الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد نبيه الكريم وعلى آله
بحمد الله نبتدئ ونختم، وبتأييده إلى كل مراد نتقدم؛ وبالصلاة على رسوله المصطفى نتبرك، وبالسلام عليه نرجو أن يسهل علينا المسك.
فالحمد لله على ما أولانا من النعم، وذكرنا به منها ونحن في العدم، ثم والاها على الدوام، وحملنا فيها على أتم الإكرام، حمدًا يوجب لنا به بلوغ الرضى، وصلاح الآخرة والأولى؛ وصلى الله على نبيه محمد المصطفى صلاة موصولة بالوصول، مقرونة بالقبول، مقتضية للبركات، قاضية بأفضل السعادات، وعلى آله وسلم عليه وعليهم تسليمًا دائم الأمد، وافر العدد، ما أشرق الضياء، ودامت الأرض والسماء.
أما بعد فإن بعض من التزم واجب شكره على جميل بره، لما وصلت إلى بغداد، وحصلت من إفادته على أفضل مستفاد، نبهنى على أن أجمع ما يحضرنى من أسماء رواة الحديث بالأندلس، وأهل الفقه والأدب، وذوى النباهة والشعر، ومن له ذكر منهم، أو ممن دخل إليهم، أو خرج عنهم في معنى من معانى العلم والفضل، أو الرياسة والحرب.
فأعلمته ببعدى عن مكان هذا المطلوب، وقلة ما صحبنى من الغرض المرغوب، وأنى إن رمته على قلة ما عندى، وتعاطيته على انقطاع موادى وبعدى، لم أخل من أحد وجهين: إما أن أبخس القوم حظهم
1 / 1
وأنقصهم، فأتعرض للائمتهم فيما أوردت، وأقف موقف الاعتذار فيما له قصدت؛ وإما أن أوهم من رأى قلة جمعى، ونهاية ما في وسعى أنه ليس من أهل الفضل في تلك البلاد إلا نزر من الأعداد، فأكون بعد احتفالى لهم قد قصرت بهم، وعند اجتهادى في ذكرهم قد أخللت بفخرهم، وما أرانى مع ذلك إلا متصديًا لمذمة الطائفتين، منتظمًا لتتبع الفرقتين لا سيما ولعلماء أقطار ذلك البلد في أنواع هذا المعنى كتب كثيرة العدد، منها لابن حارث، ولابن عبد البر، ولأحمد بن محمد التاريخى، وابن حيان، وسائر المؤرخين هناك على تباين مراتب جمعهم واهتمامهم، مما لو حضرنى بعضه فحذفت التكرار، واقتصرت على العيون، ووصلت به ما عندى، لا ستطيل واستكثر؛ على أنى أعلم أن هذا المقصد الذي سبق إلى تقييده المؤرخون من أسلافنا، وتلاهم التابعون لهم في ضبطه من أخلافنا، جم الفائدة، عظيم العائدة، لما فيه مما لا يخفى على متميز، إلى جهة من جهات المعرفة متحيز؛ ولحرصى على قبول هذا التنبيه، وإن قل ما عندى فيه، بادرت إلى جمع المفترق الحاضر، وإخراج ما في الحفظ منه وإتعاب الخاطر، رجاء الثواب في تنويه بعالم، وتنبيه على فضل فاضل، وتوقيف على غرض، وتحقيق لنسب أو خبر؛ ولا يخلو أن يكون في أثناء ذلك زيادة علم تقتنى، أو ثمرة أدب وشعر تجتنى.
وعلينا إن بلغنا إلى المراد، في سلوك تلك البلاد، أن نستأنف الاستيفاء مع وجود المواد إن شاء الله ﷿، وبالله تعالى نستعيذ من موارد الزلل، وإياه نستعين على إدراك الصواب في القول والعمل، وهو حسبنا في كل أمل، ونعم الوكيل.
