا استمرت الأمور في السير على ما يرام كما يحدث الآن.
صمت موراي قليلا. وسأل بخجل: «أعتقد أنك لا تريد سوريل فيما يتصل بذلك الأمر، أليس كذلك؟».
كان موراي مهذبا بشكل غير عادي. قال جرانت: «بلى. لقد كان سوريل هو من عثر عليه ميتا في صف الانتظار.»
قال موراي: «يا إلهي!» واستوعب الخبر في صمت بعض الوقت. وقال أخيرا: «حسنا، أنا آسف. لم أكن أعرف هذا الرجل قط، لكن يبدو أن الجميع أحبه.»
وهذا ما كان يفكر فيه جرانت أيضا. فيبدو أن بيرت سوريل لم يكن شريرا. وتاق جرانت أكثر من أي وقت مضى للقاء الشامي.
الفصل الثامن
السيدة إيفريت
كان برايتلينج كريسينت يتكون من صف من المنازل المبنية بالطوب الأحمر، والمكونة من ثلاثة طوابق، والمزينة بدانتيل نوتنجهام وأصص النباتات. تجمع سلالمها الحجرية بين النظافة والقبح؛ بسبب كثرة استخدام الصلصال الفخاري الملون. تورد بعضها خجلا من إيجاد نفسه ظاهرا على نحو صارخ، واصفر لون بعضها بشدة بسبب الاهتمام غير المرحب به، وحدق بعضها في رعب باهت كما لو أنها استشاطت غضبا. لكن جميعها يحمل شعار اسكتلندا اللاتيني «لا حصانة لمن يستفزني». قد تسحب مقابض الجرس النحاسية اللامعة - في الواقع، يدعوك لمعانها الفائق بإلحاح إلى القيام بذلك - لكنك لا تجتاز عتبة الباب إلا متجنبا بخطوات واسعة أفخاخ الدرجة المصنوعة من الصلصال الفخاري المجددة باستمرار. سار جرانت في الشارع الذي كثيرا ما سار فيه سوريل، وتساءل عما إذا كان الشامي يعرفه أيضا. السيدة إيفريت، امرأة نحيلة وقصيرة النظر تبلغ من العمر 50 عاما أو نحو ذلك، فتحت بنفسها باب العقار رقم 98 له، واستفسر جرانت عن سوريل.
قالت إن السيد سوريل لم يعد موجودا هناك. كان قد غادر قبل أسبوع فقط للذهاب إلى أمريكا.
إذن كانت هذه هي القصة التي رواها أحدهم.
من قال إنه ذهب إلى أمريكا؟ «السيد سوريل، بالطبع.»
نعم، ربما روى سوريل هذه القصة لإخفاء انتحاره.
هل عاش وحده هناك؟
سألت: «من أنت وماذا تريد أن تعرف؟» وقال جرانت إنه شرطي تحر ويود الدخول والتحدث معها لحظة. بدت مندهشة بعض الشيء، لكنها تلقت الخبر بهدوء، وأرشدته إلى غرفة جلوس في الطابق الأرضي. قالت: «كانت هذه ملكا للسيد سوريل. تسكن بها معلمة شابة الآن، لكنها لن تمانع في استخدامنا لها مرة واحدة. السيد سوريل لم يرتكب أي خطأ، أليس كذلك؟ لن أصدق عنه ذلك. فهو شاب هادئ.»
طمأنها جرانت، وسألها مرة أخرى هل سوريل كان يعيش بمفرده؟
أجابته بالنفي؛ فقد شارك شقته مع رجل نبيل آخر، ولكن عندما ذهب السيد سوريل إلى أمريكا، كان على الرجل الآخر أن يبحث عن شقة أخرى لأنه لا يستطيع تحمل تكاليفها بمفرده، وأرادت سيدة شابة أن تسكن بها. كانت حزينة لفقدان كل منهما. فقد كانا شابين لطيفين، وكانا صديقين حميمين. «ماذا كان اسم صديقه؟»
قالت: «جيرالد لامونت.» كان السيد سوريل يعمل وكيل مراهنات لحسابه الخاص، وكان السيد لامونت في مكتبه. أوه، لا، لم يكن شريكا، لكنهما كانا صديقين رائعين. «ماذا عن أصدقاء سوريل الآخرين؟»
قالت إنه لم يكن لديه الكثير . وكان يذهب هو وجيري لامونت إلى كل مكان معا. بعد تفكير مرهق، تذكرت رجلين أتيا إلى المنزل ذات مرة، ووصفتهما جيدا بما يكفي للتأكد من أن كليهما لم يكن الشامي. «هل لديك أي صور لسوريل أو صديقه؟»
ظنت أن لديها بعض الصور الفوتوغرافية في مكان ما، إذا كان المفتش لا يمانع في الانتظار حتى تبحث عنها. لم يكن لدى جرانت ما يكفي من الوقت لفحص الغرفة قبل أن تعود ومعها صورتان التقطتا بأيد غير محترفة وكانتا بحجم البطاقة البريدية. وقالت: «هاتان الصورتان التقطتا في الصيف الماضي عندما كانا عند النهر.»
التقطت الصورتان بالتأكيد في المناسبة ذاتها. وأظهرت كلتاهما الخلفية ذاتها لضفة نهر التيمز المظللة بشجر الصفصاف ونفس الجزء من القارب. كانت إحداهما صورة لسوريل مرتديا سروالا خفيفا، وممسكا بغليون في يد ووسادة في اليد الأخرى. كانت الصورة الأخرى أيضا صورة لشاب يرتدي سروالا خفيفا، وكان ذاك الرجل الأجنبي.
جلس جرانت مدة طويلة ينظر إلى ذلك الوجه الداكن. كانت الصورة جيدة. لم تكن العينان مجرد ظل كما هي الحال في معظم الصور؛ كانتا واضحتين. وتمكن جرانت أن يرى مرة أخرى الرعب المفاجئ الذي لمع في عينيه مثلما لمع في شارع ستراند. حتى في الاستراحة اللطيفة في تلك اللحظة على النهر، كانت هناك نظرة معادية في عينيه. لم يكن هناك أي صداقة في الوجه ذي العظام البارزة.
سأل دون أن تظهر أي تعبيرات على وجهه: «أين قلت إن لامونت ذهب؟»
لم تعرف السيدة إيفريت.
تفحصها جرانت بدقة. هل كانت تقول الحقيقة؟ كما لو كانت مدركة لشكه، أكملت جملتها بأخرى. كان لديه شقة في مكان ما على الجانب الجنوبي من النهر.
ملأه الشك. هل كانت تعرف أكثر مما كانت تقول؟ من أرسل المال لدفن سوريل؟ كان صديقه والشامي شخصا واحدا، والشامي، الذي كان لديه 223 جنيها، لم يرسل المال بالتأكيد. نظر إلى وجه المرأة القاسي. ربما كانت تكتب مثل الرجال؛ فخبراء الخطوط غير معصومين من الخطأ. ولكن حينها، كان الشخص الذي أرسل المال يمتلك المسدس . واستدرك مدققا كلامه قائلا إن الشخص الذي أرسل المال بالبريد كان يمتلك المسدس.
سأل عما إذا كان يمتلك أحد الرجلين مسدسا.
لا؛ لم تر مثل هذا الشيء مع أي منهما. لم يكونا من هذا النوع.
وها هي مرة أخرى تتحدث عن هدوئهما. هل كان مجرد تحيز أم كانت محاولة واهية لإبعاده عن المسار؟ أراد أن يسأل عما إذا كان لامونت أعسر، لكن شيئا ما أوقفه. إذا لم تكن صريحة معه، فإن هذا السؤال المتعلق بلامونت سيثير قلقها على الفور. وسيكشف عن كامل نطاق تحقيقاته. ربما تعطي تحذيرا وتجعل الطائر يهرب من مخبئه قبل استعدادهم لإطلاق النار عليه بوقت طويل. ولم يكن ذلك ضروريا في الوقت الراهن. كان الرجل الظاهر في الصورة هو الرجل الذي عاش مع سوريل، وهو الرجل الذي هرب عند رؤيته في شارع ستراند، وهو الرجل الذي كان لديه كل أموال سوريل، وكاد يكون بالتأكيد الرجل الذي كان في صف الانتظار. تمكن ليجارد من التعرف عليه. كان الأمر الأكثر أهمية في الوقت الحالي عدم إخبار السيدة إيفريت بما يعرفونه. «متى غادر سوريل إلى أمريكا؟»
قالت: «أبحر قاربه في الرابع عشر من الشهر، لكنه غادر المكان هنا في يوم الثالث عشر.»
قال جرانت، على أمل نقل المحادثة إلى مستوى أقل رسمية وأقل عدوانية: «يوم مشئوم!».
قالت: «أنا لا أومن بالخرافات. فالأيام يشبه بعضها بعضا.»
لكن جرانت كان يفكر بعمق. فيوم الثالث عشر كان ليلة جريمة القتل.
سأل: «هل غادر لامونت معه؟».
نعم، لقد غادرا معا في الصباح. كان السيد لامونت سيأخذ أغراضه إلى شقته الجديدة ثم يلتقي بالسيد سوريل. كان السيد سوريل ذاهبا إلى ساوثهامبتون بقطار سيوصله إلى الميناء في الليل. لقد أرادت مرافقته لتوديعه، لكنه كان شديد الإصرار على ألا تفعل ذلك.
سأل جرانت: «لماذا؟». «قال إن الوقت كان متأخرا جدا، وعلى أي حال لم يكن يحب أن يتم توديعه.» «هل كان لديه أي أقارب؟»
لا، لم تسمع عن أحد من قبل. وماذا عن لامونت؟
نعم، كان لديه أب وأم وأخ واحد، لكنهم هاجروا إلى نيوزيلندا مباشرة بعد الحرب ولم يرهم منذ ذلك الحين.
كم من الوقت مكث الرجلان معها؟
مكث السيد سوريل معها لمدة ثماني سنوات تقريبا والسيد لامونت لمدة أربع سنوات.
من شارك الشقة مع سوريل في السنوات الأربع التي سبقت وصول لامونت؟
كان هناك العديد من الأشخاص، ولكن في معظم الأوقات كان ابن أخ لها موجودا الآن في أيرلندا. نعم، كان السيد سوريل دائما على علاقة جيدة بهم جميعا.
سأل جرانت: «هل كان دائما مشرقا ومبهجا؟».
قالت حسنا، لا، إن الإشراق والبهجة لا يصفان السيد سوريل على الإطلاق. كان هذا ما يتصف به السيد لامونت، إذا أحب ذلك. فالسيد لامونت كان الشخص المشرق والمبهج. بينما كان السيد سوريل هادئا، لكنه كان لطيفا. في بعض الأحيان يكون كئيبا نوعا ما، حينها يزيد إشراق السيد لامونت لإبهاجه.
تساءل جرانت، متذكرا مدى امتنان المرء عندما يحاول شخص عمدا أن يزيح الغم عن صدره، لماذا لم يكن الأمر قد حدث بالعكس، وقتل سوريل لامونت.
هل تشاجرا من قبل؟
لا، لم تكن على علم بذلك من قبل، وكانت ستعرف بالسرعة الكافية.
قال جرانت أخيرا: «حسنا، أظن أنك لا تعارضين إقراضي هاتين الصورتين يوما أو يومين؟»
قالت: «ستعيدهما إلي سالمتين، أليس كذلك؟ فهما الصورتان الوحيدتان اللتان أملكهما، وقد كنت مغرمة جدا بهما.»
وعدها جرانت، ووضعهما في محفظته بعناية، آملا أن يكون عليهما بصمات أصابع ثمينة.
سألت مرة أخرى وهو يرحل: «لن تقحمهما في مشكلات، أليس كذلك؟ لم يرتكبا خطأ في حياتهما.»
قال جرانت: «حسنا، إذا كان الأمر كذلك، فهما آمنان تماما.»
سارع بالعودة إلى سكوتلانديارد، وأثناء تسجيل بيانات بصمات الأصابع على الصورتين، سمع تقرير ويليامز عن يوم غير مثمر بين مكاتب المراهنات في لندن. وبمجرد أن أصبحت الصورتان في حوزته مرة أخرى، انطلق إلى مطعم لورنس. كان الوقت متأخرا جدا وكان المكان خاليا. كان هناك نادل وحيد يجمع الفتات من فوق إحدى الطاولات وهو شارد الذهن، وكانت تفوح عبر الهواء رائحة المرق الغنية، والنبيذ، ودخان السجائر. ترك العامل المشتت التفكير مغرفة تجميع الفتات، وانحنى ليحظى بسعادته بتلك الطريقة التي لا يأمل فيها شيئا في المقابل، وتلك السعادة الكئيبة لكونه محقا، وهذا ما يقدمه النادل للشخص المتهور الذي يحاول تناول الطعام بعدما ينتهي الآخرون. عندما تعرف جرانت، أعاد تشكيل ملامحه في صورة جديدة تهدف إلى إيصال رسالة مفادها «يا لها من متعة لخدمة عميل مفضل!» لكنها كانت في الواقع واضحة للأسف على أنها «يا إلهي، كان هذا خطأ شنيعا! إنه ذلك الشخص المفضل لمارسيل.»
سأل جرانت عن مارسيل، وسمع أنه غادر ذلك الصباح إلى فرنسا على عجل. لقد مات والده وكان هو الابن الوحيد، وقد فهم أن هناك موضوعا يتعلق بشركة جيدة ومزرعة كرم يجب عليه تسويته. لم يحزن جرانت بشدة عند التفكير في عدم رؤية مارسيل مرة أخرى. كانت السلوكيات التي كان مارسيل يفخر بها دائما قد تركت جرانت يشعر بالغثيان قليلا طوال الوقت. طلب طبقا، وسأل عما إذا كان راءول ليجارد موجودا، وإذا كان الأمر كذلك، فهل سيسمح له بالحضور والتحدث معه لحظة. بعد عدة دقائق، خرج جسد راءول الطويل، المغطى بالكتان الأبيض من أوله لآخره وقبعة، من الستائر عند الباب وتبع النادل بخجل إلى طاولة جرانت. كان يبدو مثل طفل خجول يصعد لاستلام جائزة يعلم أنه قد فاز بها.
قال جرانت بلطف: «مساء الخير، ليجارد. لقد ساعدتني كثيرا. أريدك أن تنظر إلى هذه وترى ما إذا كان بإمكانك التعرف على أي منهم.» عرض 12 صورة على المنضدة في هيئة تشبه المروحة وترك راءول لفحصها. أخذ الصبي وقته - في الواقع، كانت مدة التوقف طويلة جدا لدرجة أن جرانت كان لديه الوقت للتساؤل عما إذا كان تصريح الصبي بأنه سيتعرف الرجل الذي رآه كان مجرد تفاخر. لكن عندما تحدث راءول لم يكن هناك أي تردد بشأنه.
قال وهو يضع إصبع السبابة النحيلة على صورة سوريل: «هذا هو الرجل الذي كان يقف بجانبي في صف الانتظار. وهذا» هذه المرة وضع إصبع السبابة على صورة لامونت «هو الرجل الذي أتى للتحدث معه.»
سأل جرانت: «هل تقسم على ذلك؟»
كان راءول يعرف كل شيء عن القسم على شيء ما هذه المرة. قال: «أوه، نعم؛ سأقسم على ذلك في أي وقت.»
كان هذا كل ما أراده جرانت. قال بامتنان: «شكرا لك، ليجارد. عندما تصبح رئيس الفندق، سآتي وأبقى وأحضر نصف الطبقة الأرستقراطية في بريطانيا.»
ابتسم راءول له ابتسامة عريضة. قال: «قد لا تتحقق أبدا مسألة رئيس الفندق هذه. إنهم يقدمون الكثير في الأفلام، ومن السهل أن يتم تصويرك لتبدو ...» حاول العثور على الكلمة المناسبة. قال: «أنت تعرف!» وفجأة علا وجهه الجميل الذكي تعبير ينم عن الوهن الغبي الذي لم يكن متوقعا لدرجة أن بعضا من طعام جرانت الذي يحتوي على البط والبازلاء الخضراء ذهب في الاتجاه الخطأ. قال: «أعتقد أنني سأجرب ذلك أولا، ثم، عندما أكبر» حرك يديه للإشارة إلى شيء كبير «يمكنني شراء فندق.»
ابتسم جرانت بلطف بينما كان يشاهد هذا الجسد الجميل وهو يشق طريقه عائدا إلى الملاعق وخرق تنظيف أدوات المائدة. كان يعتقد أنه فرنسي نمطي، في إدراكه الفطن للقيمة التجارية لجماله، في روح الدعابة، في انتهازيته. كان من المحزن الاعتقاد بأن السمنة سوف تفسد رشاقته ووسامته. وكان جرانت يأمل في أن يحافظ على روح الدعابة وسط الأنسجة الدهنية. عندما عاد إلى سكوتلانديارد، كان من المقرر أن يحصل على مذكرة لإلقاء القبض على جيرالد لامونت بتهمة قتل ألبرت سوريل، خارج مسرح وفينجتون، مساء الثالث عشر من مارس.
عندما أغلقت سيدة برايتلينج كريسينت الباب خلف المفتش، بقيت مدة طويلة بلا حراك، وعيناها على المشمع المنقوش باللون البني الذي يغطي أرضية الردهة. بلل لسانها شفتيها الرفيعتين بطريقة تأملية. لم تبد منفعلة، لكن كيانها كله بدا مركزا يفكر؛ كان يتردد بداخلها أفكار تشبه ذبذبات المولد الكهربائي. ربما لمدة دقيقتين وقفت هناك بلا حراك تماما، ساكنة كقطعة أثاث، في صمت يتخلله دقات الساعة. ثم استدارت وعادت إلى غرفة الجلوس. نفشت الوسائد التي هبطت بسبب وزن المفتش - لقد اتخذت هي نفسها الاحتياطات الغريزية الكاملة بالجلوس على كرسي صلب - كما لو كان هذا هو أهم شيء في الحياة حاليا. وأخرجت مفرش مائدة أبيض من درج في الخزانة وبدأت في إعداد وجبة، متنقلة ذهابا وإيابا بين غرفة الجلوس والمطبخ بتأن وببطء، واضعة السكاكين والشوكات بشكل متواز تماما بطريقة مضنية كان من الواضح أنها عادة. وقبل أن تنتهي، سمعت صوت خشخشة مفتاح في القفل، ودخلت عاهرة تبلغ من العمر 28 عاما أو نحو ذلك، يعلن عن مهنتها معطفها الرمادي الباهت، ووشاحها البني الباهت، وقبعتها غير العصرية ذات اللون الأخضر الباهت، وأسلوبها المباغت. أزالت حذاءها الواقي في الردهة ودخلت غرفة الجلوس، بملاحظة متكلفة مبهجة عن اليوم الممطر. اتفقت معها السيدة إيفريت وقالت: «كنت أفكر، بما أن اليوم العشاء بارد، فقد لا تمانعين إذا تركته جاهزا وخرجت. أود مقابلة صديق، إذا لم يشكل ذلك فارقا بالنسبة إليك.» طمأنتها الساكنة أن ذلك لن يشكل فارقا على الإطلاق، وشكرتها السيدة إيفريت وذهبت إلى المطبخ. هناك أخذت من موضع حفظ اللحوم لحما بقريا مشويا، وقطعت منه شرائح سميكة، وشرعت في إعداد الشطائر. ولفتها بدقة في ورق أبيض ووضعتها في سلة. ووضعت في السلة بعض النقانق المطبوخة وبعض قطع اللحم على شكل المعين الهندسي، وعلبة من الشوكولاتة. أضافت فحما للنار، وملأت الغلاية، ووضعتها على جانب المدفأة حتى تكون ساخنة عندما تعود، وصعدت إلى الطابق العلوي. في غرفة نومها، تزينت بتأن للخروج إلى الشارع، وأدخلت بعناية خصلات متناثرة من الشعر تحت قبعتها المتصلبة. أخذت مفتاحا من أحد الأدراج وفتحت آخر، وسحبت لفافة من الأوراق النقدية وعدتها، ثم وضعتها في حقيبة يدها. فتحت دفترا مشغولا بالقماش والحرير وكتبت رسالة قصيرة، وغلفتها في مظروف ووضعتها في جيبها. نزلت الطابق السفلي مرة أخرى، وهي ترتدي قفازيها، وأخذت السلة الصغيرة من فوق طاولة المطبخ، وخرجت من الباب الخلفي، وأغلقته خلفها. توجهت إلى الشارع، دون أن تنظر يمينا أو يسارا، ظهرها مستو، وذقنها مرتفع، تمشي بحزم معلنة عن مواطنة ذات ضمير حي. في شارع فولام، انتظرت في محطة للحافلات وأبدت اهتماما عرضيا بالحاضرين برفقتها مثل أي امرأة تعرف الصواب وتحتفظ بأمورها لنفسها. كانت أرثوذكسية تماما لدرجة أنها عندما غادرت الحافلة، لم يكن بإمكان أحد سوى قاطع التذاكر بالحافلة، الذي كانت قوة ملاحظته غريزية بالكامل، أن يقول إنها كانت من الركاب. وفي الحافلة التي نقلتها إلى بريكستون كانت غير واضحة أيضا؛ لم يلاحظها المسافرون المرافقون لها كما لو كانت عصفورا أو عمود إنارة. في وقت ما قبل أن تصل إلى ستريتم هيل نزلت من الحافلة واختفت في المساء الضبابي، ولم يتذكر أحد أنها كانت هناك؛ ولم ينزعج أحد من الحاجة الملحة المكبوتة الهائلة التي خبأها مظهرها الخارجي المستسلم.
سلكت شارعا طويلا حيث كانت مصابيح الشوارع معلقة مثل أقمار ضبابية، ثم آخر يشبهه تماما - واجهات مبان مسطحة، ومصباح ضبابي، وطريق مهجور؛ وتوجهت إلى شارع ثان وشارع ثالث. في منتصف الشارع الأخير استدارت فجأة وسارت عائدة إلى أقرب عمود إنارة. سارعت فتاة من أمامها، متأخرة عن موعد ما، وجاء صبي صغير يخشخش بنسين في راحتيه المضمومتين. لكن لا أحد آخر. تظاهرت بالنظر إلى ساعتها في الضوء ومضت مرة أخرى في الاتجاه الأصلي. إلى يسارها كان هناك صف من المنازل المرتفعة ذات المظهر المهيب التي هجرتها العائلات الاجتماعية ببريكستون، والجص يتقشر من الجدران في شكل رقائق كبيرة، وستائر النوافذ الملونة تعلن وصول ساكن الشقة. لا يمكن رؤية شيء في هذه الساعة من تفاصيل الأشخاص؛ فقط بصيص من الضوء هنا وهناك وشراعات الأبواب المتواترة تخبر عن وجود من يسكن المكان. اختفت في واحدة من هذه، وأغلقت الباب بهدوء خلفها. صعدت مجموعتين من الدرج، مضاءتين بضوء خافت ومتهالكتين، حتى وصلت إلى المجموعة الثالثة، حيث لم يكن هناك ضوء. ألقت نظرة سريعة على الظلام بالأعلى واستمعت. لكن لم يتردد سوى الصرير العابر للخشب القديم في أرجاء المنزل. صعدت ببطء، وهي تتحسس طريقها خطوة بخطوة، ووصلت إلى المنعطف دون أن تتعثر، وتوقفت لاهثة في الجزء العلوي من المنزل في ردهة غير مضاءة . وبثقة من يعرف الطريق، مدت يدها لتحديد مكان الباب غير المرئي، وبعد أن وجدته طرقت برفق. لم يكن هناك رد، ولم ينم أي شعاع ضوء أسفل الباب عن وجود أحد خلفه. لكنها طرقت الباب مرة أخرى وقالت بهدوء، وشفتاها على الشق حيث التقى الباب بالقائم: «جيري! هذا أنا.» بشكل شبه فوري ركل شيء ما بعيدا عن الباب من الداخل، وفتح ليظهر غرفة مضاءة بمصباح، وظل رجل يقف أمام الضوء باسطا ذراعيه أفقيا.
قال الرجل: «ادخلي»، وسحبها بسرعة إلى الداخل وأغلق الباب بالقفل. وضعت سلتها على الطاولة بالقرب من النافذة ذات الستارة واستدارت لتواجهه عندما أتى من الباب.
قال: «ما كان يجب أن تأتي! لماذا فعلت ذلك؟» «جئت لأنه لم يكن هناك وقت للكتابة إليك، وكان علي أن أراك. لقد اكتشفوا هويته. جاء رجل من سكوتلانديارد هذا المساء وأراد أن يعرف كل شيء عنكما. فعلت كل ما بوسعي من أجله. أخبرته بكل ما يريد معرفته، باستثناء مكان وجودك. حتى إنني أعطيته صورا لك وله. لكنه يعلم أنك في لندن، وما هي إلا مسألة وقت إذا بقيت هنا. عليك أن ترحل.» «لماذا أعطيته الصور؟» «حسنا، فكرت في الأمر عندما انصرفت لأتظاهر بالبحث عنها، وعرفت أنني لا أستطيع أن أعود وأن أقول إنني لم أتمكن من العثور عليها وجعله يصدقني. أعني، كنت أخشى ألا أفعل ذلك جيدا بما فيه الكفاية. ثم فكرت حينها، حيث إنهم قد وصلوا إلى هذا الحد في اكتشاف كل شيء عنكما، فإن الصورة لن تحدث فارقا كبيرا بطريقة أو بأخرى.»
قال الرجل: «حقا؟ غدا سيعرف كل شرطي في لندن كيف أبدو بالضبط. الوصف أحد الأشياء التي يعلم الرب كم هو سيئ بما فيه الكفاية - لكن الصورة أمر بغيض جدا. لقد قضى هذا على كل شيء!» «نعم، قد يكون الأمر كذلك إذا كنت ستمكث في لندن. ولكن إذا مكثت في لندن فسيلقى القبض عليك على أي حال. إنها مسألة وقت فقط. عليك أن تغادر لندن الليلة.»
قال بمرارة: «لا أريد شيئا أفضل من ذلك، ولكن كيف وإلى أين؟ إذا غادرت هذا المنزل، فهذا يعني ذهابي مباشرة إلى الشرطة بنسبة كبيرة، وبوجود صورتي، لن يكون من السهل كثيرا إقناعهم أن هذا ليس أنا. لقد عانيت كثيرا في الأسبوع الماضي. يا ألله، يا لي من أحمق! - ومن أجل سبب بسيط جدا. أن أضع حبلا حول عنقي بلا مقابل!»
قالت ببرود: «حسنا، وها قد فعلتها. لا شيء يمكن أن يغير ذلك. ما عليك التفكير فيه الآن هو كيفية الهروب. وبأسرع ما يمكن.» «نعم، لقد قلت ذلك من قبل - ولكن كيف وإلى أين؟» «تناول بعض الطعام وسأخبرك. هل تناولت وجبة مناسبة اليوم؟»
قال: «نعم، تناولت الفطور.» لكنه لم يبد جائعا، وكانت عيناه الغاضبتان المحمومتان تراقبانها بحزم.
قالت: «ما تريده هو الخروج من هذه المنطقة، حيث يتحدث الجميع عن الأمر، إلى مكان لم يسمع به أحد من قبل عنه.» «إذا كنت تقصدين خارج البلاد، فهذه ليست محاولة جيدة على الإطلاق. حاولت أن أحمل على متن قارب منذ أربعة أيام كنوع من المساعدة، وسألوني عما إذا كنت تابعا لنقابة أو شيء من هذا القبيل، ولم يهتموا بي. أما بالنسبة لقوارب المانش، فيمكنني تسليم نفسي أيضا.» «أنا لا أتحدث عن الخارج على الإطلاق. أنت لست مشهورا كما تعتقد. أنا أتحدث عن المناطق الجبلية. هل تعتقد أن الناس في دياري على الساحل الغربي قد سمعوا من قبل عنك أو عما حدث ليلة الثلاثاء الماضي. صدقني، لم يفعلوا. إنهم لا يقرءون أي شيء سوى الجريدة المحلية، والجرائد المحلية تتحدث عن شئون لندن في سطر واحد. يقع المكان على بعد 36 ميلا من محطة السكك الحديدية، ويعيش الشرطي في القرية التالية، على بعد أربعة أميال، ولم ير قط أي شيء أكثر إجراما من صياد سمك سلمون غير قانوني. هذا هو المكان الذي ستذهب إليه. لقد أرسلت لهم رسالة أقول فيها إنك قادم لأنك في حالة صحية سيئة. اسمك جورج لو، وتعمل صحفيا. يوجد قطار متجه إلى إدنبرة من كينجز كروس في الساعة العاشرة و15 دقيقة وستلحق به الليلة. ليس هناك الكثير من الوقت؛ لذلك أسرع.» «ستقبض علي الشرطة عند حاجز الرصيف.» «لا يوجد حاجز عند محطة كينجز كروس. لم أتجول في اسكتلندا بأكملها منذ ما يقرب من 30 عاما دون أن أعرف ذلك. فالرصيف الاسكتلندي مفتوح لأي شخص يريد السير عليه. وحتى لو كان هناك محققون، فإن طول القطار يبلغ نحو نصف ميل. يجب أن تخاطر بشيء ما إذا كنت ستهرب. لا يمكنك البقاء هنا والسماح لهم بالقبض عليك! كان يجب أن أعلم أن المقامرة هي أكثر ما تستمتع بفعله إلى حد بعيد.»
قال: «تعتقدين أنني خائف، أليس كذلك؟ حسنا، أنا خائف. أنا مرعوب. إن الخروج إلى الشارع الليلة سيكون بمثابة السير في منطقة محرمة، وهناك جندي ألماني يطلق النيران من مدفع رشاش.» «عليك إما أن تلملم شتات نفسك أو تذهب وتسلم نفسك. لا يمكنك الجلوس دون حراك وتدعهم يأتون ويأخذونك.»
قال: «كان بيرت محقا عندما أطلق عليك اسم ليدي ماكبث.»
قالت بحدة: «توقف!»
تمتم: «حسنا. لقد فقدت عقلي نوعا ما.» كان هناك صمت غير مفهوم. «حسنا، لنجرب هذا باعتباره آخر حيلة.»
ذكرته: «ليس هناك متسع من الوقت. ضع شيئا ما في حقيبة سفر بسرعة - حقيبة يمكنك حملها بنفسك - فأنت لا تريد حمالين.»
انتقل تنفيذا لأوامرها من غرفة الجلوس إلى غرفة النوم، وبدأ في قذف الأشياء في حقيبة سفر، بينما كانت تضع رزما نظيفة من الطعام في جيوب المعطف المعلق خلف الباب.
قال فجأة: «ما الغرض من ذلك؟ إنه أمر غير نافع. كيف برأيك يمكنني ركوب قطار على الخط الرئيسي خارج لندن دون أن يتم إيقافي واستجوابي؟»
قالت: «لا يمكنك إذا كنت بمفردك، لكن معي الأمر مختلف. انظر إلي. هل أبدو من النوع الذي سيساعدك على الهروب؟»
وقف الرجل في المدخل يتأملها لحظة، وعلت فمه ابتسامة ساخرة وهو يوافقها على كل ما لديها من معتقدات أرثوذكسية سليمة. قال: «أعتقد أنك على حق.» وضحك ضحكة قصيرة كئيبة وبعد ذلك لم يضع أي صعوبات في طريق خططها. في غضون 10 دقائق كانا جاهزين للمغادرة.
سألت: «هل لديك أي أموال؟»
قال: «نعم؛ كثير.»
بدت على وشك طرح سؤال.
قال: «لا، ليس هذا. إنه ملكي.»
حملت غطاء ومعطفا إضافيا: «يجب ألا توحي أنك على عجل بأي شكل من الأشكال؛ ويجب أن تبدو كما لو كنت مسافرا في رحلة طويلة ولا يهمك من يعرف ذلك.» وحمل حقيبة السفر وحقيبة الجولف. لم يكن هناك أي عمل خفي. كانت هذه هي الخدعة، وكلما كبرت الخدعة، زادت فرص نجاحها. عندما دخلا الطريق الضبابي، قالت: «سنذهب إلى شارع بريكستون الرئيسي ونستقل حافلة أو سيارة أجرة.»
تصادف أن ظهرت أولا سيارة أجرة. لقد خرجت من الظلام قبل أن يصلا إلى الطريق الرئيسي، وبينما كان الرجل يضع ما كانا يحملانه على متن السيارة، أعطت المرأة عنوان وجهتهما.
قال السائق: «هذا سيكلفك الكثير يا سيدتي.»
قالت: «حسنا، حسنا، إن ابني ليس لديه عطلة كل يوم.»
صاح السائق بلطف. قال: «أمر رائع! سأحصل على مبلغ وفير. لا شيء يضاهي ذلك.» وصعدت للداخل، وتوقفت سيارة الأجرة عن اهتزازها الهائج وانطلقت.
بعد صمت قال الرجل: «حسنا، لم يكن بإمكانك فعل المزيد من أجلي لو كنت كذلك.»
قالت: «أنا سعيدة لأنك لست كذلك.» كان هناك صمت طويل آخر.
سألت فجأة: «ما اسمك؟».
فكر لحظة واحدة. وقال: «جورج لو.»
قالت: «نعم؛ لكن لا تفكر في المرة القادمة. يوجد قطار شمالا متجه إلى إنفرنيس، يغادر ويفرلي في الساعة العاشرة من صباح الغد. سيكون عليك قضاء ليلة الغد في إنفرنيس. لقد كتبت على ورقة ما ستفعله بعد ذلك.» «يبدو أنك متأكدة تماما من أنه لن يحدث شيء في كينجز كروس.»
قالت: «لا، لست متأكدة. فرجال الشرطة ليسوا حمقى - وهذا الرجل من سكوتلانديارد لم يصدق نصف ما قلته - لكنهم مجرد بشر. ومع ذلك، لن أعطيك تلك الورقة حتى يغادر القطار.»
قال: «أتمنى لو كان لدي هذا المسدس الآن!» «أنا سعيدة لأنه ليس معك. لقد جعلت من نفسك أضحوكة كبيرة بالفعل.» «لن أستخدمه . سيمنحني الشجاعة فقط.» «أرجوك جيري، كن متعقلا. لا ترتكب أي شيء سخيف وتفسد الأمور.»
خيم الصمت مرة أخرى، المرأة تجلس منتصبة ومتنبهة، والرجل منكمش في الزاوية، يكاد لا يرى. ذهبا على هذا النحو إلى غرب لندن، عبر الميادين المظلمة شمال شارع أكسفورد، إلى طريق يوستون، وأخذا منعطفا حادا جهة اليسار إلى كينجز كروس. حانت اللحظة المناسبة.
قالت: «ادفع أنت لسيارة الأجرة وسأحصل أنا على التذكرة.»
وبينما كان لامونت يدفع للسائق، أخفى ظل قبعته المثنية لأسفل وجهه؛ لذا كان ظهره المتراجع هو كل ما لاحظته نظرة السائق المحدقة غير المبالية. جاء حمال وأخذ منه أغراضه، وسلمها له عن طيب خاطر. والآن بعد أن حان الوقت، لم يستطع تمالك «أعصابه». فإن عليه المخاطرة بكل شيء لنجاح المحاولة، وكان بإمكانه أن يلعب الدور بشكل جيد. عندما انضمت إليه المرأة من مكتب الحجز، كان التغيير الذي طرأ عليه واضحا في الاستحسان الذي ظهر على وجهها البارد. ذهبا معا إلى الرصيف وتبعا الحمال لأسفل، بحثا عن مقعد في الزاوية. لقد قدما صورة مقنعة بما فيه الكفاية - الرجل مع الغطاء وحقيبة الجولف والشطائر، والمرأة التي تساعد في حمل المعطف الإضافي للرجل.
غاص الحمال في أحد الممرات وخرج مرة أخرى قائلا: «حصلت لك على ركن يا سيدي. ربما تحتفظ بالجانب كله لنفسك طول الطريق. فالأجواء هادئة الليلة.»
أعطاه لامونت بقشيشا وتفقد مكانه. وحدد شاغل الجانب الآخر منطقته الخاصة، لكنه لم يكن حاضرا بشخصه. عاد إلى المدخل مع المرأة وتحدث معها. سمعا وقع أقدام في الممر من خلفه، فقال لها: «هل يمارسون أي نوع من الصيد، برأيك؟»
قالت: «الصيد فقط في البحيرة»، وواصلت الحديث حتى مضت الخطوات بعيدا. لكن قبل أن يبتعدا عن مرمى السمع توقفا. وألقى لامونت نظرة عابرة على الممر قدر استطاعته، ووجد أن صاحب الخطوات قد توقف عند باب مقصورته المفتوح وكان يفحص الأمتعة الموجودة على الرف. حينها تذكر، بعد فوات الأوان، أن الحمال وضع حقيبته بالأعلى والأحرف الأولى للخارج. كان حرفا «جي» و«إل » واضحين ليقرأهما كل العالم. رأى الرجل يتحرك استعدادا للعودة. قال بسرعة للمرأة: «تكلمي!»
قالت: «هناك جدول صغير بالطبع، حيث يمكنك التقاط ما يسمونه بالسمك الشائك. يبلغ طول الواحدة منها نحو ثلاث بوصات.»
قال: «حسنا، سأرسل لك سمكة شائكة»، وتمكن من أن يضحك ضحكة خافتة نالت إعجاب المرأة في الوقت الذي توقف فيه الرجل وراءه. «معذرة سيدي، هل اسمك لوريمر؟»
قال لامونت: «لا»، وهو يستدير لمواجهة الرجل بشكل مباشر. «اسمي لو.»
قال الرجل: «أه آسف! هل هذه أمتعتك في المقصورة، إذن؟» «نعم.» «أوه شكرا لك. أنا أبحث عن رجل يدعى لوريمر، وكنت آمل أن تكون هذه له. إنها ليلة باردة لانتظار الأشخاص غير الموجودين.»
قالت المرأة: «نعم؛ ابني يتذمر بالفعل من فكرة رحلته الليلية الأولى. لكنه سوف يتذمر أكثر بكثير قبل أن يصل إلى إدنبرة، أليس كذلك؟»
ابتسم الرجل. قال: «لا أستطيع قول شيء؛ فأنا لم يسبق لي السفر بمفردي طوال الليل.» وأضاف: «آسف على الإزعاج»، وانصرف.
قالت وهو يبتعد عن مرمى السمع: «كان يجب أن تدعني آخذ ذلك الغطاء الآخر يا جورج.»
قال جورج بتلقائية: «أوه، لن أستعمل الغطاء! فمن المحتمل أن يصبح الجو حارا مثل الفرن قبل مضي ساعة.»
انطلقت صافرة طويلة حادة. أغلق الباب الأخير بقوة.
قالت وهي تضع رزمة في يده: «هذا من أجل النفقات، وهذا ما وعدتك به. الرجل على الرصيف. كل شيء على ما يرام.»
قال: «لقد أغفلنا شيئا واحدا.» نزع قبعته، وانحنى، وقبلها.
ورحل القطار الطويل ببطء نحو الظلام.
الفصل التاسع
جرانت يحصل على معلومات أكثر مما توقع
كان جرانت يدرس الصحف الصباحية، بدقته المعتادة غير المبالية جزئيا. وهذا ليس تناقضا؛ فجرانت ظاهريا تصفح الجريدة، ولكن إذا سألته عن أي حدث معين بعد ذلك، فستجد أنه قد اكتسب معرفة عملية فعالة للغاية منه. كان يشعر بالرضا عن نفسه. كان على بعد ساعات فقط من القبض على الرجل الذي كان يتعقبه. لقد مر أسبوع اليوم على ارتكاب جريمة القتل، وكان تحديد مكان القاتل من بين مجموعة من القرائن المتضاربة في مثل هذا الوقت القصير عملا جيدا. كان الحظ في صفه بالطبع؛ لقد اعترف بذلك بحرية. ولولا الحظ من جانب أحد الأطراف، لأفلت نصف المجرمين في العالم من العقاب. فاللص، على سبيل المثال، نادرا ما تتم إدانته إلا إذا حالف الشرطة الحظ. لكن قضية صف الانتظار لم تكن أمرا يسيرا بأي حال من الأحوال. فقد كان هناك الكثير من الأعمال التمهيدية الصعبة؛ وانتابت جرانت مشاعر طيبة تشبه إلى حد بعيد تلك المشاعر التي انتابته وهو يفكر في مجموعة الرجال الذين يعملون جنوب لندن في هذه اللحظة، بلهفة تشبه لهفة كلاب الصيد التي تعمل في الخفاء. كانت لديه شكوكه بشأن السيدة إيفريت، لكنه بشكل عام قرر أنها تقول الصدق. أبلغ الرجل المسئول عن مراقبتها أنه لم يأت أحد أو يغادر المنزل من الساعة الثامنة مساء أمس، عندما ذهب إلى الخدمة، حتى صباح اليوم. علاوة على ذلك، كانت قد أعطتهم صورة لكل من الرجلين عندما لم تكن هناك ضرورة لذلك، وكان من المحتمل جدا أنها لم تكن تعرف عنوان ساكنها السابق. كان جرانت يعرف جيدا اللامبالاة الغريبة التي تولدها لندن لدى الأشخاص الذين عاشوا فيها مدة طويلة. فالجانب الآخر من النهر بالنسبة لأبناء لندن القاطنين في شارع فولام كان مكانا أجنبيا مثل كندا، وربما لن تهتم السيدة إيفريت بعنوان في ريتشموند أكثر مما قد تهتم بعنوان في أحد الأرقام، في أحد الشوارع، في مكان ما، في أونتاريو. فهذا لن يفيدها كثيرا. كان لامونت هو الشخص الذي قضى معها أقل وقت، وربما كان اهتمامها به أقل من اهتمامها بالقتيل. ربما كان قد وعد في دفء رحيله الودود، وإن لم يكن صادقا، بالكتابة إليها، وكانت راضية عن ذلك. بشكل عام، كان يعتقد أن السيدة إيفريت كانت صادقة. لم تكن بصمات أصابعها تلك الموجودة على المسدس والمظروف. لاحظ جرانت المكان الذي حمل منه إبهامها الأيسر وسبابتها اليسرى الصورتين بإحكام عند الزاوية، وعند فحص البصمات ثبت أنها جديدة تماما في القضية. لذلك كان جرانت سعيدا هذا الصباح. بصرف النظر عن الشهرة التي ستنجم عن اعتقال رجل مطلوب بشدة، فإن إلقاءه القبض على رجل طعن آخر في ظهره سيشعر جرانت بارتياح كبير. شعر بالاشمئزاز عند التفكير في عقل قادر على التخطيط للجريمة.
في الأسبوع الذي أعقب جريمة القتل التي وقعت في صف الانتظار، انخفضت قيمتها المثيرة بالنسبة إلى الصحافة إلى حد ما بسبب أحداث مهمة أخرى، وعلى الرغم من أن اهتمام جرانت الرئيسي بدا وكأنه مكرس على ما يبدو لمعلومات قليلة غير مهمة وغير ذات صلة مثل سرقة الدراجات، فقد كان مدركا باستمتاع وبالأحرى بامتنان أن أهم الأشياء في بريطانيا اليوم - بالنظر إلى حجم العنوان الذي أعلن عنها ومقدار المساحة المخصصة لها - كانت الاستعدادات لسباق القوارب، والإجراء الذي اتخذه طبيب تجميل خاص بالطبقة الراقية ضد سيدة كانت قد أجرت عملية شد للوجه، ورحيل راي ماركابل إلى الولايات المتحدة. عندما قلب جرانت صفحة الجريدة المصورة ورأى وجهها أمامه، أدرك مرة أخرى تلك الحركة الغريبة وغير المستقرة التي لا تشبه سمات الشرطة في شيء في صدره. لم تتسارع دقات قلبه - فهذا سيكون ظلما له؛ فقلوب إدارة التحقيقات الجنائية محصنة ضد الخفقان، أو الارتعاش، أو إساءة التصرف بطريقة أخرى حتى عندما ينظر المالك إلى فوهة ماسورة البندقية التي لا هوادة فيها - ولكنه بالتأكيد كان مذنبا بارتكاب حركة غير مصرح بها. ربما كان الاستياء من ضعفه لدى اندهاشه بصورة، لكن عيني جرانت كانتا قاسيتين للغاية عندما نظر إلى الوجه المبتسم - تلك الابتسامة الشهيرة الغامضة. وعلى الرغم من أن فمه قد يكون انحنى، فإنه لم يبتسم وهو يقرأ تعليقات الصور الكثيرة: «الآنسة راي ماركابل، صورة استوديو»، «الآنسة ماركابل التي تلعب دور دودو في «ديدنت يو نو؟»، «الآنسة ماركابل في الصف»، وأخيرا، «الآنسة ماركابل تغادر من ووترلو في طريقها إلى ساوثهامبتون» بحجم نصف الصفحة الوسطى، وكان هناك راي، واضعة قدمها الصغيرة على عتبة قطار بولمان، وذراعاها ممتلئتان بالورود. وتراص على جانبيها أشخاص معروفون جيدا بما يكفي ليكونوا تحت عنوان «من اليسار إلى اليمين». في كل من الركنين السفليين من الصورة، كانت هناك الرءوس المتحمسة لعدد قليل من الجموع التي لا تعد ولا تحصى وهي تودعها والتي كانت محظوظة بما يكفي لتكون على مقربة منها. كانت الصور الأخيرة، حيث استدارت في الغالب لتنظر إلى الكاميرا، خارج نطاق التركيز وبلا ملامح، مثل مجموعة من الزوائد الفظة نصف البشرية. في نهاية العمود الذي يصف المشاهد الحماسية التي صاحبت رحيلها جاءت الجملة التالية: «أبحر أيضا بسفينة الملكة جوينيفير ليدي فوليس روبنسون، وصاحبة المقام الرفيع مارجريت بيديفير، والسيد شاترز-فرانك، عضو البرلمان، واللورد لاسينج.»
