وأما تأويل قوله: { وما هم بمؤمنين } ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنا بالله وباليوم الآخر فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم، وضد ما في عزائم نفوسهم. وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية من أن الإيمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق أنهم قالوا بألسنتهم: { آمنا بالله وباليوم الآخر } ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك. وقوله: { وما هم بمؤمنين } يعني بمصدقين فيما يزعمون أنهم به مصدقون.
[2.9]
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * قال أبو جعفر: وخداع المنافق ربه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكم الله عز وجل،اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء، فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله. فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية، فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين باظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن، وذلك من فعله وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه ظنا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه: { وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون. وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك كان ابن زيد يقول. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألت عبد الرحمن بن زيد، عن قول الله جل ذكره: يخادعون الله والذين آمنوا إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظهروا. وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين: إن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا، بعد علمه بوحدانيته، وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبونه من نبوة نبيه واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفر مصرون.
فإن قال لنا قائل: قد علمت أن المفاعلة لا تكون إلا من فاعلين، كقولك: ضاربت أخاك، وجالست أباك إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه. فأما إذا كان الفعل من أحدهما فإنما يقال: ضربت أخاك وجلست إلى أبيك، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه: خادع الله والمؤمنين. قيل: قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب: إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة، أعني «يخادع» بصورة «يفاعل» وهو بمعنى «يفعل» في حروف أمثالها شاذة من منطق العرب، نظير قولهم: قاتلك الله، بمعنى قتلك الله. وليس القول في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من التفاعل الذي لا يكون إلا من اثنين كسائر ما يعرف من معنى «يفاعل ومفاعل» في كل كلام العرب، وذلك أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه على ما قد تقدم وصفه، والله تبارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده، كالذي أخبر في قوله:
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما
[آل عمران: 178] وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الآخرة بقوله:
يوم يقول المنفقون والمنفقت للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم
[الحديد: 13] الآية، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام بيفاعل ومفاعل. وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنما قيل: يخادعون الله عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته { وما يخدعون إلا أنفسهم }. قال: وقد قال بعضهم: { وما يخدعون } يقول: يخدعون أنفسهم بالتخلية بها. وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة. القول في تأويل قوله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم }. إن قال لنا قائل: أوليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحق عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟ قيل: خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين لأنا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقيقة خدعة جاءت لهم على المؤمنين، كما أنا لو قلنا: قتل فلان فلانا، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادع المنافقون ربهم والمؤمنين، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه: قاتل فلان فلانا ولم يقتل إلا نفسه، فتوجب له مقاتلة صاحبه، وتنفي عنه قتله صاحبه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: خادع المنافق ربه والمؤمنين، ولم يخدع إلا نفسه، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه لأن الخادع هو الذي قد صحت له الخديعة ووقع منه فعلها.
فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم، لأن ما كان لهم من مال وأهل فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة، والله بما يخفون من أمورهم عالم. وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه. فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه، وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها. والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارف باطلاعه على ضميره، وأن إمهال مستدرجه وتركه إياه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إياه وكثرة صفح المستدرج وطول عفوه عنه أقصى غاية، فإنما هو خادع نفسه لا شك دون من حدثته نفسه أنه له مخادع. ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته. وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به، وأنه غير سائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب ، فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة: { وما يخدعون إلا أنفسهم } دون: «وما يخادعون»، لأن لفظ المخادع غير موجب تثبيت خديعة على صحة، ولفظ خادع موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين بنفاقه، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ: { وما يخدعون إلا أنفسهم }. ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ: { وما يخدعون } أولى بالصحة من قراءة من قرأ: «وما يخادعون» أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضاد في المعنى، وذلك غير جائز من الله جل وعز. القول في تأويل قوله تعالى: { وما يشعرون }. يعني بقوله جل ثناؤه: { وما يشعرون }: وما يدرون، يقال: ما شعر فلان بهذا الأمر، وهو لا يشعر به إذا لم يدر ولم يعلم شعرا وشعورا، كما قال الشاعر:
عقوا بسهم ولم يشعر به أحد
Bilinmeyen sayfa