وهي راقدة داخل الصندوق أحست الاهتزازة. رفعت الغطاء وأطلت برأسها. رأت الصندوق محمولا فوق الأعناق كالزورق في البحر. يتهادى فوق الأمواج بإيقاع اللحن، والأصوات تنشد بصوت كحفيف الهواء. خيوط الفجر تنتشر في الأفق بلون الشفق. - يسقط! يسقط! يسقط!
وضعت رأسها فوق الوسادة، أغمضت عينيها. فوق شفتيها ابتسامة. الصوت يمشي فوق جفونها المغلقة كشعاع الشمس. كصوت أمها قبل أن تولد، ينفذ من جدار الرحم دافئا بحرارة الدم.
ثم توقف الصوت. دب السكون. الريح من بعيد تصفر. صفارة طويلة مثل البوق. مزقت الصمت كطلقة الرصاص. تبعتها الطلقات، طلقة وراء طلقة في تتابع سريع، وصفارات البوليس، والأجراس في الكنائس بدأت تدق بصوت عال، والميكروفونات فوق المنارات والجوامع، والدبابات خرجت تزحف فوق الأرض والكعوب الحديدية تدق الأسفلت، والجنود بالرءوس النحاسية الصف وراء الصف، آلاف الصفوف.
من الصف الأول رأته يخرج. عرفته على الفور. يرتدي معطف المدير الأبيض، وجسد جدها الميت. وأنف زكريا المقوس، الوجه المربع وبشرة الملك البيضاء، وعمامة الشيخ بسيوني، من فوقها الريشة منتصبة في الهواء.
وقفت أمامه داخل مريلة المدرسة. كولة بيضاء حول عنقها. تحت إبطها كراسة وقلم.
جلس فوق المقعد ذي المسند العالي، كالعرش من الذهب. من حوله الأتباع والخدم. زوجته جالسة ضمن الخدم يسمونها الحرم. فوق صدره وسام يلمع. أمامه منضدة خشبية يدق عليها بمطرقة حديدية، في فمه صفارة ينفخ فيها. - بدأت الجلسة.
دوى صوته في الساحة الواسعة حول السراي. انفتحت أبواب العنابر. خرج الرجال داخل الجلاليب البيضاء الواسعة. حول الوسط حزام رفيع مربوط على شكل فيونكة. أقدامهم داخل شباشب من البلاستيك يسمونها زنوبة. وجوههم شاحبة بلون السحب. عيونهم واسعة تبحلق في الفراغ. ساروا بخطوتهم البطيئة الزاحفة. ملئوا الحديقة الجرداء التي يحوطها السور العالي. تلاصقت أجساد النساء في ركن الحريم. رءوسهن ملفوفة بالطرح الرمادية. وجوههن طويلة بلون التراب. جالسات متربعات فوق الأرض، وعيونهن مغلقة. - بدأت الجلسة.
تطلعت إليه العيون من وراء طبقة الماء كالزجاج الشفاف. فكاه ينفتحان وينغلقان مثل فكي المقص. رذاذ يتناثر من فمه. يتطاير حوله كذرات الرمل، ذرة واحدة طارت وانفجرت في الجو، امتلأ الهواء برائحة نفط ومعجون الحلاقة. ارتدى النظارة وفتح الكتاب. حملق في عيون الناس من تحت الزجاج ثم نفخ في الصفارة.
باسم اللاه (فتح فكيه مع الألف الممدودة).
وباسم صاحب السيادة (ارتفع صوته أكثر وانفتح فكاه عن آخرهما حتى طقطقت مفاصلهما).
Bilinmeyen sayfa