فأول ما نبدأ به أن نذكر وقت افتتاحها، ومن فتحها، ومن وقع إلينا
1 / 2
ذكره ممن دخلها من التابعين وممن وليها من الأمراء هلم جرا، ثم نذكر سائر من قصدنا ذكره مما في الحفظ أو في حاضر الكتب، مرتبًا على حروف المعجم، ونعتمد ذلك أيضًا في كل حرف إذ لم يصح لنا ترتيبهم على الأوقات، ولا على الطبقات؛ وكل ذلك على الاختصار المقصود؛ ومع ما في ذكر أمرائها وأزمانهم من المعرفة فإن فيه فائدة أخرى وهو أنا إذا لم نقف على تحديد وقت وفاة أحد ممن ذكرناه من غيرهم، نسبناه إلى أيام من عرفنا أنه كان في أيامه من الأمراء، فاستبانت بذلك طبقته، وعرف زمانه. فأما أول أوقات افتتاحها ففي سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، في القرن الثاني الذي أخبر النبي ﷺ أنه خير القرون بعد قرنه؛ وأما الذي تولى فتحها وكان أمير الجيش السابق إليها فطارق، قيل ابن زياد، وقيل ابن عمرو، وكان واليًا على طنجة مدينة من المدن المتصلة ببر القيروان في أقصى المغرب، بينها وبين الأندلس فيما يقابلها خليج من البحر يعرف بالزقاق وبالمجاز؛ رتبه فيها موسى بن نصير أمير القيروان. وقيل إن مروان بن موسى بن نصير خلف طارقًا هناك على العساكر، وانصرف إلى أبيه لأمر عرض له، فركب طارق البحر إلى الأندلس من جهة مجاز الخضراء، منتهزًا لفرصة أمكنته، فدخلها وأمعن فيها، واستظهر على العدو بها، وكتب إلى موسى ابن نصير بغلبته على ما غلب عليه من الأندلس وفتحه، وما حصل له من الغنائم، فحسده على الانفراد بذلك، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان يعلمه بالفتح، وينسبه إلى نفسه، وكتب إلى طارق يتوعده إذ دخلها بغير إذنه،
1 / 3
ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به؛ وخرج متوجهًا إلى الأندلس، واستخلف على القيروان ولده عبد الله وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين، وخرج معه حبيب ابن أبي عبيدة الفهرى ووجوه العرب والموالى وعرفاء البربر، في عسكر ضخم، ووصل من جهة المجاز إلى الأندلس، وقد استولى طارق على قرطبة دار المملكة، وقتل لذريق ملك الروم بالأندلس، فتلقاه طارق وترضاه، ورام أن يستسل ما في نفسه من الحسد له، وقال له: إنما أنا مولاك ومن قبلك وهذا الفتح لك، وحمل طارق ما كان غنم من الأموال، فلذلك نسب الفتح إلى موسى بن نصير لأن طارقا من قبله، ولأنه استزاد في الفتح ما بقى على طارق. وأقام موسى في الأندلس مجاهدًا وجامعًا للأموال، ومرتبًا للأمور بقية سنة ثلاث وتسعين، وسنة أربع وتسعين، وأشهرًا من سنة خمس وتسعين، وقبض على طارق؛ ثم استخلف على الأندلس ولده عبد العزيز بن موسى، وترك معه من العساكر ووجوه القبائل من يقوم بحماية البلاد، وسد الثغور، وجهاد العدو؛ ورجع إلى القيروان، ثم سار منها بما حصل له من الغنائم، وأعده من الهدايا إلى الوليد بن عبد الملك، ومعه فيما يقال طارق، فمات الوليد وقد وصل موسى إلى طبرية في سنة ست وتسعين،
فحمل
1 / 4
ما كان معه إلى سليمان بن عبد الملك؛ ويقال إنه وصل وأدرك الوليد حيا، فالله أعلم.
