وقررها شرعكم وأرشدتكم إليها آداب دينكم، ولا تجعلوا إليكم سبيلا لطعن الطاعنين أو مؤاخذة المساكنين في التقاطع مع غيركم من أهل الملل الأخرى، وكونوا أوسع صدرا من غوغائهم ومتعصبيهم يعرفون لكم بعد ذلك جميلكم، ويحفظون جواركم متى حفظتم جوارهم، ولا يمنعنكم ما تسمعونه من تهم الأوروبيين وغلوهم في ذم المسلمين أن تحسنوا إلى أهل جواركم وتكذبوا مع الزمن مفتريات أعدائكم، فسيأتي يوم يحصحص فيه الحق، ويعترف العالم أجمع أن المسلمين خير الناس معاملة للناس واستمساكا بالفضيلة، وأن الشرق منبت الإنسانية الأولى سيكون بأهله مجمع الإنسانية الفاضلة إلى ما شاء الله.
إن الأوروبيين يقولون أوروبا للأوروبيين ودولهم لا تزال تدأب على العمل لتقليص ظل سيادة المسلمين عن آخر ملك لهم في أوروبا، فلا حرج عليكم أن تقولوا مثلهم إن الشرق للشرقيين، وأن تحققوا هذا القول لا بالجلبة والضوضاء بل بالتماس القوة من طرق العلم، نعم من طرق العلم إذ لا قوة بغير العلم، فاليابان في أقصى الشرق سبقتكم إلى تحقيق هذه الأمنية، فكونوا مثل أولئك القوم في أدناه تتحقق حينئذ آمالنا في أن الشرق للشرقيين وتصافحكم أوروبا كما صافحت اليابان مصافحة الصديق للصديق؛ لأنها في حاجة إليكم وأنتم في حاجة إليها.
فهي تحتاج إلى ترويج متاجرها في الشرق وأنتم تحتاجون إليها في تلقي دروس المدنية عنها، وفي أخذ العلوم النافعة منها، فالحاجة متبادلة حتما، ولا غنى للشرق عن الغرب وبالعكس.
وبعد هذا كله يجب أن تعلموا أن من الإنصاف والعدل الاعتراف بفضل المدنية الأوروبية التي نهضت بالإنسانية إلى منزلة سامية لم تبلغها من قبل، وأن الاحتكاك بالأوروبيين قد نفع الشرق نفعا محسوسا نلمسه بالأيدي لمسا، فنحن مدينون لهم بالرقي العقلي والصناعي، فلا يمنعنا عنت ساستهم بنا من معاشرتهم بالمعروف والاعتراف لهم بالفضل وتوثيق عرى الصلة الإنسانية معهم في كل مكان وزمان، وبعد فإنا في حاجة إلى صداقة بعض الدول الأوروبية، فأية حكومة منهن عاملتنا بالمعروف ومهدت لقوم منا سبيل الحرية والاستقلال فلنحرص على صداقتها، ولنعرف لها صنيعها، ولعل في نهضة المسلمين العلمية وحركتهم الفكرية وتشربهم روح الديمقراطية ما يقرب أوان التوفيق بين مصالح الشرق والغرب، ويدعو الدول إلى مصافاة الأمم الإسلامية؛ إذ هذا أبقى للمودة، وأدعى لاستفادة الغرب من الشرق، وإنما يستفيد الغرب من الشرق إذا راعى في تطلب المصلحة قاعدة تبادل المنافع دون التمسك بالأنانية وحب الأثرة ومصادرة الأمم في حقوقهم الطبيعية التي تحرص عليها الإنسانية المتمدنة؛ فيستحيل أن يفرط بها الشرق العريق في المدنية وحب الاستقلال. (4) نصيحة لغير المسلمين
إن العالم يسير إلى الديمقراطية الصحيحة سيرا حثيثا يجعل حياة الأمم السياسية بمعزل عن الاعتقادات بحيث لا يكون تباين اعتقادين في شعب واحد مانعا من توثق عرى القومية أو مباينا بين أغراضها السياسية، وقد سبق الغرب الشرق لهذا العهد إلى هذه الديمقراطية، وبدأ الشرق يحس بها أو يشعر بالحاجة إليها بعد أن ثقلت عليه سيطرة الغرب، وأنهكه طول التفرق والانقسام، فليس المسيحي واليهودي وغيرهما بأقل حاجة من المسلم إلى الاعتضاد بالقومية وتوثيق وشائج الإخاء الوطني للدخول في تلك الديمقراطية الصحيحة التي ترفع شأن الأمم وتحوط حياة الأقوام السياسية بسور من القوة.