تجلت ابتسامة السخرية على شفتي المفتش أكثر قليلا. من الواضح أن تلك الإرادة الواضحة والباردة هي التي ستتولى أمر لاسينج بقية حياته. حسنا، من المحتمل أن يعيش ويموت دون أن يدرك ذلك؛ كان هناك بعض الراحة في ذلك. لن يتمكن من معرفة ذلك سوى من خلال لحظة من الرؤية الواضحة غير الطبيعية، وإذا ذهب إلى أي حشد في لندن، روثرهايث أو مايفير، وأعلن أن راي ماركابل، بكل ما تتمتع به من سحر وكرم، كان يصعب التعامل معها، فمن المحتمل أن يعدم دون محاكمة أو يطرد من الكنيسة. ألقى الصحيفة بعيدا، وكان على وشك التقاط صحيفة أخرى عندما خطرت له فكرة، أثارها الإعلان عن الإبحار في جوينيفير. كان قد قرر قبول صحة تصريح السيدة إيفريت، لكنه لم يحقق في تصريحها الخاص بذهاب سوريل إلى أمريكا. لقد اعتبر أن قصة أمريكا كانت حيلة قام بها سوريل لإخفاء انتحاره المقصود، وأن الشامي - لامونت - سواء صدق الحكاية أم لا، لم يسع لتغيير افتراض رحيل سوريل. هل كان حكيما في عدم إجراء مزيد من التحقيق في المسألة؟ كان ذلك، على الأقل، غير عملي. أرسل بطلب أحد مرءوسيه. وقال: «احصل على معلومات عن السفن التي أبحرت من ساوثهامبتون الأربعاء الماضي»، وظل يفكر حتى عاد الرجل بخبر أن السفينة الكندية بالمحيط الهادئ «ميتالينير» قد أبحرت متوجهة إلى مونتريال، وسفينة روتردام-مانهاتن «كوين أوف آربيا» إلى نيويورك. يبدو أن سوريل قد تحمل على الأقل عناء التحقق من مواعيد الرحلات البحرية. فكر جرانت في الذهاب إلى مكاتب روتردام-مانهاتن وإجراء محادثة؛ تحسبا لظهور شيء مفيد للعلن.
بمجرد أن ترك المطر الخفيف الذي لم يتوقف ودخل إلى المكاتب الشبيهة بالكاتدرائيات في روتردام-مانهاتن، قفز صبي صغير يرتدي اللون الأزرق مثل الجني من الرصيف المكسو بالفسيفساء في البهو وسأله عما يريد. قال جرانت إنه يريد رؤية شخص يمكنه إخباره عن مواعيد الرحلات البحرية إلى نيويورك في الأسبوع الماضي، وقاده الولد الصغير، الذي يتمتع بمظهر يجعله خاليا من الألغاز ومعرفتها، قاده إلى غرفة وموظف، أوضح له جرانت مرة أخرى ما يريد؛ لذا أرشده إلى موظف آخر. وفي عملية الإرشاد الثالثة، وجد جرانت موظفا يعرف كل ما يجب معرفته عن «كوين أوف آرابيا» - نظامها الاقتصادي الداخلي، وطاقمها، وركابها، وسعتها، وخصائصها، وحمولتها، وجدولها الزمني، وإبحارها. «هل يمكن أن تخبرني ما إذا كان أي شخص قد حجز مكانا على متن «كوين أوف آرابيا» في هذه الرحلة ولم يذهب؟»
قال الموظف إنه لم يشغل شخصان أماكن مبيتهما. أحدهما كان السيد سوريل والآخر كان السيدة جيمس راتكليف.
عجز جرانت عن الكلام لحظة؛ ثم سأل عن تاريخ الحجوزات. تم حجزهما في اليوم ذاته - قبل سبعة أيام من جريمة القتل. ألغت السيدة راتكليف حجزها في اللحظة الأخيرة، لكنهم لم يسمعوا شيئا من السيد سوريل.
هل يمكن أن يرى مخطط الحجرتين؟
قال الموظف بالتأكيد، وأخرجهما. هنا كان السيد سوريل، وهنا، على بعد ثلاث حجرات في نفس الصف، كانت السيدة راتكليف.
هل تم الحجز بشكل منفصل؟
نعم، لأنه تذكر المعاملتين جيدا. تذكر السيدة راتكليف، وكان متأكدا استنادا إلى حديثه معه أن الرجل هو سوريل نفسه. وظن أن بإمكانه التعرف على السيد سوريل مرة أخرى.
أخرج جرانت صورة الشامي وعرضها عليه. سأل: «هل هذا هو الرجل؟».
هز الموظف رأسه. وقال: «لم أره من قبل على حد علمي.»
سأل جرانت: «ماذا عن ذلك؟» وسلمه صورة سوريل، وتعرف عليه الموظف على الفور.
سأل جرانت : «هل استفسر عن جيرانه في الصف؟» لكن الموظف لم يتذكر أي تفاصيل من هذا القبيل. لقد كان ذلك الإثنين يوما مزدحما للغاية. شكره جرانت، وخرج إلى المطر الخفيف، غير مدرك تماما أنها كانت تمطر. لم تعد الأمور معقولة ومفهومة؛ السبب والنتيجة والدافع والفعل تحالفوا بأدب. فقد كانوا يكتسبون عدم ترابط مثل كابوس يفزع عقله أثناء النهار. كان سوريل قد نوى الذهاب إلى أمريكا، بالرغم من كل شيء. لقد حجز مكانا في الدرجة الثانية واختار بنفسه حجرة. الحقيقة المذهلة التي لا جدال فيها لا تتناسب مع شيء. بدا كما لو أن الأمور التي بدأت تتقدم بسلاسة انهارت تماما. لو كان سوريل مفلسا كما بدا، لما فكر في رحلة من الدرجة الثانية إلى نيويورك، وبالنظر إلى الحجز، بدا الانتحار المتعمد تفسيرا سيئا لوجود المسدس وغياب المتعلقات. كان واضحا للغاية من نظريته الأولى أن قلة القرائن الشخصية أمر قد تم تدبيره في حالة الاحتكاك بالشرطة. لكن سوريل كان، بكل المقاييس، شخصا يحترم القانون. وبعد ذلك، لزيادة الطين بلة، كانت هناك عودة السيدة راتكليف للظهور في هذه القضية. فقد كانت هي الوحيدة من بين الأشخاص المحيطين بسوريل الذين أظهروا ضيقا ملحوظا في وقت جريمة القتل أو بعد ذلك. كانت هي وزوجها هما اللذين اعترفا بوقوفهما خلف سوريل في صف الانتظار. زوجها! ظهرت في ذهنه صورة جيمس راتكليف، ذلك الشخص الذي يدعم الجنسية البريطانية. كان سيذهب ليجري مقابلة مفاجئة أخرى مع السيد راتكليف.
أخذ الصبي بطاقته، وانتظر في المكتب الخارجي لمدة ثلاث دقائق تقريبا قبل أن يخرج السيد راتكليف ويرشده إلى الداخل بمودة مرحبة.
قال: «حسنا أيها المفتش، كيف حالك؟ هل تعلم، يجب أن تكون أنت وأطباء الأسنان أكثر الناس تعاسة في العالم. لا أحد يراك دون أن يتذكر أشياء غير سارة.»
قال جرانت: «لم آت لأزعجك. تصادف أن كنت بالجوار، واعتقدت أنك ربما تسمح لي باستخدام هاتفك لتجنبني الذهاب إلى مكتب البريد.»
قال راتكليف: «أوه، بالتأكيد. تفضل. سأتركك بمفردك.»
قال جرانت: «لا، لا تذهب ، لن يكون هناك شيء خاص. أريد فقط أن أعرف ما إذا كانوا يريدونني.»
لكن لم يكن أحد يريده. كانت الأمور في جنوب لندن مستقرة، لكن كان ملازموه مثابرين ومشغولين. وقد أغلق الخط بارتياح كان مفاجئا إلى حد ما إذا ما أخذت في الاعتبار الحالة الذهنية المتلهفة التي انطلق بها من سكوتلانديارد. الآن لم يكن يريد إلقاء القبض على أحد حتى يتاح له الوقت للتفكير مليا في الأمور. إن أفظع شيء في حياة ضابط شرطة سكوتلانديارد هو إجراء اعتقال جائر. التفت إلى راتكليف، وسمح له بمعرفة أن اعتقال المجرم أصبح وشيكا؛ لقد حددوا مكان الرجل الذي يبحثون عنه. جامله راتكليف، وفي منتصف المجاملات قال جرانت: «بالمناسبة، لم تخبرني أن زوجتك كانت تنوي الإبحار إلى نيويورك في الليلة التالية لجريمة القتل.»
كان وجه راتكليف، الواضح في ضوء النافذة، فارغا من أي تعابير ومصدوما. بدأ قائلا: «لم أكن أعرف»، ثم أكمل مندفعا: «لم أكن أعتقد أن هذا الأمر ذو أهمية أو أنني يجب علي إخبارك بذلك. كانت مستاءة للغاية؛ لذا لم تتمكن من الذهاب، وعلى أي حال كان هناك التحقيق. لديها أخت في نيويورك، وكانت ذاهبة إلى هناك لمدة شهر فقط. لم يحدث هذا أي فارق، أليس كذلك؟ أقصد عدم العلم بالأمر؟ ولم يكن له تأثير على الجريمة.»
قال جرانت: «أوه، نعم. لقد اكتشفت ذلك بالصدفة. وهو أمر ليس مهما. هل حال زوجتك أفضل؟» «نعم أعتقد ذلك. لم تعد إلى المنزل منذ التحقيق. إنها في إيستبورن مع الأخت الأخرى، التي قابلتها، على ما أعتقد.»
عاد جرانت إلى سكوتلانديارد وهو لا يزال في حيرة أكثر. ضغط على الزر الموجود على مكتبه وقال للرجل الذي أجاب عليه: «أريد شخصا للقيام بمهمة خاصة. هل سيمبسون موجود؟» «أجل سيدي.» «أرسله إلي.»
وصل رجل متوسط القامة أشقر ومنمش؛ كان سعيدا ومنتبها مثل كلب صيد صغير ينتظر شخصا ما لرمي حجر. قال له جرانت: «في 54 شارع ليمونورا رود، جولدرز جرين، يعيش السيد والسيدة راتكليف. أريد أن أعرف طبيعة العلاقة بينهما - أعني كلا منهما مع الآخر. وأيضا أي شيء آخر يمكنك معرفته عن أهل البيت. كلما زاد القيل والقال كان أفضل. أنا أعرف كل شيء عن عمله؛ لذلك لا داعي لإضاعة الوقت في هذا الأمر. أريد أن أعرف عن شئون منزله. يمكنك استخدام أي طريقة تريدها ما دمت تلتزم بالقانون. أبلغني الليلة سواء حصلت على أي شيء أو لا. هل مولينز هنا الآن؟» نعم، رآه سيمبسون عندما جاء. «حسنا، أرسله إلي.»
لم يكن مولينز منمشا، وبدا مثل حامل الصولجان. قال: «صباح الخير يا سيدي»، وانتظر. «صباح الخير، مولينز. من الآن وحتى إشعار آخر أنت بائع متجول. أنت تبدو إيطاليا تماما، لكن أعتقد أنه ربما من الأفضل لك أن تكون بريطانيا. هذا أقل لفتا للانتباه. سأعطيك مذكرة إلى كليذرو في شارع لاوندز، وسيعطيك البضاعة التي أريدها. لا تبع أكثر مما في وسعك. ولا أريدك أن تعود إلى هنا. قابلني في الزقاق بجوار كليذرو بعد ساعة من الآن. هل يمكنك تدبر ذلك في ساعة؟» «أعتقد ذلك يا سيدي. هل أنا شاب أم كبير في السن؟» «لا يهم. من الشباب إلى منتصف العمر. اللحى الرمادية متكلفة للغاية. لا تبالغ في فعل أي شيء. وكن حسن المظهر بما يكفي لركوب الحافلة إذا لزم الأمر.» قال مولينز: «جيد جدا يا سيدي»، وكأن تعليماته كانت بشأن إرسال رسالة بالبريد.
عندما قابله جرانت في الزقاق في شارع لاوندز بعد ساعة، قال: «أنت مدهش، مولينز - ببساطة مدهش. لن أصدق أبدا أنك كتبت تقريرا في حياتك إذا لم أكن أعرف ذلك من قبل بنفسي.» نظر بتقدير إلى البائع المتجول الواقف أمامه. كان أمرا لا يصدق أن هذا الشخص الضعيف نوعا ما كان أحد أكثر الرجال الواعدين في سكوتلانديارد. من النادر جدا أن تلجأ إدارة التحقيقات الجنائية إلى التنكر، لكن عندما يفعلون ذلك يفعلونه جيدا. كان مولينز يتمتع بالقدرة العجيبة على التنكر ليبدو كما لو أنه لا يمكن أن يكون غير الشخص الذي يتظاهر به في الوقت الحالي. وملابسه، رغم أنه من الواضح أنها كانت مستعملة، كانت مناسبة بشكل مريح عكس الملابس التي يتم ارتداؤها حديثا. فقد انسدلت على كتفيه مثل الملابس البالية، مهما كان مقاسها غير ملائم.
قال مولينز، البائع المتجول، وهو يفتح غطاء سلته المجدولة: «هل تحب الحلي الصغيرة يا سيدي؟». وضعت على البطانة الصوفية مجموعة من الأغراض معظمها سلع إيطالية رخيصة - شفرات فتح الرسائل، وزخارف خشبية مطلية من جميع الأنواع، المفيدة وغير المفيدة، وأوعية من الورق المعجن، وتماثيل من الجص.
قال جرانت: «جيد!» أخرج من جيبه شيئا رقيقا ملفوفا في منديل ورقي. وبينما يفتح الورقة قال: «أريدك أن تذهب إلى 98 برايتلينج كريسينت، قبالة شارع فولام، وتكتشف ما إذا كانت المرأة التي تعيش هناك قد شاهدت هذا من قبل.» ووضع خنجرا فضيا بمقبض مطلي بالمينا بين الخشب المطلي والجص. «وغني عن القول أنه ليس للبيع.» وأضاف ملتقطا أحد الأغراض: «ما ثمن هذا؟».
قال مولينز دون تردد: «أعط هذا لرجل مثلك مقابل جنيه وتسعة بنسات.»
وعندما تخطى أحد المارة نطاق السمع، واصل جرانت حديثه بابتهاج كما لو لم يقاطعه شيء. «عندما تنتهي من سيدة برايتلينج كريسينت - وابق متيقظا عموما - انتقل إلى 54 شارع ليمونورا وتحقق مما إذا كان هناك من يتعرفه. وأبلغني بمجرد الانتهاء.»
عندما وصل بائع البضائع الإيطالية المتجول إلى الباب الخلفي للمنزل رقم 54 في شارع ليمونورا قرابة وقت الشاي، قالت خادمة جميلة ولكن واهنة، «يا إلهي، ها هو واحد آخر!».
قال البائع المتجول: «واحد آخر من ماذا؟». «رجل آخر يبيع الأشياء.» «أوه! هل مر عليك الكثيرون؟» قال، وهو يفتح السلة: «أراهن أنهم لم يكن لديهم أي شيء مثل هذا.»
قالت وهي مبتهجة بوضوح: «أوه! هل هي غالية الثمن؟» «ليس هذه. من ناحية أخرى، يمكن لفتاة مثلك تتقاضى أجرا أن تتحمل بسهولة ثمن شيء لطيف.» «ماذا تعرف عن أجري يا سيد؟» «حسنا، لا أعرف شيئا. أنا فقط أستنتج. فتاة جميلة، منزل جميل، أجر جيد.»
قالت بلهجة تشير إلى وجود عيوب أخرى: «الأجور جيدة بما فيه الكفاية.»
قال: «ألا ترغب سيدة المنزل في إلقاء نظرة عليها؟»
قالت: «لا توجد سيدة بالمنزل. أنا سيدة المنزل الآن. السيدات في إيستبورن. هل خدمت في الجيش؟» «كنت في الجيش خلال الحرب. هذه هي المرة الوحيدة التي كنت فيها في الجيش. هل تعرفين فرنسا؟ قضيت في فرنسا أربع سنوات يا آنسة.» «حسنا، يمكنك الدخول واحتساء بعض الشاي، دعني أر الأشياء كما ينبغي. نحن فقط في منتصف وقت احتساء الشاي.»
قادته إلى المطبخ، حيث كان على المائدة زبدة، وخبز، وأنواع عديدة من المربى، وكعك. وكان يجلس على الطاولة، حاملا كوبا كبيرا من الشاي في منتصف الطريق إلى فمه، رجل وسيم لديه نمش يرتدي وشاحا أزرق وشارة فضية لجندي مسرح على طية صدر السترة. بجانبه على الطاولة كانت هناك كومة من دفاتر الكتابة الرخيصة.
قالت الخادمة: «هذا جندي سابق آخر. إنه يبيع ورق الكتابة. لا أعتقد أن هناك الكثير من البيع له الآن. لقد مر زمن طويل منذ أن رأيت بائعا متجولا يبيع الدفاتر.»
قال الشخص ذو النمش، مستقبلا نظرات البائع المتجول الساخرة برباطة جأش كاملة: «كيف حالك يا صديقي؟ كيف حال البيع؟» «جيد. فقط جيد. يبدو أنك مرتاح للغاية.» «حسنا، كنت في حاجة إلى ذلك. لم أبع دفترا اليوم. إن هذا البلد يتدهور حاله. شيء عظيم أن تصادف شخصا ما لديه قلب بين الحين والآخر.»
قالت الخادمة وهي تدفع فنجان الشاي إلى البائع المتجول: «تناول بعض المربى»، وقد ساعد نفسه بحرية. «حسنا، أنا سعيد لأن السيدة ليست بالمنزل من جانب، لكني أشعر بالأسف من جانب آخر. فقد فكرت في إمكانية شرائها لشيء ما أيضا.»
قالت: «حسنا، أنا لست آسفة. إنها راحة مباركة. فمع أسلوبها ونوبات غضبها، لا تستحق الحياة العيش.» «هل هي حادة الطباع؟» «حسنا، أنا أسميه طبعا حادا، لكنها تسميه توترا. ومنذ قضية القتل هذه - كانت في الصف في تلك الليلة التي قتل فيها الرجل، كما تعلم. نعم، كانت تقف خلفه تماما. ويا له من أمر جلل! ثم كان عليها أن تذهب إلى التحقيق وتدلي بالشهادة. إذا كانت قد ارتكبت جريمة القتل بنفسها، فلم تكن لتثير ضجة أكبر بشأن الذهاب. في الليلة السابقة كانت تصرخ وتولول وتقول إنها لا تستطيع التحمل. وعندما حاول السيد المسكين تهدئتها، لم تسمح له بالاقتراب منها. وقذفته بأبشع الأوصاف التي لن تستخدمها لوصف كلب. لذلك أقول لك إنه أمر مريح للغاية أنها سافرت إلى إيستبورن مع الآنسة ليثبريدج - أختها.»
قال الرجل ذو النمش: «نعم، أفضل شيء يمكنهم فعله عندما يكونون على هذا الحال هو الابتعاد قليلا. هل تذهب إلى هناك كثيرا؟» «ليس كثيرا بقدر ما أريد، صدقني. كانت ذاهبة إلى يوركشاير في اليوم التالي لجريمة القتل، ثم شعرت باستياء شديد لدرجة أنها لم تستطع الذهاب. والآن ذهبت إلى إيستبورن بدلا من ذلك، وأعتقد أنها ربما تبقى هناك مدة طويلة.» قالت للبائع المتجول: «لنر بضاعتك».
هز رأسه ناحية السلة. «ألقي نظرة بنفسك. أي شيء تريدينه يمكنك الحصول عليه بسعر رخيص. لقد مضى وقت طويل منذ أن تناولت شايا مثل هذا. ما قولك، أيها الجندي؟»
وافق زميله المتجول وهو يأخذ قضمة كبيرة من الكعك: «نعم. نادرا ما يملك الناس قلبا.»
حدقت بإعجاب بعض الوقت إلى المجموعة ذات الألوان الزاهية. وقالت: «حسنا، يفوت السيدة رؤية هذه الأشياء. فهي مهووسة بالتحف والأشياء الشبيهة التي تحمل الغبار. إنها مولعة بالفن.» قالت وهي تحمل الخنجر: «ماذا يفعل هذا؟ هل يقتل الناس؟»
قال البائع المتجول بدهشة: «ألم تري شيئا مثل هذا من قبل؟ هذه شفرة لفتح الرسائل. مثل الشفرات الخشبية.»
جربت السن دون تفكير على طرف إصبعها، وبرعشة صغيرة غريبة لاإرادية من الاشمئزاز، أعادته مرة أخرى. في النهاية اختارت وعاء صغيرا مطليا، عديم الفائدة تماما ولكن ذا شكل جميل. سمح لها البائع المتجول بالحصول عليه مقابل ستة بنسات، وامتنانا له أخرجت سجائر السيد راتكليف، وبينما كانا يدخنانها أنعشتهما بالحديث عن الشيء الذي من الواضح أنه يحتل مركز الصدارة في ذهنها - جريمة القتل. «كان لدينا هنا مفتش من الشرطة، إذا كنتما تصدقان ذلك. كان لطيف المظهر للغاية. لن تقول أبدا إنه كان شرطيا. فلم يكن فظا مثل رجال الشرطة. لكن على الرغم من ذلك، لم يكن وجوده هنا أمرا جيدا. بالطبع كان مرتابا، بسبب انفعالها بهذا الشكل وعدم رغبتها في رؤيته. لقد سمعت الآنسة ليثبريدج تقول لها: «لا تكوني غبية يا ميج. الطريقة الوحيدة لإيقافه هي رؤيته وإقناعه. عليك أن تفعلي ذلك.»
قال الرجل المنمش: «حسنا، إيستبورن مكان جميل. وسيكون لديها صحبة هناك لتنسى مشكلاتها.» «آه، إنها ليست من هواة الصحبة. دائما ما يكون لديها هوس بشخص أو آخر، ثم تقضي عليه وتحظى بشخص جديد. الصبيان، في كثير من الأحيان. إنها غريبة الأطوار.»
عندما بدأ حديثها في التكرار بدلا من تقديم المعلومات، وقف الرجل المنمش وقال: «حسنا، يا آنسة، لم أشرب مثل هذا الشاي منذ سنوات، وأنا ممتن لك حقا.»
قالت: «على الرحب والسعة. إذا أخذت بنصيحتي، فسوف تتخلى عن عمل دفاتر الكتابة. لا يوجد بها ميزة هذه الأيام. إنها قديمة الطراز. جرب أشياء مثل هذه هنا - أشياء جديدة يمكن بيعها في المتاجر في عيد الميلاد.»
سقطت نظرة الرجل المنمش ساخرا على الخنجر بين «سلع عيد الميلاد».
قال للبائع المتجول: «هل ستسير لأعلى الطريق أم لأسفله؟»
قال البائع المتجول: «لأعلى.» «حسنا، وداعا، سأذهب. شكرا جزيلا مرة أخرى على الشاي يا آنسة.» وأغلق الباب خلفه. بعد خمس دقائق، انصرف البائع المتجول.
قال: «لو كنت مكانك يا آنسة، لما كنت سخيا هكذا مع الشاي. هناك الكثير من الرفاق المحترمين على الطريق، ولكن هناك الكثير من النوع الآخر أيضا. ولا يمكنك أن تكوني شديدة الحذر عندما تكونين بمفردك في المنزل.»
سألت بغنج وبلا تأثر يذكر: «هل تغار من الرجل المنمش؟ لا داعي لذلك. فلم أشتر دفترا، كما تعلم.»
قال البائع المتجول، محبطا في نواياه الحسنة، «حسنا، حسنا»، وتباطأ في طريقه إلى البوابة.
بمحض الصدفة، وجد الرجل المنمش جالسا على المقعد الخارجي الأمامي بالحافلة التي استقلها.
قال ذلك الشخص المحترم بمرح: «حسنا؟ هل حظيت بيوم جيد يا صديقي؟»
قال البائع المتجول: «بشع . فقط بشع . كيف حالك أنت؟»
قال وهو يرى أن موقف الحافلات خلفهما كان مهجورا: «جيد. أليس هذا مذهلا يا لهؤلاء الفتيات من حمقى! يا إلهي، كان بإمكاننا قتلها وحمل كل شيء في المنزل، ولم يبد أن هذا قد خطر قط على بالها.» «قلت لها الشيء ذاته عند رحيلي، لكنها اعتقدت أنني أشعر بالغيرة منك.» «مني؟ يجب أن يكون العكس. فهي لم تشتر دفترا!» «هذا ما قالته.» «لديك بضاعة جيدة. هل يختارها رب العمل؟» «نعم.» «هذا ما اعتقدته. إنه ممتاز. ماذا يريد أن يكتشف هناك؟» «لا أعرف.» «لاحظت أن الفتاة لم تعجب بالشفرة.» «لا.» لم يكن البائع المتجول كثير الكلام.
لذا توقف الرجل المنمش من تلقاء نفسه.
وعلق: «طائر ثرثار!» وسحب سيجارتين من جيبه وعرض إحداهما على رفيقه. ألقى البائع المتجول نظرة فاترة على اسم الصانع وعرف أنها واحدة من سجائر السيد راتكليف. استرخت ملامحه الصارمة وابتسم.
قال: «استغلالي!» وأمسك سيجارته التي تتطابق مع تلك المعروضة.
ولكن لم يذكر مولينز وسيمبسون شيئا عن هذا الاستغلال في التقريرين اللذين قدماهما إلى جرانت بعد ساعة. قال سيمبسون إن السيد والسيدة راتكليف كانت تجمعهما علاقة ودية، يتخللها أوقات من الشجار الشديد. لم يكن سيمبسون قادرا على تحديد ما إذا كان الشجار قد بدأ بسبب عيوب السيد راتكليف أو بسبب استيائه من زوجته؛ لأن الخادمة لم تكن موجودة قط عند بداية أي شجار. فقد كانت تسمع من وراء باب مغلق عادة. وقد حدث الخلاف الأكبر عندما عادا إلى المنزل ليلة حدوث جريمة القتل. ومنذ ذلك الحين لم يكونا على وفاق. وكانت السيدة راتكليف قد نوت الذهاب إلى يوركشاير في اليوم التالي لجريمة القتل، لكنها كانت مستاءة للغاية لذا لم تتمكن من الذهاب؛ وبعد التحقيق، ذهبت هي وأختها إلى إيستبورن، حيث تمكث الآن في فندق جراند باراد. لقد كانت شخصا يتمتع بميول مفاجئة وعنيفة تجاه الآخرين، وخلال الوقت الذي كانت تحبهم فيه، كانت تصبح غير منطقية بشأنهم. كان لديها القليل من المال الخاص بها، وكانت مستقلة إلى حد ما عن زوجها.
قال مولينز إنه في المنزل رقم 98 واجه صعوبة في جعل السيدة إيفريت مهتمة بما يكفي للسماح له بفتح سلته. لقد أصرت على أنها لا تريد شيئا. وعندما كشف بضاعته، كان أول شيء لاحظته عيناها هو الخنجر. وألقت عليه على الفور نظرة يملؤها الشك وقالت: «ارحل!» وأغلقت الباب في وجهه. «ماذا تعتقد؟ هل تعرفت عليه؟»
لم يستطع مولينز أن يقدم إجابة عن السؤال، لكن رؤية الخنجر هي التي جعلتها تغلق الباب هكذا. كانت بصدد تقبله حتى رأت الخنجر. ولم تره الخادمة في شارع ليمونورا من قبل. وهذا ما كان على يقين بشأنه.
عندما أذن جرانت لمولينز بالانصراف، ووضع الخنجر في درجه مرة أخرى، جلس يفكر مدة طويلة. كان هذا يوما مشئوما. لم يكن هناك اعتقال - على الرغم من أنه كان يميل إلى التفكير في ذلك الأمر على أنه نعمة ونقمة في آن واحد - كان هناك الاكتشاف المذهل أن سوريل كان من المفترض أن يذهب حقا إلى أمريكا، ولم يكن هناك أي أثر للأوراق النقدية التي سلمت إلى لامونت مع ما تبقى من المائتين والثلاثة والعشرين جنيها، التي أرسل منها الصديق المجهول الخمسة والعشرين جنيها. لقد مرت سبعة أيام على جريمة القتل، وسلمت الأوراق النقدية قبل ذلك، ولم يعثر على أدنى أثر لها، باستثناء الخمسة والعشرين جنيها التي كانت بحوزتهم. علاوة على ذلك، لم يجلب مستطلعاه أي شيء ذي أهمية. ولا يمكنه بأي حال من الأحوال تفسير العلاقة بين السيدة راتكليف وسوريل. كان يميل إلى الاعتقاد بأن صدفة هي التي وضعت اسميهما معا في قائمة ركاب السفينة ووضعتهما معا في صف الانتظار. إن صدمة زوجها عندما ذكر جرانت الرحيل إلى نيويورك ربما كانت مجرد نتيجة لتذكر أنه أغفل إخبار المفتش برحيل زوجته المعتزم. أما بالنسبة إلى السيدة إيفريت، فإن انسحابها المفاجئ كان ينم أكثر عن ذكائها وليس عن شعورها بالذنب. قال مولينز إنها نظرت إليه بريبة. لم تحاول الخروج من الموقف بعجرفة بتجاهل الخنجر أو عن طريق لفت الانتباه إليه باستهتار. كانت مرتابة فقط. لذا قرر منح السيدة إيفريت مزيدا من العلامات من أجل ذكائها وتبرئتها من التواطؤ في ارتكاب الجريمة. أما بالنسبة إلى آل راتكليف، فسوف يخرجهما مؤقتا. فهما لا يتناسبان مع الأمر، ولم يكن هناك دليل. وغالبا ما تتناسب الأشياء مع قناعة الشرطة عندما لا يوجد دليل على الإطلاق، ولكن هنا الأشياء غير مناسبة وغير مدعومة بالأدلة؛ ومن ثم يجب أن تنحى جانبا. في الوقت الحالي، سيكتشف سبب إخبار السيدة راتكليف لخادمتها بأنها ذاهبة إلى يوركشاير عندما كانت تنوي السفر إلى الخارج.
رن الهاتف. التقط جرانت السماعة بشغف لم يكن يدركه. كان ويليامز. «لقد حددنا مكانه، يا سيدي. هل تود المجيء أم نواصل عملنا؟»
قال له ويليامز: «أين المكان؟ هل أمنت جميع المخارج؟ هل توجد أي فرصة للفشل إذا انتظرنا قليلا؟» «أوه، لا يا سيدي. لقد تمكنا منه تماما.» «في هذه الحالة قابلني عند نهاية شارع بريكستون من ناحية زقاق أكر لين بعد نصف ساعة.»
عندما انضم إلى مرءوسه، سأل عن التفاصيل، وقدمها له ويليامز وهما يمضيان قدما. لقد وجد رجله من خلال سماسرة المنازل. كان لامونت يشغل شقة مفروشة في طابق علوي - غرفتان صغيرتان - قبل ثلاثة أيام من جريمة القتل، وانتقل إلى هنا في اليوم الفعلي للجريمة، في الصباح.
نعم، اعتقد جرانت أن ذلك يناسب قصة السيدة إيفريت. سأل: «ما الاسم الذي أطلقه على نفسه؟».
قال ويليامز: «اسمه.» «ماذا! اسمه؟» كرر جرانت غير مصدق، وكان صامتا ومضطربا بشكل غامض. «حسنا، لقد أبليت بلاء حسنا، ويليامز، للوصول إليه بهذه السرعة. طائر جبان، أليس كذلك؟»
قال ويليامز بتأكيد: «إنه كذلك. حتى الآن لم أتمكن من الحصول على أي شخص قال إنه رآه. إن «جبان» هي أفضل كلمة لوصفه. ها قد وصلنا يا سيدي. المنزل هو الرابع في الصف من هنا.»
قال جرانت «حسنا. أنا وأنت سوف نصعد. هل لديك مسدس في جيبك؛ تحسبا لأي أمر؟ حسنا، هيا بنا.»
لم يكن لديهما مفتاح الباب الخارجي للمنزل، ويبدو أنه لم يكن هناك جرس للطابق الثالث. لذا اضطرا إلى قرع جرس الطابق الأرضي عدة مرات قبل أن يأتي سكانه متذمرين لمساعدتهما وإدخالهما. بينما كانا يصعدان السلالم المتهالكة بشدة في آخر ضوء من النهار، ارتفعت معنويات جرانت، كما كانت تفعل دائما في مرحلة الإثارة. لن يكون هناك المزيد من التسكع في الأرجاء. كان على وشك مواجهة الشامي، الرجل الذي رآه في شارع ستراند، الرجل الذي طعن سوريل في ظهره. طرق الباب فجأة في الظلام. بدت الغرفة الواقعة خلفه جوفاء وفارغة؛ لم يكن هناك جواب. طرق جرانت مرة أخرى، دون جدوى. «من الأفضل لك أن تفتح الباب، لامونت. نحن ضباط شرطة، وإذا لم تفتح الباب فسنضطر إلى فتحه بالقوة.»
لا يزال الصمت التام يخيم على المكان. سأل جرانت ويليامز: «هل أنت متأكد من أنه هنا؟». «حسنا، لقد كان هنا أمس، يا سيدي، ولم يره أحد منذ ذلك الحين. المنزل تحت المراقبة منذ الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم.»
قال جرانت: «إذن سنكسر القفل، ولا تنس أن تبتعد عن الباب عندما ينفتح.» هاجما الباب بوزنهما المشترك، وانتهى الصراع غير المتكافئ بتحطم متأوه، ودخل جرانت إلى الغرفة، ويده اليمنى في جيبه.
اكتشف الحقيقة بإلقاء نظرة سريعة حوله، وفجأة عرف أنه منذ وصوله إلى الرواق بالخارج كانت الشقة فارغة. «لقد هرب الطائر، ويليامز. لقد فقدناه.» كان ويليامز يقف في منتصف الطابق، وعلى وجهه تعبير طفل أخذت منه قطعة حلوى. ابتلع ريقه بصعوبة، وحتى في خضم خيبة أمل جرانت، وجد الوقت ليأسف عليه. لم يكن خطأ ويليامز. لقد كان واثقا جدا أكثر مما ينبغي، لكنه أحسن صنعا بتحديد مكان الرجل بهذه السرعة.
قال ويليامز: «حسنا، لقد غادر مسرعا، يا سيدي»، كما لو أن تلك الحقيقة كانت ملطفة لألم خيبة أمله وكبريائه المجروحة. وبالتأكيد كان هناك كل دليل على الاستعجال. فقد ترك الطعام على المائدة، وكانت الأدراج نصف مفتوحة ومن الواضح أنها فتشت بدقة، والملابس متروكة، بالإضافة إلى العديد من الممتلكات الشخصية. لم يكن فرارا مخططا له ، لقد كان هروبا.
قال جرانت: «سنفتش ما تركه وراءه. وسأبحث عن بصمات الأصابع قبل أن نضطر إلى إضاءة المصابيح. يبدو أنه لا يوجد شيء للإضاءة سوى المصباح.» دار حول الغرفتين بمسحوقه الخفيف، ولكن كان هناك القليل من الأسطح في الشقة التي من المحتمل أن تظهر عليها البصمات واضحة وجلية، وكانت تلك الأسطح مغطاة بالبصمات لكي تصبح دون جدوى. ولكن في مكان مرتفع إلى حد ما على خشب الباب المصقول، حيث ترتاح اليد اليسرى للشخص بينما تأخذ يمناه معطفا من الشماعات المثبتة هناك، كانت هناك بصمتان جيدتان. شاعرا بقليل من التعزية، أضاء جرانت المصباح وفتش في الأشياء التي تركها لامونت وراءه. وجذبه إلى غرفة النوم هتاف ويليامز هناك. كان ويليامز يحمل رزمة عملات ورقية من بنك إنجلترا. «لقد وجدتها في الجزء الخلفي من هذا الدرج، يا سيدي. لقد ذهب حقا على عجل من أمره!» كان البلسم يتدفق على روح ويليامز المسحوجة. «لا شك أنه غاضب من نفسه الآن!»
لكن جرانت كان يبحث في محفظته، وأخرج على الفور قائمة بالأرقام، قارنها بتلك الموجودة على الأوراق النقدية. نعم، لم يكن هناك شك في ذلك؛ فهذه هي النقود التي سحبها لامونت بالشيك الذي كان بحوزته من سوريل. وكان لامونت مسرعا في هروبه لدرجة أنه نسي شيئا مهما للغاية كهذا. كان هناك المبلغ كاملا، باستثناء الخمسة والعشرين جنيها المرسلة لدفن سوريل. كان ذلك غير عادي إلى حد ما. لماذا لم ينفق الشامي، كما لا يزال يعتقد جرانت، شيئا من المبلغ في الأيام العشرة التي تفصل بين وقت استلامه وجريمة القتل؟ لم تكن هناك حاجة إلى الخوف إذن بالتأكيد. كانت قيمة النقود كبيرة، لكن ذلك لم يكن تفسيرا. كان الرجل قد سحب الأموال بنفسه، وكان بإمكانه الحصول على المبلغ بالكامل في شكل سندات خزانة إذا كان يريد ذلك. لماذا لم ينفق شيئا منها؟
لم يكن هناك شيء آخر تقريبا في الشقة يثير اهتمامهما. اعتقد جرانت وهو ينظر إلى صف الكتب الذي زين رف الموقد أن الرجل يتمتع بذوق كاثوليكي في الأدب: ويلز، وأو هنري، وبوشان، وأوين ويستر، وماري روبرتس رينهارت، وقصائد ساسون، والعديد من مجلدات الطبعات السنوية للنشرة الدورية الرياضية «راسينج أب تو ديت»، ورواية باري «القس الصغير». أنزل واحدا وفتحه. على الورقة الفارغة في بداية الكتاب، بنفس الخط الذي رآه على الشيك في البنك، كان اسم المالك: ألبرت سوريل. أنزل الكتب الأخرى واحدا تلو الآخر. كانت جميعها تقريبا تنتمي إلى سوريل. من الواضح أن لامونت قد ورثها من سوريل عند مغادرته إلى الولايات المتحدة. إذن حتى اللحظة الأخيرة، كان هذان الرجلان ودودين. ماذا حدث؟ أم أنها مجرد صداقة سطحية؟ هل كان لامونت دائما صديقا خائنا في الخفاء؟
والآن ظهرت المشكلة الجديدة لمكان اختباء لامونت الحالي. إلى أين سيذهب على الأرجح؟ كان في عجلة من أمره - في عجلة يائسة. لم يكن الأمر مخططا له. هذا يعني أنه ربما كان عليه أن يهرع إلى أي ملجأ جاء في طريقه. لم تكن هناك حاجة لهما إلى التفكير في أي احتمال مثل الهروب إلى الخارج في تخف مدروس. لم يفعل ذلك بالتأكيد. يكاد يكون من المؤكد أنه لم يخرج من لندن. كان، كما قد فعل من قبل، سيبقى مثل الفأر في المكان الذي يعرفه.
أوصى جرانت باستمرار البحث تماما كما كان من قبل، وعاد إلى سكوتلانديارد محاولا تخيل نفسه في مكان الرجل المطلوب؛ على أمل استنتاج طرف خيط عملية هروبه. كان الوقت متأخرا جدا في الليل، وكان مرهقا جدا، عندما اكتشف أخيرا شيئا عن القضية. أرسلت إليه صور البصمات التي وجدها على الباب، وكانت البصمات للسيدة إيفريت! لم يكن هناك شك في ذلك. هذه السبابة التي تركت علامة في الجزء الخلفي من صورة سوريل في الغرفة الصغيرة في برايتلينج كريسينت كانت تنتمي إلى اليد التي كانت تتكئ على الباب في محاولة للوصول إلى شيء ما في غرفة لامونت. السيدة إيفريت. يا إلهي! حدثني عن الأشخاص الغدارين! على جرانت أن يتقاعد حقا. لقد وصل إلى مرحلة الثقة بالناس. لقد كان أمرا لا يصدق ومهينا، لكنه كان يعتقد أن السيدة إيفريت كانت صريحة معه. وكان وضعه لرجل يراقبها هو أبسط ما يمكن فعله. حسنا، لقد كان حظا عاثرا، لكن لديه الآن طرف خيط للعثور على لامونت. سيحصل عليه من خلال السيدة إيفريت. لم يشك لحظة في أن المعلومات التي قدمتها السيدة إيفريت هي التي دفعت لامونت إلى الهروب. ربما كانت قد توجهت إليه مباشرة بعد أن تركها مساء أمس. لقد ذهبت قبل وصول المراقب، لكن كان يجب أن يراها تعود؛ يجب النظر في ذلك الأمر؛ كان أندروز مهملا. وعلى الأرجح أنها إما اقترحت مكان الاختباء الجديد أو وفرته. لم يكن يعتقد أن امرأة بذكائها ستكون غبية بما يكفي للاعتقاد بأنها يمكن أن تخفي لامونت في برايتلينج تيراس؛ لذلك كان عليه الآن أن يكتشف كل شيء عن السيدة إيفريت وجميع فروع عائلة إيفريت. كيف يفعل ذلك؟ ما أفضل طريقة للتعامل مع امرأة من نوع السيدة إيفريت المحاطة بالخنادق والقلاع؟ لن يفلح موضوع الباب الخلفي، على أي حال. فمن الواضح أنها لم تكن من النوع الذي يثرثر على الباب، والآن هي حذرة جدا. كان هذا الجهد المبذول لدفعها لإظهار مشاعرها عديم الجدوى وغير حكيم. ربما كان يعلم أنها لم تكن المرأة التي ستفصح عن أي شيء في محادثة في الباب الخلفي. حسنا ما العمل إذن؟ وسط أي مجتمع، وفي أي مناسبة، إن وجدت، ستتخلى السيدة إيفريت عن تحفظها؟ لقد تصورها في بيئات مختلفة، ووجدها غريبة على الدوام. ثم فجأة راودته فكرة. الكنيسة! أعلنت المرأة بصوت عال أنها عاملة بالكنيسة. كانت تحظى باحترام كبير من قبل كل المصلين، لكنها لم تحظ بشعبية إلى حد ما لأنها كانت تحتفظ بخصوصيتها لنفسها، وهي صفة محبوبة بعض الشيء من قبل الأعضاء الجادين في حفلات العمل وما شابه ذلك من الأنشطة المسيحية الذين، بعد أن قدموا خبرا بسيطا مثل شائعة عن إفلاس بين الحشد، يتوقعون أن يقدم لهم في المقابل خبر مفصل وممتع. «الكنيسة» تعرفها، وبما أنها بالتأكيد لم تكن ذات شعبية كبيرة، فإن رفاقها المصلين سيكونون أكثر استعدادا للتحدث عنها.
عندما أغمض جرانت عينيه لينام، كان بصدد اتخاذ قرار بشأن من سيرسل للتحقيق بشأن السيدة إيفريت.
الفصل العاشر
الهروع إلى الشمال
قال جرانت: «سيمبسون، ماذا كنت بالأمس عندما كنت تجمع معلومات عن آل راتكليف؟» «لقد كنت جنديا سابقا يبيع دفاتر كتابة، يا سيدي.» «أوه، حسنا، يمكنك أن تكون جنديا سابقا مرة أخرى اليوم. محترما للغاية، نظيفا، ترتدي معطفا بياقة، وليس وشاحا، وعاطلا عن العمل. أريد أن أعرف عن السيدة إيفريت التي تعيش في المنزل رقم 98 في برايتلينج كريسنت، قبالة شارع فولام. لا أريد أي عمل خاص ببيع السلع. إنها ليست من ذلك النوع، ويجب أن تكون حذرا للغاية. تبدو كأنها من رواد الكنيسة. جرب ذلك. أعتقد أنك ستجد ذلك مفيدا. فباستثناء النادي، هي المجتمع الأكثر ثرثرة الذي أعرفه. وقبل كل شيء، أريد أن أعرف أين يعيش أصدقاؤها وأقاربها. لا تهتم بمراسلاتها. يمكنني مراقبة ذلك بنفسي، وعلى أي حال، لدي فكرة أنه من غير المحتمل أن يكون ذلك مفيدا. فالسيدة إيفريت ليست ساذجة. ضع ذلك في رأسك وتذكره. لا تعمل أسرع مما تستطيع بأمان. إذا اكتشفتك، فهذا يعني أنه سيتعين على شخص آخر تولي زمام الأمور، مما سيفسد مسار التحقيق الواعد. وفي اللحظة التي تحصل فيها على شيء ما، أخبرني، لكن لا تعد إلى هنا حتى تتحدث معي عبر الهاتف أولا.»
كانت هذه هي الطريقة التي أدرك بها السيد كالديكوت، كاهن كنيسة برايتلينجسايد الأبرشية، وهو يدفع بهدوء جزازة العشب التي رفضت المضي قدما عند العشب القاسي في حديقته الأمامية مستمتعا بشمس شهر مارس التي كانت تنشر أشعتها في كل مكان، أن شخصا غريبا كان يشاهد عمله بمزيج غريب من التعاطف والحسد. ولما رأى الغريب أنه قد اكتشف أمره، حرك قبعته على نحو غير ملائم، في احترام واضح للكاهن، وقال: «هذا عمل شاق في يوم مثل هذا، يا سيدي. هل تسمح لي بمساعدتك؟»
كان الكاهن شابا ومولعا جدا بإظهار عدم ترفعه عن القيام بالأعمال اليومية. سأل بابتسامة أخوية قوية: «هل تعتقد أنني غير قادر على القيام بعمل مثل هذا بنفسي؟» «أوه، لا يا سيدي. الأمر ليس كذلك على الإطلاق. كل ما هنالك أنني سأكون سعيدا جدا لكسب قطعة نقدية نحاسية أو قطعتين مقابل القيام بذلك من أجلك.»
قال السيد كالديكوت، بعدما أثيرت غرائزه المهنية: «حقا؟ هل تبحث عن عمل؟»
قال الرجل: «هذا كل ما في الأمر. هل أنت متزوج؟» «لا يا سيدي.» كان سيمبسون على وشك إضافة شكر ورع، لكنه أوقف نفسه في الوقت المناسب. «ما نوع العمل الذي تبحث عنه؟» «أي شيء.» «حسنا، ولكن هل لديك مهنة؟»
قال سيمبسون معتقدا أنه قد يتمسك بالحقيقة بقدر ما تفيده: «يمكنني صنع أحذية يا سيدي.» «حسنا، ربما يكون الأمر أكثر منطقية إذا قمت أنت بجز العشب واهتممت أنا بمهام أخرى. ادخل وتناول الغداء معي في الساعة الواحدة.»