وأقام عبد العزيز بن موسى بن نصير أميرًا على الأندلس، إلى أن ثار عليه من الجند جماعة فيهم حبيب بن أبي عبيدة الفهرى، وزياد بن النابغة التميمي، فقتله بعضهم، وخرجوا برأسه إلى سليمان بن عبد الملك، بعد أن أمروا على الأندلس أيوب بن أخت موسى بن نصير؛ ويقال إنهم كتبوا إلى سليمان بما أنكروا من أمره فأمرهم بما فعلوه.
ثم اختلفت الأمور هنالك، ومكث أهل الأندلس بعد ذلك زمانًا لا يجمعهم وال؛ ثم ولى عليهم السمح بن مالك الخولاني قبل المائة؛ ثم ولى عليها الحر بن عبد الرحمن القيسى؛ ثم وليها عنبسة بن سحيم الكلبي، وعزل الحر بن عبد الرحمن؛ ثم وليها عبد الرحمن بن عبد الله العكى نحو العشر ومائة، وكان رجلًا صالحًا؛ ثم وليها عبد الملك ابن قطن الفهرى، ثم عقبة بن الحجاج، فهلك عقبة بالأندلس، فرد عبد الملك بن قطن، ثم جاء بلج بن بشر فادعى ولايتها، وشهد له بعض من كان معه، ووقعت فتن من أجل ذلك افترق أهل الأندلس فيها على أربعة أمراء، حتى أرسل إليهم واليًا أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي، فحسم مواد الفتنة، وجمعهم على الطاعة بعد الفرقة؛ وفي تقديم بعضهم على بعض اختلاف، إلا أن هؤلاء المذكورين كانوا أمراءها، وولاة الحروب فيها ايام بنى أمية قبل ذهاب دولتهم من المشرق.
1 / 5
وسنذكر إن شاء الله في الأبواب، ممن دخل الأندلس للجهاد من التابعين جماعة، منهم: محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري يروى عن أبي هريرة.
ومنهم: حنش بن عبد الله الصنعاني يروى عن علي بن أبي طالب، وفضالة ابن عبيد.
ومنهم: عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي يروى عن ابن عمر.
ومنهم: زيد بن قاصد السكسكى المصري، يروى عن عبد الله بن عمرو ابن العاص.
ومنهم: موسى بن نصير الذي ينسب الفتح إليه يروى عن تميم الدارى.
وقد جاء في فضل المغرب غير حديث؛ من ذلك ما أخرجه مسلم بن الحجاج في الصحيح. رواه عن يحيى بن يحيى، عن هشيم بن بشير الواسطى، عن داود بن أبي هند، عن أبي عثمان النهدى، عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله ﷺ قال: لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة، وهذا النص وإن كان عامًا لما يقع عليه، فللأندلس منه حظ وافر لدخولها في العموم، ومزية لتحققها بالغرب وانتهاء آخر المعمور فيه، وبعض ساحلها الغربي على البحر المحيط، وليس بعده مسلك.
ومن فضلها أنه لم يذكر قط على منابرها أحد من السلف إلا بخير وإلى الآن، وهي ثغر من ثغور المسلمين لمجاورتهم الروم، واتصال بلادهم ببلادهم وإنما قيل جزيرة الأندلس لأن البحر محيط بجميع جهاتها إلا ما كان الروم فيه من جهة الشمال منها، فصارت كالجزيرة بين
1 / 6
البحر والروم، وإلا فمنها إلى القسطنطينية بر متصل من جهة بلاد الروم؛ وقد بشر النبي ﷺ أهل تلك البلاد في هذا الحديث المتصل الإسناد، بظهور الإسلام فيها وثباته إلى أن تقوم الساعة بها؛ هذا مع زيادة أعداد الروم وبلادهم أضعافًا مضاعفة عليهم، وقلة المسلمين هنالك بالإضافة إليهم، وصح بخبر الصادق ﷺ أنه ثغر منصور إلى قيام الساعة والحمد لله رب العالمين.