وهذا ما نريد أن ننبه إليه أهل جوار المسلمين من أرباب الملل الأخرى حيثما جمعهم جميعا وطن واحد وجبلوا من طينة واحدة، ونخالهم يسلمون معنا أن عصور الجهالة التي كان انطفأ فيها مصباح العلم في أيام الاستبداد الغابر الذي طمس معالم الفضيلة الدينية والوطنية ونفث في المسلمين والمسيحيين وغيرهم سم التعصب قد مضى أمره وذهب سلطانه، إلا أثرا منه في النفوس نرجو أن يعالجه العلم بالأدواء النافعة ويحل محله الوفاق والحب والمصافاة.
العلم هو رسول السلام في هذا العصر، والمشرق على القلوب، ونرى الشرقيين عامة قد تنبهوا إليه وأخذوا بالحظ الوافر منه وإن تفاوتوا في النسبة بين السابق واللاحق والمبتدئ والمتوسط، وما دامت السيادة مؤكدة في المستقبل للعلم فلنتلقاها من الآن بصدر رحيب ولنمهد لها السبيل الذي لا عوج فيه، وخير الذرائع إلى ذلك أن يسمع إخواننا من أهل الملل الأخر نصيحتنا التي أسمعناها للمسلمين بنبذ التعصب وإزالة أسباب البغضاء والتنافر التي بينهم وبين المسلمين، وأن يحفظوا حق الجوار والسكن والجنسية للمسلمين حيثما جمعهم وإياهم وطن واحد، وأن يمهدوا بذلك للشرق طريق الدخول في الديمقراطية التي يسير إليها العالم بحكم الحاجة، وأن يعلموا أن الشرقي مهما كان دينه لا يكون في عوائده وأخلاقه ومعيشته وحكومته غربيا قط، ولا الغربي يقبل أن يكون الشرقي غربيا قط؛ إذ إن الحياة السياسية في أوروبا قد صارت أو كادت تصير بمعزل عن الاعتقاد، فالغربي إذا حكم في الشرق مسيحيا مثلا لا ينظر إلى ما بينهما من المشاركة في الاعتقاد، بل ينظر إلى المصلحة، وهذا الغرب أصبح لهذا العهد يحكم القسم الأكبر من آسيا وإفريقيا، فهل صير المحكومين منه غربيين، أي أعطاهم من الحقوق ما له وجعل عليهم منها ما عليه؟ كلا، بل هو يعتبرهم أحط منه منزلة وأبعد عنه مشاكلة؛ لذا ترى القانون الأساسي لكل دولة أوروبية لا يشمل سكان ممالكها في آسيا وإفريقيا، بل اختص هؤلاء بحكم مخصوص لا يمتاز عن حكم المالك في المملوك مع أن الشرقيين سواء في الحقوق عند أية حكومة شرقية مهما اختلفوا في الأديان، فالمسيحي في حكومة إسلامية له ما للمسلم وعليه ما عليه، والمسلم في الصين في نظر حكومتها الوثنية كالبوذي لا فرق بينهما في المعاملة؛ إذن فالشرقي سيد نفسه ما دام سيدا في بلاده، فليعتبر بهذا إخواننا الذين يخالفونا في الاعتقاد من أي نحلة كانوا، وليتاكتفوا مع المسلمين على المضي في سبيل العلم والترقي والديمقراطية الصحيحة التي يسير إليها الشرق كما سار الغرب، وليحققوا بذلك آمال الشرق في بنيه وخير الأعمال ما سبقته العزيمة الصادقة وكانت مطية صاحبه الإخلاص.
كلمتنا مع ساسة أوروبا
بقي علينا أن نقول كلمة لساسة أوروبا وقادة الأمور فيها لعلها تصادف منهم قلوبا واعية تنصر الحق ولو يوما، والإنسان كما أنه ليس بخير محض، فهو ليس بشر محض، بل هو قابل للأمرين، وربما كان إلى الخير أقرب منه إلى الشر.
يعلم مما تقدم كله أن الفرص التي سنحت للدول الأوروبية في مناهضة المسلمين واقتسام أملاكهم في القارات الثلاث إنما كان سببها تخاذل ملوك المسلمين وانقياد الأمة لحكم الأشخاص بحيث كان كل شعب من المسلمين لا يحس ولا يعتبر بمصائب الشعب الآخر؛ لأنه مسلوب الإرادة بقوة الحاكم المطلق، ضعيف الحس؛ لشدة ما توالى عليه من الإحن والمحن من وجه، ومن وجه آخر كان المستبدون من أمرائه يحجبون عنه نور المدنية والعلم الصحيح بحجب صفيقة لا ينفذ منها إلا شعاع ضئيل يكاد لا ينبه الحس، شأن الحكومات المطلقة مع الرعية في كل زمان ومكان.
Bilinmeyen sayfa