محمد الغزالى
Sayfa 11
الإسلام والإيمان والإحسان
حديث جامع : من حديث لعمر رضى الله عنه قال: بينما نحن جلوس
Sayfa 12
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرنى عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرنى عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. قال: فأخبرنى عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ...". الإسلام، الإيمان، الإحسان، كلمات ثلاث وردت فى الحديث معرفة بما يشرح دلالتها، وهى فى نظرنا لتعد عناوين شتى لحقيقة واحدة. والحقيقة الواحدة قد تنظر إليها من عدة جهات فيعنيك من كل جهة وصف خاص بارز، مع أن هذه الأوصاف كلها متضافرة فى تحديد الحقيقة وتوضيح معالمها. ولذلك ختم الحديث بتلك العبارة: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ". والدين الذى نزل أمين الوحى لتوضيحه هو الإسلام إن نظرنا إلى السلوك الظاهر، والعمل البين. وهو الإيمان إن نظرنا إلى اليقين الباعث والعقيدة الدافعة. وهو الإحسان إن نظرنا إلى كمال الأداء والوفاء على الغاية عند اقتران الإيمان الواضح بالعمل الصالح... بل هو جملة هذه المعانى، لا ينفصل أحدها عن الآخر عند التصور الكامل، 022 كالشجرة الحية. قد تنظر إلى جذعها الذى يحمل الغذاء للغصون الدانية والذوائب العالية. وقد تنظر إلى الأثمار المطعومة والأوراق المظللة. وقد تنظر إلى ينع الشجرة وحفولها وازدهارها. بيد أن هذه الأنظار المختلفة لا تغير من وحدة الشجرة، واكتمال صورتها فى الذهن وفى الخارج. من الجذع القائم، والأغصان الممتدة، والرواء الشائع فى الأزهار والجنى... وربما انكمشت العناصر التى تتكون منها حقيقة الدين، ووهت الروابط التى تشد بعضها إلى البعض الآخر، فيكون الإسلام عملا خافتا لا تلمح وراءه قوة الإيمان، أو يكون الإيمان باعثا مريضا لا يدفع الأهواء ولا يوقظ الضمائر، أو يكون الإحسان زعما لا يبصر الحق ولا يحس هيمنته. نعم، قد يقع هذا فى حياة الناس كما ترى أحيانا شجرة معطوبة الثمر، ذابلة الورق، لا جذعها يحمل الخصب والثمار، ولا أفنانها تحمل القطوف والخير ولا منظرها يوحى بالبهجة والرضا. ولكن هذه الأحوال المعتلة ليست الفطرة العامة والطبيعة السائدة. والحديث الذى بين أيدينا يشرح الحقيقة الصحيحة للدين. والإيمان إذا صح لابد أن ينتج العمل. والعمل إذا صح لابد أن يرتكز على الإيمان. والإحسان إذا صح لا ينشأ إلا من إيمان راسخ وعمل كامل. ويمكنك أن تقول: إن الدين الذى جاء جبريل يعلمه هو الإسلام. والإسلام لا يصح إلا بالروح الكامنة فيه، والوقود المحرك له أى الإيمان الحق. فإذا استبطن هذا اليقين الدافع فأمامه مثله الأعلى فى إحكام الصلة بالله، والشعور برقابته الدائمة وشهوده الجليل، وهو مقام الإحسان. وقد شرحنا الحديث بهذا الأسلوب لأن بعض الناس وهم أن كلمات الإسلام والإيمان والإحسان مراتب يسلم بعضها إلى البعض الآخر، وأن بينها فواصل وفجوات، أى أن الإسلام قد ينفك عن الإيمان، وأن الإيمان قد ينفك عن الإسلام 023 ثم جاء فى هذا العصر الهازل من ظن الإحسان منزلة يتوصل إليها بغير الفروض المشروعة والعقائد المقررة. وبذلك أصبحت الكلمات الثلاث ترمز إلى حقائق شتى لا إلى دين الله الواحد، وهذا شرود بعيد. والقرآن الكريم يهدى إلى تلازم هذه المعانى وتساوقها فى بيان حقيقة الدين من ألفه إلى يائه، وإلى أن تلون العبارات إنما يشير إلى الوجوه الوضاءة لهذه الحقيقة الواحدة. وإنك لترى هذا فى عشرات الآيات التى تصف هذا الدين، وتشرح تعاليمه، ذاكرة فى تضاعيف هذا الوصف كلمات الإسلام والإيمان والإحسان، لتكون هذه الكلمات منارا يضىء الطريق، وحاديا يسوق إلى الغاية. قال عز وجل يصف المؤمنين فى صدر سورة النمل: (هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) . وقال يصف المحسنين صدر سورة لقمان: (تلك آيات الكتاب الحكيم* هدى ورحمة للمحسنين) فاتحدت الصفات للنوعين معا. وأنت خبير بأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة أهم عناصر الإسلام التى ذكرت فى الحديث. وقال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين) (... وأمرت أن أكون من المؤمنين * وأن أقم وجهك للدين حنيفا). (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) . (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) . (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) 024 والآيات السابقة كلها ترادفت فيها عبارات الإسلام والإحسان على أساس أن الإيمان المستكن فى الأفئدة شىء مقطوع بوجوده ووفرته، وإلا فلا يتصور هنالك إسلام ولا إحسان. واذا كانت هذه الآيات قد تناولت الجانب الظاهر من جوهر الدين فإن الآيات الأخرى تناولت الحقيقة تناولا يصف جذرها الأصيل: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا) (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) . (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا) . والمتأمل فى هذه الآيات يرى أن متعلقات الإيمان كثيرة لا يجوز بتة أن ينفك أحدها عن الآخر، كما يرى أن آثار الإيمان العملية- وهى لباب الإسلام لا يمكن أن تنفصل هى الأخرى عن طبيعة اليقين الموحى بها. بل يرى أن الإيمان بالبعض والكفر بالبعض كفر كامل: وأن الإيمان المقرون بنية التمرد، ورفض الخضوع لله كفر كامل: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) . 025 ومن ثم يتضح أن حقيقة الدين واحدة، وأن أوصاف الإسلام والإيمان والإحسان التى تعرض له هى شروح لوجوه شتى منه، وليست مراحل مغايرة له أو بعيدة عنه، وإن كان العنوان الذى شاع علما على هذا الدين، بل صفة للأديان كلها، وسمة للفطرة الإنسانية السليمة، هو الإسلام...
ما هو الإيمان؟:
Sayfa 16
الإيمان معرفة بلغت حد اليقين، أو هو علم يصحبه الجزم والقطع. فإذا قلت: أنا أؤمن بوجود القاهرة فمعنى ذلك أمران: أحدهما عقلى، هو أنك تعرف وجود هذا البلد، والآخر قلبى، وهو أن علمك لا ريبة فيه ولا تردد، بل مقرون بالتصديق التام. والإيمان بالله جل شأنه ينطوى على الأمرين جميعا، النظرى والنفسى. فإذا قلت: أنا أؤمن بالله فمعنى ذلك أنك تعرفه، وأن معرفتك له لا تلتبس بشك أو تردد. بل. إن فؤادك ملئ بالتصديق لقضية هذا الوجود الأعلى. وبديهى أن تتفاوت حقائق الإيمان فى النفوس بتفاوت المعرفة ضيقا وسعة، وتفاوت التصديق عمقا وقربا. فهناك عارفون بالله معرفة صافية الرونق، مجلوة الأفق، شديدة التألق كأنها معرفة دراسة وخبرة. (الرحمن فاسأل به خبيرا) . وهناك معرفة دون ذلك. وهناك أصحاب قلوب مفعمة باليقين، راسخة الثقة، تمر بها العواصف كما تمر الرياح بشماريخ الذرى لا تزحزها عن الحق قيد أنملة. وهناك يقين دون ذلك. على أن الإيمان إذا كان معرفة وتصديقا. فإن هذه المعرفة يجب أولا أن تتسم بالصحة، وإلا فلا قيمة لتصديق لبابه الخطأ. إن من البشر أجيالا لا تعرف الله، ومنهم من يعرفه على وجه حافل بالأغلاط 026 والترهات. والفريق الأول: ينكر أصل الألوهية كالشيوعيين والوجوديين وأضرابهم من الملحدين. والفريق الثانى: يعترف بالألوهية ولكنه يتصورها تصورا مخالفا للواقع، وينسب إليها ما لا يليق بها، كجماهير المشركين على اختلاف مللهم، سواء فيهم عبدة الأصنام؟ أو الزائغون عن الحق من أهل الكتب الأولى. والإيمان عندنا يجعل العلم الصحيح بالله روح التصديق المقبول. وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التى تعرف الله لعباده تعريفا ينفى عن أذهانهم صور الضلال والانحراف، ويقر الحق فى نصابه. خذ هذه الآية: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم) . هذه الآية تعرف بين المسلمين بآية الكرسى، وقد نوهت السنة النبوية بفضلها ومكانتها، وتتكون من عشر جمل متصلة المعنى فى الحديث عن ذات الله وصفاته: (الله لا إله إلا هو... ) ليس فى الوجود أحد يتجاوز مرتبة العبودية، فكل ما عدا الله عبد له، وهو وحده المتفرد بالألوهية فى السموات والأرض... من قال عن نفسه إنه إله فهو كاذب، ومن قال عنه الناس ذلك فهم عليه كذبة، وقد تمر بالناس أعصار يتخذون فيها بعض الجمادات والدواب آلهة، وهذه أعصار الانحطاط الذهنى والنفسى التى نرجو أن يتم خلاص البشر جميعا منها. ولكن الضلال الشائع إلى اليوم اتخاذ بعض البشر الطيبين آلهة مع الله بحجة أنهم انبثقوا منه أو أنه حال فيهم. وقد حارب الإسلام هذه الضلة حربا شديدة، وأكد أن البشر مستحيل أن يرتفعوا إلى مصاف الآلهة، وأن الله العلى الكبير لا يمكن أن يهبط إلى منازل البشر. إنه الإله الذى خلق غيره، ومنحه الحياة، وقام على أمره من المهد إلى اللحد 02 ص (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا). ورسول الإسلام وهو قمة البشرية عندما يدعو الله يؤكد هذه الحقيقة " اللهم أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك وفى قبضتك. ناصيتى بيدك ماض فى حكمك، عدل فى قضاؤك... ". 2- (الحى القيوم . . .) والأحياء من الخلق ليس لهم من أنفسهم ما يوجب الحياة ، إن الحياة عرض مفاض عليهم من خارج أنفسهم. وهو عرض يفارقهم يوما ولا يعود إليهم إلا وفق مشيئة مفيضه جل شأنه، الحى الذى لا بداية لحياته ولا نهاية، فحياته وصف ملازم له أزلا وأبدا، وذلكم الفارق بين حياة الخالق والمخلوق. ومن ثم يقول الله لنبيه: (إنك ميت وإنهم ميتون) أما المتفرد بالحياة العظمى فهو الله. ولما كانت هذه الحياة وضاحة نفاحة ناسب أن يجىء عقبها وصف القيوم أى الذى يمد الأكوان والخلائق كافة بحركاتها وسكناتها، ويشرف إشراف إحاطة وهيمنة على شئونها وأحوالها فهى أحوج ما تكون إليه وهو أغنى ما يكون عنها. وقد ورد فى الآيات والآثار أن الله قائم على كل نفس بما كسبت، وأنه القيم على السموات والأرض ومن فيهن. والقائم على الشىء، والقيم عليه أو القوام عليه، ألفاظ تتفاوت فى الكشف عن هذه الإحاطة الشاملة لفنون التصريف وألوان السيطرة على العالم. ولكن لفظ القيوم جاء على هذه الصيغة فى المبالغة، إشارة إلى أنه من المستحيل أن يفلت زمام الأمور من الخالق، أو أن تسير فى وجهة غير ما قضى، إذ كل شىء يستند فى وجوده وبقائه وتقلبه إلى هذا الوجود الأعلى (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) . وهذه الجملة الحى القيوم أولى الجمل التسع التى ترادفت أشبه بالاستدلال 028 على الوحدانية المتقررة فى الجملة الأولى من آية الكرسى. إذ هذه الأوصاف تنفى الشركة نفيا حاسما، وتشهد للبارئ الفرد أنه لا إله غيره. 3- ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) السنة ما يخالط الأجفان من أوائل النعاس، والنوم هو الاستغراق التام. والمراد أننا نحن البشر تدركنا ساعات غفلة نفقد فيها الشعور بأنفسنا وما حولنا. بل نحن فى إبان اليقظة يختلف انتباهنا ونشاطنا الذهنى نحو ما نفكر فيه وما يحيط بنا. وعند الكلال يضعف هذا الانتباه، وتهن العزيمة، وتكثر الأخطاء. لكن رب العالمين لا يشغله شأن عن شأن ولا يغفل عن أمر فى السماء لاهتمامه بأمر فى الأرض، ولا تلحقه عوارض الوهن والإعياء، ولا تنفك قبضته الواعية عن ذرة فى العرش أو الفرش لسهو أو إغفاء. 4- (له ما في السماوات وما في الأرض) الله واسع الملك. وما تقول فى غنى يشمل آفاق السموات وفجاج الأرض؟ إن العالم كله، علوه وسفله، ملك لله وحده. والذين يظنهم الجاهلون شركاء لله، ليس لهم فى هذا العالم ذرة، إن كانوا أصناما فما هى الأصنام؟ تماثيل نحتها المصورون فهم فى الحقيقة يملكونها ولا تملكهم. وإن كانوا بشرا، فهؤلاء البشر ملك لمن صورهم فى الأرحام، وجعل صدورهم تهبط وتعلو بالشهيق والزفير، ولو شاء أن يقف دقات قلوبهم فى أية لحظة من ليل أو نهار ما رده راد.. إن هناك ملاكا على المجاز يضعون أيديهم على بعض التراب ليرتفقوه حينا، وربما طغوا بما يملكون ظاهرا، ثم يجيئهم الموت فيدعون الحياة صفر الأيدى، يدعونها لمالكها الحق الذى له ميراث السموات والأرض. (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم). 5- (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) القاعدة العامة فى الإسلام أنه لا شفاعة لمشرك، أو ملحد. وأنه لا حق لأحد من الملائكة أو المرسلين يذهب به إلى الله ليقول له أعف عن فلان، أو اترك فلانا. 