لكن هذا لم يكن على الإطلاق ما أراده سيمبسون. المطبخ كان هدفه، وليس محادثة الكاهن في غرفة الطعام. وبارتباك بارع، استدار مترددا من الجزازة التي كان قد وضع عليها يديه المتحمستين بالفعل، وقال متلعثما: «إذا كان الأمر لا يشكل فارقا بالنسبة إليك، يا سيدي، فأنا أفضل تناول الطعام في المطبخ. كما ترى - أنا لست معتادا على النوع الآخر.»
بدأ السيد كالديكوت كلامه في دعم أخوي: «تعال، تعال»، وكاد سيمبسون، خوفا من فقدان فرصته في الحصول على ثرثرة ثمينة، أن يصطدم بالرجل المبجل.
قال بقدر كبير من الإقناع في نبرة صوته، لدرجة أن الكاهن أفسح المجال له: «أرجوك يا سيدي، إذا كنت لا تمانع ...»
قال ببعض الحدة: «حسنا، حسنا» ولم يظهر اتساع الأفق وروح الأخوة الحقيقية ولم يأخذهما بعين الاعتبار. «إذا كنت تفضل ذلك حقا.» ذهب بعيدا، ولكنه عاد بعد وقت قصير، وبحجة الاستماع إلى تاريخ سيمبسون - صنف زائره على نحو غير أخوي على الإطلاق باعتباره زميلا محترما للغاية - ظل في المكان حتى وقت الغداء، يثرثر بمرح حول الأشياء التي يهتم بها. تحدث عن الحرب - لقد كان قسا للقوات في روان - وعن الشتلات، وسخام لندن، وجلد الأحذية - وهذا الأخير بوصفه ذا أهمية محتملة لمستمعه - والصعوبة التي واجهها في إقناع الشباب بالقدوم إلى الكنيسة. عندما وجد سيمبسون أن خطبته الأخيرة قد أثبتت بشكل قاطع أن الرب لا يوافق على الرهان، وأن أولئك الذين راهنوا ارتكبوا خطيئة في حق أنفسهم، وفي حق إخوانهم، وفي حق الله، لم يفاجأ على الإطلاق من ندرة أتباع السيد كالديكوت من الشباب.
قال السيد كالديكوت: «بما أنك شاب. هل يمكن أن تخبرني لماذا لا يحب الشباب الكنيسة؟» لكن لم يكن لدى سيمبسون نية لمغادرة منزل الكاهن قبل المساء إذا كان بإمكانه فعل ذلك؛ لهذا امتنع عن الإجابة، واكتفى بهز رأسه بأسف للإشارة إلى استنكاره الحزين. وعلمه بالنصف كراون الأسبوعي الذي ذهب لإثراء وكلاء المراهنات بدلا من مديري الإمبراطورية المحلية؛ جعله يهاجم عمله بحماس جديد، لكنه كان سعيدا عندما سمع صوت جرس في المنزل وصرفه الكاهن بمباركته للباحة الخلفية. وكان أهم من أي وجبة لسيمبسون متابعة الأمر الذي جاء من أجله.
وللكاهن - الذي علم أنه أكثر العزاب المرغوب فيهم - خادمتان: مدبرة منزل طاهية و«مساعدة شخصية»، تبدو تماما مثل كل خادمة تظهر في المسرح والسينما. لقد سرهما الترحيب بمثل هذا الرجل الأنيق على مائدتهما، وفي الساعة التي أخذها لتناول وجبته، تعلم سيمبسون المزيد عن ضواحي الطبقة الدنيا أكثر مما كان يعرف طوال حياته التي قضاها فيها. ولكن بعدما سمع أن السيدة إيفريت كانت أرملة متكبرة متغطرسة لأن والدها كان كاهنا، لم يتعلم شيئا يريد أن يعرفه. عندما سأل عما إذا كان والدها كاهنا هنا، قالتا أوه، لا، لقد كان في مكان ما في الشمال. مكان صغير، قد يكون متأكدا من ذلك. وظنت الطاهية أن السيدة إيفريت حضرت جميع اجتماعات الكنيسة وما شابه ذلك، ليس لأنها كانت حريصة على الكنيسة، ولكن فقط لتذكر الجميع أن والدها كان كاهنا. مفكرا في هذا التوضيح اللافت حقا للدافع البشري، عاد سيمبسون إلى الحديقة لاستئناف الجز الذي كان على وشك الانتهاء، وبعد وقت قصير انضم إليه الكاهن مرة أخرى. كانوا سيعقدون اجتماعا اجتماعيا في قاعة الكنيسة ذلك المساء - هل سيهتم سيمبسون بالمجيء؟ شكره سيمبسون، وقال بصدق إنه سيسعد لذلك. في تلك الحالة كانت هناك كراسي ومثل هذه العوائق التي يجب حملها من الكنيسة إلى قاعة الكنيسة - فهل سيرغب سيمبسون في المساعدة؟ إذا نزل بعد تناول الشاي، فسيجد لجنة السيدات تستعد للحدث. كانت لجنة السيدات هي أكثر شيء أراد سيمبسون مقابلته في الوقت الحالي، وأعرب مرة أخرى عن استعداده الكامل، وغادر الكاهن.
ذهب سيمبسون إلى الكنيسة بعد ظهر يوم من تشذيب الحواف والنميمة بالتناوب مع الطاهية و«المساعدة الشخصية»، التي اختلقت أعذارا للمجيء والتحدث معه دون أن تهتم على ما يبدو بما إذا كان يصدق الأعذار أم لا، وشاي المطبخ الذي، رغم أنه أكثر إنتاجية من اليوم السابق في شارع ليمونورا، افتقر إلى النكهة التي كان يوفرها وجود زميله. وكانت الكنيسة التي قد حدد موقعها بالفعل عبارة عن مبنى من الطوب الأحمر بشعا للغاية، لدرجة أنه كان من الصعب تصديق أن ذلك كان غير مقصود. كان اللون البني المصفر والأزرق الصافي للنوافذ ذات الزجاج الملون يغطيه بلطف الآن الغسق المعطاء، لكن المساء كان له رعب خاص في قاعة الكنيسة ذات الإضاءة الساطعة، حيث كانت هناك امرأتان أو ثلاث يندفعن مثل الدجاج بلا هدف وبكل حماس، يتحدثن كثيرا ويحققن القليل، حيث لم تفعل أي منهن شيئا دون أن تقترح إحداهن تعديلا، مما يؤدي إلى قيام اللجنة على الفور بعقد جلسة. لقد تجاوز أمد نقاشاتهن حدود صبر الرجل العادي بسبب إذعانهن المستمر وغير الصادق لبعضهن البعض، وبعد أن شاهدهن سيمبسون من الباب مدة قصيرة، تماما كما شاهد جهود السيد كالديكوت مع جزازة العشب، تقدم إلى الأمام ببطء، حاملا قبعته في يده، ولفت الانتباه إلى نفسه. قالت إحداهن: «هل تبحث عن شخص ما؟» وأوضح أن السيد كالديكوت أرسله للمساعدة. لقد حقق نجاحا فوريا. في الواقع، لقد كان مرغوبا فيه بشدة لدرجة أنه بدأ يشعر بسعادة مفرطة، وهي حالة ذهنية لا علاقة لها بعضو من إدارة التحقيقات الجنائية، التي انتهت فجأة عندما التقى في وقت لاحق من المساء بمنافسيه. أبلغ مولينز عنهن بعد ذلك سرا، مستخدما عبارات تصويرية يؤسفني أنه لا يمكنني كتابتها، لكنها لم تترك مجالا للشك في ذهن مولينز فيما يتعلق بنوع الرجال الذين حضروا «حفلة السمر» تلك. إجمالا، كان سيمبسون يشعر بالمرارة حيال تلك الأمسية، على الرغم من عدم فهمي لسبب ذلك. كان شعره الأحمر الفاتح والنمش جواز سفره للسعادة - لا يمكن لأحد أن يقاومهما؛ فذلك اللون الزهري الذي كان يزين المواقف الصعبة - كان مثل لون توت العليق، بلمسة قرمزية - لم يؤذه على الأرجح كما قد يؤذي أرواحا أكثر حساسية؛ فقد كان حتى الآن أكثر الرجال الموجودين شعبية، وقد حصل على العديد من المعلومات التي جاء ليبحث عنها وينتظر أن يبلغ عنها. ولكن تظل الحقيقة أنه عندما انتهت الحيلة وقال له مولينز: «الرئيس مسرور بك بشأن برايتلينج كريسنت»، علا وجه سيمبسون اللطيف سخرية لا تتماشى مع الشعر الأحمر والنمش، وقال مزمجرا، نعم مزمجرا: «حسنا، لقد كدحت من أجل ذلك!»
انتهت «حفلة السمر» في وقت متأخر جدا في الساعة العاشرة إلا الربع، وساعد سيمبسون اللجنة مرة أخرى في لعب لعبة الأخذ من شخص لإعطاء الآخر، ثم «رافق إلى المنزل» أكثر النساء ثرثرة التي كانت لطيفة معه. لذلك في صباح اليوم التالي، أجرى جرانت مقابلة معه وسمع كل ما كان من المفترض أن يعرفه عن السيدة إيفريت.
السيدة إيفريت كانت اسكتلندية. فسر افتقارها إلى اللهجة من خلال حقيقة أنها كانت في لندن لمدة 25 عاما، وأنها جاءت أصلا من الساحل الغربي. كان والدها قسا في كنيسة وي فري «كنيسة اسكتلندا الحرة» في قرية على الساحل الغربي لمقاطعة روس، والآن أصبح شقيقها قسا هناك. كان اسمها لوجان. لقد كانت أرملة منذ 15 عاما وليس لديها أطفال. لم تكن تحظى بشعبية كبيرة لأنها احتفظت بأمورها لنفسها، لكنها كانت تحظى باحترام كبير. حتى حقيقة أنها تركت شقتها لاثنين من وكلاء المراهنات لم تكن كافية لتحط من قدرها في عيون كنيسة برايتلينجسايد الأبرشية. لقد ذهب سوريل لها عند خروجه من الجيش، ولم يكن حينها وكيل مراهنات؛ لذلك ربما تم إعفاؤها من أي تهمة بشأن اختيار الفساد عمدا كساكن. لم يكن الرجلان معروفين شخصيا لأي من مرتادي الكنيسة. لقد نظر إليهما من بعيد، كما فهم جرانت، باعتبارهما مجذومين أخلاقيا بلا منازع، ولكن يبدو أن موضوعهما يتمتع بهذا الانجذاب الذي لا يفقد سحره أبدا، ويمتاز به الشر الشامل مقابل الفضيلة، ولم يتم إخفاء أي تفصيلة من حياتهما عن الأشخاص الذين من المؤكد أن الرجلين لم يعرفاهم شكلا. والرجلان، كما قالت السيدة إيفريت - التي اعتقد جرانت أنها لن تكذب بشأن شيء يمكن التحقق منه! - ذهبا إلى كل مكان معا. لم يكن لدى أي منهما «فتاة». كان كلاهما ذكيين للغاية وفقا لمعايير برايتلينجسايد، ووفرت لهما السيدة إيفريت كل ما يحتاجان إليه. لم يعرف أحد أي أقارب للسيدة إيفريت في لندن، لكنها عادة ما تذهب إلى اسكتلندا مرة واحدة في السنة، وإذا كان سكانها موجودين، فكانت تعين شخصا ما لرعايتهم مقابل أجر.
عندما خرج سيمبسون من الغرفة ومعه حضوره اللامع، أرسل جرانت إلى الرجال الذين كانوا في الخدمة في كينجز كروس ويوستون ليلة الإثنين، وطلب منهم وصف المشتبه بهم الذين استجوبوهم. توقف عند قصة الرجل في كينجز كروس عن شاب مع والدته. قال: «صف الأم»، وفعل الرجل ذلك بدقة تامة. «ألم يكن هناك أشياء أخرى محتملة على متن هذا القطار؟»
قال الرجل أوه، نعم، عدة أشياء. لقد استنتج بمرارة أن الموطن الأصلي للرجال النحيفة ذوي البشرة الداكنة وعظام الوجنتين البارزة يجب أن يكون شمال اسكتلندا. فقد اندفعا نحو جميع القطارات المتجهة شمالا. «ما الذي جعلك تعتقد أنه ليس الرجل الذي تريده؟» «طريقته يا سيدي. وطريقة المرأة. وكانت حقيبته على الرف، والأحرف الأولى عليها من الخارج ليراها أي شخص - جي إل. وكان بحوزته حقيبة جولف، وبدا بشكل عام مستريحا للغاية.»
فكر جرانت: أحسنت صنعا يا سيدة إيفريت! لم يكن الرجل الذي ترك الأوراق النقدية في الدرج هو الذي فكر في حقيبة الجولف. وتساءل عما إذا كان ترك الحقيبة على هذا النحو متعمدا. كان لا يكاد يستطيع أن يصدق أن بإمكان أي شخص المخاطرة بلا داع بنجاح الموضوع بأكمله مقابل مثل هذه الخدعة الهائلة. الأرجح أن الأمر كان مصادفة.
أين كان ذاهبا؟
لم تكن هناك ملصقات على أمتعته، لكن محصل التذاكر قال إنه ذاهب إلى إدنبرة.
لم يستغرق جرانت وقتا طويلا في معرفة وجهة لامونت المحتملة. لم يكن هناك الكثير ممن يحملون الاسم لوجان في كنيسة اسكتلندا، ولم يكن هناك سوى كنيسة واحدة في مقاطعة روس-شاير. كان قسا للكنيسة الحرة المتحدة في كارنينيش - بعد أن خالف بشكل واضح إيمان آبائه الصارم - وكانت كارنينيش قرية على رأس بحيرة على الساحل الغربي للمقاطعة.
ذهب جرانت إلى باركر وقال: «أنا ذاهب للصيد في اسكتلندا يوما أو يومين.»
قال باركر، الذي عرف كل شيء عن الاعتقال الذي كان قد أخفق فيه: «هناك أماكن مريحة أكثر من اسكتلندا لإخفاء شعورك بالخزي.» «ربما يكون الأمر كذلك، لكن الصيد هناك ليس جيدا. هذا هو عنواني التقريبي. سيكفيني يومان، أتوقع ذلك.» «هل ستأخذ أحدا معك؟» «لا.» «أعتقد أنه من الأفضل لك أن تأخذ أحدا معك. فكر لحظة كيف يكون رجل الشرطة الريفي بالمناطق الجبلية.» «يمكنه دائما صيد السمك بيده، لكنني لا أعتقد أن الأمر سيصل إلى ذلك الحد. ومع ذلك، قد أريد شخصا ما ليأخذ السمك إلى لندن.» «حسنا. متى ستذهب؟» «سأذهب نحو الساعة السابعة والنصف من كينجز كروس الليلة، وسأكون في إنفرنيس قبل العاشرة صباح الغد. بعد ذلك سأبلغك.»
قال باركر: «حقا! أتمنى لك صيدا جيدا! لا تتعثر في خطاطيفك.»
أمضى جرانت وقتا طويلا في الترتيب لمتابعة البحث أثناء غيابه. لم يكن لديه ما يضمن أن الرجل الذي ذهب إلى كارنينيش هو لامونت. كان يلاحق المشتبه به بنفسه لأنه كان الرجل الوحيد من بين الباحثين الذي رأى الشامي بالفعل. لكن البحث في لندن سيستمر كالمعتاد. قد يكون السفر إلى كارنينيش كله خدعة كبيرة. كان جرانت يكن للسيدة إيفريت احتراما كبيرا.
بينما كان يجهز معدات الصيد الخاصة به ويبحث عن ملابسه القديمة، جاءت السيدة فيلد حاملة معها شطائر ومشاعر مواساة، وشعر جرانت بعدم ملائمة كل منهما للموقف. ورفض الشطائر بحجة أنه سيحصل على عشاء جيد جدا في القطار وإفطار جيد جدا، مرة أخرى في القطار، في الصباح.
قالت: «نعم؛ هذا كله جيد جدا، ولكنها ستكون ليلة طويلة. أنت لا تعرف أبدا اللحظة التي ستستيقظ فيها جائعا وستكون سعيدا بالشطائر حتى لو كان ذلك فقط لتمضية الوقت. إنها محشوة بالدجاج، ولا تعرف متى سيكون لديك دجاج مرة أخرى. إن اسكتلندا دولة فقيرة للغاية. الرب وحده يعلم ما سيتسنى لك الحصول عليه لتأكله!»
قال جرانت إن اسكتلندا في الوقت الحاضر تشبه إلى حد بعيد بقية بريطانيا، لكنها أكثر جمالا.
قالت السيدة فيلد وهي تضع الشطائر بحزم في حزام الغطاء: «لا أعرف شيئا عن الجمال، لكنني أعلم أن إحدى قريباتي كانت تعمل خادمة هناك بمجرد ذهابها إلى موسم الفعاليات الاجتماعية مع قومها من لندن، ولم يكن بإمكانها رؤية منزل، ولا حتى شجرة، في الريف بأكمله إلا منزلهم الخاص. ولم يسمع السكان الأصليون قط عن كعك الشاي، وكانوا يطلقون على الكعك المسطح المدور اسم «سكونز».»
قال جرانت، وهو يطوي بلطف في حقيبته أقدم سروال عنده مصنوع من الصوف الخشن: «يا لهم من همج!»
عندما كان القطار ينطلق خارج محطة كينجز كروس، جلس لتأمل خريطة مسح لمنطقة كارنينيش مقياسها بوصة واحدة. إن تأمل خريطة مرة أخرى منحه شعورا لطيفا. كانت هناك إثارة مميزة في مطاردة رجل في أرض ريفية مكشوفة. لقد كان الأمر أكثر بدائية وأكثر إنسانية، وأقل ميكانيكية من الآلات التي لا روح فيها والتي مدت وأراحت مجسات صلبة صامتة على ضفة نهر التيمز. كانت مواجهة لرجل ضد رجل. لن يكون هناك هاتف إلا في أحد مكاتب البريد. ولن يكون هناك أي استدعاء للقوات الاحتياطية لمنع أي شخص من الهروب. إنه ذكاؤك ضد ذكائه وربما سلاحك ضد سلاحه. لكن جرانت كان يأمل ألا تتطور الأمور إلى ذلك الحد. فتقديم رجل ميت إلى العدالة لن يضيف سوى قدر قليل من الرضا. والشرطة، على أي حال، لا ترحب بأساليب محققيها المختصرة. لذا كان عليه أن يفعل ذلك بهدوء. ومع ذلك، كان متأخرا بيومين فقط. ولا يمكن أن يصل الرجل إلى وجهته قبل الليلة الماضية. وكلما طالت مدة استقراره، قلت شكوكه. في البداية كانت كل صخرة تخفي محققا يبحث عنه، ولكن مع اعتياده على الريف - وكان جرانت على دراية بطبيعة الريف - فإن انفصاله التام عن أي مصالح خارجية سيكون له تأثير حتمي في منحه إحساسا زائفا بالأمن.
تأمل جرانت الخريطة. تقع قرية كارنينيش على طول الضفة الجنوبية لنهر فينلي حيث يلتقي النهر بالبحر في بحيرة فينلي. على بعد نحو أربعة أميال إلى الجنوب، التقت بحيرة ثانية بالأرض، وعلى الشاطئ الشمالي منها كانت هناك قرية أكبر قليلا على ما يبدو من كارنينيش، تسمى جارني. هذا معناه أن كارنينيش تقع على الجانب الشمالي من شبه جزيرة وتقع جارني على الجانب الجنوبي، والمسافة بينهما على شبه الجزيرة نحو أربعة أميال على طريق جبلي فرعي. قرر جرانت أنه سيبقى في جارني - كان هناك فندق كان يعلم من الشائعات أنه يحتوي على حوض استحمام - ومن هناك سيراقب كارنينيش بحجة أنه يصطاد في نهر فينلي. حتى وقت متأخر من الليل كان مستغرقا في تأمل الخريطة، حتى أصبحت المنطقة مألوفة له كما لو كان يعرفها من قبل. كان يعلم من التجارب المريرة أن أفضل قارئ خرائط يجب أن يعاني من بعض الصدمات الشديدة عندما يواجه الواقع وجها لوجه، لكن كان مطمئنا لفكرة أنه يعرف الآن المنطقة ربما أفضل بكثير من الرجل الذي كان يطارده.
ولم يجلب له الصباح سوى البهجة. فعندما فتح عينيه على ضوء النهار، من خلال الشق المفتوح في الجزء العلوي من نافذته، كان بمقدوره رؤية الأراضي البور البنية وهي تنزلق ببطء، وأعلن الصوت الصاخب للقطار المندفع حتى الآن عن اقتحامه لجبال جرامبيان. كان في استقباله هواء بارد صاف متلألئ وهو يرتدي ملابسه، وخلال وجبة الإفطار، شاهد الأرض القاحلة البنية ووراءها السماء الزاهية والثلج اللامع تتحول إلى ألواح سوداء مسطحة من أشجار الصنوبر المثبتة بدقة على سفوح التلال مثل رقع من الصوف، ثم إلى أشجار البتولا؛ أشجار البتولا التي نزلت من جانبي الجبل وكأنها ترافق أحد الجداول، أو أشجار البتولا التي كان يتدلى منها أثوابها الخفيفة ذات اللون الأخضر الجديد الرائع في غابات صغيرة مغطاة بعشب ناعم. وهكذا باندفاع، استجمع القطار قواه وهو ينحدر، متجها نحو الحقول مرة أخرى - حقول واسعة في وديان عريضة وحقول صخرية ضيقة معلقة على سفوح التلال - والبحيرات، والأنهار، ومنطقة ريفية خضراء. تساءل وهو يقف في الممر بينما كان القطار يهتز وينحرف ويتأرجح في آخر انحدار ناجح له إلى إنفرنيس، ما الذي كان يفكر فيه الهارب اللندني الذي اقتلع من شوارعه، وأمن المباني والمخابئ. ما كانت تمضية أيام الأحد على النهر لتهيئه للسيول السوداء التي كانت تنتظره في الغرب، ولا حرية أحد مواطني سري ستجعله يألف الخراب التام المثير للأعصاب لتلك المستنقعات. هل ندم على هروبه؟ تساءل عن طباع الرجل. لقد كان الشخص المشرق والمبهج - على الأقل، وفقا للسيدة إيفريت. هل كان أي شيء أكثر من مشرق ومبهج؟ لقد اهتم اهتماما كافيا بشيء ليطعن رجلا في ظهره من أجله، لكن هذا لم ينم عن أي إحساس. فبالنسبة إلى رجل حساس، قد يكون الرعب من أن تكون وحيدا وعاجزا ومطاردا في مكان مثل هذا أسوأ من زنزانة من طوب وملاط مألوفين. في الأيام الخوالي في المناطق الجبلية، كان الانتقال إلى التلال مرادفا للهروب من العدالة - وهو ما يطلق عليه الأيرلنديون أن تكون فارا. لكن التمدن غير ذلك تماما. لا يوجد مجرم واحد من بين ألف يفر الآن إلى المناطق الجبلية أو إلى ويلز بحثا عن ملجأ. فالمرء يبحث عن وسائل الغذاء والحماية في مأواه هذه الأيام، وانتهى زمن السكن المهجور أو الكهف القابع على سفح التل. وكان جرانت واثقا من أنه لولا وعد السيدة إيفريت بتوفير ملاذ، لم تكن حتى رغبتها ستخرج لامونت من لندن. ما الذي شعر به لامونت عندما رأى ما جاء إليه؟
عند الوصول إلى إنفرنيس، غادر القطار المباشر المريح وعبر الرصيف الذي تعصف به الرياح إلى قطار محلي صغير تدحرج لبقية الصباح من الريف الأخضر إلى خراب بني مثل الذي استقبل جرانت عند الاستيقاظ. مشوا ببطء نحو الغرب وما زال الغرب بعيدا، وتوقفوا لسبب غير مفهوم في محطات محددة بشكل يصعب فهمه أيضا وسط مستنقعات شاسعة خالية من السكان، حتى دفع به خارج القطار بعد الظهر على رصيف رملي، وانطلق القطار بعيدا في الخراب من دونه. هنا، قيل له أن يستقل سيارة البريد. كانت المسافة إلى كارنينيش تبلغ 36 ميلا، وإن حالفه الحظ، سيكون هناك بحلول الساعة الثامنة في تلك الليلة. كل هذا سيتوقف على عدد الأشياء التي سيقابلونها على الطريق. فمن أسبوعين اقتلعت سيارة العجلة اليمنى الأمامية لسيارة آندي، وكاد أن يقع بالعجلة اليسرى في مصرف. أرشد جرانت عبر مكتب الحجز، وفي المساحة المغطاة بالحصى خلف المحطة، شاهد الشيء الغريب الشكل الذي كان من المقرر أن يقضي فيه الساعات الخمس التالية، الذي من شأنه، إذا حالفه الحظ على الطريق، توصيله إلى جارني في الوقت المناسب. كان حافلة بالمعنى الحرفي. خلف مقعد القيادة كان هناك ثلاثة مقاعد طويلة، مبطنة بشكل غير كاف بوسائد، ومحشوة، على ما يبدو، بنشارة خشب، ومغطاة بقماش أمريكي. كان هناك، كما بدا له، خمسة مرشحين آخرين للمقاعد في هذه المركبة. استفسر جرانت حول استئجار سيارة للقيام بالرحلة، ولم تنقل له التعبيرات على وجوه المحيطين به عدم جدوى سعيه فحسب، بل نقلت إليه حقيقة أنه كان مذنبا بارتكاب خطأ فادح في الذوق. لم يستهزئ أي أحد بسيارة البريد. فقد كانت الشيء الوحيد المهم كل يوم للسكان في الستة والثلاثين ميلا بينه وبين البحر. استسلم جرانت لعدم الراحة، وتمنى أن تنقذ الكوميديا الرحلة من الملل. وحتى الآن كانت الكوميديا غائبة عنه. نجح في الحصول على مقعد من السائق وكان يأمل في الأفضل.
أثناء سيرهم على طول الطرق الضيقة، مندفعين هنا وهناك حيث يجتاحهم الكثير من الجداول في طريقها المنحدر من التلال، أدرك قوة ملاحظة الرجل بشأن مقابلة الأشياء. لم يكن هناك مجال في معظم الأماكن لمرور حتى عربة أطفال.
سأل السائق: «كيف تتصرفون عندما تقابلون شيئا ما؟».
قال: «حسنا، أحيانا نعود نحن - وأحيانا يعود هو.» بعد نحو خمسة أميال، شاهد جرانت دليلا لهذه القاعدة الجديدة للطريق عندما واجهوا قاطرة جر. لقد كانت عينة مصغرة من نوعها، لكنها هائلة بما يكفي في ظل هذه الظروف. فمن جهة كان التل ومن الجهة الأخرى واد صخري صغير. بأكبر قدر من الفكاهة، عكس السائق اتجاه سيره، وعاد بسيارته غير العملية حتى تمكن من توصيلها إلى منعطف جانبي لحصى الطريق. عبرت قاطرة الجر برضا تام، واستؤنفت الرحلة. طوال الستة والثلاثين ميلا، واجهوا عقبتين إضافيتين فقط، وكلتاهما كانتا سيارتين. في إحدى الحالتين، كشطت السيارة عن طريق الارتداد المتبادل للحواف السفلية، حيث كانت العجلة القريبة لسيارة البريد في مصرف، والعجلة القريبة للسيارة الأخرى في منعطف من نبات الخلنج والصخور. في الحالة الأخرى، أثبتت السيارة أنها من طراز فورد، ومع القدرة المهجنة على التكيف التي يتمتع بها هذا النوع دخلت هذه السيارة دون تفاوض في المستنقع، وبلا مبالاة تامة دفعت بقوة السيارة البريدية الثابتة في الوقت الذي تبادل فيه السائقان تحيات غير مفهومة. يبدو أن عرض البرمائيات هذا لم يذهل أحدا، وعلى الرغم من أن الماء كان الآن يغمر السيارة، لم يتم إبداء أي ملاحظة. كان من الواضح أنه حدث يومي.
أخذ جرانت يفكر في حالة السيارة المحملة عن آخرها، وتساءل عما سيحدث للأشخاص على طول الطريق الذين لن يكون لديهم أي وسيلة للسفر. انتاب الخوف نفسه امرأة عجوزا صغيرة الحجم كانت تنتظر السيارة بجوار كوخ على جانب الطريق. عندما أبطأت السيارة سرعتها ونزل السائق لمساعدتها، نظرت بخوف إلى المقاعد المزدحمة وقالت: «كيف ستوفر لي مكانا ، آندي؟»
قال آندي بمرح: «اهدئي؛ لم نترك أحدا قط حتى الآن.»
علم جرانت أن عبارة «اهدئي» لم تكن توبيخا في هذه المنطقة وليس لها علاقة بمعناها اللغوي. لقد كانت تعبيرا عن رفض غير جاد، وفي بعض الأحيان، عن إعجاب مباشر يشوبه عدم التصديق. ما قاله أندي كان يعني أن السيدة العجوز كانت كما يقول سكان الأماكن غير الجبلية «تتفوه بالحماقات». وبالتأكيد كان صادقا فيما قال. فقد عثر على مكان، ولا يبدو أن أي شخص تضايق بشدة، ما عدا الدجاجات الموجودة في القفص بالخلف التي دحرجت جانبا بعض الشيء. لكنها كانت لا تزال على قيد الحياة بشكل صاخب عندما طالب بها مالكها الفخور، الذي كان ينتظر على رأس طريق لم يكن يؤدي على ما يبدو إلى أي مكان، وحملها بعيدا في عربة يدوية.
قبل الوصول إلى جارني بعدة أميال شم جرانت رائحة البحر - رائحة الأعشاب البحرية المنبعثة من البحر على ساحل محزز. كان من الغريب شم رائحتها دون استعداد في مثل هذه البيئة التي لا تشبه البحر على الإطلاق. وما زاد من غرابة الأمر ظهوره فجأة مثل بركة خضراء صغيرة بين التلال. لم يعلن عن حقيقة أنه كان محيطا وليس بحيرة مستنقع سوى التدفق البني للأعشاب على طول الصخور. ولكن عندما اجتاحوا جارني بكل نجاح لأهم شيء حدث في 24 ساعة، كشف صف طويل من رمال جارني في ضوء المساء عن بحر بنفسجي يصطدم بلطف بالرمال الفضية الهادئة. ألقته السيارة عند مدخل النزل المبلط، لكنه رغم أنه كان جائعا، ظل منتظرا عند الباب ليشاهد الضوء وهو يغيب وراء الحدود الأرجوانية المسطحة للجزر ناحية الغرب. كان السكون مليئا بأصوات المساء الصافية البعيدة. وكان يفوح من الهواء رائحة دخان النباتات المتحللة والبحر. وكانت أضواء القرية تتألق بلون أصفر صاف هنا وهناك. وتحول البحر إلى اللون الأرجواني، وأومضت الرمال بوهن في الغسق.
وقد جاء إلى هنا ليلقي القبض على رجل ارتكب جريمة قتل وقعت في أحد الصفوف بلندن!
الفصل الحادي عشر
كارنينيش
حصل جرانت على القليل من المعلومات من آندي، سائق سيارة البريد، ليس لأن السائق كان جاهلا - فبرغم كل شيء، من المفترض أنه قد قاد لامونت طوال 36 ميلا فوق التلال منذ يومين فقط - ولكن بسبب أن رغبة آندي في معرفة كل شيء عنه، بشكل مثير للدهشة بما يكفي، كانت بمثل قوة رغبته في معرفة المزيد عن لامونت، وتجاهل أدلة جرانت الواعدة بكلمة ذات مقطع واحد أو بحركة رأس، وقدم بدلا منها أدلة خاصة به. لقد كانت لعبة سرعان ما أصبحت مملة، وفقد جرانت الأمل فيه قبل مدة طويلة من استسلامه لعدم معرفة المزيد عن جرانت. والآن أثبت مالك فندق جارني، الذي قابله في الشرفة بعد الإفطار، أنه غير مفيد أيضا، وهذه المرة بسبب جهل حقيقي. وبينما كان سائق عربة البريد يهتم بشدة بكل ما يحدث في كارنينيش، التي كانت موطنه ومكان استراحته كل ليلة، لم يكن المالك مهتما بشيء إلا بجارني؛ وذلك لتأثيرها على فندقه.
قال: «تعال لنصطاد السمك يا سيدي!» ووافق جرانت، حيث كان لديه أفكار ليصطاد في نهر فينلي إذا كان ذلك ممكنا.
قال الرجل: «نعم، هذا على بعد أربعة أميال فقط خلف التل. هل أنت على دراية بالمنطقة؟» ظن جرانت أنه من الأفضل التنصل من أي معرفة بالمنطقة. «حسنا، هناك قرية صغيرة على الجانب الآخر، على بحيرة فينلي، لكنك أفضل حالا هنا. فالفندق هناك صغير ضيق، وليس لديهم ما يأكلونه سوى لحم الضأن.» قال جرانت إن هذا أمر جيد جدا. «نعم، هذا ما ستعتقده في اليوم الأول، وربما في اليوم الثاني، ولكن بحلول نهاية الأسبوع، سيكون مشهد الخروف على التل أمرا لا يطاق بالنسبة إليك. يمكننا أن نرسل إليك سيارة فورد كل يوم إذا لم تكن مغرما بالمشي. لديك تصريح، أليس كذلك؟» قال جرانت إنه كان يعتقد أنه سيكون هناك مياه خاصة بالفندق. «لا؛ كل تلك المياه تخص السيد الذي يملك فندق كارنينيش هاوس. وهو سمسار بورصة في جلاسجو. نعم، إنه هنا - على الأقل جاء منذ أسبوع، إذا لم يكن قد رحل مرة أخرى.» «حسنا، إذا كان بإمكاني الحصول على السيارة الفورد الآن، فسأذهب لمقابلته.» كان الصيد هو العذر الوحيد الذي يسمح له بالتجول في المنطقة دون تعليق. سأل، وهو يركب سيارة فورد مخبوطة إلى جانب سائق متهور كثيف الشعر بعين تحدق بشراسة: «قلت ما اسمه؟».
قال المالك: «اسمه السيد درايزديل. إنه ليس كريما فيما يخص الماء، لكن ربما ستتمكن من تدبر أمرك معه.» انطلق جرانت، بقليل من الراحة، في رحلة تفتقر إلى الراحة أيضا عبر التلال إلى وادي فينلي.
سأل الرجل ذو الشعر الكثيف، الذي علم أن اسمه كان رودي، أثناء تقدمهما: «أين الفندق؟». «في كارنينيش.» «هل تقصد في القرية؟» لم يكن لدى جرانت أي نية في الظهور علنا بهذه السرعة. «لا؛ إنه على الجانب الآخر من النهر من ناحية القرية.» «ألن نمر عبر القرية؟» «لا؛ فالجسر مكانه قبل وصولك إلى القرية من الأساس.»
عندما وصلا إلى حافة الحد الفاصل، امتد الوادي الجديد بالكامل مثل الخريطة أمام عيني جرانت المنبهرتين لعدة مئات من الأقدام بالأسفل. لم تكن هناك حقول، ولا أي مناطق خضراء على الإطلاق باستثناء تلك التي على حدود النهر التي كانت تمر، مثل خط فضي، عبر أشجار البتولا المتناثرة متجهة نحو البحيرة البعيدة. لقد كانت منطقة ريفية يكسوها اللون البني، وأضافت حدة لون البحر الأزرق طابعا غريبا - أراض خيالية مهجورة، بشدة، كما ظن جرانت. وبينما كانا يتجهان نحو البحر أسفل جانب التل لاحظ كنيستين، واغتنم فرصته. «لديكم عدد كبير من الكنائس بالنسبة إلى حجم القرية.»
قال رودي: «حسنا، لا يمكنك توقع ذهاب أتباع كنيسة الوي فري إلى الكنيسة الحرة المتحدة. هناك بالأسفل كنيسة حرة متحدة - ملك للسيد لوجان.» أشار إلى اليمين فوق حافة الطريق، حيث كانت كنيسة بسيطة ومنزل للقس مربع وصلب مخفي في بعض الأشجار بجانب النهر. «تقع كنيسة الوي فري في الطرف الآخر من القرية، بجانب البحر.»
نظر جرانت باهتمام بطرف عينه إلى المنزل ذي المنظر المريح الذي يحمي طريدته. قال: «مكان جميل. هل يستقبلون نزلاء ؟»
لا، لم يظن رودي ذلك. فقد تركوا المنزل مدة شهر في الصيف. وكان الكاهن أعزب، وكانت أخته الأرملة، السيدة دينمونت، تحافظ على المنزل من أجله. وعادت منذ مدة قصيرة ابنة أخته، ابنة السيدة دينمونت، لقضاء العطلات. كانت ممرضة في لندن.
لم يتحدث عن أي نزيل آخر، ولم يتمكن من متابعة الموضوع دون جعل ساكن المناطق الجبلية الدائم الفضول مرتابا. «هل هناك الكثير من الناس في الفندق هنا؟»
قال رودي: «ثلاثة.» وكما يليق بعامل في مكان منافس، لم يكن هناك شيء لا يعرفه عن النزل في كارنينيش. لكن على الرغم من أن الثلاثة كانوا رجالا، لم يكن أي منهم لامونت. وكان لدى رودي تاريخهم وميولهم جميعا.
يقع فندق كارنينيش هاوس على الجانب الآخر من النهر من ناحية القرية، بالقرب من البحر، ويقع الطريق السريع شمالا عند الجزء الخلفي. عندما توقف رودي أمام الباب، قال جرانت: «من الأفضل أن تنتظر»؛ وبالجلالة التي توقف بها رودي، نزل إلى عتبة الباب. كان في القاعة رجل نحيف، مكفهر، يرتدي سروالا جيدا من الصوف الخشن. ظن جرانت أن سمسار البورصة يقيم حفلة. لقد تصور دون وعي أن سمسار البورصة النبيل رجل سمين بوجه وردي اللون ويهتم جدا بمظهره. لذلك كانت صدمة عندما تقدم الرجل النحيل وقال: «كيف يمكنني مساعدتك؟» «أريد أن أقابل السيد درايزديل.»
قال الرجل: «تفضل» وأرشده إلى غرفة مليئة بمعدات الصيد. الآن كان جرانت يعتزم بلا خجل محاولة أن يروي قصة من خياله تثير شفقة السمسار، مناشدا كرمه ألا يفسد إجازته؛ لكن منظر الرجل الحقيقي جعله يغير رأيه. أخرج بطاقته المهنية، وسعد بمفاجأة الرجل. لقد كانت مجاملة لإتقان التنكر الذي وفرته ملابس الصيد القديمة. «حسنا أيها المفتش، ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟» «أريدك أن تتكرم بالسماح لي بالصيد في فينلي قليلا. يومان على الأكثر، على ما أعتقد. أظن أن هناك رجلا أريده موجودا في الحي، والطريقة الوحيدة التي يمكنني التجول بها دون لفت الانتباه هي الصيد. اعتقدت أن الفندق في جارني سيكون لديه بعض المساحة الخاصة به المخصصة للصيد، لكن يبدو أن هذا غير متوفر. لن أصطاد أي سمكة، ولن أخيف أي شيء في النهر، إذا حصلت على صفقة جيدة.»
ولدهشته علت ابتسامة وجه السيد درايزدال القاسي. وقال: «أيها المفتش، لا أعتقد أنه يمكن أن يكون لديك أي فكرة عن مدى تميز هذه المناسبة، وعن مدى تميزك أنت تماما. فحتى في تمرد عام 1745، لم يأتوا إلى هنا بحثا عن أي شخص، وبالتأكيد لم يفعل أحد ذلك منذ ذلك الحين. إنه أمر لا يصدق ببساطة. مجرم في كارنينيش، ومفتش من إدارة التحقيقات الجنائية يبحث عنه! يا إلهي، إن أفظع جريمة عرفها هذا الحي منذ الطوفان هي الثمالة وعدم القدرة على التصرف.»
قال المفتش بجفاء: «ربما فكر الرجل الذي أريده في ذلك. على أي حال، أعدك بأنني لن أزعجك مدة طويلة إذا سمحت لي بالصيد.» «بالتأكيد يمكنك الصيد. في أي مكان يعجبك. أنا ذاهب إلى النهر الآن. أتود المجيء معي لأعرفك بأفضل البحيرات؟ قد يكون لديك أيضا نصيب جيد من صيد اليوم إذا كنت ستصطاد على الإطلاق. أعد هذا الرجل المجنون إلى جارني»، كان رودي يقهقه مع خادمة بلهجة أهل المناطق الجبلية عالية النبرة خارج النافذة المفتوحة، غير مبال تماما بقربها المحتمل من «الرجل النبيل»، «وأخبره أنه لا يحتاج إلى الرجوع مرة أخرى. سأرسل إليك عربة في المساء وقتما تريد الذهاب.»
كان جرانت مسرورا بالكرم غير المتوقع من جانب الشخص العابس المعروف عنه البخل، وصرف رودي الذي استقبل خبر صرفه باحترام شديد وكأنه ضابط معاون، لكنه غادر في موجة من الثرثرة العالية غير المفهومة بينه وبين الخادمة. بدا الأمر وكأنه شجار احتجاجي لدجاجة مذعورة وهي تقفز من فوق سياج إلى بر الأمان. عندما تلاشت الضوضاء، بدأ درايزديل في صمت في تجميع معداته من أجل النهر. لم يطرح المزيد من الأسئلة، وكان جرانت ممتنا له مرة أخرى. ولكسر الصمت الذي من الواضح أن درايزدال لم يكن لديه نية لكسره، سأل عن حالة النهر، وسرعان ما كانا يتحدثان عن الصيد بحرية اثنين من المتحمسين. تقدما نحو الضفة اليمنى للنهر - أي الضفة المقابلة للقرية ومنزل القس - وأشار درايزدال إلى البحيرات وخصائصها. لم يتعد طول النهر الضيق ذي اللون البني المصفر الذي تتناثر فيه الصخور ستة أميال. وقد كان يندفع من بحيرة في التل إلى البحر في كارنينيش، وتتخلله بحيرات ساكنة.
قال درايزدال: «أتوقع أنك ترغب في أن تكون بالقرب من القرية»، واقترح ترك المفتش في النصف السفلي من النهر بينما يصعد هو إلى نهاية التل، حيث من المحتمل أن يقضي اليوم؛ ووافق جرانت بامتنان على ذلك. عندما مرا أمام منزل القس، قال جرانت: «هل هذا منزل القس؟ يبدو أن الكهنة الاسكتلنديين مرتاحون للغاية.»
قال درايزدال بتأكيد: «إنهم كذلك»، لكنهما لم يتابعا الموضوع. علق جرانت على الحجم الظاهري للمنزل، وسأل عما إذا كانوا يستقبلون نزلاء. قد يكون مكانا جيدا للإقامة. قال درايزدال إنهم لم يستقبلوا أحدا على حد علمه، وكرر قصة رودي عن تركه في الصيف. ترك جرانت في عجالة رجل خجول، وغادر ليشاهد المنظر الطبيعي، تاركا جرانت يشعر بالراحة لمعرفته أن لديه حليفا يتمتع بنفس اهتماماته إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
قرر جرانت أنه سيبدأ في الصيد ربما على ارتفاع 200 ياردة فوق منزل القس والعمل ببطء لأسفل، واتخذ مكانه وراقب حركة السير من المنزل وإليه. على الجانب المجاور له من النهر كان هناك مسار وعر بالكاد يمكن أن يطلق عليه اسم طريق، ولكن على الجانب الآخر كان هناك، بقدر ما يمكن أن يراه، فقط ممر يشبه ممر الأغنام الذي تصنعه أقدام الصيادين والمرشدين؛ لذلك كان أي شخص يأتي من أعلى النهر سيمر من جانبه. كان منزل القس محاطا بجدار حجري، وواجهته بعيدة باتجاه الطريق السريع على الجانب الآخر من النهر. داخل الجدار كان هناك صف من أشجار الصنوبر النحيلة التي تخفي بفعالية تفاصيل المنزل. ولم يعلن عن وجوده سوى بريق طلاء الجدران الأبيض ومداخنه الثمانية. في الخلف، كان جدار الحديقة يمتد حتى ضفة النهر، وفي منتصف الجدار الذي يحيط بالنهر كانت هناك بوابة حديدية صغيرة ذات النمط النفعي الصارم الذي اشتهر في المناطق الجبلية. وعلى الرغم من أنه لم يستطع رؤية الطريق السريع أمام المنزل مباشرة، فإنه كان يتمتع بإطلالة لا يعوقها شيء على الطريق على كلا الجانبين. لا يمكن لأحد أن يأتي إلى المنزل أو يخرج منه دون علمه. ويمكنه البقاء هناك طوال اليوم دون أن يلاحظه أحد أو يشك في أمره. كان الوضع مثاليا. ألقى جرانت صنارته لأول مرة وأصدرت هسهسة فوق الماء البني اللامع، وشعر أن الحياة كانت جيدة. كان الجو مشمسا أكثر من اللازم بحيث يتعذر الصيد وكانت احتمالاته في اصطياد أي شيء ضئيلة للغاية؛ لكن هناك فريسة أكبر في متناول يده. لم يذكر أحد أن شخصا غريبا قد وصل إلى منزل القس، ولكنه مثلما كان يعلم تماما عند بسطة السلم ببريكستون أن الشقة كانت فارغة، كان لدى جرانت الآن شعور بأن الرجل الذي يبحث عنه كان هنا.
