ولكني لم أكد أفرغ من إنشاد البيت الثالث حتى أحسست الرعدة تأخذني أخذا عنيفا كدت أهوى له إلى الأرض لولا أني تماسكت، ولولا أن ذراعا قوية عصمتني من السقوط. فقد سمعت صوتا غريبا نحيلا يأخذني من جميع أقطاري، وهو يقول لبيك لبيك هأنذا زهير بن نمير خليل شاعرك الأندلسي ابن شهيد في الزمان الأول، والدهر القديم. ولست أخفي عليك أني قد أنكرت من هذا الأمر مثل ما تنكر، ولم ترتسم على وجهي هذه الابتسامة الساخرة التي ترتسم على وجهك الآن، وإنما تقبض وجهي تقبضا شديدا، وجعل العرق البارد يبل جبهتي، وهم لساني أن يدور في فمي صائحا مستغيثا، ولكني أسمع الصوت النحيل يسعى إلي، وكلما دنا مني زال عنه نحوله، وجعل يمتلئ شيئا فشيئا، وجرت فيه نغمات عذبة، وهو يقول: لا بأس عليك لا ترع، واتل معي قول الله عز وجل:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، فقد تلا هذه الآية من قبلك جماعة من أمثالك العرب حين روعوا بمثل ما تروع به الآن من لقاء أصدقائهم من الجن.
وقد سمعني أتلو هذه الآية الكريمة مع صاحبي، ثم رأيتني أثوب إلى نفسي أو رأيت نفسي تثوب إلي، وإذا قلبي آمن كله، وإذا أنا هادئ هدوءا لا أكاد أعرفه من نفسي حين يفاجئها ما لا تنتظر، وإذا أنا أسعى مع صاحبي كما تعودت أن أسعى معك في غير وحشة ولا تكلف، كأنما كان بيني وبينه ود قديم قد بعد به العهد، وطال عليه الزمان، ويجب أن أعترف لك بأني أحسست في ذلك الوقت أن لي شخصين مختلفين؛ أحدهما: يساير صاحبي فيسمع منه، ويتحدث إليه، والآخر: عاكف على نفسه في ناحية من نواحي الضمير يرقب ويسمع ويرى، ويحاول التحليل والتعليل، ويزعم لي أن ما أنا فيه إنما هو لون من ألوان الحلم لا عرض من أعراض اليقظة، ولكني شغلت عن هذا الشخص الذي انتبذ ناحية من نواحي الضمير بهذا الرفيق الذي جعل يتحدث إلي بالأعاجيب.
فقد كان يقول لي: صدقني إن هذا العلم الذي أخذه قدماؤكم عن اليونان، وأخذه محدثوكم عن الأوروبيين قد أفسد عليكم شيئا كثيرا، وأشاع في نفوسكم فنا من الكبرياء والغرور حرمكم متاعا لا حد له. فأنتم تنكرون ما كان يعرفه قدماؤكم من معاشرة الجن، ومخالفة شياطين الفن، فإذا تحدث إليكم أبو العلاء بشيء من ذلك في رسالة الغفران، أو إذا تحدث إليكم ابن شهيد بشيء من ذلك في رسالة التوابع والزوابع لم تصدقوه، ولم تطمئنوا إليه، وإنما استمتعتم به في شيء من السخرية والتكذيب على أنه من آثار الخيال، وفن من فنون الصنعة، وما أبعد الفرق بين من يستمتع بالخيال المخترع، ومن يستمتع بالحق الواقع الذي لا شك فيه، وإنكم تنكرون المصادفة، وتردون كل شيء إلى ما تسمونه الأصول والقوانين، فردوا الأشياء إلى ما تريدون، ولكن اعترف بأن المصادفة وحدها هي التي أنطقتك بهذه الأبيات، فإذا أنا أستجيب لك مسرعا لأجدد معك ذلك العهد القديم الذي كان بيني وبين ابن شهيد شاعر الأندلس وخطيبها وكاتبها، وأنت من غير شك حريص كما حرص ابن شهيد على أن تفر من حياة الناس لحظات طوالا أو قصارا دون أن تقطع الصلة بينك وبينهم، وإنما تراهم في شياطينهم، أو ترى شياطينهم وهم يزينون ما سيملئون به قلوبهم، ويحركون به ألسنتهم، ويجرون به أقلامهم من ألوان القول.