029 وأن الأساس الأول للنجاة هو الإيمان والعمل الصالح، ولذلك قال! الله تعالى قبل هذه الآية مباشرة : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) . ويقول مخبرا عن مصاير المشركين والمجرمين (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) . ويقول أيضا: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) وقد يقع لمن ينجون بأعمالهم شىء من الفضل ترتفع به درجاتهم فوق ما يستحقون. أو يقع لمن قاربوا ولم يصلوا شىء من العفو ينجحون به ولا يرسبون ويجعل الله السبب الظاهر فى ذلك شفاعة المرسلين أو الصالحين. وهى شفاعة لا ترجع إلى أن هؤلاء المرسلين أو الصالحين يجيرون على الله، أو ينقذون منه من يريد عقوبته، كلا، فما يجرؤ ملك ولا نبى على أن يقف من الله هذا الموقف. إنهم لا يشفعون إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. قال تعالى: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) . (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا). وربما قال قائل: ولم هذه الشفاعة وما قيمتها؟ والجواب أنها لا تعدو لونا من إكرام الله فى الدار الآخرة لمن أهينوا بسببه فى الدنيا، فيريد الله أن يصلح بالهم وأن يعلى قدرهم، وأن يشعر عباده بما لهم عنده من مثوبة ومنزلة، وأن يطوى قلوب المقصرين والمتأخرين على محبتهم وإعزازهم لما سيق إليهم من فضل على أيديهم. بيد أن الشفاعة المذكورة لا تهدم قواعد العدل، ولا تعطل موازين الحساب ولا يحتاج إليها سابق بالخير، ولا ينتفع بها مارق من الحق. 6- (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ليس يخفى على الله شىء فى الأرض ولا 030 فى السماء، وعلم الأمس واليوم والغد عنده سواء. كأن العالم منذ خلق، وإلى أن تبدل معالمه، صفحة واحدة يستوى فيها القريب والبعيد والأول والآخر. وذلك بداهة لأن الخالق يعلم ما خلق، ولا يتصور أن أحدا صنع من ورائه شيئا فيكون هو سبحانه جاهلا به. إن الإبداع وهو إبراز شىء من العدم لا يقدر عليه إلا الله. والتغييرات التى تحدث فى المادة وهى محور الأعمال البشرية لا تتم إلا بأقدار الله، ومن هنا كانت إحاطة العلم. ومن هنا كان معنى قولنا: إن الله لا يعلم هذا الشىء، أن هذا الشىء لا وجود له، إذ لو كان موجودا لعلمه حتما، وهذا معنى الآيات الكريمة. (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون). ولقد تجول الفكرة فى خاطرى وكم يحمل تيار الشعور السارى فى كيان المرء من خطرات، وسوانح فأقول: إن الله يعلم هذه الخطرة المارة، كما تمر السحب بالآفاق . ثم أقول : وعلمه بها منذ أجيال: وأستتلى القول: وهو يعلم من غيرى مثل ما يعلم منى! ومن غيرى؟ ألوف مؤلفة تزحم أرجاء العالم. وعلمه يسع هؤلاء فى عصرنا. وما قبل عصرنا وما بعد عصرنا!! وما يملك المرء وهو يتابع هذا التصور إلا أن يهتف بالآية: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) . ص - (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) ينابيع المعرفة تنبجس ابتداء من مشيئة الخالق، حتى العلم بما يقع فى مجال السمع والبصر، إنه لولا ما ركب فى الإنسان من عقل مدر، لماح، ما استطاع أن يفقه مما حوله شيئا. والاطلاع على ما هو أعمق من ذلك موكول إلى مراتب الذكاء الإنسانى، 031
وأنصبتنا من هذا الذكاء مقسومة علينا ونحن أجنة فى بطون الأمهات.
Sayfa 21
ومن هنا كان فتح نوافذ قليلة يطل منها العقل البشرى على آفاق من العلم محدودا بما تهىء المشيئة العليا من أسباب عادية أو غير عادية.
ومصادر المعرفة المعتادة مبثوثة فى كتاب الكون المفتوح، وفى تجارب الناس مع الحياة العامة، ويمكن بالوعى والتأمل والتجربة أن نبلغ آمادا بعيدة فى هذا المضمار دون حرج ودون قيد.
أما المعارف الغيبية التى مصدرها الوحى الأعلى، فإن الله قد اصطفى لها رسله الأولين وقد انتهى هذا المصدر بالرسالة الخاتمة ولن يحيط أحد بشىء من هذا العلم عن طريق الاتصال بالله أو بملائكته، ومن زعم ذلك فهو كاذب.
وقريب من ذلك الإنباء بالغيوب، فإن هذا ليس من العلوم الميسرة للخلق حتى تتاح فرصها للبشر على سواء: ولا مكان لوحى ينزل به بعد انقضاء النبوات.
ومن ثم فلا يقبل من أحد القول بأنه داخل ضمن الإمكان العام فى قوله تعالى (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).
فإن هذه المشيئة مبينة بما أوضحناه لك آنفا.
8_ (وسع كرسيه السماوات والأرض) المتبادر إلى الأذهان أن السماوات والأرض هما حدود الملك الإلهى، وهذا خطأ ، فإنهما بعض آثار القدرة العليا فحسب، ولذلك قال فى آية أخرى:
(ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة )
وقال : (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) هما من آيات الله وآيات الله الشاهدة بجلاله لا يحاط بها، وكرسيه من الرحابة بحيث يسع السماوات والأرض وسائر ما لا نحصى من آيات.
ونحن لا ندرى ما الكرسى؟ ولا نكلف باكتناه ذلك.
وكل ما ندركه من هذه الجملة هو ما توحى به من الإشراف الإلهى العالى على سائر الخلق، ما نرى منه وما لا نرى، وأن السموات والأرض ما يستغرقان إلا جزءا من الملكوت الواسع الذى اشتمل عليه هذا الكرسى (والله من ورائهم محيط)
Sayfa 22
032 9- (ولا يئوده حفظهما) لا يتجشم أية مشقة فى ضبط السموات والأرض وتدبيره الأمر بينهما، كما أنه لم يتجشم أية مشقة فى الخلق الأول، وهذا ما ذكره فى قوله: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون).أى أن ذلك البناء شىء هين إلى جانب ما فى وسعنا، كما ينفق صاحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فلوسا قليلة، فلا يرى أنه أعطى شيئا طائلا كذلك ولله المثل الأعلى بناء العالم وحفظه، ما يتعب الخالق المدبر، ولا يرهقه، لفرط عظمته. والجملة السابقة فى وصف الكرسى تشير إلى علو الذات. ولذلك جاءت الجملة الأخيرة. 10- (وهو العلى العظيم) تذييلا يختم المعانى السابقة بذكر اسمين من أسماء الله الحسنى مناسبين للمقام ، مقام العلو والعظمة الواجبين لذى الجلال والإكرام.
العقيدة الصحيحة بين الإسلام والنصرانية:
Sayfa 23
هذا الاعتقاد الشريف فى إله منزه عن كل عيب مستحق لكل كمال هو أساس الدين. وإن وراء المادة وجودا أعلى يجب اليقين فيه والاستمداد منه. والله جل شأنه لم يدع الخلق دون رعاية وهداية، بل تعهدهم بالوحى الذى ينير لهم الطريق ويعرفهم المبتدء والمنتهى. وما الوحى؟ إنه ليس حديث نفس، ولا ارتقاء فكر، إنه تعاليم حملها ملك، وتضمنتها كتب، واصطفى لها بشر. واستمعت إليها الأمم على مر العصور من أناس يعلمون عن ثقة وصدق أنهم مرسلون من لدن الله إلى عباده لإبلاغ كلماته. ومن هنا كان من تمام الإيمان بالله، الإيمان برسله وكتبه وملائكته. لابد لتمام الإيمان من أن يعترف البشر بما وراء المادة، وبالعلم الذى تمخض عنه الوحى السماوى. إن الإيمان بعلوم الحياة الأرضية وحدها دلالة كفر برب العالمين. ولا ينجاب هذا الكفر إلا بالاعتراف بالوحى وتصديق المرسلين، والشعور بأن ما جاءوا به حق 033 وأنهم موفدون من قبل الله كى يعدوا الناس لحياة راشدة يحسن بعدها لقاؤهم لله فى اليوم الآخر. تلك عرى الإيمان كما ذكر الله فى كتابه، وبينها رسوله الأخير فى سنته. (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). والمسلمون يرون الأنبياء جميعا اخوة. ويرون الكتب النازلة من السماء كلها شارحة لأصول الدين شرحا يصدق بعضه بعضا. ويرون الأجيال الأولى حفلت بالعديد من هؤلاء المرسلين الكرام، ولا ينتظرون نبوة جديدة فى الأجيال الأخيرة، لأن السماء ألقت كلمتها الأخيرة، فى القرآن الكريم الذى جاء به محمد خاتم النبيين. (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) والخلاصة التى أكدها الإسلام لدين الله الذى بلغه المرسلون عامة تنحصر فى أنه: 1- لا إله إلا الله، ليس هناك إله ثان ولا ثالث. 2- استحقاق الله لكل كمال وتنزهه عن كل نقص. 3- نجاة البشر فى عبادتهم وانقيادهم لتعاليم هذا الإله الفرد كما نزلت من لدنه. 4- ليس هناك أحد يجير على الله، أو يملك التعقيب على حكمه؟ فلا شركاء ولا شفعاء. والإسلام يأخذ على أتباع الديانات السماوية الأخرى انحرافهم عن الجادة فى تقرير هذه المعانى. فالمسيحية مثلا ترى أن هناك إلها هو الأب وثانيا هو الابن، وثالثا هو الروح القدس! ثم تلحق ذلك بأن الأب هو الابن؟ وأن الثلاثة مع ذلك إله واحد!! وهذا الكلام شطر الإيمان فى المسيحية؟ أما الشطر الآخر الذى لا يتم الإيمان إلا به، فهو القول بأن الإله الابن صلب كى يرضى الإله الأب عن أولاد آدم بعد خطيئته 034 الموروثة. ولما كان الإله الأب هو نفسه الإله الابن، فمعنى هذا أن الله، قتل الله ليرضى الله.. !! والحق أن العقل البشرى تبهظه هذه الأثقال، ولذلك فهو بين أمرين إما أن يهضم نفسه فيقبل هذه الأوهام ويعتنقها على ما بها. وإما أن يطرحها ويسير وفق ما يراه. وذاك سر البراكين التى تثور فى الكيان الصليبى، وتجعله يقذف العالم بين الحين والحين بأشتات من مذاهب المروق والفسوق والعصيان، كالشيوعية والوجودية والإباحية وغير ذلك من عوج فى الطبيعة الإنسانية بعد ما سارت فى الأرض من غير زمام. وهاك ما يصور العقيدة المسيحية منقولا عن بعض الكراسات التى توزع اليوم للدعاية ومدعوما بالمصادر الشاهدة له من الكتاب المقدس. " إن الثالوث الأقدس هو الله الأب السرمدى وهو كائن ذاتى قادر على كل شىء حاضر فى كل مكان عالم بكل شىء، لا حد لحكمته ومحبته، والرب يسوع المسيح ابن الله الأزلي الذى به خلقت كل الأشياء وبه أيضا يتم خلاص المفديين، والروح القدس الأقنوم الثالث فى الثالوث الأقدس، وهو القوة العظيمة المجددة فى عمل الفداء. إن الرب يسوع المسيح هو الله نفسه إذ هو من طبيعة الله الأبدي نفسها وجوهره، الذى مع احتفاظه بطبيعته الإلهية اتخذ الطبيعة البشرية، وعاش على الأرض كإنسان، ومثل فى حياته، كمثال لنا، مبادئ البر، وأثبت ألوهيته بعجائب كثيرة عظيمة، ومات على الصليب من أجل خطايانا وقام من بين الأموات وصعد إلى الأب حيث الآن يشفع فينا. [ يوحنا: ا،14، عبرانيين 9:2- 18، 8: 1 ، 2 ؛ 14:4- 16؛ 25: ص . لقد توج السيد المسيح إعلانه عن محبة الله، إذ سار أخيرا إلى الصليب، وهنالك، بوصفه الممثل الكامل الأوحد للجنس البشرى، امتزجت طبيعتاه الإلهية والبشرية امتزاجا لا انفصال له. وهكذا بعد أن قضى سحابة حياته على الأرض فى طاعة تامة لناموس البر الأبدي الذى وضعه هو، بذل نفسه عن خطايا الناس ذبيحة كاملة تامة وافية بلا تلاعيب، "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرين خطاة هكذا أيضا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرين أبرارا. [رومية 5: 19.] 035
Sayfa 26
وكتب الرسول بولس: " مخلصنا يسوع المسيح، الذى بذل لأجلنا لكى يفدينا من كل إثم " تيطس 2: 13،14. لقد صور الرسول بولس التضحية الإلهية الجلى بهذه الكلمات الخالدة: " إذ كان فى صورة الله لم يحسب (المسيح) خلسة أن يكون معادلا لله. لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا فى شبه الناس. وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " فيلبى 2: 6- 8. أجل، تنازل السيد فانتقل من أسمى علو إلى أدنى مرتبة، من كرسى المجد إلى خشبة العار، من القدرة اللامحدودة إلى التسليم التام، من السلطان المطلق إلى التواضع العميق من تسبيح الملائكة وتعبدهم له إلى تجديف البشر عليه وهزئهم به. يا لها تضحية عجيبة فائقة التصور! أجل، لقد كان الله مستعدا أن يدفع هذا الثمن الذى لا يستقصى فى سبيل خلاصنا. هكذا أراد أن يعلن محبته لنا ويتصل بنا عبر الهوة السحيقة التى أوجدتها الخطية، وعليه قال الرسول بولس : " فإن المسيح أيضا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا. البار من أجل الأئمة لكى يقربنا الله " بطرس 3: 18 " أ. ه. هذا الكلام العجيب المشحون بالنقائض هو محور الإيمان عند القوم. الله صلب الله، لكى يرضى الله... يرضى عن الخاطئين من بنى آدم، لو خبر الإنسان بأن قوما فى كوكب آخر يجمعون فى تدينهم هذه الغرائب لأنكر وجودهم، ومع ذلك فهم يعيشون معه على ظهر هذا الكوكب. وليس لنا من تعليق على قصة الأبوة والنبوة والفداء وروح القدس التى تلتقى كلها فى ذات واحدة إلا قول الله فى كتابه الكريم (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير * قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ).
