تنازع قسس الروم مع قسوس الكاثوليك في القدس سنة (1260ه) في شأن يتعلق بكنيسة القيامة، وتصدت الروسيا للانتصار للروم توسلا إلى الأغراض الكامنة في نفس الإمبراطور «نقولا» إمبراطور الروس، فتداركت الدولة الأمر وأخذت على نفسها إجراء التحقيق اللازم في هذا الأمر وإحقاق الحق حيثما كان، ولم تدع للروسيا ولا لفرنسا سبيلا للتداخل في هذا الحادث ، ولما كادت تصل إلى فصل النزاع، ووضع الحق في نصابه لعبت يد الدسائس الروسية بقسوس الروم فلم يقتنعوا بالتحقيق الذي عملته الدولة، وتعدوا على حقوق اللاتين في الكنيسة وهدموا منها مكانا يختص باللاتين، فاحتج على ذلك سفير فرنسا في الأستانة المسيو بوركنه، وطلب إلى الباب العالي عمل تحقيق دقيق في هذا الأمر، مستندا إلى المعاهدة المنعقدة بين فرنسا والدولة العثمانية سنة (1156ه) التي تخول لفرنسا حق حماية الكاثوليك في الشرق.
أما الإمبراطور «نقولا» فقد اغتنم فرصة انقلاب الجمهورية وارتقاء نابليون على عرش فرنسا، وما تتمحض به تلك المملكة من الفتن مع اطمئانه من جهة أوستريا لوقوفها موقف المحتاط الحذر بإزاء المبادئ الحرة التي تسربت إليها عقب الثورة الفرنساوية، يضاف إلى هذا النزاع الواقع يومئذ بين الباب العالي والجبل الأسود فأوعز إلى سفيره في الأستانة المسيو «تتوف» بتذكير الباب العالي بالمادة الواردة في معاهدة (قينارجه) المعقودة سنة (1190ه) التي تبحث عن عدم معارضة الروم من أي قبيل كان في إقامة شعائرهم الدينية في القدس الشريف وبيت لحم، فقدم السفير تقريرا إلى الباب العالي يتضمن مطالب الإمبراطور في إنصاف قسوس الروم.
فألف الباب العالي لجنة لهذا القصد غير اللجنة الأولى التي بدأت بالتحقيق، فلم تفلح في إرضاء الروم مع كل ما صرفته من العناية في جلاء الحقيقة وصرف أسباب النفور، بل استأنف الروم التعدي على الكاثوليك، وأوقعوا بهم في مشاجرة وقعت بين الفريقين، فألف الباب العالي لجنة ثالثة مختلطة من روم وكاثوليك برئاسة عفيف بك، فسافرت من الأستانة سنة (1268ه) وبقيت في القدس إلى السنة التالية، ووفقت بين الفريقين جهد الإمكان، هذا مع شدة ما كانت تلاقيه الدولة من تصعب كل من فرنسا والروسيا وتشبث كل دولة منهما بما يوافق مصلحتها السياسية.
ولما لم يكن قصد الإمبراطور «نقولا» إلا الحرب بإيجاد أي سبب كان من الأسباب، أنفذ إلى الأستانة البرنس منشيكوف لأجل المخابرة في مسألة الأماكن المقدسة في بيت لحم والقدس في الظاهر، وفي الباطن للتحكك بالدولة وخلق سبب للحرب، وبمجرد وصوله إلى الأستانة أظهر من العجرفة والغرور ما جعل فؤاد أفندي - باشا فيما بعد - ناظر الخارجية يمتنع عن مقابلته حتى اضطر إلى تقديم استعفائه، وتولى نظارة الخارجية بعده رفعت باشا.
وفي أثناء ذلك اجتمع الإمبراطور «نقولا» مع سفير إنكلترا لدى حكومته السير هاملتون سيمور وأسر إليه بما في طويته من المقاصد الخبيثة نحو الدولة العثمانية، مظهرا له ضرورة اتحاد دولة إنكلترا معه على اقتسام تركيا، وأن الدولة العثمانية أصبحت كالرجل المريض الذي تحتم اليأس من شفائه، فأولى بهاتين الدولتين المبادرة إلى اقتسام تركته قبل أن يموت، ويقوم النزاع على اقتسامها بين الدول، وعرض عليه أن تأخذ إنكلترا مصر وكريد، وأن تكون الصرب ومقاطعات الدانوب وبلغاريا حكومات مستقلة تحت حماية الروسيا، وإذا دعت الضرورة إلى احتلال جنوده (أي جنود الروسيا) الأستانة، تكون كأمانة في يد الروسيا ليس لها حق التملك عليها.
وكان مما قاله له: إني أكلمك الآن باعتبارك صديقا لي، وإذا توصلنا إلى الاتفاق مع دولتك على هذا الأمر، فلا تهمني البقية (يريد بقية الدول) ولا أخاف مما يصنع أو يريد صنعه الآخرون (يعرض بفرنسا والنمسا).
فكان جواب السفير له: إن تعهد هذا المريض بالعلاج والاعتناء به حتى يشفى من مرضه وتعود له قوته خير من القيام إلى اقتسام تركته، الذي يجر إلى حرب تسيل فيها الدماء أنهارا.
ثم كتب السفير بما دار بينه وبين القيصر من الكلام وزاعت كلمات القيصر التي تنم عن مقاصده بين الدول، فأكبرن الأمر، وعد القيصر إفشاء السر خيانة من السير سيمور، ولكن لا خيانة فيما فيه المصلحة في شرع السياسيين.
ولما تأكدت عند الدول مقاصد الروسيا أمضيت بين فرنسا وإنكلترا معاهدة في لوندرة تقتضي المحافظة على أملاك الدولة بالمال والرجال.
وبعد أمور يطول شرحها أعلنت الحرب الدولية على الروسيا بعد أن بدأت بالعدوان باحتلال الإفلاق والبغدان ومهاجمة الأسطول العثماني في سينوب على حين غرة منه وتدميره كله.
Bilinmeyen sayfa