في الليل وهي راقدة دار في رأسها السؤال: الفرح ببرقية الملك أكبر من الحزن على موت جدها؟
قلبها ثقيل بالإثم. هي أيضا لم تحزن على جدها. غمرها الفرح حين انتهى اليوم ولم يعد. أصبحت تقضي الساعات في غرفة المكتب لا تخشى شيئا، وتنام الليل بلا أرق، إلا سؤال واحد كان يدور في رأسها: كيف يكون لجدها كتابان وربنا ليس عنده إلا كتاب واحد؟
في غرفة المكتب تدور عيناها فوق الأغلفة. تبحثان عن كتاب الله. كان أبوها يسميه المصحف. تمشي بيدها فوق جلده الناعم. له رائحة خاصة تملأ بها أنفها، تصورت أنها رائحة الله.
ارتبطت في ذهنها رائحة الله برائحة جدها، والكتب القديمة، وحروف المطبعة والرفوف الخشبية والكراسي الجلدية، والسجادة العجمية، تفوح منها رائحة التراب، والهواء الراكد في غرف المكاتب المغلقة.
فتحت عينيها نصف فتحة تختلس من وراء عقلها نظرة إلى العالم. السقف أجرب مشقق. الرئيسة واقفة داخل ثوبها الأبيض. رأسها ملفوف بطرحة رمادية، في يدها الإبرة.
شدت منها ذراعها بقوة: مش عاوزة حقن! - لازم تاخدي الحقنة! - أنا مش عيانة! - أنت عيانة. - عيانة بإيه؟ - مش ضروري تعرفي. - لازم أعرف!
تخبط بيدها فوق المنضدة الخشبية: لازم أعرف.
ترفس الهواء بذراعيها وساقيها: لازم أعرف! - مش ضروري تعرفي!
صوت الرئيسة فيه خشونة كصوت جدها الميت. لم تعد جدتها تخاف منه بعد أن مات. من تحت الوسادة تخرج الإنجيل وتقول إنه كتاب الله. ترسم فوق صدرها الصليب وتتمتم: أبانا الذي في الملكوت اغفر لنا خطايانا. أبوها كان من أقباط الصعيد. يملك عزبة كبيرة وعبيدا سودا، أراد جدها أن يرث العزبة فتزوجها على سنة الله ورسوله. طلب منها أن تسلم فأسلمت لترثه بعد أن يموت. سمعت أن له عزبة وسط الدلتا ولم تعرف أن الخديوي أخذها من أبيه على شكل قرض. كان الحاكم محل ثقة، ولا يمكن لأحد أن يطالبه بإيصال. إذا تسرب الشك إلى قلب أحد أصابه غضب الله قبل الخديوي. هكذا كانت تكتب جريدة الأهرام ومجلة أبو الهول. جدتها كانت تصدق ما يكتب في الصحف، ثم ماتت دون أن ترث أحدا. غضب عليها أبوها وحرمها من الأرض، هجرها زوجها في الفراش حين بلغت سن اليأس، وتزوج في الخفاء فتاة في الرابعة عشرة. - أبانا الذي في الملكوت اغفر لنا خطايانا. - يعني إيه سن اليأس يا نينة؟ - مش ضروري تعرفي يا بنت. - لازم أعرف يا نينة. - مش ضروري تعرفي! - لازم أعرف!
تضرب بقبضة يدها في الهواء. وجه جدتها يشبه وجه الرئيسة مليئا بالتجاعيد. بين شفتيها الرماديتين صفارة تنفخ فيها. خداها يمتلئان بالهواء كالبلونة. تضحك بصوت عال كما كانت تضحك في فناء المدرسة. تشد من فمها الصفارة وتجري تصفق بيديها مهللة ومن حولها تلميذات الفصل: هه هه هه هه!
Bilinmeyen sayfa