الإلحاد خرافة علمية:
Sayfa 27
قلنا: إن الإيمان معرفة بالله بلغت حد اليقين، وإن المعرفة المقبولة هى المعرفة الصحيحة التى تطابق الحق. وقلنا: إن هناك من يعرفون الله معرفة مشوبة بالخطأ، مقرونة بأوهام لا يساندها الواقع. وقد ذكرنا نماذج لتفكير هؤلاء. وبقى أن نتعرض لقوم آخرين لا يعرفون الله أصلا، بل ينكرون وجوده بقوة. وهؤلاء الموغلون فى الجحود قد اشتدت سواعدهم فى العصر الأخير اشتدادا محزنا، وأسعفتهم حضارة الغرب المادية بقوى كثيرة. ففلسفة الشيوعية القائمة على أنه، لا إله والحياة مادة، أمست لها دولة مسلحة مخوفة. وفلسفة الوجودية، أو نزعات البعد عن الدين إجمالا، تنتظم مواكب ضخمة من المثقفين فى دول أوربا الغربية. وهؤلاء يروجون لنظرية النشوء والارتقاء، ويدرسون الحياة على أنها بداية هزيلة مبهمة تدرجت فى سلم التطور حتى بلغت وجودها الحالى. واستطاع الغزو الثقافى أن يقذف مجتمعنا بجملة من هذه الأفكار العليلة وهى أفكار ما تلبث إذا نوقشت أن تنهار. وقد تجددت الحملة على الإيمان فى الآونة الأخيرة فرأينا أن ندفع ما فيها من باطل، تحت العنوان نفسه الذى اختاره المبطلون وهو: * لغز الحياة: ماذا ترى عندما تعبث الأيدى بأوراق اللعب، أو بأزهار النرد؟. إنها تلقى ما بها أو تستقبل ما أمامها دون أن تدرى عنه شيئا، ثم تتأمله بعد أن يقع لتعرف ماذا يحتوى. أترى الأطفال وهم يلهون بالألاعيب المهداة إليهم؟ إنهم يرمونها يمنة أو يسرة ويحركونها بضعف أو قوة، دون أن يكون لهم هدف أكثر من حب العبث وطلب المرح. هذه الحركات التى تلمحها فى الصغار والكبار لا يمكن أن توصف بأنها مقرونة بحكمة أو محكومة بقانون، أو مصوغة فى إطار من سداد الفكر ودقة الغاية، إنها حركات وحسب. ونحب أن نسأل: هل خلق العالم جاء على هذا الغرار؟ فركمت مواده بعضها فوق بعض دون قصد، وسيرت حركاته علوا وسفلا دون ضبط، كأن الخالق أراد من هذا الصنيع اللهو والتسلية! والجواب السريع لا، فإن مبدع هذه العوالم قال فى وضوح: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) . وفى آية أخرى يبين أن كيان هذا العالم تضام وتماسك، أو تحرك وانطلق وفق نظام رائق، وسنن متسق، وغاية مرسومة، ومراحل معلومة. (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) . ونريد أن نقف وقفة ذكية فاحصة عند كلمة (الحق ) هذه. فإنها تكررت فى كتاب الله عشرات المرات. وهى فى شتى مواضعها تعنى أن الحياة لا تسير خبط عشواء، وأن بناء الكون قائم على بصر نافذ وأوضاع اكتنفها من ألفها إلى يائها إعداد حكيم، وتنظيم مضبوط، يستحيل أن يتطرق إليه خلل أو ينتابه عوج. فكل قطرة فى المحيطات الفسيحة أخذت سمتها والتقت مع سواها وتهيأت لحمل السفن الماخرة، أو صلحت لحياة الأسماك والحيتان، وثارت موجا عاتيا أو حالت جليدا باردا. كل قطرة فى عالم الماء العميق الوسيع تكونت على هذا النحو وفق قانون عتيد وخطة مرسومة، وصل العلم البشرى إلى جزء منها، وربما وصل إلى أجزاء أخرى مع إدمان النظر والتفكير. وكل ذرة فى القارات الراسية من أرض مخصبة أو مجدبة تماسكت مع غيرها وصلحت مهادا للناس يستخرجون دفائنها، ويرتفقون ظواهرها، ويجوبون أقطارها، ويعمرون فجاجها كل ذلك ما يتم إلا فى نطاق التخطيط الأزلى الذى وضعه البارئ الأعلى للكائنات كلها. فهى مطبوعة به منساقة إليه لا تعرف غيره ولا تحيد عنه. أجل، فالنظام الشامل يسود كل حركة وسكنة تتعرض لها الكائنات جملة وتفصيلا. 038 وعندما وجه فرعون إلى موسى وأخيه هذا السؤال: (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) .
إن هداية كل شىء فى الحياة ليقوم بوظيفته المطبوع عليها، هو " التقدير " الذى
سير الله به الحياة تسييرا متقنا..! (سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) وذلك هو معنى الحق الذى قامت به السموات والأرض. فلا تحسبن نبتا ينبثق من ترابه كما يحلو له. إن مقادير الأغذية التى يحملها أو الروائح التى يطلقها عبئت فيه وفق سنن بينة قائمة.
ولا تحسبن نجما يخترق هذا الفضاء متجولا فهو يسرع إذا أحب ويبطئ إذا أحب.
إنه يجرى تبعا لقوانين قيد بها، وقوى حبس فى حدود أذن الله بها، ولم يأذن بغيرها.
وقد وزعت هذه الإيحاءات من بدأ الخليقة توزيعا لا يلحقه اضطراب ولا ترقى إليه فوضى.
وإبرازا لهذه الحقيقة قال الله جل شأنه: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) .
ذلكم هو الحق الذى انساب فى أوصال العالم كما تنساب الروح فى البدن، والذى تكرر كثيرا فى سور القرآن الكريم.
(ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون) .
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) .
(أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) .
