ورغم علمي أن الصديق أحمد حمروش قليل الأخطاء، فإني أعتقد أنه - في حماسه للدفاع عن عبد الوهاب - قد تورط في عدد منها؛ فهو قد أخطأ مثلا حين تصور أني «هاجمت» عبد الوهاب. إن الهجوم لا يكون إلا بتحامل على شخص بلا سبب واضح. فرق كبير بين هذا وبين نقد شخص ما ولأسباب حقيقية وواقعة، خاصة إذا كان هذا الشخص فنانا كبيرا كعبد الوهاب له أثر بالغ الخطورة في موسيقانا وتطورها، ومن هذه الزاوية تحدثت عن عبد الوهاب إذ إن شخصه لم يكن في اعتباري مطلقا وأنا أكتب، لقد قلت ما قلت وأنا أبدي وجهة نظر في المسرح الغنائي بماضيه وحاضره ومستقبله، وإن كنت قد تعرضت لعبد الوهاب فلأن عبد الوهاب هو الذي عرض نفسه وأخذ على عاتقه مهمة تلحين أوبريت لهذا المسرح.
ولو كان عبد الوهاب قد لحنها لكنت أول المصفقين له والمهللين، ولكن عبد الوهاب لم يقم بهذه المهمة ولم تكن هذه أول مرة تتعالى فيها الأصوات مطالبة بالأوبريت ويأخذ عبد الوهاب على عاتقه مهمة تقديمها، ولا يقدمها، وما على الصديق حمروش وكل من يهمه الأمر إلا أن يراجع الصحف خلال ربع القرن الماضي ليجد أنه في كل مرة قامت ثورة فنية تطالب بالأوبريت كان عبد الوهاب على رأس المؤيدين لها المتطوعين بتقديمها، وتكون النتيجة أن تسكت الأصوات ولا تلبث أن تهدأ الضجة وتموت، أليس لي الحق بعد هذا أن أتصور الوضع على أن عبد الوهاب غير جاد في وعده هذه المرة. أيعد تصوري حينئذ طعنا في عبد الوهاب وانتقاصا من شأنه؟ إن الطعن في عبد الوهاب يكون بنقد نوع الموسيقى والألحان التي يقدمها فعلا، أما أن نقول إن عبد الوهاب ليس ملحن أوبريت فليس طعنا فيه أبدا إلا إذا كان عدم الكتابة للمسرح يعد طعنا في نجيب محفوظ، وعدم التأليف للسينما يعد طعنا في توفيق الحكيم. إنه ليس طعنا ولا انتقاصا لسبب بسيط، أنه حقيقة واقعة؛ إذ الحقيقة أن عبد الوهاب قد لحن مئات الأغاني والمواقف العاطفية ولكنه لم يلحن أوبريت واحدة، إذا كانت المطالبة بأن يعهد لموسيقار آخر كأحمد صدقي أو عبد الوهاب نويرة أو غيرهما من الموسيقيين بمهمة تلحين الأوبريت، فلسبب بسيط أيضا لأنهما لحنا أوبريتات فعلا، وقدمت على المسرح وشاهدها الناس.
