مئات من صحابه ثم تركه كاملا موفورا، وبهذا الأوز الذي تحدثني عنه ألف ليلة وليلة بأنه ينفد ليتجدد، ويفني ليبقى، ويموت ليحيا.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، ووزرائهم، وشيوخهم، ونوابهم، وقادة الرأي فيهم أن يؤمنوا مثلهم بهذه الآيات، وألا ييأسوا من روح الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، وقادة الرأي فيهم أن يعرضوا عن هذا الهزل إلى الجد، وعن الباطل إلى الحق، وأن يعلموا المصريين ما وجدوا إلى تعليمهم سبيلا في المدارس الواسعة، وفي المدارس الضيقة، وفي الهواء الطلق على الكراسي الوثيرة، وعلى الكراسي الخشنة، وعلى الحصر، وعلى الأرض العراء؛ لأنهم يرون الجهل حريقا يلتهم النفوس والقلوب، ويجب أن يطفأ مهما تكن الوسائل التي تتخذ لإطفائه.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، وقادة الرأي فيهم أن يقولوا للدولة: أنفقي، وأنفقي عن سعة، فإن لم تتح لك الميزانية ما تريدينه فافرضي الضرائب في غير تردد، وفي غير مهل، وعلمي حتى لا يبقى في مصر جاهل ولا غافل، ولا معرض للاستغلال مهما يكن المستغل، والاستذلال مهما يكن المستذل، والتسلط مهما يكن المتسلطون، وإنه لمن المؤلم المؤذي حقا أن يحتاج المصريون إلى أن يقولوا هذا للعلماء، والأدباء، وقادة الرأي.
وقد مرت على المصريين أيام كانوا يساقون إلى المدارس بقوة السلطان، ويدفعون إليها دفعا بالإكراه، ويفرون بأبنائهم من التعليم. فقد انعكست الآية، وتغيرت الأيام، وأصبح الجاهلون يطلبون العلم فيردهم عنه العلماء، فإذا ألحوا في ذلك سيقت إليهم أحاديث الأوز، وقصت عليهم قصص جحا، وعبثه في جمبولاد.
كلا أيها السادة، يجب أن يخلص العلماء للعلم، وأول مراتب الإخلاص له أن ينشروه بكل وسيلة، وأن يذيعوه من كل سبيل، وألا يكونوا كهذا البخيل الذي يقول فيه بشار:
وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود
قسوة
في مصر ظاهرة غريبة لست أدري أتوجد في غيرها من البلاد أم لا توجد؟ وأكبر الظن أنها ظاهرة طبيعية في البلاد التي لم يتم تطورها بعد، ولم تتحضر قلوب فريق من أبنائها تحضرا صحيحا، وإنما اتخذت من الحضارة غشاء رقيقا يخفي وراءه جاهلية جهلاء، وقسوة قاسية منكرة، وهذه الظاهرة هي قسوة الذين لهم باللين عهد حديث، وغلظة الذين أدركتهم النعمة بعد أن ذاقوا ألم الشقاء، وبلوا مرارة البؤس والحرمان.
Bilinmeyen sayfa