Sayfa 29
040 وربما ظن القارئ أن هذا الكلام خيال شاعر سخيف، أو تصور طفل غرير! لكننا نسارع إلى زيادة دهشته فنقول له... بل هذا الكلام يوصف بأنه تفكير علمى لدى بعض الناس!. هذا المنطق الصبيانى هو للأسف محاولة علمية لتفسير لغز الحياة! وحل مشكلة الوجود! وبيان أن العالم مادة وحسب، وأنه لا إله. هذا المنطق يرثد أن ينقل خصائص الألوهية إلى المادة نفسها جاعلا السنن الكونية المنتظمة لها علامة تفكير واختيار لدى الأحياء والجمادات على سواء. يقول الكاتب: " اسمعوا. هذه ليست نكته. إن الوردة فيها عقل. وشجرة البلوط لها عقل. وإن كان عقلا ثخينا مثل جذعها الثخين. إن حركة زهرة عباد الشمس وهى تلوى عنقها لتتجه نحو الشمس لا تختلف كثيرا عن حركة النحلة وهى تطير إلى الحقل لتجمع العسل. ولا عن حركة الإنسان الواعية العاقلة وهو يطير ليقتحم المخاطر مستهدفا رسالة سامية. إن الحركات الثلاثة منظومة متصلة الحلقات، الفارق بينها فارق فى الدرجة فقط إن حركة زهرة عباد الشمس فى بساطتها. عقل . فما هو العقل؟ إنه قدرة تصرف وتكيف بالبيئة. إنه فى كلمات قليلة بسيطة. القدرة على اتخاذ موقف انتقائى أكثر ملاءمة للحياة فى كل لحظة، والزهرة حينما تلوى أوراقها نحو الضوء تتخذ موقفا انتقائيا أكثر ملاءمة لحياتها. إنها تتحرك عاقلة. ومعنى هذا أن العقل ليس شيئا جديدا فى الإنسان. إنه فى الطبيعة الحية كلها. كل الفرق أن الإنسان لديه وسائل أكثر يتصرف بها ويحتال على بلوغ أهدافه، الإنسان بحكم كونه مخلوقا معقدا يملك يدين فيها عشرة أصابع. ويملك لسانا ناطقا. ويملك عينين مبصرتين. وأذنين حادتين. وبشرة حساسة. وأنفا شماما. وكل هذه الأجهزة فى خدمة عقله. 041 الإنسان حيوان إقطاعى عنده عشرة آلاف فدان من المواهب وعمارات من الأعصاب والحواس المرهفة. وهو لهذا ظلم نفسه وظلم غيره من المخلوقات حينما اعتبر نفسه الوحيد العاقل بينها. وهذه خرافة إقطاعية غير صحيحة. العقل باطن كامن فى كل الطبيعة الحية. ومنذ أن انبثت الحياة فى الأميبا الحقيرة ذات الخلية الواحدة. وحركة هذه الأميبا فيها كل الحذر والتلصص والخبث والنية التى فى الإنسان: لا جديد فى الإنسان. وإنما هناك تطور فقط ". أقرأت هذا الكلام العجيب ووعيت مراميه؟ إن أرضنا هذه لم يصنعها أحد خارج عنها، فإن كل ذرة فيها تؤدى رسالتها وفق عقلها الخاص ورأيها المستقيم!. فإذا خرجت بعرة من دبر بهيمة، فبرأيها خرجت، وبرغبتها وقعت حيث وقعت! وإذا تحركت جرثومة بمرض فبعقلها سادت وبمشيئتها أصابت من أصابت. وهذا الكلام ليس نكتة. بل هذا هو التفكير العلمى كما استقر فى أذهان بعض الغافلين، وهو الحل الموفق للغز الحياة، كما يتخيل نفر من الحاقدين على الله الكارهين لاسمه المحاولين إطفاء نوره. والجنون فنون. الله. هو الحق المبين. إن بعض الناس يتناول الحقائق العليا بعبارات ساخرة، فلا حرج علينا إذا دافعنا قضايا الإيمان بأسلوب يمزج بين الجد والتهكم. وليعذرنا القراء إذا رأونا نسوق الأمثلة والشواهد جامعة بين هذه الأطراف البعيدة. لو قيل لك إن إسكافا فى إحدى حارات القاهرة شارك بعلمه فى إرسال 042 صواريخ الفضاء! وبعث الأقمار المصنوعة! فماذا تقول؟. ستقول يقينا: هذه أضحوكة! لماذا؟ لأن إطارة هذه الأقمار توفر عليها نفر من العلماء العمالقة أتقنوا من الدراسات الكونية ما يعجز أمثالهم عن مناله. إن سبعين قنطارا تنطلق فى الفضاء وتعود وفق خطة مرسومة متحدية قوانين الجاذبية وعواصف المجهول عمل هائل، تراصت عقول كبيرة فى إتقان كل أنملة منه. وليس ثم مجال للقاصرين والجاهلين لتحمل وجودهم بله مشاركتهم، فما للأساكفة وهذا الأفق؟ ولو قيل لك: أنظر هذا القصر الوسيق الأركان السامق البنيان! إن أحد البغال التى تشد عربات النقل هو الذى شاده!! إنك بداهة ستثق من أن القائل قد جن. لماذا؟ لأنك تعلم أن أفكارا نيرة وأيديا قادرة هى التى خططت الشكل، ثم أقامت الأركان، وصاغت الأبواب والنوافذ، ونسجت شبكة الضوء والماء، ووزعت عليه، علوا وسفلا، أنواع الطلاء. وأنى للبغالى كلها هذه القدرة؟ ولكن العقل الإنسانى الذى يستسخف هذه الفروض، لا يزال يهوى عند بعض الناس حتى يحول هذه الفروض الغبية إلى حقائق محترمة. إطارة قمر صغير تحتاج إلى ذكاء لامع، وعلم واسع وتقدير دقيق، وبصر عميق. أما إطارة الألوف المؤلفة من الكواكب الضخمة الرحبة فلا تحتاج إلى شىء من هذه الصفات؟ إن اسكاف أفندى بغبائه هو الذى يطيرها ويديرها!! بناء بيت محدود يحتاج إلى هندسة وقدرة وفن وابداع، وهذه الصفات لابد أن تكون طبعا فى ذات لا فى فراغ. أما بناء الكون الكبير الطويل العريض، فلا يحتاج إلى شىء من هذه الصفات. إن بغل أفندى يستطيع ببهيمته أن يضع الرسم، ويبرز البناء. 043 إن الإيجاد والتدبير وظائف عالية، لا يمكن أن تتم إلا إذا تصورنا إرادة عليا، وقدرة عليا، وحكمة عليا وعلما أعلى. وابداعا أعلى. وهذه الصفات لا تتصور إلا فى ذات المريد القادر الحكيم العليم بديع السموات والأرض ذى الجلال والإكرام. هذه بداهة لا تحتاج إلى كد الذهن، وإجهاد الفكر، ومع ذلك فإن أحد الكتاب أخذ يتناول لغز الحياة، لماذا؟ ليحل هذا اللغز على أساس أن اسكافا طير القمر الصناعى، وأن بغلا بنى أهرام الجيزة. وأن شيئا باطنا فى تراب الأرض هو الذى أنبت سنابل القمح، ولف كل حبة فى غلالها، ونسقها صفوفا متراكبة، وأودع بها النشا والزلال والسكر... الخ. شىء باطن فى تراب الأرض لا عقل له، ولا إحساس، ولا مشيئة، ولا تدبير هو الذى صنع هذا. هكذا يريد منا أن نفهم وأن نصدق. إنها غرائز فى الطين ليس لها مصدر إلا الطين جعلت هذا الطين، ينبثق عن الحدائق الزاهرة والحقول العامرة.!! فما تلمح على صدور الأغصان من ثمار، وما تشم رائحته من أزهار، وما تقيم به حياتك من عناصر طيبة كمنت فى هذه الحبوب المحصودة والفواكه الجنية، هذا كله، من صنع "العلامة طين أفندى" قام من تلقاء نفسه، فلا ألوهية هنالك، ولا وجود أعلى. وطين أفندى هذا هو أخو إسكاف أفندى الذى شارك علماء الروس والأمريكان تطيير أقمارهم!! لا إله والحياة مادة، هكذا يريد أن يعلمنا الكاتب البائس الباحث عن حل للغز الحياة! اسمعه يقول: " ما الحياة؟ وما سرها؟ من الذى علم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها ويخرج...؟ ". إنه طبعا اهتدى إلى ذلك بعقله الخاص! " من الذى علم الطيور الهجرة عبر البحار والصحارى إلى حيث تجد الغذاء الأوفر والجو الأحسن، وإلى حيث تتلاقى وتتوالد؟ ومن الذى يسدد خطاها طول هذه الرحلة من ألوف الأميال فلا تضل ولا تتوه؟ ". 044 إنها طبعا عرفت ذلك بعبقريتها الملهمة! " من الذى علم دودة القز أن تنسلخ من ثوبها مرة بعد أخرى، ثم تنزوى فى ركن لتبنى لنفسها شرنقة من حرير تنام فيها ليالى طويلة مثل أهل الكهف، ثم تخرج منها فراشة بيضاء جميلة. يقول الكاتب الألمعى: هذا الانتقال المنظم الدقيق من نمط فى الخلق إلى نمط آخر. هذا التطور من دودة إلى حشرة، الذى تتعاون فيه الألوف المؤلفة من الخلايا، يحدث تلقائيا بلا معلم؟ ". أى ليس هناك ملهم من الخارج تولى هذا الأمر وأشرف عليه، إذن كيف حدث؟ يقول : "إن المعلم هو الفطرة المرشدة المغروسة فى المادة الحية بطريقة لا يعرفها أحد... ". والطريقة التى لا يعرفها أحد هذه، هى الحل الموفق المحترم للغز الحياة..!! قل أى شىء فى قطع صلة الموجودات ببارئها الأعلى يكن الكلام علما تقدميا مسموعا. مهما كان الكلام سخيفا سمجا. النطفة تحولت إلى إنسان سوى العضلات، مكتمل الحواس، ذكى العقل، لا لأن موجدا أعلى تولى ذلك وأشرف عليه، بل لأن النطفة من تلقاء نفسها مشت فى هذا الطريق، وبلغت تمامها كما يتحول الشخص المفلس إلى غنى مكثر بجده واجتهاده..!! هذا هو منطق العلم، ولا بأس أن نتمشى مع هذا المنطق فى مراحل خلق الإنسان لنستقر على حقيقة واضحة فيه. يبدأ وجود الإنسان عقيب التقاء الحيوان المنوى بالبويضة السابحة فى رحم الأنثى والحيوان المنوى كائن عجيب فهو مع ضآلته المتناهية يحتوى على خصائص الرجل المادية والمعنوية، وعنه تكون وراثة المشابه فى طول القامة وقصرها مثلا، فى سواد الشعر أو شقرته، فى لون الجلد، فى حدة المزاج والذكاء أو فى ضد ذلك... الخ. ونسأل: من صنع هذا الكائن العجيب؟ أهو الرجل؟ أنا وأنت خلقنا هذا الحيوان وأودعنا فيه أسرار السلالة البشرية والمواهب الشخصية؟ لا بداهة، فما يذكر أحد منا أنه فعل شيئا من هذا! أم أن لقمة الخبز التى أفلتت من بين الأسنان أخذت تكافح فى سبيل الترقى 045 فتحولت من تلقاء نفسها إلى دم، ثم إلى منى؟ إنه شىء مضحك أن نتصور هذه اللقمة من الخبز قد رسمت لنفسها خطة كاملة لإيجاد بشر، أو للتحول إلى بشر يمشى على ظهر الأرض. إذن من الذى خلق هذا الحيوان وجعل فى كيانه الدقيق مشروع بناء إنسان؟ ليس إلا الله ! (أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) . إن هذا الخالق الكبير يحكم الأسباب ولا تحكمه الأسباب، وهو مستطيع أن يخلق البشر بوسائط أخرى غير ما يعرف فى النشأة الأولى للإنسان الآن. ولذلك يقول بعد الآيات السابقة: (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشأكم فيما لا تعلمون) . ولنتابع النظر فى أطوار خلق الإنسان بعد النطفة المعلومة، إنه يتدرج فى أعماق الرحم آخذا طريقه إلى التمام. ترى من يشرف على تكوينه وتصويره، الأب أم الأم؟ إن دور الأب انتهى فماذا تصنع الأم فى تطوير هذا الجنين؟ من الذى يشق الأجفان ليضع العين المبصرة، ومن الذى يصنع الآذان، ويضع فيها حاسة السمع، ومن ومن؟؟؟.. الخ. إن الجنين فى بطن الأم تحت أمعاء مشحونة بالطعام والفضلات، ووسط أجهزة لا تعى إلا ما سخرت له من وظائف معينة فهل يراد منا أن نتصور الخالق للسمع والبصر والفؤاد هو الجهاز البولى أو الجهاز الدورى؟. إننا نتصور بغلا يبنى الأهرام، ولا نتصور هذا الذى يفترضه الملحدون حين ينكرون الألوهية فى هذا المجال الناطق باسمها الدال على عظمتها... إن الخلق يا أولى الألباب وظيفة لها مؤهلات، إن إيجاد شىء من عدم أو من غير عدم يقتضى أوصافا معينة لابد منها، إن تجميع آلات الراديو ووصلها بالتيار لتنطق عمل لا تطيقه دابة من الدواب، ففاقد الشىء لا يعطيه، إنما يستطيع هذا امرؤ له عقل وخبرة. 046 والذين يتصورون العالم المنسق الرتيب قد كونته مادة لا روح بها ولا وعى، قوم يريدون أن يشيعوا غفلتهم أو تغفيلهم بين الناس وهيهات..!! قال لى أحد هؤلاء: أتنكر نظرية التطور؟ فقلت له: لنفرض جدلا أن نظرية التطور أضحت حقيقة علمية ثابتة، وليست نظرية يمكن أن يعدل العلماء عنها إلى تفسير أصدق لأصل الأنواع فماذا تفيده تلك النظرية؟ هب الإنسان كان أولا " أميبا " ثم ارتقى حتى أصبح كما هو الآن، أفمعنى ذلك أنه لا إله؟ كلا إن الزعم بأن هذا التطور يتم من تلقاء نفسه لأن بالأشياء خصائص تجعلها تتدحرج من فوق إلى تحت أو تتدرج من تحت إلى فوق، هكذا من غير مؤثر خارجى، زعم فارغ من العلم والمنطق!! إنك تتصور فى تراب الحقول الذى تأنقت فوقه الأزهار والأثمار عبقرية مصورة خلاقة، وأنا لا أتصور فى تراب الحقول شيئا من هذا وأرجع وجود الأزهار والأثمار إلى كائن أعلى هو الجدير بأن يسمى الخالق المصور. إنك تستقبل الوليد حين ينفتح عنه الرحم، زاعما أن فى جسم الأم المصانع التى نسجت اللحم، وأنشأت العظم، وأوجدت المخ قابلا للذكاء والتفكير. وأنا لا أرى فى جسم الأم إلا مجالا لعمل المشرف الأعلى. الذى يقول: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) . إنك تنظر إلى القصر المشيد فتقول: بناه ما فى البلاط من خصائص. وما فى الأخشاب من طبائع! وأنا أقول: لا. بل مهندس معه أدوات التفكير والتنفيذ. إن ما تسمونه علما هو الجهل بعينه (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) . 04 ص
Sayfa 36
ما الإسلام؟
إن الإيمان المجرد ينبت شعورا بالخضوع لله. خضوعا تمتزج فيه الرغبة والرهبة. وليس فى هذا عجب. فإن الذى يعرف عظيما من البشر يحس نحوه بالإعزاز والانقياد. فكيف بمن عرف الله وفقه صفاته العظمى وأسماءه الحسنى؟ إن الخضوع المطلق يفعم فؤاده، ويجعل مبدأ السمع والطاعة أساس صلته به. وأيا ما كان الأمر فإن الدين ليس معرفة التمرد وشق عصا الطاعة، هو التسليم التام لله، والإنفاذ الكامل لما حكم به. (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وكلمة الإسلام فى مدلولها اللغوى، وفى مصطلحها الشرعى تعنى هذا. إنها لا تعنى الخضوع الجزئى، أو الخضوع المشروط، أو الخضوع الكاره. إنها خضوع لله، ينقل الإيمان المستكن فى القلب إلى عمل تصطبغ به الجوارح. ويترجم اليقين الخفى إلى طاعة بارزة فى الحياة الخاصة والعامة. وهذا الذى نقول يظهر فى أركان الإسلام التى ذكرها الحديث المشهور، كمأ يظهر فى سائر شرائعه المبينة فى الكتاب والسنة.