أنا مع الصديق أحمد حمروش في أن ذكر هذه الحقائق قد يضايق الموسيقار الكبير وقد يؤذي شعوره، ولكن أحدا لم يرغم عبد الوهاب، هو الذي تطوع للمهمة وقبلها، فإذا كان في محاسبته جرح لشعوره فماذا كان يريد صديقنا حمروش من المتحمسين الغيورين على مسرحنا الغنائي أن يفعلوا؟ أيصمتون هم الآخرون مراعاة لشعور عبد الوهاب أم يتكلمون، وإذا تكلموا، ماذا كان عليهم أن يقولوا غير ما قلت؟ إني من قلبي أحس بالأسى، وأتمنى أن أسمع وأشهد أوبريتات من تلحين عبد الوهاب، بل ربما هذه الأماني هي التي دفعتني وتدفعني لقول ما قلت، وهي التي دفعتني أيضا لأن أسأل نفسي وأستقصي كما أوصاني الصديق حمروش، فأقابل الدكتور علي الراعي مدير مؤسسة دعم المسرح، والأستاذ عبد الرحمن الخميسي مؤلف أوبريت مهر العروسة وأسألهما. ويدخل السؤال في دائرة مفرغة. الدكتور علي يقول إن عبد الوهاب يعتذر في الاجتماعات بأن نص الأوبريت لم يصله، والخميسي يقول لقد انتهيت من فصلين وسلمت عبد الوهاب الفصل الأول كله ولكنه لم يلحن إلا ثلاث أغنيات منه في مدى عام ونصف، وإنه ظل يتردد على عبد الوهاب أكثر من ستة أشهر ليتفق معه على الأغنيات والمواقف، وكان عبد الوهاب كثيرا ما يعتذر إليه بتوعكه أحيانا وبمشغولياته الكثيرة أحيانا أخرى، ثم يبادر الخميسي ويستدرك قائلا: ولكني أنا المسئول. عبد الوهاب غير مسئول مطلقا. وأنا المسئول، ولا يتفق كلامه الثاني مع كلامه الأول، والنتيجة دائرة مفرغة يمكن أن تظل إذا دخلناها عاما وعامين وعشرة أعوام في انتظار أن ينتهي عبد الوهاب من تلحينه لمهر العروسة.
وفي العام الماضي كتبت أقول إني راهنت، وإني سأكون أسعد الناس بأن أخسر لو لحن عبد الوهاب الأوبريت، وما زلت عند كلمتي. ولا مانع أبدا ان نظل جميعا نتعلق بهذا الأمل والرجاء، ولكن، أجل ولكن الكارثة الخطيرة أن نظل واقفين لا نتحرك أمام هذا الأمل، الكارثة أن نظل بلا أوبريت إذا لم يلحنها عبد الوهاب. إن عبد الوهاب نفسه لا يمكن أن يقبل وضعا كهذا، ولا بد أنه يرى معي ومع الكثيرين أن تعطى الفرصة لآخرين بجواره. وإني لفرط ثقتي في غيرته على موسيقانا ومسرحنا الغنائي لمتأكد أنه سيكون أول المرحبين بمسابقة عامة حرة ترصد لها جائزة ضخمة تعادل جوائز الدولة التقديرية - أو حتى أكثر - يتقدم إليها كل من شاء، وتكون محدودة بموعد وشروط. وإني لعلى يقين من أن مسابقة كهذه لا بد ستكشف عن مواهب كامنة، سواء في موسيقيينا الشبان المعروفين أو غير المعروفين، فإذا كان مجرد برنامج للهواة قد كشف لنا عن موسيقار كأبو بكر خيرت، فمن باب أولى أن تتيح هذه المسابقة فرصة أوسع لعدد أكبر.
ليلة وراء الكاميرا
خلال الساعات التي قضيتها أتابع ما يدور خلال الكاميرا، أتيح لي أن أقع على حقيقة المجهود الشاق الذي يتكبده العاملون في الحقل السينمائي. في أول الليل قال لي المصور عبده نصر إن الدقيقة من دقائق عرض الفيلم قد تستغرق ثماني ساعات وأكثر من المجهود والبروفات والاستعداد. وحسبت أنه يبالغ، ولكن اتضح لي أنه يتواضع، فقد استغرقت الدقيقة ليلتها أكثر من عشر ساعات، اللقطة التي حضرتها لن تستغرق أكثر من ثوان، ومع هذا، ومن أجلها، كان لا بد من تصريح من وزارة الأوقاف، وتأليف لجنة من ثلاثة موظفين، واستعدادات استغرقت يوما بأكمله قبل التصوير، ويوم التصوير بدأ العمل في الثالثة بعد الظهر وجاء عمال الكهرباء والإضاءة وظلوا في تركيبات وتوصيلات إلى الساعة السادسة.