1 / 7
فصل
وما زالت الولاة بالأندلس أيام بنى أمية تليها من قبلهم ومن قبل من يقيمونه بالقيروان أو بمصر؛ فلما اضطرب أمر بنى أمية في سنة ست وعشرين ومائة بقتل الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، واشتغلوا عن مراعاة أقاصى البلاد، وقع الاضطراب بإفريقية، والاختلاف بالأندلس أيضًا من القبائل، ثم اتفقوا بالأندلس على تقديم قرشى يجمع الكلمة إلى أن تستقر الأمور بالشام لمن يخاطب، ففعلوا، وقدموا يوسف ابن عبد الرحمن الفهرى أميرا، فسكنت به الأمور، واتفقت عليه القلوب، واتصلت إمارته إلى سنة ثمان وثلاثين بعد ذهاب دولة بني أمية بست سنين؛ وكان ذهاب دولتهم جملة بقتل مروان بن محمد بن مروان بن الحكم في بعض نواحى الفيوم من أعمال مصر، في آخر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة بعد بيعة أبي العباس السفاح بتسعة أشهر.
وكان ممن هرب إلى الأندلس من بني أمية عبد الرحمن بن معاوية، ونحن نذكر تاريخ وصوله إليها، وسبب ولايته عليها ومن وليها بعده من أولاده وغيرهم، إلى آخر ما عندنا، ثم نذكر ما بعد ذلك على ما شرطناه إن شاء الله، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله تعالى وجل.
أول أمراء بنى أمية بالأندلس عبد الرحمن، بن معاوية بن هشام، بن عبد الملك، بن مروان، يكنى أبا المطرف، مولده بالشام سنة ثلاث عشرة ومائة، وأمه أم ولد اسمها راح؛ هرب لما ظهرت دولة بنى
1 / 8
العباس، ولم يزل مستترًا إلى أن دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة في زمن أبي جعفر المنصور، فقامت معه اليمانية، وحارب يوسف ابن عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري الوالي على الأندلس فهزمه، واستولى عبد الرحمن على قرطبة يوم الأضحى من العام المذكور، فاتصلت ولايته إلى أن مات سنة اثنتين وسبعين ومائة. كذا قال لنا أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الفقيه: يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة. ورأيت في غير موضع يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبدة، فالله أعلم.
وكان عبد الرحمن بن معاوية من أهل العلم، وعلى سيرة جميلة من العدل. ومن قضاته: معاوية بن طليح الحضرمى الحمصى. وله أدب وشعر.
ومما أنشدونا له يتشوق إلى معاهده بالشام قوله:
أيها الراكب الميمم أرضى ... أقر من بعضى السلام لبعضى
إن جسمي، كما علمت، بأرض ... وفؤادى ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوتى غمضى
قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضى
1 / 9
؟ ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن ثم ولى بعد عبد الرحمن ابنه هشام، يكنى أبا الوليد، وسنه حينئذ ثلاثون سنة، فاتصلت ولايته سبعة أعوام إلى أن مات في صفر سنة ثمانين ومائة؛ وكان حسن السيرة متحيزًا للعدل، يعود المرضى ويشهد الجنائز، أمه حوراء.
ولاية الحكم بن هشام
ثم ولى بعده ابنه الحكم، وله اثنتان وعشرون سنة، يكنى أبا العاص، أمه أم ولد اسمها زخرف؛ وكان طاغيًا مسرفًا، وله آثار سوء قبيحة، وهو الذي أوقع بأهل الربض الوقعة المشهورة فقتلهم، وهدم ديارهم ومساجدهم؛ وكان الربض محلة متصلة بقصره، فاتهمهم في بعض أمره، ففعل بهم ذلك، فسمى الحكم الربضى لذلك؛ واتصلت ولايته إلى أن مات في آخر ذي الحجة سنة ست ومائتين.
ولاية عبد الرحمن بن الحكم
ثم ولي بعده ابنه عبد الرحمن، يكنى أبا المطرف، وله ثلاثون سنة، وأمه أم ولد اسمها حلاوة، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتبن؛ وكان وادعًا محمود السيرة.