معنى الشهادتين:
Sayfa 37
وأول شرائع الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وهذه الكلمة العظيمة تعنى شيئا فوق الإخبار المعتاد، إنك حين تذهب إلى ساحة القضاء فتذكر ما تعرف فى قضية معروضة لا تقصد مجرد الإخبار. إنك بما تقول تحق حقا كاد الباطل يغلبه، وتخذل باطلا كاد يروج وينتصر، إن الإخبار المجرد قد يكون قصصا مسليا، وقد يكون حكما جادا. وشهادة التوحيد حين ترسلها فى ساحة الحياة فأنت بهذه الشهادة لا تطلق خبزا هو بعض ما يتداوله الناس من كلام أو يتناقلونه من حديث. إنها شهادة تعنى إحقاق حق وإبطال باطل. إنها شهادة تعنى أنك قررت المضى فى الحياة وفق خطة تنابذ الشركاء العداء وتقر 048 لله بالوحدة. إنك بهذه الكلمة أبديت وجهة نظرك فى قضايا كثيرة تشغل الناس ليلا ونهارا. إن الناس فى الواقع يخضعون لآلهة شتى. ويطوفون حول كعبة تحفها أصنام المال والجاه والسلطة. وكم فى الدنيا من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم. وذلك عدا من ساء فهمهم فى الألوهية. ومن أنكروها بتة... فى هذه الظروف العصيبة يكون معنى أشهد أن لا إله إلا الله. أنك فى ساحة الحياة تدفع بعملك باطلهم وتجابه بحقك ضلالهم. وتعلن أنك مستمسك بعرى هذا الحق، وأنك لا تخفيه فى سريرتك بل تشهد به ليظهر بين الملأ ويعرف ويتقرر. إن الشهادة ليست فقط دلالة إيمان. بل هى معالنة برأى. وبداية لسلوك إنها شهادة تنتقل من ساحة القضاء إلى ساحة الحياة لتكون شارة مذهب معين. وصبغة نفس عرفت الله. وقررت أن تسير باسمه فى كل درب! والشهادة بأن محمدا رسول الله لم تذكر فى الحديث اكتفاء بالشطر الأول. فإن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بأنبيائه واحدا واحدا. فمن آمن برجل منهم وكفر بالآخر فهو بهم جميعا كافر، وهو بالله كذلك كافر، لا فرق بين موسى وعيسى ومحمد وسائر المرسلين. فالله عز وجل أبر بأنبيائه من أن يدعهم لعبث العابثين وتفريط المفرطين، سيما وهم لم يعيشوا على ظهر الأرض لأنفسهم، بل عاشوا لربهم يذكرون به، ويدفعون الجماهير إليه، فكيف يبعدهم الله عنه بعد ذلك؟ لقد قال: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا) والشهادة بأن محمدا رسول الله شهادة لجميع المرسلين على اختلاف العصور بأنهم حق، وأن اتباعهم واجب. ذلك، لأن محمدا جاء مصدقا لجميع من سبقوه من النبيين، ومجددا لتعاليمهم، ومنصفا لهم من الأتباع الغالين والجائرين، ورافعا لذكرهم فى الآخرين كما ارتفع فى الأولين. 049 ومعنى أشهد أن محمدا رسول الله: أتعهد بأن أتخذ من حياته الأسوة الحسنة وأن أستمسك بالسنة التى رسمها، وأستظل باللواء الذى نصبه. ولك أن تسأل: من أين هذا التعهد؟ والجواب: أن سر العظمة فى حياة محمد يرجع إلى أنه إنسان كامل، بلغ ذروة الارتقاء البشرى عن طريق العبودية الصحيحة لله. فهو لم يزعم يوما أن الله حل فيه، أو أن بينه وبين الله نسبا يخلع عنه وصفا من أوصاف البشرية المعتادة، كلا، إنه واحد من الناس تخيرته العناية العليا ليبلغ عن الله، وليكون رائدا يتقدم صفوف التائبين إلى ربهم. (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) كان رجلا سوى المشاعر قوى العضلات لم تضن بدنه عاهة أو علة. تصله هذه العافية بأقطار الحياة الصحيحة دون عقد نفسية. وكان زوجا وأبا وتاجرا وفارسا، وكان يتعرض للغنى والفقر، والنصر والهزيمة، والحزن والسرور، والرضا والغضب. ومع هذه البشرية التى يشركه فيها سائر الخلق فقد انتظم سره وعلنه فى خشوع وجهاد وتفان فى ذات الله، جعله يتحدث عن نفسه صادقا مصدوقا فيقول: " أنا أتقاكم وأعلمكم بالله ". من هنا تجىء الأسوة. من بشر مثلنا أحرز الكمال الإنسانى على عنت الظروف وقوة البيئة يتعلم الناس ويتعظون، وفى هذا يقول الكتاب العزيز: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) . أجل، لأن سكان الأرض بشر تعمل فى كيانهم غرائز البدن ورغائب النفس، ويتعرضون فى حياتهم لمشاعر الضيق والفرج، والشدة والرخاء، والكدح والراحة، 050 والتجمع والشتات.. إلخ، ناسب أن يجيئهم نبى منهم يتعرض لمثل ما يتعرضون، ويواجه ما يعرض له بأحسن تصرف وأشرف سلوك. من هنا تكون الأسوة، من خطوات هذا الرسول الإنسانى فى مرضاة الله والوقوف فى ساحته وابتغاء وجهه تكون السنة التى يجب أن تتبع " فمن رغب عن سنتى فليس منى". وكلمة التوحيد تقتعد مكان القيادة فى حياة الرجل المسلم والمجتمع المسلم، وعليها المدار فى فنون الطاعات التى حفل بها الإسلام. ولما كان الإسلام هو الخضوع التام لله فربما يظن لأول وهلة أن المسلم لا ينبغى أن يرتكب مخالفة، ولا أن يقع فى معصية. إذا العصيان ينافى الخضوع.
الخطيئة فى حياة البشر:
Sayfa 40
وهذا المعنى يحتاج إلى إيضاح ينفى التناقض بين منطق الخضوع الواجب لله، وما تنزلق إليه طباع الأناسى من أخطاء وخطايا... هناك أغلاط تقع دون أن تتجه إليها الإرادة اتجاها بينا، بل تكاد تقع دون إرادة. خذ مثلا عمل الطباع فى جمع الحروف والكلمات، إن الكتاب لا يتم طبعه إلا بعد أن تمر كل صفحة بعدة تجارب، ترى الأخطاء فى التجربة الأولى كثيرة، ثم تقل أو تنعدم فيما بعدها من تجارب. إن العامل يود من أول مرة أن يكون جهده سليما من كل عيب، وهو بإرادته وبصره وأصابعه يجمع الحروف والكلمات على أساس تحرى الصواب، ومع ذلك يقع فى الخطأ برغمه، لأن قصور قواه يغلبه. خذ مثلا عمل الخياط: إنك تذهب إليه بالقماش ليصنع لك بدلة ملائمة، وهو يجتهد أن يفصل أجزاء الثوب على بدنك بحيث يصنع منه حلة وسيمة، ومع ذلك فقد يقع من الطول والقصر والسعة والضيق ما يجعله يعيد التجربة على بدنك مرة حتى يصل إلى ما يبغى. إن هذه الأخطاء أثر العجز البشرى فى بلوغ الكمال من أول سعى والخطأ هنا يتولد من تلقاء نفسه تقريبا، لا أثر فيه لرغبة أو تعمد. 051 والواقع أن المسلم لا يطيق عصيان الله، ولا يرضى به، ولا يبقى عليه إن وقع فيه؟ بل إن ما يعقب المعصية فى نفسه من غضاضة وندامة يجعل عروضها له شبه مصيبة، فهى تجىء غالبا، غفلة عقل، أو كلال عزم أو مباغتة شهوة وهو فى توقيره لله، وحرصه على طاعته يرى ما حدث منه منكرا يجب استئصاله. إنه كالفلاح الذى يزرع الأرض فيرى " الدنيبة " ظهرت فيه، فهو يجتهد فى تنقية حقله قدر الاستطاعة من هذا الدخل الكريه. ولو بقى المسلم طول حياته ينقى عمله من هذه الأخطاء التى تهاجمه، أو من هذه الخطايا الذى يقع فيها، ما خلعه ذلك من ربقة الإسلام، ولا حرمه من غفران الله. ولعل ذلك هو المقصود من الحديث القدسى. "يا ابن آدم إنك ما دعوتنى، ورجوتنى، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك، ولا أبالى. يا ابن آدم لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ". وبعض السفهاء يأتى لهذا الحديث وأشباهه فيظنه إذنا عاما بالعصيان. وهذا الظن من انطماس البصائر، وأهله أبعد الناس عن المغفرة. إن المعصية شىء خطير، واتجاه الإرادة إليها زلزال يصيب الإيمان، أو ضباب يغطى معرفة المسلم لربه. يصحب هذا العمى انفلات من قيد الخضوع ومن مبدأ السمع والطاعة. من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " . وهذا الانتقاء المؤقت للإيمان، أو لأثره وهو طاعة الله وتقواه له عواقبه المخوفة، ترى أيعود كاملا أو يعود مثلوما؟. فإذا استمرأ العاصى المرعى فهل لهذا الإيمان المنفى من عودة؟ مع أنه مطارد 052 باستدامة العصيان!. ونحن بطول التأمل واستقراء التجارب لا نستطيع فك المعصية عن الحالات النفسية المصاحبة لها، وعن الظروف الخارجية الواقعة فيها. فى هذه الأحوال والظروف فيصل التفرقة بين ألوان الخروج على الدين، فهناك اللمم المرتجى له العفو، وهناك الإهمال الذى يستحق اللوم، وهناك التفريط أو الانحلال اللذان يستوجبان العقوبة. وهناك أخيرا المروق الذى يحكم على صاحبه بالارتداد، والتفصى عن ربقة الإسلام. فشرب الخمر مثلا جريمة، ولها حد تواضع المسلمون على إقامته. وربما رأيت بعض واهنى العزيمة من المدمنين الذين ألفوا الخمر فى جاهليتهم لا يحسنون اجتنابها فيقعون فيها على خزى! وكان الحد قديما يقام على أحدهم فيتحمله راضيا!! مثل هذا المجرم لا نستطيع عده مرتدا عن الإسلام إنه مسلم مخطئ وحسب!. ولكن هناك من يفتتح معصرة لتقطير الخمور، أو حانة لبيعها، وهو يعلن عن بضائعه؟ ويغرى بتناولها؟ ويجتهد فى ترويجها هنا وهناك؟ ويقيم حياته على مكاسبه من هذا الاتجار الخبيث. هذا الصنف لا يمكننا بأية حال من عده مسلفا؟ لقد كفر بلا ريب؟ وأنبت رباطه بالإسلام!. لماذا؟ لأن السكير الأول رجل وهت إرادته فى الخير؟ أما السكير الثانى فهو رجل قويت إرادته فى الشر. فالبون بينهما بعيد؟ بعد الخضوع المضطرب عن التمرد العاتى. ونية الخضوع لا تخرج صاحبها عن معنى الإسلام، أما نية التمرد؟ والإصرار على رفض الطاعة فلا يمكن بتة أن تسمى إسلاما، بل إن ذلك عادة يصحبه استباحة الحرام. وجحد الواجب. وهما كفر باتفاق المسلمين. وفى أمثال هؤلاء المصرين المتمردين تساق آيات التخليد فى العذاب التى تهددت 053 بعض العصاة: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) . وهناك مثلا آخر: إن القاضى قد يميل عن الحق لشفاعة بعض ذوى الجاه وقد يميل عن الحق لهوى غلب عليه وجعله يحابى أحد الخصوم. هذه معصية بلا ريب تستحق الويل والثبور؟ وهى حكم بغير ما أنزل الله يعرض صاحبه لأشد العذاب؟ ولكن هل ذلك كفر بالله وارتداد عن الملة؟ أو بتعبير آخر هل يسوى هذا الآثم بصنف آخر من الناس يرى الحكم بما أنزل الله بقية من مخلفات الماضى التى لا تستحق البقاء، ويستبدل بها قانونا آخر يبيح ما حرم الله ويقترح عقوبات أفضل فى نظره مما شرعت السماء من حدود وقصاص؟! ويدرس ذلك ويدعو إليه ويوسع دائرته جهد الطاقة!! إن العاصى الأول شخص طاش به نفع عاجل، أو غلبته شهوة جارفة فحادت به عن طريق الواجب الذى يعرفه ويعترف به . أما الآخر فهو يدع أمر الله رغبة عنه واتهاما له، ويرى أن يتقدم بين يدى الله ورسوله بأحسن مما أوحى الله وبلغ الرسول. هذا إن كان فى نفسه إقرار بأن النبوة حق؟ وأن الله قائم بين عباده بالقسط. إن الفارق بعيد جدا بين معصية تتم فى الظلام؟ ومعصية تقع فى وضح النهار. بين معصية يكون العقل فيها غافيا، ومعصية تتم مع يقظة الفكر وإعمال الرأى. بين معصية تمشى فى الأرض على استحياء ومعصية تتبجح كأنها فضيلة. إن عزيمة تتعثر فى طريق الخير غير عزيمة استحكمت فى طريق الشر. ويستحيل أن ينسب إلى الإسلام فرد أو مجتمع من ذلك النوع الفاجر بعصيانه، السافر باعتداء على حدود الله، واطراح فرائضه، واستبقاء محارمه. إن الدين كما أوضحنا إيمان بأن الله حق، وإقرار بأن شرائعه واجبة النفاذ، والسجود لها بالقلب والجوارح. فمن استعلن بمسلك مضاد لما أمر الله به ونهى عنه، واجتهد كى يرسى قواعد الشر مشاقا لله ورسوله فهو فاسق كفور، ومن البلاهة وصفه بالإيمان. 054 (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) . والضابط الذى يطرد حكمه فى كل شىء، والذى لا نقلق فى السير معه هو أنه حيث يرى أثر الخضوع لله، والانقياد لأمره فالإسلام موجود. وإلا فلا إسلام. أجل لا إسلام حيث تجحد الفرائض، وتموت الشرائع، ويسود الهوى ويضيع هدى السماء.