وقد زرت ابن شهيد على ظهر جواد أصيل، أما أنت فقد ظهرت لك فجأة لم تدر أنجمت لك من الأرض أم هبطت عليك من السماء، وما أظنك تنكر من ذلك شيئا، فأنتم لا تتخذون الخيل الآن أداة للانتقال، وإنما تنتقلون في سياراتكم وطياراتكم وقطاراتكم هذه التي تخيلون إلى أنفسكم أنكم قد أحدثتم بها المعجزات، وابتكرتم بها الأعاجيب، وأظنك توافقني على أننا معشر الجن أقدر منكم على اختراع الطرائف، وابتكار الأعاجيب، وأين تقع طرائفكم وأعاجيبكم مما كنا نأتي به من الطرائف والأعاجيب في عهد سليمان عليه السلام، وإذا كنتم قد بلغتم ما بلغتم من المهارة والبراعة في عشرين قرنا فأحرى أن نبلغ نحن من المهارة والبراعة في هذا الأمد الطويل بالقياس إليكم، القصير بالقياس إلينا ما لا يخطر لكم على بال.
وما أريد أن أشق عليك، ولا أن أكلفك من الأمر ما لا تحب، وإنما أريد أن أزور معك ناديا من أنديتنا هذه التي يجتمع فيها شياطين البيان، وأن أظهرك عليهم حين يخلو بعضهم إلى بعض، وقد فارقوا قرناءهم من كتاب الإنس حين تقدم الليل، وآوى كتاب الإنس إلى مضاجعهم، وأقبل شياطينهم إلى ناديهم يجدون حينا، ويعبثون في أكثر الأحيان. وهممت أن أرد على صاحبي رجع حديثه، ولكني أراني في قصر فخم لا أدري أنقلت أنا إليه أم نقل هو إلي، ولكني أجد نفسي فيه دون أن أتكلف لذلك سعيا أو حركة، وأسمع صاحبي زهيرا يقول متضاحكا: قد يخيل إليك أن هذا النادي في ضاحية من ضواحي القاهرة كهذه الأندية التي تنبث حول مدينتكم هذه الصغيرة، ولكن لا تجزع نفسك فإن بينك وبين القاهرة آمادا لا تقطعها السيارات ولا الطيارات ولا القطارات، ولولا أني رفيق بك وفي لك لأظهرتك على بعض ما بينك وبين القاهرة من أمد، ولكن أخشى أن أروعك فأعد معي تلاوة الآية الكريمة:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب . وأنا أتلو معه الآية الكريمة، وأجد الطمأنينة والأمن، وأهم أن أتحدث إلى صاحبي، ولكنه يبتدرني بالحديث فيقول: تعلم أن هذا النادي الذي أنت فيه مقصور على شياطين البيان الذين يلوذون بأدبائكم أنتم المصريين دون غيرهم من الأدباء. فلن ترى في هذا القصر إلا قرينا لكاتب أو شاعر أو خطيب من هؤلاء الذين يملئون الجو في بلدكم فصاحة، وبلاغة، وبيانا.
فأي شيطان من هؤلاء الشياطين تحب أن ترى؟ ولأيهم تحب أن تسمع؟ ومع أيهم تحب أن تأخذ في الحديث؟ قلت: لا أدري فإني أعرف كتابنا وشعراءنا وخطباءنا؛ لكثرة ما أقرأ وأسمع من آثارهم، ولو خيرتني لاقترحت عليك أن تزور معي ناديا من أندية الشياطين الذين يوحون إلى جيل آخر من أجيال الأدباء، قال زهير: سبحان الله ما زلت بعد غارقا فيما يغرق أمثالك فيه من الوهم. إنك لا تعرف كاتبا، ولا شاعرا، ولا خطيبا حق المعرفة حتى ترى شيطانه، وتسمع منه؛ لأن ما يلقى إليكم من آثار الأدباء ليس إلا صدى ضئيلا لهذا الصوت الخصب الذي ينفث في القلوب، ويطلق الألسنة، ويجري الأقلام، وسترى بعد لحظات أنك لا تعرف من أمر أدبائكم إلا أيسره وأهونه شأنا فامض معي.
ولم نكد نخطو خطوات حتى دفعنا إلى بهو رحب بعيد الأرجاء تضطرب فيه ظلال غريبة ضئيلة، وهي تتصايح وتتصاخب، ويكاد بعضها يمزق بعضا لو أن الظلال يمكن أن تتمزق أو يدركها البلى.
وقد انفرد من بين هذه الظلال شخص غريب مرتفع في السماء ممتد في الفضاء كثير حركات الوجه كثير اضطراب الأعضاء لا يستقر في مكان، ولا يستقر لسانه في فمه، ولا تكاد أعضاؤه تستقر في مواضعها من جسمه، وإنما هو حركة متصلة، وصياح لا ينقطع، وقد حرص على ألا يدنو من الظلال الأخرى التي تضطرب في البهو فتملؤه دويا كدوي النحل، وإنما هو ممتاز منها دائما لا تكاد تدنو منه إلا نأى عنها، ولا تكاد تسعى إليه إلا ارتد في أنفة وكبرياء، وتجافى في غلظة منكرة.
Bilinmeyen sayfa