يشد الرباط في حذائه ويعقده بحركة تشبه حركة أبيه، والرباط حول عنقه أيضا يشده كما يرى أباه يفعل، مشرئبا بعنقه إلى أعلى.
كان يظن أن ميزة الذكر على الأنثى هي هذا الرباط في الحذاء وحول العنق، لكن التلاميذ في المدرسة ضحكوا عليه، وأخذوه إلى دورة المياه، ومن وراء الباب المغلق أدرك الحقيقة.
لأول مرة رآه شيئا بلا معنى، قطعة صغيرة من اللحم تتدلى أسفل بطنه ينفذ منها خرطوم البول، لكن عيون التلاميذ يملؤها الزهو، يقيسونها بالمسطرة، وكل منهم يصيح بصوت عال كالهتاف: أنا الأكبر! أنا! أنا!
صوت ابن العمدة يعلو على الجمع. يفتح فمه عن آخره ويهتف. صدره يعلو ويهبط، الدقات تحت ضلوعه تتصاعد، طبول تدق بالإيقاع ذاته. التلاميذ يهتفون في نفس واحد. يحملونه فوق الأعناق. الهتاف يدوي في أذنيه كهدير الشلالات، والهدير يذوب في صوت واحد كالصفارة: أنا الأكبر! أنا أنا أنا ...
توقف لحظة رافعا عينيه نحو النافذة. ضوء خافت كالذؤابة يهتز خلف الستارة الشفافة. خيالها يروح ويجيء من وراء الزجاج. نهداها كبيران كنهدي أمه تتدلى بينهما السلسلة، في نهايتها قرص يلمع.
يدفن رأسه في صدرها كأنما هو صدر أمه. يبتلع الدموع في جوفه. لم يعد يبكي منذ صفعه أبوه على وجهه. أتبكي كالنسوان يا ولد؟ يشد على أسنانه ويبتلع الألم. تراكمت الدموع تحت ضلوعه كالورم، وفي الليل تصحو أمه على أطراف أصابعها تغطيه، وفي الصباح يمط في وجهها شفتيه كما يفعل أبوه. يجلس في كرسيه ذي المسند العالي ويصيح: أأنا نا الأ الأكبر كبر كبر ...
يقف فوق الكرسي ويصبح أكبر من أمه. تضع بين أصابعه الريشة وتقول له ارسم الشجرة والعصافير. لم يكن يحب الرسم. يدوس بحذائه فوق أوراق الشجر. يضرب العصافير بالنبلة. يرشق الريشة في رأسه. يرتدي البدلة العسكرية ويلوح في وجه أمه بالسيف: فين إبليس؟
رنت كلمة «إبليس» في الجو كطلقة الرصاص. تردد صداها في المساحة السوداء حول السراي. هزت الأشجار رءوسها مع حركة الهواء. سرى الصوت بين الجدران المتآكلة، وعبر الممرات، تسلل إلى عنبر الرجال في الظلمة.
فتح إبليس عينيه وهو راقد فوق ظهره. رآه واقفا في فتحة الباب يرتدي جلباب أبيه الأبيض، وعمامة الشيخ مسعود ملفوفة حول رأسه، من فوقها الريشة كأنما هو العمدة. - قوم فز يا إبليس!
ينطق كلمة «فز» كما كان ينطقها أبوه. يشد على أسنانه وهو يدوس على الكسرة تحت الفاء.
Bilinmeyen sayfa