ومن السادسة إلى التاسعة كانت مرحلة التجارب، ومن التاسعة بدأت التجارب الحية على الممثلين، كان على فاتن حمامة ورشدي أباظة (وأبو دومة وزوجته وابنه) أن يقطعوا عشرة أمتار بعدها يدقون الباب ويدخلون، وأكثر من عشرين مرة قطعوا المسافة، من اليمين مرة ومن اليسار مرة وبالكاميرا منحرفة وبها معتدلة، وكل مرة يرتفع صوت صلاح أبو سيف «ستوب» ثم يلوح بيده قائلا: مرة ثانية، ويعود الموكب يتجمع ليتحرك من جديد، بينما أعضاء اللجنة يقولون: يا مسهل يا رب. والبرد قد استبد بكتف أحدهم فأوقفها، برد يتزايد في ليلة شتاء، لولا الأضواء لتجمد ظلامها ثلجا أسود، ومع هذا، فكان ذلك المكان النائي من شمال القاهرة قد ازدحم فجأة بأناس لا ندري كيف جاءوا في مثل تلك الساعة إلى ذلك المكان ولا من أين جاءوا، عيونهم تبرق في ضوء الكاشفات وتتابع ما يدور بشغف لا يقل عن شغفهم بمتابعة فيلم، مع أن المشهد واحد، واللقطة واحدة، وكذلك الدقة، دقة على مدفن الخديوي توفيق، الرجل الذي لا يذكر له التاريخ إلا عملا واحدا لا يحسد عليه أنه سهل للإنجليز مهمة احتلالنا، مئات الرجال والنساء والأطفال واقفون ينظرون خلال أسوار المدفن، ويتابعون فاتن ورشدي أباظة، وفراشات القاهرة وجرادها وكأنما انتهزت الفرصة وعقدت مؤتمرا عاما في نفس البقعة واتخذت قرارا واحدا؛ مهاجمة فاتن حمامة، وفاتن تستغيث برشدي، ورشدي مشغول بترديد الجملة التي عليه أن يقولها، يرددها كل بروفة، وخلال الخمسين بروفة: انت تعرفه يا عم إسماعين؟ كالتلميذ الذي قصر في أداء واجبه، يرددها بلسانه وعينه على المصور عبده نصر الممتطي عربة الكاميرا التي تسير كالقطار على قضبان، والتي يروح بها ويغدو، مقتربا من المشهد مبتعدا عنه، مسددا الكاميرا إلى الهدف، ثائرا حين تجيء «الشوت» مثل طلعات صالح سليم كلما اقترب من الجون «آوت».
أتعرفون من كان أسعد الناس في تلك الليلة الحافلة الحاشدة؟ كان خفير المنطقة النظامي. لقد ظللت أتتبعه وهو يذرع المكان جيئة وذهابا بمعطفه الأصفر الواسع وحذائه الضخم الفاغر فاه وبندقيته المعلقة في كتفه المسددة إلى الفضاء الأثيري وكأنما تبغي إصابة القمر الروسي في مداره، ظللت أتتبع سيره المضطرب بالفرحة وكأنه صاحب هذا المولد كله، باعتباره أنه يدور في دركه وهو المسئول عن المحافظة عليه وعلى الأمن فيه، فرحة ممزوجة بدهشة وكأنما هو غير مصدق أنه بعد آلاف الليالي من الوحدة قد جاءت عليه ليلة احتشد له فيها نجوم البلد وأصبحوا من رعاياه، وأنه محط الأسماع والأنظار، ترى أية مفاجأة كان سيتلقاها لو عرف أن أحدا غيري لم يحس بوجوده، ولا حتى استرعت بندقيته المغمدة في الفضاء انتباهه.
البلد، بلدنا كبر
البلد، بلدنا، كبر وامتد، وحتى مشاكله أصبحت مشاكل الدول الكبرى.
Bilinmeyen sayfa