1 / 10
ولاية الأمير محمد بن عبد الرحمن
ثم ولى بعده ابنه محمد يكنى أبا عبد الله، وأمه أم ولد اسمها نهتز؛ فاتصلت ولايته إلى أن مات في آخر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وكان محبًا للعلوم، مؤثرًا لأهل الحديث، عارفًا، حسن السيرة؛ ولما دخل الأندلس أبو عبد الرحمن بقى بن مخلد بكتاب مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة: وقرىء عليه، أنكر جماعة من أهل الرأى ما فيه من الخلاف واستشنعوه، وبسطوا العامة عليه، ومنعوه من قراءته، إلى أن اتصل ذلك بالأمير محمد، فاستحضره وإياهم، واستحضر الكتاب كله، وجعل يتصفحه جزءًا، جزءا، إلى أن أتى على آخره، وقد ظنوا أنه يوافقهم في الإنكار عليه، ثم قال لخازن الكتب: هذا كتاب لا تستغنى خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا؛ ثم قال لبقى بن مخلد: انشر علمك، وارو ما عندك من الحديث، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك. أو كما قال، ونهاهم أن يتعرضوا له.
ولاية المنذر بن محمد
ثم ولى بعده ابنه المنذر بن محمد، ويكنى أبا الحكم. وأمه أم ولد اسمها أثل، وكان مولده في سنة تسع وعشرين ومائتين، فاتصلب ولايته سنتين غير خمسة عشر يومًا، ومات وهو على قلعة يقال لها بباشتر محاصرًا لعمر بن حفصون:
1 / 11
خارجي قام هناك وتحصن. وكان موته في سنة خمس وسبعين ومائتين؛ وقد انقرض عقب المنذر.
ولاية عبد الله بن محمد
فولى بعده أخوه عبد الله بن محمد، وكان مولده سنة ثلاثين ومائتين؛ يكنى أبا محمد. أمه أم ولد اسمها عشار، طال عمرها إلى أن ماتت قبل موته بسنة وشهر؛ وكان وادعًا لا يشرب الخمر، وفي أيامه امتلأت الأندلس بالفتن، وصار في كل جهة متغلب، فلم يزل كذلك طول ولايته إلى أن مات مستهل ربيع الأول سنة ثلاث مائة.
ولاية عبد الرحمن الناصر
ثم ولى بعده ابن ابنه عبد الرحمن، بن محمد، بن عبد الله، وكان والده محمد قد قتله أخوه المطرف بن عبد الله في صدر دولة أبيهما عبد الله، وترك ابنه عبد الرحمن هذا وهو ابن عشرين يومًا، فولى الأمر وله اثنتان وعشرون سنة.
قال لي أبو محمد علي بن أحمد: وكانت ولايته من المستطرف، لأنه كان في هذا الوقت شابًا، وبالحضرة جماعة أكابر من أعمامه وأعمام أبيه، وذوى القعدد في النسب من أهل بيته، فلم يعترض معترض واستمر له الأمر، وكان شهمًا صارما، وكل من ذكرنا من الأمراء أجداده إلى عبد الرحمن بن محمد هذا، فليس
1 / 12
منهم أحد تسمى بإمرة المؤمنين، وإنما كان يسلم عليهم، ويخطب لهم بالإمارة فقط؛ وجرى على ذلك عبد الرحمن بن محمد إلى آخر السنة السابعة عشر من ولايته، فلما بلغه ضعف الخلافة بالعراق في أيام المقتدر، وظهور الشيعة بالقيروان، تسمى عبد الرحمن بأمير المؤمنين، وتلقب بالناصر لدين الله، وكان يكنى أبا المطرف، وأمه أم ولد اسمها مزنة، ولم يزل منذ ولى يستنزل المتغلبين حتى استكمل إنزال جميعهم في خمس وعشرين سنة من ولايته، وصار جميع أقطار الأندلس في طاعته، ثم اتصلت ولايته إلى أن مات في صدر رمضان سنة خمسين وثلاث مائة، ولم يبلغ أحد من بني أمية من الولاية مدته فيها.