كانت الساعة الحادية عشرة قبل أن يبدأ في الصيد، ولمدة ساعة أو أكثر لم يكن هناك أي نشاط بشري سوى نشاطه الذي كسر هدوء الصباح التام. وواصل الدخان في الانبعاث من مدخنتي منزل القس بتكاسل في الهواء الساطع. كان النهر يتمتم بأنشودة الأطفال الأبدية عند قدميه، وانزلق الماء أمام عينيه بسرعة خلابة. بعيدا على جهة اليمين وراء الجسر البعيد، ظهرت المنازل المطلية باللون الأبيض على الشاطئ فوق الارتفاع الطفيف للمستنقع، هادئة ومضاءة بنور الشمس مثل ديكور مسرحي. بدأ جرانت يشعر أن الأمر برمته كان صورة، مثل الرسم التوضيحي الذي تعلم منه الفرنسية لأول مرة في شبابه، وأنه كان فقط عالقا هناك بجوار النهر حتى تكتمل الصورة. لم يكن جرانت الذي يعمل لدى إدارة التحقيقات الجنائية؛ كان صائد سمك، يشار إليه بعصا خشبية تدغدغه، من أجل تعليم شخص غير معروف. كسر اللعنة ساعي بريد قادم من القرية، يضغط بشدة وبالتناوب على بدالي دراجة هوائية. لا يزال المشهد مثل الصورة، لكنه لم يعد ينتمي إليها. لقد كان ديكورا مسرحيا - ذلك الخاص بالعروض الصغيرة - وكان هو العملاق الذي كان على وشك أن يقلب صندوق الحيل بأكمله. وأثناء انخراطه في هذا التفكير، انفتحت البوابة الحديدية في الجدار المنخفض لمنزل القس، وخرجت فتاة، يتبعها رجل. أغلقا البوابة بصعوبة وبعض الضحك، ومشى أحدهما وراء الآخر في الممر الضيق باتجاه الجسر. كان جرانت لا يزال فوق المنزل بنحو 100 ياردة، ولم يلاحظه أي منهما. كان الرجل يرتدي سروالا خفيفا ومعطف مطر قديما، وقبعة، وباستثناء خفته، لم يشبه الشخص الذي انطلق في دوامة حركة المرور بشارع ستراند. كان جرانت مدركا لمفاجأة طفيفة. فخلال رحلته الطويلة إلى الشمال، كان يظن أنه من المسلم به أن الرجل سيبدو غريبا على المكان. فلن يتم إلقاء وكيل مراهنات في لندن في المناطق الجبلية الغربية دون سابق إنذار ويبدو كأنه من رواد المكان. حسنا، قد لا يكون الرجل، رغم كل شيء. كان يأمل أن يتجها نحو الجسر وجانبه من النهر، وليس القرية. بالتأكيد، لو كانا قد خططا للذهاب إلى القرية، لكانا قد خرجا من الطريق الأمامي وسارا على طول الطريق السريع، راقب متشوقا حتى رأى الفتاة تستدير إلى الجسر. ولكن كانت لا تزال هناك فرصة أن يسيرا بشكل مستقيم ومباشر على جانب الطريق السريع مرورا بفندق كارنينيش هاوس. تنفس جرانت الصعداء حيث استدارت الفتاة مرة أخرى في اتجاه النهر وانضم إليها رفيقها. كانا يتجهان نحو النهر إليه. كانا سيمران من خلفه على بعد بضع ياردات فقط. ألقى بحذر صنارته اللامعة إلى الجانب البعيد من البحيرة. يجب ألا ينظر ناحيتهما مرة أخرى. ففي غضون دقيقة أو دقيقتين، كانا سيلاحظانه. شعر بالامتنان للقبعة القديمة التي غطت وجهه، وللملابس العديمة الشكل التي كانت تكسوه. كان حذاؤه أيضا مقنعا حتى للعين الأكثر ريبة. لم يكن الموضوع يتعلق بهيئته هذه المرة؛ فقد كان يبدو حقيقيا، وكان سعيدا بذلك. لن تشك العين المتمرسة للآنسة دينمونت - لا بد أن تكون الآنسة دينمونت - في حرفية إلقاء الصنارة. عدم إيحاء ملابسه انتماءه «للمدينة» لم يستدع التعليق والاهتمام الفوري لشريكها . وفجأة فوق دوامة المياه تمكن من سماع أصواتهما المرتفعة بسبب وجود النهر. كانا لا يزالان يضحكان ويتحركان، ويبدو أنهما صديقان جيدان للغاية. لم ينظر جرانت حوله أثناء مرورهما، ولم ينظر حوله فور مرورهما. فلو كان نظر حوله الآن، لاكتشفت نظرة فضولية من الرجل وجهه. ولكن عندما ابتعدا نحو منبع النهر كان يراقبهما. هل كان لامونت؟ حاول تصور طريقة مشي الرجل مرة أخرى. باستثناء تمثيل العرج، يكاد يكون من المستحيل إخفاء طريقة المشي بنجاح. لكنه لم يكن متأكدا. ثم نظر الرجل إلى الوراء فجأة. كان جرانت بعيدا جدا لرؤية وجهه، لكن الحركة أخبرته بكل ما كان يريد معرفته. كان واضحا جدا، قبل أن يتاح الوقت لقدرته على التفكير ملاحظة ذلك، أن عقله قد عاد إلى نهاية شارع بيدفورد. لم يكن هناك شك في ذلك - كان الرجل لامونت. قفز قلب جرانت من الفرحة. هل عرفه لامونت؟ لم يعتقد ذلك. كيف يمكنه ذلك؟ لقد كان تأنيب الضمير هو الذي جعله يستدير. إذا سأل الآنسة دينمونت عنه، فسوف يسمع أنه لم يسمح لأي شخص لا يقيم في فندق كارنينيش هاوس بالصيد في الماء، وسيطمئن.
والآن ما العمل؟ هل يذهب إلى المنزل عندما يعود ويعتقله على الفور؟ كان لديه مذكرة توقيف في جيبه. لكنه أراد فجأة أن يتأكد - يتأكد بما لا يدع مجالا للشك - أن لامونت هو الرجل الذي قتل سوريل. كانوا يعرفون أنه الرجل الذي تشاجر مع سوريل قبل وفاته. لكن هذا لم يكن دليلا. وعلاقته بالخنجر لا تزال مفقودة. قبل أن يخاطر بتنفيذ أمر القبض، أراد معرفة ما إذا كانت يد لامونت اليسرى تحمل الندبة التي أحدثها الخنجر. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن قضيته ستنهار. وبغض النظر عن مدى تأكده، يجب ألا تكون هناك ثغرات في الأدلة التي ستعرض على هيئة المحلفين، وما دامت هناك فجوة محتملة في الأدلة، لم يكن لدى جرانت أي نية في اعتقال أي شخص. يجب أن يدعى إلى منزل القس. ينبغي ألا يكون هذا أمرا صعبا. وإذا فشل كل شيء آخر، يمكنه أن يسقط في النهر ويناشدهم لتجفيفه.
كان يأكل الشطائر التي قدمها فندق جارني، على صخرة نصفها داخل الماء والنصف الآخر خارجه، عندما عادا. مرا من أمامه يتمايلان إلى أسفل الجسر متجهين إلى القرية، وبعد قليل رآهما يعاودان الظهور ويعودان إلى منزل القس على الطريق السريع. كان وقت الغداء. لقد انشغلا بأمان لمدة ساعة على الأقل، وأمام عينيه مباشرة.
كان يغلف بعناية ما تبقى من الشطائر للأوقات الصعبة عندما ظهر رجل الشرطة المحلي من أعلى النهر يدفع دراجة هوائية مثقوبة. تباطأ عندما رأى جرانت - إذا كان تقدمه السابق المتروي يمكن أن يوحي بأي تباطؤ دون توقفه - وعندما نظر جرانت لأعلى، توقف آخر مظهر للتقدم.
سأل الشرطي: «هل حالفك الحظ يا سيدي؟» كان لديه وجه وردي للغاية مثل تمثال شمع، مستدير وخال من التعبير، وكانت نظرة واحدة إليه كافية لأن تجعل جرانت ممتنا لاكتشاف درايزدال. كانت عيناه الزرقاوان الشاحبتان مهدبتين مثل دمية، مع رموش سوداء ناعمة، وشارب أسود حريري غير مقنع يرسم خطا على شفته العليا. لم يستطع جسده السمين الطري أن يسرع أو يختبئ؛ لن يكون لهذا العقل البطيء أي فائدة مهما كانت حالة الطوارئ.
اعترف جرانت أنه لم يصطد شيئا، لكنه أضاف أنه لم يكن يتوقع أن يصطاد شيئا في مثل هذا الصباح المشرق.
قال الرجل: «نعم، هذا صحيح؛ لكن الطقس لن يطول هكذا. لا يمر يوم دون سقوط بعض المطر هنا. ستصطاد سمكة قبل حلول الليل.»
أدرك جرانت أن هذه هي رغبة ساكني المناطق الجبلية المعتادة في قول الشيء الذي يعتقد أنه سيكون مقبولا لدى مستمعه. قال مشيرا إلى الإطار: «لم يحالفك الحظ أيضا.» «في الواقع، لا. هذه الطرق تفسد الإطارات بشدة. ولكني أحصل على بدل لتصليحها، كما تعلم، غير أن هناك آخرين ليسوا محظوظين جدا. السيد لوجان، الكاهن» هز رأسه ناحية منزل القس «كان يقول لي قبل أيام فقط إن الكهنة يجب أن يحصلوا على بدل لتصليح الإطارات مثل رجال الشرطة . ففي أسبوع واحد ثقبت ثلاثة إطارات لسيارته. هذا أمر سيجعل حتى الكاهن يفقد أعصابه.» «هل هناك العديد من السيارات في كارنينيش؟» «حسنا، السيد درايزدال لديه اثنتان، كما أتوقع أن تعرف، والسيد لوجان لديه واحدة، لكن هذا كل شيء. الكاهن الآخر لديه دراجة بعربة جانبية.»
لكن عندما يريد شخص ما أن يستأجر سيارة، ماذا يفعلون؟
أوه، بالنسبة إلى ذلك، كان الفندق لديه سيارة فورد للزوار. كانوا يؤجرونها عندما لم يكونوا بحاجة إليها. من الواضح أن السيارة الفورد في رأي الشرطي لم تندرج تحت مسمى «سيارات».
بعد قليل قال الشرطي: «ها قد ذهب السيد لوجان لرؤية التوءم الجديد شرقا عند أركلس»، ورأى جرانت جسدا سمينا يظهر على الطريق السريع على الجانب المطل على جارني من منزل القس ويمضي قدما نحو أعلى النهر بوتيرة عملية.
قال جرانت: «اعتقدت أن هذا الطريق يؤدي فقط إلى أعلى التل المتجه إلى جارني.» «أوه نعم، الطريق السريع. ولكن حيث يبدأ الطريق السريع في الصعود إلى أعلى التل، هناك مسار ينطلق على طول النهر إلى المزارع الصغيرة التي يمكنك رؤيتها من الطريق. هذا هو المكان الذي يذهب إليه السيد لوجان من حين إلى آخر. وهذا هو السبب في أنه يمشي. إنه ليس مغرما بالمشي.»
ظل الشرطي مدة طويلة يراقب أسماك جرانت بسرور، ومن الواضح أنه سعيد بالعثور على ما يحظى باهتمام عينيه في مكان شاغر عادة، وفكر جرانت فيما سيفعله إذا ظهرت سيارة لوجان فجأة على الطريق السريع وراء منزل القس، متجهة إلى جارني والجنوب. لم يكن لديه ما يضمن أن لامونت كان الراكب. لقد كان بعيدا جدا للتعرف على أي شخص. كان عليه التأكد من ذلك قبل أن يفعل أي شيء. وحينها سيكون الاختيار بين الانشغال بمكالمة هاتفية أو المطاردة. اعتقد أنها السيارة الفورد الخاصة بالفندق. أو ربما أقرض درايزدال سيارته؟ لكن انقضى وقت ما بعد الظهر، وكان الضوء يبدو أبيض قاسيا غير متعاطف كما لو كانت الساعة الرابعة صباحا، وسحب الشرطي دراجته بعيدا إلى القرية حيث يمكنه الحصول على أدوات التصليح التي كان من الواضح أنه قد نسيها، وما زال لم يخرج أحد من منزل القس. في الساعة الخامسة، تناول جرانت شطائره المتبقية، وبدأ التفكير في الاحتمالات الأخرى الموجودة للتطفل ودخول منزل القس. فكرة الغطس في النهر - حتى لو كان لمدة وجيزة - أصبحت أقل إمتاعا مع حلول المساء. انقطعت أفكاره وحلت مشاكله بأعجوبة عند سماع صوت وقع أقدام وراءه. نظر حوله ليرى السيد لوجان خلفه.
حياه الكاهن بتحية صادرة من قلبه، ووجهه الأحمر البدين بأنفه المعقوف يتألق بسخاء. قال: «لا يبدو أن الحظ قد حالفك كثيرا اليوم.»
قال جرانت لا؛ لقد قضى يوما كاملا، ولم يصطد شيئا. سيسخرون منه عندما يعود إلى جارني. «أوه، ألا تقيم في فندق كارنينيش هاوس؟»
قال جرانت لا؛ كان يقيم في فندق في جارني، لكن السيد درايزدال تكرم بمنحه إذنا بالصيد في فينلي لمدة يوم أو يومين. «هل سيرسل العاملون في جارني سيارة من أجلك؟»
قال جرانت لا؛ لقد كان ينوي العودة عندما يسأم الصيد. كان الفندق يبعد أربعة أميال فقط أو نحو ذلك، وأي سمكة يصطادها ستبقى بالطبع مع السيد درايزدال.
قال الكاهن: «إنه أمر شاق جدا ومثبط للهمم عندما لا تصطاد شيئا. ألا تريد الدخول واحتساء كوب شاي ساخن في منزل القس؟ اسمي لوجان. يقدم الشاي بين الخامسة والنصف والسادسة، ومن المفترض أن يكون جاهزا الآن.»
شكره جرانت، وحاول ألا يظهر درجة غير لائقة من الفرح عند الدعوة. كان القدر في صفه. بمجرد أن يدخل بيت القس، سيتولى زمام الأمور. كان من الصعب عدم حزم أغراضه بسرعة، وجذب ذراع الكاهن، وسحبه مسافة نصف ميل أسفل النهر عائدا إلى المنزل. لذا حزم أغراضه بمزيد من التأني، ومشى بنفس وتيرة الكاهن البطيئة، التي ضعفت بشكل كبير منذ وقت مبكر من بعد الظهر، على المسار، عبر الجسر، وعلى طول الطريق السريع إلى واجهة منزل القس. عندما قاده الكاهن إلى الطريق الواسع، المزين بقطع من العشب إلى الباب، تسارعت نبضات قلب جرانت بشكل ملحوظ، ولأول مرة لم يضحك على ضعف حاله. فقبل 10 أيام، سلمه باركر هذه القضية، وقدم إليه منديلا، ومسدسا، وخنجرا ملطخا بالدماء. الآن، في الطرف الآخر من المملكة، كان على وشك لقاء الرجل الذي يريده وجها لوجه.
خلعا معطفيهما وقبعتيهما في القاعة، واستطاع جرانت أن يسمع من خلال الباب المغلق ثرثرة وصلصلة أفراد يحتسون الشاي. ثم تقدم السيد لوجان إلى الباب وسبقه إلى الغرفة.
الفصل الثاني عشر
الاعتقال
في غرفة طعام، كان هناك ثلاثة أشخاص يحتسون الشاي على المائدة: امرأة مسنة تشبه بنسبة ضئيلة السيدة إيفريت، وفتاة صهباء ذات بشرة شاحبة، والشامي. كان لدى جرانت الوقت لملاحظتهم جميعا من خلف الكاهن قبل أن يفسح مضيفه الطريق أمامه ليروه، وكان من دواعي سروره أن يرى طريده يتعرف عليه. اتسعت عينا لامونت لثانية عند رؤيته، ثم تورد الدم في وجهه وانحسر فجأة، وتركه شاحبا مثل الموتى. فكر الجزء المشاهد في جرانت كيف كان داني ميلر سيسخر من مثل هذا العرض - داني، الذي بإمكانه قتل رجل ولا يكلف نفسه عناء تذكره. كان الشامي بالتأكيد أحد الهواة في اللعبة - ربما يكون قاتلا عن طريق الخطأ وليس عن عمد.
قال الكاهن: «أحضرت لكم زائرا. هذا هو السيد جرانت. لقد وجدته يصطاد، لكن لم يصطد شيئا؛ لذا أحضرته ليحتسي بعض الشاي الساخن. أختي، السيدة دينمونت. ابنة أختي، الآنسة دينمونت. وصديق لنا، السيد لو. الآن، أين تود أن تجلس؟»
جلس جرانت على مقعد بجانب السيدة دينمونت وفي مواجهة لامونت. انحنى لامونت له عند تقديمه، لكنه لم يبد حتى الآن أي علامة على فعل أي أمر متهور. إما أنه أصيب بالشلل أو أنه سيأخذ الأمور بهدوء. وبعد ذلك عندما جلس، رأى جرانت الشيء الذي جعل قلبه يقفز من الإثارة. كان كوب لامونت على الجانب الخاطئ من طبقه. كان الرجل أعسر.
قال السيد لوجان: «أنا سعيد لأنك لم تنتظري يا أجنيس» بنبرة تنقل بوضوح اعتقاده أنها انتظرت. «لقد كانت أمسية رائعة عبرت فيها الجسر المتأرجح وعدت إلى المنزل على الجانب الآخر من النهر.»
قالت ابنة أخته: «حسنا، نحن سعداء لأنك فعلت ذلك؛ لأنك أحضرت السيد جرانت، مما يجعل عددنا فرديا؛ ولذا يمكننا إجراء تصويت. لقد كنا نتشاجر حول ما إذا كان العرق المختلط في الشخص أمرا جيدا أم لا. لا أقصد الأسود والأبيض، ولكن فقط أعراق بيضاء مختلفة. تقول أمي إن الشخص ذا العرق الواحد هو الأفضل بالطبع، لكن هذا لأنها من أهل المناطق الجبلية بشكل خالص، منذ الفيضان وقبل ذلك. فآل لوجان من سلالة ماكلينان، كما تعلم، ولم يكن هناك قط أحد من آل ماكلينان ليس لديه قارب خاص به. لكن والدي كان من سكان الحدود وكانت جدتي إنجليزية، وكانت جدة السيد لو إيطالية؛ لذلك نحن نتشبث بحزم بالرأي الآخر. الآن، من المؤكد أن الخال روبرت سينحاز إلى أمي، لكونه مولدا صرفا من مواليد أهل المناطق الجبلية وعلى درجة أصيلة من العناد والاعتزاز المطلق بعرقه. لذلك نحن نتطلع إليك للحصول على الدعم. قل إن أسلافك مخلطون.»
قال جرانت، بصراحة تامة، إنه يعتقد أن السلالة المختلطة ذات قيمة أكبر من السلالة الأصيلة. كان هذا حديثا عن السلالة الأصيلة في شكلها اليوم. لقد أعطت الرجل الكثير من الجوانب بدلا من إعطائه مزيدا من الصفات، وكان ذلك شيئا جيدا. فهي تميل إلى المهارة والتنوع؛ ومن ثم اتساع الأفق والتعاطف على نطاق واسع. بشكل عام، أيد وجهة نظر الآنسة دينمونت والسيد لو.
في ضوء طرافة المحادثة، كان جرانت مندهشا من الحدة والجدية اللتين كان السيد لوجان يناقضه بهما. كان مهووسا بعرقه، وقارنه باستفاضة بمعظم الدول الأخرى في أوروبا الغربية، مما تسبب في إلحاق الضرر الشديد بها. لم يكتشف جرانت إلا قرب انتهاء الشاي، أن السيد لوجان لم يخرج من اسكتلندا في حياته، وهو ما راق له بشدة. فهو لم يلتق بسكان السهول المحتقرين إلا أثناء تدريبه لمنصب الكاهن قبل نحو 30 عاما، ولم يعرف الدول الأخرى على الإطلاق. لعب جرانت، بعدما أحبطت جهوده - التي أيدتها بنبل الآنسة دينمونت - لإجراء محادثة لطيفة، دور كورس يوناني للسيد لوجان ، وترك أفكاره تتعامل مع لامونت.
بدأ الشامي في الظهور بشكل أفضل قليلا. التقى بعيني جرانت بشكل مباشر، وباستثناء العداء الظاهر في عينيه، لم يكن هناك شيء لافت للنظر بشأنه. لم يقم بأي محاولة لإخفاء الندبة الصغيرة على إبهامه، رغم أنه كان بالتأكيد يعلم، كما كان يعلم عن فنجانه الواشي، أنها دليل دامغ. من الواضح أنه قرر أن اللعبة قد انتهت. وبالرغم من ذلك بقي أن نرى ما إذا كان سيأتي بهدوء عندما يحين الوقت. على الأقل كان جرانت سعيدا برؤية وميض العداء في عينيه. إنه عمل بغيض أن تقبض على جبان. فيمكن لضابط الشرطة أن ينال ضربة خادعة قبل التوسل. ومن الواضح تماما أنه لن يكون هناك توسل في هذه المناسبة.
شيء واحد تسبب في تقسية قلب جرانت على الرجل: التقدم الذي بدا أنه أحرزه في جذب اهتمام الآنسة دينمونت في الأيام الثلاثة التي قضاها. حتى الآن، كانت ابتسامته السريعة تظهر ردا على ابتسامتها، وكانت عيناه تبحثان عن عينيها في كثير من الأحيان أكثر من أي شخص آخر على الطاولة. بدت الآنسة دينمونت فتاة قادرة تماما على الاعتناء بنفسها - كانت تتمتع بكل الذكاء والقدرة الخاصة بالأشخاص ذوي الشعر الأحمر - لكن هذا لا يبرر افتقار لامونت للمشاعر اللائقة. هل كان فقط يعد له حليفا؟ عادة لا يكون للرجل الهارب من جريمة قتل مصلحة إضافية في ممارسة الحب - خاصة إذا كان غير محترف في مجال الجريمة. لقد كان انتهازيا وقحا عديم الرحمة. حسنا، يجب ألا تكون لديه فرصة لمناشدة حليفه؛ سيضمن جرانت ذلك. في هذه الأثناء احتفظ بمكانه في المحادثة، وأشاد بسمك السلمون المرقط المقلي، الطبق الرئيسي مع شاي الخامسة والنصف في منزل القس. أكل الشامي أيضا، وضبط جرانت نفسه وهو يتساءل عن مقدار الجهد المطلوب لابتلاع كل من هذه اللقمات. هل كان مهتما أم أنه تجاوز الأمر؟ هل كان تعليقه الوقح: «ألا تعتقد ذلك يا سيد جرانت؟» خدعة أم حقيقة؟ كانت يداه ثابتتين تماما - تلك اليد اليسرى الرفيعة الداكنة التي أنهت حياة صديقه - ولم يتهرب من دوره في المحادثة. من الواضح أنه لم يكن هناك فرق بين الرجل الذي جلس هناك الآن والرجل الذي جلس هناك لتناول الغداء. كان الشامي يقوم بذلك بشكل جيد.
في نهاية احتساء الشاي، عندما بدءوا في التدخين، عرض جرانت على الآنسة دينمونت سيجارة، ورفعت حاجبيها في رعب زائف.
قالت: «يا عزيزي، هذا منزل قس في المرتفعات. إذا كنت ترغب في الخروج والجلوس على حجر بجانب النهر، فسآخذ واحدة، ولكن ليس تحت هذا السقف.»
من الواضح أن عبارة «تحت هذا السقف» كانت مقتبسة، لكن خالها تظاهر بعدم سماعها.
قال جرانت: «لا يوجد شيء أفضل من ذلك، لكن الوقت قد تأخر، وبما أنني سأعود إلى جارني سيرا على الأقدام، فأعتقد أنه من الأفضل أن أبدأ من الآن. أنا ممتن جدا لكم جميعا على النهاية الجيدة ليومي. ربما يود السيد لو السير معي قليلا في الطريق؟ ما زال الوقت مبكرا، وجيدا جدا.»
قال الشامي: «بالتأكيد»، وسبقه إلى القاعة. اختصر جرانت وداعه لمضيفته بسبب الخوف من اختفاء لامونت، لكنه وجده في القاعة يرتدي بهدوء معطف المطر الذي كان يرتديه صباحا. ثم خرجت الآنسة دينمونت لتنضم إلى خالها، الذي كان يرافقهما خارج المبنى، وكان لدى جرانت خوف مفاجئ من أنها ستعرض عليهما مرافقتهما. ربما كانت الطريقة الحازمة التي أدار بها لامونت ظهره قد أخافتها قليلا. كان من الطبيعي أن يقول: «ألن تأتي معنا أيضا؟»
لكنه لم يقل شيئا. أدار ظهره، رغم أنه كان يعلم أنها هناك. هذا لا يعني سوى أنه لا يريدها، والاقتراح الذي كانت على وشك تقديمه تلاشى على شفتيها. تنفس جرانت مرة أخرى. لم يرغب في إثارة جلبة أمام أنثى هيستيرية، إذا أمكن تجنب ذلك. عند البوابة استدار الرجلان للإعلان عن وجودهما لدى الباب. بينما كان جرانت يرتدي قبعته البالية، رأى تحية لامونت. فقط خلع قبعته وارتداها مرة أخرى، لكن جرانت لم يكن يعرف أن أي إيماءة يمكن أن تكون لائقة للوداع.
صعدا في صمت أول ارتقاء طفيف للطريق حتى أصبحا بعيدين عن المنزل، عند مفترق الطرق حيث اتجه الطريق السريع أعلى التل والمسار المؤدي إلى المزارع الصغيرة المتفرع على طول النهر. توقف جرانت هناك وقال: «أعتقد أنك تعرف ما أريدك من أجله، لامونت؟»
سأل لامونت، وهو يواجهه بهدوء: «ماذا تعني بالضبط؟» «أنا المفتش جرانت من سكوتلانديارد، ولدي مذكرة اعتقال ضدك بتهمة قتل ألبرت سوريل في صف الانتظار بمسرح وفينجتون ليلة الثالث عشر. يجب أن أحذرك من أن أي شيء تقوله يمكن أن يستخدم دليلا ضدك. أريد أن أرى أنه ليس لديك أي شيء. هلا تخرج يديك من جيبيك لحظة وتسمح لي بإلقاء القبض عليك؟»
قال الرجل الهزيل: «لقد ارتكبت خطأ، أيها المفتش. قلت إنني سأتمشى معك قليلا، لكنني لم أقل كم ستكون المسافة. هذا هو المكان الذي سأتوقف فيه.» انطلقت يده اليسرى من جيبه، وضرب جرانت يده، التي توقع أنها تحمل مسدسا، وهي ترتفع، ولكن، حتى عندما غمضت عيناه غريزيا، رأى وتعرف على وعاء الفلفل الأزرق من مائدة الشاي بمنزل القس. كان عاجزا، شبه أعمى، يسعل ويعطس، ولكنه سمع وقع أقدام الرجل الهاربة على مسار المستنقع، وحاول يائسا أن يسيطر على نفسه حتى يتمكن من سماع اتجاه الأصوات التي تولي الأدبار. ولكن مرت دقيقتان على الأقل قبل أن يتمكن من الرؤية جيدا بما يكفي ليتمكن من المتابعة. تذكر ذلك المساء في شارع ستراند، وقرر أن يمنح نفسه الوقت الكافي. لا يمكن لأي رجل، حتى لو كان نحيف البنية مثل الشامي، أن يركض أكثر من وقت محدود. كانت المسافة التي يحتمل أن يكون قد قطعها متوقفة على مدى شعوره بالإنهاك. واستنادا إلى الاتجاه الذي اختاره، فإن الشامي، عندما يصل إلى نقطة الإنهاك هذه، سيكون في بلدة لن تقدم له سوى القليل من وسائل الهروب. وبالطبع، سيكون فطنا بما يكفي ليدرك ذلك. لهذا، فإن الإجراء الأكثر ترجيحا هو أنه سيكرر أسلوب أمسية شارع ستراند: الاختباء، ربما حتى يحل الظلام ويصبح الوضع آمنا للتحرك، والعودة إلى وسيلة أفضل للهروب.
فكر جرانت في أن الرجل الواقف على أرض مرتفعة هو الذي سيتحكم في الموقف. على بعد ياردات قليلة، تدفق مجرى مائي صغير أسفل جانب التل. لم يكن الأخدود الذي صنعه عميقا بما يكفي ليتيح له التغطية واقفا، ولكن إذا انحنى، فإنه يخفي تقدمه أعلى جانب التل من أي شخص على بعد على طول مسار المستنقع. بالتمحيص الدقيق حوله بقدر ما تسمح به عيناه اللتان لا تزالان تتألمان، انطلق نحو أخدود صغير وانحنى، وصعده، متوقفا كل بضع ياردات للتأكد من عدم وجود أي شيء في الأفق وأنه هو نفسه لا يزال متخفيا بشكل جيد. بالأعلى، كان الأخدود تحده أشجار البتولا المتقزمة، وبعد الصعود قليلا كان يمر عبر هضبة صغيرة مزدانة ببضع أشجار البتولا الأكبر حجما. صحيح أن الضباب الأخضر لأشجار البتولا ليس غطاء مثاليا، لكن الهضبة أعطت منظرا ممتازا؛ لذلك قرر جرانت المخاطرة. بحذر، رفع نفسه من الضفة الرملية للجدول إلى العشب الناعم للهضبة، وزحف عبره إلى حافة نبات خلنج كثيف يحيط بمنحدر من عدة أقدام في مواجهة جانب التل. من هذا الموقع الممتاز، كان أمامه عملية المسح الفوري الشامل للوادي، باستثناء لوح عن يمينه، تخبئه إحدى الرقع المستطيلة من الحطب الذي يميز المنطقة. طمأنه مشهد الحطب. فالحطب سيمثل للامونت ما كان عليه الباب على الجانب الآخر من شارع بيدفورد. لم يكن لديه أدنى شك في أن لامونت كان يرقد هناك الآن، بانتظار أن يظهر نفسه على الطريق في مكان ما. الشيء الذي حيره هو ما اعتقده لامونت أنه سيحل محل الحافلات وسيارات الأجرة. ما الأمل الذي كان لديه غير الظلام؟ يجب أن يدرك أنه إذا انتظر حتى حلول الظلام، فسيطلب جرانت المساعدة. بالفعل بدأ الضوء في الاختفاء. هل يجب أن يتخلى عن مخبئه ويطلب المساعدة، أم أن هذا هو أكثر شيء أراده لامونت؟ هل كان سيقدم للامونت أفضلية الآن إذا ترك المراقبة وعاد إلى مطاردته؟ تمنى أن يتخذ قراره؛ أن يتمكن من رؤية لامونت وهو يتحرك. كلما فكر في الأمر أكثر ، تأكد من شعوره بأن لامونت كان يعتمد على عودته لطلب المساعدة. كان من البديهي القيام بذلك. فقد منح لامونت فرصة الذهاب بهدوء، ولم يستغل هذه الفرصة، رغم أن مقاومته كانت تعني الإعلان عن مكانه الحقيقي؛ بالتأكيد، إذن، كان يتوقع أن المفتش لم يعد يهتم بشأن مشاعره أو مشاعر الآخرين، وأنه سيعود لطلب المساعدة لإلقاء القبض عليه. ولما كان الأمر كذلك، سيبقى جرانت في مكانه ويراقب المنطقة.
استلقى هناك مدة طويلة في نبات الخلنج الرطب الذابل، ينظر من خلال السعف المشقوق إلى واد عريض هادئ. بمجرد أن أطلقت مكابح سيارة صرخة مدوية إلى يساره، حيث انحدر الطريق السريع أسفل التل، وبعد ذلك رأى السيارة تعبر الجسر الموجود قبل القرية، ركض مثل عنكبوت أسود صغير على طول الطريق في الجزء الخلفي من فندق كارنينيش هاوس، واختفى في الطريق الساحلي المتجه إلى الشمال. أطلق أحد الخرفان صوت مأمأة بعيدا على التل، وغنى طائر قبرة متأخر عاليا في الهواء، حيث كانت الشمس لا تزال موجودة. لكن لم يتحرك شيء في الوادي سوى النهر، وبدأ الشفق الشمالي البطيء يستقر عليه. ثم تحرك شيء ما. كان بالأسفل بجوار النهر. لا شيء أكثر تحديدا من وميض الماء المفاجئ في النهر نفسه، واختفائه مرة أخرى. لكنه لم يكن النهر؛ شيء ما قد تحرك. انتظر بأنفاس متقطعة، وقلبه، المتكئ على العشب، يحافظ على وحدة إيقاع ضخ الدم في أذنيه. كان عليه أن ينتظر قليلا، ولكن ما رآه كان واضحا هذه المرة. من خلف صخرة ضخمة يبلغ ارتفاعها 12 قدما على ضفاف النهر، انسل طريده للعيان واختفى مرة أخرى أسفل الضفة. انتظر جرانت مرة أخرى بصبر. هل كان سيختبئ هناك، أم أنه سيذهب إلى مكان ما؟ حتى في قلقه كان مدركا لذلك الانغماس المسلي الذي يراقب به الإنسان حيوانا بريا غير واع مشغولا بشئونه - هذا الشعور «المرضي» الذي يشعر به جميع البشر عندما يتجسسون. وبعد قليل، أعلنت حركة لطيفة بعيدة في اتجاه مجرى النهر عن حقيقة أن لامونت لم يكن ثابتا . كان متجها إلى مكان ما. وبالنسبة إلى أحد سكان المدن، كان يؤدي عملا رائعا في الاختباء. ولكن حينها، بالطبع، كان هناك الحرب - فقد نسي جرانت أن لامونت كان كبيرا بما يكفي ليشارك في الخدمة العسكرية. ربما كان على دراية بكل الأشياء المعروفة عن فن الاختباء. لم ير جرانت شيئا في المرة الثانية - لم يدرك سوى الحركة. ربما لم يكن ليرى شيئا لو كانت هناك طريقة للانتقال من تلك الصخرة إلى مأوى بضفة النهر أفضل من الخروج إلى الخلاء. لم يكن هناك أي أثر آخر للحركة، وتذكر جرانت أن الضفة اليسرى للنهر ستوفر مأوى جيدا على طول الطريق تقريبا. حان الوقت ليترك مقعده على المنصة وينزل إلى الساحة. ماذا يمكن أن تكون خطة لامونت؟ إذا تمسك بمساره الحالي، فسيعود إلى منزل القس في غضون ربع ساعة. هل هذا هو المكان الذي كان يتجه إليه؟ هل كان سيستفيد من الرقة التي أثارها من قبل بداخل الآنسة دينمونت؟ خطة جيدة بما فيه الكفاية. إذا كان جرانت قد فعل ما كان يشتبه فيه لامونت، وعاد لطلب المساعدة، فإن آخر مكان سيبحث فيه أي شخص سيكون منزل القس نفسه.
أطلق جرانت السباب، ونزل الأخدود مرة أخرى بالسرعة نفسها التي صعد بها وبقدر ما تسمح به رغبته في البقاء متخفيا. وعاد إلى مسار المستنقع وتردد متسائلا عن أفضل خطة. بينه وبين النهر امتد جزء من المستنقع، به صخور متناثرة بالتأكيد، لكن لا يخبئ أي شيء أكبر من أرنب. لم يتمكن لامونت من الوصول إلى النهر دون أن ينجح في ملاحظته إلا بسبب الحطب البعيد. حسنا، ماذا عن العودة الآن وطلب المساعدة؟ سأل الجزء المشاهد فيه: والقبض على الرجل الذي تخفيه ابنة أخت الكاهن؟ سأل نفسه بغضب: حسنا لم لا؟ إذا أخفته، فهي تستحق كل ما سيحدث لها. حثه نصفه الآخر قائلا: لكن حتى الآن ليست هناك حاجة إلى الإشهار. تأكد من ذهابه إلى منزل القس، ثم اتبعه واعتقله هناك.
بدا هذا منطقيا بما فيه الكفاية، وعبر جرانت المستنقع الصغير إلى النهر بسرعة كبيرة، على أمل ألا يراه أحد أسفل النهر حيث يمكن للامونت رؤيته. ما أراده هو عبور النهر. كان تعقب الرجل أسفل مجرى النهر محاولة لاكتشاف أمر معين. لم يرد الرجل أن يركض؛ كان يريده أن يختبئ بسلام في منزل القس، حتى يتمكن من الانقضاض عليه بارتياح. لو كان بإمكانه عبور النهر بأي حال من الأحوال، لكان بمقدوره مراقبة تقدم الرجل من الأرض المرتفعة على الجانب الآخر، ويمكنه أيضا التحرك معه في الوقت ذاته، إذا تمكن من اللحاق به، دون أن يدرك الرجل أنه مطارد. نظر إلى السيل. كان الوقت ثمينا، ولم يعد التعرض للبلل شيئا مهما الآن. فالغطس في ماء متجمد، بقرار مأخوذ بدم بارد، شيء؛ والغطس في طوفان في خضم مطاردة شيء آخر. اختار جرانت بقعة حيث ينقسم النهر بصخرتين كبيرتين إلى ثلاثة أجزاء. إذا نجح في عبور الصخرة الأولى، فيمكنه عبور الثانية والضفة بقفزة سريعة، ولا يهم كثيرا إذا لم يصل إلى الضفة ما دامت يداه قد تمسكتا بها. سيكون قد عبر للجانب الآخر. تراجع خطوة أو اثنتين وقاس المسافة إلى الصخرة الأولى بعينه. الصخرة الأولى كانت مسطحة أكثر من الثانية، وكانت توفر مكانا للهبوط؛ بينما كانت الثانية مدببة، ويجب أن يعبرها بسرعة. بعد تلاوة صلاة غير واضحة، ألقى بنفسه في الفضاء، وشعر أن حذاءه المزود بالمسامير ينزلق عندما اصطدم بالصخرة، وتمالك، وشعر بالصخرة تميل إلى البركة السوداء تحته، وقفز مرة أخرى، لكنه كان يعلم حتى عندما قفز أن الصخرة المنزلقة كانت تفتقر إلى التوازن من أجل قفزته، واصطدم بجانب الصخرة الثانية، ووضع يديه على الضفة البعيدة في الوقت المناسب تماما لمنع وصول الماء لما فوق خصره. شاكرا ولاهثا، سحب نفسه خارج الماء، وسرعان ما عصر سرواله الثقيل المصنوع من الصوف الخشن للتخلص من أكبر قدر ممكن من الماء الذي قد يعيقه بسبب وزنه، واتجه نحو الأرض المرتفعة وراءه. لم يسبق أن ظهر المستنقع بهذه الخطورة. غاصت الأعشاب النامية الجافة تحت قدميه في وحل المستنقع، وتشبث نبات العليق الميت بإصرار مفعم بالحياة بسرواله المبتل المصنوع من الصوف الخشن، وارتفعت أغصان أشجار البتولا المختبئة واصطدمت به بينما كان يخطو على الطرف الأقرب، وكانت الحفر في انتظار قدميه بين نبات الخلنج. كان يعتقد بشدة أن الأمر أشبه بجولة في قاعة موسيقى أكثر من أن يكون محاولة جادة للتغلب على مجرم. لاهثا، وصل إلى منعطف النهر، وألقى بنفسه أرضا للاستطلاع. كان هناك الرجل الذي يتعقبه، على ارتفاع نحو 50 ياردة فوق منزل القس، يتحرك ببطء شديد وحذر. خطر لجرانت أنه، المطارد، كان يمر بوقت عصيب، بينما اتخذ المطارد مسارا في العراء ممتعا ومدروسا جيدا. حسنا، لن يطول الأمر. في اللحظة التي وصل فيها الرجل إلى تلك البوابة الخلفية الصغيرة التي كانوا يضحكون عندها في سلام شديد هذا الصباح، كان جرانت خارج نبات الخلنج ويتجه بأقصى سرعة ممكنة نحو المسار الوعر بجانب النهر. كان لديه سلاح ناري صغير أوتوماتيكي في جيبه وزوجان من الأصفاد، وهذه المرة كان سيستخدمهما - كليهما إذا لزم الأمر. لم يكن الرجل الذي كان يتعقبه مسلحا وإلا لم يكن ليسرق وعاء الفلفل من مائدة الشاي، لكنه لم يعد يخاطر بعد الآن. لن يتم اعتبار مشاعر أي شخص بعد الآن في هذه القضية - على الأقل مشاعره. لذا فلتحظ كل أنثى من هنا حتى آخر بقعة في البلاد بنوبة هيستيرية في آن واحد - فهو لن يهتم بذلك.
كان جرانت لا يزال غاضبا ومتجهما ويعد بكل أنواع الانتقام الخيالية عندما اجتاز الرجل البوابة. لطالما تمنيت لو كان بإمكاني رؤية وجه جرانت في تلك اللحظة - رؤية الغضب والاستياء الساخطين لرجل حاول فعل الأشياء بشكل لائق، فقط ليتم استغلال أخلاقه، يتحولان إلى مجرد دهشة مرتابة لطفل صغير ينظر إلى ألعابه النارية الأولى. رمش بشدة، لكن الصورة ظلت كما هي؛ ما رآه كان حقيقيا. اجتاز الرجل البوابة. كان الآن في نهاية جدار منزل القس، ويتجه نحو الجسر. ماذا كان يفعل الأحمق؟ نعم، اعتبره جرانت أحمق. لقد توصل إلى طريقة جيدة تماما للهروب - لمناشدة الآنسة دينمونت والاختباء في منزل القس - ولم يستغل الأحمق ذلك. كان بالقرب من الجسر الآن. ما الذي كان يفعله؟ ماذا كان في رأسه؟ كان هناك هدف وراء كل حركة. لم يكن تقدما بلا هدف أو حتى تقدما خفيا بشكل خاص. بدا وكأنه منهمك جدا في التفكير في العمل الذي ينتظره بحيث لا يولي الكثير من الاهتمام لظروفه الحالية، ما يتعدى إلقاء نظرة عابرة خلفه على أسفل مجرى النهر. لا يعني ذلك أنه سيكون هناك الكثير من البحث الجيد عن مخبأ بالقرب من القرية. فحتى في هذه الساعة المهجورة، عندما كان الجميع يتناول وجبته المسائية ولم يكن أحد في الخارج حتى، بعد ساعة، عندما يخرجون لتدخين الغليون في الغسق عند نهاية الجسر، كانت هناك دائما فرصة لوجود أحد المارة، وأي ظهور للاختباء المتعمد سيقضي على أهدافه. صعد الرجل إلى الطريق بجانب الجسر، لكنه لم يتجه شمالا إلى اليمين ولا يسارا باتجاه القرية. عبر الطريق واختفى مرة أخرى على ضفة النهر. ما الذي يمكن أن يحصل عليه هناك؟ هل كان سيدور حول الفندق، الذي يقع عند نقطة التقاء النهر بالبحر، ويحاول سرقة السيارة الفورد؟ لكن من الواضح أنه كان يتوقع أن يطلب جرانت المساعدة. لن يغامر أبدا بالخروج من الشاطئ إلى المرأب بعد الانتظار بشكل متعمد للسماح لجرانت بإعطاء تحذير. الشاطئ؟
الشاطئ! يا إلهي، لقد استوعب الأمر! ذهب الرجل ليركب قاربا. كانت ملقاة على الشاطئ المهجور، بعيدا عن أنظار القرية. ظهر المد - كان على وشك الانحدار، في الواقع - ولم يكن هناك شخص، طفل أو بالغ، ليشهد رحيله. ألقى جرانت بنفسه أسفل جانب التل، وهو يسب براعة الرجل في إعجاب متردد. كان جرانت يعرف القارب الساحلي الغربي، وكانت لديه فكرة ذكية عن عدد المرات التي تم فيها استخدام هذه القوارب. فإذا كنت تقيم في قرية على الساحل الغربي، فستجد أن أندر سلعة على الإطلاق هي الأسماك الطازجة. قد تمر أيام حرفيا قبل أن يكتشف أي شخص أن قارب آل ماكنزي مفقود، وحتى حينها سيستنتجون أن شخصا ما قد استعاره، وسيوفرون «كلامهم الغاضب» - وهو مسار لا ينطوي على أي بذل للطاقة - للمقترض عندما يعيده. هل جلس لامونت وفكر في كل ذلك أثناء احتساء الشاي في منزل القس، فكر جرانت، عندما لمست قدماه المسار الوعر، أم أنه كان إلهاما أرسلته السماء في لحظة الحاجة؟ إذا كان قد خطط لذلك، حسب اعتقاده، وهو يسرع الخطى على الطريق المؤدي إلى الجسر الذي بدا بعيدا بشكل غريب، فقد خطط أيضا لعملية القتل هذه في صف الانتظار. عندما يفكر المرء في الأمر، حتى لو كانت جدة المرء إيطالية، فإن المرء لا يحمل الخناجر على أمل أن تصبح مفيدة. كان الرجل شريرا يتمتع بمهارة أكثر مما نسب إليه، على الرغم من افتقاره إلى ضبط النفس في مناسبتين.
قبل وقت طويل من وصول جرانت إلى المسار الوعر في أول هبوط له إلى أسفل التل مثل الانهيار الجليدي، كان قد قرر مسار عمله. هذا الصباح، عندما خرج من فندق كارنينيش هاوس مع درايزدال، لاحظ وجود مرفأ خلف الفندق مباشرة، ويبرز منه، إلى جانب الرصيف الصغير الذي يقود من ملجئه إلى البحر، ما كان جرانت متأكدا في وقت مضى من كونه مؤخرة زورق آلي. إذا كان على حق، وكان درايزدال في الفندق، وصمد الضوء، فعندئذ سيلقى القبض على لامونت لا محالة. لكن كانت هناك ثلاثة شروط في هذه المسألة.
بحلول الوقت الذي وصل فيه إلى الجسر كان لا يكاد يستطيع التنفس. لقد جاء من الجانب الآخر من الوادي، والآن يتجه إلى أسفل هذا الوادي مرتديا حذاء الصيد الثقيل الخاص به، وسرواله المبتل المصنوع من الصوف الخشن الذي كان يثقل وزنه. ومتحمسا كما كان، فقد بذل جهدا حقيقيا من الإرادة ليتمكن من مضاعفة سرعته في تلك المائة ياردة الأخيرة على الطريق الشمالي المؤدي إلى بوابات فندق كارنينيش هاوس. وبمجرد الوصول، انتهت أسوأ الأحداث؛ كان الفندق يقع على بعد بضع ياردات فقط من البوابة، في الشريط الضيق بين الطريق والبحر . عندما رأى كبير خدم درايزدال رجلا مبتلا لاهثا عند الباب، قفز على الفور إلى استنتاجات.
قال: «هل هو السيد؟ ماذا حدث؟ هل غرق؟»
قال جرانت: «أليس هنا؟ اللعنة! هل هذا زورق آلي؟ هل يمكنني أن أستعيره؟» ولوح بيده الخرقاء تجاه المرفأ، ونظر إليه كبير الخدم بريبة. لم يكن أي من الخدم حاضرا عند وصول جرانت في الصباح.