دائرة الخضوع لله:
Sayfa 44
وقد شرع الله جملة فرائض تعد مع شهادة التوحيد أركان الإسلام. والحكمة من إقامة هذه الأركان تدريب الناس على طاعة الله وإحسان الخضوع له والبعد عن الرذائل التى زجر عنها. ولهذه الأركان آثار نفسية واجتماعية بعيدة المدى لا مجال هنا لشرحها. وإنما الذى نسارع بتوضيحه أن من أداها ولم يستفد منها الخضوع الواجب لله فى كل شىء، فكأنه ما أدى شيئا، مهما استكثر من هذا الأداء. ما قيمة صلاة أو صيام لا يعلمان الإنسان نظافة الضمير والجوارح؟ عن ثوبان خادم رسول الله عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا!! قال ثوبان يا رسول الله، صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما هم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " . هؤلاء كما ترى يؤدون الأركان الظاهرة، غير أنهم لا يستفيدون منها الخشوع المطلوب، ولا تخلق فيهم الضمير الصاحى المراقب لله فى السر والعلن، ولا تكون فى نفوسهم روح الخضوع المطلق تجاه كل ما نهى الله عنه، وما أمر به. 055 لهذا لم تحسب لهم مع أنها تبلغ الجبال!. وما نحب أن نرسل كلاما يغض ظاهره من شأن العبادات المفروضة من صلاة وصيام، فإن هذه العبادات حركة حقيقية فى صقل الإنسان وترويضه على الخضوع لله فى سلوكه كله. ولكننا نلفت الأنظار إلى الفروق الطبيعية بين الحركات الحقيقية والحركات التمثيلية! إذا قلت: إنك بنيت دارا فى فضاء ما من الأرض، فلكى تكون صادقا يجب أن يرى الراءون هذه الدار رأى العين، وإذا قلت إنك غسلت هذا الثوب من أوساخه فيجب لتكون صادقا أن ينشر هذا الثوب على الملأ، فلا يبين به أثر قذر. وأركان الإسلام عمل حقيقى لبناء النفوس على الخير، وصياغتها على نحو مترفع يتنزه عن الدنايا ويبتعد عن الرذائل. وقول الله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). خبر حق. فإذا رأيت مصليا لا ينتهى عنها، فالسبب لا يعود إلى ريبة فى الخبر الإلهى، بل السبب أن الرجل يمثل حركات صلاة وليس مصليا حقيقيا. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " خبر حق. ومعناه أن الصيام يعفى على آثار الماضى السيئ، ويمسح أكداره عن مرآة القلب فتعود مجلوة نقية ثم يستأنف الصائم بعد خلاصه من أدران ماضيه حياة تكاد تلحقه بالملأ الأعلى... فإذا رأيت صائما معتكر النفس غائم الصفحة، فاعلم أنه ممثل فحسب يتشبه بالصوام فى ترك الأكل حينا، ليغرق فيه بعد. إن العبادات التى تكون أركان الإسلام، أو التى تصور جمهرة شرائعه رياضة جليلة الآثار فى تربية الأخلاق وتقويم الطباع. وهذا بعض ما ينشأ عنها. 056 أما الأساس الأول لشرعها فهو أداء حق الله، والقيام بوظيفة العبودية واعتراف البشر بأن الله الذى خلقهم ورزقهم يجب أن يعبد ويشكر. إن أغلب الناس فى هذا العصر المادى يحسبون الحياة لا تعدو الخمسين أو الستين سنة التى يقضونها على ظهر هذه الأرض يقضونها وهم فى عماية من أمرهم لا يدرون من أين جاءوا ولا إلى أين يصيرون، يقضونها وهم يصطرخون فى طلب القوت ورفع مستوى المعيشة، ظانين أن رسالة البشرية محبوسة داخل هذه الحدود وحسب. والذين يعرفون الله لا ينظرون إلى الحياة هذه النظرة الصغيرة. إنهم يرونها قنطرة لحياة أخرى عنده ويبنون سلوكهم فى هذه الحياة الأولى على تحرى رضاه، وإقامة هداه. وهم لذلك يعدون " العبادة " شيئا يقصد لذاته، ويوثقون صلتهم بالله لأن الله أول من ينبغى توثيق الصلة به، إجلالا لألوهيته، وإقرارا بفضله، وابتغاء لثوابه، واتقاء لعقابه... إن شهادة التوحيد وهى الركن الأول فى الإسلام إسهام من البشر فى إعلان تنزيه الله، هذا الإعلان الذى تتجاوب به مواد الكون علوا وسفلا (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) . واسم الله أحق اسم بالهتاف والتقديس والدعاء والتمجيد. فماذا زمت الشفاه دون النطق بهذه الشهادة الواجبة، وإذا صرف الناس عن الاعتراف بهذه العظمة السائدة، فأين يذهبون؟ وكيف يعيشون؟ (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) . إننا نطلب من الناس أن يهتموا بهذه الوظيفة التى خلقوا لها، وظيفة عبادة الله واستشعار نعمائه والاستعداد للقائه، والفزع إلى طوله، ومد اليد إلى عطائه. ولن يبارك للعالم فى يومه وغده إلا إذا استقام على هذا المنهج.. والله جل وعز لن يمنع الناس فضله ما بقيت أكفهم ممدودة إليه، فإن أبو إلا النسيان فيسصرعهم القلق والعنت ولن يضروه شيئا، إنهم أحوج ما يكونون إليه وهو غنى عنهم أبدا. 05 ص عن أبى ذر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قال: يقول الله عز وجل: "يا بنى آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفرونى أغفر لكم. وكلكم فقير إلا من أغنيت فاسألونى أعطكم. وكلكم ضال إلا من هديت فاسألونى الهدى أهدكم. ومن استغفرنى وهو يعلم أنى ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالى. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطانى مثل جناح بعوضة. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زادوا فى سلطانى مثل جناح بعوضة. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألونى حتى تنتهى مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألونى ما نقص ذلك مما عندى كمغرز أبرة لو غمسها أحدكم فى البحر. وذلك أنى جواد واجد ماجد، عطائى كلام وعذابى كلام. إنما أمرى لشىء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون " . وأركان الإسلام لم تشرع لشخص واحد يقيمها إذا شاء ويهملها إذا شاء. بل شرعت لأمة من الناس تحيا عليها، وتتواصى بنصرتها، وتستبطن الولاء لها، وتغرس فى أرجاء الجماعة شاراتها وشعائرها، ويتوارث الأخلاف ذلك كله عن الأسلاف. خذ مثلا الصلاة وهى فى لبابها مناجاة عبد لربه إن الإسلام لم يشرعها عملا فرديا، بل نظاما جماعيا تتراص الصفوف له وتشرف الدولة عليه!! نعم فالتعبير المختار فى الكتاب والسنة لأداء الصلاة هو إقامة الصلاة. ولم يقل: صلوا، أو إئتوا الصلاة، أو افعلوا الصلاة، بل أقيموا الصلاة! وفى تفسير قوله تعالى: (هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) 058 قال العلماء: يؤدونها فى جماعة! لماذا؟ لقوله صلى الله عليه وسلم : "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة ". والواقع أن التجمع للصلاة جزء من إقامتها، والإقامة الكاملة تكون بتنظيم الإقبال عليها، وإشعار البيئة كلها بالمبادرة إليها، والمحافظة على أوقاتها، واحترام ركوعها وسجودها وقراءاتها وتسابيحها واستحياء معانيها بعد انقضائها. (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) . إن الدين ينشد أن يكون الخضوع لله ظاهرة اجتماعية عامة لا مسلكا فرديا خاصا. وإقامة الصلاة من أبرز الأعمال لدعم هذه الغاية ودوام تحققها، وفى سبيل ذلك أعدت المساجد لاستقبال النساء والأولاد والرجال كى ينتظموا صفوفا وراء إمام يتلو القرآن ويكبر الرحمن. وقبل كل صلاة يشق صوت المؤذن حجاب الصمت السائد، أو يعلو صخب الحياة المعتادة مهيبا بالناس أن يدعوا ما يباشرون من أعمال ويستعدوا للمثول بين يدى الله. إن هذا الأذان العالى المتكرر المتصل مع اختلاف الليل والنهار، شعار أى شعار لكل مجتمع مسلم. وعند اندلاع فتنة الردة أيام الخليفة الأول، كانت الوصاة للمجاهدين أن يتسمعوا الأذان فى أوقات الصلاة، فإذا حملت إليهم الريح أصداء التكبير عرفوا أنهم بإزاء جماعة مؤمنة، وإذا استمر الصمت، ولم يرتفع النداء بذكر الله، عرفوا أنهم أمام قوم مرتدين، فاستعدوا للقتال... وإنى لأعجب أشد العجب لأقوام يضيقون اليوم بإذاعة أذان الفجر من مكبرات الصوت. لقد جاءنى وأنا مدير للمساجد من يعلنون تأذيهم لذلك، محتجين بإزعاج المرضى أو التعكير على الهاجعين، لا أغمض اللهم لهم جفنا. 059 وترددت شكايات هؤلاء على ألسنة صحافيين ما يعرف أحدهم الفرق بين طهارة وجنابة، وصدرت الأوامر ألا يذاع من مكبرات الصوت أذان الفجر كى تبقى القاهرة نائمة لا يعكر صفوها ذكر الله!! إن هذا بلا ريب أثر الجاهلية التى حملها الغرب إلينا، ولقن ألوفا مولفة من الناس تعاليمها... والإسلام شىء غير هذا، إنه يضفى على أرجاء أمته روح الخضوع لله ويجعل من رسالتها الإنسانية الكبرى إذا مكنت فى الأرض أن تشرب الجماهير عاطفة الحب للمسجد وإلف النداء المنبعث منه. (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). أى إن من عمل الحكومة الإسلامية أن تحافظ على الأمن مثلا برجال الشرطة، وأن تحافظ على الإيمان بإقامة الصلاة، وأن ترفع المستوى الاقتصادى بشتى المشروعات والجهود، وأن ترفع المستوى الروحى مع ذلك، وقبله، وبعده، بمختلف وسائل الإعلام التى تملكها. ولا يحسبن غافل أن الإسلام يتوسل بالحكم لإكراه مخالفيه على الدخول فيه وإقامة شعائره، كلا، فليس فى ديننا إكراه. لقد قال العلماء: إن الزوج المسلم يرسل زوجته إلى الكنيسة يوم الأحد إذا كانت نصرانية، فلها دينها وله دينه!! إنما المراد أن تقوم الدولة فى الإسلام بواجبها فى رعاية حقوق الله، كما فصلها الكتاب والسنة بوصفها ممثلة لجمهور المسلمين، وحارسة على مثلهم الأعلى. إن شرائع الإسلام كثيرة، والأركان الخمسة المذكورة هنا هى بعض الإسلام لا كله. والمهم أن الإسلام خضوع تام لكل صغيرة وكبيرة جاء بها الوحى. ولن يتم إسلام المرء إلا إذا قال من أعماق قلبه بإزاء كل ما أوصى الله به (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) . 060
Sayfa 49
ما الإحسان؟:
Sayfa 50
