حسن إذن، هذا الأستاذ الجامعي يعتقد، مثله في هذا مثل بعض مبعوثينا والداعين منا إلى النظام البرلماني الحر، أن المقياس الوحيد لانتشار الحرية في بلد ما، هو قدرة الجماهير في هذا البلد أو الأفراد على نقد رؤساء حكوماتهم أو الأوضاع السياسية فيها. وبصرف النظر عن أن الحرية الحقيقية أو الديمقراطية الحقيقية بعيدة كل البعد عن هذا المقياس السطحي التافه لمفهوم الحرية، ولكني حتى في هذا كنت دائما أرد على كل هؤلاء الذين كانوا يناقشونني بشدة عن الأوضاع في بلدنا، محاولين إحراجي بقولهم إن المواطن منا ممنوع من قول رأيه ولا يستطيع أو يملك حق التعبير عنه، كنت أرد عليهم بقولي إن هذا غير صحيح، وإن نقد الحكومة في مصر يجري علنا.
إن كمية النقد التي نقرؤها في جرائدنا ومجلاتنا ومسرحياتنا وقصصنا للمسئولين عندنا ولكافة أوجه الحياة، لا يوجد مثلها في أية صحافة من صحف العالم وكل ما في الأمر أنها جزء من الإشاعات التي تشاع عنا في الخارج والتي تحاول تصوير الأوضاع هنا تصويرا ظالما بعيدا عن الحقيقة. وكدليل عملي أقدمه لهذا الأستاذ وللكثيرين غيره، ها أنا ذا أنشر تلك الفقرة من رسالته، أنشرها بحرية تامة كما يرى، وبلا رقابة إذ لا توجد رقابة على صحفنا.
إن الكاتب يتساءل: هل تستطيع الجماهير في مصر أن تهاجم رئيس الدولة لو أرادت؛ إذ الجماهير في الولايات المتحدة «قلعة الحرية والديمقراطية» تهاجم جونسون وسياسته؟ متخذا من هذا دليلا على أن الجماهير في مصر مقيدة الحرية، وأن الجماهير في أمريكا مطلقة الحرية.
ألف باء الحرية
إن الأستاذ الأمريكي في هذا يتجاهل ألف باء القضية، وألف باء قضية الحرية ليس هو قدرة الشخص أن يقف في هايد بارك أو واشنجطن سكوير ويهاجم الملكة أو الرئيس جونسون، ولكن المشكلة هي في فعالية الرأي حين يعبر عنه، وقدرة هذا الرأي على أن يوضع موضع التنفيذ. إن زاوية هايد بارك في لندن هي جزء من العرض السياحي الذي تهتم به بلدية لندن باعتبارها مكانا «يتفرج» فيه الناس على نماذج لحرية الرأي، ولكن، هل لعبت هايدبارك أو خطباؤها دورا ما في تغيير دفة السياسة البريطانية؟ هل أمكن لحرية القول هذه أن تتحول في يوم إلى قوة سياسية حقيقية؟ لم يحدث مطلقا فالآلة البريطانية الاستعمارية تتحرك دوما في إطار المصالح الاستعمارية البريطانية دون أن تعبأ للحظة بهبهبة خطباء هايد بارك. والحرية الأمريكية أكذوبة بدليل أنه رغم تمتع الشعب حسب نص الدستور بحقه في قول رأيه والتعبير عنه، فإن هذا الرأي والحق لا أثر لهما مطلقا على السياسة الأمريكية؛ فلو كانت الحرية في المجتمع الأمريكي حرية حقيقية لتوقفت الحرب في فيتنام؛ فأغلبية الشعب الأمريكي ضد الحرب الفيتنامية. ومع هذا، ومع الأصوات الكثيرة التي تنادي صباح مساء وتطالب بإيقاف الحرب فالحرب مستمرة، والآلة الاستعمارية الأمريكية ماضية في طريقها تضرب فيتنام الشمالية وتقذف بمئات الآلاف من الشبان الأبرياء إلى أتون الحرب دون أن تحفل قيد شعرة برأي الشعب الأمريكي.
إن مهاجمة الشعب الأمريكي لجونسون وسياسته ليست - كما يريدنا الأستاذ الأمريكي أن نعتقد - دليلا على تمتع الشعب الأمريكي بالحرية، ولكنها دليل على خطأ السياسة الأمريكية.
