يتمزق الجلباب فوق نتوء بارز. يسقط عن جسده ويتكور فوق الأرض بجوار السور. كالجنين يسقط من بطن أمه ميتا، تعلوه بقع الدم.
كان واقفا عاريا إلا من السروال. وجهه لضوء القمر. يحملق في الدوائر الحمراء فوق الجلباب، كأنما هو ذلك الجنين الميت، أو ربما مات وهو واقف. أو هي اللحظة الأخيرة قبل الموت.
في القفزة الأخيرة قبل انفصال الروح أصبح جسده خفيفا. أراد الجسد أن يمسك الروح قبل أن تفلت. حلقت الروح بعيدا عن الجسم، فامتدت نحوها يداه وأمسكتاها. يداه داميتان مسلوختان. بشرته بيضاء خالية من الدم. عيناه واسعتان مملوءتان بالضوء.
في هذه اللحظة السابقة للموت ارتفع جسده ولامس الروح. أمسكها بأصابع يديه وقدميه. تشبث بها وحلق معها فوق السور. ذراعاه وساقاه تدور في الهواء كالأجنحة. عظام ظهره بارزة كالهيكل بلا لحم، وجرح عميق غائر تحت لوحة الكتف.
طار يحلق في السماء. يلمع في الضوء كالسهم، رأسه أسود يشق السحب. يختفي داخل المساحات السوداء، لا تراه العين، ثم يظهر من بعيد كالنجم، يطل على المدينة، وإلى جواره نجمة الصباح.
ترمقهما العيون من وراء القضبان. عيون نصف مغلقة فيما يشبه النوم. عيون بشرية من بني آدم وبنات حواء. «النني» يطل من تحت طبقة الماء كالزجاج الشفاف. الجلابيب واسعة بيضاء علامة الجنون. حزام رفيع مربوط حول الوسط. ما إن ينظر الواحد منهم في عين الآخر، أو الواحدة في عيني الأخرى حتى تنتقل العدوى.
الرجال منهم رءوسهم محلوقة نمرة واحد بأمر المدير. وجوههم يغطيها شعر ميت يتدلى فوق صدورهم، والنساء في عنبر الحريم، رءوسهن ملفوفة بالطرح. أذرعهن حول صدورهن معقودة. أيديهن تحت خدودهن، والشفاه مطبقة لا صوت ولا نفس. ينظرن نحو السماء بلا صوت، بلا أمل ولا يأس ولا أي شيء. مجرد ضوء أبيض بلون الثلج يغطي سطح القمر. ضوء حزين صامت يحملق في الفراغ، بلا عتاب، بلا رجاء، بلا دعاء، ولا أي شيء.
كان واقفا في عنبر الرجال وراء النافذة. أذناه منتصبتان، مرهفتان تتلهفان على الصوت، لا أحد يناديه. حتى الهواء كف عن الحفيف. لا حركة ولا صوت.
عيناه تتسعان و«النني» الأسود يدور حول نفسه في الظلمة. واقف داخل جلبابه الواسع الأبيض. طويل عريض. رأسه ملفوف بالشاش، اللفة وراء اللفة، سبع لفات، ومن فوقها تنتصب الريشة السوداء، كعرف الديك. لحيته طويلة بيضاء تتدلى فوق صدره. مربع الوجه أبيض البشرة، علامة الأصل العريق الممتد حتى سلالة الملك، أنفه غضروف كبير علامة الانحدار من صلب أبيه لا من رجل آخر. قلبه ثقيل والهواء معدوم. صدره يعلو ويهبط. أنفاسه تلهث. عيناه مستديرتان و«النني» يدور حول نفسه كالخرزة السوداء.
يرفع أنفه عاليا ويمشي بين صفوف الأسرة كما كان يمشي بين صفوف الجنود. الصف وراء الصف. آلاف الصفوف وآلاف الوجوه الممسوحة. لا يرى منها إلا وجه واحد، هو وجهه. يراه منعكسا في عيونهم الساكنة كسطح الماء الراكد. فوق رأسه الريشة تنتصب كالإبرة، وفي يده السيف ورثه عن أبيه. صوته يدوي في أذنيه كصوت جده. - الطاعة يا عبيد. - أنا هنا صاحب الأمر. - ومن لا يطيع. - رأسه يطير.
Bilinmeyen sayfa