قال كبير الخدم: «لا، لا يمكنك يا ولدي، وكلما أسرعت في الخروج من هذا، كان أفضل بالنسبة إليك. فالسيد درايزدال سيجعلك تبدو تافها جدا عندما يأتي، يمكنني إخبارك بذلك.» «هل سيأتي قريبا؟ متى سيأتي؟» «سيكون هنا في أي لحظة.» «لكن «في أي لحظة» معناه أنه سيكون متأخرا جدا!»
قال كبير الخدم: «اخرج! ولا تكثر في الشراب في المرة القادمة.»
قال جرانت، ممسكا بذراعه: «اسمع، لا تكن أحمق. أنا متزن مثلك. تعال إلى هنا حيث يمكنك رؤية البحر.»
جذب شيء ما في نبرة صوته انتباه الرجل، لكن بخوف واضح من العنف الشخصي اقترب من البحر بصحبة الرجل المجنون. في منتصف البحيرة كان هناك قارب تجديف، يسير بسرعة باتجاه البحر أسفل مصب النهر الضيق عند المد المنحسر.
سأل جرانت: «هل ترى ذلك؟ أريد اللحاق بذلك القارب، ولا يمكنني فعل هذا في قارب تجديف.»
قال الرجل: «لا، لا يمكنك. يتدفق المد هناك مثل جدول الطاحونة.» «لهذا السبب يجب أن يكون لدي زورق آلي. من يشغل المحرك؟ هل هو السيد درايزدال؟» «لا، أشغله عادة عندما يخرج.» «هيا إذن. عليك أن تفعل ذلك الآن. السيد درايزدال يعرف كل شيء عني. كنت أصطاد بالنهر طوال اليوم. في البداية، هذا الرجل بحوزته قارب مسروق، ونحن نريده بشدة لأسباب أخرى؛ لذا تحرك.» «هل ستتحمل كل المسئولية إذا ذهبت؟» «أوه، نعم، سيكون القانون في صفك تماما. أعدك بذلك.» «حسنا، علي فقط أن أترك رسالة» وانطلق إلى الفندق.
مد جرانت يده لإيقافه، لكن بعد فوات الأوان. لثانية خشي أنه لم يكن مقتنعا، رغم كل شيء، وأنه كان يهرب فقط؛ ولكن في لحظة عاد وركضا عبر العشب الطويل الضيق إلى المرفأ، حيث كان يطفو القارب «ماستر روبرت». من الواضح أن درايزدال قد سمى القارب على اسم الحصان الذي وفر فوزه بالسباق الوطني الكبير المال اللازم لشرائه. بينما كان كبير الخدم يعبث بالمحرك، الذي أطلق دفقات تجريبية، جاء درايزدال عند نهاية الفندق بمسدسه، ومن الواضح أنه عاد لتوه من وقت ما بعد الظهر على التل، وحياه جرانت بفرح، وشرح على عجل ما حدث. لم يقل درايزدال كلمة واحدة، لكنه عاد إلى المرفأ معه وقال: «كل شيء على ما يرام، بيدجون؛ سأتولى الأمر من هنا، وأخرج السيد جرانت. هلا تتأكد أن هناك عشاء جيدا ينتظر شخصين - لا، ثلاثة - عندما نعود؟»
خرج بيدجون من القارب ببهجة لم يكلف نفسه عناء إخفائها. أعطى القارب «ماستر روبرت» دفعة، وشغل درايزدال المحرك، وبهدير انطلقا بعيدا عن الرصيف إلى البحيرة. بينما كانا ينحرفان في مسارهما إلى البحيرة، ثبت جرانت عينيه على البقعة المظلمة المقابلة للون الأصفر الباهت للسماء الغربية. ماذا سيفعل لامونت هذه المرة؟ هل سيأتي بهدوء؟ في الوقت الحاضر غيرت البقعة المظلمة مسارها. بدا وكأنه يصل إلى الأرض على الجانب الجنوبي، وعندما ابتعد عن الأفق المضاء، أصبح غير مرئي على خلفية التلال الجنوبية.
سأل جرانت بقلق: «هل تستطيع رؤيته؟ فأنا لا أستطيع رؤيته.» «نعم؛ إنه يتجه إلى الشاطئ الجنوبي. لا تقلق؛ سنكون هناك قبل أن يصل إلى هناك.»
ومع انطلاقهما بسرعة كبيرة، اقتربا من الشاطئ الجنوبي بطريقة تبدو كأنها معجزة. وفي غضون لحظة أو اثنتين، تمكن جرانت من ملاحظة القارب مرة أخرى. كان الرجل يجدف يائسا إلى الشاطئ. كان من الصعب على جرانت، الذي لم يكن على دراية بالمسافات على الماء، أن يقيس بعده عن الشاطئ وإلى أي مدى كانا يبتعدان عنه، لكن البطء المفاجئ في سرعة «ماستر روبرت» أخبره بكل ما يريد أن يعرفه. كان درايزدال يبطئ بالفعل. وفي دقيقة واحدة كانا يلحقان به. عندما كان القاربان على بعد نحو 50 ياردة، توقف لامونت فجأة عن التجديف. فكر جرانت: هل استسلم؟ ثم رأى الرجل ينحني في القارب. فكر جرانت، في حيرة: هل يعتقد أننا سنطلق النار؟ وبعد ذلك، عندما أوقف درايزدال المحرك وكانا يقتربان منه بترو سلس، قفز لامونت، بلا معطف ولا قبعة، على قدميه ثم إلى الحافة العليا من جانب القارب، كما لو كان سيغوص. انزلقت قدمه ذات الجورب على الحافة الرطبة، وخرجت قدماه من تحته. سمعا بوضوح صوت خبطة مؤلمة، حيث اصطدمت مؤخرة رأسه بالقارب واختفى تحت الماء.
كان جرانت قد نزع معطفه وحذاءه عند وصولهما إليه.
سأل درايزدال بهدوء: «هل تستطيع السباحة؟ إذا لم تستطع، فسننتظر حتى يظهر مرة أخرى.»
قال جرانت: «أوه نعم، يمكنني السباحة جيدا بما يكفي عندما يكون هناك قارب لإنقاذي. أعتقد أنني سأضطر إلى الذهاب من أجله إذا كنت أريده. لقد تعرض لخبطة فظيعة.» وقفز من فوق جانب القارب. بعد ست أو سبع ثوان، برز رأس داكن اللون على السطح، وجذب جرانت الرجل الفاقد للوعي إلى القارب، وسحبه بمساعدة درايزدال.
قال: «تمكنت منه!» وهو يدحرج الجسد الواهن على الأرض.
ثبت درايزدال قارب التجديف بمؤخرة القارب «ماستر روبرت» وشغل المحرك مرة أخرى. راقب باهتمام بينما كان جرانت يعصر بلا مبالاة ملابسه المبللة ويفحص بعناية أسيره. كان الرجل فاقدا الوعي تماما، وكان ينزف من جرح في مؤخرة رأسه.
اعتذر جرانت لأن الدم تجمع وكون بركة صغيرة قائلا: «آسف على الألواح الخشبية.» قال درايزدال: «لا تقلق. يمكن فركها. هل هذا هو الرجل الذي تريده؟» «نعم.»
نظر إلى الوجه الداكن اللاواعي مدة من الوقت. «ما الذي تريده منه، إذا لم يكن السؤال طائشا؟» «جريمة قتل.»
قال درايزدال: «حقا؟» كما لو أن جرانت قال «سرقة خراف.» نظر إلى الرجل مرة أخرى. «هل هو أجنبي؟» «لا؛ إنه من سكان لندن.» «حسنا، في هذه اللحظة يبدو كما لو أنه سيهرب من حبل المشنقة بعد كل شيء، أليس كذلك؟»
نظر جرانت بحدة إلى الرجل الذي كان يعتني به. هل كان بهذا السوء؟ بالتأكيد لا!
بينما كان فندق كارنينيش هاوس يسبح أمامهم عبر المياه قال جرانت: «كان يقيم مع آل لوجان في منزل القس. لا يمكنني إعادته إلى هناك. الفندق هو أفضل مكان، على ما أعتقد. وعندئذ يمكن للحكومة أن تتحمل كل العناء.»
لكن عندما طافا بسرعة إلى منصة الهبوط، ونزل بيدجون، الذي كان يراقب عودتهما، لمقابلتهما، قال درايزدال: «الرجل الذي ذهبنا من أجله فاقد الوعي. في أي غرفة أشعلت المدفأة من أجل السيد جرانت؟» «الغرفة المجاورة لغرفتك يا سيدي.» «حسنا، سنحمل هذا الرجل إلى هناك. وأخبر ماثيسون أن يذهب إلى جارني من أجل الدكتور أندرسون، وأخبر العاملين بفندق جارني أن السيد جرانت سيبقى معي الليلة، وليحضر أغراضه.»
اعترض جرانت على هذا الكرم غير الضروري. وقال: «يا إلهي، لقد طعن الرجل صديقه في ظهره!».
ابتسم درايزدال: «أنا لا أفعل ذلك من أجله، على الرغم من أنني لن أدين أسوأ عدو لي بالفندق هنا. لكنك لا تريد أن تفقد رجلك الآن بعد أن حصلت عليه. إذا حكمنا بالمظهر فقط، فقد قضيت وقتا لا بأس به في القبض عليه. وبحلول الوقت الذي يشعلون فيه المدفأة بإحدى غرف النوم الباردة جدا هناك» أشار إلى الفندق عبر النهر «ووضعه في السرير، سيكون رجلك قد فارق الحياة تماما. بينما هنا توجد غرفة، دافئة وجاهزة، يمكنك أن تغتسل فيها. من الأسهل والأفضل ترك الرجل هناك.» ثم أردف بينما كان الرجل ينصرف: «بيدجون! لا تتحدث مع أحد عن هذا الأمر. تعرض هذا الرجل النبيل لحادث أثناء ركوبه القارب. لاحظنا ذلك وخرجنا لمساعدته.»
قال بيدجون: «جيد جدا يا سيدي.»
لذلك، حمل جرانت ودرايزدال، فيما بينهما، الجسد الواهن إلى الطابق العلوي، وقدما الإسعافات الأولية في غرفة النوم الكبيرة المضاءة بنيران المدفأة؛ وبعد ذلك، وضعه بيدجون وجرانت على الفراش، بينما كتب درايزدال رسالة قصيرة إلى السيدة دينمونت يوضح فيها أن ضيفها قد تعرض لحادث بسيط وأنه سيبقى هنا طوال الليل. كان يعاني من ارتجاج طفيف، لكن ليس هناك ما يدعو للقلق.
عندما سمع جرانت طرقا على الباب، كان قد غير للتو ملابسه وارتدى بعض الملابس الخاصة بمضيفه، وكان ينتظر بجانب الفراش حتى الإعلان عن موعد العشاء، وعندما سمح لها، دخلت الآنسة دينمونت الغرفة. كان رأسها مكشوفا وتحمل صرة صغيرة تحت ذراعها، لكنها بدت رابطة الجأش تماما.
قالت: «لقد أحضرت بعض الأشياء الخاصة به»، وذهبت إلى الفراش وفحصت لامونت بهدوء. لكسر حاجز الصمت، قال جرانت إنهم أرسلوا في طلب الطبيب، لكنه كان حسب رأيه - رأي جرانت - ارتجاجا بسيطا. كان لديه جرح في مؤخرة الرأس.
سألت: «كيف حدث هذا؟» لكن جرانت كان يواجه هذه الصعوبة طوال الوقت الذي كان يغير فيه ملابسه المبتلة. «التقينا بالسيد درايزدال، وعرض علينا التنزه معه. انزلقت قدم السيد لو على حافة رصيف الميناء، واصطدمت به مؤخرة رأسه عندما سقط.»
أومأت برأسها. بدت وكأنها في حيرة بشأن شيء ما ولم تكن قادرة على التعبير عن نفسها. «حسنا، سأبقى وأعتني به الليلة. إنه لأمر جيد للغاية أن يستضيفه السيد درايزدال.» فتحت صرتها دون إظهار أي تعبيرات على وجهها. «هل تعلم، كان لدي هاجس هذا الصباح عندما كنا ذاهبين إلى أعالي النهر أن شيئا ما سيحدث. أنا سعيدة جدا لأن هذا ما حدث وليس شيئا أسوأ. كان من الممكن أن تكون وفاة شخص ما، وهذا أمر لا يمكن علاجه.» كانت هناك وقفة صغيرة، بعدها قالت بقلق، وهي لا تزال مشغولة، «هل ستقضي الليلة مع السيد درايزدال أيضا؟»
قال جرانت: «نعم»، عندها فتح الباب ودخل درايزدال بنفسه. «هل أنت جاهز أيها المفتش؟» قال: «لابد أنك جائع»، ثم رأى الآنسة دينمونت. منذ تلك اللحظة، اعتبر جرانت دائما أن درايزدال رجل «مخابرات» من الدرجة الأولى لم يستفد منه بالقدر الجيد. لم تبد عليه أي علامات اندهاش. «حسنا، آنسة دينمونت، هل كنت قلقة بشأن تغيب ضيفك؟ ليس هناك داع للقلق، على ما أعتقد. إنه مجرد ارتجاج بسيط. سيحضر الدكتور أندرسون عما قريب.»
مع امرأة أخرى، ربما يكون هذا مقبولا، لكن جرانت شعر بالإحباط عندما التقى بعين الآنسة دينمونت الذكية. قالت لدرايزدال: «شكرا لاستضافته هنا. ليس هناك الكثير مما يمكن فعله حتى يأتي. لكنني سأبقى الليلة، إذا كنت لا تمانع، وأعتني به.» ثم التفتت إلى جرانت وقالت بترو: «مفتش في ماذا؟»
قال جرانت على الفور، ثم تمنى لو لم يفعل ذلك: «المدارس». عرف درايزدال أيضا أنه كان خطأ، لكنه دعمه بإخلاص. «لا يبدو عليه، أليس كذلك؟ لكن التفتيش هو الملاذ الأخير لغير المثقفين. هل هناك أي شيء يمكنني توفيره لك قبل أن نذهب ونأكل يا آنسة دينمونت؟» «لا، شكرا. هل يمكنني رن الجرس للخادمة إذا أردت شيئا؟» «بالتأكيد. ولنا إذا احتجت إلى ذلك. نحن فقط في الغرفة بالأسفل.» خرج وتحرك على طول الردهة، ولكن، بينما كان جرانت يتبعه، غادرت الغرفة معه وسحبت الباب خلفها.
قالت: «أيها المفتش، هل تعتقد أنني حمقاء؟ ألا تدرك أني عملت مدة سبع سنوات في مستشفيات لندن؟ لا يمكنك أن تعاملني كريفية ساذجة ليس لديها أي أمل في النجاح. هلا تتفضل وتخبرني ما هو اللغز؟»
كان درايزدال قد اختفى في الطابق السفلي. وأصبح وحده معها، وشعر أن إخبارها بكذبة أخرى سيكون إهانة كبرى. «حسنا، آنسة دينمونت، سأقول لك الحقيقة. لم أكن أريدك أن تعرفي الحقيقة من قبل لأنني اعتقدت أنها قد تنقذك من ... من الشعور بالأسف حيال الأشياء. لكن الآن ما باليد حيلة. لقد جئت من لندن لاعتقال الرجل الذي كان يقيم عندك. وكان يعرف ما أتيت من أجله عندما أتيت في وقت احتساء الشاي، لأنه يعرفني شكلا. لكن عندما جاء معي إلى أعلى الطريق، هرب. في النهاية، استقل قاربا، وجرح رأسه بقفزه من القارب عندما لاحقناه.» «وماذا تريد منه؟»
أصبح الأمر حتميا. «لقد قتل رجلا في لندن.» «قتل!» كانت الكلمة بيانا وليس سؤالا. بدت وكأنها تفهم أنه لو كان الأمر غير ذلك، لكان المفتش قال القتل غير العمد. «إذن هذا يعني أن اسمه ليس لو؟» «لا؛ اسمه لامونت ... جيرالد لامونت.»
كان ينتظر الانفجار الأنثوي المحتوم وقول «لا أصدق ذلك! لم يكن ليفعل مثل هذا الشيء!» لكن هذا لم يحدث. «هل تعتقله للاشتباه فيه، أم أنه ارتكب تلك الجريمة؟»
قال جرانت بلطف: «يؤسفني أنه ليس هناك من شك في ذلك.» «لكن خالتي ... هل ... كيف توصلت إلى إرساله إلى هنا؟» «أتوقع أن السيدة إيفريت كانت تشعر بالأسف عليه. كانت تعرفه بعض الوقت.» «قابلت خالتي مرة واحدة فقط في الوقت الذي كنت فيه في لندن - لم تكن تحب إحدانا الأخرى - لكنها لم تبد لي من الأشخاص الذين يشعرون بالأسف على جان. من المرجح أن أصدق أنها فعلت الأمر بنفسها. إذن فهو ليس حتى صحفيا؟»
قال جرانت «لا، إنه موظف لدى وكيل مراهنات.»
قالت: «حسنا، شكرا لإخباري بالحقيقة أخيرا. يجب أن أجهز الأشياء للدكتور أندرسون الآن.»
سأل جرانت لا إراديا: «هل ما زلت ستعتنين به؟» هل كان انفجار عدم التصديق سيحدث الآن؟
قالت هذه الفتاة الرائعة: «بالتأكيد. حقيقة أنه قاتل لا تغير من حقيقة إصابته بارتجاج، أليس كذلك؟ وحقيقة أنه استغل ضيافتنا لا تغير حقيقة أنني ممرضة محترفة، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فربما تعلم أنه في الأيام الخوالي في المناطق الجبلية كان الضيف يحظى بكرم الضيافة والمأوى حتى لو كان سيفه ملطخا بدماء شقيق مضيفه. لا أقوم في كثير من الأحيان بالترويج للمناطق الجبلية، لكن هذه مناسبة خاصة نوعا ما.» التقطت أنفاسها وهو لا يعلم ما إذا كانت تضحك أم تبكي، ربما مزيج من الاثنين، وعادت إلى الغرفة لتعتني بالرجل الذي استغلها واستغل منزلها دون ضمير.
الفصل الثالث عشر
التوقف عن إحراز تقدم
لم ينم جرانت جيدا في تلك الليلة. كان هناك كل ما يدعو لينام في سلام مهيب مثل الرجل الصالح الذي لا يعاني من أي مشكلات في الهضم. لقد أنهى العمل الذي أتى من أجله، واكتملت قضيته. لقد قضى يوما شاقا في العراء، في الهواء الذي كان منبها ومخدرا في آن واحد. كان العشاء الذي قدمه درايزدال هو كل ما يمكن أن يتمناه رجل جائع أو محب للطعام. كان البحر خارج نافذته يتنفس بتنهيدات طويلة لطيفة كانت بمثابة تأليه للرضا. توهجت نار العشب على نحو مهدئ كما لم تفعل أي نار مشتعلة بخشب أو فحم من قبل. لكن جرانت لم ينم جيدا. علاوة على ذلك، كان هناك انزعاج في ذهنه في موضع ما، ومثل كل الأشخاص الذين يحللون أنفسهم، كان على دراية بذلك وأراد تحديد ذاك الموضع، حتى يتمكن من إخراجه إلى النور والقول: «يا إلهي، هل هذا كل شيء!» ويجد الراحة والسلوى كما كان يفعل في كثير من الأحيان من قبل. لقد كان يعرف جيدا كيف أن هذا القلق الذي دمر راحة مراتب سعادته الاثنتي عشرة أثبت بالتحقيق أنه مجرد حبة البازلاء من الحكاية الخيالية. ولكن، بالتفكير العميق، لم يجد أي سبب لافتقاره للرضا. أبرز عدة أسباب، وفحصها، وألقى بها بعيدا. هل كانت الفتاة؟ هل كان يشعر بالأسف عليها بسبب شجاعتها وأخلاقها؟ لكن لم يكن لديه سبب حقيقي للاعتقاد بأنها كانت تهتم بالرجل بخلاف كونه صديقا. ربما كان اهتمامها به الذي لا يمكن إنكاره أثناء احتساء الشاي يرجع فقط إلى كونه الرجل الوحيد المثير للاهتمام من وجهة نظرها في ريف قاحل. هل كان متعبا، إذن؟ لقد مر وقت طويل منذ أن قضى يوما كاملا في الصيد، يليه التحرك بسرعة عبر البلاد بوتيرة مرهقة للغاية. أم كان خائفا من أن يفلت رجله من بين أصابعه؟ لكن الدكتور أندرسون قال إنه لم يكن هناك كسر وأن الرجل سيكون قادرا على السفر في غضون يوم أو يومين. ولم تكن فرصه في الهروب الآن جديرة بالاهتمام، حتى على سبيل الافتراض.
لم يكن هناك شيء في العالم كله، على ما يبدو، ليقلقه، ومع ذلك كان لديه ذلك الاضطراب الغامض في ذهنه. خلال أحد تقلباته الدورية في الفراش، سمع الممرضة تسير في الردهة، وقرر أنه سينهض ليرى ما إذا كان يمكن أن يساعدها بأي شكل. ارتدى روبه واتجه نحو الضوء الذي جاء من الباب الذي تركته مواربا. عندما دخل، جاءت من ورائه بشمعة.
قالت: «إنه آمن تماما، أيها المفتش»، وجعلته السخرية في نبرة صوتها يشعر كأنه ظالم .
قال، بأكبر قدر من الكرامة يمكن للمرء أن يحققه وهو يرتدي ملابس المنزل في ساعات الصباح الأولى: «لم أكن نائما، وسمعتك تتحركين وظننت أنني قد أستطيع مساعدتك.»
رضخت قليلا. قالت: «لا، شكرا لك؛ لا يوجد ما يمكن فعله. لا يزال فاقدا الوعي.» دفعت الباب وفتحته وقادته إلى الداخل.
كان هناك مصباح بجانب الفراش، ولكن بخلاف ذلك كانت الغرفة مظلمة ومليئة بأصوات البحر - الهمهمات اللطيفة التي تختلف تماما عن صوت اصطدام الأمواج الكبيرة بالساحل المفتوح. كان الرجل، كما قالت، لا يزال فاقدا الوعي، وفحصه جرانت بدقة في ضوء المصباح. بدا أفضل وكان تنفسه أفضل. قالت: «سيستعيد وعيه قبل الصباح»، وبدا الأمر كأنه وعد أكثر من كونه تصريحا.
قال جرانت فجأة: «لا أستطيع أن أخبرك كم أنا آسف، لتعرضك لكل هذا ... وتورطك في هذا الموقف.» «لا تقلق أيها المفتش، أنا لست ضعيفة على الإطلاق. لكني أرغب في ألا تعلم والدتي وخالي بذلك. هل يمكنك تدبر ذلك الأمر؟» «أوه، أعتقد ذلك. يمكننا أن نطلب من الدكتور أندرسون أن يصف له بعض العلاج.»
تحركت فجأة، وأدرك مدى تعاسة عبارته، لكنه لم يستطع أن يرى أي طريقة لعلاجها؛ لذا التزم الصمت.
سألت فجأة: «هل هو سيئ للغاية؟ أعني، بصرف النظر عن ...»
قال جرانت: «لا، ليس على حد علمنا.» وبعد ذلك، خشية من أن يبدأ البرعم الأخضر الذي حرقه الليلة الماضية في النمو مرة أخرى، وتشعر بمزيد من الألم، أضاف: «لكنه طعن صديقه في ظهره.»
قالت: «الرجل المنتظر في الصف؟» وأومأ جرانت برأسه. حتى الآن، كان ينتظر في أي لحظة عبارة «لا أصدق ذلك». لكنها لم تأت. لقد التقى أخيرا بامرأة كانت فطنتها أكبر من عواطفها. كانت تعرف الرجل منذ ثلاثة أيام فقط، وكان يكذب عليها كل ساعة من هذه الأيام، وتريده الشرطة بتهمة القتل. كان هذا دليلا كافيا في عينيها الصافيتين لمنعها من الوقوف في صفه.
قالت: «لقد وضعت للتو الغلاية على الموقد في الحمام لإعداد الشاي. هل ترغب في بعض الشاي؟» وقبل جرانت وشربا السائل الساخن بجوار النافذة المفتوحة، والبحر يتدفق بالأسفل في ليلة صافية بشكل غريب بالساحل الغربي. وذهب جرانت إلى الفراش مرة أخرى وهو متأكد تماما من أن مشاعر الآنسة دينمونت لم تكن هي التي تقلقه، لكنه لا يزال قلقا بشأن شيء ما، والآن، بالرغم من أنه كان يكتب برقيات مبتهجة بالنصر إلى باركر في الصباح الذهبي، مستمتعا بالرائحة المريحة للحم الخنزير المقدد والبيض، التي تتبارى بلطف مع رائحة الأعشاب البحرية، لم يكن سعيدا كما كان ينبغي أن يكون. دخلت الآنسة دينمونت، وهي لا تزال ترتدي الزي الأبيض، مما جعلها تبدو راهبة جراحة، لتقول إن مريضها قد استعاد وعيه، لكن على جرانت ألا يدخل إليه حتى يحضر الدكتور أندرسون؟ فقد كانت تخشى الإثارة؛ وظن جرانت أن ذلك معقول دون شك.
سأل: «هل استعاد وعيه للتو؟».
قالت لا؛ لقد استعاد وعيه منذ بضع ساعات، وذهبت بهدوء، تاركة جرانت يتساءل عما دار بين المريض والممرضة في تلك الساعات القليلة. انضم إليه درايزدال في وجبة الإفطار، بمزيجه الغريب من الصمت والألفة، واتفق معه أن يقضي يوما حقيقيا في صيد الأسماك كتعويض للصيد المشتت الذي مر به بالأمس. قال جرانت إنه بمجرد وصول أندرسون وسماع تقرير عن رجله، سيرحل. وطلب أن ترسل إليه أي برقيات. «أوه، نعم؛ ليس هناك ما يحبه بيدجون أكثر من الشعور بأهميته. إنه يشعر بارتياح كبير في الوقت الحالي.»
قال الدكتور أندرسون، وهو رجل قصير يرتدي سترة قديمة من الصوف الخشن ليست نظيفة بالقدر الكافي، إن المريض كان بصحة جيدة بالفعل - حتى ذاكرته كانت سليمة - لكنه نصح جرانت، الذي اعتبره أقرب صديق للرجل، بألا يراه حتى المساء. سيكون من الأفضل منحه يوما لينعم بالهدوء. وبما أن الآنسة دينمونت بدت مصرة على الاعتناء به، فلا داعي للخوف عليه. كانت ممرضة ممتازة.
سأل جرانت: «متى يمكنه السفر؟ نحن في عجلة من أمرنا للوصول إلى الجنوب.» «إذا كان ذلك مهما جدا، فربما بعد غد.» عندما رأى مدى إحباط جرانت، قال: «أو حتى غدا، إذا كانت الرحلة مريحة . كل هذا يتوقف على الراحة في السفر. لكنني لا أوصي بذلك إلا بعد غد على أقرب تقدير.»
قال درايزدال: «لم العجلة؟ لماذا تفسد السفينة مقابل كمية صغيرة جدا من القطران؟»
قال جرانت: «أخشى من حبال الإرساء المرخاة.» «لا تقلق. سوف يكون بيدجون الممتاز شغوفا بأن يكون السجان.»
ثم التفت جرانت إلى الطبيب المتفاجئ وشرح حقيقة الموقف. «هل هناك فرصة لفراره إذا تركناه هنا حتى يصبح أقوى؟»
قال أندرسون: «إنه آمن بما فيه الكفاية اليوم. الرجل ليس مؤهلا لرفع إصبع صغيرة في الوقت الحالي. يجب أن يتم حمله إذا هرب، ولا أعتقد أن هناك أي شخص هنا على استعداد لحمله.»
لذلك وافق جرانت، مدركا لكونه غير معقول تماما وهو يخلو عند البحر مع نفسه، وكتب تقريرا ثانيا إلى باركر لتكملة التقرير الذي كتبه في الليلة السابقة، وغادر إلى النهر مع درايزدال.
بعد يوم من الرضا الكبير، الذي لم ينكسر إلا بوصول أحد تابعي بيدجون، شاب ذو أنف مرتفع الأرنبة وأذنين بارزتين مثل مقبضين، مع برقيات من باركر، عادا إلى الفندق في الوقت الفاصل بين احتساء الشاي وتناول العشاء؛ وبعدما اغتسل جرانت، قرع باب الغرفة التي كانت تؤوي لامونت. أدخلته الآنسة دينمونت، وقابل العينين السوداوين للرجل على الفراش بشعور ملحوظ من الارتياح؛ فهو لا يزال هناك.
كان لامونت أول من تحدث. قال بقليل من البطء: «حسنا، لقد تمكنت مني.»
قال جرانت: «يبدو الأمر كذلك. ولكنك نجحت في الهروب وقتا طويلا.» «نعم»، وافق الرجل، وعيناه تذهبان إلى الآنسة دينمونت وتعودان في الحال. ثم سأل: «أخبرني، ما الذي جعلك تقفز من القارب؟ فيم كنت تفكر؟» «لأن السباحة والغوص هما أفضل ما لدي. لو أنني لم أنزلق، لكان بإمكاني أن أصل إلى الصخور تحت الماء ولاستلقيت هناك وأخرجت أنفي وفمي فقط حتى تتعب من البحث عني، أو يحل الظلام. لكنك ربحت ... بفارق رأس.» يبدو أن التلاعب اللفظي أسعده.
كان هناك شيء من الصمت، وقالت الآنسة دينمونت بصوتها الواضح المتأني: «أعتقد، أيها المفتش، أنه جيد بما يكفي ليترك الآن. على الأقل، لن يحتاج إلى خدمات احترافية بعد الآن. لعل أحدهم سيعتني به في الفندق الليلة؟»
استنتج جرانت أن هذه كانت الطريقة التي تقول بها إن الرجل كان قويا بما يكفي الآن ليحظى بحارس أنسب، ووافق لحسن الحظ. «هل تريدين الذهاب الآن؟» «بمجرد أن يأخذ شخص ما مكاني دون أن ينزعج أحد.»
اتصل جرانت، وشرح الموقف للخادمة التي جاءت. قال عندما ذهبت الخادمة، ووافقت: «سأبقى إذا كنت ترغبين في الذهاب الآن.»
ذهب جرانت إلى النافذة ووقف ناظرا إلى البحيرة، حتى إذا أرادت أن تقول أي شيء للامونت، يكون الطريق خاليا، وبدأت في جمع أغراضها. لم يكن هناك صوت للمحادثة، وعندما نظر حوله، رأى أنها كانت على ما يبدو منغمسة تماما في مهمة عدم ترك أي شيء وراءها، وكان الرجل يراقبها دون أن ترمش عيناه، منتظرا بكل كيانه لحظة توديعها. عاد جرانت إلى البحر، وبعد قليل سمعها تقول: «هل يمكنني أن أراك مرة أخرى قبل أن ترحل؟» لم يكن هناك إجابة على ذلك، واستدار جرانت ليجد أنها كانت تخاطبه.
قال: «أوه، نعم، آمل ذلك. سأمر على منزل القس إذا لم أرك بطريقة أخرى - إذا جاز لي ذلك.»
قالت: «حسنا، إذن لا داعي للوداع الآن.» وخرجت من الغرفة بصرتها.
ألقى جرانت نظرة سريعة على أسيره وصرف بصره على الفور. فمن غير اللائق أن نحدق بفضول حتى في جسد قاتل. عندما نظر مرة أخرى، كانت عينا الرجل مغمضتين وكان وجهه قناعا لمثل هذا البؤس الذي لا يوصف، لدرجة أن جرانت تأثر بشكل غير متوقع. لقد كان يهتم لأمرها، إذن لم يكن الأمر مجرد نوع من الانتهازية.
سأل بعد قليل: «هل يمكنني فعل أي شيء من أجلك، لامونت؟»
فتح عينيه السوداوين واعتبره غير مرئي. وقال أخيرا: «أعتقد من المبالغة توقع أن يصدق أي شخص أنني لم أفعل ذلك.»
قال جرانت بجفاء: «هذا صحيح.» «لكنني لم أفعل ذلك، كما تعلم.» «حقا؟ حسنا، لم نكد نتوقع منك أن تقول إنك فعلت ذلك.» «هذا ما قالته.»
سأل جرانت، متفاجئا: «من؟» «الآنسة دينمونت. عندما أخبرتها أنني لم أرتكب شيئا.» «أوه؟ حسنا، إنها عملية إقصاء بسيطة، كما ترى. وكل شيء يتناسب جيدا مع احتمال حدوث خطأ. حتى وصولا إلى هذا.» وأشار إلى الندبة الموجودة على الجزء الداخلي من إبهامه، ملتقطا يد لامونت من حيث وضعت على غطاء الفراش. «من أين حصلت على هذه؟» «حصلت عليها وأنا أحمل صندوق ثيابي على الدرج إلى شقتي الجديدة في بريكستون، صباح ذلك اليوم.»
قال جرانت بتساهل: «حسنا، حسنا، لن نتجادل في هذه القضية الآن، وأنت لست جيدا بما يكفي للإدلاء بشهادة. إذا أخذت شهادتك الآن، فسيتعللون بأنني حصلت عليها منك عندما لم تكن في كامل قواك العقلية.»
قال الرجل: «شهادتي ستظل كما هي متى أخذتها؛ لكن، لن يصدقها أحد. لو كانوا سيصدقونها، لما هربت.»
لقد سمع جرانت تلك الحكاية من قبل. كانت مناورة مفضلة لدى المجرمين الذين ليس لديهم دليل براءة. عندما يلعب الرجل دور البريء المصاب، يفكر الشخص العادي على الفور في احتمال حدوث خطأ؛ لكن ضابط الشرطة، الذي لديه معرفة طويلة بالمذنب المشكوك فيه، يكون أقل تأثرا - في الواقع، لا يتأثر على الإطلاق. فضابط الشرطة الذي أعجب بقصة الحظ العسر، على الرغم من جودة روايتها، لن يكون مفيدا في شكل قوة مصرة لقمع أكثر المخلوقات الجديرة ظاهريا بالتصديق، أي المجرم. لذا ابتسم جرانت وعاد إلى النافذة. كانت البحيرة مثل الزجاج هذا المساء، وانعكست أدق تفاصيل التلال على كلا الجانبين في المياه الساكنة. رسا قارب «ماستر روبرت» أسفل المرفأ - «سفينة مطلية» - إلا أنه لا يوجد طلاء يمكنه إعادة شفافية البحر كما كانت حينذاك.
قال لامونت بعد قليل: «كيف استنتجت المكان الذي أتيت إليه؟»
قال جرانت بإيجاز: «من بصمات الأصابع.» «هل لديك بصمات أصابعي؟» «لا، ليست بصماتك. سوف آخذها في غضون دقيقة.» «بصمات من إذن؟» «السيدة إيفريت.»
قال الرجل بأول إشارة إلى معارضته: «ما علاقة السيدة إيفريت بذلك؟» «أتوقع أنك تعرف المزيد عن ذلك أكثر مما أعرفه. لا تتحدث. أريدك أن تكون قادرا على السفر غدا أو في اليوم التالي.» «لكن اسمع، أنت لم تفعل أي شيء للسيدة إيفريت، أليس كذلك؟»
ابتسم جرانت. «بلى؛ أعتقد أن السيدة إيفريت هي من فعلت بنا شيئا ما.» «ماذا تقصد؟ أنت لم تعتقلها، أليس كذلك؟»
من الواضح أنه لم يكن هناك أمل في أن يظل الرجل هادئا حتى يعلم كيف تتبعوه؛ لذلك أخبره جرانت. «عثرنا على بصمة إصبع للسيدة إيفريت في شقتك، وكما أخبرتنا السيدة إيفريت بأنها لا تعرف مكان شقتك الجديدة؛ لذا فإن استنتاج صلتها بالجريمة له وجاهته. ووجدنا أن أقاربها بقوا هنا، ثم وجدنا الرجل الذي خدعته في كينجز كروس، ووصفه للسيدة إيفريت جعل الأمور أكيدة. لم نتمكن فقط من الإمساك بك في شقة بريكستون.» «السيدة إيفريت لن تتورط في مشكلة، أليس كذلك؟» «الأرجح أن هذا لن يحدث، الآن بعد أن أمسكنا بك.» «لقد كنت أحمق عند هروبي، في المقام الأول. لو أنك جئت وقلت الحقيقة في البداية، لم يكن ليصبح الأمر أسوأ مما هو عليه الآن، ولكنت وفرت على نفسي كل ما حدث.» كان مستلقيا وعيناه على البحر. «من الغريب التفكير أنه لو لم يقتل أحد بيرت، ما كنت لأرى هذا المكان أو ... أو أي شيء آخر.»
اعتبر المفتش أن عبارة «أي شيء» تعود إلى منزل القس. «مم! ومن تعتقد قتله؟» «لا أعرف. لم يكن هناك أي شخص أعرفه يفعل ذلك ببيرت. أعتقد أنه ربما يكون أحدهم قد فعل ذلك عن طريق الخطأ.» «ألا تبحث عما كانوا يفعلونه بالإبرة، إذا جاز القول؟» «لا، إنهم يخلطون بيني وبين شخص آخر.» «وأنت الرجل الأعسر ذو الندبة على إبهامه الذي تشاجر مع سوريل قبل وفاته مباشرة، ولديه كل الأموال التي يملكها سوريل في العالم، لكنك بريء تماما.»
أدار الرجل رأسه بعيدا بضجر. قال: «أنا أعلم. لا تحتاج أن تخبرني بمدى سوء الموقف.»
سمعا طرقا على الباب، وظهر الصبي ذو الأذنين البارزتين في المدخل وقال إنه أرسل لمساعدة السيد جرانت، إذا كان هذا هو ما أراده السيد جرانت. قال جرانت: «أريدك في غضون خمس دقائق أو نحو ذلك. عد إلي عندما أرن الجرس.» واختفى الصبي، بابتسامة عريضة، في ظلام الممر مثل القط تشيشاير. أخرج جرانت شيئا من جيبه وعبث به في الحوض. ثم جاء إلى الفراش وقال: «بصمات الأصابع من فضلك. إنها عملية غير مؤلمة إلى حد ما؛ لذا لا داعي للقلق.» أخذ بصمات كلتا يديه على الأوراق المعدة، واستسلم الرجل بلا مبالاة مشوبة بالاهتمام الذي يظهره المرء في تجربة شيء لطيف، لأول مرة. عرف جرانت حتى وهو يضغط بأطراف أصابعه على الورقة أن الرجل ليس لديه سجل في سكوتلانديارد. ستكون البصمات ذات قيمة فقط إذا ما قورنت بالبصمات الأخرى في القضية.
أثناء وضعها جانبا حتى تجف، قال لامونت: «هل أنت أشهر ضابط في سكوتلانديارد؟»
قال جرانت: «ليس بعد. أنت تجاملني.» «أوه، لقد اعتقدت ذلك فقط عند رؤية صورتك في الصحيفة.» «لهذا السبب ركضت ليلة السبت الماضي في شارع ستراند.» «هل كان ذلك السبت الماضي فقط؟ أتمنى لو كانت حركة المرور قد قضت علي حينها!» «حسنا، كادت أن تقضي علي.» «نعم؛ لقد شعرت بصدمة مروعة عندما رأيتك ورائي بتلك السرعة.» «لو كان هذا سيريحك، فقد أصبت بصدمة أسوأ بكثير عندما رأيتك تعود إلى شارع ستراند. ماذا فعلت بعد ذلك؟» «ركبت سيارة أجرة. كانت إحداها تمر حينذاك.»
قال المفتش وفضوله يغلبه: «أخبرني، هل كنت تخطط للهروب بالقارب طوال الوقت عند احتساء الشاي في منزل القس؟» «لا؛ لم يكن لدي أي خطط على الإطلاق. فكرت في القارب بعد ذلك فقط لأنني معتاد على القوارب، وظننت أنك ستفكر فيها بالنهاية. كنت سأحاول الهروب بطريقة ما، لكنني لم أفكر في الأمر حتى رأيت وعاء الفلفل بينما كنت خارجا. كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن أن أفكر بها، كما ترى. فسلاحي مع بيرت.» «سلاحك؟ هل كان ذلك سلاحك الموجود في جيبه؟» «نعم، هذا ما ذهبت إلى صف الانتظار من أجله.»
لكن جرانت لم يرد إفادات من هذا النوع الليلة . قال: «لا تتحدث!» ورن الجرس للصبي. «سآخذ أي شهادة تريد إعطائي إياها غدا. إذا كان هناك أي شيء يمكنني القيام به من أجلك الليلة، فأخبر الصبي وسيعلمني بذلك.» «لا يوجد شيء، شكرا لك. لقد كنت لطيفا للغاية - أكثر بكثير مما كنت أتصور أن تكون الشرطة يوما - مع المجرمين.»
من الواضح أن تلك كانت نسخة إنجليزية من أدب راءول لدرجة أن جرانت ابتسم لا إراديا، وانعكس ظل الابتسامة على وجه لامونت الداكن. قال: «حسنا، لقد فكرت كثيرا في بيرت، وأعتقد أنها كانت امرأة، ما لم أكن مخطئا.»
قال جرانت بجفاء: «شكرا على النصيحة»، وتركه تحت رحمة الشاب المبتسم. ولكن بينما كان يشق طريقه إلى الطابق السفلي كان يتساءل لماذا فكر في السيدة راتكليف.
الفصل الرابع عشر
الإدلاء بالشهادة
لم يدل لامونت بإفادته للمفتش في كارنينيش، ولكن أثناء الرحلة إلى الجنوب. طلب الدكتور أندرسون، عند سماعه ما تم طرحه، راحة يوما إضافيا لمريضه. «أنت لا تريد أن يصاب الرجل بالتهاب في الدماغ، أليس كذلك؟»
جرانت، الذي كان يتوق بشدة للحصول على شهادة مكتوبة، أوضح أن الرجل نفسه كان حريصا على الإدلاء بشهادة، وأن الإدلاء بها سيؤذيه بالتأكيد بشكل أقل من جعلها تختمر في عقله.
قال أندرسون: «قد يكون كل شيء على ما يرام في البداية، ولكن عندما ينتهي، سيحتاج إلى يوم آخر في الفراش. خذ بنصيحتي واتركها في الوقت الحالي.» لذا استسلم جرانت وترك أسيره يحظى بوقت أطول ليصقل الحكاية التي كان بلا شك يلفقها. اعتقد أنه لا يوجد أي قدر من الصقل، لحسن الحظ، بإمكانه محو الأدلة. كان ذلك غير قابل للتغيير، ولا شيء قد يقوله الرجل يمكن أن يغير الحقائق. قال لنفسه إن تساوي مقدار الفضول من جانبه والخوف على قضيته هو ما جعله شديد التوق لسماع ما لدى لامونت. لذلك أجبر نفسه على إظهار بعض الصبر. وذهب للصيد في البحر باستخدام القارب «ماستر روبرت» مع درايزدال، وكل ضجة صادرة من المحرك ذكرته بالسمكة التي اصطادها منذ ليلتين. ذهب لتناول الشاي في منزل القس، وبمواجهة وجه الآنسة دينمونت الهادئ ووعاء الفلفل الغريب بجانب الملح على الطاولة، كانت أفكاره بالكامل تقريبا عن لامونت. ذهب إلى الكنيسة بعد ذلك، جزئيا لإرضاء مضيفه، ولكن بشكل أساسي لتجنب ما كان من الواضح أنه سيكون محادثة مع الآنسة دينمونت وجها لوجه إذا بقي في الخلف، وجلس أثناء خطبة أثبت فيها السيد لوجان إرضاء لنفسه ولجماعة المصلين أن ملك الملوك لم يستفد من رقصة الفوكستروت، وفكر باستمرار في الشهادة التي كان سيقدمها له لامونت. عندما تلاشى الضجيج الكئيب للغاية الذي تضمنه مدح المناطق الجبلية في صمت للمرة الأخيرة وأعلن السيد لوجان عن بركة متملقة، صار يعتقد الآن أن بمقدوره العودة ليكون بالقرب من لامونت. سرعان ما أصبح مهووسا به، وقد أدرك الحقيقة واستاء منها. عندما ذكرته السيدة دينمونت - لم تأت الآنسة دينمونت إلى الكنيسة - وهي تتمنى له ليلة هانئة بأن السيارة ستتوقف في الغد عند بوابة منزل القس للسماح لهم بتوديع السيد لو، كانت صدمة بالنسبة إليه أنه كان هناك المزيد من التمثيل الذي يتعين فعله قبل مغادرته كارنينيش. لكن تبين أن الأمور أسهل مما كان يتوقع. لعب لامونت دوره كما لعبه أثناء تناول الشاي المصيري، ولم يشك مضيفه ولا مضيفته في وجود أي خطأ أكثر خطورة من مسألة صحته. لم تكن الآنسة دينمونت موجودة. قالت والدتها: «قالت داندي إنها ودعتك بالفعل، ومن سوء الحظ أن يودع المرء مرتين. وقالت إن لديك ما يكفي من سوء الحظ بالفعل. هل أنت شخص سيئ الحظ إذن؟»
قال لامونت بابتسامة رائعة: «جدا»، وبينما تبتعد السيارة، أخرج جرانت الأصفاد.
قال بفظاظة: «آسف. فقط حتى نصل إلى محطة القطار.» لكن لامونت كرر كلمة «سيئ الحظ!» كما لو كان يحب وقعها، فجأة. في المحطة انضم إليهما أحد رجال التحري وفي إنفرنيس كان لديهم مقصورة خاصة بهم. وبعد العشاء في تلك الليلة، عندما كان آخر ضوء يسير على التلال، عرض لامونت، شاحبا ومريضا نوعا ما، مرة أخرى إخبارهم بكل ما يعرفه.
قال: «لا أعرف الكثير . لكني أريدك أن تعرفه.»
قال جرانت: «هل تدرك أن ما تقوله يمكن استخدامه ضدك؟ ربما يريدك محاميك ألا تقول شيئا. كما ترى، أنت تضع خط دفاعك في أيدينا.» وحتى في أثناء قوله ذلك، كان يتساءل: لماذا أنا شديد الحرص؟ لقد أخبرته بالفعل أن أي شيء يقوله يمكن استخدامه ضده. لكن لامونت أراد التحدث؛ لذلك أخرج الشرطي دفتر ملاحظاته.