وإن عدم مهاجمة الشعب المصري لرئيس الدولة ولسياسته ليس سببه أبدا أن الشعب ممنوع من حقه في إبداء رأيه، ولكنه ببساطة دليل على أن الشعب المصري يوافق ويؤيد الرئيس عبد الناصر في سياسته. إن بقاء الثورة المصرية خمسة عشر عاما في الحكم ليس دليلا على أن هذه الثورة تفرض وجودها بالقوة وتسحق معارضيها، ولكنه دليل على رضاء الشعب عن هذه الثورة وتأييده المطلق لها والتفافه حولها. إن الغريب أن العقلية الغربية تتصور أن الثورة المصرية ليست إلا آراء الرئيس عبد الناصر وحده، وهي لا تستطيع أن تفهم أن عبد الناصر ليس إلا منفذا لإرادة الشعب المصري، وأن هذا الشعب ليس «خاضعا» للثورة إنما هو «صانع» لها. إن الجماهير في القاهرة ليست «ممنوعة» من التظاهر أو من إبداء الرأي ولكن لأنها بمطلق حريتها تلتف حول عبد الناصر وتؤازره، وليست مستعدة لتأييده فقط ولكنها مستعدة أن تخوض تحت قيادته معركة الحياة والموت نفسها.
لماذا لا نتظاهر في القاهرة ضد اليمن
والجماهير في القاهرة لا تتظاهر ضد الحرب في اليمن؛ لأن الحرب في اليمن ليست بالنسبة إلينا كالحرب في فيتنام بالنسبة للجماهير الأمريكية. إن الجيش المصري في اليمن ليس كالجيش الأمريكي في فيتنام؛ إذ الحقيقة عكس هذا تماما؛ فالجيش المصري في اليمن وضعه كوضع قوات الفيتكونج تماما؛ فالفيتكونج تكافح التدخل الأمريكي في فيتنام، والجيش المصري يكافح أيضا التدخل السعودي الملكي الإمامي الرجعي في اليمن، وحيث إن الولايات المتحدة هي التي تبيع الأسلحة لفيصل وتؤيده وترسل له الخبراء والمستشارين، فنحن في اليمن نكافح أيضا التدخل الأمريكي الملثم بلثام سعودي. إن أمريكا في فيتنام تناصر الرجعية وحكم الجنرالات وتعادي الشعب الفيتنامي وتسحق مدارسه ومصانعه ومنشآته، وأمريكا في اليمن أيضا تقوم بنفس الدور فتتحالف مع القوى الرجعية ضد قوى الشعب والتقدم. وصحيح أن أعباء الشعب الفيتنامي تثقل كاهل شعبنا المصري، مثلما تثقل الحرب في فيتنام كاهل الشعب الفيتنامي، ولكن كما يحتمل الشعب في شمال فيتنام ضريبة الحرية بصبر وشجاعة، فكذلك يحتمل الشعب هنا أعباءه وتضحياته بنفس الصبر والشجاعة، وفي القاهرة لا تشهد مظاهرات ضد جيشنا في اليمن تماما مثلما لا يمكن أن تشهد في فيتنام الشمالية مظاهرات ضد مشاركة الشعب هناك والحكومة لشعب فيتنام الجنوبية؛ فنحن مثلهم «ندافع» عن وجودنا ضد «تدخل» أجنبي رجعي استعماري.
إن العالم لم يغضب حين دخلت أمريكا الحرب ضد النازية، بالعكس كان يشيد بها ويؤيدها، ولكن العالم يغضب ويحتج على أمريكا حين تتدخل هذه المرة لفرض ما هو أبشع من النازية. إن الأستاذ الأمريكي يقول في رسالته إن أمريكا تدافع عن «سلام العالم» وأمنه، تدافع عن «الحرية»، أو بمعنى أوضح تدافع عن المصالح الأمريكية في فيتنام، ولكن إذا كان العالم كله، حتى نفس جماهير الشعب الأمريكي، ترى أن هذه أكذوبة؛ إذ ليست هناك أية مصالح أمريكية مهددة في فيتنام، ولم يحدث أن حاولت فيتنام الشمالية أو حاولت الصين الهجوم على أمريكا أو مصالحها بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ كانت أغلبية الشعب الأمريكي تعتقد أن ما يحدث في فيتنام ليس دفاعا عن أمريكا وإنما هو مغامرة خبيثة.
Bilinmeyen sayfa