ولاية الحكم المستنصر
ثم ولى بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن، ويلقب بالمستنصر بالله، وله إذ ولى سبع وأربعون سنة، يكنى أبا العاص؛ أمه أم ولد اسمها مرجان، وكان حسن السيرة، جامعًا للعلوم، محبًا لها، مكرما لأهلها، وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله هنالك؛ وذلك بإرساله عنها إلى الأقطار، واشترائه لها بأغلى الأثمان، ونفق ذلك عليه فحمل إليه، وكان قد رام قطع الخمر من الاندلس وأمر بإراقتها وتشدد في ذلك، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع أعماله، فقيل له إنهم يعملونها من التين وغيره، فتوقف عن ذلك. وفي أمره بإراقة الخمور في سائر الجهات يقول أبو عمر يوسف بن هارون الكندي قصيدته المشهورة فيها، متوجعًا لشاربها، وإنما أوردناها تحقيقًا لما ذكرنا عنه من ذلك، وهي قوله:
1 / 13
بخطب الشاربين يضيق صدري ... وترمضني بليتهم لعمري
وهل هم غير عشاق أصيبوا ... بفقد حبائب ومنوا بهجر
أعشاق المدامة إن جزعتم ... لفرقتها فليس مكان صبر
سعى طلابكم حتى أريقت ... دماء فوق وجه الأرض تجرى
تضوع عرفها شرقًا وغربًا ... وطبق أفق قرطبة بعطر
فقل للمسفحين لها بسفح ... وما سكنته من ظرف بكسر
وللأبواب إحراقًا إلى أن ... تركتم أهلها سكان قفر
تحريتم بذاك العدل فيها ... بزعمكم فإن يك عن تحري
فإن أبا حنيفة وهو عدل ... وفر عن القضاء مسير شهر
فقيه لا يدانيه فقيه ... إذا جاء القياس أتى بدر
وكان من الصلاة طويل ليل ... يقطعه بلا تغميض شفر
وكان له من الشراب جار ... يواصل مغربًا فيها بفجر
وكان إذا انتشى غنى بصوت ال ... مضاع بسجنه من آل عمرو
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فغيب صوت ذاك الجار سجن ... ولم يكن الفقيه بذاك يدرى
فقال، وقد مضى ليل وثان ... ولم يسمعه غنى: ليت شعري!
1 / 14
أجاري المؤنسى ليلًا غناء ... لخير قطع ذلك ام لشر
فقالوا إنه في سجن عيسى ... أتاه به المحارس وهو يسرى
فنادى بالطويلة وهي مما ... يكون برأسه لجليل أمر
ويمم جاره عيسى بن موسى ... فلاقاه بإكرام وبر
وقال: أحاجة عرضت فإني ... لقاضيها ومتبعها بشكر
فقال: سجنت لي جارًا يسمى ... بعمر وقال: يطلق كل عمرو
بسجنى حين وافقه اسم جار ال ... فقيه ولو سجنتهم بوتر
فأطلقهم له عيسى جميعًا ... لجار لايبيت بغير سكر
فإن أحببت قل لجوار جار ... وإن أحببت قل لطلاب أجر
فإن أبا حنيفة لم يؤب من ... تطلبه تخلصه بوزر
نواقعها من أجل النهي سرا ... وكم نهى نواقعه بجهر
وقد وقع لنا معنى هذا الخبر الذي نظمه يوسف بن هارون عن أبي حنيفة بإسناد؛ حدثناه الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الحافظ، قراءة علينا بدمشق من كتابه قال: أخبرني علي بن أحمد الرزاز قال: نا أبو الليث نصر بن محمد الزاهد البخاري قدم علينا، قال: نا محمد بن محمد بن سهل النيسابوري، قال: نا أبو أحمد بن محمد بن أحمد الشعيبي، قال: نا أسد بن نوح، قال: نا محمد بن عباد، قال:
1 / 15
نا القاسم بن غسان، قال: أخبرني أبي قال: أخبرني عبد الله بن رجاء الغداني، قال: كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكة فشواها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غزل بصوت وهو يقول:
أضاعوني واي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته كل يوم، وأبو حنيفة كان يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد، وركب بغلة واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبًا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل، فلم يزل الأمير يوسع له في مجلسه، وقال ما حاجتك؟ قال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال: يا فتى؟ أضعناك؟ فقال: لا. بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار، ورعاية الحق؛ وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان.