سأل لامونت: «من أين أبدأ؟ من الصعب معرفة من أين نبدأ.»
لماذا لا تخبرنا كيف قضيت يوم مقتل سوريل، الذي مر عليه أسبوع يوم الثلاثاء الماضي - في اليوم الثالث عشر. «حسنا، حزمنا أمتعتنا في الصباح، كان بيرت يغادر إلى أمريكا في تلك الليلة، وأخذت أشيائي إلى شقتي الجديدة في بريكستون، وأخذ أغراضه إلى ووترلو.»
هنا خفق قلب المفتش بشدة. يا له من أحمق! لقد نسي كل شيء عن أمتعة الرجل. لقد عرف الكثير بالتعقب الخاطئ لآل راتكليف ثم بتعقب لامونت، لدرجة أنه لم يكن لديه الوقت لرؤية الشيء الماثل أمام عينيه مباشرة. لا يعني ذلك أنه كان ذا أهمية قصوى، على أي حال. «استغرقنا في ذلك حتى وقت الغداء. تناولنا الغداء في كوفنتري ستريت ليونز ...» «أين بالضبط؟» «في طاولة بإحدى الزوايا في الطابق الأول.» «نعم؛ تابع.» «طوال الوقت الذي كنا نتناول فيه الغداء، تجادلنا بشأن ما إذا كنت سأذهب لوداعه أم لا. كنت أرغب في الذهاب إلى ساوثهامبتون معه ورؤيته يبحر، لكنه لم يسمح لي بالحضور حتى إلى قطار الميناء في ووترلو. قال إنه لا يوجد أي شيء في العالم يكرهه مثل الوداع، خاصة عندما كان يسافر بعيدا. أتذكر أنه قال: «إذا لم يكن أحدهم يسافر بعيدا، فلا داعي لذلك، وإذا كان سيسافر إلى الجانب الآخر من العالم، فلا فائدة من ذلك. فما الفائدة من بضع دقائق بصورة أو بأخرى؟» ثم في وقت ما بعد الظهر ذهبنا إلى وفينجتون لنشاهد عرض «ديدنت يو نو؟»»
قال جرانت: «ماذا! هل ذهبت إلى العرض في وفينجتون بعد الظهر؟» «نعم؛ لقد تم ترتيب ذلك قبل وقت طويل. حجز بيرت المقاعد. المقاعد الأمامية. لقد كان نوعا من الاحتفال النهائي. في فترة الاستراحة أخبرني أنه سينضم إلى صف انتظار الصالة من أجل العرض المسائي بمجرد خروجنا - فقد ذهب كثيرا إلى «ديدنت يو نو؟» كان نوعا من الهوس بالعرض؛ في الواقع، ذهب كلانا كثيرا - وقلنا إننا سيودع كل منا الآخر حينها. بدت لي طريقة غير لائقة أن أقول وداعا لصديق كنت تعرفه جيدا كما كنت أعرف بيرت، لكنه كان دائما غريبا، وعلى أي حال، إذا لم يكن يريدني، فلن أصر على التواجد معه. لذلك ودع أحدنا الآخر خارج الجزء الأمامي من وفينجتون، وعدت إلى بريكستون لتفريغ أغراضي. كنت أشعر بأن الكيل قد طفح؛ لأنني وبيرت كنا صديقين لدرجة أنه لم يكن لدي أي شخص آخر يستحق الذكر، وقد شعرت بالوحدة في بريكستون بعد شقة السيدة إيفريت.» «ألم تفكر في الذهاب مع سوريل؟» «أردت ذلك، بالطبع، لكن لم يكن لدي المال. كنت آمل لبعض الوقت أن يعرض إقراضي المال. كان يعلم أنني سأرده له بالتأكيد. لكنه لم يفعل ذلك قط. لقد كنت متألما بعض الشيء حيال ذلك أيضا. بكل الطرق كنت أشعر بأنني قد فاض بي الكيل. ويبدو أن بيرت نفسه لم يكن سعيدا بذلك. فقد تمسك بيدي مثل أي شيء عندما كان كل منا يودع الآخر. وأعطاني طردا صغيرا وقال عدني بألا تفتحه إلا بعد غد - أي اليوم الذي يلي إبحاره. اعتقدت أنه كان نوعا من هدايا الوداع، ولم أفكر في أي شيء أكثر من ذلك. كان طردا أبيض اللون صغيرا ملفوفا في ورق مثل ذلك الذي يستخدمه الصاغة، وفي الواقع اعتقدت أن بداخله ساعة. كانت ساعتي تخرب دائما. واعتاد أن يقول: «إذا لم تحصل على ساعة جديدة، يا جيري، فلن تضبط مواعيدك أبدا».»
اختنق لامونت فجأة وتوقف. مسح البخار بعناية من النافذة ثم استأنف: «حسنا، عندما كنت أفرغ أغراضي في بريكستون، لم أجد مسدسي. لم أستخدم هذا الشيء قط، بالطبع. كان مجرد تذكار حرب. لدي رخصة ، على الرغم من أنك قد لا تعتقد ذلك. وأقول لك بصراحة إنني أفضل ألف مرة أن أقطع الأسلاك، أو أي شيء آخر من هذا القبيل، بدلا من أن تطاردني الشرطة في جميع أنحاء لندن. الأمر ليس سيئا للغاية في العراء. إنه أشبه باللعبة بطريقة ما. لكن في لندن، الأمر أشبه بالوقوع في فخ. ألم تشعر أن الأمر لم يكن سيئا للغاية في الريف بطريقة ما؟»
اعترف المفتش: «نعم، شعرت بذلك. لكني لم أتوقع منك ذلك. اعتقدت أنك ستكون أكثر سعادة في المدينة.»
قال لامونت: «سعيد! يا إلهي!» وصمت، ومن الواضح أنه يعيش التجربة في خياله مرة أخرى.
سأل المفتش: «حسنا، هل فقدت مسدسك؟» «نعم؛ فقدته. وعلى الرغم من أنني لم أستخدمه - فقد كان يحتفظ به عادة به في درج مغلق في شقة السيدة إيفريت - كنت أعرف بالضبط المكان الذي وضعته فيه عندما كنت أحزم ثيابي. أعني مكان وجوده في صندوق الثياب. وحيث إنني حزمت أغراضي ذلك الصباح فقط، فقد كنت أخرج الأشياء بعكس الترتيب الذي وضعتها به؛ ولذا عرفت أنني قد فقدته في الحال. وبعد ذلك شعرت بالخوف بطريقة ما - على الرغم من أنني لا أستطيع إخبارك بالسبب حتى الآن. بدأت أتذكر كيف كان بيرت هادئا مؤخرا. كان دائما هادئا، لكنه كان أكثر هدوءا مؤخرا. ثم ظننت أنه ربما كان يريد فقط سلاحا لأنه ذاهب إلى بلد غريب. ولكن حينها اعتقدت أنه كان بإمكانه طلب ذلك. كان يعلم أنني كنت سأعطيه إياه إذا طلب ذلك. على أي حال، كنت خائفا نوعا ما، على الرغم من عدم قدرتي على إخبارك بالسبب، وعدت مباشرة إلى صف الانتظار ووجدته. كان لديه مكان جيد، قطع نحو ثلث الطريق؛ لذلك أعتقد أنه كان لديه صبي يحتفظ بمكانه من أجله. لا بد أنه كان ينوي طوال الوقت أن يأتي في ليلته الأخيرة. لقد كان بيرت عاطفيا. سألته إن كان قد أخذ مسدسي فاعترف بذلك. لا أعرف لماذا أصبحت خائفا جدا حينها فجأة. فبالنظر إلى الوراء، لا يبدو أن هناك شيئا يدعو للخوف - فقد أخذ صديقك مسدسك. لكنني كنت خائفا، وفقدت صوابي وقلت: «حسنا، أريده الآن.» فقال: «لماذا؟» وقلت: «لأنه ملكي وأنا أريده.» قال: «يا لك من حقير، جيري! ألا يمكنني استعارة أي شيء منك حتى عندما أكون عازما على قطع نصف المسافة حول العالم وأنت عازم على المكث في لندن القديمة الصغيرة الآمنة؟» لكني تمسكت باستعادته. ثم قال: «حسنا، ستقضي وقتا ممتعا في تفريغ أغراضي من أجل ذلك، لكنني سأعطيك المفتاح والتذكرة.» عندها فقط خطر لي أنني كنت قد اعتبرت أن حمله المسدس كان أمرا مسلما به. بدأت أشعر بالضآلة وأشعر أنني جعلت من نفسي أضحوكة. كنت دائما أفعل الأشياء أولا وأفكر فيما بعد، وكان بيرت دائما يفكر مدة طويلة في شيء ما، وبعد ذلك يفعل تماما كما كان ينوي. كنا متناقضين من نواح كثيرة. لذلك طلبت منه الاحتفاظ بتذكرته والمسدس أيضا، ورحلت.»
الآن لم يعثر على تذكرة لغرفة المعاطف بحوزة سوريل. «هل رأيت التذكرة؟» «لا، لقد عرض علي فقط إعطائي إياها.
في صباح اليوم التالي، تأخرت لأنني لم أكن معتادا على الاعتماد على نفسي، واضطررت إلى إعداد وجبة الإفطار الخاصة بي والتنظيف، لكنني لم أتسرع لأنني لم يكن لدي عمل. كنت آمل أن أحصل على وظيفة وكيل مراهنات عند انطلاق «سباق الأراضي المستوية». كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة عندما خرجت، ولم أكن أفكر في أي شيء سوى بيرت. طفح بي الكيل من الطريقة التي افترقنا بها والحماقة التي ارتكبتها لدرجة أنني ذهبت إلى مكتب بريد وأرسلت برقية إلى بيرت موجهة إلى سفينة «كوين أوف آرابيا»، تقول: «آسف. جيري.»» «من أي مكتب بريد أرسلت البرقية؟» «ذلك الموجود في شارع بريكستون الرئيسي.» «حسنا؛ تابع.» «اشتريت جريدة وعدت إلى شقتي، ثم شاهدت الأخبار المتعلقة بجريمة القتل في صف الانتظار. لم يذكر أي وصف للرجل إلا أنه كان شابا وحسن المظهر، ولم أربط ذلك الوصف ببيرت. هل تعلم أنه عندما كنت أفكر في بيرت، كنت أفكر به دائما على متن السفينة بحلول هذا الوقت؟ إذا تم إطلاق النار على الرجل، كنت سأشعر بالذعر في الحال. لكن الطعن بخنجر كان مختلفا.»
في هذه المرحلة نظر جرانت بدهشة مرتابة إلى لامونت. هل كان ثمة احتمال ولو ضعيفا أن الرجل يقول الصدق؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فقد كان البائس الأقسى قلبا الذي أتيح لجرانت قدر كبير من التعاسة لمقابلته. لكن بدا أن الرجل غير مدرك لفحص جرانت؛ فقد بدا مستغرقا تماما في قصته. إذا كان هذا تمثيلا، فقد كان أفضل ما شاهده جرانت على الإطلاق؛ وهو يعتبر نفسه خبيرا. «صباح الخميس عندما كنت أنظف، تذكرت طرد بيرت وفتحته. وفي الداخل كانت جميع أموال بيرت. شعرت بالذهول، وبطريقة ما شعرت بالخوف مرة أخرى. لو حدث أي شيء لبيرت، لكنت سمعت عنه - أعني، اعتقدت أنني كنت سأسمع عنه - لكن لم يعجبني ذلك. لم يكن هناك رسالة معها. لقد قال لي عندما سلمني الطرد: «هذا لك»، وطلب مني أن أعده بعدم فتحه حتى يحين الوقت الذي حدده. لم أكن أعرف ماذا أفعل حيال ذلك لأنني كنت لا أزال أعتقد أن بيرت في الطريق إلى نيويورك. خرجت وحصلت على جريدة. كانت جميعها تحمل العناوين الرئيسية الكبيرة المتعلقة بجريمة القتل في صف الانتظار، وهذه المرة كان هناك وصف كامل للرجل وملابسه ومحتويات جيوبه. كان ذلك بالخط الأسود العريض، وعرفت على الفور أنه بيرت، وركبت حافلة، فشعرت بالغثيان، لكنني كنت أقصد الذهاب إلى سكوتلانديارد على الفور وإخبارهم بكل ما أعرفه عن الأمر. في الحافلة قرأت بقية الخبر. قالوا إن جريمة القتل ارتكبها شخص أعسر، وأرادوا معرفة من ترك الصف. ثم تذكرت أننا قد حظينا بجدال يمكن أن يكون قد سمعه أي شخص، وأنني أمتلك كل أموال بيرت دون شيء واحد يظهر كيف حصلت عليها. نزلت من الحافلة وأنا أتصبب عرقا مريعا، ومشيت أفكر فيما يجب القيام به. كلما فكرت في الأمر، بدا أنني لا أستطيع الذهاب إلى سكوتلانديارد بقصة كهذه. كنت في حيرة من أمري بين ذلك وترك بيرت يرقد هناك، بينما يفلت الحقير الذي قتله. كنت على وشك الجنون في ذلك اليوم. اعتقدت أنه إذا لم أذهب، فربما يتعقبون الرجل الصحيح. وحينها كنت أتساءل عما إذا كنت سأستخدم ذلك كعذر لعدم الذهاب - جبن، كما تعلم. ظلت أفكاري تدور على هذا النحو، ولم أستطع التوصل إلى أي قرار. يوم الجمعة قالوا إن الاستجواب سيجرى في ذلك اليوم، ولم يدع أحد معرفة بيرت. كانت هناك لحظة خلال ذلك اليوم أوشكت فيها على الذهاب إلى سكوتلانديارد، وبعد ذلك، فقط عندما استنهض التفكير في بيرت شجاعتي، تذكرت ما كان لدي من قصة ضعيفة عن نفسي. لذا بدلا من ذلك أرسلت بعضا من أموال بيرت لدفنه. كنت أرغب في أن أقول من هو، لكنني كنت أعرف أن ذلك سيجلبهم جميعا لي في دقيقة واحدة. ثم في صباح اليوم التالي رأيت أن لديهم أوصافي. كانوا يبحثون عني. كنت سأذهب حينها طوعا. لكن، في تلك الأوصاف، ورد أن الرجل لديه ندبة في الجزء الداخلي من إصبعه أو إبهامه. هذا أنهى الأمر. فقد حصلت على تلك الندبة» مد يده «كما أخبرتك - وأنا أحمل صندوق الثياب على الدرج إلى شقتي. علق بي الإبزيم وأنا أنزلها. لكن هذا أنهى الأمر تماما. من سيصدقني الآن؟ انتظرت حتى وقت متأخر من بعد الظهر، ثم ذهبت إلى السيدة إيفريت. كانت الصديقة الحقيقية الوحيدة لدي، وكانت تعرفني. أخبرتها بكل شيء عن الأمر. لقد صدقتني لأنها عرفتني، كما ترى، لكنها هي أيضا رأت أنه لن يصدقني أي شخص لا يعرفني.
لقد وصفتني بالمغفل، أو ما شابه، لأنني لم أذهب مباشرة للإبلاغ عما أعرفه. هذا ما كانت ستفعله. كان لديها القدرة على التحكم فينا على حد سواء. اعتاد بيرت أن يلقبها بالليدي ماكبث؛ لأنها كانت اسكتلندية واعتادت توبيخنا على فعل الأشياء عندما كنا نتردد بشأنها. قالت إن كل ما يمكنني فعله الآن هو الاختفاء. إذا لم يجدوني، كانت هناك دائما فرصة الوصول إلى الرجل الصحيح، وبعد ذلك ستمنحني المال للسفر إلى الخارج. لم أستطع استخدام مال بيرت، بطريقة ما. عندما تركتها قطعت كل الطريق إلى المدينة لأنني لم أستطع تحمل فكرة العودة إلى شقتي دون أن أفعل شيئا سوى الاستماع لوقع الأقدام على الدرج. اعتقدت أنني سأكون أكثر أمانا في قاعة لعرض الأفلام، وكنت أنوي الذهاب إلى شارع هايماركت. ثم نظرت إلى الوراء في شارع ستراند ورأيتك ورائي. أنت تعرف هذا الجزء. عدت إلى شقتي في الحال، ولم أخرج منها حتى أتت السيدة إيفريت يوم الإثنين وأخبرتني أنك ذهبت إليها. لقد جاءت معي إلى كينجز كروس وعرفتني على الأشخاص في كارنينيش. أنت تعرف الباقي. بعد أن أمضيت يوما في كارنينيش، بدأت أعتقد أن لدي فرصة، حتى رأيتك تدخل الغرفة لتناول الشاي.»
وغاص في الصمت. لاحظ جرانت أن يديه كانتا ترتجفان. «ما الذي جعلك تعتقد أن المال الذي تقول أن سوريل تركه معك هو كل ما كان بحوزته؟» «لأنه كان المبلغ الذي يمتلكه في حسابه الخاص في البنك. كنت أنا من سحبه له قبل أكثر من أسبوع من موعد الإبحار. لقد سحبه كله باستثناء جنيه واحد.» «هل كنت معتادا على سحب الأموال له؟» «لا، نادرا. لكنه في ذلك الأسبوع كان مشغولا بشكل رهيب بتسوية الأمور في المكتب والتنظيف بشكل عام.» «لماذا سحبها بهذه السرعة إذا لم يكن بحاجة إليها لدفع ثمن التذكرة، إذ من الواضح أنه لم يفعل ذلك؟» «لا أعرف، ما لم يكن يخشى من ألا يكون لديه ما يكفي في حساب الشركة لسداد جميع الفواتير. لكن كان لديه ما يكفي. لم يكن عليه أي ديون.» «هل كان العمل جيدا؟» «نعم؛ ليس سيئا. كما هو الحال دائما في الشتاء. نحن لا نراهن بالكثير في سباق الصيد الوطني - أعني، لم نراهن. خلال «سباق الأراضي المستوية»، كانت الأمور جيدة بما فيه الكفاية.» «إذن فنهاية فصل الشتاء يعتبر موسما قاحلا لسوريل؟» «نعم.» «وأنت متى سلمت المال إلى سوريل؟» «عندما عدت من البنك مباشرة.» «أنت تقول إنك تشاجرت مع سوريل بشأن المسدس. هل يمكنك إثبات أن المسدس كان يخصك؟» «لا؛ كيف يمكنني ذلك؟ لم يعلم أحد بالأمر لأنه كان مقفولا عليه - أعني لا أحد سوى بيرت. كان محشوا بالرصاص بالضبط مثلما كان عندما جاءت الهدنة. لم يكن شيئا يمكن تركه دون مراقبة.» «وفي رأيك ماذا كان يريد سوريل؟» «لا أعرف. ليس لدي أي فكرة. لقد فكرت في الانتحار. بدا الأمر على هذا النحو. ولكن فيما بعد لم يكن هناك سبب لذلك.» «عندما قلت لي في كارنينيش إن امرأة قتلت سوريل برأيك، ماذا كنت تقصد؟» «حسنا، كما ترى، كنت أعرف جميع أصدقاء بيرت من الرجال، ولم يكن لديه أي صديقات - أعني فتيات أكثر من مجرد معارف. لكنني لطالما ظننت أنه ربما كانت هناك امرأة قبل أن أعرفه. كان كتوما جدا بشأن الأشياء التي يهتم بها، ولم يكن ليخبرني بها بأي حال من الأحوال. لقد رأيته أحيانا يتلقى رسائل بخط يد امرأة، لكنه لم يعلق عليها مطلقا، ولم يكن بيرت من النوع الذي يمكن مضايقته بشأن مثل هذه الأشياء.» «هل وصل إليه خطاب من هذا النوع مؤخرا - خلال الأشهر الستة الماضية، على سبيل المثال؟»
فكر لامونت بعض الوقت وقال نعم إنه يعتقد ذلك. «أي نوع من الكتابات؟» «كبيرة، بأحرف مستديرة للغاية.» «لقد قرأت وصف الخنجر الذي قتل سوريل. هل سبق لك أن تعاملت مع خنجر مثله؟» «لم أتعامل مع خنجر مثله فحسب، بل إني لم أره مطلقا.» «هل لديك أي اقتراحات بشأن من أو ماذا تكون هذه المرأة الافتراضية؟» «لا.» «هل تقصد أن تقول إنك كنت صديقا حميما لهذا الرجل لسنوات - فقد عشت معه بالفعل لمدة أربع سنوات - ومع ذلك لا تعرف شيئا عن ماضيه؟» «أعرف الكثير عن ماضيه، لكن ليس ذلك. لم تكن تعرف بيرت أو لم تكن تتوقع منه أن يخبرني. لم يكن متكتما في الأمور العادية - فقط في الأشياء الخاصة.» «لماذا كان ذاهبا إلى أمريكا؟» «لا أعرف. أخبرتك أنني اعتقدت أنه لم يكن سعيدا مؤخرا. لم يكن قط يتحمس لشيء، ولكن مؤخرا - حسنا، لقد كان شعورا عاما أكثر من أي شيء يمكن أن تطلق عليه اسما.» «هل كان ذاهبا بمفرده؟» «نعم.» «ليس مع امرأة؟»
قال لامونت بحدة: «بالتأكيد لا»، كما لو أن جرانت أهانه أو أهان صديقه. «كيف علمت بذلك؟»
بحث لامونت في ذهنه، على ما يبدو أنه كان في حيرة من أمره. من الواضح أنه كان يواجه للمرة الأولى احتمال أن يكون صديقه قد نوى السفر إلى الخارج مع شخص ما ولم يخبره بذلك. كان بإمكان جرانت أن يراه وهو يفكر في الاقتراح ويرفضه. «لا أعرف كيف أعرف ذلك، لكنني أعرف. كان ليخبرني بذلك.» «إذن أنت تنكر وجود أي معرفة تتعلق بالكيفية التي لقي سوريل بها حتفه؟» «نعم. ألا تعتقد أنه إذا كان لدي أي معرفة، فسأخبرك بكل ما أعرفه؟»
قال جرانت: «أتوقع أنك ستفعل! فالغموض الشديد في شكوكك هو سمة سيئة في خط دفاعك.» طلب من الشرطي قراءة ما كتبه، ووافق لامونت على تطابق ذلك مع ما قاله، ووقع كل صفحة بيد مرتعشة. عندما وقع على آخر صفحة قال: «لا أشعر أني بخير. هل يمكنني الاستلقاء الآن؟» أعطاه جرانت دواء كان قد حصل عليه بالتطفل على الطبيب، وفي غضون 15 دقيقة كان السجين يغط في النوم بسبب الإرهاق التام، بينما ظل آسره مستيقظا يفكر في الشهادة.
لقد كانت جديرة ظاهريا بالتصديق بشكل غير عادي. إنها مناسبة ومتناسقة بشكل جميل. باستثناء عدم احتماليتها الأساسية، كان من الصعب انتقادها. كان لدى الرجل تفسير لكل شيء. الأوقات والأماكن، وحتى الدوافع ملائمة. كانت روايته لمشاعره المفترضة، من اكتشاف فقدان المسدس وما تلا ذلك، انتصارا لمحاكاة الحقيقة. هل كان من الممكن، ولو من بعيد، أن تكون شهادة الرجل صحيحة؟ هل كانت هذه هي القضية من بين ألف حيث الأدلة الظرفية، الكاملة في كل شيء، كانت مجرد سلسلة من الأحداث، غير ذات صلة تماما وغير صادقة بشكل هائل نتيجة لذلك؟ ولكن حينها يأتي ضعف قصة الرجل - عدم الاحتمالية الأساسية! فبرغم كل شيء، كان لديه ما يقرب من أسبوعين لتشكيل تفسيره، وتسويته ، وصقله، وجعله مناسبا لكل تفصيلة. ليس من الذكاء عدم الوصول إلى حكاية مقبولة بشكل محتمل عندما تكون الحياة نفسها على المحك. كان عدم وجود أحد للتحقق من حقيقة النقاط الحيوية أو خلاف ذلك من سوء حظه ومصلحته في آن واحد. وخطر لجرانت أن الطريقة الوحيدة للتحقق من تصريح لامونت كانت بالكشف عن قصة سوريل؛ لأنه لا بد من وجود قصة، كما شعر جرانت. لو كان بإمكانه اكتشاف أن سوريل كان ينوي الانتحار حقا، فهذا سينجح في إثبات قصة لامونت عن المسدس المسروق والهدية المالية. وهناك نصب جرانت قامته. إثبات قصة لامونت؟ هل كان هناك احتمال لحدوث مثل هذا الشيء؟ إذا كان الأمر كذلك، فقضيته بأكملها ذهبت هباء، ولم يكن لامونت مذنبا، وقد اعتقل الرجل الخطأ. ولكن هل كانت هناك مصادفة ضمن حدود الاحتمالية من شأنها أن تضع في صف انتظار مسرح واحد رجلين، كلاهما أعسر، وكلاهما لديه ندبة بإصبع من تلك اليد، وكلاهما من معارف القتيل؛ ومن ثم كلاهما قاتلان محتملان؟ رفض تصديق ذلك. لم تكن مصداقية حكاية الرجل هي التي ضللته، ولكن المصداقية الاستثنائية لطريقة سردها. وما كان ذلك إلا معقولية ظاهرية!
استمر عقله في التفكير في الأمر. لمصلحة الرجل - مجددا! - حقيقة تطابق البصمات الموجودة على المسدس وتلك الموجودة على الرسالة التي تحتوي على النقود. إذا ثبت تطابق البصمات التي أرسلها من كارنينيش مع هذه البصمات، فإن قصة الرجل كانت صحيحة إلى هذا الحد. ويمكن التحقق من قصة رسائل سوريل من المصدر الأنثوي عن طريق تطبيقها على السيدة إيفريت. من الواضح أن السيدة إيفريت كانت تعتقد أن لامونت بريء، وقد بذلت جهودا كبيرة لدعم قناعتها؛ لكنها بعد ذلك كانت متحيزة؛ ومن ثم فهي ليست مؤهلة للحكم على الأمور.
لنفترض، إذن، أن حكاية الرجل كانت مختلقة، فما مجموعة الظروف التي تفسر قتله لسوريل؟ هل من الممكن أنه استاء من رحيل صديقه دون أن يعرض عليه مساعدته، لدرجة أنه قد يرتكب جريمة قتل من أجل ذلك؟ لكن كان بحوزته أموال سوريل . وإن كان قد حصل على هذا المال قبل وفاة سوريل، فلن يكون لديه سبب لقتله. ولو لم يفعل، لكان قد عثر على المال بحوزة سوريل. أو لنفترض أنه حصل على المال عن طريق سرقة محفظة صديقه خلال وقت ما بعد الظهر، فلن يكون هناك أي دافع للقتل، ولتوفرت كل الأسباب التي تدعو للابتعاد عن صف الانتظار. كلما فكر جرانت في الأمر، أصبح من المستحيل ابتكار نظرية جيدة حقا عن سبب قتل لامونت لسوريل. والأهم من ذلك كله أن مجيئه إلى مكان عام مثل صف انتظار المسرح ليتجادل مع صديقه حول شيء ما؛ كان لصالحه. لم يكن ذلك تمهيدا معتادا للقتل المتعمد. لكن ربما لم يكن القتل متعمدا. لم يعط لامونت انطباعا لرجل كان ينوي القتل منذ مدة طويلة جدا. ألم يكن الخلاف حول المسدس إطلاقا ولكن حول شيء أكثر مرارة؟ هل كانت هناك امرأة في القضية، على سبيل المثال؟ وبدون أي سبب تذكر جرانت لحظة وجه لامونت عندما خرجت الآنسة دينمونت من الغرفة كما لو لم يكن هناك، ونبرات صوته عندما كان يروي قصة حب سوريل المشتبه بها، ورفض هذه النظرية.
ماذا عن الأعمال؟ من الواضح أن لامونت شعر بفقره النسبي بشدة، واستاء من افتقار صديقه إلى التعاطف. هل كان «فاض بي الكيل» تعبيرا لطيفا عن الاستياء الخانق الذي أشعل الكراهية؟ لكن - بعد أن حصل على 223 جنيها - لا، لم يكن يعلم بالطبع عن ذلك إلا في وقت لاحق. ربما كانت قصة الطرد تلك صحيحة، وظن أنها تحتوي على ساعة اليد المتوقعة. فبرغم كل شيء، لا يتوقع المرء أن يتلقى 223 جنيها من صديق ترك كل ثروته. كان ذلك ممكنا ويحتمل حدوثه. لقد ودعه، وبعد ذلك - ولكن ما الذي تجادل بشأنه؟ لو كان عاد لطعن سوريل، لما لفت الانتباه إلى نفسه. وماذا كان سوريل ينوي أن يفعل؟ إذا كانت قصة لامونت صحيحة، فإن التفسير الوحيد لسلوك سوريل هو الانتحار المتعمد. كلما فكر جرانت أكثر، زادت ثقته بأنه لا يوجد شيء سوى إلقاء الضوء على تاريخ سوريل لتوضيح المشكلة وإثبات إدانة لامونت أو - بشكل لا يمكن تصديقه! - براءته. كان أول ما عمله عندما عاد إلى المدينة هو القيام بما أهمله في استعجاله للقبض على لامونت - العثور على أمتعة سوريل وفحصها. وإذا لم يسفر ذلك عن شيء، فسوف يقابل السيدة إيفريت مرة أخرى. إنه يود مقابلة السيدة إيفريت مرة أخرى!
ألقى نظرة أخيرة على لامونت النائم بسلام، وقال كلمة أخيرة للشرطي اليقظ المتبلد الحس، وهيأ نفسه للنوم، قلقا، ولكن عازما. هذا الأمر لن يترك حيث كان.
الفصل الخامس عشر
البروش
بعد حمام ساخن، قام خلاله بعدم فعل شيء في البخار المتمايل، وحاول إبهار نفسه بهذه الحالة الذهنية المريحة عادة لضابط التحريات الذي قبض على رجله، اتجه جرانت إلى سكوتلانديارد وذهب لمقابلة رئيسه. عندما دخل إلى حضرة الرجل العظيم، كان باركر مجاملا.
قال: «أهنئك جرانت! كان هذا عملا ذكيا جدا.» وسأل عن تفاصيل الاعتقال التي لم يدرجها جرانت، بالطبع، في تقريره الرسمي، وقدم له جرانت مخططا حيويا للأيام الثلاثة التي قضاها في كارنينيش. كان مفوض الشرطة مستمتعا للغاية.
قال: «أحسنت! أكثر مني. لم يكن الانطلاق عبر المستنقعات أمرا مسليا بالنسبة إلي قط. يبدو أنك كنت الرجل المناسب في المكان المناسب هذه المرة، جرانت.»
قال جرانت دون حماس: «أجل.»
قال باركر مبتسما في وجهه غير المبتسم: «أنت تتحكم في مشاعرك، أليس كذلك؟». «حسنا، لقد كنت محظوظا في الغالب، لكني ارتكبت خطأ فادحا.» «ما هو؟» «اكتشفت أن سوريل كان ينوي حقا الذهاب إلى أمريكا - على الأقل، حجز سريرا - ونسيت أن متعلقاته ستكون في المحطة الأخيرة في انتظار فحصها.» «هذا لا يبدو خطأ جوهريا بالنسبة إلي. لقد عرفت من هو الرجل ومن هم أصدقاؤه. ما الذي اكتشفته أيضا وساعدك في القبض على لامونت؟» «لا شيء عن لامونت. لقد نسيت الأمتعة لأنني كنت قريبا جدا من اقتفاء أثر لامونت. لكني أريد أن أعرف المزيد عن سوريل.» وأضاف في انفجار مفاجئ: «أصدقك قولا، لست سعيدا جدا بهذه القضية .»
فغر باركر فاه. قال: «ماذا دهاك؟ إنها أوضح قضية لدى سكوتلانديارد منذ وقت طويل.» «نعم، ظاهريا. ولكن، إذا تعمقت قليلا، فسيبدو أن هناك أكثر مما تراه العين.» «ماذا تقصد؟ أن هناك أكثر من شخص واحد متورط فيها؟» «لا، أعني أن هناك احتمالا ضئيلا بأننا قبضنا على الشخص الخطأ.»
ساد الصمت بعض الوقت. قال باركر في النهاية: «جرانت، أنت لم تفقد أعصابك مطلقا من قبل. أنت بحاجة إلى عطلة. لا أعتقد أن الانطلاق عبر المستنقعات يمكن أن يكون مفيدا لك. ربما تتلف حركة التمشية السريعة الدماغ. لقد فقدت بالتأكيد قدرتك على إصدار الأحكام.»
لم يجد جرانت ما يقوله سوى «حسنا، هذه هي الشهادة التي قدمها لنا الليلة الماضية»، وسلمها له. بينما كان باركر يقرؤها، ذهب إلى النافذة، وحدق في الرقعة الخضراء والنهر تحت أشعة الشمس، وتساءل عما إذا كان يجعل من نفسه أحمق ليقلق عندما يكون بحوزته قضية جيدة. حسنا، أحمق أو غير ذلك، سيذهب إلى ووترلو بمجرد أن ينتهي كلامه مع رئيسه، ويرى ما يمكن أن يلتقطه من هناك.
عندما ألقى باركر الشهادة على الطاولة مصدرا صوتا، التفت جرانت بصبر نافد ليرى تأثيرها عليه. قال ذلك الرجل المهم: «حسنا، لقد جعلتني أرغب بشدة في مقابلة السيد لامونت.»
سأل جرانت: «لماذا؟». «لأنني أود أن أرى شخصيا الرجل الذي حاول أن يروي قصة من خياله ليثير شفقة المفتش جرانت وأفلت بفعلته. جرانت الذي يصعب التأثير عليه!»
قال جرانت بحزن: «هذا ما تشعر به بعد قراءتها، أليس كذلك؟ أنت لا تصدق كلمة منها؟»
قال باركر بمرح: «ولا كلمة. إنها أضعف قصة مختلقة عرفتها منذ وقت طويل. ولكن بعد ذلك يجب أن أعتقد أن الرجل كان يواجه صعوبة في العثور على أي سبيل للخروج من الأدلة على الإطلاق. لقد فعل كل ما في وسعه ... حقا فعل.» «حسنا، انظر إلى الأمر من منظور آخر، هل يمكنك التفكير في تفسير معقول لقتل لامونت لسوريل؟» «كلا، جرانت، لقد عملت في سكوتلانديارد عددا لا أعلمه من السنوات، والآن أنت تبحث في هذه المرحلة المتأخرة عن جرائم قتل منطقية. أنت بحاجة إلى عطلة يا رجل. ربما قتل لامونت سوريل لأن الطريقة التي أكل بها أزعجته. علاوة على ذلك، ليس من شأننا أن نطبق علم النفس على الأشخاص أو أن نقدم دوافع أو أي شيء من هذا القبيل. لذلك لا داعي للقلق. طبق عليهم أدلة جيدة لا لبس فيها ووفر لهم زنزانة، هذا كل ما يتعين علينا الاهتمام به.»
ساد صمت قصير، وجمع جرانت أوراقه استعدادا للمغادرة والتوجه إلى ووترلو.
قال باركر للخروج من حالة الصمت: «انظر هنا، بعيدا عن المزاح ... هل تصدق أن الرجل لم يرتكب الجريمة؟»
قال جرانت: «لا أفهم كيف يمكن استبعاد ارتكابه لها. هناك أدلة. لا أستطيع أن أقول لماذا لا أشعر بالارتياح حيال الأمر، لكن هذا لا يغير من حقيقة عدم شعوري بالارتياح.»
قال باركر، بالعودة إلى طريقته السابقة: «هل هذا مثال على الفراسة التي تشتهر بها؟»
لكن جرانت كان جادا هذا الصباح. «لا؛ كل ما هنالك أنني رأيت لامونت وتحدثت إليه عندما كان يروي قصته، وأنت لم تفعل ذلك.»
ذكره باركر: «هذا ما قلته في البداية. لقد حاول لامونت رواية قصة تثير شفقتك وجعلك تصدقها ... لذا أخرجها من رأسك، جرانت، حتى تحصل على دليل بسيط يثبت صحتها. الفراسة أمر جيد جدا، وأنا لا أنكر أنك كنت خارقا للطبيعة مرة أو مرتين، لكنها كانت تتوافق دائما إلى حد ما مع الأدلة مسبقا، وفي هذه القضية لا تتوافق بشكل مؤكد.» «هذا بالضبط الشيء الذي يجعلني أشعر بالقلق أكثر. لماذا لست مسرورا بالقضية بصورتها الحالية؟ ما الذي يجعلني غير مسرور؟ هناك شيء ما، لكنني لا أعرف ما هو. ما زلت أشعر أن هناك خطأ ما في مكان ما. أريد شيئا من شأنه إما تشديد الأدلة ضد لامونت أو تخفيفها.»
قال باركر بمرح: «حسنا، حسنا، تفضل. لقد أبليت بلاء حسنا حتى الآن بحيث يمكنك تحمل العمل بلا وعي بضعة أيام أخرى. الأدلة جيدة بما يكفي لمحكمة الجنح، أو أي نوع آخر من المحاكم، المخصصة لذلك.»
لذا ذهب جرانت خلال الصباح الحافل المشمس إلى ووترلو، حاملا معه استياءه. وبينما كان يخطو من الرصيف الدافئ إلى القبو البارد في أفضل محطات لندن ولكن أكثرها حزنا - حتى اسمها يفوح منه رائحة النهايات والفراق - ظهر الحزن على وجهه كنذير. بعد أن حصل على التصريح اللازم لفتح أي أمتعة تركها سوريل، قصد غرفة الأمتعة المتروكة، حيث قال مسئول مهتم للغاية بالأمر: «نعم، سيدي، أنا أعرفها. لقد تركت منذ نحو أسبوعين»، وقاده إلى الأمتعة قيد البحث. كانت تتألف من صندوقي ثياب باليين، وخطر لجرانت أنه لم توضع على أي منهما ملصقات شركة روتردام-مانهاتن كما كان من المفترض أن يحدث لو كان سوريل ينوي الصعود على متن السفينة في ساوثهامبتون. ولم يكتب عليهما العنوان على الإطلاق. على الملصقات العادية على كل منهما كان مكتوبا بخط سوريل عبارة «إيه. سوريل»، ولا شيء سوى ذلك. فتحهما بمفاتيحه وضربات قلبه تتسارع بشكل طفيف. أسفل الثوب العلوي في الصندوق الأول كان جواز سفر سوريل وتذاكر الرحلة البحرية. لماذا تركها هناك؟ لماذا لم يأخذها معه في محفظة؟ ولكن بجانبها كانت الملصقات التي قدمتها الشركة لتمييز أمتعة الركاب. ربما لسبب ما، نوى سوريل فتح صندوق الثياب مرة أخرى قبل الذهاب إلى قطار الميناء، وأرجأ وضع الملصقات حتى ذلك الحين. وقد ترك تذاكره وجواز سفره هناك لتكون بأمان أكثر من المحفظة في صف الانتظار.
واصل جرانت فحصه. لم يكن هناك ما يشير إلى أن سوريل لم يكن ينوي السفر إلى الخارج كما قال. كانت الملابس محزومة بعناية ونظام مما دل بالتأكيد على أنه سيستخدمها فيما بعد. كان هناك منهج أيضا في طريقة ترتيبها. فالقطع التي من المفترض أن يحتاج إليها أولا كانت في متناول اليد، والأقل أهمية في الأسفل. كان من الصعب، عند النظر إلى أسلوب الحزم، الاعتقاد بأن سوريل لم يكن ينوي إخراج الملابس بنفسه في وقت ما في المستقبل. ولم تكن هناك معلومات، ولا رسائل، ولا صور فوتوغرافية. اعتبر جرانت هذا الشيء الأخير هو الأمر الوحيد اللافت بشأن الأمتعة - وهو أن الرجل الذي كان في طريقه للسفر إلى الخارج لا ينبغي أن يكون معه أي هدايا تذكارية من أي نوع. ثم رآها، محزومة في الأسفل بين حذاءين - مجموعة صغيرة من الصور. فك الخيط الذي كان يربطها على عجل، وفحصها. كان نصفها على الأقل صورا لجيرالد لامونت، إما بمفرده أو مع سوريل، والبقية كانت مجموعات عسكرية قديمة. النساء الوحيدات في المجموعة هن السيدة إيفريت وبعض من فرق المساعدة التطوعية، اللائي كن على ما يبدو غير أساسيات لمجموعات الجيش. كاد جرانت أن يتأوه بصوت عال بسبب خيبة أمله - فقد فك هذا الخيط بآمال قوية وإن كانت غامضة - ولكن عندما ربط حزمة الصور مرة أخرى، وضعها في جيبه. قد تكون فرق المساعدة التطوعية غير أساسية داخل المجموعة، لكن فرديا كن نساء، وعلى هذا النحو، لا ينبغي ازدراؤهن.
وكان هذا كل شيء! كان هذا كل ما كان سيحصل عليه من الأمتعة التي كان يعتمد بشدة عليها. شعر بالانزعاج وخيبة الأمل، فبدأ في إعادة الأشياء كما وجدها. وبينما كان يرفع معطفا ليطويه، سقط شيء من الجيب وتدحرج على أرضية غرفة الأمتعة المتروكة. كان علبة صغيرة مغلفة بقطيفة زرقاء، مثل تلك التي يستخدمها الصاغة من أجل وضع المصوغات الذهبية فيها. لا يوجد كلب صيد يجري وراء جرذ أسرع مما كان عليه جرانت مع ذلك الصندوق الصغير الذي كان يدور ببطء، ولم ينبض قلب أي فتاة عند فتح علبة قطيفة مثلما كان قلب جرانت ينبض عند فتح تلك العلبة. ضغط عليها بإبهامه وفتح الغطاء. على البطانة ذات اللون الأزرق الداكن، وضع بروش مثل ذلك التي ترتديه النساء في قبعاتهن. كان مصنوعا من لآلئ صغيرة على شكل الأحرف الأولى، وكان بسيطا جدا وجميلا إلى حد كبير. قال جرانت بصوت عال: «إم آر.» مارجريت راتكليف.
قالها مخه قبل أن يتاح له الوقت بتجميع أفكاره. حدق في الحلية قليلا، ثم أخرجها من بطانتها القطيفة، وأدارها في يده، وأعادها مرة أخرى. هل كان هذا دليله، بعد كل شيء؟ وهل أشارت هذه الأحرف الأولى الشائعة بشكل كاف إلى المرأة التي ظلت تتردد في هذه القضية بإصرار؟ كانت هي التي وقفت خلف سوريل عندما قتل؛ كانت هي التي حجزت سريرا في اليوم نفسه على السفينة نفسها إلى وجهة سوريل نفسها؛ والآن الشيء القيم الوحيد الموجود بين متعلقاته بروش بأحرف اسمها الأولى. فحصه مرة أخرى. لم يبد من النوع الذي يبيعه العشرات، ولم يكن الاسم الموجود على الصندوق هو اسم شركة يتردد عليها عادة وكلاء مراهنات شباب مفلسون. كان الاسم هو اسم شركة في شارع بوند تتمتع بسمعة طيبة، وسلع بأسعار مناظرة. كان يعتقد، بشكل عام، أن أفضل خطوة لديه هي الذهاب لمقابلة السادة جاليو آند ستاين. أغلق صندوقي الثياب، ووضع البروش في جيبه مع الصور، وغادر من ووترلو. أثناء صعوده سلالم الحافلة، تذكر أن لامونت قال إن النقود التي أعطاها له سوريل قد غلفت بورق أبيض مثل ذلك الذي يستخدمه الصاغة. نقطة جيدة أخرى لصالح لامونت. ولكن لو كان سوريل سيسافر إلى الخارج بصحبة مارجريت راتكليف، أو بسببها، فلماذا يسلم مبلغا كهذا للامونت؟ كان لدى السيدة راتكليف مال خاص بها، كما ذكر سيمبسون، لكن لا يبدأ أي رجل في العيش على أموال المرأة التي كان يهرب معها، حتى لو كان آسفا لترك صديقه في فقر نسبي.
تدار أعمال السادة جاليو آند ستاين في متجر صغير مظلم نوعا ما في شارع أولد بوند، ولم ير جرانت سوى مساعد واحد. بمجرد أن فتح جرانت الصندوق الأزرق، تعرف الرجل على البروش. كان هو الذي تعامل مع العميل بشأنه. لا؛ لم يكن لديهم في المخزن. قد صنع بطلب من شاب وسيم يدعى السيد سوريل. كانت تكلفته 30 جنيها، وانتهي منه - نظر في دفتر - في يوم 6، كان يوافق الثلاثاء، وقد جاء فيه السيد سوريل، ودفع ثمن البروش، وأخذه معه في ذلك التاريخ. لا؛ المساعد لم ير الرجل من قبل. لقد وصف ما يريد، ولم يثر أي ضجة بشأن السعر.
غادر جرانت وهو يفكر بعمق، لكنه لم يكن قريبا من الحل. حقيقة أن رجلا في موقع سوريل كان على استعداد لدفع 30 جنيها مقابل حلية كان يثبت افتتانا من نوع مبالغ فيه. لم يقدمها لمن يحب حتى وقت رحيله. وهذا يعني أنها يمكن أن تقدم فقط بعد مغادرته بريطانيا. كانت مخبأة في أعماق صندوقه. لم يكن لديه أصدقاء في أمريكا يعرفهم أحد. لكن مارجريت راتكليف كانت تسافر بالقارب نفسه. تلك المرأة! كيف تورطت في الموضوع! ودخولها، بدلا من أن يوضح الأمور، زاد الطين بلة أكثر من ذي قبل. بسبب هذا التشوش، كان جرانت مقتنعا الآن بوجود شيء ما.
اقترب وقت الغداء، لكنه عاد إلى سكوتلانديارد لأنه كان ينتظر رسالة من مكتب البريد. كانت هناك في انتظاره. في صباح يوم 14 (الأربعاء)، تم تسليم برقية في مكتب بريد شارع بريكستون الرئيسي موجهة إلى ألبرت سوريل على متن «كوين أوف آرابيا»، كتب عليها «آسف. جيري». يفترض أنها سلمت، حيث لم يكن هناك ما يشير إلى عكس ذلك، ولكن ليس من المستبعد، بسبب كثرة البرقيات المرسلة عند رحيل سفينة كبيرة، أن تفقد في حالة عدم المطالبة بها.