عند صدق الإيمان وتمام الإسلام يجىء الإحسان نتيجة لازمة لهما قال تبارك وتعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) لقد علمت أن الإيمان حسن معرفة لله وثقة نامية فيه، وأن الإسلام استجابة مطلقة لتعاليمه، وتحر دقيق لرضاه، فإذا تجمعت هذه العناصر، وجرت فيها مشاعر اليقين، وأينعت فيها صوالح الأعمال، فإن المرء يكون لا محالة محسنا.. والحديث الذى بين أيدينا عرف الإحسان... أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ورؤية وجه الله فى العمل هى الباعث على إجادته والحادى على إتقانه، وهى ليست تخيلا لقوة موهومة، بل هى شعور بالوجود القائم، وإدراك لحقه. فإذا لم يبلغ المرء هذه المرتبة من الحس فلن ينزل عن المرتبة الأخرى، وهى الشعور بإشراف الله ورقابته عليه وعلى كل شىء حوله. ونريد أن نقف عند هذه الكلمة " أن تعبد الله... ". إن العبادة تشمل نوعين من الأعمال: الأول: الفروض العينية التى لا يخلو منها مكلف. وهى فروض تنتظم الناس فردا فردا، ويعتبر كل أحد مسئولا برأسه عن أدائها. الآخر: الفروض التى يسأل المجتمع بجملته عنها، ويكلف بتوفيرها فى نطاقه العام، ويعد أفراده قاطبة مقصرين ملومين إذا خلا المجتمع منها، وهذا ما يسمى فى اصطلاح الفقهاء بالفروض الكفائية. والفروض العينية تتصل بالخصائص المادية والأدبية التى يتساوى البشر فى أصلها فما من إنسان على ظهر الأرض يمكن أن تسقط عنه الصلاة أو يمكن أن يباح له الزنى. إن هذه الفروض تستهدف تزكية كل نفس، فما تصلح أى نفس إلا بها ومن هنا كان وجوبها عينيا. أما الفروض الكفائية فهى تتصل ابتداء بالملكات والمواهب التى يتفاوت الأفراد 061 فيها، وتختلف ميولهم إليها اختلافا بينا، ومع ذلك فإن المجتمع يقوم على أداء كل فرد لما يحسن منها... لو أن الناس كلهم فلاحون فمن يتاجر؟ ولو كانوا جميعا صناعا فمن يزرع؟ إن إيجاب عمل بعينه على فرد بعينه شىء متعذر، وإنما تفرق الأعمال عليهم وفق رغباتهم ويرشحهم استعدادهم له. وهذا التوزيع يقوم المجتمع به تلقائيا، لضمان مصالحه كلها، فإذا وقع خلل فى ذلك كان مسئولا عن تلافيه. وربما سأل سائل. وما علاقة هذه الأعمال العادية بالدين؟ والجواب أنها من صميم العبادات، وأنها حفا فروض كفايات، وأن الهندسة، والطب والفلاحة، والصناعة، ومختلف الحرف وأسباب العمران من أركان الإسلام، وأنها تدخل دخولا محتوما فى دائرة الإحسان التى تناولها الحديث الشريف بهذه العبارة الموجزة: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وذلك لأن الإنسان وهو محور النشاط الدينى وموضع التكاليف السماوية لا تستقر له حياة، ولا يستقيم له وجود إلا إذا كفلت له معايشه وتعاونت ظروف البيئة على ضمانها. أى أنه يوجد ويستقر أولا ثم تلاحقه الواجبات بعد ذلك. وهذا الوجود منوط بالكدح سحابة النهار والاستعداد له بالراحة أثناء الليل قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) وقال تعالى: (وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا) . إن تعاقب الليل والنهار مجال النشاط العمرانى الذى تقوم به الحياة الدنيا، وهو كذلك مجال النشاط الدينى الذي يعرف به الله، وتكفل به الحياة الأخرى قال تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا). فلابد للإنسان من أن يعمل عملا ما، عملا ترشحه له ملكاته وخصائصه ويلزمه المجتمع الذى يعيش فيه بأن يقوم به. وفى شبكة الأعمال المنثورة على هذا وذاك، يسرى تيار الحياة العامة قويا، ويتوزع على الأفراد ما يصون معاشهم، ولن يستطيع أحدهم صلاة وصياما إلا إذا 062 تحقق هذا المعاش الحتم، ففروض العين لا توجد إلا بعد أن تتحقق فروض الكفاية!! وربما استطاعت أمة من الأمم أن تحيا على نحو بدائى ييسر الكفاف لبنيها ويجعل ما يقيم أودهم شيئا ضئيلا لا يتطلب إلا أدنى الجهد، وبذلك يكون كفاحهم العمرانى ضيق الدائرة، ينصرفون بعده إلى الفروض العينية من صلاة وصيام. وإذا كان ذلك عسير التصور فى حياة الجماعات فهو سهل التصوير فى حياة الأفراد.
الإحسان فريضة مكتوبة على كل شىء:
Sayfa 52
وهذا كلام يحتاج إلى فضل بيان، نعم، يقدر أحد الناس على تناول أقراص من الخبز، وارتداء ألبسة من الخيش، والانزواء بعد ذلك فى مكان خرب أو عامر يعبد الله كما يرى. والبيئة التى يوجد فيها هذا الصنف من الناس ربما لا تتطلب أكثر من رحى للطحن، ومغزل للنسيج، وعدد من الأشغال التافهة هى التى تمثل " فروض الكفاية " فى مجتمع ساذج. لكن الإسلام لا يصلح فى هذه البيئة، ولا تعاونه أدواتها على السير، ولا على مجرد البقاء. لو كان الإسلام رهبانية صوامع ربما أنزوى فى جانب منها واكتفى بأى لون من العيش، ولكنه دين يبغى الاستيلاء على الحياة، وإقامة عوجها ومحاربة طواغيها. وعدة هذا الجهاد تتطلب أمدادا موصولة من النشاط والخبرة والتضلع فى علوم الحياة والتمكن من أشتات الحرف. أى أن المجتمع الإسلامى لابد أن تزدهر فيه جميع الفنون والصناعات التى تشيع بين أجيال البشر فى أرجاء الأرض كافة. وينبغى أن تبلغ براعة المسلمين فى هذه الميادين حد التفوق. فإذا قورن بهم غيرهم فى النواحى المدنية والعسكرية كانوا أرجح كفة وأهدى سبيلا.. وإتقان هذه الأمور فى طليعة درجة الإحسان التى شرحها الحديث... تصور مثلا أن المسلمين متخلفون فى صناعة الدواء، وأنهم فى هذا عالة على غيرهم من الأمم الشيوعية والصليبية! أتظنهم بهذا التخلف يسدون إلى دينهم أو إلى أنفسهم جميلا؟ 063 أم أنهم بهذا التخلف يهزمون مبادئهم ومثلهم العليا فى أول معركة مع عدوهم؟ تصور أنهم متخلفون فى فن الطباعة، أتراهم يستطيعون السيطرة على وسائل النشر وإبراز الحقائق وإغراء ألوف القراء بمطالعتها والإقبال عليها؟ إن مهنة صيدلى، أو مهنة طباع، فرائض على المجمتع الإسلامى كالصلاة والصيام سواء بسواء، غاية ما هناك من فرق أن الصلاة والصيام لا يتخلف عن أدائها أحد، أما فروض الكفاية فيختار لها من يصلح لها. ومن لم يصلح لحرفة معينة صلح لغيرها، وكلف بالقيام بها. وعندما يقع الاختيار على واحد بعينه للقيام بفريضة اجتماعية أصبح مسئولا عنها لفوره مسئوليته عن الركوع والسجود، وأصبح إحسانه لمهنته أى مهنة كإحسانه للصلاة. إن عبادة الله فى الحقل كعبادته فى المحراب، وعبادته فى المصنع كعبادته بالسعى والطواف. وتشبع المرء من الطعام ليقوى على الجهاد، كتقلله من الطعام فى عبادة الصيام، وصور الطاعات شتى، ومكان الإحسان فيها لا يتناهى. إن إجادة الأعمال كلها غاية من وجود الإنسان على ظهر هذه الأرض! (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) . ولما كان الإنسان خليفة لله فى أرضه، وكان تصرفه فى عناصرها أثرا من نفخة الروح الأعلى فيه، وكانت مرتبة الإحسان المنشودة له بعض ما يربطه بنسبه السماوى العريق، نسبة لله (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) . ومن هنا استحب الله له أن يتقن كل ما يصدر عنه، وألا يخرجه من بين يديه معيبا أو شائنا. فلو ذبح حيوانا ليأكله فليكن ذلك بأدب ولطف. رأى عمر بن الخطاب رجلا يقود شاة من رجلها ليذبحها فقال له: ويحك، قدها 064 إلى الموت قودا جميلا . وعن المسيب بن دار قال: رأيت عمر بن الخطاب ضرب جمالا وقال: لم تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟ رواه ابن سعد فى الطبقات. وعن عاصم بن عبيد القه بن عاصم بن عمر بن الخطاب أن رجلا حد شفرة وأخذ شاة ليذبحها فضربه عمر بالدرة وقال: أتعذب الروح؟ ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها ؟ وعن وهب بن كيسان أن ابن عمر رأى راعى غنم فى مكان قبيح، وقد رأى ابن عمر مكانا أمثل منه، فقال ابن عمر، ويحك يا راعى حولها فإنى سمعت رسول الله يقول: " كل راع مسئول عن رعيته ". ولو أنفذ القصاص فى قاتل فليس القصد إزهاق روحه بأى وسيلة وإن كان مجرما بل يجب إقامة أمر الله بنزاهة وترفع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب الإحسان على كل شىء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " . وقال: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " . والإتقان لا يتأتى بالادعاء والجهالة، فإن لكل عمل أرضى أو سماوى قواعد يصح بها، وتدرك بالتعلم والمران. *
قوانين الإحسان وأخطاره:
Sayfa 54
ولن يبلغ المرء درجة الإحسان حتى يستوعب هذه القواعد فقها وأداء وحتى يرقى من طور السلامة إلى طور الإجادة والتبريز للكلام قواعد نحوية وصرفية لا يقبل إلا مع توفرها فيه. والكلام يكون صحيحا عندما يتفق مع هذه القواعد، ولكن لا يوصف بأنه بيان حسن إلا إذا كان عليه من رواء البلاغة طابع جميل. للصلاة سنن وأركان ينبغى أن يستجمعها المصلى، فإذا تمت كانت صلاته 065 صحيحة، ولكنها لا تبلغ درجة الإحسان إلا إذا تألق فى حركاتها وسكناتها روح الخشوع، واطمئنان البصيرة إلى الله، وخلوص القلب فى حضرته. قيادة السيارات لها تعاليم وشروط، والقدرة على القيادة تشيع بين خلق كثير، ولكن البراعة التى تدفع صاحبها إلى الأمام فى ميادين السباق لا تتاح إلا لنفر قليل. إن الإحسان ليس علما عاديا ولا عملا عاديا، إنما هو الشأو البعيد، الذى تبلغ الأشياء فيه تمامها، وتزهى فيه بجودتها ونقاؤها. والمسلم مخاطب بنشدان هذه المنزلة فى كل ما يمس من عمل. العادات، والعبادات فى ذوقه وفقهه سواء، إذ العادات بمجرد اقترانها بنية الخير تتحول إلى عبادات. ولا يفرق بين الأمرين إلا أن لهذه صورا انفرد الشارع برسمها، أما تلك فهى متروكة لعلم الناس وتجربتهم على مر العصور. حدد الشارع أعداد الصلوات وهيئاتها، ولم يحدد طرق الزراعة وأنواع المزروعات، وجعل هذه فرض عين وتلك فرض كفاية. ولكن هذا الاختلاف فى الوصف والتحديد لا أثر له فى درجة الإحسان المفروضة على كل شىء. وغاية ما يستفاد منه أن الشارع فتح باب الابتداع والانطلاق فى شئون الدنيا وأتاح للبشر أن يتصرفوا فيه كيف شاءوا. أما شئون العبادات فهى مجمدة على صورها المأثورة لا مجال فيها لتحوير أو تطوير. وذاك خير. ومجموعة الأعمال التى يتحرك بها جهاز الأمة فى كل مجال، تختار لها المواهب الصالحة ويعد لها الأكفاء من كل بيئة، وذلك لضمان الإحسان المكتوب على كل شىء. ويرى الإمام الشاطبى أن ذلك يتطلب مرحلتين: التعليم العام، ثم الإعداد الخاص. قال : ".. وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، 066 لا فى الدنيا ولا فى الآخرة! ألا ترى إلى قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا). ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدى ومصه، وتارة بالعلم، فطلب من الناس أن يتعلموا جميع ما تستجلب به المصالح، وكافة ما تدرأ به المفاسد، إنهاضا لما جبل فيهم من غرائز فطرية ومطالب إلهامية. لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح الكافلة لحياتهم سواء كانت من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم، أو الاعتقادات، أو الآداب الشرعية والعادية. وفى أثناء العناية بالأجيال الناشئة، وتنمية مواهبها الفطرية يقوى فى كل واحد من الخلق ما امتاز به، ويبرز فيه على أقرانه الذين لم تهيئهم الأقدار على غراره، فلا يأتى زمان التعقل حتى ينضج فيه ما اختص به من ملكات، فهذا يطلب العلوم، وهذا يعشق الآداب، وهذا يتجه لبعض المهن، وهذا يهوى الرياضة والفروسية، وهذا يحب الكفاح والجلاد، وهذا ينشد التقدم والرياسة... الخ. وإذا كان كل واحد قد غرزت فيه القدرة على التصرف العام، والفهم لقدر مشترك من شتى المعارف إلا أن العادة جرت بغلبة بعض الميول الأدبية والمادية عليه، فتكون التربية الصحيحة تتبع هذه الميول بالإنماء والرعاية، ثم توزيع الأعمال على المكلفين بما يوائم طبائعهم، وعندئذ ينهض كل مكلف بأداء ما هو راغب فيه محسن له ". وبعد أن شرح الشاطبى النظام الدراسى الذى يقترحه للطلاب وفق خصائصهم النفسية قال: " وهكذا يكون الترتيب مع من ظهرت عليه صفات الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور فإنه يمال بهذا الصنف إلى ما يرغب، ويعلم آدابه المشتركة، ثم يختار له الأولى فالأولى من صنائع التدبير كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به، وما ظفرت له فيه نجابة ونهضة. وبذلك يتربى لكل عمل هو فرض كفاية قوم يؤدونه. وطريق المعرفة الطويل يبدأ بمرحلة مشتركة حيث يقف السائر، ويعجز عن المسير فقد وقف عند مرتبة من الثقافة تحتاج إليها الأمة فى الجملة، وإن كانت به قوة، ومضى فى السير حتى وصل إلى أقصى الغايات فإنه سيحرز من الكفاية ما يرشحه 06 ص
