وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة بأن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض، ولذلك فبيضة الفيل لا بد أن تكون بيضاء اطرادا مع القاعدة: إنه دليل لا يقوم على سند من الواقع، فليس صحيحا أن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرة خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق. وأما دليل اللغة الذي ينبني على أن البيضة مشتقة من البياض ولذلك وجب أن تكون بيضاء، فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آن معا؛ معكوس لأننا حتى لو فرضنا أن البيضة مشتقة من البياض، فليس هذا دليلا على أن البيضة بيضاء لأنها بيضة، بل هو دليل على أنها بيضة لأنها بيضاء. ولتوضيح المعنى المراد ضرب معسرة مثال الدقيق والخبز؛ فالدقيق أصل والخبز فرع، فإن جاز لنا أن نقول إنه خبز لأنه من دقيق، فلا يجوز أن نقول إنه من دقيق لأنه خبز. والدليل مغلوط؛ لأننا حتى إن رتبنا مراحل الاستنتاج ترتيبا صحيحا، وقلنا إن البيضة بيضة لأنها بيضاء كانت النتيجة خطأ، لأنه لا يكفي أن يكون الشيء أبيض لنحكم عليه بأنه بيضة، وإلا لجاز لنا أن نقول إن هذا الجدار بيضة لأنه أبيض، وهذا الدقيق بيضة لأنه أبيض، وهلم جرا.
وبعد أن فند معسرة أقوال عمارة، بسط رأيه في لون بيضة الفيل، فقال: إن الفيل حيوان فيه شذوذ عن مستوى الحيوان، والشذوذ لا بد أن ينتج شذوذا، وإلا لما تكافأت المقدمات والنتائج؛ والشذوذ في البيض أن يكون أسود، ولذلك فإن كان الفيل ليبيض وجب أن تكون بيضته سوداء، إذ لو باض بيضة بيضاء، كنا بمثابة من يقول إن الحيوان الشاذ تتفرع عنه نتيجة لا شذوذ فيها، وهو قول فيه تناقض بين الصدر والعجز.
وكان بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب، فتصدى للرد على نقد معسرة، فقال: إن معسرة وهو شيخ المناطقة في زمانه، قد زل زلة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله؛ فبينا هو ينكر أن يكون للبيض لون خاص، ويزعم أن من البيض ما هو أزرق أو أرقط، تراه في الوقت نفسه يقول: إنه ما دام الفيل حيوانا شاذا وجب أن يكون بيضه شاذا في لونه كذلك، والشذوذ في البيض أن يكون أسود؛ فكيف يكون الشذوذ سوادا إذا لم تكن القاعدة بياضا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن نسائل هذا العالم المنطقي: أصحيح أن الشاذ لا ينتج إلا شاذا؟ أيظن معسرة أنه ما دامت الحية لا تلد إلا حية، فالأعرج لا يلد إلا الأعرج، والأعمى لا يلد إلا الأعمى؟ فإن كان الأعرج ينسل من يمشي على قدميه، كما ينسل الأعمى من يبصر بعينيه؛ فلماذا لا يبيض الحيوان الشاذ بيضة تجري مع الإلف والعادة؟
قال الشيخ: هكذا جرى النقاش بين العلماء. •••
وزلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية.
قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.
قصاصات الزجاج
بإحدى الكنائس في إنجلترا نافذة أبدعتها يد صناع، فجاءت آية من آيات الفن الروائع تحفة للزائرين؛ اتسقت ألوانها، وأتقنت تصاويرها، وبلغت في كل شيء حد الكمال؛ ويقص عليك الدليل أنه لما بنيت الكنيسة جيء لزخرفتها بفنان طبقت شهرته الخافقين في الفن الجميل، واستصحب الأستاذ صبيا كان يلازمه ليتلقى عنه أصول الفن، وأخذ الأستاذ الفنان في زخرفة النوافذ، ورصت أمامه ألواح الزجاج ألوانها شتى، يجذ من هذا مرة ومن ذلك مرة، ويرشد الغلام إلى قواعد الفن في صناعته كلما وضع في النافذة قطعة من زجاج؛ فهنا مربع أزرق وإلى جانبه حلقة حمراء، وصورة القديس هنا، وهنا صورة العذراء. وكان الأستاذ خلال ذلك يقذف بقصاصات الزجاج غير مبال بها، فينثرها يمينا ويسارا، والغلام من ورائه يجمع هذه القصاصات ليلقي بها حيث تؤتمن العواقب.
لكن الغلام فنان موهوب، فلم يلق بقصاصات الزجاج حيث تلقى سائر الفضلات؛ بل أخذ يلهو بها في سويعات فراغه حتى كانت له في النهاية نافذة رائعة بارعة هي التي يقف عندها الزائرون اليوم ليقص عليهم الدليل قصتها، ويحكي أنه لما فرغ الصبي من نافذته أطلع عليها أستاذه: ما هذا الذي أرى؟ - نافذة صنعتها. - وأنى لك الزجاج؟ - قصاصات جمعتها.
ورأى الأستاذ في نافذة الغلام فنا لا يقاس إليه فنه، وكبر عليه الأمر فانتحر.
Bilinmeyen sayfa