قال جرانت بصوت عال: «إذن هذا ما حدث!» وقال ويليامز، الذي كان حاضرا، موافقا: «أجل سيدي».
والآن ما العمل؟ أراد أن يرى السيدة راتكليف، لكنه لا يعلم ما إذا كانت قد عادت إلى المنزل. إذا اتصل للاستفسار، فسيتم تحذيرها مسبقا من اهتمامه المتجدد بها. كان عليه أن يرسل سيمبسون مرة أخرى. وكان على السيدة راتكليف أن تنتظر حاليا. سيذهب لمقابلة السيدة إيفريت بدلا من ذلك. أعطى سيمبسون تعليماته، وبعد الغداء ذهب إلى فولام.
فتحت له السيدة إيفريت الباب دون أي خوف أو إحراج. من خلال التعبير في عينيها، كان عداؤها شديدا جدا بحيث لا يسمح لها بإيواء أي مشاعر أخرى. ما الأسلوب الذي يجب أن يتبعه معها؟ الأسلوب الرسمي الصارم لن يجدي نفعا سواء من حيث التأثير عليها أو من حيث استخلاص المعلومات؛ لقد أحسن الرجل الميت أن دعاها الليدي ماكبث. كما أن التغاضي النبيل عن الدور الذي لعبته في هروب لامونت لن يكون له أي تأثير. ولن يفيد الإطراء في شيء سوى ازدرائها. لذا خطر له أن الطريقة الوحيدة المفيدة للتعامل معها هي إخبارها بالحقيقة.
قال عندما أرشدته للدخول: «سيدة إيفريت، لدينا قضية من شأنها شنق جيرالد لامونت، لكنني لست مقتنعا بالأدلة. حتى الآن، لم ألق القبض على لامونت بسبب الإدلاء ببيان كاذب، وهناك احتمال بسيط أن تكون قصته صحيحة. لكن لن تصدق أي هيئة محلفين ذلك. إنها حكاية هزيلة للغاية، وإذا رويت بشكل سيئ في المحكمة، فلن يصدقها أحد. لكني أشعر أن بعض المعلومات ستقلب الموازين بطريقة أو بأخرى - إما بإثبات إدانة لامونت دون أدنى شك أو تبرئته. لذلك جئت إليك. إذا كان بريئا، فالاحتمال الأكبر هو أن المعلومات الإضافية ستثبت ذلك، وليس إدانته. ولذا جئت إليك من أجل المعلومات.»
فحصته بصمت محاولة قراءة دوافعه وراء التمويه في كلماته.
قال: «لقد أخبرتك بالحقيقة، ويمكنك القبول أو الرفض. ما أتى بي إلى هنا ليس به أي لطف في التعامل مع جيرالد لامونت، أؤكد لك. إنها مسألة اعتزاز بمهنتي. إذا كان هناك أي احتمال لوقوع خطأ، فعندئذ يجب أن أتحرى في القضية أكثر حتى أتأكد من أنني حصلت على الرجل الصحيح.»
قالت، وبدا الأمر وكأنه استسلام: «ماذا تريد أن تعرف؟» على الأقل كان حلا وسطا. «في المقام الأول، ما الرسائل التي تأتي عادة إلى سوريل، ومن أين تأتي؟» «لقد تلقى عددا قليلا جدا من الرسائل إجمالا. لم يكن لديه الكثير من الأصدقاء بهذه الظروف.» «هل علمت يوما أنه تأتيه رسائل مكتوبة بخط يد امرأة؟» «نعم، من حين لآخر.» «من أي مكتب بريد أرسلت؟» «في لندن، على ما أعتقد.» «كيف كانت الكتابة؟» «دائرية ومنتظمة وكبيرة نوعا ما.» «هل تعرفين من كانت المرأة؟» «لا.» «منذ متى كانت الرسائل تصله؟» «أوه، منذ سنوات! لا أتذكر منذ متى.» «وفي كل هذه السنوات لم تكتشفي قط من مراسله؟» «ألم تأت أي امرأة لرؤيته هنا من قبل؟» «نعم.» «كم مرة كانت الرسائل تأتي؟» «أوه، ليس كثيرا! نحو مرة واحدة كل ستة أسابيع، ربما، أو أكثر قليلا.» «قال لامونت إن سوريل كان كتوما. هل هذا صحيح؟» «لا، لم يكن كتوما. لكنه كان يشعر بالغيرة. أعني كان يغار على الأشياء التي كان يحبها. عندما كان يهتم كثيرا بشيء ما، كان يفعل ذلك - يحتفظ به لنفسه، أظنك تفهم ما أقول.» «هل أحدث وصول الرسائل له أي فرق؛ جعله مسرورا أم غير ذلك؟» «لا؛ لم يظهر أي مشاعر بهذه الطريقة. كان هادئا جدا، أظنك تعي.»
قال جرانت: «أخبريني» وأخرج العلبة القطيفة، «هل سبق لك أن رأيت تلك من قبل؟» فتحها أمام عينيها.
قالت ببطء: «إم آر»، تماما كما فعل جرانت. «لا؛ لم أرها من قبل. ما علاقة ذلك ببيرتي؟» «عثر عليها في جيب معطف في صندوق ثياب سوريل.»
مدت يدها المرهقة من أجلها، ونظرت إليها بفضول، وأعادتها إليه. «هل يمكنك اقتراح أي سبب يدفع سوريل للانتحار؟» «لا، لا أستطيع. لكن يمكنني أن أخبرك أنه قبل نحو أسبوع من رحيله - رحيله من هنا - وصل طرد صغير بالبريد من أجله. كان بانتظاره عندما عاد إلى المنزل ذات ليلة. عاد إلى المنزل في تلك الليلة قبل جيري - السيد لامونت.» «هل تعنين طردا صغيرا مثل هذا؟» «ليس تماما، ولكن يمكن أن يكون بحجمه إذا غلفناه.»
لكن الرجل في متجر جاليو آند ستاين قال إن سوريل قد أخذ البروش معه. «هل يمكنك أن تتذكري في أي يوم كان ذلك؟» «لست متأكدة، لكنني أعتقد أنه كان يوم الخميس قبل مغادرته.»
يوم الثلاثاء، أخذ سوريل الطرد الصغير من الصائغ، ومساء الخميس سلم الطرد الصغير في شقة سوريل. كان الاستنتاج واضحا. رفضت المرأة عرضه. «كيف كانت الكتابة على الطرد؟» «لم يكن هناك سوى العنوان فقط على الملصق، وكان مطبوعا.» «هل أظهر سوريل أي مشاعر عند فتحه؟» «لم أكن موجودة عندما فتحه.» «وماذا بعد ذلك؟» «لا؛ لا أعتقد ذلك. كان هادئا جدا. ولكن حينها كان هادئا طوال الوقت .» «أفهم قصدك. متى جاء لامونت وأخبرك بما حدث؟» «يوم السبت.» «هل كنت تعلمين من قبل ذلك الوقت أن الرجل في صف الانتظار هو سوريل؟» «لا؛ لم ينشر وصف الرجل بالكامل حتى يوم الخميس، وكنت أعتقد بطبيعة الحال أن بيرت أبحر يوم الأربعاء. كنت أعلم أن جيري كان سيظل معه حتى اللحظة الأخيرة؛ لذلك لم أشعر بالقلق. فقط عندما رأيت وصف الرجل الذي أرادته الشرطة، جمعت الوصفين معا وبدأت أتساءل. كان ذلك يوم السبت.» «وماذا ظننت حينها؟» «ظننت، كما أظن الآن، أنه كان هناك خطأ سيئ للغاية في مكان ما.» «هل ستخبريني بما أخبرك به لامونت؟ لقد أدلى لنا بشهادة بالفعل.»
ترددت لحظة ثم قالت، «حسنا، لا أستطيع أن أرى أن الأمور يمكن أن تصير أسوأ مما هي عليه»، وأخبرته القصة التي رواها لها لامونت. تطابقت حتى أدق التفاصيل مع ما قاله لجرانت والشرطي في القطار القادم جنوبا. «ألم يثر ارتيابك أي شيء في هذه القصة؟» «لا أعرف ما إذا كنت سأصدق القصة من شخص غريب» لقد كانت بشكل غير عادي مثل ابنة أختها في تلك اللحظة، كما اعتقد المفتش «لكن، كما ترى، أعرف جيري لامونت.» «لكنك كنت تعرفين سوريل مدة أطول بكثير، ولم تعرفي الأشياء التي تهمه في حياته.» «نعم، لكن هذا كان بيرتي. طول الوقت لا علاقة له بالموضوع. لقد سمعت عن كل ما حدث لجيري، بما في ذلك الفتيات.»
قال جرانت وهو يقف: «حسنا، شكرا لإخباري بكل ما قلته. إذا لم يكن هناك شيء قلته يساعد لامونت كثيرا، فعلى الأقل لن يدينه أكثر. هل كان لديك أي سبب للاعتقاد بأن سوريل لم يكن متوجها إلى أمريكا على الإطلاق؟» «هل تقصد أنه كان ذاهبا إلى مكان آخر؟» «لا؛ أعني أنه إذا كان يفكر في الانتحار، فربما يكون ذهابه إلى أمريكا حيلة مدروسة.» «أنا بالتأكيد لا أعتقد ذلك. أنا متأكدة من أنه كان ينوي الذهاب إلى أمريكا.»
شكرها جرانت مرة أخرى، وعاد إلى سكوتلانديارد. علم من سيمبسون أن السيدة راتكليف وشقيقتها ما زالتا في إيستبورن، ولم ترد أنباء عن عودتهما. «هل السيد راتكليف يتردد كثيرا على إيستبورن، إذن؟»
لا؛ كان السيد راتكليف قد ذهب مرة واحدة فقط منذ أن ذهبا هناك، ثم لم يقض الليلة. «هل اكتشفت سبب الخلاف؟»
لا؛ يبدو أن الخادمة لم تكن تعرف. استنتج جرانت من الاستمتاع الخفي الذي كان يشع من وجه سيمبسون المنمش أن المقابلة مع خادمة راتكليف كانت مسلية أكثر من كونها مفيدة، وصرفه بحزن. كان عليه أن يذهب إلى إيستبورن ويلتقي بالسيدة راتكليف - بالصدفة؛ ولكن غدا سيضطر إلى حضور قضية لامونت في محكمة الجنح. ستكون مناسبة رسمية تماما، لكن كان سيتعين عليه الحضور. لم يكن أمامه وقت للذهاب إلى إيستبورن الليلة، والعودة، مع أي أمل في الحصول على هذا الاجتماع غير الرسمي مع السيدة راتكليف الذي كان يفكر فيه. ولكن، إذا انتهت القضية بسرعة غدا، فسيذهب مباشرة إلى هناك. تمنى ألا يدعوه واجبه للمحكمة. فقد كان ذلك روتينيا، ولكن زيارة السيدة راتكليف لم تكن كذلك - لقد كانت مطاردة، فرصة للنجاح، مقامرة. لقد أراد بشدة أن يرى كيف سيبدو وجه مارجريت راتكليف عندما يريها البروش المزخرف بالأحرف الأولى.
الفصل السادس عشر
الآنسة دينمونت تقدم المساعدة
محكمة جنح جاوبريدج لم تكن قط مبنى مبهجا. فهي تتميز بأجواء الأضرحة المتعفنة ممزوجة بالبهجة المعقمة والاصطناعية للمستشفيات، وجدب الفصول الدراسية، وسوء تهوية قطارات مترو الأنفاق، وقبح قاعات الاجتماعات. كان جرانت يعرفها جيدا، ولم يدخلها قط دون أنين غير واع، ليس من أجل الأحزان التي كانت تتدلى حولها مثل الشبكات غير المرئية، ولكن من أجل حزنه بسبب الاضطرار إلى قضاء صباح في مثل هذه البيئة. في مناسبات مثل قضاء صباح في محكمة جنح جاوبريدج، اعتاد على الإشارة إلى مهنته على أنها حياة صعبة وتعيسة. واليوم كان في حالة مزاجية سيئة. لقد وجد نفسه ينظر نظرة متحيزة إلى ضباط الشرطة الممثلين من خلال أولئك المناوبين في المحكمة، وإلى القاضي القوي المغرور، وإلى المتسكعين على مقاعد الجمهور. وإدراكا لحالته العقلية المتأثرة ، فقد بحث كالمعتاد عن السبب بهدف إبعاده، وبعد قليل من التأمل، عثر عليه. لم يكن سعيدا بإدلائه بشهادته! أراد أن يقول في أعماق قلبه: «انتظر قليلا! هناك شيء هنا لا أفهمه. فقط انتظر حتى أكتشف المزيد.» لكن لكونه مفتش شرطة معه أدلة جيدة ويحظى بدعم رؤسائه، لم يستطع فعل ذلك. لم يستطع تأكيد صحة ما سيقوله بأي ملاحظات من هذا النوع. نظر عبر المحكمة إلى المكان الذي كان يجلس فيه المحامي الذي ينظر في قضية لامونت. ربما رغب لامونت في الحصول على محامين أكثر أهمية من ذلك عندما جاء للمحاكمة في أولد بيلي، وإلا فلن يكون لديه أدنى فرصة. لكن المحامين المهمين يكلفون مالا، فالمحامون رجال محترفون، وليسوا فاعلي خير.
نظر في قضيتين بصفة معجلة، ثم قدم لامونت إلى المحكمة. بدا مريضا، لكنه تمالك نفسه جيدا. حتى إنه أدرك وجود المفتش بابتسامة خفيفة. أثار وصوله ضجة في الجزء المخصص للجمهور في المحكمة. لم يكن هناك إشعار صحفي بأنه سينظر في القضية هناك اليوم، وكان جميع الحاضرين إما عاطلين فضوليين أو محامين ذوي مبادئ في القضايا الأخرى. بحث جرانت عن السيدة إيفريت، لكنها لم تكن هناك. بدا أن صديق لامونت الوحيد في المحكمة هو الشخص المدفوع الأجر المسئول عن مصالحه. ومع ذلك، بحث جرانت مرة أخرى الآن عن علامة تدل على الاهتمام الشخصي على أي وجه. لقد عثر من قبل أنه يمكن الحصول على معلومات مفيدة من تعبيرات وجه الغرباء المفترضين في المحكمة. لكن الفحص الدقيق لم يكشف عن شيء؛ لا شيء كان واضحا سوى الفضول في ملامح وجوه الجمهور. ولكن عندما غادر المقعد، بعد أن أدلى بشهادته، رأى وافدا جديدا في الجزء الخلفي من المحكمة، وكان هذا الوافد الجديد الآنسة دينمونت. الآن لم تنته عطلة الآنسة دينمونت لمدة أسبوع بعد، وقد قالت عند احتساء الشاي المشئوم بمنزل القس إنه بسبب أنها كانت تقضي عطلاتها مرة واحدة فقط في السنة، كانت تقضيها جميعا في الوطن؛ وبينما كان المفتش جرانت يجلس، كان مندهشا من الفتاة التي لن تلين تجاه رجل اعتقدت أنه مذنب بارتكاب شيء فظيع، لكنها ستقطع إجازتها وتسافر 500 ميل لتسمع الشهادة بنفسها. كان ظهر لامونت يواجهها، وكان من غير المحتمل، ما لم يتعمد النظر في أرجاء الغرفة أثناء خروجه، أنه سيكون على دراية بوجودها. لفتت نظر المفتش إليها، وانحنت له دون اضطراب. بدت في قبعتها الصغيرة الأنيقة الداكنة المصممة خصيصى كامرأة جذابة، مثالية، متزنة، ذات خبرة كبيرة في الحياة. ربما كانت كاتبة تبحث عن نسخة، لكل المشاعر التي أظهرتها. حتى عندما أعيد لامونت إلى الحبس وأخرج من المحكمة، لم يهتز وجهها الجميل. يعتقد جرانت أنهما كانتا متشابهتين للغاية، الخالة وابنة الأخت؛ ربما كان هذا هو السبب في أن كلا منهما لم تحب الأخرى. ذهب إليها وهي تغادر وحياها. «هل أنت مشغولة يا آنسة دينمونت؟ ما رأيك أن تأتي لتناول الغداء معي؟» «اعتقدت أن المفتشين كانوا يعيشون على أقراص من خلاصة اللحم البقري المجفف، أو شيء من هذا القبيل، خلال النهار. هل لديهم حقا وقت للجلوس من أجل تناول وجبة؟» «ليس هذا فقط، لكنهم يستمتعون بوجبة جيدة جدا. تعالي وشاهدي!» وابتسمت وذهبت معه.
أخذها إلى مطعم لورانتس، وخلال الوجبة كانت صريحة تماما بشأن تغيير خططها. قالت: «لم أستطع البقاء في كارنينيش بعد ما حدث. وكانت لدي رغبة في سماع إجراءات المحكمة، لذلك جئت. لم أقصد محكمة في حياتي من قبل. إنه ليس مشهدا مثيرا للإعجاب.»
اعترف قائلا: «ربما ليس محكمة الجنح؛ لكن انتظري حتى تعقد محاكمة كبيرة.» «آمل ألا أفعل ذلك أبدا - ولكن يبدو أنني سأفعل ذلك. لديك قضية جميلة، أليس كذلك؟» «هذه هي الكلمة التي يستخدمها رئيسي بشأنها.»
سألت بسرعة: «ألا توافق؟» «أوه، نعم، بالتأكيد.» كان الاعتراف للسيدة إيفريت بأنه غير راض شيئا آخر، لكنه لن يصرح بذلك للآخرين. وهذه الفتاة المستقلة كانت بالتأكيد من «الآخرين».
بعد قليل ذكرت لامونت مباشرة. قالت بطريقة قضائية: «يبدو في حالة سيئة» مستخدمة كلمة «سيئة» بمعناها المهني. «هل يعتنون به في السجن ؟»
قال جرانت : «أوه، نعم؛ إنهم يعتنون بهم جيدا.» «هل هناك احتمال أن يضايقوه؟ ذلك لأنني أحذرك أنه لن يتحمل أي مضايقة في حالته الآن. إما أنه سيصبح مريضا بشكل خطير أو سيقول إنه ارتكب الجريمة.» «إذن أنت لا تصدقين أنه ارتكبها؟» «أعتقد أنه من غير المحتمل، لكنني أدرك تماما أن حقيقة أنني أعتقد ذلك لا تجعل الأمر كذلك. أنا فقط أريده أن يحصل على صفقة عادلة.»
علق جرانت على قبولها الواقعي لكلامه في كارنينيش فيما يتعلق بإدانة الرجل.
قالت: «حسنا، لقد كنت تعرف الكثير عن الأمر أكثر مما كنت أعرفه. لم أره قط إلا منذ ثلاثة أيام. لقد أعجبت به، لكن ذلك لم يجعله مذنبا أو بريئا. علاوة على ذلك، أفضل أن أكون متوحشة على أن أكون حمقاء.»
فكر جرانت في هذا التصريح غير الأنثوي في صمت، وكررت سؤالها.
قال جرانت: «أوه، لا؛ هذه ليست أمريكا. وعلى أي حال، فقد أدلى بإفادته كما سمعت، وليس من المرجح أن يغير إفادته أو يبدلها.» «هل لديه أصدقاء؟» «فقط خالتك، السيدة إيفريت.» «ومن سيدفع أتعاب الدفاع عنه؟»
أوضح جرانت. «إذن لا يمكنه الحصول على أي من المحامين الجيدين. لا يبدو لي ذلك عادلا للغاية؛ حتى يحتفظ القانون بالمحامين المشهورين ليقوموا بمرافعاتهم والمحامين المغمورين ليدافعوا عن المجرمين الفقراء.»
ابتسم جرانت. «أوه، سيحصل على صفقة عادلة، لا تقلقي. إن الشرطة هي التي يشق عليها الأمر في قضايا القتل.» «ألم تعرف قط، من واقع كل خبرتك، قضية أخطأ فيها القانون؟»
اعترف جرانت بمرح: «بلى أعرف العديد منها. لكنها كانت كلها قضايا تتعلق بالخطأ في تحديد الهوية. وهذا ليس موضع تساؤل هنا.» «لا، لا؛ ولكن لا بد أن هناك قضايا لا تكون فيها الأدلة سوى الكثير من الأشياء غير المترابطة التي يوضع بعضها بجانب بعض بحيث تبدو كشيء معين. ذاك أشبه بغطاء فراش حيك من أقمشة بألوان مختلفة.»
كانت «غاضبة» للغاية بحيث لم تكن مرتاحة في استجلائها للأمور، وطمأنها جرانت وغير الموضوع بلا تفاخر، وصمت بعض الوقت ؛ وخطرت له فكرة مفاجئة. إذا ذهب إلى إيستبورن بمفرده، فقد ترتاب السيدة راتكليف، مهما كان مظهره غير رسمي، في حسن نيته. ولكن إذا ظهر مع رفيقة، فسيتم قبوله في الحال على أنه خارج الخدمة، وأي شك قد يثيره وجوده سيهدأ حتى يتمكن من إبعاد السيدة راتكليف تماما عن حذرها. وكان النجاح الكامل للمهمة يعتمد على ذلك؛ أنها يجب أن تكون غير متأهبة لأي توضيح من جانبه.
قال: «بالمناسبة، هل لديك ما تفعلينه بعد ظهر اليوم؟». «لا؛ لماذا؟» «هل أديت عملك الصالح لهذا اليوم؟» «لا، أعتقد أنني كنت أنانية تماما اليوم.» «حسنا، أزيحي ذلك عن صدرك بالذهاب معي إلى إيستبورن هذا المساء بصفتك ابنة عمي، وكوني ابنة عمي حتى العشاء. هلا فعلت؟»
نظرت إليه بجدية. «لا أعتقد ذلك. هل تلاحق شخصا آخر غير سعيد؟» «ليس تماما. أنا ألاحق شيئا ما، على ما أعتقد.»
قالت ببطء: «لا أعتقد ذلك. إذا كان الأمر يهدف إلى الاستمتاع فحسب، كنت سأفعله دون تردد. ولكن عندما يكون شيئا لا أعرفه لشخص لم أقابله من قبل ... هل تفهم؟» «اسمعي، لا يمكنني إخبارك عن الأمر، ولكن إذا وعدتك بأنك لن تندمي أبدا، فهل ستصدقينني وتأتين؟»
قالت بلطف: «لكن ما الذي يدعوني إلى تصديقك؟»
اندهش المفتش نوعا ما. كان قد أثنى على عدم ثقتها في لامونت، لكن تطبيقها المنطقي لذلك على نفسه أربكه.
اعترف: «لا أعرف لماذا. أفترض أن ضباط الشرطة قادرون على الكذب كأي شخص آخر.»
أضافت بجفاء: «ومنعدمو الضمير إلى حد كبير أكثر من معظم الناس.» «حسنا، الأمر يتعلق فقط بقرارك، إذن. لن تندمي على قدومك. أقسم بذلك، إذا أردت ذلك - وضباط الشرطة لا يحنثون بقسمهم، مهما كانوا منعدمي الضمير.»
ضحكت. وقالت بسعادة: «هذا أثر فيك، أليس كذلك؟». وبعد صمت، قالت: «حسنا، يسعدني أن آتي وأكون ابنة عمك. لا أحد من أبناء عمومتي بالقدر نفسه من وسامتك.» لكن السخرية في نبرة صوتها كانت واضحة جدا، لدرجة أن جرانت لم يجد الكثير من الاستمتاع في الإطراء.
ومع ذلك ، ذهبا عبر الريف الأخضر إلى البحر في وئام تام، وعندما نظر جرانت فجأة ورأى المنحدرات، فوجئ. هناك وقفا أمام المنظر الطبيعي، مثل شخص يمشي على أطراف أصابعه في غرفة دون أن يسمعه أحد، ويفاجئ الساكن بالظهور في منتصف الأرضية. لم يعرف قط أن رحلة إلى الساحل الجنوبي تمر بهذه السرعة. كانا وحدهما في المقصورة، وشرع في منحها التوجيهات. «أنا أقيم في إيستبورن - لا، لا أستطيع، فأنا لا أرتدي ملابس مناسبة - لقد أتى كلانا لقضاء وقت ما بعد الظهر، إذن. سأحظى بمحادثة مع امرأتين تعرفانني بالفعل بصفتي المهنية. عندما يتحول الحديث إلى دبابيس البروش على القبعة، أريدك أن تخرجي هذا من حقيبتك، وتقولي إنك اشتريته للتو لأختك. بالمناسبة، اسمك إلينور ريموند واسم أختك ماري. هذا كل شيء. فقط اتركي البروش حتى أضبط ربطة عنقي. ستكون هذه الإشارة لحصولي على كل ما أريده.» «حسنا. ما اسمك الأول بالمناسبة؟» «آلان.» «حسنا، آلان. كدت أنسى أن أسألك عن ذلك. لو لم أعرف اسم ابن عمي لصار الأمر مزحة! ... إنه عالم غريب، أليس كذلك؟ انظر إلى تلك الزهور في الشمس وفكر في كل الناس الواقعين في ورطة رهيبة هذه اللحظة.» «لا، لا تفعلي. هذا ضرب من الجنون. فكري في الشاطئ المهجور اللطيف الذي سنراه في غضون بضع دقائق.»
سألت، وكانا لا يزالان يخبر أحدهما الآخر كم كانت الآنسة بايليس رائعة عندما ركضا إلى المحطة: «هل سبق لك أن ذهبت إلى مسرح أولد فيك؟» وقال جرانت: «تعالي، إلينور»، وأمسكها من ذراعها، والتقطها من العربة مثل صبي صغير، غير صابر لتجربة الرفش على الرمال.
كان الشاطئ، كما تنبأ جرانت، مهجورا بشكل ممتع مما يجعل منتجعات الساحل الجنوبي جذابة للغاية خارج الموسم. كان الجو مشمسا ودافئا للغاية، واستلقت مجموعات قليلة على الحصى، مستمتعين بأشعة الشمس في عزلة أرستقراطية غير معروفة لزوار الصيف.
قال جرانت: «سنذهب على طول الطريق ونعود على طول الشاطئ. لا بد أنهما سيخرجان في يوم مثل هذا.»
قالت: «أتمنى ألا يكونا في المنحدرات. لا أمانع في المشي ، لكن الأمر سيستغرق حتى الغد لنزولها.» «أعتقد أنه تم استبعاد المنحدرات. فالسيدة التي أهتم بأمرها لا تحب المشي.» «ما اسمها؟» «لا، لن أخبرك بذلك حتى أقدمك لها. من المفترض ألا تكوني قد سمعت عنها، وسيكون من الأفضل ألا تكوني قد سمعت عنها حقا.»
سارا في صمت على طول الطريق المشذب نحو هوليويل. كان كل شيء مشذبا، مع هذا التنظيم المنسق جيدا الذي هو من عادات إيستبورن. حتى البحر كان في حالة جيدة، ومخصوصا بعض الشيء. وكان جرف بيتشي هيد يتمتع بأجواء الوجود هناك كدليل على نهاية جيدة للطريق، والإدراك التام للحقيقة. لم يمشيا أكثر من 10 دقائق عندما قال جرانت: «سنذهب إلى الشاطئ الآن. أنا شبه متأكد من أننا مررنا بالزوجين اللذين أريدهما منذ قليل. إنهما على الحصى.»
غادرا الرصيف وبدآ في نزهة بطيئة منزلقين بأقدامهما للعودة إلى الأرصفة الممتدة على البحر مرة أخرى. بعد قليل اقتربا من امرأتين كانتا متكئتين على كرسيين قابلين للطي في مواجهة البحر. واحدة منهما، الأرفع، كانت ضامة ذراعيها وساقيها وظهرها إلى الآنسة دينمونت والمفتش، ويبدو أنها كانت تقرأ. وكانت الأخرى مغطاة بالمجلات، ودفتر الكتابة، ومظلة الشمس، وجميع الأدوات الأخرى المعروفة إلى وقت ما بعد الظهر على الشاطئ، لكنها لم تكن تفعل شيئا وبدت وكأنها نصف نائمة. عندما وصلا بجانب الكرسيين، ترك المفتش نظراته تسقط عليهما بشكل عرضي ثم توقف.
قال: «يا إلهي السيدة راتكليف! هل أنت هنا تتعافين؟ يا له من طقس رائع!»
رحبت به السيدة راتكليف بعد نظرة مندهشة. «هل تتذكر أختي، الآنسة ليثبريدج؟»
صافحها جرانت وقال: «لا أعتقد أنك تعرفين ابنة عمي ...»
لكن الآلهة كانت في صف جرانت في ذلك اليوم. فقبل أن يتمكن من إكمال جملته، قالت الآنسة ليثبريدج بطريقتها البطيئة اللطيفة: «يا إلهي، أليست هذه داندي دينمونت! كيف حالك عزيزتي؟»
سأل جرانت، وهو يشعر وكأنه رجل فتح عينيه ليجد أن خطوة أخرى كانت ستأخذه إلى الهاوية: «هل تعرف كل منكما الأخرى، إذن؟».
قالت الآنسة ليثبريدج: «بالطبع! كان لدي التهاب الزائدة الدودية في غرفة في مستشفى سانت مايكلز، وكانت داندي دينمونت تمسك رأسي ويدي بالتناوب. كانت تحملهما جيدا، حقا فعلت. صافحي الآنسة دينمونت، ميج. أختي، السيدة راتكليف. من كان يظن أن لديك أبناء عمومة في الشرطة!»
قالت السيدة راتكليف: «أعتقد أنك تتعافى أيضا، أيها المفتش؟».
قال المفتش: «أعتقد أنك يمكنك أن تعتبريها هكذا. فابنة عمي في إجازة من المستشفى، وقد أنهيت قضيتي، لذلك نحن نقضي يوما هنا.»
قالت الآنسة ليثبريدج: «حسنا، لم يحن وقت الشاي بعد. اجلسا وتحدثا إلينا قليلا. لم أر داندي منذ زمن طويل.»
قالت أختها وهي تستريح على الحصى: «أعتقد أنك سعيد بالتخلص من هذه القضية المروعة، أيها المفتش.» تحدثت كما لو أن جريمة القتل كانت مجرد حدث في حياة جرانت كما كانت في حياتها، لكن المفتش ترك الأمر يمر، وبعد قليل انحرف الحديث بعيدا عن جريمة القتل وانتقل من الصحة، والمطاعم، والفنادق، والطعام إلى الملابس، أو نقصها.
قالت الآنسة دينمونت بتكاسل لصديقتها: «يعجبني بروش قبعتك. لا يمكنني التفكير في شيء سوى بروش القبعة بعد ظهر هذا اليوم؛ لأننا كنا نشتري واحدا لابنة عم مشتركة ستتزوج. كما تعلمين - مثل الحصول على معطف جديد ورؤية معاطف الناس كما لم تريها من قبل. إنه هنا في مكان ما.» مدت يدها إلى حقيبتها دون تغيير وضعية الاستلقاء، وبحثت فيها حتى أخرجت الصندوق القطيفة الأزرق. «ما رأيك؟» فتحته وقدمته لهما.
قالت الآنسة ليثبريدج: «جميل!»، لكن السيدة راتكليف لم تقل شيئا لبعض الوقت.
قالت أخيرا: «إم آر. يا إلهي، الأحرف الأولى هي نفس الأحرف الأولى من اسمي. ما اسم ابنة عمك؟» «ماري ريموند.»
علقت الآنسة ليثبريدج: «تبدو كأنها بطلة فاضلة في كتاب. هل هي فاضلة؟» «لا، ليس على وجه الخصوص، على الرغم من أنها ستتزوج من شخص أخرق فظيع. هل يعجبك إذن؟»
قالت الآنسة ليثبريدج: «بالطبع!»
قالت شقيقتها: «جميل! هل يمكنني إلقاء نظرة عليه؟» حملت العلبة في يديها، وفحصت البروش من الخلف والأمام، وأعادته لها. قالت مرة أخرى: «جميل! وغير شائع. هل يمكنك الحصول عليه جاهزا، إذا جاز التعبير؟»
هز جرانت رأسه هزة بسيطة إجابة على طلب الآنسة دينمونت للمساعدة. قالت: «لا، لقد طلبنا أن يصنع خصيصى.» «حسنا، يا لها من محظوظة، ماري ريموند! وإذا لم يعجبها، فإن ذوقها سيئ للغاية.»
قال جرانت: «أوه، إذا لم يعجبها، فبإمكانها فقط أن تكذب وتقول إنه يعجبها، ولن نعرف الحقيقة أبدا. فجميع النساء خبيرات في الكذب.»
قالت الآنسة ليثبريدج: «حقا! يا لك من مخلوق مسكين خائب الأمل!» «حسنا، أليس هذا صحيحا؟ فحياتك الاجتماعية هي سلسلة طويلة من الأكاذيب. أنت آسفة جدا ... لست في المنزل ... كنت ستأتين، لكن ... كنت تتمنين أن يبقى أحدهم مدة أطول. إذا كنت لا تكذبين على أصدقائك، فأنت تكذبين على خادماتك.»
قالت السيدة راتكليف: «قد أكذب على أصدقائي، لكنني بالتأكيد لا أكذب على خادماتي!»
قال جرانت، وهو يستدير بكسل لينظر إليها: «حقا؟». لا أحد، عندما يراه هناك وقبعته مائلة فوق عينيه وجسده مسترخ، كان سيقول إن المفتش جرانت كان في الخدمة. «كنت ذاهبة إلى الولايات المتحدة في اليوم الذي يلي جريمة القتل، أليس كذلك؟» أومأت بهدوء. «حسنا، لماذا أخبرت خادمتك أنك ذاهبة إلى يوركشاير؟»
تحركت السيدة راتكليف لتجلس منتصبة ثم استرخت مرة أخرى. «لا أعرف ما الذي تتحدث عنه. بالتأكيد لم أخبر خادمتي مطلقا أنني ذاهبة إلى يوركشاير. قلت نيويورك.»
كان ذلك واردا بشدة لدرجة أن جرانت سارع إلى التحدث أولا بالقول: «حسنا، إنها تعتقد أنك قلت يوركشاير» قبل أن تقول السيدة راتكليف لا محالة: «كيف تعرف؟».
قال: «ليس هناك أي شيء لا يعرفه مفتش الشرطة.»
قالت غاضبة: «تقصد أنه لا يوجد شيء لن يفعله. هل خرجت مع آني؟ لا ينبغي أن أفاجأ إذا شككت في أنني ارتكبت جريمة القتل بنفسي.»
قال جرانت: «لا عجب في ذلك. فالمفتشون يشتبهون في كل العالم.» «حسنا، أعتقد أنه لا يسعني إلا أن أشعر بالامتنان لأن شكوكك لم تؤد إلى شيء أسوأ من الخروج مع خادمتي.»
رأى جرانت نظرة الآنسة دينمونت إليه من تحت الحافة القصيرة لقبعتها، وكان هناك تعبير جديد فيهما. لقد كشفت المحادثة عن حقيقة أن السيدة راتكليف كان لها علاقة بجريمة القتل في صف الانتظار، وكانت الآنسة دينمونت تفكر بغضب. ابتسم لها جرانت مطمئنا. وقال: «إنهم لا يعتقدون أن معرفتي أمر جيد. ولكن على الأقل يمكنك تأييدي. فالعدالة هي الشيء الذي أعيش من أجله.» من المؤكد أنها ستفهم، إذا فكرت في الأمر، أن استفساراته في هذا الاتجاه لا يمكن أن تدين لامونت. يجب أن تكون الفرص في الاتجاه المعاكس.
قالت الآنسة ليثبريدج: «لنذهب ونشرب الشاي. تعاليا إلى فندقنا. أم نذهب لمكان آخر يا ميج؟ لقد سئمت من شطائر الأنشوجة وكعكة الكشمش.»
اقترح جرانت متجرا للشاي يشتهر بالكعك، وبدأ في تجميع ممتلكات السيدة راتكليف المتناثرة معها. وأثناء قيامه بذلك، ترك دفتر الكتابة يسقط بحيث ينفتح على الرمل، وكانت الورقة الأولى تعرض خطابا غير كامل. حدقت في ضوء الشمس الساطع في الأحرف الكبيرة المستديرة لخط يد السيدة راتكليف. قال: «آسف!» وأعاد الدفتر إلى كومة الأوراق والمجلات.
قد يكون الشاي ناجحا فيما يخص المذاق الطيب، ولكن كمناسبة اجتماعية شعر جرانت أنه فشل فشلا ذريعا. كانت اثنتان من رفيقاته الثلاث تنظران إليه بارتياب لا يمكن أن يفشل في الشعور به، والثالثة - الآنسة ليثبريدج - كانت مصرة بمرح على التظاهر بأنها لم تكن على علم بتقلب مزاج أختها لدرجة أنها اعترفت ضمنيا بإدراكها التوتر. عندما غادر كل منهما، وكان جرانت ورفيقته في طريقهما إلى المحطة في ضوء النهار المتلاشي، قال: «لقد كنت شخصا جيدا يمكن الاعتماد عليه، آنسة دينمونت. لن أنسى ذلك أبدا.» لكنها لم تجب. كانت هادئة للغاية في طريق العودة لدرجة أن أفكاره المستاءة بالفعل كانت مشتتة أكثر. لماذا لا تثق به الفتاة؟ هل اعتقدت أنه شخص رهيب يستغلها بلا ضمير كما كانت تشك. وطوال الوقت كان نصفه المشاهد يبتسم بسخرية ويقول: «أنت، مفتش شرطة، تطلب الثقة! كان مكيافيلي شديد الحساسية مقارنة برجل يعمل في إدارة التحقيقات الجنائية.»
عندما كان جرانت في حالة حرب مع نفسه، ظهرت ابتسامة استنكار على فمه، وكانت الابتسامة ملحوظة جدا الليلة. لم يجد إجابة واحدة محددة للمشكلات التي أزعجته. لم يعرف ما إذا كانت السيدة راتكليف قد تعرفت على البروش أم لا. لم يعرف ما إذا كانت قد قالت نيويورك لخادمتها أم لا وعلى الرغم من أنه رأى خط يدها، فإن ذلك لم يساعد في التوصل إلى نتيجة؛ فنسبة كبيرة من النساء يكتبن بخط كبير ومستدير للغاية. وقد يكون صمتها عند رؤية البروش مجرد صمت أثناء قراءتها للأحرف الأولى المتشابكة. قد تكون أسئلتها غير الواضحة عن أصله بريئة تماما. ومن ناحية أخرى، قد لا تكون كذلك قطعا. إذا كان لها أي علاقة بجريمة القتل، فيجب الاعتراف بأنها كانت ذكية ومن غير المرجح أن تكشف عن نفسها. لقد خدعته بالفعل مرة عندما طردها ببساطة من عقله في اليوم الأول من التحقيقات. لم يكن هناك ما يمنعها من الاستمرار في خداعه إلا إذا وجد حقيقة دامغة لا يمكن التهرب منها.
سأل الآنسة دينمونت: «ما رأيك في السيدة راتكليف؟». كانا وحدهما في المقصورة باستثناء مزارع ريفي وفتاته.
سألت: «لماذا؟ هل هذه مجرد محادثة أم مزيد من التحقيقات؟» «آنسة دينمونت، هل هناك ما يضايقك مني؟»
قالت: «لا أعتقد أن هذا هو التعبير الصحيح لما أشعر به. لا أشعر أنني حمقاء في كثير من الأحيان، لكنني شعرت بذلك الليلة.» وفزع من مرارة صوتها.
قال وهو حزين حقا: «لكن ليس هناك أدنى حاجة إلى ذلك. لقد أنجزت المهمة باحتراف، ولم يكن هناك شيء فيها يجعلك تشعرين بذلك. أنا أعارض شيئا لا أفهمه، وأردت منك مساعدتي. هذا كل شيء. لهذا السبب سألتك عن السيدة راتكليف للتو. أريد رأيا نسائيا يساعدني - رأي امرأة غير متحيز.» «حسنا، إذا كنت تريد رأيي الصريح، فإنني أعتقد أن المرأة حمقاء.» «أوه؟ ألا تعتقدين أنها ماكرة، في قرارة نفسها؟» «لا أعتقد أنها كذلك.» «هل تعتقدين أنها مجرد إنسانة سطحية؟ لكن بالتأكيد ...» سكت مفكرا. «حسنا، لقد سألتني عن رأيي، وقلته لك. أعتقد أنها حمقاء سطحية.»
سأل جرانت، رغم أن ذلك لا علاقة له بالتحقيقات: «وماذا عن أختها؟». «أوه، إنها مختلفة. لديها قدر من العقل والشخصية، على الرغم من أنك قد لا تعتقد ذلك.» «هل تعتقدين أن السيدة راتكليف قد ترتكب جريمة قتل؟» «لا، بالطبع لا!» «ولم لا؟»
قالت الآنسة دينمونت بأناقة: «لأنها لا تملك الشجاعة لفعل ذلك. قد تفعل ذلك في نوبة غضب، لكن العالم بأسره سيعرف في الدقيقة التالية، وبعد ذلك ما دامت على قيد الحياة.» «هل تعتقدين أنها قد تعرف شخصا ما وتحتفظ بالمعرفة لنفسها؟» «هل تقصد معرفتها للجاني؟» «نعم.»
جلست الآنسة دينمونت تنظر بتمعن إلى وجه المفتش الجامد. وتحركت أضواء مصابيح المحطة ببطء فوقه ومرت عليه حيث قلل القطار سرعته ليتوقف. وصاح الحمال، ماشيا بخطوات ثقيلة على الرصيف المهجور: «إيريدج! إيريدج!» تلاشى الصوت غير المتوقع في الفراغ، وتحرك القطار مرة أخرى قبل أن تتكلم.
قالت بيأس: «أتمنى أن أتمكن من قراءة ما تفكر فيه. هل تستهزئ بي للمرة الثانية في يوم واحد؟» «آنسة دينمونت، صدقيني، حتى الآن أنا لم أستهزئ بك قط، وأراهن بشدة على أنني لن أفعل ذلك أبدا.»
قالت: «قد يكون ذلك مفيدا للسيدة راتكليف. لكن دعني أقل لك شيئا. أعتقد أنها قد تظل صامتة بشأن جريمة القتل، لكن يجب أن يكون هناك سبب يهمها بشكل كبير. هذا كل شيء.»
لم يكن متأكدا مما إذا كانت الكلمتان الأخيرتان تعنيان أن هذا هو كل ما يمكن أن تخبره به، أو ما إذا كان ذلك مؤشرا على توقف الأسئلة؛ لكنها أعطته مادة للتفكير، وظل صامتا حتى وصلا إلى فيكتوريا. سأل: «أين تعيشين؟ ليس في المستشفى؟» «لا، أنا أقيم في شقة في كافنديش سكوير.»
رافقها إلى هناك رغما عن رغبتها، وتمنى لها ليلة سعيدة على عتبة الباب؛ لأنها لن تقتنع بتناول العشاء معه.
قال بحسن نية: «لا يزال لديك بعض أيام العطلة. كيف ستقضينها؟» «في المقام الأول، سأذهب لزيارة خالتي. لقد توصلت إلى استنتاج مفاده أن الشرور التي يعرفها المرء أقل فظاعة من الشرور التي لا يعرفها.»
لكن المفتش التقط بريق ضوء القاعة على أسنانها، ورحل وقد قل شعوره بأنه شهيد للظلم مما كان عليه منذ بضع ساعات.
الفصل السابع عشر
الحل
كان جرانت يائسا. كانت إشراقته خافتة على نحو غير معهود منه من قبل في سكوتلانديارد. حتى إنه تحدث لويليامز المخلص بحدة، ولم يذكره بنفسه سوى الأذى المفاجئ على ذلك الوجه الوردي اللطيف. ألقت السيدة فيلد باللوم دون شروط على الاسكتلنديين: طعامهم، وطرقهم، ومناخهم، وبلدهم؛ وقالت بطريقة درامية صبيانية لزوجها: «إذا كانت أربعة أيام في بلد مثل هذا تجعله هكذا، فماذا يفعل الشهر؟» كان ذلك في المناسبة التي كانت تعرض فيها لزوجها الملابس الصوفية الممزقة المتسخة التي أحضرها جرانت معه من غزوته في التلال؛ لكنها لم تخف معتقداتها وتحيزاتها، وقد عانى منها جرانت بشكل طفيف بقدر ما تسمح به روحه القلقة. بعد عودته إلى الروتين اليومي ومعالجة متأخرات العمل، كان يتوقف ويسأل نفسه، ما الذي تركه دون إنجاز؟ ما هي السبل الممكنة للاستكشاف التي تركها دون أن يجربها؟ لقد حاول عمدا منع نفسه من طرح مزيد من الأسئلة، وقبول النظرية العامة القائلة بأن حجج الشرطة كانت جيدة جدا بحيث تكون جديرة بالتصديق، والموافقة على رأي باركر بأنه كان يعاني من «حالة عصبية» ويحتاج إلى عطلة. لكن لم يكن هناك فائدة. كان الشعور بوجود خطأ ما في مكان ما، يعود دائما في اللحظة التي يتوقف فيها عن مضايقة نفسه. بل إن الإدانة كانت تتنامى مع مرور الأيام البطيئة، غير المثمرة، المملة، وكان يعود بذهنه إلى ذلك اليوم الأول، قبل أكثر من أسبوعين بقليل، عندما رأى جثة غير معروفة، ليستغرق في القضية مرة أخرى من هناك. هل فاتته نقطة في مكان ما؟ كان هناك الخنجر الذي ثبت أنه دليل عقيم غير مثمر. ومع ذلك، لم يزعم أحد أنه رأى أو امتلك خنجرا مثله. كل ما فعلته هو الندبة على يد القاتل؛ وهي دليل قاطع فقط عندما يتحالف مع مزيد من الأدلة.
