ومن شأن هذه الأيام أن تكون أيام اكتئاب هادئ لا مرارة فيه؛ لأن الأطفال، والصبية ، والفتيان سيفارقون الأسر إلى حيث معاهدهم العلمية، فتحزن الأسر شيئا، ولكنه حزن باسم إن صح أن يبتسم الحزن، ويحزن التلاميذ والطلاب شيئا، ولكنه حزن قصير رقيق لا يلبث أن تمحوه حياة الدرس، ولكن هذه الأيام عندنا ليست أيام ابتهاج باسم، واكتئاب هادئ، وإنما هي أيام الحزن الممض والشقاء الملح، والعذاب الأليم، والصراع بين القدرة والعجز وبين الأمل واليأس وبين القوة والضعف، وهي الأيام التي يجب أن يشقى فيها الآباء والأمهات ليجدوا لأبنائهم ما ينفقون، وليؤدوا عنهم أجور التعليم، وأجور التعليم في مصر ليست سهلة ولا يسيرة، وإنما هي أجور ثقيلة عسيرة قد فرضت على أساس أن الأمة غنية أو أن التعليم حق للأغنياء دون غيرهم من الناس، وأين يجد الآباء ما يحتاج إليه أبناؤهم من نفقة يعيشون بها في عاصمة الدولة أو في عواصم الأقاليم، وأين يجد الآباء ما يؤدون إلى وزارة المعارف أو إلى الجامعة ليتعلم أبناؤهم. يجب إذن أن تنزل الأمهات عما بقي لهن من حلي، وعن بعض ما في بيوتهن من متاع، ويجب أن يريق الآباء بعض ما في وجوههم من ماء؛ ليقترضوا من هنا وهناك ما يعينهم على تعليم أبنائهم.
ما أروع نظامنا الاجتماعي في تكدير الحياة، ومن حقها أن تصفو، وفي تنغيص العيش، ومن حقه أن يكون حلوا رقيقا.
إن الطالب الأوروبي ينفق أكثر أيام الطلب لا يكلف أهله شيئا من نفقات التعليم؛ لأن الدولة تعلمه بلا أجر، فإذا أتم تعليمه الثانوي، وأراد الاتصال بالجامعة فهو في بعض البلاد لا يكلف أهله شيئا؛ لأن الدولة تعلمه في الجامعة بغير أجر، وهو في بعض البلاد الأخرى لا يكلف أهله شيئا يذكر؛ لأن الجامعة تأخذ منه أجرا صوريا. فليعلم المصريون أن مصروفات التعليم في كليات الآداب والعلوم في فرنسا مثلا لا تزيد على سبعين قرشا مصريا في العام، أي أنها لا تبلغ ما يدفعه الطلاب عندنا رسما للمكتبة والاتحاد، فأما مصروفات التعليم عندنا فيعرفها الآباء الذين يسعون، ويعرفها الأمهات اللائي ينزلن عما لهن من حلي أو عن بعض ما في بيوتهن من متاع، ويعرفها رجال وزارة المعارف ورجال الجامعتين الذين تعلمت كثرتهم الكثيرة على حساب الدولة بالمجانية في مصر وفي أوروبا؛ لأن الدولة كانت محتاجة إلى المتعلمين ثم هم الآن يقاومون المجانية ما وجدوا إلى مقاومتها سبيلا، ويحتالون في التخلص منها، يسلكون إلى ذلك الطرق الملتوية إذا لم يستطيعوا أن يسلكوا إليها الطرق المستقيمة. يرفعون نفقات الطعام والكتاب، ويحسبون أنهم يحتفظون بالمجانية.
ويحكم أيها الناس، ومن أين لغير الأغنياء بأثمان الطعام والكتاب التي تطلبونها، لا تنظروا إلى أنفسكم الآن، ولكن انظروا إلى أنفسكم حين كنتم صبية وأطفالا وفتيانا، واذكروا كيف كانت أسركم تشقى بدفع المصروفات، وكيف كانت أسركم تسعد أن أتيحت لكم المجانية، واجتهدوا في أن تجنبوا أسر هذا الجيل ما احتملت أسركم من شقاء، واجتهدوا في أن تتيحوا لأسر هذا الجيل ما أتيح لأسركم من السعادة حين ظفرتم بالمجانية، واحذروا أن تكونوا من الذين قال الله فيهم:
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون .
اللهم اشهد أني ما ذهبت قط إلى الجامعة أو إلى وزارة المعارف إلا كانت هذه القصة ملء قلبي، وإلا ذكرت أني كنت سعيدا حين تعلمت على حساب الدولة، فمن الحق علي أن أتيح بعض هذه السعادة لأكبر عدد ممكن من شباب مصر، ولو استطعت لأتحتها لهم جميعا.
ومن يدري فما لم نستطعه أمس قد نستطيعه غدا، ولا بد من أن يبلغ الكتاب أجله، ولا بد لمصر من أن تظفر بحقها من العدل في يوم من الأيام.
ثعلب
لو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب، حين رأيته يقبل متدحرجا كأنه البرمة الهائلة، لم ترتفع في الجو كثيرا، ولكنها اتسعت عن يمين وشمال، وامتدت من خلف وأمام، وهي تسعى مع ذلك خفيفة لا تكاد الأرض تحس لها ثقلا؛ لأنها اتخذت من لحم وعظم، ولم تتخذ من حجر وصخر.
لو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين أقبل فحيا ، ثم تقدم يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس، وكأنه الكثيب المنهال، فكان الناظر إليه يسأل نفسه لأول وهلة أيرى إنسانا جالسا أم يرى كومة من الرمل، قد استخفى فيها شخص ضئيل لا يكاد يظهر منه إلا تقاطيع وجهه ضئيلة غائرة خليقة ألا ترى. لولا هذا الصوت الذي يخرج منها ضئيلا نحيلا، ولولا هذا الشرر الذي يتطاير من عينين صغيرتين لا تفتح عنهما الجفون إلا في بطء بطئ وثقل ثقيل كأنما تشد بخيط قد ركب في قفاه، وقام شخص من ورائه يجذبه متكلفا بين حين وحين.
Bilinmeyen sayfa