وكان الحكم المستنصر مواصلًا لغزو الروم، ومن خالفه من المحاربين، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة ست وستين وثلاث مائة؛ وقد انقرض عقبه.
1 / 16
؟؟
ولاية هشام المؤيد
ثم ولي بعده ابنه هشام يكنى أبا الوليد، وأمه أم ولد تسمى صبح، وكان له إذ ولى عشرة أعوام وأشهر، فلم يزل متغلبًا عليه، لا يظهر ولا ينفذ له أمر، وتغلب عليه أبو عامر محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور، فكان يتولى جميع الأمور إلى أن مات، فصار مكانه ابنه عبد الملك بن محمد الملقب بالمظفر، فجرى على ذلك أيضا إلى أن مات، فصار مكانه أخوه عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر، فخلط وتسمى ولي العهد، وبقي كذلك أربعة أشهر، إلى أن قام عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار يوم الثلاثاء لثمان عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلثمائة، فخلع هشام بن الحكم وأسلمت الجيوش عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أبي عامر، فقتل وصلب، وبقي كذلك إلى أن قتل محمد بن هشام بن عبد الجبار وصرف هشام المؤيد إلى الأمر، وذلك يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة أربع مائة، فيبقى كذلك وجيوش البربر تحاصره مع سليمان بن الحكم بن سليمان، واتصل ذلك إلى خمس خلون من شوال سنة ثلاث وأربع مائة، فدخل البربر مع سليمان قرطبة، وأخلوها من أهلها، حاشا المدينة وبعض الربض الشرقي، وقتل هشام، وكان في طول دولته متغلبًا عليه لا ينفذ له أمر وتغلب عليه في هذا الحصار واحد بعد واحد من العبيد، ولم يولد له قط.
1 / 17
ولاية محمد بن هشام المهدي
قام محمد بن هشام، بن عبد الجبار، بن عبد الرحمن الناصر، على هشام بن الحكم في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاث مائة، فخلعه وتسمى بالمهدي، وبقي كذلك إلى أن قام عليه يوم الخميس لخمس خلون من شوال سنة تسع وتسعين، هشام بن سليمان ابن الناصر مع البربر، فحار به بقية يومه والليلة المقبلة، وصبيحة اليوم الثاني، وقام عليه عامة أهل قرطبة مع محمد بن هشام، فانهزم البربر، وأسر هشام بن سليمان، فأتى إلى المهدي فضرب عنقه، واجتمع البربر عند ذلك، فقدموا على أنفسهم سليمان بن الحكم بن سليمان الناصر، ابن أخي هشام القائم المذكور، ونهض بهم إلى الثغر، فاستجاش بالنصارى وأتى إلى باب قرطبة، وبرز إليه جماعة أهل قرطبة، فلم تكن إلا ساعة حتى قتل من أهل قرطبة نيف على عشرين ألف رجل في جبل هناك يعرف بجبل قنطيش، وهي الوقعة المشهورة، ذهب فيها من الخيار. وأئمة المساجد، والمؤذنين خلق عظيم، واستتر محمد بن هشام المهدي أياما ثم لحق بطليطلة، وكانت الثغور كلها من طر طوشة إلى الأشبونة باقية على طاعته ودعوته، فاستجاش بالأفرنج، وأتى بهم إلى قرطبة، فبرز إليه سليمان بن الحكم مع البربر إلى موضع بقرب قرطبة على نحو بضعة
1 / 18
عشر ميلًا يدعى عقبة البقر، فانهزم سليمان والبربر، واستولى المهدي على قرطبة، ثم خرج بعد أيام إلى قتال جمهور البربر، وكانوا قد صاروا بالجزيرة فالتقوا بواد في آر فكانت الهزيمة على محمد ابن هشام، وانصرف إلى قرطبة فوثب عليه العبيد مع واضح الصقلبي، فقتلوه وصرفوا هشامًا المؤيد كما ذكرنا قبل، فكانت مدة ولاية محمد المهدي مذقام إلى أن قتل ستة عشر شهرًا من جملتها الستة الأشهر التي كان فيها سليمان بقرطبة، وكان هو بالثغر؛ وكان يكنى أبا الوليد، أمه أم ولد تسمى مزنة، وكان له اسمه عبيد الله، انقرض ولا عقب للمهدي، وكان مولد المهدي في سنة ست وستين وثلاث مائة.