لأداء فروض كفائية أخرى رفيعة القدر فى شئون الدين والدنيا. قال الشاطبى ونلتزم هنا النص الحرفى : فأنت ترى أن الترقى فى طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد، ولا هو على الكافة بإطلاق، أو على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل أو العكس، بل لا يصح أن ينظر فيه بنظر واحد... حتى يفصل بنحو من التفصيل، ويوزع فى أهل الإسلام فى مثل هذا التوزيع، وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه، والله أعلم وأحكم. وقريب من كلام الشاطبى فى توزيع الأعمال على من يحسنونها وفق استعداداهم النفسى والعقلى ما قاله ابن القيم فى تغاير التكاليف والواجبات بالنسبة إلى ميول الأشخاص ومواهبهم. قال : " فالغنى الذى بلغ له مال كثير ونفسه لا تسمح ببذل شىء منه، فصدقته وإيثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة. والشجاع الشديد الذى يهاب العدو سطوته: وقوفه فى الصف ساعة، وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع. والعالم الذى قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم فى دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح. وولى الأمر الذى قد نصبه الله للحكم بين عباده، جلوسه ساعة للنظر فى المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم، وإقامة الحدود، ونصر المحق، وقمع المبطل أفضل من عبادة سنين من غيره. ومن غلبت عليه شهوة النساء، فصومه له أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته. وتأمل تولية النبى صلى الله عليه وسلم "لعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد، وغيرهما من أمرائه وعماله، وترك تولية أبى ذر، بل قال له: إنى أراك ضعيفا، وإنى أحب لك ما أحب لنفسى، لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم.
Sayfa 57
وأمره وغيره بالصيام، وقال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له. وأمر آخر بأن لا يغضب. 068
وأمر ثالثا بأن لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله. ومتى أراد الله بالعبد كمالا وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له قابل له قد هىء له، فإذا استفرغ وسعه بز على غيره وفاق الناس فيه كما قيل: مازال يسبق حتى قال حاسده هذا طريق إلى العلياء مختصر وهذا كالمريض الذى يشكو وجع البطن مثلا إذا استعمل دواء ذلك الداء انتفع به، وإذا استعمل دواء وجع الرأس لم يصادف داءه. فالشح المطاع مثلا من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها. وكذلك داء اتباع الهوى والإعجاب بالنفس لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراغ الوسع فى العلم والذكر والزهد. وإنما يزيله إخراجه من القلب بضده. ولو قيل: أيهما أفضل، الخبز أو الماء؟ لكان الجواب: أن هذا فى موضعه أفضل، وهذا فى موضعه أفضل. كذلك فنون العبادات... "
الإحسان بين التأمل الذاتى والصلاح الاجتماعى:
Sayfa 58
جمهرة الناس تغلبهم طبيعة العيش، وضرورات النفس والأولاد، وظواهر الحياة الدنيا، فتراهم منصرفين بأفكارهم ومشاعرهم إلى تأمين حاضرهم والاحتباس فى نطاقه الضيق. ولو أنك تسمعت الضجة التى تسود أرجاء العالم، وحاولت استبانة معناها ما وجدت إلا بغام الغرائز المهتاجة تريد إثبات نفسها وتحقيق رغباتها. أما منطق الإيمان خلال هذا الضجيج العالى فهو همس لا يكاد يبين. إن كان ذلك بين الأمم الكافرة بالله وهى اليوم ألوف مؤلفة فالأمر ظاهر، كيف تذكر من تجهل؟ أو من تجحد؟ وإن كان بين جماهير المؤمنين، فإن معرفتهم لله كامنة فى طواياهم، قد تحركهم 069 إلى رحبات المعابد حينا، وقد تحجزهم عن بعض المحارم حينا، ولكن هذه المعرفة قلما تبقى وضاحة مع الركض المجهد فى ساحة الحياة وراء مآرب أخرى... من أجل ذلك حث الله عباده المؤمنين به أن يقاوموا هذا الذهول السائد، وأن يتخلصوا من هذه الغيبوبة العامة، وأن يذكروه برغم هذه المنسيات، وأن يحاولوا الاستضاءة بوجهه الكريم خلال غواشى الدنيا وكرباتها. أجل، يجب أن ينقذوا أنفسهم من الغرق فى هذه اللجج المتتابعة، وليس من طريق إلا الإكثار من ذكر الله، والتشبث بأسمائه الحسنى، وشدة التعلق به فى كل حين وفى كل حال. وهذا سر الوصايا المتكررة بإدمان الذكر وإطالته. (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) . (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا) (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) . والذكر ليس افتعالا نفسيا لشىء بعيد عن الإنسان، أو تخيلا لوهم مقطوع الصلة بالحياة الخارجية. كلا. إن الله لا يغيب عن الناس لحظة، وهو معهم حيثما كانوا. ومن ذلك شأنه، فمن الحق أن يحس وجوده، وأن يدرك شهوده، وأن يتصرف الناس ما شاءوا لكن مع الاستيقان بأنهم فى حضرته، ما ينفكون عنه أبدا، وما يتركهم لحظة (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ). وذكر الله من أشرف العبادات وأنفس ما يجرى على اللسان من كلمات، وأذكى ما يمر بالخاطر من صور، وما يثبت فى القلوب من معان. وهو مفتاح الصلة المباشرة بالله الكبير المتعال، ما إن يشرق معناه فى نفسه وتتحرك به شفتاه حتى يذكره الله ببره ولطفه، ويصحبه بتأييده وعونه. عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل يقول : أنا مع عبدى إذا 0 ص 0 هو ذكرنى وتحركت بى شفتاه " . وفى الآية (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) . وعن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة. قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا فى نفسها وماله ". وقد تنافس الصالحون فى ذكر الله، وربطوا أفئدتهم وأذهانهم به، لم يتوهوا عنه فى زحام الحياة، ولم يفتنهم عن ذكره نعمة، أو تشغلهم محنة. وقد رأوه طريقا سريعة التوصيل إلى مقام الإحسان، والأنس بمشاهدة الله عما تزخر به الحياة من فتون ومجون. وسعى وعبث، وعزلة واختلاط، وقصور وانطلاق!! ونحن نريد أن نقف هنا وقفة قصيرة، لنكشف شبهة خدع بها الكثيرون فإن إلف الذكر والاستئناس بمعانيه الرقاق، والاعتزاز بما يتركه فى النفس من صفاء ووداعة، كل ذلك جعل لفيفا من الصالحين يحسبه الغاية المنشودة لا الوسيلة الباعثة، ونشأ عن ذلك أنهم استغنوا به عن غيره، وظنوا مقام الإحسان وليد حالاته وإشراقاته. ولعل مما روج لهذه الخدعة ما روى عن أبى الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها فى درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق. وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قال : بلى، قال : ذكر الله... قال معاذ بن جبل: ما شىء من عذاب الله من ذكر الله .. ". ونحن لا نسارع إلى تكذيب حديث ما لأن ظاهره لأول وهلة يخالف المعروف من الدين. والأمر يتطلب شيئا من الفقه والتدبر... من الذى قال: إن المجاهدين فى سبيل الله طائفة أخرى تقابل الذاكرين لله، وتوضع فى كفة مغايرة يقال: هذه أرجح من تلك؟ إن الجهاد فى سبيل الله أرفع درجات الذكر، والمجاهد فى سبيل الله رجل يعرف 0 ص 1 ربه، ويريد أن يغرس هذه المعرفة فى الحياة، وأن يرويها بدمه حتى تزدهر وتنمو. المجاهد فى سبيل الله رجل يذكر الآخرين بالله بعد أن امتلأ هو بهذا الذكر من إخمص قدمه إلى ذؤابة رأسه. لقد ذكر ربه عند التقاء الجمعين استجابة لقول الله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) وصاحبه هذا الذكر فى أدوار المعارك كلها خصوصا عند اشتداد البأس وتكالب العدو، وعند ابتعاد النصر وإثخان الجراحات واستحرار القتل فى إخوانه. (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) . نعم، يحب المحسنين، وهذا الجهاد الصبور المحتسب هو الإحسان، وهو أحمق شىء يوصف بالعبارة المأثورة فى الحديث "أن تعبد الله كأنك تراه فمان لم تكن تراه فإنه يراك ". ثم من قال: إن الإنفاق فى سبيل الله ليس ذكرا لله ! إنه ذكر عملى له مكانته. وهو أشرف من ذكر اللسان ولو واطأه صحو القلب. وذلك أن ألوف الناس يغريها حب المال فترتاد له الصعاب، وتهجر فى سبيله الأحباب. وربما نسيت حق الله، وما وضع من حدود، وما شرع من معالم، بل لعلها فى سبيل الاستكثار من المال تهدم كثيرا من خلال الشرف وخصال الخير. فإن وجد من أرباب المال من يذكر ربه عندما يجمعه، ومن يذكر ربه عندما يتخلى عنه ويصرفه إلى وجوه البر، فهل يكون ذلك فى طليعة الذاكرين؟ إن القرآن الكريم جعل الإنفاق هو الذكر، أو أثره المطلوب فى قوله جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) . 0 ص 2 إن المعنى الوحيد الصحيح للحديث المذكور أن الذكر المجرد أفضل من الجهاد المشوب بحب الغنيمة وطلب الشهرة. وكذلك أفضل من الإنفاق المصحوب بالمن والرياء. أى أن الحديث يستهدف تزكية النفس بذكر الله وطلب ما عنده، ويرى النية الطاهرة أرجح من العمل الكدر. وهذا معنى حق، فإن الآفات التى تسطو على الأعمال الصالحة تذهب قيمتها عند الله، وتمحق ثمرتها فى المجتمع.
حقيقة الذكر المطلوب:
Sayfa 62