هذا سؤال هام؛ لأنه يحدد مدى ما يستطيع العالم أن يتناوله بالتحويل في تجاربه العلمية، حتى لا يحاول المستحيل، وحتى لا ييأس مما هو ممكن؛ وقد أجاب ابن حيان عن السؤال إجابة دقيقة شاملة موجزة؛ إذ يقول إن الأشياء انقسمت قسمين؛ فهي إما بسيطة وإما مركبة، على أن كل ما نراه في الطبيعة من أشياء هو من قبيل المركبات، وتركيبها يكون على درجات؛ فمنها مركب أول، ومنها مركب ثان، ومنها مركب ثالث أو مركب المركب.
فأما العناصر الأولية البسيطة فمحال أن يخرج كل ما فيها بالقوة إلى وجود بالفعل؛ وذلك لأن العنصر البسيط هو بحكم بساطته هذه غير متناه، وهو لذلك غير فان - فالذي يتناهى إلى حدود معينة ويجوز عليه الفساد والفناء هو المركب - فإذا كان أمر العنصر البسيط هو كما ذكرنا، فليس كل ما فيه بالقوة خارجا إلى الفعل؛ إذ لو حدث ذلك لصار إلى انتهاء، وقد قلنا إنه غير متناه.
وأما المركب: الأول والثاني والثالث، فهو الذي يجوز عليه الخروج كله من القوة إلى الفعل؛ فجميع ما في الطبيعة يمكن خروج كل ما فيه من حالة الكمون إلى حالة العلن؛ أما ما يسمى بالمركب الأول، فهو الطبيعة على إطلاقها، وأما المركب الثاني فهو النار والهواء والأرض والماء، وأما المركب الثالث - أي مركب المركب - فهو الأجناس الثلاثة: الحيوان والحجر والنبات.
8
فمتى يمتنع خروج كائن من كائن آخر؟ يجيب جابر بقوله: «إن الأشياء التي يمتنع ويعسر خروجها من القوة إلى الفعل على ضربين: إما أن يرام من الأشياء ما ليس فيها بالقوة ... وإما أن يرام من الأشياء ما فيها بالقوة ولكن عسر خروجه إلى الفعل ... كالذي يروم خروج الماء من النار من أول وهلة: «فإن هذا (أي الماء) وإن كان لها (أي للنار) بالقوة ممتنع، إلا أنهم عملوه على ترتيب ... فأما أن يكون ذلك من أول وهلة فلا؛ وكذلك القائم القاعد بالقوة، ولكن بعد تقضي زمان القعود وانتهائه بحركة القاعد للقيام، وحركة الإرادة، وأمثال ذلك».» «وإذ قد بان ذلك، فإن في الأشياء كلها وجودا للأشياء كلها، ولكن على وجوه من الاستخراج؛ فإن النار في الحجر كامنة لا تظهر، وهي له بالقوة؛ فإذا زند أوري فظهرت، وكذلك الشمع في النحل؛ ولو أخذنا مائة ألف نحلة أو ألف كو نحل، ثم عصرناها وطبخناها ودبرناها تدبيرنا للعسل الذي فيه الشمع، لم يخرج منه دانق شمع، ولكن النحل إذا تغذى غذاء معتدلا، وعملت له الكوى التي يأوي إليها، وعمل العسل، واجتني ذلك العسل، خرج منه الشمع.» «فقد وضح من هذا القول أن التدبير على القصد المستقيم هو الذي يخرج ما في قوى الأشياء - مما هو بالقوة إلى الفعل - فيما يخرج هو بطبعه، وفيما لا يخرج حتى يخرج». «لأن في قوى الأشياء ما يخرج بغير تدبير مدبر، ولكن الطبيعة علة خروج الطلع وخروج الرياحين البرية التي لا تعالج بالسقي واللقاح وأمثال ذلك، فتخرج من القوة إلى الفعل بأنفسها وفي زمانها، وأما غير ذلك مما علته إخراج التدبير للأشياء «فهو محتاج إلى تدبير طريقة لإخراجه».»
9
في هذا النص الدقيق الواضح نجد فلسفة الكيمياء كلها عند ابن حيان؛ وأساسها هو أن الكيموي يحذو حذو الطبيعة في تكوينها للأشياء، وكل الفرق هو أن الطبيعة تعمل من تلقاء نفسها، وأما الكيموي فيعمل عمله بتجربة مدبرة، لكن كل ما تؤديه الطبيعة من عمليات تحويل الأشياء بعضها إلى بعض، هو في مستطاع الكيموي أن يؤديه؛ غير أن الأمر يحتاج من الكيموي إلى تبصر وحذر؛ فقد لا يكون التحويل ممكنا بضربة واحدة، بل يتطلب خطوات متدرجة تنتهي آخر الأمر إلى النتيجة المطلوبة؛ ولو أتقن العالم دراسة موضوعه وما يحتاج إليه من خطوات في عملية تحويله، لأمكنه لا أن يحاكي الطبيعة في فعلها فقط، بل أن يعمل ما تعمله الطبيعة في وقت أقصر؛ إذ قد يتطلب تكوين الذهب في حضن الطبيعة آلاف السنين، لكن الكيموي في مستطاعه أن يعمل العملية نفسها في فترة وجيزة. ويلخص جابر فلسفته الكيموية هذه في جملة واحدة ترد في «كتاب السبعين» يقول فيها: «في قوة الإنسان أن يعمل كعمل الطبيعة.»
10
لا فرق في ذلك بين حجر ونبات وحيوان وإنسان، وسنذكر تفصيل ذلك في حينه.
فلعلنا بعد هذا نفهم مراد جابر عندما عرف الكيمياء بقوله: «حد الكيمياء إظهار ليس في أيس ... إذ «ليس» عندهم عدم، و«أيس» عندهم وجود، وكذلك الكيمياء إنما هي إعطاء الأجسام أصباغا لم تكن لها.»
Bilinmeyen sayfa