ومن أوائل العلوم يتدرج الأستاذ بتلميذه من مرتبة إلى مرتبة حتى يصير في عداد الأستاذين الذين يجب عليهم للتلامذة مثل ما وجب له في أول أمره؛ وإذا بلغ التلميذ إلى هذه المرتبة من العلم ومن رموزه وصغائره ولطائف ما فيه، أصبح واجبه أن يعلمه، فإن لم يفعل ذكره أستاذه بذلك قبل أن ينتقل إلى تلميذ سواه؛ والأستاذ الذي يغفل عن تلميذه يكون خائنا والخائن لا يؤتمن، ومن لا يؤتمن لا يؤخذ عنه علم؛ لأن العالم لا يكون إلا صادقا.
وبالجملة فإني أقول: إن سبيل الأستاذ والتلميذ أن يكونا متعاطفين بعضهما على بعض تعاطف قبول، وأن يكون التلميذ كالمادة، والأستاذ له كالصورة - انتهت مقالة الأستاذ والتلميذ.
وأنه لمما يتصل بموضوع الأستاذ والتلميذ ما قد ذكره «جابر» في مواضع كثيرة جدا من الطريقة التي ينبغي للدارسين أن يتناولوا كتبه بها، ونخص بالذكر في سياقنا هذا شروطه التي يشترطها على القارئ؛ لأنها شروط منهجية سليمة في كل بحث علمي يرجع فيه صاحبه إلى النصوص والأصول والوثائق.
ذلك أن جابرا يشترط على الدارس أن يقرأ كل كتاب من كتبه ثلاث قراءات متتالية، لكل قراءة منها هدف خاص؛ أما القراءة الأولى فللتثبت من صحة ألفاظ النص، ومن معاني تلك الألفاظ، وأما القراءة الثانية فلدراسة هذا النص، لا من حيث معانيه المباشرة، بل بغية الوصول إلى مدلولاته البعيدة الخفية، فما أكثر ما يكشف تحليل النص عن معان ما كانت لتظهر لو وقف الدارس عند ظاهر اللفظ وحده، دون الغوص إلى ما هو منطو في تضاعيفه وثناياه، وأما القراءة الثالثة فهي لتبويب المعاني وتصنيفها لعلنا نجمع الشبيه إلى شبيهه، أو نوازن بين المتباين منها، تصنيفا وموازنة من شأنهما أن يبلغا بنا الغاية المرجوة من موضوع الدراسة.
18
على أن جابرا اشترط كذلك شرطا للقراءة الدارسة الفاحصة، هو أيضا في صميم المنهج العلمي السليم؛ إذ يشترط على الدارس أن يجمع كتبه كلها أولا قبل أن يهم بقراءة بعضها، لكي يضيف ما في كل كتاب منها إلى ما في الآخر،
19
لأن الكتاب الواحد قد ينفرد بمعنى واحد لا يشاركه فيه غيره
20
وعندئذ يكون الاكتفاء بدراسة بعض كتبه دون بعض مؤديا إلى تكوين فكرة مهوشة ناقصة عن مذهبه؛ هذا فضلا عن أن كل كتاب من كتبه - كما يقول هو نفسه - إنما يعد شرحا لبقية الكتب كلها، وهو في ذلك يقول عن كتبه: «فإنا إنما نضرب المثل بعد المثل في المواضع على تفسير كتاب من كتاب في مسألة تمر بنا أو شيء مثل ذلك، فإن قواعد هذه الكتب إنما هي أنا نذكر في كل كتاب خاصة لجميعها ليست في غيره من الكتب، وبعضها يشرح بعضا.»
Bilinmeyen sayfa