كان هناك هذا الدليل ، وذاك، وغيرهما ، لكنها جميعا صمدت أمام ضغوط التفكك، وبقيت في كياناتها المنفصلة كما كانت في نمط الكل؛ وترك جرانت، كما كان من قبل، مع الاعتقاد، القوي جدا وغير المعقول جدا لدرجة أن ذلك الاعتقاد وصل إلى حد الخرافات، ولدرجة أن البروش ذا الحروف الأولى في جيب سوريل كان مفتاح اللغز بأكمله؛ وأنه كان يفضي صائحا بقصته لهم، إلا أنهم لم يسمعوا. كان يرقد في مكتبه مع الخنجر الآن، وكان مدركا له على الدوام. عندما لم يكن لديه ما يفعله، كان يخرج الاثنين البروش والخنجر من الدرج ويجلس هناك «يتأملهما»، كما أبلغ ويليامز المتعاطف مرءوسه. لقد أصبح مهووسا بهما. كان هناك علاقة ما بين الاثنين؛ بين العرض الذي قدمه سوريل لامرأة والخنجر الذي قتل به. لقد شعر وهو يلعب بالأشياء الموجودة على الطاولة بمثل قوة ووضوح شعوره بضوء الشمس الذي يدفئ يديه. ومع ذلك فقد سخر من الفكرة كل من منطقه ومنطق الآخرين. ما علاقة البروش بالقضية؟! قتل جيرالد لامونت سوريل بخنجر إيطالي صغير - كانت جدته إيطالية، وإذا لم يكن قد ورث الخنجر، فمن المحتمل أنه ورث إرادة استخدام الخنجر - بعد المشاجرة في صف الانتظار. وفي روايته الخاصة، استاء من رحيل سوريل عن بريطانيا، تاركا إياه عاطلا عن العمل ومفلسا إلى حد ما. كان سوريل يملك المال لدفع ثمن رحلته، لكنه لم يعرض عليه. وفي روايته، لم يكن يعلم أن سوريل قد أعطاه أي نقود إلا بعد يومين من جريمة القتل. من أين جاء البروش المرصع باللآلئ ذو الحروف الأولى؟ كان الخنجر الصغير المصنوع من الفضة والمطلي بالمينا أساسيا في القضية - ملك الأدلة. سيتم تصويره، وكتابة فقرات عنه، ومناقشته في كل منزل في إنجلترا، وسيؤدي الصدع الصغير الموجود على مقبضه المزين إلى شنق رجل. وطوال الوقت، كان هذا البروش اللؤلئي، الذي لم يظهر في القضية على الإطلاق، يتوهج بدحض صامت وكامل لجميع نظرياتهم الهزيلة.
كان الأمر سخيفا تماما. كره جرانت منظر البروش، ومع ذلك عاد إليه مرارا وتكرارا كما يفعل الرجل لعشيقته الساخرة . حاول «إغماض عينيه» - وهو ملجؤه المفضل عند الوقوع في مأزق - وإما أن يشتت انتباهه بالترفيه أو الانغماس في العمل أوقاتا طويلة في كل مرة؛ ولكن دائما عندما كان يفتح عينيه مرة أخرى كان البروش هو ما يراه. لم يحدث هذا من قبل - أن يفتح عينيه مرة أخرى ولا يرى أي زاوية جديدة في القضية. لقد أدرك أنه إما مهووس وإما وصل إلى الزاوية الأخيرة في القضية - الزاوية الحيوية - وأنها لم تخبره بشيء؛ كانت هناك من أجله ليراها، لكنه لم يكن يعرف كيفية فعل ذلك.
لنفترض، كما يعتقد، أن القتل تم على يد مبعوث بعد كل شيء، وليس نتيجة الخلاف في صف الانتظار، ما نوع الشخص الذي سيكون عليه هذا المبعوث؟ ليس واحدا من هؤلاء الأقرب إلى الرجل المقتول بالتأكيد. لكن لم يتمكن أي شخص آخر من الوصول إلى صف الانتظار باستثناء الشرطي، والحارس، ولامونت. أم كان هناك شخص آخر نجح في الهروب دون أن يلاحظه أحد؟ كان راءول ليجارد قد رحل، ورحل لامونت، دون جذب الانتباه؛ أحدهما لأن صف الانتظار كان منشغلا بأموره، والآخر لأنه كان منشغلا بجريمة القتل. هل من الممكن أن يكون هناك شخص آخر؟ وذكر نفسه كيف أثبت العديد من الشهود أنهم كانوا غير مبالين بما يحيط بهم. لم يتمكن أي منهم من إعطاء وصف مناسب للأشخاص الذين وقفوا إلى جانبهم، باستثناء راءول ليجارد، الذي كان أكثر انتقادا لأنه كان غريبا عن إنجلترا، وكان الحشد الإنجليزي لا يزال وسيلة ترفيهية له. أما بالنسبة إلى الآخرين، لم يكن الأمر ترفيها، ولم يهتموا بجيرانهم؛ لقد كان لديهم كل الانشغال الذاتي لسكان لندن ورواد صفوف الانتظار المعتادين. كان لا يزال من الممكن أن يكون شخص آخر قد هرب دون أن يتذكره أحد. وإذا كان الأمر كذلك، فما هي فرصة القبض عليه الآن؟ ما هو الدليل المحتمل الذي لديهم؟
البروش، قال نصفه الآخر، البروش!
يوم الجمعة، أحضر لامونت مرة أخرى لمحكمة جنح جاوبريدج، واحتج محاميه، كما توقع جرانت، على الشهادة التي أخذت من لامونت. توقع جرانت منه أن يحتج من حيث الشكليات، لكن كان واضحا أنه كان يحتج على الإدانة. لقد أصبح مدركا لاستفادة المدعي من اعتراف لامونت بأنه استاء من رحيل سوريل. قال القاضي إنه لم ير أي دليل على ممارسة الشرطة أسلوب الإكراه. من الواضح أن السجين لم يكن على استعداد للإدلاء بشهادة فحسب، بل كان حريصا على ذلك. لكن محامي لامونت أشار إلى أن موكله لم يكن في حالة عقلية أو جسدية للإدلاء بمثل هذه الشهادة المهمة. فبالكاد كان قد تعافى من ارتجاج حاد في المخ. ولم يكن في حالة مناسبة تؤهله ل...
وهكذا استمرت الحجة الكلامية غير المجدية، وجلس الشخصان الأكثر اهتماما بها- جرانت ولامونت - شاعرين بالملل والتعب، منتظرين حتى يتوقف سيل الكلمات ويصبح بمقدورهما المغادرة، أحدهما إلى زنزانته والآخر إلى عمله ومشكلته الدائمة. كانت الآنسة دينمونت في المحكمة المزدحمة الآن مرة أخرى، وهذه المرة لم يكن هناك شك في لطفها تجاه جرانت. يبدو أن مقابلتها مع خالتها كان لها تأثير غريب في تليينها بكل الطرق، وتعجب جرانت من ذلك عندما تذكر السيدة إيفريت. لم يخطر بباله إلا في طريق العودة إلى سكوتلانديارد أن إيمان خالتها في لامونت قد ولد فيها أملا لا علاقة له بالعقل أو المنطق، وأن الأمل هو الذي منحها هذا السحر الغريب غير المعتاد الذي كاد أن يشع من وجهها. وأطلق جرانت السباب. إنها قد تأمل أن يكون لامونت غير مذنب بعد كل شيء، لكن ما الذي ستستفيد منه إذا أدين؟
هذا البروش اللؤلئي! ماذا كان يقول؟ من كان لديه حق الوصول إلى صف الانتظار؟ ألقى بنفسه في غرفته وحملق غاضبا خارج النافذة. سيستقيل من منصبه. لم يكن أهلا له. ظل يرى الصعوبات في حين لم ير الآخرون أيا منها. كان دليلا محضا على عدم الكفاءة. لا بد أن باركر يسخر منه! حسنا، دعه يسخر. كان باركر لا يتمتع بأي قدر من الخيال. ولكن كان جرانت يتمتع بالخيال أكثر مما يتطلبه العمل الشرطي . سوف يستقيل. هناك شخصان على الأقل سيكونان ممتنين له؛ الرجلان اللذان كانا يتوقان كثيرا إلى وظيفته. أما بالنسبة إلى هذه القضية، فلن يفكر فيها أكثر من ذلك.
وحتى أثناء اتخاذ القرار، استدار من النافذة لأخذ البروش من درجه مرة أخرى، لكن قاطعه دخول باركر.
قال رئيسه: «حسنا، سمعت أنهم يثيرون ضجة حول الشهادة.» «نعم.» «ما الفائدة التي يعتقدون أنها ستعود عليهم؟» «لا أعرف. المبدأ، حسبما أفترض. وهم يرون بعض الاعترافات التي يمكننا الاستفادة منها، على ما أعتقد.»
قال باركر: «أوه، حسنا، دعهم يتخبطوا. لا يمكنهم التملص من الأدلة. بشهادة أو من دون شهادة، تغلبنا عليهم. هل ما زلت قلقا بشأن القضية؟» «لا، لقد تخليت عنها. بعد ذلك سأصدق ما أراه وأعلمه، وليس ما أشعر به.»
قال باركر: «رائع! أنت تكبح خيالك، جرانت، وستكون رجلا عظيما في يوم من الأيام. غالبا ما يكفي التمتع بالموهبة مرة واحدة كل خمس سنوات. إذا قمت بقصرها على ذلك، فمن المحتمل أن تكون أحد العناصر المهمة.» وابتسم ابتسامة عريضة وحنونة لمرءوسه.
ظهر شرطي في المدخل، وقال لجرانت: «هناك سيدة تود مقابلتك يا سيدي.» «من هي؟» «لم تكشف عن اسمها، لكنها قالت إن الأمر مهم للغاية.» «حسنا. أدخلها.»
تحرك باركر كأنه سيذهب، لكنه استقر مرة أخرى، وساد الصمت بينما كان الرجلان ينتظران الوافد الجديد. كان باركر مسترخيا قليلا أمام مكتب جرانت، وكان جرانت خلفه، ويده اليسرى تربت على مقبض الدرج الذي يحمي البروش. ثم انفتح الباب، وأرشد الشرطي الزائر بتكرار رسمي لإعلانه: «جاءت سيدة لمقابلتك يا سيدي.»
كانت المرأة السمينة من صف الانتظار. «مساء الخير، سيدة ... واليس.» تذكر جرانت اسمها بصعوبة؛ فهو لم يرها منذ التحقيق. «ما الذي يمكنني أن أفعله من أجلك؟»
قالت بلهجتها الكوكنية الهائجة: «مساء الخير أيها المفتش. أتيت لأنني أعتقد أن هذا الأمر قد زاد عن الحد. لقد قتلت بيرت سوريل، ولن أترك أي شخص يعاني من أجل ذلك إذا كان بإمكاني المساعدة في ذلك.»
قال جرانت: «أنت ...» وتوقف محدقا في وجهها السمين اللامع، وعينيها المستديرتين، والمعطف الساتان الأسود الضيق، والقبعة الساتان السوداء.
ألقى باركر نظرة خاطفة على مرءوسه ورآه في حيرة من أمره - حقا، يجب أن يأخذ جرانت عطلة - لذا تولى التعامل مع الموقف. قال بلطف: «اجلسي، سيدة ... واليس. لقد كنت تفكرين كثيرا في هذه القضية، أليس كذلك؟» قدم كرسيا وأجلسها فيه وكأنها أتت لتستشيره بشأن حموضة المعدة. «ليس من الجيد إطالة التفكير في أشياء سيئة مثل جرائم القتل. ما الذي يجعلك تعتقدين أنك قتلت سوريل؟»
قالت بحدة: «أنا لا أعتقد. ليس هناك مجال للشك. لقد كان عملا جيدا جدا.»
قال باركر بتساهل: «حسنا، دعينا نقل كيف نعرف أنك فعلت ذلك؟»
كررت: «كيف تعرفون؟ ماذا تقصد؟ أنتم لم تعرفوا حتى الآن، لكنني أخبرتكم الآن وهكذا عرفتم.»
قال باركر: «لكن، كما تعلمين، مجرد أنك قلت إنك فعلت ذلك ليس سببا يجعلنا نعتقد أنك فعلته.»
قالت، وصوتها يرتفع: «أنتم لا تصدقونني! هل يأتي الناس عادة ويعترفون بقتل أحد بينما لم يفعلوا ذلك؟»
قال باركر: «أوه، في كثير من الأحيان.»
جلست في صمت تغمرها الدهشة، كانت عيناها الداكنتان اللامعتان الخاليتان من أي تعابير تندفعان بسرعة من وجه إلى آخر. رفع باركر حاجبا بهدف إضحاك جرانت الذي ظل صامتا، لكن جرانت لم يلاحظه تقريبا. جاء من خلف المكتب كما لو انفصل فجأة عن تعويذة جعلته بلا حراك، واتجه نحو المرأة.
قال: «سيدة واليس، هلا تخلعين قفازاتك لحظة؟»
قالت وهي تخلع قفازاتها القطنية السوداء: «هيا الآن، هذا منطقي أكثر بعض الشيء. أعرف ما الذي تبحث عنه، لكنها اختفت الآن تقريبا.» مدت يدها اليسرى، بدون قفازات، إليه. على جانب سبابتها، كان هناك علامة لندبة خشنة شفيت لكنها لا تزال ظاهرة في الجلد الخشن ليدها التي تعمل بجد. أخرج جرانت نفسا طويلا، وجاء باركر وانحنى لفحص يد المرأة.
قال: «لكن، سيدة واليس، لماذا أردت قتل سوريل؟»
قالت: «لا تشغل بالك. لقد قتلته، وهذا يكفي.»
قال باركر: «يؤسفني أن الحال ليس كذلك. فحقيقة أن لديك ندبة صغيرة على إصبعك ليست دليلا بأي حال من الأحوال على أن لك علاقة بموت سوريل.» قالت: «لكني أقول لك إنني قتلته! لماذا لا تصدقني؟ لقد قتلته بالخنجر الصغير الذي أحضره زوجي من إسبانيا.» «هكذا تقولين، لكن ليس لدينا أي دليل على صحة ما تقولينه.»
كانت تحدق في كليهما بعدوانية. علقت: «لو أنك أصغيت لما تقول، لأدركت أنك لا تصلح شرطيا على الإطلاق. لولا ذلك الشاب الذي لديك، لعدت إلى المنزل الآن. لم أعرف قط أناسا بمثل هذا الغباء. ماذا تريدان أكثر من اعترافي؟»
قال باركر: «أوه، أكثر من ذلك بكثير»، بينما كان جرانت لا يزال صامتا. «على سبيل المثال، كيف يمكنك قتل سوريل عندما كنت أمامه في صف الانتظار؟» «لم أكن أمامه. كنت أقف وراءه طوال الوقت حتى بدأ الصف في التقدم ببطء. ثم طعنته بالخنجر وبعد قليل اندفعت إلى الأمام، وبقيت قريبة منه طوال الوقت حتى لا يسقط.»
هذه المرة تخلى باركر عن أسلوبه اللطيف ونظر إليها باهتمام. سأل: «وماذا كان سوريل بالنسبة إليك لتطعنيه بخنجر؟». «لم يكن بيرت سوريل شيئا بالنسبة إلي، لكنه كان يجب أن يقتل وأنا قتلته، أترى؟ هذا كل شيء.» «هل تعرفين سوريل؟» «نعم.» «منذ متى تعرفينه؟»
شيء في هذا السؤال جعلها تتردد. قالت: «منذ بعض الوقت.» «هل آذاك بطريقة ما؟»
لكن فمها المتردد في الحديث انغلق بإحكام أكبر. نظر إليها باركر بلا حول ولا قوة، وبعد ذلك استطاع جرانت رؤيته ينقلب على المسار الآخر. «حسنا، أنا آسف جدا، سيدة واليس»، قال كما لو أن المقابلة قد انتهت، «لكن لا يمكننا تصديق قصتك. فهي قصة من الصعب تصديقها. لقد كنت تفكرين كثيرا في هذه القضية. الناس يفعلون ذلك، كما تعلمين، في كثير من الأحيان، ثم يبدءون في تخيل أنهم فعلوا الشيء بأنفسهم. أفضل شيء يمكنك فعله هو العودة إلى المنزل وعدم التفكير في الأمر أكثر من ذلك.»
كما توقع باركر، أثر ذلك فيها. وظهر رعب خافت على وجهها الأحمر. ثم ذهبت عيناها السوداوان الثاقبتان إلى جرانت وفحصتاه. قالت لباركر: «لا أعرف من قد تكون، لكن المفتش جرانت يصدقني تماما.»
قال جرانت: «هذا هو مفوض الشرطة باركر، رئيسي. سيتعين عليك إخبار مفوض الشرطة أكثر من ذلك بكثير، سيدة واليس، حتى يتسنى له تصديقك.»
أدركت الصد، وقبل أن تتعافى قال باركر مرة أخرى: «لماذا قتلت سوريل؟ ما لم تقدمي لنا سببا مناسبا، يؤسفنا أننا لا نستطيع تصديقك. لا يوجد شيء على الإطلاق يربطك بجريمة القتل باستثناء تلك الندبة الصغيرة. أتوقع أن هذه الندبة الصغيرة هي التي دفعتك للتفكير في كل هذا الآن، أليس كذلك؟»
قالت: «ليس كذلك! هل تعتقد أنني مجنونة؟ حسنا أنا لست مجنونة. لقد فعلت ذلك تماما، وأخبرتك كيف فعلت ذلك بالضبط. ألا يكفي هذا؟» «أوه، لا، كان من الممكن أن تختلقي بسهولة قصة كيف فعلت ذلك. يجب أن يكون لدينا دليل.»
قالت في انتصار مفاجئ: «حسنا، لدي غمد الخنجر في المنزل. ها هو دليلك.»
قال باركر بتمثيل جيد للغاية للشعور بالندم: «يؤسفني أنه لا جدوى من هذا أيضا. يمكن لأي شخص أن يكون لديه غمد الخنجر. سيتعين عليك إبداء سبب لقتل سوريل قبل أن نبدأ حتى في تصديقك.»
قالت بتجهم بعد صمت طويل: «حسنا، إذا كان لا بد أن تعرف، فقد قتلته لأنه كان على وشك إطلاق النار على روزي.» «من هي روزي؟» «ابنتي.» «لماذا كان سيطلق النار على ابنتك؟» «لأنها لم تكن تريد أن يكون لها علاقة بأمثاله.» «هل تعيش ابنتك معك؟» «لا.» «إذن ربما ستسمحين لي بالحصول على عنوانها.» «لا؛ لا يمكنك الحصول على عنوانها. لقد سافرت إلى الخارج.» «ولكن إذا سافرت إلى الخارج، فكيف يمكن أن يؤذيها سوريل؟» «لم تكن قد سافرت إلى الخارج عندما قتلت بيرت سوريل.»
بدأ باركر قائلا: «إذن ...» لكن جرانت قاطعه.
قال ببطء: «سيدة واليس، هل راي ماركابل ابنتك؟»
وقفت المرأة على قدميها بسرعة مذهلة بالنسبة إلى شخص في حجمها الضخم. استرخى فمها المقفول فجأة، وخرجت أصوات غير واضحة من حلقها.
قال جرانت بلطف: «اجلسي»، وأعادها إلى كرسيها «اجلسي وأخبرينا بكل شيء عن ذلك. خذي وقتك.»
سألت عندما تمالكت نفسها: «كيف عرفت؟ كيف عرفت؟»
تجاهل جرانت السؤال. «ما الذي جعلك تعتقدين أن سوريل قصد إيذاء ابنتك؟» «لأنني التقيت به ذات يوم في الشارع. لم أره منذ سنوات، وقلت شيئا عن ذهاب روزي إلى أمريكا. وقال: «وأنا كذلك.» ولم يعجبني تعليقه؛ لأنني كنت أعلم أنه مصدر إزعاج لروزي. ثم ابتسم لي ابتسامة غريبة وقال: «على الأقل، هذا غير مؤكد. إما أن نذهب معا أو لن يذهب أي منا.» فقلت: «ماذا تقصد؟ روزي ستذهب بالتأكيد. لقد حصلت على عقد ولا يمكنها فسخه.» فقال: إن لديها عقدا سابقا معي. فهل تعتقدين أنها ستلتزم بذلك أيضا؟» وقلت: «لا تكن أحمق. إن علاقات الأولاد والبنات من الأفضل أن تنسى.» وابتسم مرة أخرى، بهذه الطريقة الغريبة المروعة، وقال: «حسنا، أينما تذهب فسنذهب معا.» ورحل.»
سأل جرانت: «متى كان ذلك؟» «لقد مر اليوم ثلاثة أسابيع؛ يوم الجمعة قبل أن أقتله.»
في اليوم التالي لتسلم سوريل الطرد الصغير في منزل السيدة إيفريت. «حسنا. تابعي.» «حسنا، عدت إلى المنزل وفكرت في الأمر. وظللت أرى وجهه. كان يبدو شاحبا للغاية على الرغم من كونه وسيما جدا وكل ذلك. وبدأت أتأكد من أنه كان ينوي قتل روزي.» «هل كانت ابنتك مخطوبة له؟» «حسنا، هذا ما قاله. لقد كانت علاقة بين صبي وفتاة. كان كل منهما يعرف الآخر منذ أن كانا طفلين. بالطبع، روزي لن تحلم بالزواج منه الآن.» «حسنا. تابعي.» «حسنا، اعتقدت أن المكان الوحيد الذي سيكون بمقدوره رؤيتها فيه هو المسرح. كما ترى، ذهبت خصيصى لإخبار روزي بذلك - لم أكن أراها كثيرا - لكن يبدو أنها لم تقلق. لم تقل شيئا سوى: «أوه، بيرت دائما يتفوه بالتفاهات على أي حال، وعلى أي حال لم أعد أواعده قط. كان لديها الكثير من الأشياء الأخرى التي يجب التفكير فيها، ولم تكن قلقة. لكنني كنت قلقة، بالتأكيد. ذهبت في تلك الليلة ووقفت على الجانب الآخر من الشارع، أشاهد الناس يأتون إلى صفوف الانتظار. لكنه لم يأت. وذهبت إلى العرض الصباحي يوم السبت ومرة أخرى في المساء، لكنه لم يأت. ومرة أخرى مساء الاثنين، وبعد ظهر الثلاثاء. وبعد ذلك ليلة الثلاثاء رأيته قد أتى وحده، وذهبت ووقفت خلفه في صف الانتظار عند باب الصالة. بعد مدة، رأيت انتفاخا في جيب معطفه الأيمن، وتحسسته، كان صلبا. كنت متأكدة حينها من أنه كان مسدسا وأنه سيقتل روزي. لذلك انتظرت حتى يتقدم الصف ببطء، كما قلت، وطعنته بالخنجر. لم يصدر أي صوت. ربما يجول بخاطرك أنه لم يكن يعلم أن أي شيء قد حدث. ثم اندفعت إلى الأمام، كما أخبرتك.» «هل كان سوريل وحده؟» «نعم.» «من كان يقف بجانبه؟» «لمدة من الوقت كان هناك شاب نبيل داكن البشرة، وسيم للغاية. ثم جاء رجل آخر للتحدث إلى بيرت، ودفع الشاب النبيل للخلف إلى جواري.» «ومن كان خلفك؟» «السيدة والسيد اللذان أدليا بالشهادة في التحقيق.» «كيف تكون روزي ماركهام ابنتك؟» «حسنا، كما ترى، كان زوجي بحارا - هكذا حصلت على الخنجر من إسبانيا - كان يجلب لي الكثير من الأشياء. ولكن عندما كانت روزي صغيرة، تعرض للغرق، وعرضت أخته التي كانت متزوجة من ماركهام وتعيش حياة زوجية هانئة أن تأخذ روزي وتربيها؛ لأنهما لم يكن لديهما أطفال. لذلك تركتها تذهب. وقد ربياها تربية صحيحة، أؤكد لك. فابنتي روزي سيدة بحق. لقد كنت أعمل خادمة لسنوات، ولكن منذ أن حصلت روزي على المال، خصصت لي ما يسمونه راتبا سنويا، وأنا أعيش على ذلك في الغالب الآن.» «كيف عرفت ابنتك سوريل؟» «الخالة التي أحضرت بيرت كانت تعيش بجوار آل ماركهام، وكان بيرت وروزي يذهبان إلى المدرسة نفسها. كانا قريبين من بعضهما البعض حينها للغاية، بالطبع. ثم ماتت الخالة عندما كان بيرت في الحرب.» «ولكن بعد الحرب خطبا بالتأكيد؟» «لم يكونا مخطوبين كما تقول. كان كل منهما منجذبا للآخر فحسب. كانت روزي حينها في جولة لعرض «ذا جرين صن شايد» (المظلة الخضراء) ثم اعتاد كل منهما مقابلة الآخر عندما كانت في المدينة أو بالقرب منها .» «لكن سوريل اعتبر نفسه خاطبا؟» «ربما. يرغب الكثير من الرجال في الارتباط بروزي. كما لو أن روزي ستفكر في أمثاله!» «لكنهما احتفظا بدرجة ما من التعارف؟» «أوه، نعم، لقد سمحت له بالحضور لمقابلتها في شقتها في بعض الأحيان، لكنها لم تخرج معه، أو أي شيء من هذا القبيل. ولم تستقبله كثيرا. لا أظن أنها كانت قادرة على إبعاده إلى الأبد، كما ترى. لقد كانت تخيب ظنه بلطف، على ما أعتقد. لكنني لست متأكدة من كل ذلك. لم أذهب لرؤية روزي كثيرا بنفسي. هذا ليس معناه أنها لم تكن لطيفة معي، لكن ذلك لم يكن يناسبها. فلم تكن تريد امرأة عجوزا عادية مثلي بالجوار، وهي تقضي وقتها مع اللوردات وغيرهم.» «لماذا لم تخبري الشرطة على الفور أن سوريل كان يهدد ابنتك؟» «فكرت في الأمر، ثم اعتقدت، في المقام الأول، أنني لا أمتلك دليلا على ذلك. وبالنظر إلى الطريقة التي عاملتموني بها اليوم، لا بد أن أعتقد أنني كنت محقة. وثانيا، حتى إن افترضنا أن الشرطة قبضت عليه، فلن يتمكنوا من سجنه للأبد. كان سيقتلها بمجرد أن يخرج. ولم أستطع أن أراقبه دائما. لذلك اعتقدت أنه من الأفضل القيام بفعل ذلك عندما أستطيع. كان لدي ذلك الخنجر الصغير، واعتقدت أن ذلك سيكون طريقة جيدة. لا أعرف أي شيء عن المسدسات وهذه الأشياء.» «أخبريني، سيدة واليس، هل رأت ابنتك ذلك الخنجر من قبل؟» «لا.» «هل أنت متأكدة تماما؟ فكري قليلا.» «نعم رأته. أنا أكذب. عندما كبرت، وقبل أن تغادر المدرسة، كان لديهم مسرحية لشكسبير بها خنجر. لا أتذكر اسمها.»
اقترح جرانت: «ماكبث؟». «نعم، هذه هي. وكانت البطلة. كانت دائما رائعة في التمثيل، كما تعلم. حتى عندما كانت صغيرة، كانت رائعة في مسرحية إيمائية بالمدرسة. وكنت دائما أذهب لأشاهدها. وعندما كانوا يمثلون هذه المسرحية ماكبث، أقرضتها الخنجر الصغير الذي أحضره والدها من إسبانيا. فقط من أجل الحظ، كما تعلم. أعادته إلي عندما انتهت المسرحية. لكنها احتفظت بالحظ دائما. كانت محظوظة طوال حياتها . لقد كان الحظ فقط هو الذي جعل لادز يراها عندما كانت في جولة؛ لذلك أخبر بارون عنها، وأجرى بارون مقابلة معها. هكذا حصلت على اسمها - راي ماركابل. فطوال الوقت كانت ترقص وتغني، وظل يقول: «ريماركابل!» (أي رائع)؛ ولذا اتخذته روزي اسما لها. إنها نفس الأحرف الأولى من اسمها - على الأقل، اسمها بعد التبني، هل فهمتما؟»
ساد الصمت. بدا كل من باركر، الذي كان صامتا بعض الوقت، وجرانت في حيرة مؤقتة. فقط المرأة السمينة ذات الوجه الأحمر بدت مرتاحة تماما.
قالت: «هناك شيء واحد يجب أن تتذكراه. اسم روزي يجب أن يبقى خارج الموضوع. ولا كلمة واحدة عن روزي. يمكنك القول إنني قتلته بسبب تهديده لابنتي الموجودة في الخارج.» «أنا آسف، سيدة واليس، لا يمكنني أن أعدك بذلك. اسم الآنسة ماركابل سيذكر بالتأكيد.»
قالت: «لكن لا يجب أن يحدث هذا! لا يجب! إن إقحامها في ذلك الأمر سوف يفسد كل شيء. فكر في الفضيحة والكلام. من المؤكد أنكم أيها السادة أذكياء بما يكفي للتفكير في طريقة لتجنب ذلك؟» «يؤسفني ذلك سيدة واليس. لو استطعنا ذلك لفعلناه، لكن لن يكون ذلك ممكنا إذا كانت قصتك حقيقية.»
قالت برباطة جأش مدهشة، مع الأخذ في الاعتبار حدتها السابقة: «أوه، حسنا، لا أعتقد أن ذلك سيحدث فرقا كبيرا للغاية بالنسبة إلى روزي. فروزي هي أعظم ممثلة في بريطانيا في الوقت الحاضر، ومكانتها أفضل من أن يفسدها شيء من هذا القبيل. يجب فقط أن تشنقني قبل أن تعود من أمريكا.»
قال باركر بابتسامة خافتة: «من السابق لأوانه الحديث عن الشنق. هل معك مفتاح منزلك؟» «نعم؛ لماذا؟» «إذا سلمته إلي، فسأرسل رجلا للتحقق من قصتك عن غمد الخنجر. أين يمكن أن يجده؟» «يوجد في أعماق الدرج العلوي الأيسر من الخزانة ذات الأدراج، في صندوق به زجاجة عطر.»
استدعى باركر رجلا وأعطاه المفتاح والتعليمات. قالت السيدة واليس بحدة للمبعوث: «واترك كل شيء في مكانه.»
عندما رحل الرجل، دفع جرانت قصاصة من الورق عبر مكتبه إليها وأعطاها قلما. قال : «هلا تكتبين اسمك وعنوانك هنا؟».
أخذت القلم بيدها اليسرى، وكتبت بجهد ما طلب. «هل تتذكرين عندما ذهبت لمقابلتك قبل التحقيق؟» «نعم.» «لم تكوني عسراء وقتها.» «يمكنني استخدام أي من اليدين في معظم الأشياء. هناك اسم لذلك، لكني نسيت ما هو. لكن عندما أفعل أي شيء مميز، أستخدم يساري. وروزي، عسراء أيضا. وكذلك كان والدي.»
سأل باركر: «لماذا لم تأتي من قبل وتخبرينا بهذه القصة؟» «لم أكن أعتقد أنك ستقبض على أي شخص إذا لم تقبض علي. لكن عندما رأيت في الصحيفة أن الشرطة لديها قضية جيدة، وكل هذه الأمور، اعتقدت أنه يجب القيام بشيء ما. ثم ذهبت اليوم إلى المحكمة لإلقاء نظرة عليه.» إذن كانت في تلك المحكمة المزدحمة اليوم دون أن يراها جرانت! «لا يبدو سيئا بالرغم من مظهره الأجنبي. وبدا مريضا جدا. لذا عدت إلى المنزل، وفكرت في الموضوع، وجئت إلى هنا.»
قال جرانت: «حسنا»، ورفع حاجبيه لرئيسه. استدعى مفوض الشرطة رجلا، وقال: «السيدة واليس ستنتظر في الغرفة المجاورة لحظة، وستبقى معها. إذا كان هناك أي شيء تريدينه، فاطلبي فقط من سيمبسون، سيدة واليس.» وأغلق الباب خلف جسدها المغطى بالساتان الأسود الضيق.
الفصل الثامن عشر
الخاتمة
قال باركر، بعد دقيقة من الصمت: «حسنا، لن أتحدث معك أبدا عن موهبتك مرة أخرى، جرانت. هل تعتقد أنها مجنونة؟»
قال جرانت: «إذا كانت المبالغة في المنطق جنونا، فهي كذلك.» «لكن يبدو أنها ليس لديها أي مشاعر تجاه الموضوع على الإطلاق - سواء بالنسبة إليها أو إلى سوريل.» «لا؛ ربما تكون مجنونة.» «أليس هناك أي احتمال ألا يكون ذلك صحيحا؟ إنها قصة أقل قابلية للتصديق بكثير في وجهة نظري من قصة لامونت.»
قال جرانت: «أوه، نعم، هذا صحيح. ليس هناك شك في ذلك. يبدو الأمر غريبا بالنسبة إليك فقط لأنك لم تتعايش مع هذه القضية كما فعلت أنا. بدأ كل شيء يصبح منطقيا الآن - انتحار سوريل، هدية المال للامونت، حجز الرحلة، البروش. كنت أحمق لأنني لم أر أن الأحرف الأولى كانت أيضا آر إم. لكنني كنت مهووسا بنساء راتكليف في ذلك الوقت. لا يعني ذلك أن قراءة الأحرف الأولى من الناحية الأخرى كانت ستساعدني كثيرا، إذا لم تظهر السيدة واليس باعترافها. ومع ذلك، كان علي ربطها براي ماركابل. ففي اليوم الأول من التحقيقات، ذهبت إلى وفينجتون لأتحدث مع الحارس، ورأيت راي ماركابل حينها، وقدمت لي الشاي. وأثناء تناول الشاي وصفت لها الخنجر - كان الوصف سيظهر في الصحافة في ذلك المساء. بدت مرعوبة للغاية لدرجة أنني كنت على يقين من أنها رأت شيئا كهذا من قبل. لكن لم يكن هناك أي طريقة لجعلها تقول ذلك إذا لم تكن تريد؛ لذا تركتها، ومن بداية القضية إلى نهايتها، لم يكن هناك ما يربطها بها حتى الآن. لا بد أن سوريل كان ينوي الذهاب إلى أمريكا بمجرد أن علم أنها ذاهبة إلى هناك. يا له من مسكين! قد تكون راي ماركابل بالنسبة إلى بقية العالم نجمة كبيرة جدا، لكنه لم يتجاوز قط التفكير فيها على أنها روزي ماركهام. كانت تلك مأساته. هي، بالطبع، ليست كذلك. لقد مضى وقت طويل منذ أن فكرت راي ماركابل في نفسها على أنها روزي ماركهام. أتوقع أنها أوضحت أنه لم يكن هناك شيء على الإطلاق عندما أعادت البروش الذي صنعه لها. بروش مثل هذا لن يعني شيئا لراي ماركابل. لقد كان ينوي حقا الذهاب إلى أمريكا حتى مساء الخميس، عندما حصل على الطرد الذي تحدثت عنه السيدة إيفريت. كان هذا هو البروش، ومن الواضح أن ذلك أنهى الأمر. ربما أعلنت نيتها في الزواج من لاسينج، على حد علمي. هل رأيت أنه خرج معها على نفس القارب؟ لا بد أن يكون سوريل قد اتخذ قراره حينها أنه سيطلق النار عليها وينتحر. إن صالة وفينجتون ليست أفضل مكان لإطلاق النار على خشبة المسرح باستخدام مسدس، لكنني أعتقد أنه اعتمد على الضجة التي ستكون هناك في النهاية. لم يمض وقت طويل منذ أن رأيت نصف صالة الفرقة الموسيقية في نهاية الليلة الأخيرة في مسرح أرينا . أو ربما قصد أن يفعل ذلك وهي تغادر المسرح بعد العرض. لا أعرف. كان بإمكانه فعل ذلك في وقت ما بعد الظهر بسهولة تامة - فقد اتجه هو ولامونت إلى المقاعد الأمامية - لكنه لم يفعل. أعتقد أنه لم يكن يرغب في أن يعرف أصدقاؤه بالأمر، إن كان ثمة فرصة ولو ضئيلة لأن يخفيه عنهم. كما ترى، لقد حاول ملاءمة الأمور بحيث يعتبرون مسألة أنه في طريقه إلى أمريكا أمرا مسلما به. هذا ما يفسر عدم وجود أدلة. فلن يربط أي من السيدة إيفريت ولا لامونت انتحار رجل مجهول قتل راي ماركابل بالرجل الذي اعتقدا أنه كان على متن سفينة «كوين أوف آربيا». ربما نسي ذلك اللقاء في الشارع مع السيدة واليس، أو لم يعتقد أن أفكاره السرية كانت واضحة لها. عندما تفكر في الأمر، كان لطفا منها أن تكتشف ما كان ينويه. بالطبع، كان لديها الدليل - فقد كانت تعرف عن راي. لكنها كانت الوحيدة التي كانت قادرة على ربطه براي ماركابل. بالطبع لم تذهب راي ماركابل إلى أي مكان معه. لقد حاول أن يبذل قصارى جهده من أجل صديقه من خلال تسليمه رزمة النقود، مع التعليمات، كما قال لامونت، بعدم فتحها حتى يوم الخميس. هل تعتقد أن سوريل كان يفكر أن هناك احتمالا ألا يعرف صديقه أبدا ما حل به، أو هل تعتقد أنه لم يهتم ما دام قد انتهى الأمر قبل أن يكتشفوا ذلك؟»
قال باركر: «لا أعلم! لا أعتقد أنه كان عاقلا جدا أيضا.»
قال جرانت بعد تفكير: «لا، لا أعتقد أن سوريل كان مجنونا. إنه بالضبط ما قاله لامونت عنه - لقد فكر مدة طويلة في شيء ما، ثم فعل بالضبط ما كان ينوي. الشيء الوحيد الذي لم يأخذه بعين الاعتبار هو السيدة واليس - وستقر بأنها ليست من النوع الذي تتوقع أن تجده يزاحم الآخرين في حشد عادي. لا يمكن أن يكون سوريل شخصا سيئا. فلآخر لحظة استمر في خدعة ذهابه إلى أمريكا. كانت أمتعته معدة بشكل مثالي - لكن لامونت كان يحزم أمتعته في الوقت نفسه، وربما كان يدخل ويخرج من الغرفة طوال الوقت. لم يكن لديه خطاب واحد من راي ماركابل أو صورة لها. لا بد أنه قد غير موضع كل شيء عندما قرر ما الذي سيفعله. لكنه فقط نسي البروش. لقد سقط من جيب، كما أخبرتك.» «هل تعتقد أن راي ماركابل كانت تعرف الحقيقة ولو شكا؟» «لا؛ لا أعتقد ذلك.» «ولم لا؟» «لأن راي ماركابل هي واحدة من أكثر الناس انشغالا بأنفسهم في هذا العصر. على أي حال، تذكرت الخنجر من وصفي له، لكن لم يكن لديها سبب للربط بين الرجل الذي قتل وسوريل؛ وبالتالي لن تربط والدتها بالقضية على الإطلاق. لم تعرف شرطة سكوتلانديارد هوية سوريل حتى يوم الإثنين، وكان هذا هو اليوم الذي غادرت فيه إلى الولايات المتحدة. سأفاجأ كثيرا إذا هي عرفت، ولو الآن، أن القتيل كان سوريل. لا أظن أنها تقرأ الكثير في الصحف سوى عمود الشائعات، وأمريكا ليست مهتمة بجريمة القتل في صف الانتظار.» قال باركر بحزن: «إذن هناك صدمة في انتظارها.»
قال جرانت بتجهم: «نعم. ولكن على الأقل هناك مفاجأة سارة في انتظار لامونت، وأنا سعيد بها. لقد جعلت من نفسي أحمق في هذه القضية، لكنني الآن أكثر سعادة مما كنت عليه منذ أن جذبته إلى القارب من البحيرة.» «أنت خارق، جرانت. في قضية مثل هذه، كان يجب أن أكون سعيدا للغاية بنفسي. كان الأمر خارقا. إذا طردت من الشرطة في أي وقت، فبإمكانك العمل في مجال الحاسة السادسة بخمسة شلنات في المرة.» «حتى يمكنك القبض علي بتهمة الابتزاز، على ما أعتقد؟ «أعطنا جنيها وإلا سيكون لديك رجال الشرطة!» لا؛ لا يوجد أي شيء خارق في ذلك. فبرغم كل شيء، في أي علاقة إنسانية عليك أن تقرر بنفسك، بصرف النظر عن الأدلة، طبيعة أي شخص. وعلى الرغم من أنني لن أعترف بذلك حتى لنفسي، أعتقد أنني كنت أعرف أن لامونت كان يقول الصدق في تلك الليلة عندما أعطاني إفادته في القطار .»
قال باركر : «حسنا، إنها مسألة غريبة الأطوار، بل هي أكثر المسائل التي عرفتها غرابة منذ زمن طويل.» رفع نفسه من فوق المكتب الذي كان يتكئ عليه. «هلا تخبرني عندما يعود مولينز؟ إذا حصل على الغمد، فسنقرر قبول القصة. سيتم إحضار لامونت مرة أخرى غدا، أليس كذلك؟ يمكننا حينها تقديمها للمحكمة.» وترك جرانت وحده.
فعل جرانت دون تفكير ما كان سيفعله عندما قاطعه دخول باركر. فتح درج مكتبه وأخرج الخنجر والبروش. فقط مسافة صغيرة بين النية والفعل، ويا له من فرق! لقد كان على وشك إخراجهما باعتبارهما رمزين ليأسه - لغزين كانا يزعجانه؛ والآن يعرف كل شيء عنهما. وكان الأمر بسيطا جدا الآن بعد أن عرف. الآن بعد أن عرف! ولكن إذا لم تأت السيدة واليس ... أبعد هذه الفكرة عن ذهنه. ولولا الحادث الذي جعل المرأة غير متحيزة حتى عندما يجن جنونها، لكان كبت وساوسه ومضى في القضية كما يليق بمفتش مرموق في إدارة التحقيقات الجنائية، ووفقا للأدلة. لقد نجا من ذلك.
كانت قضية واضحة للغاية فيما يتعلق بالأدلة - الشجار، استخدام اليد اليسرى، الندبة. لقد بحثوا عن الرجل الذي تشاجر مع سوريل، وكان أعسر ولديه ندبة على إبهامه. ألم يكن ذلك جيدا بما فيه الكفاية؟ والآن أصبح هذا هراء - مثل غطاء فراش الآنسة دينمونت. كان القاتل امرأة، قادرة على استخدام كلتا يديها، ولديها ندبة على إصبعها. لقد نجا بشق الأنفس والتعامل المنصف لامرأة.
عادت أفكاره إلى المسار الذي قادها إلى الخطأ حتى الآن: البحث عن هوية سوريل؛ نوتنجهام، الشاب في فيث بروذرز، السيد يودال، النادلة في الفندق، جميعهم متذكرا الشيء الذي كانوا أكثر اهتماما به، ورابطا إياه إنسانيا بكل ما حدث. راءول ليجارد بوسامته، وذكائه السريع، ووصفه الكامل للامونت. داني ميلر. آخر ليلة من عرض «ديدنت يو نو؟» سترويلبيتر والغارة على مكاتب سوريل. لاسي، الفارس، وذلك اليوم الرطب في لينجفيلد. السيدة إيفريت. الهروع إلى الشمال. كارنينيش - درايزدال الصامت والشاي في منزل القس. الآنسة دينمونت بمنطقها واكتفائها الذاتي. بداية شكه وازدهاره مع شهادة لامونت. البروش . والآن ...
استقر على مكتبه الشيئان اللامعان. ومض الخنجر عن عمد في ضوء المساء، ولمعت اللآلئ بابتسامة صغيرة هادئة تشبه إلى حد بعيد الابتسامة التي تشتهر بها راي ماركابل. لم يكن يعتقد أن جاليو وستاين قاما بعمل جيد جدا فيما يتعلق بالحرفين الأولين؛ فحتى الآن، عندما ينظر إليهما بشكل عرضي، كان يقرؤهما إم آر. وتذكر أن السيدة راتكليف والسيدة إيفريت قرأتاهما بهذه الطريقة.
عادت أفكاره إلى السيدة واليس. هل كانت عاقلة فعليا؟ كان سيقول لا؛ لكن سلامة العقل، من وجهة نظر طبية، تعتمد على مثل هذه المؤهلات الغريبة. كان من المستحيل توقع ما سيظنه أحد المتخصصين عنها. وعلى أي حال لم يكن هذا من شأنه. فقد أنجز عمله. ستنتقد الصحافة، بطبيعة الحال، تسرع الشرطة في عملية إلقاء القبض، لكن مشاعره لن تتحرك. سوف تتفهم شرطة سكوتلانديارد الأمر، ولن تتأثر مكانته المهنية. وبعد قليل سيحصل على تلك العطلة. هل سيذهب إلى ستوكبريدج ويصطاد؟ أم سيعود إلى كارنينيش؟ كان درايزدال قد وجه له دعوة حارة للغاية، وكانت بحيرة فينلي تعج بسمك السلمون الآن. ولكن بطريقة ما كان التفكير في تلك المياه البنية السريعة وهذا البلد المظلم أمرا بغيضا في الوقت الحالي. لقد ذكره بالفوضى والحزن والإحباط؛ ولم يكن يريد أيا من ذلك. أراد هدوءا شبيها بهدوء البقر، وراحة، وسماء لطيفة. سيذهب إلى هامبشاير. لا بد أنها مكسوة باللون الأخضر حينذاك، وعندما يسأم من مياه التيست الهادئة، سيكون هناك حصان وعشب في دانبوري.
طرق مولينز، ودخل ووضع غمد الخنجر على مكتب جرانت. «وجدته حيث قالت، يا سيدي. هذا هو مفتاح المنزل.»
قال جرانت: «شكرا، مولينز.» وضع الخنجر في غمده، ونهض ليأخذه إلى باركر. نعم؛ سيذهب إلى هامبشاير. لكن في وقت ما، بالطبع، سيعود إلى كارنينيش.
أعلن الأطباء أن السيدة واليس عاقلة تماما وقادرة على الاعتراف، ومن المقرر عقد محاكمتها في أولد بيلي هذا الشهر. جرانت مقتنع بأنها ستفلت من العقاب، وأنا أميل إلى الوثوق بموهبة جرانت حتى الآن. فهو يقول إن القوانين غير المكتوبة ليس من المفترض أن تكون سارية المفعول في هذا البلد، لكن هيئة المحلفين البريطانية عاطفية في الواقع تماما مثل الفرنسية؛ وعندما يسمعون القصة كما طرحها محامي السيدة واليس - وهو أحد أشهر المدافعين في القضايا الجنائية في ذلك الوقت - فسوف يبكون كثيرا ويرفضون إدانتها.
قلت له: «حسنا، لقد كانت قضية غريبة، لكن الأمر الأكثر غرابة أنه لا يوجد شرير فيها.»
قال جرانت، وعلى فمه تلك الابتسامة الساخرة: «ألا يوجد!» «حسنا، هل يوجد؟»
النهاية
Bilinmeyen sayfa