النمر! النمر! النمر!
هذا النمر الرابض في جلودنا هو بيت الداء وأس البلاء؛ لو بعون الله أخرجناه، ومن جذوره اقتلعناه، صلح من أمرنا ما فسد واستقام من حياتنا ما اعوج؛ لو أخرجنا من أجوافنا هذا النمر الضاري ما وجد الكلب منا داعيا أن يذل، ولا الفأر مبررا أن يجبن؛ لكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه الأمنية ودونها - فيما يبدو - خرط القتاد؟
لكن مهلا، فأصعب المسائل قد يزول بأسهل الحلول.
فقد ذكرت الآن شكسبير - لك الله يا شيخ شعراء العالمين! - وذكرت روايته «ترويض النمرة»: رجل عريض الثراء له ابنتان، كبراهما نمرة شموس جموح، وصغراهما وديعة رقيقة، والخاطبون للصغرى كثيرون، لكن الوالد أبى أن يأذن بزواج الصغرى قبل أختها الكبرى، فمن لهذه الكبرى بالخاطب وهي النمرة الضارية؟ وسمع رجل بقصة الغني وابنتيه وعرض على الغني الزواج من كبرى ابنتيه إذا هو أعطاه مقدارا معينا من المال، وتمت الصفقة وأخذ العريس عروسه إلى بلده، فكان كأنما وضع مع الوحش المفترس في قفص واحد؛ لكن صاحبنا استسهل الصعب وابتسم استخفافا بما استثقله سواه من الرجال، وكان علاج المشكلة عنده هينا يسيرا، وهو تجويع هذه النمرة، فيأتي وقت الغداء فلا طعام، ويأتي وقت العشاء ولا طعام؛ وتم ذلك في لباقة كادت تقنع النمرة البشرية أن الرجل إنما صدر في كل ذلك عن حب أصيل، لكنها ككل الناس تريد الطعام لتعيش؛ وما زال الرجل بها تجويعا حتى صارت في قبضة يده، يشير لها إلى الشمس قائلا هذا هو القمر. فتقول: نعم إنه القمر يا مولاي. ويشير لها إلى الرجل الشيخ تغضن وجهه وابيضت لحيته قائلا وهذه فتاة حسناء. فتقول: نعم يا مولاي ما أروعها من فتاة حسناء!
وشبيه جدا بهذا منهج جماعة اشتراكية في إنجلترا نشأت في أواخر القرن الماضي، وكان لها كل الفضل في قلب الحياة الإنجليزية بحيث آل الحكم كما نرى إلى أيد اشتراكية خالصة؛ هذه الجماعة تسمي نفسها «الجمعية الفابية» نسبة إلى قائد روماني كان يدعى «فابيوس» وكانت خطته في الحرب مراوغة العدو حتى يرهقه دون أن يهجم عليه هجمة واحدة؛ وكذلك أرادت هذه الجماعة أن تحارب أعداءها، لا بالثورة عليهم، بل بإرهاقهم، بحيث يتلفتون فلا يجدون في الميدان مادة تمكنهم من الصولان والجولان.
والآن إليك أيها القارئ أسوق الحديث، فليس من شك في أن عليك نمرا يتربص بك الدوائر - وأنت سعيد إذا كان لك نمر واحد - ثم ليس من شك في أنك تريد القضاء على هذا النمر لينزاح عن صدرك كابوس يقض لك في الليل مضجعك؛ فها أنا ذا أصف لك خطة القتال، لا أريد منك جزاء، وإن كنت أريد الشكور؛ التجويع هو وسيلة القضاء على النمر، إن النمر يتغذى وينمو ويترعرع كلما أفسحت له أنت من مجال «التنمر»، وأنا لا أشير عليك بأن تطلق عليه نمرك لتجازيه تنمرا بتنمر؛ إنك تخلص لنفسك ولوطنك لو جوعت هذا النمر أينما وجدته، فكلما بدت على المتسلط عليك أعراض «التنمر» انسحب من غرفته واتركه وحيدا بغير غذاء، عندئذ يأكل النمر بعضه، ويقضي على نفسه القضاء الأخير، فيريح ويستريح.
الكبش الجريح
وثب الذئب على الكبش فمزق منه وانتهش؛ وفرح الذئب لأن في طبيعته أن ينهش ويمزق؛ كذلك فرح الكبش، ولم أكن أعلم أن في طبيعته ما يستطيب النهش والتمزيق.
فرح الذئب حين مزق وانتهش؛ لأن له في ذلك طعاما وشرابا فغذاء ونماء. إن من يلوم الذئب لافتراسه الكبش كان كمن يلوم النار لأنها تلتهم الهشيم، والسيل لأنه يندفق هدارا من قمة الجبل.
لقد قيل إن الدليل على وجود الله أقوى الدليل هو ما تراه في الكون من تنسيق جميل. قلت: وهذا التنسيق ما معناه؟ قيل: معناه الذي ليس له معنى سواه هو ما بين الأشياء من توافق كأنها فيه على اتفاق؛ فضوء الشمس له طبيعة خاصة، وشبكية العين لها طبيعة خاصة، أعدت بحيث تتلقى ذلك الضوء؛ ولو تغير ضوء الشمس قيد أنملة أو تغيرت شبكية العين قيد شعرة، لكان ضوء الشمس لنا عبثا في عبث، ولكانت أعين الإنسان والحيوان ضربا من الإسراف والتبذير؛ وكذلك قل في الذئب والكبش، فلولا طراوة الكبش لكانت أنياب الذئب ومخالبه زوائد لا تقتضيها الحكمة ولا يرتضيها حسن التدبير، فمن كمال الله وجلاله أن للذئب أنيابا تنهش الكبش ومخالب تمزقه وتفريه.
Bilinmeyen sayfa