أن يقال: الله جل جلاله أله العبد، والعبد ألهه. وأن يكون قول القائل «الله» من كلام العرب أصله «الإله». فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك مع اختلاف لفظيهما؟ قيل: كما جاز أن يكون قوله: لكن هو الله ربي أصله: «لكن أنا هو الله ربي» كما قال الشاعر:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب
وتقلينني لكن إياك لا أقلي
يريد : «لكن أنا إياك لا أقلي» فحذف الهمزة من «أنا»، فالتقت نون «أنا» ونون «لكن» وهي ساكنة، فأدغمت في نون أنا، فصارتا نونا مشددة، فكذلك الله، أصله الإله، أسقطت الهمزة، التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة، وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة، كما وصفنا من قول الله: لكن هو الله ربي. القول في تأويل قوله تعالى: { الرحمن الرحيم }. قال أبو جعفر: أما الرحمن، فهو «فعلان»، من رحم، والرحيم فعيل منه. والعرب كثيرا ما تبنى الأسماء من فعل يفعل على فعلان، كقولهم من غضب غضبان، ومن سكر سكران، ومن عطش عطشان، فكذلك قولهم رحمن من رحم، لأن «فعل» منه: رحم يرحم. وقيل «رحيم» وإن كانت عين فعل منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء إذا كان فيها مدح أو ذم على فعيل، وإن كانت عين فعل منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا من علم: عالم وعليم، ومن قدر: قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها لأن البناء من «فعل يفعل» «وفعل يفعل» فاعل. فلو كان الرحمن والرحيم خارجين على بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم. فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤد عن معنى الآخر؟ قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها. فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟ قيل: أما من جهة العربية، فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب أن قول القائل «الرحمن» عن أبنية الأسماء من «فعل يفعل» أشد عدولا من قوله «الرحيم». ولا خلاف مع ذلك بينهم أن كل اسم كان له أصل في «فعل ويفعل»، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشد عدولا، أن الموصوف به مفضل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من «فعل ويفعل» إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما.
فهذا ما في قول القائل «الرحمن» من زيادة المعنى على قوله: «الرحيم» في اللغة. وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف. فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي يقول: «الرحمن الرحيم» قال: الرحمن بجميع الخلق. «الرحيم» قال: بالمؤمنين. وحدثنا إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد يعني الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا، والرحيم: رحيم الآخرة "
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو «رحمن»، وتسميته باسمه الذي هو «رحيم». واختلاف معنى الكلمتين، وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا، ودل الآخر على أنه في الآخرة. فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة؟ قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيهما أولى بالصحة. وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه، إما في كل الأحوال، وإما في بعض الأحوال. فلا شك إذا كان ذلك كذلك، أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعا. فإذا كان صحيحا ما قلنا من ذلك وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم في توفيقه إياهم لطاعته، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه مما خذل عنه من أشرك به فكفر، وخالف ما أمره به وركب معاصيه، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين لمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصا دون من أشرك وكفر به كان بينا أن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة، مع ما قد عمهم به والكفار في الدنيا، من الإفضال والإحسان إلى جميعهم، في البسط في الرزق، وتسخير السحاب بالغيث، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون. فربنا جل ثناؤه رحمن جميع خلقه في الدنيا والآخرة، ورحيم المؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة.
فأما الذي عم جميعهم به في الدنيا من رحمته، فكان رحمانا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم: 34] وأما في الآخرة، فالذي عم جميعهم به فيها من رحمته. فكان لهم رحمانا. تسويته بين جميعهم جل ذكره في عدله وقضائه، فلا يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، وتوفى كل نفس ما كسبت. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحمانا في الآخرة. وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته الذي كان به رحيما لهم فيها، كما قال جل ذكره: وكان بالمؤمنين رحيما فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به. وأما ما خصهم به في الآخرة، فكان به رحيما لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفا مما أعد لهم دون غيرهم من النعيم والكرامة التي تقصر عنها الأماني. وأما القول الآخر في تأويله، فهو ما: حدثنا به أبو كريب. قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه. وكذلك أسماؤه كلها. وهذا التأويل من ابن عباس، يدل على أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيم، وإن كان لقوله «الرحمن» من المعنى ما ليس لقوله «الرحيم» لأنه جعل معنى الرحمن بمعنى الرقيق على من رق عليه، ومعنى الرحيم بمعنى الرفيق بمن رفق به. والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويله من هذا القول الذي روينا عن ابن عباس وإن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، وأن للرحيم تأويلا غير تأويل الرحمن. والقول الثالث في تأويل ذلك، ما: حدثني به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللخمي من أهل فلسطين، قال: سمعت عطاء الخراساني، يقول: كان الرحمن، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم. والذي أراد إن شاء الله عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه، فلما تسمى به الكذاب مسيلمة وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر الله جل ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيم، ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يسمى أحد الرحمن الرحيم فيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره وإنما تسمى بعض خلقه إما رحيما، أو يتسمى رحمن، فأما «رحمن رحيم»، فلم يجتمعا قط لأحد سواه، ولا يجمعان لأحد غيره.
Bilinmeyen sayfa