فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها، فمر بهما إنسان وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء. فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض. وإنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر طلعت الحمراء قالها مرتين أو ثلاثا. ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا ولا أهلا قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع؟ قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم قال: فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت "
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمر ونهاهما. ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان. حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم، فقضيا عليها. فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم، فبعثا إليها أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت قالا لها وقضيا لها: ائتينا فأتتهما، فكشفا لها عن عورتهما. وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه فقالا: ادع لنا ربك فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء.
فوعدهما يوما وغدا يدعو لهما. فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما لصاحبه فقالا: نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ومع الدنيا سبع مرات مثلها. فامرا أن ينزلا ببابل، فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما. قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: «وما أنزل على الملكين» يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال فأما من جهة النقل فإجماع الحجة على خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار، وكفى بذلك شاهدا على خطئها. وأما قوله { ببابل } فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها، فقال بعضهم: إنها بابل دنباوند. حدثني بذلك موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي. وقال بعضهم: بل ذلك بابل العراق. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل، فأتت بها هاروت وماروت فتعلمت منهما السحر. واختلف في معنى السحر، فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به نظير الذي يرى السراب من بعيد، فيخيل إليه أنه ماء، ويرى الشيء من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته. وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته، يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته. كالذي: حدثني أحمد بن الوليد، وسفيان بن وكيع قالا: ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. حدثنا ابن وكيع، قال: اثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عقد سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوها في بئر حزم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر بصره ودله الله على ما صنعوا.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العقد فانتزعها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" سحرتني يهود بني زريق "
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته، واستسخار شيء من خلق الله إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم، أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناظرين بخلاف حقائقها التي وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب لحقائق الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الحق والباطل فصل، ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله:
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى
[طه: 66]. وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين: أن الساحر ينشىء أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم. كالموات والجماد والحيوان، وصحة ما قلنا. وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا، وأن يسحر الإنسان والحمار وينشىء أعيانا وأجساما. واعتلوا في ذلك بما: حدثنا به الربيع بن سليمان، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن أبي الزناد، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، كانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا: إما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا، فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت، فاقشعررت وخفت.
ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا، فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا، فقالت: بلى، لن تريدي شيئا إلا كان، خذي هذا القمح فابذري فبذرت، فقلت: أطلعي فأطلعت، وقلت: أحقلي فأحقلت، ثم قلت: أفركي فأفركت، ثم قلت: أيبسي فأيبست، ثم قلت: أطحني فأطحنت، ثم قلت: أخبزي فأخبزت. فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين، والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. قال أهل هذه المقالة بما وصفنا واعتلوا بما ذكرنا، وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه، قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وذلك لو كان على غير الحقيقة وكان على وجه التخييل والحسبان، لم يكن تفريقا على صحة، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة. وقال آخرون: بل السحر أخذ بالعين. القول في تأويل قوله تعالى: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر }. وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم فلا تكفر بربك. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: إذا أتاهما يعني هاروت وماروت إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة. فإن أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان وقيل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه، فلذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } الآية. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: { حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } قال: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر.
Bilinmeyen sayfa