ولاية سليمان بن الحكم المستعين
قام سليمان بن الحكم كما ذكرنا يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة تسع وتسعين وثلاث مائة وتلقب بالمستعين بالله، ثم دخل قرطبة كما ذكرنا في ربيع الآخر سنة أربع مائة، وتلقب حينئذ بالظافر بحول الله مضافًا إلى المستعين، ثم خرج عنها في شوال سنة أربع مائة فلم يزل يجول بعساكر البربر في بلاد الأندلس، يفسد وينهب، ويقفر المدائن والقرى بالسيف والغارة، لا تبقى البربر معه على صغير ولا كبير ولا امرأة، إلى أن دخل قرطبة في صدر شوال سنة ثلاث وأربع مائة. وكان من جملة جنده رجلان من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب، يسميان القاسم وعليًا ابنى حمود، بن
1 / 19
ميمون، بن أحمد، بن علي، بن عبيد الله، بن عمر، بن إدريس، بن إدريس ابن عبد الله، بن الحسن، بن الحسن، بن علي، بن أبي طالب، رضى الله عنه، فقودهما على المغاربة ثم ولى أحدهما سبتة وطنجة، وهو علي الأصغر منها؛ وولي القاسم الجزيرة الخضراء، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزقاق، وسعة البحر هناك اثنا عشر ميلا، وافترق العبيد، إذ دخل البربر مع سليمان قرطبة، فملكوا مدنًا عظيمة، وتحصنوا فيها، فراسلهم علي بن حمود المذكور، وقد حدث له طمع في ولاية الأندلس، وكتب إليهم يذكر لهم أن هشام بن الحكم إذ كان محاصرًا بقرطبة كتب إليه يوليه عهده، فاستجابوا له وبايعوه، فزحف من سبتة إلى مالقة، وفيها عامر بن فتوح الفائقي مولى فائق، مولى الحكم المستنصر، فأطاع له، وأدخله، مالقة فتملكها علي بن حمود، وأخرج عنها عامر بن فتوح، ثم زحف بمن معه من البربر، وجمهور العبيد إلى قرطبة، فخرج إليه محمد بن سليمان في عساكر البربر، فانهزم محمد ابن سليمان، ودخل علي بن حمود قرطبة، وقتل سليمان، بن الحكم صبرًا؛ ضرب عنقه بيده يوم الأحد لتسع بقين من المحرم سنة سبع وأربع مائة، وقتل أباه الحكم بن سليمان بن الناصر أيضا في ذلك اليوم، وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة، فكانت مدة سليمان مذ دخل قرطبه إلى أن قتل ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر وأياما، وقد كان ملكها قبل ذلك ستة أشهر كما ذكرنا، وكانت مدته مذ قام مع البربر إلى أن قتل سبعة أعوام وثلاثة أشهر وأياما، وانقطعت دولة بني أمية في هذا الوقت وذكرهم على المنابر في جميع أقطار الأندلس، إلى أن عاد بعد ذلك في الوقت الذي نذكره إن شاء الله.
1 / 20